وكان شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يتألم ويتأذى منه وما يتحلم، ولا ينفذ ما يحكم به ولا ما يراه، ولا يصل به أسبابه ولا عراه، ونازعه في ذلك مرات ولم يرجع، وأصر عليها إلى أن ركب على الشرجع.
ولم يزل على حاله إلى أن بخبخ الموت لابن بخيخ، وأتاه ما يأتي على الطفيل والشييخ.
وتوفي رحمه الله تعالى في أول شهر رجب سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة بضع وثمانين وست مئة.
وتألم الناس له.
وكان قد ولي مشيخة الضيائية، وألقى فيها دروساً محررة، وكان قد ناب في الحكم لقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا الحنبلي بعد القاضي برهان الدين الزرعي رحمهم الله تعالى.
وقال يوماً قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى لقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا: إن كنت تقول إن هذه الأحكام التي يحكم بها نائبك مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فأنا أنفذها، قال: لا إلا إذا حكم بها هذا حكمت بصحتها، وطال التنازع في ذلك، ولم يرجع هذا، و لا نفذ هذا له هذا حكماً.
وأظنه مات معزولاً، والله أعلم.
وكان قد دخل في زمرة من توجه إلى غزة بسبب الشيخ تقي الدين بن تيمية، وحبس وأفرج عنه، وجاء إلى دمشق، هذا، على ما في ظني أو والده أو واحد من بيتهم.
أخبرني من لفظه الشيخ الإمام عز الدين حمزة بن شيخ السلامية قال: رأيته ليلة مات قبل دفنه، فقلت له: ما مت؟ قال: بلى، قلت: فما رأيت الله تعالى؟ قال: بلى، يغمى على الميت في النزع، ذلك الوقت يرى الميت الله تعالى. قلت: فما قال لك؟ قال: قال لي: أهلاً بعبدي وحبيبي، أو كما قال.
عمر بن طيدمر ككز
الأمير ركن الدين.
كان أحد الأمراء العشرات بدمشق، وكان هو وأخوه علي المقدم ذكره في الحسن فرقدي سماء ونيري أفق تبرأ من الظلماء، كم زانا المواكب، وسيرا في سوق الخيل فأشبها الكواكب، إلى أن اجتحف سيل المنية أخاه، وبورك في عُمرِ عُمَر هذا وما توخاه، فأقام بعد أخيه يطلع في أفق الملاحة، ويسفر عن صباح الصباحة.
فودع الحياة واختطفها وتناول زهرة العيش واقتطفها، إلى أن انكدر نجمه الزاهر ونقل إلى باطن القبر حسنه الظاهر.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة.
عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض
قاضي القضاة عز الدين أبو حفص المقدسي الحنبلي.
سمع من جعفر الهمداني، والضياء محمد، وحضر ابن اللتي. انتقل إلى القاهرة، وسمع من ابن رواج، وسبط السلفي، وتفقه بها على شمس الدين بن العماد.
وبرع وأفتى ودرس، وكان متأنياً في الأحكام. وكان أبيض الرأس واللحية، سميناً، تام الشكل، كامل العقل.
توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في شهر صفر سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
وقرأ عليه شيخنا علم الدين البرزالي جزء الغضائري.
عمر بن عبد الله بن عبد الأحد
تقي الدين أبو حفص الحراني الحنبلي المعروف بابن شقير، تصغير أشقر.
سمع الكثير بنفسه، ودار على المشايخ، وسمع من القاسم الإربلي، والفخر علي، وابن شيبان، وزينب، وخلق. ونسخ بعض الأجزاء، وروى الصحيحين.
قال شيخنا الذهبي: وسمعت منه: توفي رحمه الله تعالى ... سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
قلت: كان شيخاً فاضلاً ديناً صيناً مشهوراً.
عمر بن عبد الرحمن بن أحمد
قاضي القضاة إمام الدين أبو المعالي القزويني الشافعي، قاضي القضاة بدمشق، ابن القاضي سعد الدين، ابن القاضي إمام الدين. وهو أخو قاضي القضاة جلال الدين القزويني، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في المحمدين.
كان المذكور تام الشكل سميناً، جميل الوجه وسيماً مبيناً. أخلاقه لطيفة، وحركاته ظريفة. يتواضع لمن يلقاه، ويتنازل وهو في أعلى مرقاه، عقله جيد إلى الغاية، ونبله متصل بالنهاية. بارع الفضيلة، فارع الهضبة التي سمت عن كل رذيلة.
ساس الناس سياسة ملك بها قلوبهم، وستر عيوبهم، وتغمد بحمله خطأهم وذنوبهم. أحسن مداراتهم، وأمنهم في أماكنهم وداراتهم، ولما بلغه خبر التتار في نوبة غازان، انجفل مع الناس إلى القاهرة، ورأى الناس منه عياناً ما كانت تأتيهم به أنباؤه السائرة. فما أقام بها غير أسبوع واحد، حتى لحده اللاحد.(2/136)
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشري شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة. وولد بتبريز سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
واشتغل في العجم والروم، وقدم دمشق في الدولة الأشرفية، وهو وأخوه جلال الدين، فأكرم مورده لرئاسته وفضله وعلمه وعقله. ودرس بعدة مدارس.
وولي القضاء بدمشق في أول دولة لاجين سنة ست وتسعين وست مئة، وصرف قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، فأحسن إلى الناس وداراهم، وكان خروجه من دمشق في الجفل في مستهل شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين، وتوفي بالقاهرة رحمه الله تعالى، وخرج بجنازته خلق كثيرون من الأعيان. وكان ينتسب إلى أبي دلف العجلي، وفيه يقول الشيخ صدر الدين بن الوكيل، رحمهما الله تعالى:
انتسب القاضي إلى قاسم ... فصدقوا كلوتة الرجل
العجل من ثور يرى دائماً ... وما رأينا الثور من عجل
وكان القاضي إما الدين رحمه الله تعالى فاضلاً في الأصول والخلاف والمنطق، وشرح مختصر ابن الحاجب.
عمر بن عبد الرحيم بن يحيى
ابن إبراهيم بن علي بن جعفر بن عبد الله بن الحسن القرشي الزهري النابلسي، القاضي عماد الدين أبو حفص قاضي القدس وخطيبه.
كان فقيهاً فاضلاً، اشتغل بدمشق مدة، وأقام بها، ثم انتقل إلى نابلس، وأذن له هناك بالإفتاء، ورتب له هناك على ذلك معلوم مدة سنين، ثم إنه تولى خطابة القدس عليه وعلى ولده، ثم إنه نقل إلى قضاء القدس، وبقي على ذلك أشهراً.
ثم مات رحمه الله تعالى في ليلة الثلاثاء عاشر المحرم سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وسمع من عمه رحمه الله تعالى الخطيب قطب الدين عبد المنعم خطيب القدس، وروى عنه.
وكان سريع الحفظ، سريع الكتابة، ولم أر أنا في الأئمة من يقرأ في المحراب أردأ من قراءته. ولما زار الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني رحمه الله تعالى القدس صلى خلفه، ولما فرغ قال له: اقعد اقرأ الفاتحة، فقرأها عليه وصححها، ولما صلى به الصلاة الأخرى قرأها أردأ من الأولى، فقال الشيخ: ما في يدي حيلة.
وكان القاضي فخر الدين ناظر الجيوش كثير الاعتناء به، فلذلك جمع له بين الخطابة والقضاء، وكان قد زوج ابنه الخطيب شمس الدين بابنة قاضي القضاة شرف الدين النهاوندي قاضي صفد.
وتوفي الخطيب عماد الدين رحمه الله تعالى وله من العمر أربع وستون سنة. وله شرح جمعه لصحيح مسلم.
عمر بن عبد العزيز بن الحسن
الصاحب فخر الدين بن الخليلي الداري.
كان من الفضلاء الوزراء النبلاء، أحسن إلى الناس في وزارته، وكل خير نجده إلى اليوم مكتوب على توقيعه بإشارته. قرر في مباشراته للفقراء جملة رواتب، ولم يخشى في ذلك العواقب ولا العواتب، وفاز إلى يوم القيامة بذكرها، وحاز محاسن حمدها وشكرها. عزل منها مرات، وقد حصل له فيها مبرات، وعاد إليها عود البدر إلى منازل سعوده، والهلال إلى مراقي صعوده. وشكر الناس أيامه، وأطلق بالجود أقلامه.
ولم يزل على حاله إلى أن جاء الأجل وزار الوزير، وصار من رحمة ربه إلى خير مصير.
وتوفي رحمه الله تعالى معزولاً يوم عيد الفطر سنة إحدى عشرة وسبع مئة عن اثنتين وسبعين سنة.
وكان يكتب عنه في التواقيع: بالإشارة العالية المولوية الصاحبية الوزيرية الفخرية، سدي العلماء والوزراء. وهذا لم يكتب لغيره.
وروى الحديث عن المرسي.
وسمع منه ابن المهندس وابن البعلبكي وجماعة.
وكان والده مجد الدين من الصلحاء. أقام بمصر مدة وحضر إلى دمشق، وكان يلوذ ببني صصرى. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمانين وست مئة.
ثم إن ولده الصاحب فخر الدين لاذ ببني حنا، وصارت له بذلك صورة في الدول، وتولى نظر الصحبة، ووزر للملك الصالح علاء الدين علي بن المنصور، ثم إنه ولي الوزارة أيام كتبغا في يوم الثلاثاء خامس عشري جمادى الأولى سنة أربعة وتسعين وست مئة.
وحضر معه إلى الشام سنة ست وتسعين وست مئة، وصرف بعد ذلك بالأعسر في أوائل دولة لاجين في شعبان سنة ست وتسعين وست مئة. ثم أعيد للوزارة في جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وست مئة، ثم صرف عنها في الدولة الناصرية، ثم أعيد إلى الوزارة في ثاني عشري شوال سنة تسع وسبع مئة، ثم صرف.(2/137)
وأول ما لبس للوزارة استحيا من الصاحب تاج الدين بن حنا، لأنه وليها عوضاً عنه، فنزل من القلعة إلى دار الصاحب بتشريفه، وقبل يده، وقال: أنا غلامكم ومملوككم، وخضع له خضوعاً كبيراً، وجلس بين يديه، فأراد الصاحب جبره في ذلك الوقت، فأخذ توقيعاً من بعض غلمانه يحتاج إلى خط الوزير، فقدمه له، وقال: مولانا يكتب على هذا، فقبله ووضعه على رأسه، وعلم عليه. وكان هذا من الصاحب تاج الدين إجازة بالوزارة لابن الخليلي.
وكان السلطان الملك الناصر إذا قدم له توقيع برزقة أو براتب، وهو بإشارة الصاحب فخر الدين، يقول: هذا بإشارة ابن الخليلي، والله كل هذا ما أدري به.
وكتب إليه سراج الدين الوراق، ومن خطه نقلت:
عسى خبر من الإنجاز شاف ... لمبتدأ من الوعد الجميل
فعلم النحو دان لسيبويه ... وكان الأصل فيه من الخليل
وكتب إليه شمس الدين الحكيم بن دانيال:
فصل الربيع بوجهه قد أقبلا ... متبسماً. ببدائع الأزهار
وغدا به نبت الخمائل مخضلا ... يحكي السما. بالنور والنوار
فكأنه حلى الربا أو كللا ... إذ أنجما. بجواهر ونضار
والطير بين رياضه قد رتلا ... مترنماً. يلهي عن المزمار
شكراً لمبدعه تعالى ذي العلا ... ما أعظما. من واحد قهار
وتخال هاتيك السحائب هطلاً ... لما همى. سحاحها بقطار
جود المليك الصالح الهامي علا ... من أعدما. بنواله الزخار
ملك إذا ما حل قطراً أمحلا ... متكرما. كالقطر للأقطار
ووزيره الفخر الذي قد خولا ... بالمنتمى. فخراً على النظار
والدار تممها لعز معقلا ... أسنى حمى. فغدا تميم الدار
فليهنه عيد أتاه مقبلا ... جذلاً بما. أولاه في الأمصار
لا زال ما تأتي أخيراً أولا ... متنعما. ما لاح ضوء نهار
وكان قد توجه يوماً شرف الدين البوصيري إلى زيارة قبر الشافعي رضي الله عنه فوجد الصاحب فخر الدين هناك، فقال:
زرت الإمام الشافعي ولم أكن ... لزيارتي أبداً له بالتارك
فوجدت مولانا الوزير يزوره ... فظفرت عند الشافعي بمالك
عمر بن عبد العزيز بن الحسين بن عتيق
الفقيه المعمر، قطب الدين الربعي المالكي المعدل.
روى عن ابن المقير، ومحيي الدين بن الجوزي.
وتوفي رحمه الله تعالى... سنة ثماني عشرة وسبع مئة. وله سبع وتسعون سنة.
عمر بن عبد العزيز بن عبد الرحمن
ابن عبد الواحد بن عبد الرحمن بن هلال.
سمع من إسماعيل بن أبي اليسر، والمؤمل بن محمد البالسي، ومحمد بن عبد المنعم بن القواس، وغيرهم.
وأجاز لي بخطه في سنة ثلاثين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشر شهر رجب الفرد سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
عمر بن عبد المنعم بن عمر
ابن عبد الله بن غدير، الشيخ المعمر المسند، مسند الشام، ناصر الدين أبو حفص بن القواس الطائي الدمشقي.
سمع حضوراً من ابن الحرستاني، ومن ابن أبي لقمة، ومن ابن أبي نصر الشيرازي، وكريمة. وأجاز له أبو اليمن الكندي، وابن الحرستاني، وابن مندويه، وابن ملاعب، وابن البناء، والجلاجلي، وخلق كثير.
وحج، وكان ديناً خيراً محباً للحديث وأهله، مليح الإصغاء، كثير التودد.
روى الكثير في آخر عمره. وقرأ عليه شيخنا الذهبي المبهج في القراءات وكتاب السبعة لابن مجاهد والكفاية في القراءات الست عن الكندي. وخرج له مشيخة صغيرة، وخرج له أبو عمرو المقاتلي مشيخة بالسماع وبالإجازة، وأكثرا عنه.
وسمع شيخنا المزي منه، وولده، وسمع منه شيخنا البرزالي، وابن سامة، والشيخ على الموصلي، والنابلسي سبط الزين خالد، وأبو بكر الرحبي، وأبو الفرج عبد الرحمن الحارثي، والشمس السراج سبط ابن الحلوانية، ومحمد بن البدر بن القواس.
وتوفي رحمه الله تعالى بدرب محرز بدمشق يوم السبت ثاني القعدة سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومولده سنة خمس وست مئة.
ودفن بسفح قاسيون.
عمر بن عبد النصير بن محمد(2/138)
ابن هاشم بن عز العرب القرشي السهمي القوصي الإسكندري الأصل، المعروف بالزاهد الحريري.
كان من أصحاب الشيخ مجد الدين القشيري وطلبته. باشر مشارفة المدرسة النجيبية، وكان مؤذناً بالمدرسة السابقية.
وسمع من ابن المقير، والشيخ بهاء الدين بن الجميزي، وغيرهما.
وحدث بقوص ومصر والقاهرة والإسكندرية، وسم منه زين الدين عمر بن الحسن بن حبيب، والفقيه تاج الدين عبد الغفار بن عبد الكافي السعدي.
وشيخنا الحافظ فتح الدين، وشهاب الدين أحمد الهكاري، وشيخنا البرزالي، ومحب الدين بن دقيق العيد، وغيرهم. وكتب عنه شيخنا العلامة أبو حيان وغيره.
وكان شاعراً ظريفاً.
وتوفي رحمه الله تعالى بالإسكندرية في منتصف المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده بقوص سنة خمس عشرة وست مئة.
وخمس القصائد الغازازية.
أنشدني إجازة الحافظ فتح الدين بن سيد الناس، قال: أنشدني المذكور لنفسه:
عد للحمى ودع الرسائل ... وعن الأحبة قف وسائل
واجعل خضوعك والتذل؟ ... لل في طلابهم وسائل
؟والدمع من فرط البكا ... ء عليهم جار وسائل
واسأل مراحمهم فهن ... ن لكل محروم وسائل
ومن شعره:
ما لأجفاني جفت طيب كراها ... واستقلت بسهاد قد براها
وأتاح البين لي من بينها ... عبرات عبرت عما وراها
ومنه:
لست ممن يزور من يزدريه ... فيلاقي مذلة واحتقارا
وهو عندي أراه بين البرايا ... كهباء في عاصف الريح طارا
؟عمر بن عبد الله بن أبي عمر
المقدسي.
أجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة.
وكان قد حضر على ابن الدائم، وسمع من الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر، وفاطمة بنت الملك المحسن أحمد بن أيوب.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربة الشيخ موفق الدين بن قدامة.
عمر بن عبد الوهاب بن ذؤيب
القاضي الفقيه العالم نجم الدين بن شرف الدين الأسدي الشهبي.
كان قاضياً بشهبة والسويدا نحوا من أربعين سنة. وحج. وكان حسن الهيئة.
سمع مع أخيه من الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وعرض التنبيه على الشيخ تاج الدين الفزاري.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع ذي الحجة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
عمر بن علي
الإمام أبو علي قاضي الجماعة بتونس، الهواري التونسي المالكي.
كان في مذهب مالك رضي الله عنه رأساً، لا يرى أحد من الأفاضل به بأسا، عديم النظير في فنه، ماله مشابه في استحضاره وحدة ذهنه. له تصانيف وتلامذة كبار، ومريدون يودون من محبته أن لا يطير عليه غبار.
وممن أخذ عنه الإمام برهان الدين السفاقسي، كان في تعظيمه مبالغا، وفي دم من ذمه أو ادعى باطلاً والغا.
ولم يزل على حاله إلى أن أنهار جرف الهواري، وعدمه المجاري والمباري.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم عرفة سنة ست وثلاثين وسبع مئة، بعد أن نزل من عند السلطان.
وكان ذا عبادة وتقشف، وكان قد تفقه بأبي محمد الزواوي، وعاش بضعاً وثمانين سنة.
عمر بن علي بن سالم بن صدقة
تاج الدين أبو حفص اللخمي الإسكندري المالكي، المعروف بابن الفاكهاني.
كان شيخاً فقيهاً مالكياً نحوياً، له ديانة وتصون ومصنفات. وقدم دمشق في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، بعد زيارته القدس، وتوجه منها إلى الحجاز، وحج ثلاث مرات.
وسمع الترمذي والشفا على ابن طرخان، وقرأ القرآن على المكين الأسمر، وحضر دروس ابن المنير، وأقام بمصر سنين، ثم عاد إلى بلده.
وتوفي في العشر الأول من جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
وشرح العمدة في الأحكام، وله مقدمة في النحو، وله نظم ونثر.
وشرح العمدة في الأحكام، وله مقدمة في النحو، وله نظم ونثر.
عمر بن عوض
ابن عبد الرحمن بن عبد الوهاب، قطب الدين الشارعي، المعروف بابن قليلة، تصغير قلة.
أخبرني الشيخ العلامة أثير الدين أبو حيان من لفظه، قال: حدث المذكور عن حاتم بن العفيف وغيره.
ومن شعره:
ألا يا سارياً في بطن قفر ... ليقطع في الفلا وعراً وسهلاً
بلغت نقا المشيب وبنت عنه ... وما بعد النقا إلا المصلى
ومنه:(2/139)
عزمت على تزويج بكر مدامة ... بماء قراح والليالي تساعد
فأمهرتها در الحباب وإنه ... إذا جليت ليلاً عليها قلائد
وجاءت رياحين البساتين عرفت ... فطابت بذاك النفس واللوز عاقد
وكان حضور النبق فألا مهنئاً ... لنا بالبقا في العقد والورد شاهد
عمر بن عيس بن نصر
ابن محمد بن علي بن أحمد بن محمد بن حسن بن حسين التيمي، مجير الدين بن اللمطي، بلام وميم ساكنة وطاء مهملة.
أخبرني من لفظه شيخنا أثير الدين أبو حيان رحمه الله تعالى قال: رأيته بقوص، وكتبت عنه شيئاً من شعره، ثم إنه قدم علينا القاهرة، وسكنها أيام كان أبو الفتح بن المطيع قاضياً، واشتغل عنده في أوقاف.
وكان قد نظر في العربية على أبي الطيب السبتي، قدم عليهم قوص، وكان من تلاميذ شيخنا أبي الحسين بن أبي الربيع.
وأنشدني لنفسه بمدرسة الأفرم سنة ثمانين وست مئة:
أبى الدمع إلا أن يفيض وأن يجري ... على ما مضى من مدة النأي من عمري
ومالي إن كفكفت ماء محاجري ... وقد بعدت دار الأحبة من عذر
أما إنه لولا اشتياق لذكرهم ... ولا شوق إلا ما يهيج بالذكر
لما شاقني نظم القريض ولا صبا ... فؤادي على البلوى إلى عمل الشعر
وكان لمثلي عن أفانين منطقي ... هنالك ما يلهي عن النظم والنثر
قال: وأنشدني أيضاً:
جفن قريح بالبكاء موكل ... فعلت به العبرات ما لا يفعل
وجوانح مني على شحط النوى ... أضحت تمزق في الهوى وتوصل
عجباً لحكم الحب في فليته ... يوماً يجور به ويوماً يعدل
إني وإن أمسى يحملني الهوى ... من ثقله في الحب ما لا يحمل
فلقد حلت منه مرارات الجوى ... عندي وخف لدي ما يستثقل
لا يطمع اللوام في تركي الهوى ... إن كثروا في لومهم أو قللوا
لهفي علي زمني بمنعرج اللوى ... والشمل مجتمع ووجدي مقبل
ما كان أهنا العيش منه فليته ... لو دام منه ريثما أتأمل
ومنه:
وزهدني في الخل أن وداده ... لرهبة جاه أو لرغبة مال
فأصبحت لا أرتاح منه لرؤية ... ولا أرتجي نفعاً لديه بحال
قلت: ولما توفي قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى ترك ما ولاه من نظر رباع الأيتام، وتوجه إلى قوص، وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. وله من العمر ثلاث وثمانون سنة.
ويحكى عنه أنه كان صحيح الود، حافظاً للعهد، حسن الصحبة.
عمر بن عيسى بن مسعود
الفقيه العالم المالكي، سراج الدين أبو عمر بن القاضي العلامة شرف الدين الزواوي.
ارتحل وأخذ عن زينب الكمالية وعدة، وقرأ سنن أبي داود وغير ذلك.
وكان شاباً فاضلاً.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة عن إحدى وعشرين سنة.
عمر بن أبي القاسم بن عبد المنعم
ابن أبي الطيب العجلي، نجم الدين الشافعي، وكيل بيت المال بدمشق.
كان نجم الدين ذا مروءة وافرة، وأخلاق على المكارم متضافرة. واختص بمنادمة الأمير عز الدين أيبك الحموي، نائب قلعة دمشق، ومجالسته، وتألف ذاك بمحادثته ومؤانسته.
وكان يجري بينه وبين شمس الدين بن غانم أنواع من المهاتره، وعجائب من المشاحنة والمشاجرة. وتبدو منهما أفانين الهزل والمجون، والتناديب التي هي أشهى من معاطاة ابنة الزرجون.
وجمع بين الوكالة ونظر الخزانة والبيمارستان، ومضت أوقاته بخير في أيام الأفرم، فما انتقل من الروضة إلا إلى البستان.
ولم يزل على حاله إلى أن تخبث الوقت على ابن أبي الطيب، وأصابه من وابل الوبال صيب.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشر جمادى الآخرة سنة أربع وسبع مئة.(2/140)
قال لي القاضي شهاب الدين بن فضل الله: بيت أبي الطيب بيت قديم بدمشق، من بيوت التشيع، وكان منهم جلال الدولة بن أبي الطيب نائباً عن الدولة الفاطمية. ويقال إن أبا الطيب كان رجلاً فارسياً، قدم دمشق في خلافة يزيد بن معاوية، ولما طيف برأس الحسين بن علي رضي الله عنهما وتغير ريحه، اشترى له طيباً بمئة دينار، وطيبه به. ثم كان من ولده من يكتب إلى الشيعة بخراسان بأخبار بني أمية، ويكني عن نفسه بابن أبي الطيب، إشارة إلى تطييب أبيه رأس الحسين، فلما ظهرت الشيعة الخراسانية، وأظهروا كنايتهم هذه، فعرفوا بها. ولهم وقف قديم بدمشق، لا يسمن ولا يغني من جوع.
ولما وقعت الكائنة للقاضي محيي الدين بن الزكي، كان نجم الدين هذا من أصدقائه فتعلق بالمنصور صاحب حماة، وتسيج بخدمته. وكان ناظر ديوانه بدمشق في أيام الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري. وصارت له وجاهة، ثم إنه اختص بالحموي وبعده بالأفرم.
ولما مات خلف مالاً، أنفقته زوجته على عوالم النساء وزواكرة الفقراء، وسيأتي ذكر ولده القاضي نجم الدين بن أبي الطيب في المحمدين.
عمر بن كثير بن ضوء بن كثير
الشيخ الخطيب بالقرية من عمل بصرى.
قال شيخنا البرزالي: كان فاضلاً لغوياً شاعرا، كتبنا عنه هناك من شعره بحضرة الشيخ تاج الدين.
توفي رحمه الله تعالى في أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وسبع مئة.
عمر بن محمد بن عمر
ابن خواجا إمام، شيخ الحديث بالظاهرية بدمشق، الشيخ الجليل الفاضل شرف الدين الفارسي الأصل، الدمشقي، الشاهد، أظنه المعروف بالياغرت، بياء آخر الحروف وألف وغين معجمة وراء ساكنة وتاء ثالثة الحروف.
سمع في شبيبته فخر الدين بن الشيرجي، وسراج الدين بن الزبيدي، وابن اللتي.
وكان يكتب المصاحف والعمر ويذهبها، ورأيت أنا بخطه ختمات.
سمع شيخنا الذهبي منه مشيخته.
ومتع شرف الدين بحواسه إلى أن مات رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث عشرة وست مئة، ومتع بحواسه وكتابته.
وتوفي والده ضياء الدين سنة خمس وستين وست مئة.
عمر بن محمد بن يحيى بن عثمان
القرشي العتبي الإسكندراني، ركن الدين أبو حفص، الشيخ الفقيه المسند المعروف بابن جابي الأحباس.
سمع من سبط السلفي جزء الدعاء للمحاملي، وجزء ابن عيينة، وكتاب التوكل لابن أبي الدنيا، ومشيخة السبط، وتفرد في وقته، وكان من الشهود.
وكتب عنه أشياخنا: العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، والحافظان فتح الدين والذهبي، والحلبي، وعدة.
وتوفي رحمه الله تعالى بالثغر... سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وثلاثين وست مئة.
عمر بن محمد بن سليمان
الدماميني، نجم الدين.
سمع وحدث بالإسكندرية، وسمع منه أبو الفتح محمد الدشناوي، ويوسف بن أحمد بن محمد السكندري.
عرف بابن غنوم، وكان من تجار الكارم، وكان رئيساً وله مكارم.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى بالإسكندرية سنة سبع وسبع مئة.
نزل عنده بعض الأفاضل فأكرمه، فكتب على بابه لما ارتحل:
نزلت بدار نجم فاق بدراً ... أدام الله رفعته وجاهه
فأعذب موردي وأطاب نزلي ... وأهدت لي رياسته وجاهه
عمر بن محمد بن عثمان
ابن أبي الرجا بن أبي الزهر، القاضي الصدر تقي الدين بن الصاحب شمس الدين بن السعلوس.
كان صاحب الديوان بدمشق، فطلبه السلطان إلى مصر، وولاه نظر الدولة، شريكاً للقاضي علم الدين إبراهيم بن تاج الدين إسحاق. وكان يعظمه ويكرمه.
وكان قد سمع في صغره من الفاروثي، وحج سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وكان قد باشر شغله بقلعة الجبل يوم الخميس قبل موته بيوم، ودخل إلى السلطان وخرج، فاضطرب وتغيرت حاله، وعجز عن الركوب إلى بيته إلا في محفة، وانقطع يوماً، ولم يسمع منه إلا: أنا ميت لا غير.
وتوفي يوم السبت بكرة حادي عشري القعدة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة، وولي مكانه القاضي شهاب الدين بن الأفقهسي.
وكان قد باشر بدمشق عدة ولايات. وكان تنكز يمزح معه ويقربه.
عمر بن محمد بن عمر بن محمد
القاضي كمال الدين بن الخطيب شرف الدين بن الشيخ الخطيب كمال الدين المعري الأصل، العجلوني، قاضي غزة.(2/141)
اشتغل بدمشق على الشيخ برهان الدين، وولي القضاء في عدة أماكن، وكان قبل موته بقليل عين لقضاء الكرك، فأدركه أجله.
سمع كمال الدين من الأبرقوهي، وحدث عنه بدمشق، وسمع بدمشق من ابن القواس.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر المحرم بغزة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
عمر بن محمد بن عمر
ابن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن أبي جرادة العقيلي الحلبي الحنفي، قاضي القضاة، نجم الدين أبو القاسم الحاكم بحماة، ابن الصاحب جمال الدين أبي غانم ابن الصاحب الكبير كمال الدين أبي القاسم.
سمع من الأبرقوهي، وحدث عنه، وحج سنة سبع عشرة وسبع مئة.
كان حسن الشكالة، كأن وجهه تحت عمته بدر في هالة، دائم البشر، عطر النشر، كريم الملقى لمن يحضر إليه، لين الجانب للخصم إذا وقف بين يديه، لم يشتم أحداً مدة ولايته، ولا خاطب أحداً بما لا يليق لكرم أصالته، مجموع الفضائل، مطبوع الكرم والشمائل، يعرف من العقليات جمله، وعنده من الأدب علماً وعملاً ما هو على الشرعيات فضله، قد فض له فضله ختام كل فن، وبل له وبله رياض ما شرد من النكت وعن، وخطه عقود العقول وفصوص الفصول، يحكي البرد إذا حبك، والذهب إذا سبك. ونظمه أرق من شكوى المحب إلى الحبيب، وألذ عند المتيم من غفلة الرقيب القريب.
وكان الملك المؤيد يعظمه ويثني على فضائله ويتعجب لذهنه إذا تصرف في مسائله.
اجتمعت به فخلبتني عبارته، وسلبتني حركته وإشارته. ورأيت منه سيادة تعرب عن كمال ذاته، ورئاسة تفضي بغريب صفاته:
ويفتر منه عن خصال كأنها ... ثنايا حبيب لا يمل لها رشف
وفارقته والتلفت إليه يثني دائماً عنقي، والشوق تضرمه لواعد قلقي.
ولم يزل بحماة والناس به مغتبطون، وعلى إحسانه وبره مرتبطون، إلى أن بغته أجله في أشده، وحل أنسه من الوجود بعد شده.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة الخامس والعشرين من صفر سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بعد صلاة الجمعة بمقبرة أقاربه قبلي البلد.
ومولده يوم الثلاثاء سابع عشري شهر رمضان سنة تسع وثمانين وست مئة.
وتولى الحكم بحماة من سنة إحدى وعشرين وسبع مئة إلى أن مات رحمه الله تعالى.
وكان لين الجانب، كثير المروءة، ما قصده أحد في شيء وخيبه. ولم يحفظ أهل حماة عنه أنه سب أحداً بحماة مدة ولايته. وهو قاضي القضاة الحنفية، ومدرس بها، وكان صاحب حماة يثني عليه وعلى فضائله، وحصل لأهل حماة على فراقه ألم شديد وحزن عظيم، وجنازته حافلة إلى الغاية.
وعند مروري بحماة عائداً من حلب سنة أربع وعشرين وسبع مئة، دخلت إليه في تحمل شهادة عليه، فرأيت منه رئاسة وحشمة وسيادة ولطفاً زائداً.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
كأن وجه النهر إذ حفت به ... أشجاره فصافحته الأغصن
مرآة غيد قد وقفن حولها ... ينظرن فيها أيهن أحسن
ومن نظمه:
ما لليالي بسهم البعد قد رشقت ... وصارم البين للأحباب قد مشقت
وخالفت في الذي يهوى وما ونيت ... كأنها لخلاف القصد قد عشقت
وأضرمت نار حرب من عداوتها ... ضراً فأعلامها بالهم قد خفقت
وفرقت جمع شمل كان ملتئماً ... وجمعت حادثات كانت افترقت
هي الليالي فلا تستكثرن لها ... هذا العناد إذا أنصارها اتفقت
منها:
أشكو إليك غراماً فيك أقلقني ... فدتك نفسي على طول المدى ووقت
وفرط شوق ووجد ناره اتقدت ... بين الأضالع والأحشاء فاحترقت
ولوعة منك لولا النفس واثقة ... بأن تعود لكانت للنوى زهقت
من بعد ما غبت يا من كان يؤنسني ... ما أبصرت حسناً عيني ولا رمقت
سواك ما مر في بالي ولا شفتي ... بغير ذكرك يا أقصى المنى نطقت
عمر بن محمد بن ماو
شهاب الدين الحميدي.
أنشدني شيخنا العلامة أثير الدين، قال: أنشدني المذكور لنفسه:
أفديه عطاراً شهي اللمى ... أحور فتاناً كحور الجنان
بي غمرة منه فيا ليته ... لو جاد لي يوماً بماء اللسان
قلت: ذكرت هنا ما قلته في عطار:(2/142)
كلفت بعطار حكى البدر في السنا ... وظبي الفلا في جيده ونفاره
دوا ألمي الورد المربى بخده ... يذر عليه آنسون عذاره
وقلت أيضاً فيه:
فديت عطاراً غدا حسنه ... يقول: سبحان بديع الصفات
نهدي في صدري أبلوجة ... والريق قطر وعذاري نبات
وأنشدني الشيخ أثير الدين قال: أنشدني المذكور لنفسه أيضاً:
فديت نشاراً غدا نشره ... أذكى من المسك إذا فاحا
قد راح من سكرة خمر الصبا ... كأنما قد شرب الراحا
بسيف جفنيه ومنشاره ... كم شق أرواحاً وألواحا
قلت: ذكرت أنا ما قلته في نجار:
قد عشقت النجار لما بدا لي ... بمحيا قد فاق في الحسن بدرا
أصله طيب ونكهة فيه ... فلهذا قد فاق نجرا ونشرا
وقلت أيضاً في مليح نجار:
أحببت نجاراً بديع جماله ... منه الشموس تغار والأقمار
فخري به بين البرية أنهم ... قالوا غدا وحبيبه النجار
عمر بن محمد بن عبد الحاكم
ابن عبد الرزاق، الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة زين الدين أبو حفص البلفيائي، بالباء الموحدة وبعدها لام وفاء وياء آخر الحروف وألف ممدودة، وبلفيا بلدة من أعمال البهنساوية.
تفقه بالقاهرة على الشيخ علم الدين العراقي، وسمع يسيراً من الحديث على الأبرقوهي، وعلى ابن سليمان بن القيم، والإمام علاء الدين الباجي. وخرج له قاضي القضاة تاج الدين السبكي أحاديث حدث بها أيام تفقه عليه.
كان في الفقه إماماً، وعلماً لا يسام رفعة ولا يسامى، قد تضلع من الفروع، وكاد يتقدم على غيره من الشروع. قل نظيره، وعلا على الأطلس أثيره. اعترف له بذلك فقهاء مصره، وفضلاء عصره، لو أنه لم يكن عقله المعيشي طائلاً، ولا سيل علمه في سياسة الناس سائلاً. لا جرم أنه عزل واخترم من منصبه واختزل.
وما زال يتقلب في حاليه مع الأيام، ويتصرف بنفسيه مع النقض والإبرام، إلى أن درج بعدما مشت حاله، وراح إلى الله وقدامه علمه وأعماله.
وتوفي رحمه الله تعالى بصفد في أول شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة إحدى وثمانين وست مئة.
كان شيخنا الإمام العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي يثني عليه ويعظمه في الفقه، ويقول: ما رأيت أفقه نفساً منه. وكان المصريون يقولون: لو حلف الحالف أنه يستفتي أعلم من في القاهرة، واستفتاه، لم يحنث.
وكان قد تولى قضاء القضاة بحلب، فحضر إليها في أيام الأمير سيف الدين طرغاي، فلم تطل مدته، ولم تحسن سياسته الناس، فتعصب عليه جماعة مع كاتب سرها القاضي شهاب الدين بن القطب، فعزل منها بعد شهرين ثلاثة، إلا أنه باشرها بصلف وأمانة وعفة حتى قال فيه القاضي زين الدين بن الوردي رحمه الله تعالى:
كان والله عفيفاً نزهاً ... وله عرض عريض ما اتهم
وهو لا يدري مداراة الورى ... ومداراة الورى أمر مهم
فحضر إلى دمشق في أواخر أيام الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى ففاوضه قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فيه وعرفه مقداره، فقال له: لا تقطع به، فولاه تدريس المدرسة النورية بحمص، فأقام بها مدة إلى أن ورد الأمير سيف الدين آقبغا عبد الواحد، فتعصب عليه عنده حاكمها القاضي شهاب الدين البارزي، فتركها وتوجه إلى القاهرة، فولاه قاضي القضاة عز الدين بن جماعة قضاء المنوفية، فأقام بها مدة، وأتى إلى القاهرة، فولاه قاضي القضاة نيابة الحكم في باب الفتوح، ثم إن السلطان ولاه قضاء القضاة بحلب في أوائل سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ثم أبطل ذلك وولاه قضاء صفد في أواخر صفر فيما أظن، فأقام بها تقدير خمسين يوماً، وتوفي في طاعون صفد رحمه الله تعالى.
وكان قاضي القضاة عز الدين قد ولاه قبل قضاء حلب الأول قضاء البهنساوية، وذلك في أوائل ولاية ابن جماعة.
عمر بن محمد بن عثمان بن عبد الله
الإمام البارع المفتن كمال الدين أبو حفص بن شهاب الدين بن العجمي الحلبي الشافعي.
سمع بحلب ومصر ودمشق، وقرأ على شيخنا الذهبي أجزاء.(2/143)
كان فاضلاً قد تفنن، وعالماً قد تميز وتعين. شارك في العلوم، ورقى إلى أن استفلت عنه النجوم. بذهنه الوقاد، وخاطره المنقاد:
تعرف في عينه حقائقه ... كأنه بالذكاء مكتحل
إلا أنه كان فيه رهج وطيش، وعدم قرار على حالة من العيش. يسعى ليله ونهاره، ويخلب بحسن توصله الحجارة.
وما زال إلى أن اعترضت المنايا أمانيه، وخانت آماله أيامه ولياليه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
تخرج بالشيخ فخر الدين بن خطيب جبرين. وكنت أنا وهو نقرأ عليه بحلب سنة أربع وعشرين وسبع مئة في المعقول والمنقول. وتخرج أيضاً بالشيخ كمال الدين بن الزملكاني لما كن بحلب.
وتصدر بحلب للإفادة وتميز سنة نيف وسبع مئة.
أخبرني القاضي ناصر الدين صاحب ديوان الإنشاء بالشام قال: كان القاضي زين الدين عمر بن الوردي يقول له: والله عمرك ما تفلح، وإن أفلحت تموت. فكان الأمر كما قال، لأنه مات والده وورثه وتبلبل حاله ومات.
عمر بن محمد بن سلمان
ابن حمائل، جمال الدين بن غانم، أحد الإخوة.
قال شيخنا البرزالي: سمع معنا مسند الإمام حمد على بن علان وغير ذلك. وكان رجلاً جيداً قليل الاختلاط بالناس متقنعاً.
توفي رحمه الله تعالى حادي عشر جمادى الأولى سنة عشرين وسبع مئة.
تقدم ذكر إخوته أحمد وعلي وأبي بكر.
عمر بن محمد بن عثمان
الشيخ الإمام المجود المحرر المتقن شيخ الكتابة في عصره، جمال الدين الدمشقي.
شيخ التجويد، وفريد الكتابة لا ابن البصيص ولا ابن الوحيد. كتب الناس عليه بمصر والشام، وتخرج به جماعة من أولاد الأعيان والأعلام. ورزق في مصر الحظوة، ولم يتقدم لأحد معه خطوة. وعاد إلى دمشق وأقام بها إلى أن مات، وكتب عليه الجماعة وقد عمر دهراً صالحاً ولم يفرح بخزيه الشمات.
وحصل من التجويد آلافاً من الذهب المصري، ولو شاء كانت دنانيره على حروفها تجري. وكتب مجلدات بخطه الفائق، ووقف الأحداق على ما فيها من الحدائق.
ولم يزل يكتب إلى أن قط عمره، ومحاه من صحيفة الوجود دهره.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق في العشر الأول من صفر سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
رأيته يكتب بالديار المصرية في المدرسة الظاهرية بين القصرين. وكان يكتب أحمد بن بكتمر الساقي كل شهر بمئتي درهم، وكل مسودة يأخذ عليها جملة.
وقال في وقت: أخذت من الكتابة خمسة آلاف دينار مصرية.
وقلت: أنا فيه لما سمعت هذا الكلام عنه:
احرص على الخط فلا بد من ... حظ يفوق المكثر المثري
هذا الدمشقي بأقلامه ... أصاب كنز الذهب المصري
عمر بن محمود
شرف الدين بن الطفال.
سمع من الشيخ جلال الدين أحمد الدشناوي، ومن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، ودخل في خدمته إلى دمشق. وسمع معه من أشياخها.
وله نظم قريض وبلاليق.
توفي رحمه الله تعالى بقوص سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومن بلاليقه المطبوعة:
في ذي المدرسا ... جماعة نسا
إذا أمسى المسا ... ترى فرقعه
نسا ذا الزمان ... عجب يا فلان
يكونوا ثمان ... يصيروا أربعه
عمر بن مسعود بن عمر
الأديب سراج الدين بن سعد الدين المحار، المعروف بالكتاني الحلبي.
استوطن حماة وأقام بها منتمياً إلى بيت ملوكها: الملك المنصور وولده الملك المظفر وولده الملك الأفضل نور الدين علي، فأحسنوا إليه، وأسنوا له الجوائز.
كان شعره في حماة قد غلا سعره، وخلب قلوب ملوكها سحره. وكان سراجه فيها منيراً، وكتانيه فيها حريرا، وراح أو به فيها كالراح وراج، وأذكى فيها لهب السراج. وله موشحات شعرية موشعات، وقطعه فيها كأنها من بقايا النيل مقطعات. لهج الناس بها في زمانه، ومالوا إلى ترجيح أوزانه. وغنى المغنون بها فأطربوا الأسماع، وجودوا فيها الضروب والإيقاع.
ولم يزل على حاله إلى أن انطفأ السراج، وبطل ما على حياته من الخراج.
وتوفي رحمه الله تعالى بحماة في سنة إحدى عشرة أو سنة اثنتي عشرة وسبع مئة ظناً.
أخبرني يحيى العامري الخباز الأديب، وكانت له به خصوصية، قال: كان كثيراً ما ينشد:
رب لحد قد صار لحداً مراراً ... ضاحك من تزاحم الأضداد(2/144)
قال: ولما أن توفي رحمه الله تعالى حفرنا له قبراً، ظهر فيه من عظام الأموات فوق اثني عشر جمجمة. قال فتعجبت من ذلك.
وقد روى لي شعره وموشحاته إجازة عنه القاضي الصاحب جمال الدين سليمان بن أبي الحسن بن ريان، المقدم ذكره.
وديوان شعره لطيف، يكون في دون الثلاثة عشر كراساً، خارجاً عن موشحاته. وهو شعر متوسط، ومنه:
رأيته في المنام معتنقي ... يا ليت ما في المنام لو كانا
ثم انثنى معرضاً فواعجبي ... يهجرني نائماً ويقظانا
ومنه في مليح أحدب:
وأحدب أنكروا عليه وقد ... سمي حساماً وغير منكور
ما لقبوه الحسام عن سفه ... لو لم يروا قده القلاجوري
ومنه:
بعثت نحوي المشط يا مالكي ... فكدت أن تسلبني روحي
وكيف لا تسلب روحي وقد ... بعثت منشوراً بتسريحي
ومنه:
أرى لابن سعد لحية قد تكاملت ... على وجهه واستقبلت غير مقبل
ودارت على أنف عظيم كأنه ... كبير أناس في بجاد مزمل
ومنه:
يا حبذا وادي حماة وطيبه ... وطلاوة العاصي به والجوسق
فاتت منازه جلق فلأجل ذا ال؟ ... شقراء تكبو خلفه والأبلق
ومنه:
أنظر إلى النهر في تطرده ... وصفوه قد وشى على السمك
توهم الريح صيدها فغدا ... ينسج متن الغدير كالشبك
ومنه:
لنا مغن حسن وجهه ... يطرب منه لحنه المعرب
يرقص من يسمعه طيبة ... وهكذا المرقص والمطرب
ومنه:
قالوا: هوى بابن الأمير جواده ... فقلوبنا كادت عليه تفطر
فأجبتهم لا تعجبوا لوقوعه ... إن السحاب إذا سرى يتقطر
ومنه في إبريق فخار:
؟يا حبذا شكل إبريق تميل له ... منا القلوب وتصبو نحوه الحدق
يروق لي حين أجلوه ويعجبني ... منه طلاوة ذاك الجسم والعنق
كم قد شربت له ماء الحياة ولن ... ينالني منه لا غص ولا شرق
حتى غدا خجلاً مما أقبله ... وظل يرشح من أعطافه العرق
ومنه في قنديل:
يا حسن بهجة قنديل خلوت به ... والليل قد أسبلت منه ستائره
أضاء كالكوكب الدري متقداً ... فراق باطنه نوراً وظاهره
تزيده ظلمة الليل البهيم سناً ... كأنما الليل طرف وهو ناظره
ومنه في معالج مقيره:
بروحي أفدي في الأنام معالجاً ... معاطفه أزهى من الغصن الغض
يكلف عطفيه العلاج فيبسط ال؟ ... قلوب إلى حبيه في ساعة القبض
إذا ما امتطى لطفاً مقيرة له ... وأقعدها واحمر سالفه الفضي
رأيت محياه وما في يمينه ... كشمس تجلت دونها كرة الأرض
ومنه في امرأة حدباء وخلفها جارية عرجاء:
فديت من في ظهرها حدبة ... وهي بأخرى مثلها ناهده
يحسبها الإنسان مع أنها ... قائمة في مشيها قاعده
وخلفها جارية رجلها ... عن أختها فاضلة زائدة
توقف في خدمتها وقفة ال؟ ... وز وتطوي رجلها الواحده
ومنه في زامرة سوداء، وأجاد:
ولرب زامرة يهيج بزمرها ... ريح البطون فليتها لم تزمر
شبهت أنملها عن صرنايها ... وقبيح مبسمها الشنيع الأبخر
بخنافس قصدت كنيفاً واغتدت ... تسعى إليه على خيار الشنبر
ومنه في تشبيه لوح رخام شحم ولحم:
ويوم قال لي ملك البرايا ... وبين يديه لوح من رخام
أهل لك أن تشبهه بشيء ... يروق بني الترسل والنظام
فقلت رقيق ثلج في مدام ... فقال ومثل برق في غمام
وذاك أتم في التشبيه معنى ... فقلت صدقت يا بدر التمام
وكتب إليه شهاب الدين أحمد بن العزازي من القاهرة:
من ضل عن طرق المكارم والعلا ... فليهتدي أنى سرى بسراجها
عمر الذي بلغ البلاغة وارتقى ... درجاتها وسرى على منهاجها(2/145)
أما الفضائل فهو بيت قصيدها ... وطراز حلتها ودرة تاجها
فكتب المحار الجواب:
سارت فعطرت البلاد بنشرها ... أخبار مرسلها وسبل فجاجها
عذراء قلدها الشهاب جواهراً ... من فكره غنيت به عن تاجها
راقت معانيها برقة لفظها ... كالراح أشرق نورها بزجاجها
وقال في جفانه أبنوس:
ذات لحن شجي ... بتدي بما في الصدور
كأنها جنح ليل ... من تحت صبح منير
تشدو بشعر فصيح ... على لسان الحرير
ومن موشحاته:
جسمي ذوى بالكمد والسهر ... والوصب من جان
ذي شنب كالبرد كالدرر كالحبب جمان
بي غصن بان نضر ... يسبيك منه الهيف
يرتع فيه النظر ... فزهره يقتطف
الخد منه خفر ... والجسم منه ترف
قد جاءنا يعتذر ... عذاره المنعطف
ثم التوى كالزرد معبقري ... معقربي ريحاني
في مذهب مورد مدنر مكتب سوسان
؟ظبي له مرتشف ... كالسلسبيل البارد
بدر علاه سدف ... من ليل شعر وارد
مقرطق مشنف ... يختال في القلائد
غصن نقا ينعطف ... من لين قد مائد
بين اللوى وثهمد كجؤذر في ربرب غزلان
من كثب ذي جيد ذي حور ذي هدب وسنان
أما وحلي جيده ... ورنة الخلاخل
والضم من بروده ... قد قضيب مائل
والورد من خدوده ... إذ نم في الغلائل
لا كنت من صدوده ... متصلاً بعاذل
نار الجوى لا تخمدي واستعري ... وكذبي سلواني
وانسكبي واطردي وانهمري ... كالسحب أجفاني
مولاي جفني ساهر ... مؤرق كما ترى
فلا خيال زائر ... يطرقني ولا كرى
إني عليك صابر ... فما جزا من صبرا
إن سح دمعي الهامر ... فلا تلمه إن جرى
جال الهوى في خلدي ومضمري ... أضر بي كتماني
مؤنبي فاتئد لا تفتر ... وجنب عن عان
إن زاد في الهجر وصد ... رحت بصبري مرتدي
عنه وإن طال الأمد ... إلى ذرى محمد
وكيف يخشى من قصد ... ملكاً عظيم المحتد
فالملك المنصور قد ... سما سماء الفرقد
ثم استوى بأجرد مضمر ... ومقضب يماني
ذي شطب مهند وسمهري ... مضطرب مران
ملك علت هماته ... من فوق هام المشتري
وبخلت راحاته ... سح السحاب الممطر
وعوذت راياته ... بمحكمات السور
بدر بدت هالاته ... مثل الصباح المسفر
تحت لوى منعقد بالظفر في موكب فرسان
كالشهب في الأسعد والأقمر ... في عذب تيجان
يا ملكاً دون الورى ... تخبطه الممالك
ومالكاً إذا سرى ... تحجبه الملائك
بعض عطاك هل ترى ... جادت به البرامك
فاستجلها من عمرا ... ثغر ثناها ضاحك
لا تحتوى كالشهد كالسكر ... كالضرب معاني
كالسحب كالعسجد كالجوهر من حلبي كتاني
قلت: وقد عارضه الشيخ صدر الدين بن الوكيل رحمه الله تعالى في كثير من موشحاته، ومما عارضه هذا الموشح، وقد سقته في ترجمة الأمير شمس الدين سنقر الأعسر مشد الدواوين. إلا أنه غير بعض قوافيه.
ومن موشحات السراج، وألطفها وأحسنها قوله:(2/146)
ما ناحت الورق في الغصون إلا ... هاجت على تغريدها لوعة الحزين
هل ما مضى لي مع الحبايب آيب ... بعد الصدود
أم هل لأيامنا الذواهب واهب ... بأن تعود
مع كل مصقولة الترائب كاعب ... هيفاء رود
تفتر عن جوهر ثمين جلا أن ... يجتلى يحمى بقضب من الجفون
أحببته ناعم الشمائل مائل في ... برده
في أنفس العاشقين عامل عامل من قده
يرنو بطرف إلى المقاتل قاتل في غمده
أسطى من الأسد في العرين فعلاً وأقتلا لعاشقيه من المنون
علقته كامل المعاني عاني قلبي به
مبلبل الحال مذ جفاني فاني في حبه
كم بت من حيث لا يراني راني لقربه
وبات من صدغه يريني نملا يسعى ... إلى رضابه العاطر المصون
قاسوه بالبدر وهو أحلى شكلاً من القمر
فراش هدب الجفون نبلا أبلى ... بها البشر
وقال لي وهو قد تجلى جل باري الصور
ينتصف البدر من جبيني أصلاً فقلت ... لا قال ولا السحر من عيوني
بتنا وما نال ما تمنى منها ... طيب الوسن
نفض من فرحة لدنا دنا تنفي الحزن
وكلما مال أو تثنى غنى ... صوتاً حسن
لا تستمع في هوى المجون عذلاً واسع إلى راح تقي سورة الشجون قلت: قد رأيت أيها الواقف على هذا وفقك الله ما فاته من الالتزام في بعض الحشوات، وما بعض الحشوات خال منه، وما أعتقد أنه أتى به وفاته، ولا يخفى ذلك على من يعرف علم البديع وشروط الجناس المزدوج.
وكلفني بعض الأصحاب الأعزة أن أنظم شيئاً في هذه المادة، فنظمت مع علمي ما ينبغي للعاقل أن يعارض ما رزق السعد، وبالله التوفيق، وهو:
ما تنقضي لوعة الحزين أصلا ... ولو سلا إلا لضرب من الجنون
قمت ولم تحظ بالوصال صالي ... نار الجوى
معذب البال في خبال بالي ... من الهوى
ولا توافق على انتقال قالي ... يوم النوى
وكن على مذهبي وديني ذلاإذتبتلى واصبر على ذلة وهون
معذبي نازح المزار زاريعلىالقمر
خلى فؤادي من الإسار ساريعلىخطر
يقول والقلب في استعار عاريمنمصطبر
من أرسل السحر من جفوني نبلاتقضيعلى حشا المحبين بالمنون
في ريقه لذة السلافلا فيكأس المدام
رأيت لي منه في ارتشافشافيمن السقام
أقول والصمت في اعتكافكافيعند الملام
يأتي تسليه عن يقينقل لاتغري البلاعلي فالوجد في الكمين
جبينه الصبح في انبلاجلاجلشعره
وقلب مضناه في ابتهاجهاجلهجره
يرقب منه يوم انفراجراجلصبره
ظبي به الليث في العرينولىلو اجتلى عيونه بات في غبون
وغادة في الهوى عدانيدانيوصالها
لو أن دهري لها انتقانيقانيجمالها
ما كان في الوجد قد شجانيجانيدلالها
ولا جرت بالدما عيونيوبلاقد أخجلاسواكب العارض الهتون
مقلتها صيرت رشاديشاديبذكرها
وسحرها صار في العبادباديبنصرها
وصار في الغور والوهادهاديلأسرها
فانظر تجدها دون العيونكحلالا يصطلىلها بنار السحر المبين
تبدو بوجه مثل المرايارايىفيه الهلال
ألا ابن يحيى خير البراياراياإذا استحال
طبع الليالي وللرعاياعايىصرف الليال
يرد خطب الردى الحرونسهلاقد انجلىوانبلجت سدفة الدجون
يا سعد ملك قد استجلاجلاًعنه العنا
لأنه عندما تولىولىعنه الخنا
فمي بذكراه مذ تحلىحلىفيه الثنا
وجاء بالجوهر الثمينجزلاًحتىاغتلى على عقود المدح الرصين
فطرسه جامع الفرائدرائدإلى الصواب
ولفظه زينة القصائدصائدفصل الخطاب
وكله نخبة العقائدقائدالى العجاب
وذكره صار في القرونيتلىحتى علامنابر الأيك والغصون
أقول للغيث في سحابهحابهفي وبله
فجوده للورى وشى بهشابهفي طله
ولم يقم قط في منابهنابهمن شكله(2/147)
أفاض من فضله المعينسجلا ًملا الملاوسار في بحره سفيني
نظمي على رتبة الأفاضلفاضلديباجه
كأنه فيك بالأصائلصائلنواجه
فانظر لمن صار في المحافلآفلسراجه
ومن على ذروة الفنونحلاواستفلاسواه في حمأة وطين
موشحي رائق الطرائقرائقفي فنه
ما مثله قط في الخلائقلائقفي وزنه
إن عد يوماً من النوافقوافقلوزنه
فأنت فرد بلا قرين أملى ... سرح العلا حتى انجلت ظلمة الظنون
ومن موشحات السراج المحار رحمه الله تعالى:
أرقت لبرق لاح من أرض حاجري ... فأجرى دموعي من شؤون محاجري
وهيج لي التذكار ... فأضرمت الأفكار
في قلب الكئيب ... أو كادت تذيب
نيران الوجيب ... حشاشة الأشواق
كتمت الهوى جهدي ... وهل أنا كاتم
وقد جد بي وجدي ... وشوقي لازم
ونمت بما عندي ... دموع سواجم
فما حيلتي والدمع يبدي سرائري ... ويظهر ما جنت عليه ضمائري
ولم يبق لي أنصار ... سوى جلدي إن صار
لقلبي جلد، وإلا فقد ... براه الكمد وضاقت به الآفاق
؟أعرت حمام البان ... بعض توجعي
فناحت على أفنان ... وجدي ولم تعي
ولو سقت الأغصان ... فائض أدمعي
لأورق منها كل ذاو وناضر ... بما رويت من ماء جفني وناظري
ولو كانت الأطيار ... إذا نحت في الأسحار
قبيل الصباح مثلي في النواح ... ما راشت جناح ولا لبست أطواق
فؤادي الذي أصماه ... سهم من النوى
فكابد ما يلقاه ... من ألم الجوى
وبي رشا لولاه ... لم أدر ما الهوى
ولا حل في قلبي سواه وناظري ... فيا نفس جدي في هواه وخاطري
ولا ترهبي الأخطار ... عسى تدركي الأوطار
فكم من هوى في نار الجوى ... وحكم الهوى تذل له الأعناق
دعاني إلى حبيه ... خد مورد
عليه لمن يجنيه ... صدغ مزرد
ومن جفنه يحميه ... سيف مجرد
فويلاه من تلك الجفون الفواتر ... تصول على عشاقه ببواتر
نضتها يد الأقدار ... لمن يجتني الأزهار
فيا من نظر سيوف الحور ... بأيدي القدر تسل من الأحداق
أسلت من البلوى ... سيول مدامعي
تنم يما تطوى ... عليه أضالعي
ولي كبد تكوى ... بنار مطامعي
فكن ناصري إن قل يا دمع ناصري ... عسى عاذلي في الحب يصبح عاذري
ومن يعشق الأقمار ... ولم يكتم الأسرار
يقاسي الولوع وفيض الدموع ... ونار الضلوع كذا صفة العشاق
فكلفت أنا معارضته، فقلت، وبالله التوفيق:
تغيبت يا بدري فطالت دياجري ... ولم أرج أنصاري وأنت مهاجري
وما تنفع الأنصار ... إذا زاغت الأبصار
وبات الغمام، يبكي المستهام ... وانجر الحمام إلى النوح بالأطواق
خلائقك الحسنى ... فتنت بها الورى(2/148)
ومقلتك الوسنى ... سبت مني الكرى
ومبسمك الأسنى ... تنضد جوهراً
وجفنك يحمي الريق منك بباتر ... فيا بارداً قد راح يحمى بفاتر
ولو كانت الأزهار ... وقد راقت الأسحار
تروي عن شذاك وتحكي سناك ... لكانت هناك، حدائقها الأحداق
حبيبي قد أضحى ... هواك منيتي
ولي كبد قرحى ... لعظم بليتي
وجاء الذي يلحى ... تمام مصيبتي
فإن قلت إني في الهوى غير جائر ... فما ضر لو أصبحت بالوصل جابري
؟وإلا فكم من جار ... على ذي غرام جار
ولا يختصر ولا يقتصر حتى ينتصر ... على الصب بالأشواق
يقرر في هجري ... دليل دلاله
ويمنع مع فقري ... جميل جماله
وينكر مع ضري ... وصول وصاله
ويقدم في سفك الدما غير قاصر ... بقسوة فتاك اللواحظ قاسر
وقد أصبح الخطار ... إذا ماس في أخطار
يشكو ما دهي إلى ملده ... ومن قده يشكو الغصن في الأوراق
له مبسم ألمى ... حلا وهو بارد
؟به اتسقت نظماً لآلي فرائد
إلى رشفه نظمأ ... وما ثم وارد
وقد دار في خد من الورد ناضر ... له عارض قد راق في كل ناظر
له خبر قد طار ... وقد ملا الأقطار
فما ينكر لما يشكر ... ولا يذكر إلا فاق في الآفاق
تجنى وما أبقى ... وسر معاندي
ورق لما ألقى ... من السقم عائدي
وجفناه قد شقا ... حبالة صائد
؟وهل يكتفي صب نوافث سامر ... بقلب سليب فاقد الصبر حاسر
ومن ذا الذي قد ثار ... وحاول أخذ الثار
من سهم مرق بطرف رمق ... وسحر الحدق لوا نصره خفاق
؟عمر بن مظفر
ابن عمر بن محمد بن أبي الفوارس، الشيخ الإمام الفقيه النحوي الأديب الشاعر الناثر زين الدين أبو حفص بن الوردي المعري الشافعي.
أحد فضلاء العصر وفقهائه وأدبائه وشعرائه. تفنن في علومه، وأجاد في منثوره ومنظومه. شعره أسحر من عيون الغيد، وأبهى من الوجنات ذات التوريد. قام بفن التورية فجاءت معه قاعدة، وخطها في الطروس وهي فوق النجوم صاعدة، يطرب اللبيب لسماعها ولا طرب الصوفي للشبابه، ويعجب الأديب لانطباعها ولا عجب الغواني بما التحف شبابه، ويرغب الأريب لارتجاعها ولا رغبة الروض الذي صوح في صوب السحابة. ويدأب النجيب في اقتطاعها ولا دأب المحب في التمسك بأذيال محبوبه السحابة:
لفظ كأن معاني السكر تسكنه ... فمن تحفظ بيتاً منه لم يفق
كأنه الروض يبدي منظراً عجباً ... وإن غدا وهو مبذول على الطرق
وفقهه للطالب روضه، وللأصحاب الفتاوى قد شرع حوضه. نظم الحاوي وزاده مسائل، وجعله بعد وحشة الأذهان منه خمائل، وعربيته تلافيها ما أنس غريبها بتلافيها وقربها إلى التعقل بعد تجانفها وتجافيها، وسهل عويصها فلو سمعته الأعرابية ما قالت: " يا أبت أدرك فاهاً غلبني فوها لا طاقة لي بفيها " ، إلا أنه مع هذه القدرة وهذا التمكن من فن الأدب، وكونه إذا تصدى للنظم تنسل إليه المعاني من كل حدب، لا يسلم من الإغارة على من سواه، واغتصاب ما سبقته إليه غيره وما حواه، ولا يعف عما هو لمن تقدمه أو عاصر أو استسلم له أو حاصره. وبهذه الخلة نقص، ولولاها صفق له الزمان ورقص.(2/149)
ولم يزل في حلب يتولى القضاء في تلك النواحي، وتبكي الغمائم لفراقه وتبتسم لقدومه ثغور الأقاحي، إلى أن ترك الولايات ورفضها، وعاد على أحكامها ونقضها، وأرصد نفسه للإفادة، وتلفع برداء الزهادة، واختص بسيادة العلم وهي السيادة. و تخرج به جماعة وتنبهوا، وحاكوا طريقه وتشبهوا، إلى أن افترس الوردي ورد المنية، وأصبح في حفرة القبر من وراء الثنية.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب.
وتوفي أخوه القاضي جمال الدين يوسف قبله بقليل.
وكان الشيخ زين الدين رحمه الله تعالى قد رأى عجائب الطاعون في حلب، فعمل فيه رسالة أنشأها وأبدعها وسماها: النبا في الوبا، ولكنه ختم به الوبا، وفجع الناس فيه.
وقلت أنا فيه لما بلغتني وفاته:
لئن ذوى الوردي في هذه ال؟ ... دنيا لقد أينع في الخلد
إنما أوحش ربع النهى ... والفضل في نقص وفي رد
والعلم روض ماله رونق ... لأنه خال من الوردي
وكنت قد كتبت إليه من دمشق في جمادى الآخرة سنة أربعين وسبع مئة:
سلام على الحضرة العالية ... سلام امرئ نفسه عانيه
لأن لها رتبة في العلا ... ذوائبها في السما ساميه
ويؤنس من غدا يجتني ... قطوف مسراتها دانيه
أيا عمر الوقت أنت الذي ... كراماته في الورى ساريه
ويا بحر علم طمى لجه ... فكم جاءنا عنه من راويه
ويا بحر علم طمى لجه ... فكم جاءنا عنه من راويه
ويا فاضلاً أصبحت روضة ال؟ ... علوم بتحقيقه زاهيه
لك الخط كم فيه من نقطة ... لها الحظ بالقلب في زاويه
تقدمت في النظم من قد مضى ... لأنك في الذروة العاليه
ورخصت أسعار أشعارهم ... كأن مدادك من غاليه
وكم من قصيد إذا حكتها ... تكون القلوب لها قافيه
ونظمت في مذهب الشافعي ... كتاباً غدا حاوياً حاويه
وزدت مسائله جملة ... بتحقيق مذهبه وافيه
فما لك من مشبه في الورى ... ويا حسن ما ههنا نافيه
لئن كنت أرسلت هذا القريض ... فللبحر قد سقته ساقيه
وإلا فأهديت نحو الريا ... ض وقد أينعت زهرة ذاويه
وسترك إن لم أكن حاضراً ... يغطي مساوئه الباديه
فلا زلت في نعمة وفرها ... تساق له جملة باقيه
يقبل الأرض ويسأل الله أن يمن عليه بجمع شمله، ويقرب اللقاء، فإن التمني قد أطال المدة في وضع حمله، وأن يريه ذلك الشخص الذي يروق البدور السيارة، ويروع الأسود الزأارة، وأن يرزقه اجتلاء ذلك الروض الذي نجني بسمعه أزهاره التي تسلب النظارة بالنضارة، وأن يورده على ظمئه البرح تلك الفضائل التي أبحرها زخاره، وأمواجها هدارة، وأن ينزله المحل الذي يخرج منه ومعه بكارة المعاني التي تبرز منها بكارة بعد كاره، وأن يمتع طرفه بذلك البدر الذي يأخذ الناس من فوائده الكواكب السيارة، وأن يطلع عليه شمس فوائده التي تشرق من الطلبة في الهالة والدارة:
لعل الله يجعله اجتماعاً ... يعين على الإقامة في ذراكا
وينهي أنه لما كان في الديار المصرية حضر من حلب المحروسة المولى شمس الدين محمد بن علي بن أيبك السروجي، وأنشد المملوك تضمين أعجاز ملحة الإعراب لمولانا أدام الله فوائده فأخذ من المملوك بجامع قلبه، ودخل على لبه بهمزة سلبه، وعلم به القدرة على التصرف في الكلام، وتحقق أن نظم غيره إذا سمع قوبل بالملال والملام. وقال في ذلك الوقت عندما حصل له في كلام مولانا المقة وفي كلام غيره المقت:
يا سائلاً عمن غدا فضله ... مشتهراً في القرب والبعد
الناس زهر في الثرى نابت ... وما ترى أذكى من الوردي
وكان المملوك قد علقها، وأدخلها أبواب حاصله وأغلقها، فاغتالتها أيدي الضياع، وعدم أنس حسنها المحقق من بين الرقاع.
ثم إني سألته أن يجيزني رواية ما يجوز له تسميعه، فكتب الجواب، ومن خطه نقلت:(2/150)
كتب إلي فلان أمد الله تعالى في جاهه، وجمل النوع الإنساني بحياة أشباهه، يستجيز مني رواية مصنفاتي ومروياتي ومؤلفاتي، ففديته سائلاً، وأجبته قائلاً: أما بعد حمد الله جابر الكسير، والصلاة على نبيه محمد البشير النذير، وعلى آله الذين أعريت أفعالهم فسكن حب أسمائهم في مستكن الضمير.
فإني ألقي إلي كتاب كريم، يشتمل بعد بسم الله الرحمن الرحيم، على نظم فائق بهي، ونثر رائق شهي، غرس لي أصوله بفضله خليل جليل، فامتد علي من فروعه ظل ظليل، فرأيته فانتصبت له قائماً على الحال، وتميزت به على غيري، فطبت نفساً بعد الاعتلال، وابتهلت بالدعاء لمهديه مخلصاً، ولكن أسأت الأدب إذ وازنت جوهر نظمه بالحصى حيث قلت:
سلام على نفسك الزاكية ... وشكراً لهمتك العالية
أزهراً أم الزهر أهديتها ... لعبد مدامعه جارية
كتاب يفوح شذى نشره ... فلي منه رائحة جائيه
وسعد معاديه عن مركز ال؟ ... سعادة يلجا إلى زاويه
إذا حمل الجدي في نطحه ... ففاس إلى رأسه دانيه
وقابلني حين قبلته ... من الطيب ما أرخص الغاليه
وفكهني في جنى غرسه ... ولا سيما بيت ما النافيه
تردد عيني به لا سدى ... ولكنها تطلب العافيه
فمهديه أفديه من سيد ... أياديه رائقة راقيه
لعل الخليل بداني به ... ليجعلها كلمة باقيه
فيا جابراً دم معاذاً فكم ... بعثت لمحلي من ساريه
لأقلامك الرفع تبنى بها ... على الفتح أفعالها الماضيه
ولو لم يكن قد سبا نورها ... لما حمل الخادم الغاشيه
فإن أهلك الناس جهل بهم ... فأنت من الفرقة الناجيه
فكم باب نصر تبوأته ... فأذهاننا منه كالجابيه
رضي بك عن دهره ساخط ... فلا زلت في عيشة راضيه
وإني لفي خجل منك إذ ... أجبتك في الوزن والقافيه
فعفوا وصفحاً ولا تنتقد ... ويا بحر مالك والساقيه
ليهنك أنك عين الزما ... ن فليت على عينه الواقيه
ولما انتهيت إلى استجازته التي انتظمت في سلوك الحسن بحسن السلوك، واستعظمت، فلولا حسن الظن لأوهمت تهكم المالك بالمملوك، أحجمت عن إجازة من شمر في العقل والنقل لتحقيق القديم والحديث، وتبحر في إغراب الإعراب حتى كأن النحاة إياه عنوا بمسألة سيرك السير الحثيث، وقلت: ماذا أصف، وبأي عباة أنتصف. في إجازة من إذا كتب طرز بالليل رداء نهاره، وإذا نثر فالأنجم الزهر بعض نثاره، وإذا نظم لم يقنع من الدر إلا بكباره، ولم يرض من المعاني إلا بدقيق من بين حجريه الثمينين بل أحجاره، إن أعرب ف؟ ويه على سيبويه، وإن نحا فهو الخليل غير مكذوب عليه، يأتي بما يفتر عنه المبرد، ويشق له الكسائي كساه ويجرد، ويقول الزجاجي: أيها الشاب لقد أخجلت جواهرك صرحي الممرد، وينادي ابن أبي الحديد: سطا علي لسانك المبرد، ويستخدم ملك النحاة في جنده، ويرفرف ابن عصفور عليه بجناحيه ويحلف أنه الخليفة من بعده، بتعمق يرهف حروف الحروف، وينصف حتى لا يعدو ثعلب ولا أكبر منه على ابن خروف، ويصدق حتى لا يقال ضرب زيد عمراً، ويعدل حتى لا يشتم خالد بكراً، مع بساتين فنون أخر تهتز بنسمات السحر عذبات أفنانها، ويقول حاسدها: آه، فتشبه ألفه في العظم قدود نخلها، وهاؤه ثمر رمانها.(2/151)
ثم فكرت أن كتابه الشريف آمنني النوب، وخصني بالنوبة الخليلية من بين النوب، وكفاني مواثبة العكس والطرد، وأولاني مناسبة الغرس للورد، فترددت هل أفعل أو لا، ثم ظهر لي أن امتثال المرسوم أولى، وجسرني على ذلك مرسوم شيخ الأدب ورحلته، وركنه الأعظم وقبلته، شيخنا الفذ جمال الدين بن نباتة، فسح الله في مدته وأبقى حياته، الذي إن نثر جعل اللجين إبريزاً بحسن السبك، وإن نظم قال نظمه: لقرينتيه الحسن والقبول: قفا نضحك من قفا نبك. لا جرم أنا من بحره الحلو نغترف، وبالتقاط جوهره التي زان بها مفارق طرق البلاغة نعترف، فأطلعت إذن أمره طالباً صفحه وستره، وقلت: لقد بدأتني أعزك الله بما كنت أنا به أحرى، وكلفتني شططاً فتلوت: " ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً " ، وها قد أجزت لك متطفلاً عليك، وأذنت لك متوسلاً إليك، أن تروي عني ما يجوز لي روايته وإسماعه، و ليتصل بك فيما اتصل بك ما أمن انقطاعه، من منقول ومقول، وفروع وأصول، ونثر ونظم وأدب وعلم وشرح وتأليف وبسط وتصنيف بشرط المضبوط، وضبطه المشروط.
أما مصنفاتي الشاهدة علي بقصور الباع، ومؤلفاتي المشيرة إلي بقلة الإطلاع، فمنها في الفقه: البهجة الوردية في نظم الحاوي، وفوائد فقهية منظومة.
ومنها في النحو: شرح ألفية ابن مالك، وضوء الدرة على ألفية ابن معط، وقصيدة اللباب في علم الإعراب، وشرحها، واختصار ملحة الإعراب نظماً، وتذكرة الغريب نظماً وشرحها.
ومنها في الفرائض: الرسائل المهذبة في المسائل الملقبة.
ومنها في الشعر والأدبيات: أبكار الأفكار.
ومنها في غير ذلك: تتمة المختصر في أخبار البشر، اختصار تاريخ حماة، والذيل عليه، والتتمات في أثنائه.
وأرجوزة ي تعبير المنامات، خمس مئة بيت.
وأرجوزة في خواص الأحجار والجواهر، ومنطق الطير، نظماً ونثراً، فيه نوع أدب تصوفي، وما لا يحضرني الآن ذكره، وكان الأولى ستره.
أجزت لك أيدك الله رواية الجميع عني بأفضالك، ورواية ما أدونه وأجمعه من ذلك حسبما اقترحه خاطرك العزيز واستوجبت به مدحي، فأنا المادح أنا المجيز.
قاله وكتبه عمر بن مظفر في العشر الأول من شعبان سنة أربعين وسبع مئة.
وكتب بخطه تضمين أنصاف أبيات ملحة الإعراب، وهي في غاية الحسن، وهي ستة وستون بيتاً، وقد أثبتها بكمالها في ترجمته في تاريخي الكبير.
وكتب بخطه تضمين:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر
لأبي العلاء المعري في مديح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي في إجازته في الجزء الثامن عشر من التذكرة التي لي.
وكتب أيضاً بخطه مفاخرة له نثراً بين السيف والقلم وجودها، وكتب بخطه أيضاً مقاطيع كثيرة وهي في الجزء الثامن عشر من التذكرة لي، وأثبت له شيئاً كثيراً من نظمه في التذكرة التي لي وهو مفرق في أجزائها.
ومن مصنفاته الكلام على مئة غلام كتبته جميعه بخطي، وهو في الجزء الثاني والثلاثين من التذكرة، والكواكب السارية في مئة جارية، كتبته جميعه بخطي أيضاً، وهو في الجزء الثالث والثلاثين من التذكرة، وله أحاجي نحوية على حروف المعجم وهي قال:
يا من حاجى ... في الأسماء
اطرح حرفاً ... بعد التاء
القِثا وقال:
؟يا من أحاجيه تغني ... عن فطنة المتنبي
إن كان عندك فهم ... مثل لنا طول جب
مدابير وقال:
يا فاضلاً قد صلحت ... للعالمين نيته
اطرح رتاجاً ما ترى ... يا سيدي أحجيته
القباب وقال:
يا من يفوق البرايا ... في بحثه حين يبحث
مثل ولا تتوقف ... قولي تلا متلبث
قراقِف وقال:
قوالوا لرب الحجى ... والواضح المنهج
مثل لنا مسرعاً ... في القول رزقي نجي
قسميات وقال:
أتت يا كامل الحجى ... والكلام المصحح
قولي: الطرف ملكه ... هات لي مثله اشرح
الإنالة وقال:
يا فاضلاً في الأحاجي ... ما إن له من مؤاخي
نور لآية حرث ... مثل بغير تراخ
سنانير وقال:
يا إماماً توقى ... ولي كل معاد
ما نظير لقولي ... باع أرض سواد
شراريف وقال:(2/152)
يا من حاجى ... وقيت أذى
مثل قولي ... تعب جبذا
عناقيد وقال:
يا من أحاجيه أعيت ... ذهن الصدور الكبار
ما مثل قولي لشخص ... حاجيته رطل قار
مناقير وقال:
يا سيداً ألفاظه ... لكل معنى حائزه
مثل لنا ولا تقف ... ألف وألف جائزه
الفاصلة وقال:
يا من له بين الورى رتبة ... معروفة تومن تلبيسه
مثل لنا أمر امرئ حاضر ... بأنه يشغل نقريسه
الهداية وقال:
يا تاجراً في العلم لا ... في الملهيات ولا القماش
مثل لنا بخلاً بما ... إن شئت أو أقص عطاش
دراهيم وقال:
يا فاضلاً يرجى له ... من ربه حسن الخلاص
مثل لنا في سرعة ... تعب المسن من القلاص
عنانيب وقال:
يا من أبان ال؟ ... معنى وفضه
مثل لنا سريعاً ... أهمل فضه
أبارقه وقال:
يا من لثغر العلا ... والعلم أضحى يحوط
إن كنت ذا فطنة ... ما مثل أحبب قنوط
مقياس وقال:
يا إماماً في الأحاجي ... زانه فهم وحفظ
مثل الآن سريعا ... آلة التعريف لفظ
الكلمة وقال:
يا سيداً فيه بشر ... للبائس المتوجع
إن كنت تدري الأحاجي ... فما مثال ارجع ارجع
هدهد وقال:
يا سيداً ذكاؤه ... قد أعجز المبالغا
مثل لنا ولا تقف ... اطلب شراباً سائغاً
سلمى وقال:
يا سيداً ذكاؤه ... والفهم أعيا من يصف
كن ناهباً وواهباً ... مثل لنا ولا تقف
سلهب وقال:
يا من له فضل يمت به ... وبه يرجى الجمع للفرق
مثل لنا إن كنت ذا فطن ... ما مثل أهمل ما على العنق
الغراس وقال:
يا فاضلاً في الله ... أضحى أخذه وتركه
مثل لنا بسرعة ... مرتفعات ملكه
الزباله وقال:
يا سيداً ألفاظه ... تجل عن مماثل
مثل لنا بسرعة ... عشر مئات فاضل
الفراسخ وقال:
يا من له في المعالي ... والفضل أي كرامه
مثل لنا ولا تتوقف ... نظير علم علامه
سمسمه وقال:
؟يا شهماً ذكياً ... بالآداب ملآن
مثل لي سريعاً ... أحبب غير غضبان
مقراض وقال:
يا شارح المعميا ... ت وجهه ووجهها
ذو لحية كبيرة ... ملك له ما شبهها
الحالة وقال:
يا من حوى من فهمه ... وعلمه ما قد حوى
مثل لنا إذ كنت ما ... ذكرته ظهر هوى
مطاريح وقال:
يا سيداً بفضله ... أصبح حبراً كاملاً
مثل لما في الوقت ما ... رادف أطعم عاملا
منوال وقال:
يا سيداً في الأحاجي ... له كمال رويه
مثل فداك المعادي ... والضد رب عطيه
ذاهبة ولما وقفت له على كتابه الكلام على مئة غلام عند القاضي الرئيس بهاء الدين حسن بن ريان، وجدت غالبه من نظمي في الحسن الصريح في مئة مليح، وكان ذلك عقيب قدومي من القاهرة فقلت له: يا مولانا اكتب إليه، وقل له: قد وقع صاحب العملة بها وعرفها. فكتب إليه وعرفه المقصود، فغير فيها أشياء فلهذا ترى نسختين ثم وقفت له على أشياء في غير ما نوع قد اغتصبها واختلسها، فكتبت إليه رحمه الله تعالى:
أغرت على أبكار فكري ولم أغر ... عليها فلا تجزع فما أنا واجد
ولو غير مولاي استباح حجابها ... أتته من العتب الأليم قصائد
قواطع لا تحميه درع اعتذارها ... وألسنها عنه الخصام مبارد
ولكنه لا فرق بيني وبينه ... يبين لأنا في الحقيقة واحد
فكتب هو الجواب إلي وأجاد:
وأسرق ما أردت من المعاني ... فإن فقت القديم حمدت سيري
وإن ساويته نظماً فحسبي ... مساواة القديم فذا لخيري(2/153)
وإن كان القديم أتم معنى ... فهذا مبلغي ومطار طيري
فإن الدرهم المضروب باسمي ... أحب إلي من دينار غيري
كان رحمه الله تعالى وسامحه لما سمع قولي:
أترك هوى الأتراك إن شئت أن ... لا تبتلى فيهم بهم وضير
ولا ترجي الجود من وصلهم ... ما ضاقت الأعين منهم لخير
قال هو رحمه الله مختصراً:
سل الله ربك من فضله ... إذا عرضت حاجة مقلقه
ولا تقصد الترك في حاجة ... فأعينهم أعين ضيقه
ولما سمع قولي:
ركبت في البحر يوماً مع أخي أدبٍ ... فقال دعني من قال ومن قيل
شرحت يا بحر صدري اليوم قلت له ... لا تنكر، الشرح يا نحوي للنيلي
فقال هو رحمه الله تعالى وزاد:
ديار مصر هي الدنيا وساكنها ... هم الأنام فقابلهم بتقبيل
يا من يباهي ببغداد ودجلتها ... مصر مقدمة والشرح للنيلي
ولما سمع قولي:
كؤوس المدام تحب الصفا ... فكن لتصاويرها مبطلا
ودعها سواذج من نقشها ... فأحسن ما ذهبت بالطلا
قال هو رحمه الله تعالى ونقص:
؟أحسن ما كانت كؤوس الطلا ... ساذجدة يبدو بها الخافي
فالنقش نقص ومن الرأي أن ... ترتشف الصافي من الصافي
وقال رحمه الله تعالى أيضاً مختصراً:
دع الكأس من نقشها ... فصاف بصاف أحب
إذا ذهبت بالطلا ... فقد طليت بالذهب
ولما سمع قولي:
انهض إلى الربوة مستمتعاً ... تجد من اللذات ما يكفي
فالطير قد غنى على عوده ... في الروض بين الجنك والدف
قال رحمه الله تعالى:
دمشق قل ما شئت في حسنها ... واحك عن الربوة ما تحكي
فالطير قد غنى على عوده ... وزفها بالدف والجنك
قلت: كذا وجدته قال، وفيه فساد، وهو أنه أضاف الدف إلى الربوة والمشهور بين الناس إضافة الجنك إلى الربوة، فما يقال إلا جنك الربوة، وما يقال: دف الربوة. وإن كان هناك دفوف كثيرة فإن المشهور ما قلته، وقد أخذ المعنى بكماله، ونصف البيت الأول من الثاني بلفظه، وهذه مصالتة، عفا الله عنه.
ولما سمع قولي:
تزوج الشيخ بتركية ... تضم في الغربة أطرافه
كأنها من حسنها شمعة ... وهي على العشاق طوافه
وقولي في مخيلة:
نقط خدي الدمع عشقاً وقد ... قامت إلى الرقص خياليه
فما رأت عيني لها مشبهاً ... مصرية في ضوء شاميه
جمع هو المقصدين في مقطوع واحد فقال:
جاءتك في طيف خيال حكت ... خيال طيف هز أعطافه
مصرية في ضوء شامية ... يا حين ذي الشمعة طوافه
ولما سمع قولي:
ومليح طراز كميه أضحى ... مثل خط العذار في حسن رقم
قال قلت الظباء مثلي وما عا ... زت ظباء الفلا سوى طرز كمي
وقولي أيضاً وفيه تضمين:
ضممت معذبي لما أتاني ... ورقم عذاره قد راق عيني
فيا طرزيه هل يدني زماني ... ليالي وصلنا بالرقمتين
وجمعهما وقال:
طرز قباء محنتي ... كخده ورقمه
ما أعوزت منه الظبا ... إلا طراز كمه
ولما سمع قولي:
عجباً لزهر اللوز حين يلوح وال؟ ... أوراق إذ تجلى على نظاره
عكس القضية في الورى فمشيبه ... يبيض من قبل اخضرار عذاره
قال رحمه الله تعالى:
أشجار لوز تنادي ... أمري على الخلف جاري
بعد اشتعالي مشيباً ... يخضر مني عذاري
قلت: قوله أخصر، لكنه أبتر، وقولي أنا أكمل وأجمل، وقولي عكس القضية أكثر في الاستعمال من قوله أمري على الخلق جار.
ولما سمع قولي:
أسائل عن أرض ألفت ربوعها ... وفيها حبيب نلت منه مرادي
فقالوا متى تظلم جلالها بوجهه ... فقلت أنا أدرى بشمس بلادي
قال هو مختصراً:
؟ما الشمس عندي على ما ... زعمتم يا أعادي(2/154)
دعوه عنكم فإني ... أدري بشمس بلادي
ولما سمع قولي في مليح أمير:
هذا المليح المفدى ... قلب المعنى أسيره
يقول من بات ضيفي ... عشقاً فإني أميره
قال هو رحمه الله تعالى:
أقول لبدر سائر بين أنجم ... أأنت أمير المصر قال أميره
فقلت إذا مات الكرام بأسرهم ... أأنت تمير الوفد قال أميره
ولما سمع قولي في مليح فقير:
فقير غنيت به في الهوى ... إذا ما بدا عن محيا البدور
وأصبح وجدي كثيراً به ... على أنه قد غدا بالفقيري
قال هو مختصراً:
بي فقير كغني ... بسنا وجه منير
لا تلمني في افتضاحي ... فغرامي بالفقيري
ولما سمع قولي في مليح ناسخ:
بليت بناسخ كالبدر حسناً ... له خصر طفا والردف راسخ
؟برى جسمي ضنا إذ قط قلبي ... وأصبح للجفا بالوصل ناسخ
قال هو مختصراً:
ناسخ راسخ الروا ... دف والخصر قد طفا
قد برى الجسم عندما ... نسخ الوصل بالجفا
قلت: أخذ المعنى واللفظ بعينهما واختصره لكنه محقه، فإنه ما ذكر القط وهذا ظاهر.
ولما سمع قولي:
لئن سمح الدهر البخيل بقربكم ... وسكن منا أنفساً وخواطرا
جعلنا ابتذال النفس شكران وصلكم ... وقلنا لدمع العين تعمل ما جرى
نقله فقال في مليح فقير:
ولي فقير أدمعي ... تعمل فيه ما جرى
إن قلت قد سلبتني ... يقول شغل الفقرا
ولما سمع قولي:
يقول لما قلت هذا اللمى ... أسكرتني لما ترشف فاك
سواك ما ذاق لمى مبسمي ... أستغفر الله ذكرت السواك
نقله هو فقال:
قالت وناولتها سواكاً ... ساد بفيها على الأراك
سواي ما ذاق طعم ريقي ... قلت بلى ذاقه سواكي
ولما سمع قولي:
مر على حبي نسيم الصبا ... فقال لي في بعض أقواله
ما لي في زهر الربا عبرة ... مذ تمسكت بأذياله
نقله هو فقال:
ضممتها عند اللقا ضمة ... منعشة للكلف الهالك
قالت تمسكت وإلا فما ... هذا الشذا قلت بأذيالك
ولما سمع قولي في قيم حمام:
بلان حمامنا له نظر ... يحار في حسن وصفه الفكر
عيناه موسى ونبت عارضه ... له مسن وقلبه حجر
قال هو رحمه الله تعالى موالياً:
حمامكم فيه قيم منظر ويسبي ... غسلني بالدمع ثن أنشد كذا صبي
جعل مسنو وموسو والحجر نصبي ... قال ذا عذاري وذا طرفي وذا قلبي
ولما سمع قولي:
المقلة السوداء أجفانها ... ترشق في وسط فؤادي النبال
وتقطع الطرق على سلوتي ... حتى حسبنا في السويداء رجال
قال هو ولكنه حول معناه:
من قال بالمرد فإني امرؤ ... إلى النساء ميلي ذوات الجمال
ما في سويدا القلب إلا النسا ... ما حيلتي ما في السويدا رجال
ولما سمع قولي مضمناً:
مليح يخاف على حسنه ... فينتف منه عذاراً سرح
فقلت له خل هذا الخيال ... ومد الشباك وصد من سنح
قال ونقل المعنى إلى صياد:
لو جنة صيادكم نسخة ... حريرية ملحة الملح
تقول لنبت العذار اجتهد ... ومد الشباك وصد من سنح
ولما سمع قولي:
بتنا وما نقلنا سوى قبل ... وريق فيه السلاف مشروبي
نمنا وما نمت الوشاة بنا ... لولا فضول الحلي والطيب
قال هو:
زارت على ياسي لطيف خيالها ... يا دهر ما بقيت عليك ذنوب
فركبت أخطار الهوى في وصلها ... والطيب واش والحلي رقيب
ولما وقفت أنا على قوله:
أخذت عني بديلاً ... وذا دليل بأنك
تمر بي لست تلوي ... علي حتى كأنك
فلست تحسن هجري ... ولست أهجر حسنك
وليس يوزن وجدي ... وليس يوجد وزنك(2/155)
قلت: الذي يسلك هذه الطريق السهلة العذبة المنسجمة التي ليس فيها غريب لغة ولا غريب إعراب، ولا تقديم ولا تأخير، ولا حذف ولا تقدير، ما يأتي بهذا الإعراب الذي نحتاج أن نقدر له نيابة المصدر المحذوف، وهو يتشبه بطريق البهاء زهير رحمه الله تعالى وذلك ليس في شعره تكلف، بل قول مطبوع غير متطبع، ولا عنده تكلف في إعراب ولا حوشي لغة. وقد قلت أنا في ذلك:
لقد أضعفني حزني ... وضاعف خالقي حسنك
فها أنا لم أزن وجدي ... لأني لم أجد وزنك
وصاحب الذوق السليم يحكم بيني وبينه في هذا رحمه الله تعالى.
وأنشدني لنفسه إجازة، وجوده مضمناً:
مليح خصره والردف منه ... كبنيان القصور على الثلوج
خذوا من خده القاني نصيباً ... فقد عزم الغريب على الخروج
وأنشدني له أيضاً:
جنبتني وأخي تكاليف الشقا ... وشفيتنا في الدهر من خطرين
يا حي عالم دهرنا أحييتنا ... فلك التحكم في دم الأخوين
وأنشدني له أيضاً:
قلت وقد عانقته ... عندي من الصبح فلق
قال وهل يحسدنا ... قلت نعم قال انفلق
وأنشدني له وجوده:
جبرت يا عائدتي بالصله ... فتممي الإحسان تنفي الوله
وهذه قد حسبت زورة ... لم أنت يا لعبة مستعجله
وأنشدني له أيضاً:
بالله يا معشر أصحابي ... اغتنموا فضلي وآدابي
فالشيب قد حل برأسي وقد ... أقسم ما يرحل إلا بي
وأنشدني له أيضاً:
لا تقصد القاضي إذا أدبرت ... دنياك واطلب من جواد كريم
كيف ترجى الجود من عند من ... يفتي بأن الفلس مال عظيم
وأنشدني له أيضاً:
رامت وصالي فقلت لي شغل ... عن كل خود تريد تلقاني
؟قالت كأن الخدود كاسدة ... قلت كثيراً لقلة القاني
وأنشدني له أيضاً:
وكنت إذا رأيت ولو عجوزاً ... يبادر بالقيام على الحراره
فأضحى لا يقوم لبدر تم ... كأن النحس قد عطي الوزاره
وأنشدني له أيضاً:
قلت لنحوي إذا عرضا ... له بأوقات الرضا أعرضا
يا حيث لو أصبح باب الرضى ... كيف لما كنت كأمس مضى
قلت: بريد يا مضموماً عني لو أصبح باب الرضى مفتوحاً لما كنت مكسوراً وأنشدني له أيضاً:
لما رأى الزهر الشقيق انثنى ... منهزماً لم يستطع لمحه
وقال: من جاء؟ فقلنا له: ... جاء شقيق عارضاً رمحه
وأنشدني له أيضاً:
دهرنا أمسى ضنيناً ... باللقا حتى ضنينا
يا ليالي الوصل عودي ... واجمعينا أجمعينا
وأنشدني له أيضاً:
إني عدمت صديقاً ... قد كان يعرف قدري
دعني لقلبي ودمعي ... عليه أحرق وأذري
وأنشدني إجازة له:
رأيت في الفقه سؤالاً حسنا ... فرعاً على أصلين قد تفرعا
قابض شيء برضا مالكه ... ويضمن القيمة والمثل معا
قلت: يتصور في صور منها المحرم يستعير صيداً من غيره فيتلف في يده فتلزمه القيمة لمالكه والمثل جزاء لله تعالى.
أنشدني إجازة، ونقلته من خطه يمدح الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة كمال الدين محمد بن المزملكاني رحمهما الله تعالى:
هنيت عاماً مقبلاً مقبلا ... عليك بالسعد وعيش حلا
مولاي يا من قلبه راحم ... وهو أحق الناس أن يعدلا
؟محبتي موجبة للثوى ... وحاجتي تقضي بأن ارحلا
حسبت في أيامكم رفعة ... وما خشيت الدهر أن أنزلا
وقلت من يرضى خمولي إذن ... فكنت أنت المحسن المجملا
فليتكم أبقيتموني كما ... قد كنت من قبلكم الأولا
أتقنت باب البيع والصرف في ال؟ ... شهبا وما دافع باب الولا
ثم متى أغفلتني بعد ذا ... شرعت في التفليس مستبدلا(2/156)
ما أنس لا أنس رسولاً أتى ... بنقلتي لا أعدم المرسلا
قلت رسولي رمت جري إلى ... منبج ماذا أنت مِن أو إلى
قال آنا من قلت لا إن مِنْ ... للابتدا أنت كذا؟ قال: لا
أنا إلى قلت إلى نعمة ... واحدة الآلاء عند الملا
أين هي النعمة في قاطع ... بقربه ما حق أن يوصلا
فقال ما سميتني هات قل ... واحذر عن التعليل أن تذهلا
قلت له جئت بنفي عن ال؟ ... جنس فحق أن نسميك لا
قلت انصرف قال انصرافي على ... مذهب أهل النحو لن يجملا
فالعدل والتعريف عندي ولي ... منزلة في النحو لن تجهلا
قال أضفناك إلى منبج ... فحق أن تصرف مسترسلا
قلت بلادي ربعها عامر ... ومنبج ربعها قد خلا
قال اسمك المعدول عن عامر ... قضى عن العامر أن تعدلا
وأنشدني له إجازة ومن خطه، نقلت موشحة فائقة: مذهبي ؟
حب رشاً ذي جسد مذهبقد حبيحسناً به يستعذب القدح بي
عاذلاًما أنت فيما قلتهعادلا
سائلايخبرك دمع قد همىسائلا
آه لاتعذل فما قلبي لذاآهلا
منصبي
والعقل أذهبتهما من صبيما ربيإلا وقد ربي به ما ربي
ما نسي ... زمان طيب الوصل في ما نسي
والمسي ... رقيبي بالكف لم ألمس
جانسي ... حزني فألفي كلما جا نسي
وارق بي
يا طرف سهداً والنجوم ارقبواشن بيمن لم يهم في ثغر أشنب
رق ما ... في خده الوردي قد رقما
عندما ... رأيت دمعي للجفا عندما
ضر ما ... في مهجتي من هجره ضرما
من أبي
يأبى الرضا نلت الجفا من أبيفارع بيرضاه يا قلبي وته وارعب
من صلا ... لي فخه بل من نضالي منصلا
بلبلا ... فؤاد مضناه هوى بل بلا
أو ولا ... ملازم آخره الأولا
فانه بي
غيري ولذات الغرام انهبواله بيعن عذل بل يا حشاي الهب
وفي هذه الموشحة كرر في القافية لفظة بي في مواضع، وهو إيطاء، لكن يغتفر للحلا.
؟عمر بن ناصر بن نصار العرضي
جمال الدين، الكاتب الشاعر، توفي في شهر رمضان سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومن شعره: ....
عمر بن يوسف
الصدر الرئيس الماجد القاضي زين الدين أبو حفص بن أبي السفاح الحلبي.
كان ركن رئاسة، وطود سيادة وسياسة، تردى بالمكارم والإحسان، وكان حرياً وحقيقاً بلفظ الإنسان، يخدم الناس بماله وجاهة، ويقف مع صاحبه في معرض الدهر وتجاهه، مع دربة بمداخلة الناس، والتنوع لكل الأجناس، والسعي الذي إذا أضجره الحرمان قال العزم: " ما في وقوفك ساعة من باس " ، لم يعتب لياليه، ولا أنشد يوماً أمانيه.
فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
بل يصبر ويدأب، ويشعب صدع السعي ويرأب.
ولم يزل يعاند من يطيق عناده، ويغالب الحوادث إلى أن أصلح له الدهر فساده فساده، وبلغ ما أم له وأمله، ورأس في الزمان وجمله، وعاذ به البدر من النقص فكمله، وتخرق في العطايا والهبات، وعلم أن الدهر هبات، وتعين في إظهار الرئاسة وتجمل، وتحلم على من عاداه أو عانده وتحمل، إلا أن الأعادي كادوه، وعلوا صرح الكيد له وشادوه، فخانه من إليه ينتمي، وخر صريعاً لليدين وللفم:
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
ولم يزل يقوم ويبرك، ويجمد ويحرك، إلى أن بطلت حركة نبضه وتعين لكل وارث مقدار فرضه. توفي رحمه الله تعالى في سادس عشر شعبان سنة أربع وخمسين وسبع مئة بحلب.(2/157)
كان من جملة كتاب الإنشاء بحلب، فسعى واجتهد إلى أن تولى وكالة بيت المال ونظر الخاص، و لما مات جركس نائب قلعة المسلمين وحضر الأمير سيف الدين منجك من الديار المصرية إلى حلب لضبط موجوده، خدمه القاضي زين الدين هناك وصحبه، وتوجه معه إلى قلعة المسلمين، وتأكدت الصحبة بينهما.
ولما عاد الأمير سيف الدين منجك إلى مصر وترقى، وصار وزيراً بالديار المصرية، طلب ابن السفاح وأخاه وولاه كتابة السر بحلب عوضاً عن القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود، وأقام في حلب تلك المدة على القالب الجائر، وحسده أصحابه وغيرهم، وأحسن إلى الناس كلهم، ولكن الحسود لا يرضيه إلا زوال النعمة. وكان الأمير أرقطاي نائب حلب، فمشى الأحوال وصبر ولم يسمع فيه كلام واش. ولما مات وحضر سيف الدين أرغون الكاملي زاد أعداؤه في السعي عليه وتمكنوا منه فرموا بينه وبين النائب، وتأكدت الوحشة، وتظاهر بالانحراف عليه، وكتب فيه إلى مصر حتى عزل بالسيد الشريف شهاب الدين الحسين الحسيني، وصودر، وأخذ منه مئة ألف درهم، ولم يجر على كاتب سر ما جرى عليه، ثم إنه أفرج عنه وطلب إلى مصر، فما وصل إلهيا حتى أمسك الأمير سيف الدين منجك وقام عليه الأمير سيف الدين طشبغا الداوادار، فأعيد هو وأخوه القاضي شمس الدين تحت الترسيم إلى حلب، وأخذ منهما شيء آخر بعد المئة ألف.
ثم أفرج عنه وتوجه إلى مصر، وعاد مع السلطان الملك الصالح صالح إلى دمشق في واقعة بيبغاروس، وجاء على وظائفه الأول بحلب، فتوجه إليها وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور.
وكان رحمه الله تعالى جواداً كريماً ذا مروءة زائدة وتعصب لمن ينتمي إليه وخدمة للناس ومداراة، وقل أن رأيت مثله، وكان يعتريه مرض الماشرى كل أربعين يوماً أو أقل أو أكثر، ويقاس منه شدة ثم يبرأ منه.
وجاء في بعض سفراته إلى دمشق فتوجهت إلى زيارته فوجدته يأكل سلفنداناً فعزم علي، فلم آكل منه لأنني كنت صائماً، ثم إني صنعت له في اليوم الثاني طبقاً من حلوى السلفندان، وجهزته وكتبت إليه معه:
ما حرم المملوك لما غدا ... عندك أكل السلفندان
إلا لأن يأتي به هكذا ... فصار هذا سلفاً داني
وكانت إلى جانبي دويرة في دمشق لشخص نصراني قسيس في حلب، وكنت مضروراً لإضافة تلك الدويرة إلى داري، فكتب إليه ليتحدث مع ذلك النصراني ويشتريها لي منه ويرغبه في الثمن، وكتبت من جملة ذلك:
أقول للحائر اللهفان حين غدا ... ولم ينل من أماني نفسه وطرا
إن أهمل الدهر ما تبغيه من أمل ... ونام عن نيله نبه له عمرا
فعاذ جوابه بأن الشغل ينقضي ولكن النصراني ضنين بهذا المكان وأبطأ على انقضاء الشغل في ذلك، فكتبت إليه أيضاً:
مولاي زين الدين حالي غدت ... أنت بها دون الورى داري
فدارك القسيس أو داره ... فإنني قد ضقت في داري
عمر بن سراج الدين
الشيخ الفاضل سراج الدين الصوفي الصفدي.
توجه من صفد قديماً إلى القاهرة، أظن أنه قبل عشر وسبع مئة، وبلغني أنه حفظ الوجيز، ثم إنه صار صوفياً بخانقاه سعيد السعداء. ورأيته بالقاهرة غير مرة، وهو من جملة الصوفية بسرياقوس.
ثم إنه ولي مشيخة الشيوخ بسعيد السعداء فأقام على ذلك إلى أن توفي سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
وكان شكلاً حسناً وقوته الحافظة متوفرة.
الألقاب والنسب
ابن عمرون
علاء الدين علي بن الحسن.
العنبري ظهير الدين
علي بن عبد الكريم.
عوض بن نصر
بن عبد الرحمن بن شيركوه الفقيه المصري الحنفي الصوفي شرف الدين أبو خلف.
سمع معي على أشياخي الحفاظ أثير الدين، وفتح الدين، والمسند يونس الدبابيسي، وغيرهم.
كان جميل الود حسن الصحبة.(2/158)
كان الشيخ أثير الدين يقول: استدرك على بعض المصنفين سبعة عشر موضعاً من الغلط في أسماء القراء. وكان ينقل القراءات، وينقل فروع مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وله إلمام بالحديث، لأنه سمع منه كثيراً، وسمع بقراءتي كثيراً، إلا أنه لحقته يوماً غفلة، فسأل بعض الجماعة عن قول الزمخشري في أول المفصل لأي شيء قال: " الله أحمد " وما قال: الله يوسف ولا الله عيسى أو موسى أو غير ذلك من الأسماء. فحفظوها عنه، ووضع واحد منهم سؤالات عليه من أول المفصل إلى آخره على لسانه مثل: لأي شيء قال باب الترخيم وما قال باب التبليط، ولأي شيء قال الموصول وما قال الشبابة، ولأي شيء قال العلم وما قال السنجق، وقال زيد قفة وما قال السرقانية، ثم إنه شرع في تعليل ذلك جميعه مثل قوله: الموصول، لأنه اسمي وحرفي، فهو ينقسم إلى قسمين، والموصول قطعتان موصولتان وليست الشبابة كذلك، ومن هذه النسبة.
وقال له الطلبة الذين يبعثون به أنت ما في القرآن الكريم لفظ يوازن اسمك، فانحرف من ذلك، وتأذى وجاء إلي شاكياً، فقلت له: بلى في القرآن ما يوازن اسمك فقال: ما هو؟ قلت: عنب فسر بذلك، وتوجه إليهم.
وحكى لي الحافظ فتح الدين قال: جاء إلي عوض مرات، قال أريد أقرأ أنا بنفسي جزءاً، فاستحييت يوماً منه، فأخذ جزءاً وقعد على الكرسي وحضر الناس وجلست أنا في المحراب أمامه وأخذ هو في القراءة فأول حديث قرأه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يشوص فاه السواك " ، فصحفه وقال يشوص بالشين المعجمة المفتوحة والواو المشددة والضاد المعجمة، ورقع في الضاد بلسانه، قال: فأخذت الجزء من يده منه، وقلت له: اترك، وقمنا. ومع ذلك فقد جمع جزءاً في الحناء: هل هو طيب أو لا وتتبع المعاجم، وجمع جزءاً وسماه شفاء المرض في من يسمى بعوض.
حضر إلى دمشق في سنة أربع وبعض خمس وأربعين وسبع مئة لزيارة شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فوصله وبره، ثم إنه عاد إلى القاهرة.
ولم يزل بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شوال سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
وقيل: توفي في ذي الحجة.
وكان تمتاماً رحمه الله تعالى.
ابن العوينة: الشيخ زين الدين علي بن الحسين.
عيسى بن أحمد بن مسعود بن خلف
الشيخ ضياء الدين أبو الهدى المحدث الصوفي.
خرج له وحدث. ومن شيوخه ابن الصفراوي، تفرد عنه بالقاهرة، وابن الطفيل وابن المخيلي، وابن دينار، وابن الجميزي، وسبط السلفي، وابن المقير، وحمزة بن عمر الغزال، وأحمد بن يوسف، ويوسف الساوي، وعلم الدين بن الصابوني.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روى لنا عن هؤلاء العشرة وعن غيرهم. قال: وقرأت عليه الأربعين أبدال التساعيات تخريج تقي الدين عبيد له ومجلسي ابن البختري وأحاديث مسلسلة.
وتوفي في تاسع عشر شهر رجب سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده بسبتة سنة ثلاث عشرة وست مئة.
وكان موته فجأة رحمه الله تعالى.
عيسى بن إسماعيل بن عيسى
ابن محمد بن حماد بن صالح، الشيخ الفقيه الفاضل عماد الدين أبو محمد الجهني الهيتي الصالحي.
كان من أصحاب الشيخ تاج الدين، مواظباً على قراءة القرآن، ويكرر على كتاب التعجيز في الفقه، وحفظ أولاً كتاب التنبيه، ثم سافر إلى الموصل وإلى الروم، وخالط الفقراء وسمع من ابن أبي اليسر في صحيح البخاري، وسمع كتاب الترمذي على ابن علان، وسمع ثلاثيات المسند على ابن شيبان، و له إجازة من نقيب الأشراف بهاء الدين، والعماد عبد الحميد بن عبد الهادي، ومكي بن عبد الرزاق القدسي، وابن عبد الدائم، والنجيب عبد اللطيف.
وتوفي في تاسع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ومولده تاسع عشر ذي القعدة سنة خمس وأربعين وست مئة.
عيسى بن ثروان بن محمد
ابن ثروان بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الباقي بن أبي الحسن التدمري، الشيخ الزاهد العابد العارف حفيد الشيخ الكبير ثروان.
كان شيخ البيانية وشيخ بلده، وله الصيت والسمعة والقبول والكلمة المسموعة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده في نصف شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
وكان جد والده من أصحاب الشيخ أبي البيان. ودفن الشيخ عيسى عند قبر والده برا الباب الصغير.
عيسى بن داود(2/159)
الشيخ الإمام العلامة سيف الدين أبو الروح البغدادي الحنفي المنطقي.
أخذ الجدل عن البدر الطويل، والفخر بن البديع، وشارك وبرع في المنطق. تخرج به جماعة من الأعيان كشيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى وغيره.
وشرح الموجز للخونجي إملاء من حفظه، والإرشاد كذلك، وسكن القاهرة، وأقام بمدرسة الظاهر بين القصرين.
قال: كان لي وقت بناء المدرسة المستنصرية سبع سنين أو ثماني سنين، وولدت بخوارزم.
وقال قاضي القضاة تقي الدين رحمه الله تعالى: قال لي سنة خمس وسبع مئة: لي تسعون سنة. وهذا تناقض منه.
وتوفي رحمه الله سنة خمس وسبع مئة.
وكان كثير التواضع مقتصداً سمحاً لطيف الشكل حسن المجالسة. وحكى لي عنه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني حكايات عجيبة مضحكة، تدل على أنه كان ظريفاً مطرحاً، سليم الباطن رحمه الله تعالى.
عيسى بن داود
الملك المعظم شرف الدين أبو البركات بن الملك الزاهر مجير الدين أبي سليمان بن الملك المجاهد أسد الدين أبي الحارث شيركوه بن الملك الناصر ناصر الدين محمد بن الأمير الكبير الملك أسد الدين شيركوه بن شادي.
كان قد توجه من دمشق إلى القاهرة يطلب الزيادة على إقطاعه، ومعه هدية جليلة، فأقبل عليه السلطان وقضى شغله، فأدركه أجله هناك.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة تسع عشرة وسبع مئة.
سمع من ابن عبد الدائم وغيره، وروى.
ومولده في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وست مئة.
عيسى بن عبد الرحمن
بن معالي بن حمد الشيخ المسند المعمر الرحلة شرف الدين أبو محمد المقدسي الصالحي الحنبلي الصحراوي المطعم ثم السمسار في الأملاك.
سمع من ابن الزبيدي، والفخر الإربلي حضوراً، ومن ابن اللتي، وجعفر الهمذاني، وكريمة القرشية، والضياء الحافظ، وجماعة.
وروى الكثير وتفرد، وخرجت له العوالي والمشيخة.
وحدق عنه ابن الخباز في حياة ابن عبد الدائم. وله إجازة من ابن صباح ومكرم وابن روزبة والقطيعي، وعدة.
وسار إلى بغداد وطعم في بستان المعتصم وكان أمياً.
قال شيخنا الذهبي: بعيد من الفهم، وربما أخل بالصلاة على عادة العوام، وأقعد بأخرة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ست وعشرين وست مئة.
عيسى بن عبد الرحمن بن أحمد
بن عبد الكريم المقرئ الشيخ مجد الدين أبو محمد البعلبكي.
كان من بيت معروف بالعدالة والديانة. سمع من أبي سليمان عبد الرحمن بن الحافظ عبد الغني ببعلبك.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه مجلس البطاقة بسماعه من أبي سليمان المذكور، وكان قرأه الشيخ علم الدين ببعلبك في سنة سبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع عشرة وسبع مئة.
عيسى بن علي الأندلسي الدمشقي
الشيخ الإمام المحدث الفاضل شرف الدين أبو الفضل الأندلسي الدمشقي المؤذن، قارئ الحديث للناس.
عمل صنعة الحرير مدة، ثم إنه صحب الشيخ إبراهيم الرقي وتخرج به. وكان يقرأ الحديث على العامة بفصاحة ونغم طيب، واشتهر بذلك.
وأجاد علم الوقت. كان من مؤذني الجامع الأموي، وأظنه جاء إلى صفد قبل العشرين، وقرأ علينا جزءاً من مروياته، ولم أتحقق الآن ما هو، وقد كتبت اسمي واسم غيري فيه.
قال شيخنا الذهبي: سمعنا بقراءته صحيح البخاري على شيخنا المزي أيما قراءة، وقد سمع من ابن، الواسطي وأنشدنا من شعره، وكان لا تمل مجالسته، قال: وهو على هناته صويحبي، والله تعالى يسامحه.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة بضع وستين وست مئة.
عيسى بن عمر بن خالد
بن عبد المحسن مجد الدين أبو الروح المعروف بابن الخشاب، الفقيه الشافعي، وكيل بيت المال بالديار المصرية.
قرأ القراءات على ابن الدهان والكمال الضرير، وسمع من أصحاب البوصيري، والحافظ المنذري وأبي الحسين القرشي وعبد الله بن علاق وغيرهم.
وسمع منه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين رحمه الله تعالى. وحدث بالقاهرة وسمع منه الجماعة، وتفقه بابن عبد السلام، وصحب الأمير بدر الدين بيلبك الخزندار الظاهري، وانتفع به.
وتولى الوكالة ونظر الأحباس والحسبة ودرس بزاوية الشافعي بالجامع العتيق بمصر وبالمدرسة الناصرية وبالقرا سنقرية، وأفتى.(2/160)
وكان فيه مروءة وله همة، وكان الشجاعي ينبسط معه كثيرا.
قال شيخنا العلامة أثير الدين: دخلت مرة معه أنا والشجاعي إلى البيمارستان المنصوري وإذا بمجنون يتطلع إلى ابن الخشاب وينشد:
محتسب قصير ... يؤسس ويسكر
تارة من محمض ... وتارة من معنبر
فقال له الشجاعي: أنا قلت لهذا المجنون يقول لك هذا.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وولي الوكالة بعده ولده صدر الدين أحمد.
عيسى بن عمر بن عيسى
الأمير شرف الدين بن البرطاسي الكردي، مشد الدواوين بطرابلس.
كان مشكوراً في مباشرته، مذكوراً بالخير في معاشرته، فيه كياسة، وعنده حشمة ورياسة، وله سيادة وسياسة، ما خلا من خير قدمه، وشر هدمه. وعمر بطرابلس مدرسة للشافعية مليحة، وجعل ساحتها للطلبة فسيحة.
ولم يزل على حاله إلى أن أدبر وولى، وترك أعراض هذه الدار وخلى.
وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس خامس شهر رمضان سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وكان من أبناء الستين، وتولى مكانه الأمير بدر الدين بكتوت القرماني.
وكان ابن البرطاسي قد باشر ولاية البر بدمشق في شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الطرقجي، ولم يزل في ولاية البر إلى أن عزل بابن معيد في سادس ذي الحجة سنة أربع عشرة، ثم أعيد بعد العيد إلى طرابلس فأقام بها إلى أن توفي في التاريخ المذكور.
عيسى بن فضل بن عيسى ....
الأمير شرف الدين.
توفي رحمه الله تعالى في إحدى الجمادين سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
عيسى بن المحب
شرف الدين النابلسي المعروف بالناسخ في القاهرة.
كتب الخط المنسوب، وأتى به وهو في عداد الرياض محسوب، وجود النسخ وأتقنه، ونمقه وحسنه، فعرف بالناسخ لذلك، واشتهر به اشتهار النجم في الليل الحالك.
وكان ينظم الشعر، ويتعاطى فيه مغالاة السعر.
لبث في السجن بضع سنين، وكان اللطف بأذاه ضنين، ثم إنه خرج من غيابة جبه، ولكنه حصد بذر حبه، فشعشعت له النار رحيقاً، ومات فيها حريقاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة اثنتين وثلاثين أو ثلاثين وسبع مئة بالقاهرة.
وكان قد جود واجتهد إلى أن حاكى خط القاضي علاء الدين بن الأثير وكان يوقع على هوامش القصص بما يريد ويتوجه صاحب القصة بها إلى بعض الموقعين، فيكتب بما سأله وهو لا يشك أن ذلك خط ابن الأثير، ويأخذ صاحب القصة الكتاب ويتوجه به إلى الدوادار فيرى خطاً معروفاً فيدخل به في فوطة العلامة ويعلم له السلطان ويخرج الكتاب، والكل صحيح، وما يرى أحد خط السلطان إلا ويكتب عليه علامته والاعتماد، ومشت بذلك أحوال، وحار الناس في ذلك ولا يعلم أحد ممن أتى عليه أصل الفساد من أين، إلى أن أمسك شرف الدين هذا فأخذه القاضي علاء الدين ودخل به إلى السلطان الملك الناصر محمد وحكى له الصورة، فقال له: أنا هذا ما زور علي، فإنما زور عليك فأمره إليك، فأودعه في سجن القلعة، فلبث قريباً من سبع سنين. ولما جرى للقاضي علاء الدين ما جرى من الفالج حدث في أمره فأفرج عنه، وكان القاضي بعد إطلاعه على أمره لا يمكن أحداً من الموقعين يكتب على قصة حتى يكتب هو اسم من يوقع عليها، ومن ذلك التاريخ صار ذلك رسماً لكاتب السر يكتب على القصص اسم الموقع.
وبلغني عن هذا شرف الدين أنه كان في السجن يزور أشياء في الوصولات وغيرها ومكث بعد خلاصه من السجن مدة قريباً من أربع سنين. ثم إنه نام ليلة ونسي روحه والطوافة في يده تقد، فاحترق اللحاف الذي عليه وتعذر خلاصه فأصبح في بيته ميتاً محترقاً.
وكان قد كتب إلي من السجن وأنا بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة:
يعز على عيسى وجود خليله ... بمصر وعيسى بات في قبضة السجن
فيا نار أشواقي تلظت بها الحشا ... ولم يطفها من مقلتي واكف المزن
ويا حسرتا لو فزت يوماً برؤية ال؟ ... محيا الذي أزرى على البدر في الدجن
أمولاي إني قد سمعت فضائلاً ... ظهرت بها في مصر في غاية الحسن
فسارت بها الركبان في ساحة الفلا ... وغنى بها الملاح إذ صار في السفن
لقد فقت فرسان البلاغة كلهم ... وما أحداً عن ذاك في مصر أستثني(2/161)
عسى نفثة من در شعر نظمته ... أحلي بها جيدي إذا شنفت أذني
فكتبت أنا إليه:
خليل أتى مصراً وعيسى محجب ... من الدهر في سجن فلا كان من كن
لئن كان في سجن فكل مهند ... إذا ادخروه للردى بات في جفن
فيا زهر روض حجبته كمامه ... عسى تتفرى عنه في ذروة الغصن
حنانيك إني فيك من شدة الأسى ... نقمت الرضى حتى على ضاحك المزن
فصبراً على ما قد منيت كأنما ... الزمان على الأحرار مثلك ذو ضغن
فقد يخرج الإصباح من ظلمة الدجى ... وقد تطلق الصبهاء من حرج الدن
كأني بذاك الوجه يبدي نضارة ... وقد برقعته بالحيا راحة الحسن
وقالت له الأيام وهي جديرة ... بكل قبيح أن تخون وأن تجني
أعيسى لقد شاركت في الحسن يوسفاً ... فشاركه أيضاً في الدخول إلى السجن
وأنشدته يوماً لنفسي بعدما خرج من السجن:
يا قلب إن رق خد ال؟ ... حبيب أو لان عطفه
فشعره كم تجافى ... وكم تثاقل ردفه
فأنشدني هو لنفسه:
شكوت الذي ألقى سهاداً وعبرة ... فوكل جفني أنه قط لا يغفو
فلانت لي الأعطاف والخصر رق لي ... ولكن تجافى الشعر واثاقل الردف
قلت: في البيت الأول نظر، وهو أنه لا يقال إلا أغفى يغفي، ولم يسمع في فصيح الكلام يغفو، وفي البيت الثاني نظر.
ثم إنني بعد ذلك قلت في هذه المادة:
في القلب من هاجري لوعة ... بغير تلافيه ما تندمل
فيا شعره بعض هذا الجفا ... ويا ردفه أنت ما تنحمل
والأصل في ذلك كله قول شمس الدين محمد بن التلمساني:
يا خصره كم جفا ... تبدي وأنت نحيل
يا ردفه نح عنه ... ما أنت إلا ثقيل
وقوله أيضاً:
يا ردفه جرت على خصره ... كم تعتدي ما أنت إلا ثقيل
وقوله أيضاً:
كأن الشعر يطلبني بدين ... فكم يجفو علي ويستطيل
وكنت قد قلت أنا قديماً:
يا ظالماً حل في ضميري ... وألزم القلب أن تحول
تعلم الشعر منك لما ... رأى غرامي جفا وطول
وقلت أيضاً:
وبي رشأ معاطفه رشاق ... وكم رشقت لواحظه نبالا
له شعر حكاه في التجني ... على ضعفي تجافى واستطالا
؟؟عيسى بن محمد
بن أحمد بن إبراهيم الصدفي المعروف بابن الصابوني، مجد الدين الإشبيلي.
قال شيخنا أثير الدين: لقيته بثغر دمياط وكان يتجر في البز، ثم انتقل إلى الإسكندرية. أنشدنا لنفسه في شاب اسمه بدر بن نجم:
رأيت نجوماً في السماء كثيرة ... تقاصر عن إدراكهن أولو الفهم
فلو جمعت لم تأت بدراً مكملاً ... فيا من رأى بدراً تولد من نجم
قلت: ....
عيسى بن محمد بن محمد
ابن قراجا بن سليمان بن ياروق السهروردي الواعظ، شرف الدين أبو الرضا.
أخبرني الشيخ أثير الدين من لفظه قال: كان المذكور سهروردي الخرقة، له أدب كثير وشعر كثير وتوشيح، أنشدنا بالقاهرة:
مازال يهوى المقلا ... قلبي إلى أن قتلا
الحمد لله الذي ... مات وما قيل سلا
لو قيل لي واللحد قد ... صار لجسمي منزلا
ما أنت صب بهم ... متيم قلت: بلى
وأنشدني له أيضاً:
يا سيد العلماء إن موشحي ... حرم لكعبته البدائة تسجد
قلدته من بحر جودك جوهرا ... فأتاك وهو موشح ومقلد
وقال:
أنا في السر والعلن ... عبد رق بلا ثمن
يا مليحاً بحسنه ... سائر الناس قد فتن
إن تزرني فإنها ... لك عندي من المنن
لست أسلو هواك أو ... يدرج الجسم في الكفن
وينادى بأنه ... مات في العشق والشجن
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في تاسع عشري شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
عيسى الشيخ الكبير
نجم الدين أبو المحامد(2/162)
ابن الشيخ أبي محمد شاه أرمن بن الشيخ صلاح الدين صالح بن عبد الله الأبلستاني الرومي المعروف بالسيوفي.
كان شيخاً كبيراً مقصوداً بالزيارة، وأطلق له السلطان قرية الفيجة، وكانت له حرمة عند الدولة.
توفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ست عشرة وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون في زاويته المعروفة به.
عيسى بن أبي محمد
بن عبد الرزاق الصالحي العطار، الشيخ المسند الصالح ضياء الدين أبو محمد المعروف بابن المغازي، كان أبوه شيخ مغارة الدم.
حدث بالصحيح عن ابن الزبيدي، وسمع ابن صباح حضوراً، وسمع من الإربلي وابن اللتي، وجعفر الهمذاني، وأخذ عنه الواني، والمحب، والطلبة.
وتوفي رحمه الله تعالى.... سنة أربع وسبع مئة.
عيسى بن مسعود
بن منصور بن يحيى شرف الدين الزواوي الفقيه المالكي.
انتهت إليه معرفة مذهب مالك رضي الله عنه بالديار المصرية.
تفقه بزواوه على أبي محمد عبد الصمد، ورحل إلى بجاية، وقرأ على أبي يوسف يعقوب الزواوي، وقرأ عليه في المهذب، والموطأ والبرهان في الأصول، ثم قدم القاهرة سنة سبع مئة وسمع الموطأ من الدمياطي.
وحضر إلى دمشق في أوائل شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبع مئة، وحكم نيابة عن قاضي القضاة جمال الدين عوضاً عن نائبه محيي الدين، وذكر درساً بالجامع، وأقام بدمشق سنين، ثم عاد إلى القاهرة، وسمع من قاضي القضاة جمال الدين الزواوي، واستنابه في الحكم بها مدة، وعاد إلى القاهرة وانتصب للإقراء وانتفع الناس به.
وصنف تصانيف: منها شرح مسلم في مجلدات، وكتاب ابن الحاجب في الفقه ولم يكمل، وتاريخاً في مجلدات، واختصر كتاب ابن يونس في الفقه.
وكانت له معرفة بالفرائض والحساب ومعرفة البلاد والأقاليم، ويحفظ جملة من أشعار العرب، وكان لا يقيم الوزن، ويصحف.
وكان فيه ود لأصحابه، ودارت عليه الفتيا. وولي تدريس المنكو تمرية بالقاهرة، والإعادة بالناصرية والمدرسة الصالحية، وتولى تدريس المدرسة المالكية بمصر.
وحصل له بلغم فمنعه من الحركة، وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الخميس مستهل شهر رجب سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ومولده بزواوة سنة أربع وستين وست مئة.
عيسى بن موسى
المعروف بابن الزبطر، بكسر الزاي والباء الموحدة وسكون الطاء المهملة وبعدها راء.
كان نصرانياً مستوفياً بحمص، وقع منه تعرض بكلام قبيح لا يليق ذكره في حق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام الناس عليه فسعى في الباطن، وسكنت القضية. ثم إن أهل حمص قاموا عليه وأثبتوا شهادة استرعاها اثنان لآخرين عليه، فثبت ذلك على قاضي حمص، فادعى أن معه نصيحة، فحمل إلى دمشق، فكتب قاضي حمص إلى قاضي قارا بأمره، فلما وصل إلى قارا أسلم وأراد من قاضي قارا أن يحكم بإسلام فامتنع، فحضر إلى دمشق وتظاهر بالإسلام فما قبل منه، وفوض شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي الحكم فيه إلى قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي، فحكم بسفك دمه.
وضربت رقبته في سوق الخيل بعد عصر الاثنين خامس شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة بحضور القضاة الأربعة.
عيسى بن يحيى
ابن أحمد بن محمد بن مسعود، الشيخ الإمام المحدث الصوفي ضياء الدين أبو الهدى الأنصاري السبتي.
قدم القاهرة واستوطنها في الصبا، وسكن دمشق مدة في الدولة الناصرية الصلاحية يوسف.
وحدث عن أبي القاسم الصفراوي، ويوسف بن المخيلي وابن المقير، وابن الطفيل، وابن دينار، وابن الصابوني، وجماعة، وخرج له التقي عبيد أربعين تساعيات أبدالا.
قال شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى: سمعها منه، وكان مليح القراءة للحديث حسن المعرفة، كثير الحرمة، ألبسني الخرقة وذكر أنه لبسها بمكة من الشيخ شهاب الدين الشهرزوري.
وتوفي رحمه الله تعالى في ... سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده بسبتة سنة ثلاث عشرة وست مئة.
الألقاب والأنساب
ابن أبي العيش
بدر الدين عبد الله بن الحسين.
عين بصل
إبراهيم بن علي.
حرف الغين
غازان بن أرغون بن أبغا
ابن هولاكو بن تولى بن جنكزخان، السلطان الكبير والقان الجليل إيلخان، معز الدين.(2/163)
كان من أجل ملوك هذا البيت وأعظم من ركب ظهر أدهم أو امتطى صهوة كميت. حزء أعظم من كلهم، وواحد في موازنة جلهم، رابط الجأش، ضابط السياسة والانتعاش، خبيراً بالحروب وتدبيرها، وهلاك أعاديه وتدميرها.
وكان أشقر ربعة خفيف العارضين واللحيه، غليظ الرقبة، كبير الوجه، عليه من المهابة حلية وأي حليه:
يمد يديه في المفاضة ضيغم ... وعينيه من تحت البرتكة أرقم
لما ملك أخذ نفسه في الملك مأخذ جنكزخان، ودوخ البلاد والأقطار وأخذ من أدى الأمانة ومن خان. وكان لا يعف عن الأموال ويعف عن الدماء، ويود لعلو همته أن يملك ما تحت السماء.
وكان يؤثر أن يظهر العدل عنه، ويود لو تمكن منه، ولذلك تسمى " محمود " ، يريد به نور الدين الشهيد. وينتمي إلى تقليد أفعاله في القريب والبعيد، فما تمسك من ذلك إلا بأقصر سبب، وحكى ولكن فاته الشنب. هذا في بلاد أذربيجان والعراق، وما ضرب فيه له خام أو امتد رواق، وأما الشام فإنه مني من مغوله بالداء العضال، ورمي من جباريهم بما يرمى به الغرض من النبال في النضال، وسلم الله منهم بعض السلامة، ولطف بأهله إلا من أسروه فما سروه أو جرعوه حمامه. ولكن لما عادوا في الواقعة الثانية أخذ الله بالثأر لنا " فهل ترى لهم من باقية " :
وإن كان أعجبكم عامكم ... فعودا إلى حمص في قابل
فإن الحسام الخضيب الذي ... قتلتم به في يد القاتل
والذي أعتقده أنه من حين ظهر جنكزخان ما جرى للمغول بعد واقعة عين جالوت ولا إلى يومنا مثل واقعة شقحب، كادت تأتي على نوعهم فناء، فإن الموت أهل بهم ورحب، وما نجا منهم إلا من حصنه الأجل، أو اختار الأسر لما وجد من الوجل.
ولم يزل غازان على حاله إلى أن... وصلت إليه يد سواء عندها البازي الأشهب والغراب الأبقع.
وتوفي في ثاني عشر شوال سنة ثلاث وسبع مئة، ببلاد قزوين، وحمل إلى تربة ب " شم " ظاهر توريز، والعوام يسمون هذا المكان: الشام، وهي تربة اشتملت على عمارة جليلة.
وظاهر توريز يشتمل على ثلاث مدارس: للشافعية وللحنفية وللحكماء، وعلى مارستان وجامع وخانقاه، ورصد للكواكب، وخزائن للكتب، ودار مضيف، وأوقاف ذلك تغل في السنة نحو مئة ألف دينار رائج، والرائج ستة دراهم، والدرهم نصف وربع كاملي. وكان النظر في ذلك للخواجا رشيد وأولاده.
واختلفت أخباره على البلاد الإسلامية، وخبط القصاد فيها تخبيطاً كبيراً. واشتهر أخيراً أنه سم في منديل تمسح به بعد الجماع، فتعلل مدة ومات.
وكان الشيخ علاء الدين الوادعي - المقدم ذكره - تلك المدة في البيرة، فكتب مطالعة عن نائبها إلى السلطان الملك الناصر محمد، وكتب فيها:
قد مات قازان بلا مريةٍ ... ولم يمت في الحجج الماضيه
بل شنعوا عن موته فانثنى ... حيا ولكن هذه القاضيه
فكتب الجواب إلى الأمير سيف الدين طوغان نائب البيرة شخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود - رحمه الله تعالى - : ووقفنا على البيتين اللذين نظما في وصف حال قازان، وتحقق موته بعد اختلاف الأخبار فيه، والجواب عنهما:
مات من الرعب وإن لم تكن ... بموته أسيافنا راضيه
وإن يفتها فأخوه إذا رأى ... ظباها كانت القاضيه
وللوادعي - رحمه الله تعالى - في موت قازان عدة مقاطيع منها ما نقلته من خطه:
لقد مات قازان فويل منافق ... يكابر فيه بالخديعة والمكر
ولم يبق إلا أن يجيء بنفسه ... ويحلف أني قد شبعت من القبر
ونقلت منه أيضاً له:
وكم يجعل القصاد حياً وميتاً ... قزاناً وأوحتهم شياطينهم وحيا
إلى أن قضى نحباً وصار إلى لظى ... وأصبح فيها لا يموت ولا يحيا
ونقلت منه أيضاً له مضمناً:
قد قال غازان يا للمسلمين لقد ... ثارت بقصادكم بين الورى الفتن
كم قد نعيت وكم قد مت عندكم ... ثم انتفضت فزال القطن والكفن
وكان جلوس غازان على تخت الملك في سنة ثلاث وتسعين وست مئة. وحسن له نائبه نوروز الإسلام، فأسلم في سنة أربع وتسعين، ونثر الفضة والذهب واللؤلؤ على رؤوس الناس، وفشا بذلك الإسلام في التتار. وكان صاحب العراقين وخراسان وفارس والجزيرة وأذربيجان والروم.(2/164)
قال العز الإربلي الطبيب ما معناه: إن غازان لما ملك استضاف نساء أبيه إلى نسائه على ياسا المغول في ذلك، وكان مغرىً بحب بلغان خاتون دون نسائه، وهي أكبر نساء أبيه، فلما أسلم قيل له: إن الإسلام يفرق بينك وبينها، لأنه لا يجوز في دين الإسلام أن ينكح الرجل ما نكح آباؤه من النساء، فهم بالردة إلى أن أفتاه بعض العلماء بأن أرغون أباه كان كافراً. وكانت بلغان خاتون معه سفاحاً والحرام غير محرم، فيجوز لك أن تنكحها، فسر بذلك، وعقد عقد نكاحه عليها، وثبت على الإسلام، ولولا ذلك لارتد. قال: ولاموا من أفتاه، فقال: إنما قلت ظاهر الشرع، وإن تسهلت فالتسهل في ارتكاب غازان بمحرم واحد وأسهل من أن يرتد كافراً، وينتصب لمعاداة الإسلام وأهله. فاستحسن ذلك من قوله، وعرف فيه حسن قصده.
وكان غازان يتكلم بالتركية والمغلية والفارسية، ولكنه ما يتكلم بها إلا مع الخواجا رشيد وأمثاله من خواص حضرته، ويفهم أكثر ما يقال قدامه بالعربي، ولا يظهر أنه يفهمه تعاظماً لأجل ياسا جنكزخان الخالصة. ولما ملك أخذ نفسه بطريق جنكزخان، وأقام الياسا المغولية، ورتب الأرغوجية لعمل الأرغو وأن يلزم كل أحد قدره، ولا يتعدى طوره، وأن يكون الآغا آغا والأيني أيني، وصرف همته وعزيمته إلى إقامة العساكر وسد الثغور، وقصد الأعداء في الأطراف ونفذ البراليغ والأحكام بعمارة البلاد والكف عن سفك الدماء وتوفير أهل كل صنعة على عملها ليكثروا وتعمر البلاد كما كانت في أيام الخلفاء - رضوان الله عليهم - والملوك الخوارزمية وغيرهم. إلا أنه كان مع شجاعته وحزمه ورأيه مبخلاً بالنسبة إلى ملوك بيته.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله علي إن شيخنا شمس الدين الأصفهاني حدثني عنه أنه أجاز خواجا رشيد على كتاب صنفه باسمه ألف ألف دينار، أخذ بها عقاراً خراباً كان يساوي أضعاف ذلك، ثم عمره بجاهه، فتضاعفت قيمته.
قلت: مثل هذا لا يعد كرماً، لأن هؤلاء الملوك عطاؤهم لخواصهم ومن يقربوه ويحبونه ليس بقياس ولا على قاعدة مطردة، فإن السلطان الملك الناصر محمد كان يعطي خواصه مثل بكتمر الساقي وقوصون وبشتاك والحجازي ويلبغا أضعاف هذا العطاء، وهذا الخواجا رشيد لم يكن عند قازان أحد في محله ولا في رتبته لأنه كان لا يثق إلا به، وهو جليسه وأنيسه ونديمه وطبيبه وطباخه، فلا يأكل إلا من يده أو من أيدي أولاده، وكانوا يطبخون الطعام له في قدور الفضة، ويغرفونها في الطياسي الذهب والجفانات الذهب، ويحملونها بأنفسهم إليه، ويقطع له الخواجا رشيد ويلقمه بيده. وكان بيد خواجا رشيد على هذه الوظيفة مغل بلدين، إلى غير ذلك من الأرزاق الواسعة، وكان يطلعه من أسراره على ما لا يطلع غيره عليه.
ولما استقر غازان وثبتت قدمه قطع الراتب عن كاز خاناه السراي وجامعهم بتوزير وما كان لهم من قديم الزمان، فجاءته رسل ملك السراي وقالوا له: خرجت عن الياسا، فردهم أقبح رد، وقال: الياسا ما أقرره أنا، ويكفيكم سكوتي عنهم.
قال نظام الدين يحيى بن الحكيم: إن هلاكو لما فتح البلاد لمنكوقان نزل نفسه منزلة النائب له، لا يخرج له عن أمر، فبعث يقول له: إن بركة آغا يعني ملك السراي ليس في بلاده صناع ولا لها كبير دخل، ويحتاج هو وعسكره إلى قماش فتكون له مراغة وتوريز، فسلمها إلى نواب بركة، فعمروا بها كازخاناة لاستعمال القماش، والكازخاناة عندهم بمنزلة دار الطراز عندنا، وبنو لهم جامعاً وظف له وظائف، وكتب عليهما اسمه. ثم كانوا فيما بعد يجرون للكازخاناة والجماع بعض خراج مراغة وتوريز، فقطع غازان ذلك رأساً، والجامع والكازخاناة إلى الآن باقيان، وعليهما اسم بركة.
ثم أن قازان بعد ذلك تسمى بالقان وأفرد نفسه بالذكر في الخطبة وضرب السكة باسمه دون القان الأكبر، وطرد نائبه من بلاده، ولم يسبق قازان إلى هذا أحد من آبائه. بل كان هولاكو وجميع من جاء بعده لا ينزلون أنفسهم إلا منزلة نواب القان الأكبر، ولا يسمى أحد منهم بالقان، وإنما يقال السلطان فلان، والسكة والخطبة للقان الأكبر دونهم، وإن ذكر لأحد منهم اسم، ذكر على سبيل التبع، وإن كانوا ملاك البلاد وحكامها، ولهم جباية الخراج، وإليهم العقد والحل والولاية والعزل.(2/165)
وقال قازان لما طرد نائب القان: أنا أخذت البلاد بسيفي، ما أخذتها بجنكزخان ولا بأحد. ولا يجسر أحد على مراجعته. ولهذا لا يقال ذهب هولاكي ولا أبغاوي ولا أرغوني، وما يقال إلا ذهب قازاني وذهب خربندي وذهب بوسعيدي.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: قال لي الأمير سيف الدين ظهير بغا - رحمه الله تعالى - : المغل تقول: " من رأى غازان ما فاتته رؤية جنكزخان " . ثم قال: مات ملك المغل من بعده. قال: فحكيت ما قاله للأمير سيف الدين أيتمش الناصري، وكان أعرف أهل زمانه بأحوال المغل، فقال: لا أخطأ إلا من رأى غازان ما فاتته رؤية هولاكو، ومن رأى أبغا ما فاتته رؤية جنكزخان، وما مات ملك المغل بعد غازان، وإنما ماتت ياسا المغل.
قال: وقال لي ظهير بغا: كان غازان إذا اشتد غضبه، وهو جائع أكل، أو هو بعيد العهد بالنساء جامع، وتشاغل عن غضبه بهذا وأمثاله. وكان يقول: آفة العقل الغضب، ولا يصلح للملك أن يكون في عقله آفة.
وقال: كان غازان إذا غضب خرج إلى وسيع الفضاء، ويقول: الغضب إذا خزنته ازداد، وإذا صرفته تصرف.
وقال: كان يقول: الملك بلا رجال، شجرة بلا أغصان، والملك بلا مال، شجرة بلا ثمر، والملك بلا سلاح، شجرة بلا ورق، والملك بلا إحسان، شجرة بلا فيء.
وقال: رمي بعض أولاد القانات بابنه، فقال الناس: ابن قان يكون بهذا، كيف يتفق هذا؟ فقال لهم غازان: ما العنب منه خمر وخل! وقال: ركب قازان يوماً فرساً، فلعب به، فقال له: معذور أنت، محمود غازان فوقك. فوقع عنه، فقال: لولا وقوع المطر على الأرض ما طلع النبات. انتهى.
وضرب غازان في مدة ملكه سبع مصافات، منها ما حضره بنفسه، ومنها ما لم يحضره، فأولها المصاف الذي بينه وبين نوروز بن أرغون آغا، وكان هذا نوروز قد سعى لغازان حتى ملك، ثم وقع في خاطره أنه آن خروج المهدي، وأنه هو يكون الممهد له، فاستحال على غازان، وخرج غازان لقتاله، واستعان نوروز بالأكراد اللو، فانتصر غازان، وهرب نوروز إلى أقاصي خراسان، ثم لجأ إلى قلعة، فأمسكه صاحبها وقطع رأسه، وجهزه إلى غازان، فأنكر عليه غازان، وقال: كان قتل هذا إلى ما هو إليك، ثم إنه قتله به.
والمصاف الثاني مع اللو الأكراد، لكونهم قاموا مع نوروز، فكسرهم كسرة عظيمة أبيعت فيها البقرة الفتية السمينة بخمسة دراهم، والرأس الغنم بدرهم، وأبيع الصبي البالغ الحسن الصورة باثني عشر درهماً.
قال الإربلي: وقتل في هذه الواقعة أولاً وآخراً خمسون ألفاً.
والمصاف الثالث كان مع عرب البطائح وواسط، وكانوا قد ملكوا عليهم شيخاً منهم يدعى عمران، وكان قد حاربه عز الدولة بن بويه عدة نوب، ولم ينتصف منه.
والمصاف الرابع والخامس والسادس بالشام، نوبة حمص ونوبة الأطراف ونوبة شقحب، فانتصر في الأولى، وملك الشام مدة أربعة أشهر، وفي الثانية طلع رأساً برأس، وفي الثالثة كانت الكسرة على جيشه.
والمصاف السابع كان من أهل كرمان بعد حصارها ونهب أموالها، وعف عن الدماء في الذراري والنساء.
ولم يصدع حصاة قلبه ولا فل عرش قواه مثل نوبة شقحب، فإنها أماتته بغبنه غبناً، وكانت بغير رأيه، لأنه جهز قطلوشا بالعساكر ليغير بهم على حلب والأطراف، وأمره ألا يعدي حمص، فلما جاء إلى البلاد وجد عساكرها قد تقهقرت قدامه، والبلاد خالية، وليس للجيوش ولا للسلطان في الشام خبر، فظن أن كسرتهم نوبة حمص ما بقي لها خبر، فجاء إلى دمشق، ومر على ظاهرها وجره الطمع إلى مصر، لعله يملك لغازان مملكة الإسلام. فأنجز الله وعده، ونصر حزبه. ولما رجع قطلوشا شتمه وضربه وأوقفه يوماً في الشمس وحملها غازان على نفسه، فلم تتطاول به الأيام حتى مات.
وقيل: إن بلغان خاتون سمته في منديل عقيب نكاحها.
قال القاضي شهاب الدين: ولم يصح هذا، وإنما هذا شيء ادعته يلقطو بنت أبغا، ومشت به إلى ملوك الإسلام، وكانت تكاتبهم، وادعت أنها حسنت ذلك لبلغان خاتون، لأن بلغان خاتون كان لها أرب فيه من هوى، وكانت تخافه، فقالت لها: أمرك ما بقي يخفى، فعاجليه وإلا فروحك رائحة.
قال الإربلي: وكان غازان له نظر في عواقب الأمور وخبرةً تامةً بتدبير الملك، وكان يلتحق في أفعاله بجده الأكبر هولاكو، ولم يكن فيه ما يشينه، غير أنه كان مبخلاً، لكن كانت هيبته قوية، وكان الرعايا في أيامه آمنين.(2/166)
قلت: وخطب له على منبر دمشق في يوم الجمعة رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة بحضور المغل، ودعي له على السدة، وقرئ مرسوم بتولية قبجق نيابة دمشق.
وكان قد كتب غازان لأهل دمشق فرماناً بإشارة الأمير يوسف الدين قبجق ونسخته: بقوة الله تعالى، ليعلم أمراء التومانات والألوف والمئات وعموم عساكرنا من المغول والتتار والأرمن والكرج وغيرهم ممن هو داخل تحت طاعتنا أن الله سبحانه وتعالى لما نور قلوبنا بنور الإسلام، وهدانا إلى ملة النبي عليه السلام " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين " ولما سمعنا أن حكام مصر والشام خارجون عن طرائق الدين غير متمثلين بأحكام الإسلام ناقضون لعهودهم، مخالفون لمعبودهم، حالفون بالأيمان الفاجرة، ظالمون في أحكامهم المتغايرة، ليس لديهم وفاء ولا ذمام، ولا لأمورهم التئام ولا انتظام، وكان أحدهم " إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد " ، وشاع الخبر أن شعارهم الحيف على الرعية، ومد الأيدي إلى حريمهم وأموالهم بالأذية، والتخطي عن جادة العدل والإنصاف. وارتكابهم الجور والاعتساف، حملتنا الحمية الدينية والحفيظة الإسلامية على أن توجهنا إلى هذه البلاد، لإزالة العدوان والفساد، مستصحبين الجم الغفير من العساكر، ونذرنا على أنفسنا إن وفقنا الله تعالى بحوله وقوته لفتح البلاد، أن نزيل عن أهلها العدوان والفساد، ونبسط العدل في العباد، ممتثلين الأمر الإلهي المطالع " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " ، وإجابة إلى ما ندب إليه الرسول عليه السلام: المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في أحكامهم وأهليهم.
وحيث كانت طويتنا مشتملة على هذه الطويلة الجميلة والنذور الأكيدة، من الله سبحانه وتعالى علينا بتبلج تباشير النصر المبين، وأتم علينا نعمته، وأنزل علينا سكينته، فهزمنا العدة الطاغية، والجيوش الباغية، ففرقناهم أيدي سبا " ومزقناهم كل ممزق " ، حتى " جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا " . فازدادت صدورنا انشراحاً للإسلام، وقويت نفوسنا بحقيقة الأحكام، منخرطين في زمرة من حبب إليه الإيمان، فوجب علينا رعاية تلك العهود الموثقة والنذور المؤكدة، فصدرت مراسمنا العالية أن لا يتعرض أحد من العساكر المذكورة على اختلاف طبقاتهم بدمشق وأعمالها وسائر البلاد الشامية، وأن يكفوا أظفار التعدي عن أنفسهم وأموالهم وحريمهم وأطفالهم، وأن لا يحوموا حول حماهم بوجه من الوجوه حتى يشتغلوا بصدور منشرحة وآمال منفسحة لعمارة البلاد وما هم بصدده من تجارة وزراعة.
وكان في هذا الهرج العظيم وكثرة العساكر تعرض بعض نفر يسير إلى بعض الرعايا وأسرهم، فقتلنا منهم ليعتبر الباقون ويقطعوا أطماعهم عن النهب والأسر وليعلموا أنا لا نسامح بعد هذا الأمر البليغ البتة، وأن لا يتعرضوا لأحد من أهل الأديان من اليهود والنصارى والصابئة، فإنما يبذلون الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا، لأنهم من جملة الرعايا، قال عليه السلام: الإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم، فسبيل القضاة والخطباء والمشايخ والعلماء والشرفاء والأكابر وعامة الرعايا الاستبشار بهذا النصر الهني والفتح السني، وأخذ الحظ الوافر من الفرح والسرور، مقبلين على الدعاء لهذه الدولة القاهرة والمملكة الظاهرة.
وكتب بتاريخ خامس ربيع الآخر، وقرئ هذا الفرمان في الجامع، ونثر الناس عليه بعض دنانير وبعض دراهم.
ولما نزل قازان على دمشق دخلها الأمير سيف الدين قبجق، وجلس بالعزيزية، وكتب للناس أمانات من جهته، وخطب يوم الجمعة رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة بجامع دمشق لغازان، وقرئ مرسوم بولاية قبجق لدمشق. وفي رابع عشري جمادى الأولى خرج جماعة من القلعة وكسروا المجانيق التي للتتار بالجامع الأموي.
ودقت البشائر، ورحل غازان عن دمشق بعدما أخذ أموالاً كثيرة وترك قبجق نائباً عليها، وعنده قطليشاه، ومعه جماعة من المغول.(2/167)
قال الشيخ وجيه الدين بن المنجا - رحمه الله تعالى - : الذي حمل من دمشق إلى خزانة غازان ثلاثة آلاف ألف أو ست مئة ألف درهم سوى ما تمحق من البراطيل والتراسيم وإن شيخ المشايخ الذي نزل بالعادلية حصل له ما قيمته ست مئة ألف والذي حصل للأصيل بن نصير الدين الطوسي مئة ألف درهم والصفي السنجاري ثمانون ألفاً.
قلت: هذا خارج عما نهبه المغل والأرمن للناس من الصالحية ومن المدينة وضواحيها، ولعله يقارب هذا المقدار.
وفي سادس عشري جمادى الأولى، نودي في دمشق بخروج الناس إلى البلاد والقرى والحواضر، وألا يغرر أحد بنفسه. وفي سابع عشري رجب أعيدت الخطبة للملك الناصر محمد قلاوون على منابر الجوامع بدمشق.
غازي بن داود بن عيسى بن محمد بن أيوب
الأمير الملك المظفر بن الناصر صاحب الكرك بن المعظم بن العادل.
كان رجلاً جيداً كبير القدر محترماً مبجلاً، عنده فضيلة وفيه تواضع.
قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن خطيب مردا، والصدر البكري. كان قد حج وزار القدس، وقدم دمشق وأقام بها مدة ثلاثة أيام.
ثم إنه عاد إلى القاهرة فتوفي بها - رحمه الله تعالى - في ثاني عشر شهر رجب سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وست مئة بقلعة الكرك.
ودفن بالقرفة، وصلي عليه بدمشق غائباً.
غازي بن خطلبا
شهاب الدين الصرخدي ثم الدمشقي.
أخبرني من لفظه شيخنا أثير الدين قال: كان المذكور جندياً ثم تصوف ثم استغل بالقاهرة وتعدل وقعد في الدكان يسترزق مع الشهود.
وأنشدني لنفسه بباب المدرسة الفاضلية:
فلولا حظوظ النفس ما كنت في الهوى ... أسيراً وفي بحر الهوى أنت غارق
دع الكل والإخلاص إن كنت خالصاً ... وإياك والأوهام فهي العلائق
إذا ما نظرت الخلق بالحق لن ترى ... سوى الحق إن الكل بالحق ناطق
وأين السوى والغير إن كنت عارفاً ... سوى صور والسر في الكل فارق
غازي بن عبد الرحمن بن أبي محمد
شهاب الدين الدمشقي الكاتب المشهور المجود.
كاتب كبت البروق وراءه وما لحقت غباره، ولا نشقت الرياض ريحانه ولا ملكت الملوك طوماره. لحق الولي التبريزي، فكان الولي وسيماً وهو وليه، وخطه تحت طبقته والولي عليه.
وكتب عليه جماعة من الكتاب وأبناء الرؤساء وأرباب الآداب، وكان يدعي أنه كتب على الولي، والصحيح أنه كتب على ابن النجار، وأتى بما يخجل الجواهر والأحجار.
ولم يزل إلى أن حقق الموت نسخه، وأوجب عقد الحياة فسخه.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الثلاثاء رابع عشر شوال سنة تسع وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاثين وست مئة.
وكان قد أجاد قلم الرقاع، وكان يكتب الناس على طريق الولي التبريزي ويستحسنها ويقول: ما كتب أحد مثله، وكان يجلس في المدرسة العزيزية ويكتب الناس فيها مدة خمسين سنة وقبلها مدةً زمانية تحت مئذنة فيروز، وكتب عليه عامة من أجاد الخط في زمانه كشمس الدين محمد بن أسد النجار ونجم الدين بن البصيص، وابن الأخلاطي، وغيرهم، وإن كان ابن النجار قد كتب على ابن الشيرازي فإن أكثر انتفاعه إنما كان بالشهاب غازي، وكان إماماً في التوفيق ومعرفته بالخط أكثر من كتابته باليد، ولكنه كان في لسانه سفه وبذاءة مع كل بنت شفه وغير ذلك.
وكان قد سمع شيئاً من الحديث من ابن عبد الدائم، وروى، وسمع عليه الطلبة.
غازي بن عمر بن أبي بكر
ابن محمد بن أبي بكر بن أيوب، الأمير شهاب الدين أخو المعظم عيسى بن المغيث بن العادل بن الكامل بن العادل الكبير.
أجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة.
غازي بن أحمد
الصدر الكبير، القاضي شهاب الدين المعروف بابن الواسطي الكاتب.
كان صدراً كبيراً، ورئيساً تنقل في المباشرات حتى صار وزيراً، وعلا بكتابته وتدبيره محلاً أثيراً، إلا أنه ما كان يخلو من جور، وميل إلى تنقل من طور إلى طور، وكانت لديه فضيله، وأدب عنده منه نكت جليله.
وكتب الإنشاء بالقاهرة، وأبرز طروسه كالرياض الزاهره، وكان خطه كالوشي إذا حبك، والذهب الخالص إذا سبك.
ولم يزل إلى أن أضر، وقوبل بما أضمر وأسر، حق التحق بربه، وجره القبر إليه وضمه بتربه.(2/168)
ومولده بحلب، وكان من أبناء الثمانين رحمه الله تعالى وتوفي رحمه الله في ثامن عشرين شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
خدم بديوان الاستيفاء نائباً في حلب، ثم خدم كاتب الجيش بها، ثم إنه توجه إلى مصر وخدم هناك في جهات، وحضر إلى حلب مستوفياً في دولة الظاهر بيبرس وصرف، وعاد إلى مصر ورتب بديوان الإنشاء. وكان يكتب خطأ حسناً، رأيت بخطه نسخة " المثل السائر " في مجلدة واحدة في غاية الحسن.
ثم إنه ولي نظر الصحبة في الأيام المنصورية. ورافق الأمير بدر الدين بكتوت الأقرعي سنة اثنتين وثمانين وست مئة والأقرعي مشد الصحبة وصادرا الناس وعاقباهم، ووصل أذاهما إلى القضاة.
ثم إنه ولي نظر حلب في الدولة الناصرية إلى سنة اثنتين وسبع مئة، وصرف، ثم إنه ولي نظر الدواوين بدمشق، ثم إنه صرف وأعيد إلى حلب وقد ضعف نظره جداً، وتوفي بها رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور.
وكان قد وصل من مصر إلى دمشق متولي النظر بها عوضاً عن شرف الدين بن مزهر في شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبع مئة.
غازي بن قرا أرسلان بن ارتق
ابن غازي بن ألبي بن تمرتاش بن غازي بن أرتق، الملك المنصور نجم الدين بن الملك المظفر فخر الدين بن الملك السعيد نجم الدين بن الملك المنصور ناصر الدين صاحب ماردين.
أقام في سلطنة ماردين نحو عشرين سنة، وليها بعد أخيه السعيد داود، وولي بعده الأمير علي ولقب بالملك العادل، فبقي سبعة عشر يوماً، ومات رحمه الله تعالى وولي بعده أخوه الملك الصالح شمس الدين بن الملك المنصور، وكان المنصور رجلاً سميناً بديناً إذا ركب يكون خلفه محفه دائماً خوفاً من تعب يحصل له، فتكون المحفة مهيأة، ولما مرض أخرج أهل السجون وتصدق.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع شهر ربيع الآخر في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ودفن رحمه الله تعالى بمدرستهم تحت القلعة عند أبيه وأجداده، رحمهم الله تعالى أجمعين، وكان شيخاً في عشر السبعين.
اللقب والنسب
أولاد ابن غانم: جماعة، منهم القاضي شمس الدين محمد بن سلمان بن حمايل، وهو والد الرؤساء الإخوة: الشيخ علاء الدين علي، وأولاده بدر الدين محمد وجمال الدين عبد الله، ونجم الدين أحمد، والشيخ شهاب الدين أحمد وولده تاج الدين عبد الله وأمين الدين إبراهيم. والشيخ حسام الدين سلمان بن حسن. والشيخ بهاء الدين أبو بكر، وولده شهاب الدين أحمد. والشيخ أبو الحسن عبد الله. وجمال الدين عمر بن محمد بن سلمان. وفخر الدين عثمان.
والغانمي: إبراهيم بن يونس.
والغافقي: النحوي إبراهيم بن أحمد بن عيسى.
الغالب بأمر الله: صاحب الأندلس إسماعيل بن الفرج.
ابن غاليه: المسند يوسف بن أحمد.
الغتمي: نائب الرحبة، حسام الدين لاجين.
الغزي: بدر الدين حسن بن علي، أخوه الحسين بن علي، الشيخ محمد المنجم.
الغرافي: إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن، وتاج الدين علي بن أحمد بن عبد المحسن.
ابن غنوم: صدر الدين يوسف بن أحمد.
الغوري: محمد بن الحسين.
غنايم بن إسماعيل بن خليل
الشيخ الصالح أبو محمد التدمري الخواص بقرية راوية بقبر الست من غوطة دمشق.
كان رجلاً مباركاً معروفاً بالصلاح والديانة من البيانية.
سمع من الشيخ تقي الدين بن الواسطي، وكان عنده فهم، وله شعر، ويحفظ جملة من اللغة. وكان حسن الأخلاق، أخبر باليوم الذي، يموت فيه وصدق.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشري شهر شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة، تجاوز الثمانين.
حرف الفاء
فارس بن أبي فراس بن عبد الله
الجعبري الحوائصي، الشيخ الصالح المعمر أبو محمد.
أجاز لي في سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
النسب واللقب
الفارسي: علاء الدين علي بن بلبان.
الفاروثي: نصير الدين عبد الله بن عمر.
الفاتولة: عبد الله.
الفار الشطرنجي: أحمد بن محمد.
الفارقي: جماعة منهم: سعد الدين سعد الله بن مروان.
الفارقي النحوي الكفري: سليمان بن أبي حرب.
رين الدين الخطيب: عبد الله بن مروان.
الفاشوشة الكتبي: إبراهيم بن أبي بكر.
الفارغ الحموي: أمين الدين عبد الحق بن أبي علي.
فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر(2/169)
الشيخة المعمرة المسندة العابدة، أم محمد البطائحية البعلية، والدة الشيخ إبراهيم بن القريشة، وقد تقدم ذكره في الأباره.
سمعت صحيح البخاري من ابن الزبيدي، وسمعت من العلامة الحصري صحيح مسلم.
وحدثت في أيام ابن عبد الدائم، وطال عمرها، وروت الصحيح مرات.
سمع منها شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وسراج الدين بن الكويك، وتقي الدين بن أبي الحسن، وابن شيخنا الذهبي، وعدد كثير.
وتوفيت - رحمها الله تعالى - سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولدها سنة خمس وعشرين وست مئة.
1335 - ... فاطمة بنت إبراهيم بن عبد الله بن أبي عمر
المقدسية الصالحية المعمرة، خاتمة أصحاب إبراهيم بن خليل، وآخر من حدث بالإجازة في الدنيا عن محمد بن عبد الهادي، وابن السروري، وابن عوة، وخطيب مردا، وغيرهم.
توفيت رحمها الله تعالى في ذي القعدة سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
فاطمة أم عبد الله
ابنة الشيخ الإمام المقرئ المحدث جمال الدين سليمان بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن سعد الله بن عبد الله بن أبي القاسم الأنصاري الدمشقي.
كانت امرأة صالحة، وقفت وبرت أهلها وأقاربها في حياتها.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روت لنا عن أكثر من مئة شيخ، منهم - بالسماع - المسلم المازني، وكريمة، وابن رواحة. وبالإجازة المجد القزويني، والحسين بن صصرى، والفتح بن عبد السلام، والداهري، وابن عفيجة، والحسن بن الجواليقي، وأحمد بن النرسي، وعبد السلام بن سكينة، والمهذب بن قنيدة، والأخوان ابنا الزبيدي وعبد اللطيف بن الطبري، ومحاسن الخزايني، وشرف النساء بنت الأنبوسي، وجماعة من البغداديين وغيرهم.
وقرأ عليها شيخنا الذهبي قبل موتها بيوم، وحضر معه جماعة، وأسمعت كثيراً.
وكان لها إجازات من العراق وأصبهان ودمشق.
وتوفيت رحمها الله تعالى ثاني عشري شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبع مئة.
ومولدها تقريباً سنة عشرين وست مئة.
فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح
الشيخة المفتية الفقيهة العالمة الزاهدة العابدة، أم زينب البغدادية الحنبلية الواعظة.
كانت تصعد المنبر وتعظ النساء، فينيب لوعظها، ويقلع من أساء، وانتفع بوعظها جماعة من النسوه، ورقت قلوبهن للطاعة بعد القسوة، كم أذرت عبرات، وأجرت عيوناً من الحسرات كأنها أيكية على فننها، وحمامة تصدح في أعلى غصنها.
وكانت تدري الفقه وغوامضه الدقيقه، ومسائله العويصه، التي تدور مباحثها بين المجاز والحقيقه. وكان ابن تيمية رحمه الله تعالى يتعجب من عملها، ويثني على ذكائها وخشوعها وبكائها.
وبحثت مع الشيخ صدر الدين بن الوكيل في الحيض وراجت، وزخرت بحور علومها وماجت، فلو عاينتها لقربت من الشيخ تقي الدين في تفضيلها. ولن أقصيه، وقلت له: هذه التي يصح أن يقال عنها: إنها بأربع أخصية، لأنها مونثة قد تفردت بالتذكير، وعارفة لم يدخل على معرفتها تنكير.
ولم تزل على طريق سداد واعتداد من الازدياد إلى أن فطم من الحياة رضاعها، وآن من الدنيا ارتجاعها.
وتوفيت رحمها الله تعالى بالقاهرة في يوم عرفة سنة أربع عشرة وسبع مئة.
انصلح بها جماعة نساء في دمشق وبصدقها في وعظها وتذكيرها وقناعتها، تحولت بعد السبع مئة إلى مصر، وانتفع بها في مصر من النساء جماعة، وبعد صيتها وكانت قد تفقهت عند المقادسة بالشيخ شمس الدين وغيره.
حكى لي غير واحد أن الشيخ تقي الدين بن تيمية قال: بقي في نفسي منها شيء، لأنها تصعد المنبر، وأردت أن أنهاها، فنمت ليلة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألته عنها. فقال: امرأة صالحة، أو كما قال.
وحكى لي أيضاً أنها بحثت مع الشيخ صدر الدين بن الوكيل في الحيض، وراجت عليه. ثم قالت: أنت تدري هذا علماً، وأنا أدريه علماً وعملاً.
فاطمة بنت محمد بن جميل بن حمد
ابن حميد بن أحمد بن عطاف، الشيخة الصالحة المعمرة، أم محمد البغدادية المولد، الدمشقية.
سمعت من والدها، وأجاز لها السلفي أجازت لي بدمشق سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وكتب عنها بإذنها عبد الله بن المحب.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة.
فاطمة بنت القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد
أم الحسن ابنة شيخنا الإمام علم الدين البرزالي.(2/170)
نقلت من خط شيخنا ولدها، رحمها الله تعالى، قال: أحضرتها سماع الحديث، ولها ثلاثة أيام، حضرت على ابن الموازيني، وفاطمة بنت سليمان، وابن مشرف، والمخرمي، وفاطمة بنت البطائحي، والفخر إسماعيل بن عساكر، وجماعة.
وسمعت من القاضي بهاء الحنبلي، وإبراهيم بن النصير، وعيسى المطعم، وأبي بكر بن عبد الدايم والبهاء بن عساكر، وابن سعد، وجماعة من الشيوخ. وسمعت صحيح البخاري على ست الوزراء بنت ابن المنجا، وحفظت من الكتاب العزيز، وتعلمت الخط، وكتبت ربعة ظريفة، وكتاب " الأحكام " لابن تيمية، و " صحيح البخاري " ، وكملته قبل موتها بأيام قليلة.
قلت: ونسختها هذه بدمشق من النسخ التي يعتمد عليها، وينقل منها.
قال: وكتبت غير ذلك، وحجت، وسمعت بطريق الحجاز، وحدثت بالحرمين الشريفين.
وكانت امرأة مباركة محافظة على الفرائض والنوافل، لها اجتهاد وحرص على فعل الخير، تجتهد يوم دخول الحمام أن لا تؤخر الفريضة عن وقتها، لا تدخل حتى تصلي الظهر، وتجتهد في الخروج، لإدراك العصر، وكذلك تسارع في قضاء أيام الحيض من شهر رمضان تصومها وتعجلها وتحتاط فيها، وكانت فيها مودة، وخير وعقل ومعرفة وخير لم يفارقها قط. وتزوجت نحو خمس سنين، ولم تخرج من البيت، وما رأيت منها إلا ما يسرني، وكنت إذا رأيتها تصلي أفرح وأقول: أرجو الله أن ينفعني بها، فإنها كانت تصلي صلاة مكملة، وتجتهد في الدعاء، ولم تسألني قط شيئاً من الدنيا، ولا شراء حاجة. وانتفعت بها في الدنيا وأرجو أن ينفعني الله بها في الآخرة.واعتبرت الشيوخ الذين سمعت منهم فوجدتهم مئة وخمس وثمانين نفساً.
وتوفيت رحمها الله تعالى في يوم الاثنين حادي عشري صفر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفنت عند تربتهم خارج الباب الشرقي.
ومولدها يوم الجمعة سادس عشر شهر ربيع الأول سنة سبع وسبع مئة.
فاطمة بنت الخشاب
نقلت من خط القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال: بلغني عنها وقد سكنت قريباً مني أنها تجيد النظم، فكتبت إليها لأمتحنها في شهر رجب سنة تسع عشرة وسبع مئة:
هل ينفع المشتاق قرب الدار ... والوصل ممتنع على الزوار
يا نازلين بمهجتي وديارهم ... من ناظري بمطمح الأبصار
هيجتم شجني فعدت إلى الصبا ... من بعد ما وخط المشيب عذاري
أني اهتديت، وليلتي مسودة ... وضللت حين أضاء ضوء نهاري
عهدي بأني لا أخاف من الردى ... فحذار من لحظ العيون حذار
لا أرهب الليث الهزبر مجاوراً ... داري، وأرهب من جوار جوار
الصائبات بلحظهن مقاتلي ... هل للسهام لدي من أوتار
يا جيرتي الأدنين حقي واجب ... إن كنتم ترعون حق الجار
ليلي بكم أدب الزمان مقسم ... ما بين تسهيد إلى أفكار
يا جيرةً جار الزمان ببعدهم ... وهم بأقرب منزل وجوار
إني سمعت صفاتكم فسكرت من ... طربي بغير مدامة وحمار
وهويت بالأخبار حسنكم كما ... تهوى الجنان بطيب الأخبار
يا معرضين وما جنيت إليهم ... ذنباً سوى وجدي وقرب ديار
ميلوا إلي فللغصون تمايل ... حتى تقبل أوجه الأنهار
وتلفتوا نحوي التفات أوانس ... إن الأوانس غير ذات نفار
واجلوا محاسنكم لأحظى بالذي ... قد كنت أسمعه من الأخبار
لا تحسبوا أن السفور نقيصةً ... أو ما ترون مطالع الأقمار
أو تحسبوا أني أضيع سركم ... وأنا المعد لمودع الأسرار
أيجوز أن أظمأ وورد نداكم ... صفو من الأقذاء والأكدار
وأموت من دائي وفي أيديكم ... طبي من الأسقام والأخطار
ولقد عرفتم في الأنام بمنطق ... عذب المذاقة طيب المشتار
فحويتم حسن الصفات مؤيداً ... بمحاسن الأقوال والآثار
بمحاسن تهب العقول بلاغة ... وبلاغة تذر المفوه عاري
أخرستم الفصحاء إذ أنطقتم ... من لا يجيز القول بالأشعار(2/171)
فبعثت من نظمي قلادة أدمع ... نثرت لآليها بلا استعبار
نفثات مصدور الفؤاد متيم ... عجزت موارده عن الإصدار
قال: فكتبت الجواب إلي:
إن كان غركم جمال إزاري ... فالقبح في تلك المحاسن واري
لا تحسبوا أني أماثل شعركم ... أنى تقاس جداول ببحار
لو عاصر الكندي عصركم رمى ... لكم عوالي راية الأشعار
أقصى اجتهادي فهم ظاهر نظمكم ... لا أنني أدعى دعاء مجار
من قصرت عنه الفحول فحقه ... أن ليس يبلغه لحاق جواري
ولربما استحسنت غير حقيقة ... فإذا سفرت أشحت بالأبصار
لست الطموح إلى الصبا من بعدما ... وضح المشيب بلمتي كنهاري
قلت: هذا الشعر كثير من امرأة في مثل هذا الزمان، ولعلها أشعر من ذكران كثيرين في عصرنا، وممن تقدمنا أيضاً، وما أحسن ما استعملت لفظ جواري هنا في القافية.
اللقب والنسب
ابن الفاكهاني: عمر بن علي.
ابن الفراء: مقدم البريدية، الأمير علاء الدين علي بن عبد الرحمن. ابنه ناصر الدين محمد بن علي.
ابن الفرات: عز الدين عبد الرحيم بن علي.
فخرية بنت عثمان
أم يوسف البصروية، الحاجة الصوامة القوامة العابدة الزاهدة، زاهدة عصرها، وفريدة دهرها.
رفضت الدنيا، ولم ترض إلا بالمنزلة العليا، خرجت عن أهلها ومالها، وتقوتت في القوت ببعض حلالها، وانزوت بحرم القدس الشريف، وتبرأت عن التالد والطريف، وقنعت من العيش الرغيد بكوز ماء ورغيف.
واشتهر أمرها، وعرف الناس خبرها، وأعرضت عن الدنيا الفانيه، وأصبحت وهي لرابعة ثانيه. وجرب الناس لها أحوالاً، وصدقوا منها مقاماً ومقالاً. وكان لها كرامات، وعن وجوه الدنيا انصرافات وانصرامات. وكانت تتمنى أن تموت بمكة، وتدفن إلى جانب قبر خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها. فسمع الله لها هذه الأمنية واستجاب منها.
وتوفيت رحمها الله تعالى في مستهل صفر سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة عن ست وثمانين سنة.
حكى لي أخوها الأمير صفي الدين أبو القاسم البصروي، قال: حمل إليها أخي نجم الدين ستة عشر ألف درهم مما يخصها، فتصدقت بالجميع في جلسة واحدة، ولم تترك منها درهماً واحداً.
كانت تستقي ماء الوضوء بنفسها ولا تستعين بأحد. ولما حجت في سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، قالت عند منصرف الحاج للذي قد توجه يخدمها من جهة أخيها: انصرف ودعني في حالي، فأنا إذا دخل الحجاج إلى دمشق التحقت بربي، وكان الأمر كما ذكرت، وتوفيت رحمها الله تعالى مستهل صفر، ودفنت إلى جانب قبر خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
وأقامت بالقدس منقطعة أربعين سنة تقف على باب الحرم تصلي إلى أن يفتح الباب فتكون أول داخل إليه، وآخر خارج منه، وتقتات بشيء يسير مما يحضر إليها من ملكها، وهو قريب من مئتي درهم، وتؤثر الفقراء والمساكين بالباقي. وطار ذكرها في الآفاق، ودخل إليها الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى مرات، ومعه الذهب، ويخرج به وما تقبل منه شيئاً.
وسيأتي ذكر أخيها صفي الدين أبو القاسم، وذكر أخيها نجم الدين محمد بن عثمان في مكانيهما، إن شاء الله تعالى.
فرج بن قراسنقر
الأمير جمال الدين بن الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري، وأخوه الأمير علاء الدين، وقد تقدم ذكره، كان جميل الصورة حسن الشكالة.
توفي رحمه الله تعالى بدمشق في ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقبيبات. وهو والد الأمير جمال الدين فرج أيضاً.
الفرجوطي: محمد بن محمد.
فرج بن محمد بن أحمد
الشيخ الإمام العالم نور الدين الأردبيلي، بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الدال المهملة وكسر الباء الموحدة وياء آخر الحروف ساكنة ولام، الشافعي، مدرس المدرسة الناصرية الجوانية بدمشق، داخل باب الفراديس، والمدرسة الجاروخية.
كان عالماً ديناً، فاضلاً صيناً، منجمعاً عن الناس، مباعداً من لا يشاكله من الأجناس.
وله إلمام بالكشاف يعرفه ويقريه، ويسبغ كؤوس ما فيه من المشكل ويمريه.
وعلق على منهاج الشيخ محيي الدين النواوي في مواضع منه مفرقة في نحو ستة مجلدات.(2/172)
ولم يزل على حاله إلى أن طفي نوره، وغلب على نهاره عيشه ديجوره.
وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأوسط من جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ورد إلى دمشق ولازم شيخنا العلامة شمس الدين الأصفهاني مدة مقامه في دمشق ولم يفارقه.
ولما توفي الشيخ كمال الدين بن الشيرازي تولى عوضاً عنه تدريس المدرسة الناصرية في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
اللقب والأنساب
ابن فرج الإشبيلي: شهاب الدين أحمد بن فرج.
ابن فرحون: علي بن محمد.
أبو الفرج، ولي الدولة ابن الخطير
تقدم في الدولة لما ظهر النشو صهره، وأضاء في سماء المعالي بدره، خدم عند كبار الأمراء الناصريه، وتطفل الأمراء على خدمته لهمته السريه، وخضع الناس له ودانوا، وتطامنوا لترفعه واستكانوا.
وكان حلو الصورة لطيف الإشارة، عذب الكلام، طلق العباره، فصيحاً في نطقه، مليحاً في خلقه وخلقه، يحفظ ما راق من شعر المتأخرين، ووقائع المعاصرين النازلين والمفتخرين، ويندب ما هو أرشق من حركات القدود المشوقه، وألطف من إشارات العيون المعشوقه، ويذوق الأحجية النحوية ويضعها بلا كلفه، ويأتي بها وهي أحسن من البدر إذا تطلع في السدفه، حتى كنت أعجب منه ومن اقتداره، مع عدم اشتغاله بما يعينه في هذا الفن إذا جرى في مضماره، وأما التصحيف فكان لا يتكلف فهمه ولا يرد من الإصابة فيه سهمه، وأما التورية والاستخدام، فكانا له من أطوع الأرقاء والخدام، يذوقهما حال ما يطرقان سمعه، ويقد ذهنه لفهمهما كأنه شمعه.
ثم اشتملت عليه قافية صهره، وجرته إلى الردى، فصودر وقاسى من القلة ما رق له منه العدا، ثم أعان الله وأفرج عنه، وعادت له الدولة لتأخذ حظها منه. ثم إن الزمان استدرك عليه ما فرط، وأوقعه في أحبوله الوهم والغلط، فسمروا شخصه على جمل، وشمروا إليه ذيل الأجل، وفاز عدوه بالسرور والشمات، وقال وليه: " علو في الحياة وفي الممات " .
وكان قد أسلم فما سلم، وحكم الله فيه بما علم، وحل بمن يعرفه هجوم الوجوم، " وعند الله تجتمع الخصوم " . وكانت واقعته في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة في شهر ربيع الأول.
كان ولي الدولة هذا قد تزوج وهو نصراني، بأخت القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص قبل اتصال النشو بالسلطان، ولما تولى النشو الخاص عظم ولي الدولة، وزادت وجاهته، وتقدم على إخوة النشو. وخدم عند الأمير سيف الدين أرغون شاه، ثم إنه انفصل من عنده وخدم عند الأمير علاء الدين طيبغا المجدي، وتحدث في ديوان الأمير سيف الدين بهادر المعزي، وهو أمير مئة مقدم ألف من أمراء المشورة، وفي ديوان الأمير سيف الدين طقبغا، وزادت وجاهته، فلما أمسك القاضي شرف النشو وجماعته، أمسك هو في الجملة، ولكنه دخل إلى السلطان، وقال: والله يا خوند أنا ما أحمل عقوبة، وأنا أحمل موجودي، فإن بلغ مولانا السلطان أنه بقي لي درهم واحد، خذ روحي، فأمر السلطان بأن لا يعاقب، وسلم تلك المرة إلا من ضرب يسير.
وتوفي النشو تحت العقوبة وأهله، وبقي ولي الدولة وأخوه الشيخ الأكرم في الاعتقال بعدما استصفي موجودهما.
وكان قد عمر داراً على بركة الفيل في حكر أزدمر الشجاعي فأبيعت في جملة موجوده، وموجود أخيه، ولما مرض السلطان الملك الناصر محمد مرضه الذي مات فيه، أفرج عن ولي الدولة وعن أخيه فيمن أفرج عنه من الاعتقال بالشام ومصر.
وكان الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي يعرف ولي الدولة، لأن مجد الدين رزق الله أخا النشو، كان كاتبه، فطلب من الملك المنصور أبي بكر، فرسم به له، فأخذه وأسلم على يده وبقي عنده.
وعاد إلى تلك العظمة بزائد، ورمي بأشياء مما أوجبت خلع المنصور، وأوحى أعداؤه إلى الأمير سيف الدين قوصون ما أوحوه، فقبض عليه، وحسنوا له تسميره، فأخرج من محبسه وسمر على جمل، وهو لابس بسنجاب وشغلوا قدامه الشموع، وطافوا به بالمغاني في شوارع القاهرة، ثم قضى الله أمره فيه.
وبلغني أنه وقف قدام دكان الشهود على باب خانقاه " سعيد السعداء " . وقال: يا مسلمين اشهدوا أنني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والله لم يبد شيء مما رميت به، ولكن لي ذنوب، وخطايا تقدمت، هذا بها.
فرج الله بن علم السعداء
الصدر الرئيس أمين الدين بن العسال.(2/173)
دخل هذا هو وأخوه سعد الدين أسعد بن علم السعداء إلى القاهرة عقيب ما جرى للنصارى ما جرى من إلزامهم بلبس الأزرق وشد الزنار، فأنفا من ذلك وأسلما.
وكان هذا أمين الدين صدراً محتشماً، فيه مكارم ومروءة، ورأى من السعادة في دمشق ما لا رآه أمثاله، وباشر صحابة الديوان مدة، ولما غضب تنكز على ابن الحنفي ناظر ديوانه، وتوفي رحمه الله، تولى أمين الدين نظر ديوانه، فأقام به مدة، ثم إنه عزل منه، وعاد إلى صحابة الديوان، وعمر القاعات المليحة المشهورة عند " قناة صالح " داخل دمشق، واجتهد وسعى، فزوج صلاح الدين يوسف ابن أخيه، الآتي ذكره في مكانه إن شاء الله تعالى، بابنة الصاحب شمس الدين غبريال.
ولم يزل في سعادة وصدارة إلى أن توفي رحمه الله تعالى في حادي عشر شهر رمضان سنة ثلاثين وسبع مئة.
النسب والألقاب
الفرسيسي: فخر الدين علي بن عثمان.
الفزاري: الخطيب شرف الدين أحمد بن إبراهيم. الشيخ برهان الدين إبراهيم بن عبد الرحمن. والده تاج الدين عبد الرحمن.
ابن أبي الفصيح: فخر الدين أحمد بن علي. وجلال الدين عبد الله بن أحمد. والدمرندري عبد الرحمن بن العليم.
الفصيح: المغني عبد العزيز.
فضل الله بن عمر بن أحمد بن محمد
القاضي بدر الدين بن إمام الدين القزويني الشافعي.
قدم دمشق للحج، ونزل بتربة أم الصالح عند ابن أخيه القاضي إمام الدين والخطيب جلال الدين.
وحصل له ضعف فلم يمكنه السفر.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وتسعين وست مئة، وشيعه الخلق إكراماً لأخويه.
وكان مع شيخوخته يكرر على الوجيز، وكانت له حلقة إقراء بتبريز، ثم ولي قضاء بنسكار بلده بالروم، وكانت له معرفة بالحساب وغير ذلك.
فضل الله بن أبي بن الخير الخير عالي
رشيد الدولة، فخر الوزراء، مشير الدول الهمذاني، الطبيب العطار والده.
أسلم هو، ومات والده يهودياً على دينه، وجرى القضاء بسعد ولده هذا في ميادينه، واتصل بغازان محمود، وخدمته في خدمته السعود، فقربه نجيباً، وقر به عيناً لما استقر به صفياً، وعظم شأنه، وعلا بتمكنه مكانه، ولم يكن عنده أحد في محله، وحكمه في حرمه وحله.
ثم إنه اتصل بعده بخربندا، فزاده على ذلك وعقد له لواءً من السعد وبندا، وزاد علواً، واستفاد غلوا، وكثرت أمواله، وامتدت آماله، وصار في عداد الملوك، ونظمت جواهر سعوده في السلوك.
ثم إن الدهر تيقظ، وتيقن هلاكه وما تحفظ، فنقض ما أبرم، ونفض ما أكرم، ولما طبب خربندا ومات، نزل به المكروه والشمات، وشغب عليه الوزراء، علي شاه وأمثاله، وصادره من المقدور حبائله وحباله، فدارى عن نفسه بقناطير من الذهب، ودفع جملاً من الجواهر، فما أفاد، لأن عمره ذهب.
وقتل هو وابنه قبله، وذبحوهما على غير قبله، وذلك في سنة ست عشرة وسبع مئة.
وقال الشيخ علم الدين البرزالي: في جمادى الأولى سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وعاش بضعاً وسبعين سنة، ولما قتلوه فصلوا أعضاءه، وبعث إلى كل بلد بعضو من أعضائه، وأحرقت جثته، يقال: إن جوبان أخذ منه ألف ألف مثقال.
وكان فيه حلم وتواضع وسخاء وبذل للعلماء والصلحاء، وكان ذا رأي ودهاء ومروءة، وفسر القرآن، وأدخل فيه الفلسفة.ويقال: إنه كان جيد الإسلام - رحمه الله تعالى - ولما مات خلف بنين وبنات، وعمائر فاخرة، وأموالاً لا تحصر، وأحرقت تآليفه بعده.
ثم وزر ابنه محمد بعده سنوات، وتمكن أيضاً وسيأتي ذكره في مكانه.
وكان قد نسب رشيد الدولة إلى أنه سقى خربندا السم، فطلبه جوبان على البريد السلطانية، وأحضره بين يديه، وقال له: أنت قتلت القان. فقال: كيف أفعل ذلك، وأنا كنت رجلاً طبيباً عطاراً ضعيفاً بين الناس، فصرت في أيامه وأيام أخيه متصرفاً في أمول المملكة، ولا يتصرف الأمراء والنواب إلا بأمري، وحصلت من الجواهر في أيامهما ما لا يحصى؟.
وأحضر الجلال الطبيب ابن الحزان طبيب خربندا، فسألوه عن موت خربندا، وقالوا: أنت قتلته؟ فقال: الملك أصابته هيضة قوية فانهل بسببها ثلاث مئة مجلس، وتقيأ قيئاً كثيراً، فطلبني وعرض علي هذا الحال فاجتمع الأطباء بحضور الرشيد على إعطائه أدوية قابضة مخشنة للمعدة والأمعاء.(2/174)
فقال الرشيد: عنده امتلاء، وهو يحتاج إلى الاستفراغ بعد فسقيناه برأيه دواء مسهلاً، فانسهل به سبعين مجلساً، فمات، وصدقه الرشيد على ذلك. فقال الجوبان فأنت يا رشيد قتلته، فأمر بقتله. واستأصلوا جميع أمواله وأملاكه، وقتلوا قبله ولده إبراهيم، وكان عمره ست عشرة سنة.
وحمل رأس الرشيد إلى تبريز، ونودي عليه هذا رأس اليهودي الذي بدل كلام الله تعالى، وقطعت أعضاؤه وحمل كل عضو إلى بلد، وأحرقت جثته، وقام في ذلك الوزير علي شاه التبريزي، وقال بعضهم: إن الوزير كان ملحداً عدواً للإسلام.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: ولما قدم علينا الشيخ تاج الدين الأفضلي التبريزي حاجاً إلى دمشق في رمضان سنة ثماني عشرة وسبع مئة. فذكرناه، فذكر قتل الشيخ والنداء عليه. وقال: قتله أعظم من قتل مئة ألف نصراني، فإنه كان يكيد الإسلام.
قال الإربلي: الأفضلي كان قد تكلم في الرشيد مرة، وهو يهودي، وقد بدل كلام الله، فقصده الرشيد لينتقم منه، فاختفى الأفضلي منه مدة، ثم وقعت فيه شفاعة، فعفى عنه وطلبه إليه، وطيب قلبه وخلع عليه خلعة سنية، فلم يقبلها منه، وبقي في نفس الأفضلي منه إلى الآن يذمه حياً وميتاً. والرشيد ما دخل في الإسلام كرهاً، وقد كان يناصح المسلمين ويخدمهم في كل الأحوال.
قلت: وحكى لنا نجم الدين قاضي الرحبة ما رآه الرشيد من الشفاعة على أهل الرحبة، وحقن دمائهم، وكيف ساعدهم على خلاصهم من التتار، وإصلاح أمورهم مع الملك الناصر، وله في تبريز عظيمة من البر، وكان مشغولاً بسعادته عن معاداة الإسلام وكيده، ولم يكن يتبع إلا أعداه، ومن يقصد أذاه وسواء أكان مسلماً أو كافراً أو صالحاً أو فاسقاً.
فضل بن عيسى
الأمير الكبير شجاع الدين أخو الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى.
كان ذا رأي وفضل، وخير عدل، وهمة بلغت السماك، وعزمة ليس لها عن الحزم انفكاك.
تولى إمرة آل فضل سنين عديده، ونزل من السعادة بروجاً مشيده، وأخذها منه موسى ابن أخيه في وقت وأعيدت إليه مع عود المقة وذهاب المقت.
وكان خبيراً بأخلاق السلطان، درباً بأحوال العربان، قد خبرهم وجربهم، وصرفهم على ما أراد، وسر بهم لما سر بهم، وكثرت إقطاعاته وأمواله، وزادت مواشيه وغلاله، ونمت عبيده وإماؤه، ومطرته بالسعادة والأمن سماؤه.
ولم يزل على حاله إلى أن فض لفضل ختم القبر وكسر كسراً ماله جبر.
وتوفي رحمه الله تعالى...
ورأيته برحبة مالك بن طوق.
وكان إذا وردت جماله الفرات يظن الإنسان أن الله تعالى قد ملأ الفضاء جمالاً، وبلغني هناك أنه دفن في بعض دفائنه في تلك الأراضي قدراً فيها ثمانون ألف دينار، وضاع المكان منه ولم يقع له على خبر.
وكان السلطان الملك الناصر محمد قد أخذ الإمرة من أخيه مهنا لما خرج عن الطاعة في واقعة قراسنقر، وأعطاها للأمير شجاع الدين فضل، وغضب عليه في وقت وأعطاها للأمير مظفر الدين بن مهنا، ثم أعادها إلى الفضل.
فضل بن عيسى بن قنديل
الشيخ الزاهد العابد الصالح العجلوني. كان مقيماً بالمدرسة المسمارية.
كان مشهوراً بالخير والصلاح، وتعبير الرؤيا، اشتغل في ذلك على الشيخ شهاب الدين العابر الحنبلي. وكان لا يقبل من أحد شيئاً، وعرض عليه خزن المصحف العثماني، فامتنع. وكان لا يقبل أحد شيئاً.
وحضر إليه الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - و - وزاره وهو في بيته في المدرسة المذكورة.
مولده سنة تسع وأربعين وست مئة.
ودفن بمقبرة الصوفية قريباً من قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية، وحضر جنازته القضاة، والأمراء والأعيان والجم الغفير.
الألقاب والأنساب
ابن فضل الله: جماعة منهم: شهاب الدين أحمد بن يحيى. ولده شرف الدين عبد الوهاب. القاضي محيي الدين بن فضل الله. أخوه القاضي شرف الدين عبد الوهاب. بدر الدين محمد بن يحيى.
فضيل بن عربي بن معروف بن كلاب الجرفي
والجرف: قرية ببلاد أدفو.
كان رجلاً مباركاً متورعاً متطوعاً، يحكي عنه أهل تلك الناحية حكايات عجيبة من الكرامات والصلاح.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوني: قال لي بعض الجرفية: إني زرعت أنا وهو مقثاةً، فظهر فيها بطيخة كبيرة. وكان بعض الفلاحين يشتهي أن يسرقها، ويخشى من الشيخ فضيل، فقطعها ودفعها إليه، وقال: خذها حلالاً.(2/175)
وحكى لي نفيس الخولي، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، قال: رأيت في النوم ثعباناً كبيراً وقصدني ثم صار إنساناً. وقال لي: تب عن القضية الفلانية، فوقع في نفسي أنه فضيل، فلما وصلنا إلى الجرف قلت له: يا شيخ فضيل أنا من قبيل أن تعاملني بهذه المعاملة؟ فقال: ما هي؟ القضية الفلانية؟ نعم أنا هو.
قال: وحكى لي الجرفية: أنه كان يوماً بأدفو، فركبوا إلى أن وصلوا إلى قلاوة الكوم - وهي أرض كشف - فوقف في مكان، وحوق حواقة، وقال: ادفنوني هاهنا، ثم توجه إلى بيته، فأقام ثلاثة أيام أو نحوها. وتوفي - رحمه الله تعالى - ودفناه بتلك البقعة وبينها وبين مسكنه مسافة طويلة.
الألقاب والأنساب
ابن الفقاعي: جمال الدين إسماعيل بن محمد.
ابن الفهاد القوصي: محمد بن إبراهيم.
ابن أبي الفوارس: محمد بن مجاهد.
ابن الفوطي: كمال الدين المؤرخ، عبد الرزاق بن أحمد.
ابن الفويرة: جمال الدين يحيى بن محمد. ووالده بدر الدين محمد بن يحيى وعلاء الدين علي بن يحيى.
ابن الفوية: محمد بن أحمد.
فيروز الأمير نجم الدين
أحد أمراء الطبلخانات بصفد.
كان في شكله قصيراً، إلا أنه في الحرب كان يرى بصيراً، فيه شجاعة وإقدام، وثبات عند الوثبات لا تزحزح له الأقدام.
وكان ذا تجمل وافر، واضطلاع بأمر الإمرة متظافر، كثير الرخت، وافي الحظ من ذلك والبخت، يتجمل في خروجه إلى الأيزاك، ويظهر بجماعة من الجند الذين تهول أشكالهم من الأتراك، وكان لصفد به جمال، ولبدر ذكرها في البلاد به كمال. إلى أن كتب نائبها الحاج أرقطاي في معناه إلى السلطان في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فأمر باعتقاله في قلعة صفد. فأقام بها معتقلاً نحواً من خمسن سنين. ثم إن الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - شفع فيه. فأفرج عنه، وحضر إلى دمشق بطالاً.
ولم تطل مدته حتى توفي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وثلاثين وسبع مئة تقريباً.
وكان يرميه أهل صفد بأنه ظفر بإكسير كان مع بعض المغاربة، وأنه تزوج بامرأة المغربي، وأخذه منها.
وعمر بصفد داراً حسنة بالنسبة إلى صفد وعمل إلى جانبها تربة مليحة ومسجداً، ونقل غالب أحجار الدار من عكا. وأقام بصفد مدة - رحمه الله تعالى - .
حرف القاف
القاسم بن محمد بن يوسف
شيخنا الإمام الحافظ المحدث المؤرخ علم الدين أبو محمد ابن العدل بهاء الدين ابن الحافظ زكي الدين البرزالي - بكسر الباء الموحدة، وسكون الراء وبعدها الزاي، وألف ولام - الإشبيلي ثم الدمشقي الشافعي.
حفظ القرآن العظيم ثم التنبيه ومقدمة... في صغره، وسمع سنة ثلاث وسبعين وست مئة من أبيه، ومن القاضي عز الدين بن الصائغ.
ولما سمع " صحيح البخاري " على الإربلي بعثه والده فسمعه سنة سبع، وأحب طلب الحديث ونسخ الأجزاء، ودار على الشيوخ، وسمع من ابن أبي الخير، وابن أبي عمر، وابن علان، وابن شيبان، والمقداد، والفخر، وغيرهم. وجد في الطلب وذهب إلى بعلبك، وارتحل إلى حلب سنة خمس وثمانين، ومنها ارتحل إلى مصر، وأكثر عن العز الحراني وطبقته.
وكتب بخطه كثيراً وخرج لنفسه ولغيره كثيراً، وجلس في شبيبته مع العدول الأعيان مدة. وتقدم في معرفة الشروط. ثم إنه اقتصر على جهات تقوم به، وحصل كتباً جيدة، وأجزاء في أربع خزائن، وبلغ عدد مشايخه بالسماع أزيد من ألفين، وبالإجازة أكثر من ألف، رتب كل ذلك وترجمهم في مسودات متقنة.
وكان - رحمه الله تعالى - رأساً في صدقه، بارعاً في خدمه، أميناً صاحب سنة واتباع، ولزوم فرائض ومجانبة الابتداع، متواصعاً مع أصحابه ومن عداهم، حريصاً على نفع الطلبة وتحصيل هداهم، حسن البشر دائمه، صحيح الود حافظ السر كاتمه، ليس فيه شر، ولا له على خيانة مقر، فصيح القراءة عدم اللحن والدمج، ظاهر الوضاءه، لا يتكثر بما يعرف من العلوم، ولا يتنقص بفضائل غيره، بل يوفيه فوق حقه المعلوم.
وكان عالماً بالأسماء والألفاظ، وتراجم الرواة والحفاظ، وخطه كالوشي اليماني، أو رونق الهنداوني، لم يخلف بعده في الطلب وعمله مثله، ولا جاء من وافق شكله شكله.
ولم يزل على حاله إلى أن حج سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، فتوفي بخليص محرماً بكرة الأحد رابع ذي الحجة عن أربع وسبعين سنة ونصف، وتأسف الناس عليه.(2/176)
وكان - رحمه الله تعالى - لدمشق به في الحديث جمال، بلغ ثبته أربعاً وعشرين مجلداً، وأثبت فيه من كان يسمع معه، وله " تاريخ " بدأ فيه من عام مولده الذي توفي فيه الإمام أبو شامة، فجعله صلة لتاريخ أبي شامة في ثماني مجلدات، وله مجاميع وتعاليق كثيرة، وعمل كثير في الرواية، قل من وصل إليه، وخرج أربعين بلدية، وحج سنة ثمان وثمانين وأخذ عن مشيخة الحرمين. وحج غير مرة، وكان باذلاً لكتبه لا يمنعها من سأله شيئاً منها، سمحاً في كل أموره، مؤثراً متصدقاً، وله إجازات عالية عام مولده من ابن عبد الدائم وإسماعيل بن عزون والنجيب وابن علاق، وحدث في أيام شيخه ابن البخاري.
ولي دار الحديث مقرئاً فيها، وقراءة الظاهرية سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وحضر المدارس، وتفقه بالشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري، وصحبه، وأكثر عنه، وسافر معه، وجود القراءة على رضي الدين بن دبوقا، وتفرد ببعض مروياته. ثم تولى مشيخة دار الحديث النورية، ومشيخة النفيسية، ووقف كتبه وعقاراً جيداً على الصدقات.
وقرأت أنا عليه بالرواحية قصيدة لابن إسرائيل يرويها عن المصنف سماعاً، وهي في مديح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولها:
غنها باسم من إليه سراها
وقرأت أيضاً عليه قصيدتين ميمية، أولها:
هي المنازل فانزل يمنة العلم
ودالية أولها:
قلب يقوم به الغرام ويقعد
في مديح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظم الضياء أبي الحسن علي بن محمد بن يوسف الخزرجي رواهما لي سماعاً عن المصنف بالإسكندرية.
وسمعت عليه وعلى الحافظ جمال الدين المزي " جزء الأربعين العوالي، من المصافحات والموافقات والأبدال " ، تخريج ابن جعوان للقاضي دانيال. وقرأت عليه غير ذلك، وقرأ هو علي قطعة من شعري.
وكان دائم البشر لي جميل الود، وكان من عقله الوافر وفضله السافر أنه يصحب المتعاديين، وكل منهما يعتقد صحة وده، ويبث سره إليه.
وكان العلامة تقي الدين بن تيمية يوده ويصحبه، والشيخ العلامة كمال الدين بن الزملكاني يصحبه ويوده ويثني عليه.
وقال القاضي شهاب الدين بن فضل الله يرثيه:
تراهم بالذي ألقاه قد علموا ... شط المزار، وبان البان والعلم
لهفي عليهم وقد شدوا ركائبهم ... عن الديار ولا يثني بهم ندم
قد كان يدنيهم طيف ألم بنا ... فالآن لا الطيف يدنيهم ولا الحلم
الله أكبر كم أجرى فراقهم ... دمعاً، وعاد بمن لا عاد وهو دم
أموا الحجاز فما سارت مطيتهم ... حتى استقلت دموعاً قدمت لهم
وأحرموا لطواف البيت لا حرموا ... من لذة العيش طول الدهر لا حرموا
زاروا النبي وساروا نحو موقفهم ... حتى إذا فارقوا مطلوبهم جثموا
يا سائرين إلى أرض الحجاز لقد ... خلفتم في حشاي النار تضطرم
هل منشد فيكم أو ناشد طلباً ... أضللته وادلهمت بعده الظلم
قد كان في قاسم من غيره عوض ... فاليوم لا قاسم فينا ولا قسم
من لو أتى مكةً مالت أباطحها ... به سروراً، وجادت أفقها الديم
هذا الذي يشد المختار هجرته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
أقسمت منذ زمان ما رأى هجرته ... لقاسم شبهاً في الأرض لو قسموا
هذا الذي يشد المختار هجرته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
ما كان ينكره ركن الحطيم له ... لو أخر العمر حتى جاء يستسلم
له إليه وفادات تقر بها ... جبال مكة والبطحاء والأكم
محدث الشام صدقاً بل مؤرخه ... جرى بهذا وذا فيما مضى القلم
يا طالب العلم في الفنين مجتهداً ... في ذا وهذا ينادى المفرد العلم
يروي حديث العوالي عن براعته ... وماله طاعن فيها ومتهم
قد كان يدأب في نفع الأنام ولا ... يرده ضجر منه ولا سأم
وحقق النقد حتى بان بهرجه ... وصحح النقل حتى ما به سقم(2/177)
وعرف الناس كيف الطرق أجمعها ... إلى النبي فما حاروا ولا وهموا
وعرف الناس في التاريخ ما جهلوا ... وبعض ما جهلوا أضعاف ما علموا
يريك تاريخه مهما أردت به ... كأن تاريخه الآفاق والأمم
ما فاته فيه ذو ذكر أخل به ... ولو يروم لعادت عاد أو إرام
إذا نشرت له جزءاً لتقرأه ... تظل تنشر أقواماً وهم رمم
يا أيها الموت مهلاً في تفرقنا ... شتت شمل المعالي وهو منتظم
تجد فينا وتسعى في تطلبنا ... اصبر سنأتيك لا تسعى بنا قدم
قد ظفرت بفرد لا مثيل له ... وإن أردت له مثلاً فأين هم
يا ذاهباً ما لنا إلا تذكره ... آهاً عليك وآه كلها ألم
جادت عليك من الغفران بارقة ... عراء يضك فيها البارد الشيم
تروي ثراك وتسقى من جوانبه ... إلى جوانب حزوى البان والسلم
وحل أرض خليص كل ريح صبا ... بنشرها تبعث الأردان واللمم
وخيمت دون عسفان لها سحب ... تسقى بأنوائها السكان والخيم
لهفي عليك لتحرير بلغت به ... ما ليس تبلغه أو بعض الهمم
ما الحافظ السلفي الطهر إن ذكرت ... أسلافك العز والآثار والكرم
قطعت عمرك في فرض وفي سنن ... هذي الغنيمة والأعمار تغتنم
أبو القاسم بن الأجل
الصاحب جلال الدين.
أول ما علمته من حاله أنه كان من جملة كتاب حلب، فلما كان في أيام الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور نائب دمشق في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، حضر على البريد من مصر على يده مرسوم شريف بأن يكون مستوفياً بدمشق، فما مكنه ورده رداً قبيحاً. ولما مات أيدغمش - رحمه الله - عاد بعد ذلك وباشر الاستيفاء بدمشق مدة.
ولم يزل على حاله إلى أن توجه إلى مصر بحساب دمشق، وذلك في سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، أو أوائل سنة تسع وأربعين.
وراح على أنه يصلح حال معاملة دمشق، فعاد منها وقد تولى نظر النظار بدمشق عوضاً عن الصاحب شمس الدين بن التاج إسحاق، فما هان ذلك على الأمير سيف الدين أرغون شاه.
واستمر به وهو منكر الوجه عليه، فضاق عطنه لذلك، ولم يقم إلا قليلاً، وطلب الإعفاء من المباشرة. فكتب أرغون شاه بذلك، وطلب عود الصاحب شمس الدين بن التاج إسحاق، فأعيد.
واستمر الصاحب جلال الدين على نظر الحرمين القدس الشريف وحرم الخليل عليه السلام، عوضاً عن الصاحب شمس الدين، وأقام على ذلك مدة ثم توجه إلى مصر وأقام مدة. وحضر صحبة ركاب الملك الصالح صالح إلى دمشق في واقعة بيبغاروس، وعاد صحبة الركاب إلى مصر، وحنا عليه الأمير عز الدين طقطاي الدوادار، وبقي يذكر به الأمير سيف الدين شيخو، وتوجه صحبة شيخو إلى الصعيد، ورأى تلك الأحوال وما بذله شيخو من السيف في أهل الصعيد، وعاد، ثم إنه ولي استيفاء الصحبة بالقاهرة، وحضر هو والأمير سيف الدين جرجي إلى دمشق، بسبب ديوان المهمات، وتذكرة على يده في حال معاملة دمشق.
ثم إنه عاد إلى مصر وأقام إلى أن انفصل من الاستيفاء، وأقام بمصر بطالاً إلى أن استخدم قبل موته بأشهر قلائل في نظر الخزانة البرانية فيما أظن إلى أن توفي رحمه الله تعالى في طاعون مصر سنة أربه وستين وسبع مئة.
أبو القاسم بن عثمان
الأمير صفي الدين البصروي الحنفي، أخو الأمير نجم الدين محمد البصروي، ابن أخي قاضي القضاة صدر الدين الحنفي، وسيأتي ذكر أخيه في مكانه من المحمدين إن شاء الله تعالى.
كان فقيهاً فاضلاً في مذهبه، ناهلاً ما صفا من الفضائل في مشربه، ودرس ببصرى زماناً، وكان على ما يعانيه من ذلك معاناً.
وله إقطاع في الحلقة يأكله، ويتخذ من العلم ما يشاكله، يلبس القباء والعمة المدوره، ويبرز بذلك في صورة مركبة بين الأمراء والعلماء مصوره، ثم إنه أعطي الطبلخاناه، وانسلخ من ذلك الزي الذي عاناه.
ولم يزل على حاله إلى أن كدر بالموت صفاؤه، وحان بالوفاء وفاؤه.(2/178)
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر سنة تسع وخمسين وسبع مئة أو أوائل سنة ستين وسبع مئة، وكان من أبناء الستين تقريباً.
كان لأخيه الأمير نجم الدين على السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون خدم يرعاها له لما كان بالكرك، ولما مات نجم الدين رعى حق أخيه، وأعطاه إمرة عشرة - فيما أظن - مضافاً لما بيده من تدريس المدرسة ببصرى، فيلبس قباء وعمامة مدورة ويتوجه كل قليل إلى باب السلطان بالخيول المثمنة الجيدة العربية.
ولما كان بعد موت الأمير تنكز - رحمه الله تعالى - ألزمه السلطان بلبس الكلوتة، ثم أعطي طبلخاناه، وكانت جيدة.
ولما ورد الأمير سيف الدين أرغون شاه إلى دمشق نائباً أخذه الأفرم منه وجهزه إلى حلب على إمرة غيرها، فلما قتل أرغون شاه عاد الأمير صفي الدين إلى دمشق على حاله.
وتولى نابلس فعمل الولاية على أتم ما يكون من الأمانة والمهابة والحرمة، وأقام بها قليلاً وسأل الإقامة منها، فأجيب إلى ذلك.
وتولى نظر الحرمين القدس والخليل عليه السلام، وعمله على أتم ما يكون وذلك في آخر عمره، وفيه توفي - رحمه الله تعالى.
وكان له نظم متوسط - رحمه الله تعالى - ، وقد تقدم ذكر أخته فخرية أم يوسف في حرف الفاء مكانه.
القاسم بن مظفر بن محمود
ابن تاج الأمناء أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن عساكر.
الشيخ الجليل الطبيب المعمر مسند الشام بهاء الدين أبو محمد الدمشقي.
له حضور في سنة مولده على مشهور النيرباني، وحضر في الثانية على كريمة القرشية، وحضر في الثالثة على سيف الدولة بن غسان، والفخر الإربلي، ومكرم بن أبي الصقر، وعم جده أبي نصر عبد الرحيم بن محمد، وحضر سنة اثنتين وثلاثين وست مئة على ابن المقير، وسمع في سنة أربع وثلاثين من ابن اللتي والقاضي شمس الدين بن سني والعز النسابة وطائفة، وأجاز له خاصاً وعاماً، مثل أبي الوفاء بن مندة، وابن روزبه والقطيعي وخلق.
وكان يعالج المرضى مروءة، وله من ملكه ومغله ووقفه شيء وافر. وخدم في ديوان الخزانة مدة، ثم ترك ذلك وكبر وارتعش خطه.
خرج له المفيد ناصر الدين بن الصيرفي " معجماً " حافلاً في سبع مجلدات، وخرج له شيخنا البرزالي، والشيخ صلاح الدين العلائي، وعمر دهراً، وروى الكثير، وكان كثير المحاسن صبوراً على الطلبة.
قال شيخنا الذهبي: على تخليط في نحلته والله أعلم بسره، وله صدقة ووقف، وقد جعل داره دار حديث.
توفي - رحمه الله تعالى - خامس عشري شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة.
اللقب
قاضي القضاة حسام الدين الحنفي الرومي: الحسن بن أحمد.
تقي الدين الحنبلي: سليمان بن حمزة.
وقاضي القضاة جمال الدين الزرعي: سليمان بن عمر.
قاضي بغداد الحنبلي: سليمان بن عبد الرحمن.
وقاضي القضاة شرف الدين الحافظ: عبد الله بن حسن.
زين الدين قاضي قضاة حلب الشافعي المعروف بابن قاضي الخليل: عبد الله بن محمد.
وقاضي القضاة الحنبلي: شرف الدين عبد الغني بن يحيى.
وقاضي القضاة بصفد: شرف الدين بن عثمان. ووالده: جلال الدين عثمان بن أبي بكر.
وقاضي القضاة بحلب نجم الدين خطيب جبرين: فخر الدين عثمان بن علي.
وقاضي القضاة عماد الدين الطرطوسي الحنفي: علي بن أحمد.
وقاضي القضاة الشيخ علاء الدين القونوي: علي بن إسماعيل.
وقاضي القضاة نور الدين السخاوي المالكلي: علي بن عبد النصير.
وقاضي القضاة علاء الدين بن التركماني الحنفي: علي بن عثمان.
وقاضي القضاة صدر الدين الحنفي: علي بن القاسم.
وقاضي القضاة زين الدين المالكي بن مخلوف: علي بن مخلوف.
وقاضي القضاة علاء الدين بن المنجا الحنبلي: علي بن منجا.
وقاضي القضاة عز الدين الحنبلي: عمر بن عبد الله.
وقاضي القضاة إمام الدين القزويني الشافعي: عمر بن عبد الرحمن.
وقاضي القضاة نجم الدين بن العديم: عمر بن محمد.
وقاضي القضاة زين الدين البلفيائي: عمر بن محمد.
وقاضي القضاة سعد الدين الحارثي الحنبلي: مسعود بن أحمد.
وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة: محمد بن إبراهيم.
وقاضي القضاة ناصر الدين بن العديم: محمد بن عمر.
وقاضي القضاة ابن المجد: محمد بن عيسى.
وقاضي قضاة حلب ابن بهرام: محمد بن محمد.(2/179)
وقاضي القضاة علم الدين الإخنائي: محمد بن أبي بكر وأخوه وقاضي القضاة المالكي: محمد بن أبي بكر.
وقاضي القضاة شرف الدين المالكي: محمد بن أبي بكر.
وقاضي القضاة شمس الدين بن النقيب: محمد بن أبي بكر.
وقاضي القضاة جمال الدين ابن واصل: محمد بن سالم.
وقاضي القضاة جمال الدين الزواوي: محمد بن سليمان.
وقاضي القضاة عز الدين الحنبلي: محمد بن سليمان.
وقاضي القضاة جلال الدين: محمد بن عبد الرحمن.
وقاضي قضاة حلب بدر الدين أبو اليسر: محمد بن محمد بن الصايغ. وأخوه قاضي القضاة بحلب أيضاً نور الدين محمد بن محمد بن محمد.
وقاضي القضاة جمال الدين: يوسف بن إبراهيم بن جملة.
قاضي نابلس فخر الدين: عثمان بن أحمد.
قاضي فوه شمس الدين: علي بن محمد.
ابن قاضي شهبة كمال الدين: عبد الوهاب.
قاضي شبهة نجم الدين: عمر بن عبد الوهاب.
قاضي غزة: عمر بن محمد.
القاضي أخوين: محمد بن محمد.
قاضي ملطية: محمد بن محمد بن علي.
قاضي تونس: إبراهيم بن الحسن.
ابن قاضي الحصن: إبراهيم بن علي.
قاضي الرحبة نجم الدين: إسحاق بن إسماعيل.
القاسم بن يوسف بن محمد بن علي
الإمام المحدث الرحال علم الدين التجيبي السبتي.
قال شيخنا الذهبي: حج وقدم علينا، وسمع من ابن القواس، والشرف بن عساكر وطائفة.
قال: وانتقيت له مئة حديث من مئة شيخ. ثم إنه سمع بمصر وبالثغر من الغرافي، وبالمغرب، ونسخ وقرأ وحصل أصولاً، وله فضيلة جيدة، تأخر وحدث وروى عنه الوادي آشي.
قال: وسمعته يقول: أحاديث بقية ليست نقيه، فكن منها على تقيه.
ولد في حدود السبعين وست مئة.
قال: وأظنه بقي إلى نحو الثلاثين وسبع مئة.
اللقب والنسب
ابن القاهر: علي بن عبد الملك.
القبابي: نجم الدين عبد الرحمن بن الحسن.
القباري: الشيخ أحمد.
قبجق
الأمير الكبير سيف الدين نائب دمشق وحماة وحلب.
وكان من فرسان الإسلام، وأبطاله الشجعان الأعلام، لا يرام ولا يرامى، ولا يسام في تدبير ولا يسامى، برز في جودة الرمي بالنشاب، واللعب بالرمح على ظهور المطمهة العراب.
وأما عقله ودهاؤه وحزمه وانتخاؤه، فانفرد بافتراع ذروته، وإحكام عروته، يظن بالشيء قبل وقوعه ما آل إليه، ويتخيل المقادير فتنثال عليه، وكان فصيحاً في اللغة المغلية، مجيداً في كتابتها كما تجيده كتاب العربية.
وكان لا يكاد الصيد يخرج من بين يديه سليما، ولا يعبأ هو به أكان ظبياً أو ظليما، لكنه اضطر في الدخول إلى بلاد التتار، والتجاهر بالخروج منها دون الاستتار. ولكنه شعب ما صدع، ودمل ما جذع. فكان في عداد التتار وهو مع الإسلام، وفي ظاهر الأمر بينهم، وهو في الباطن تحت الأعلام. وداراهم إلى أن عادوا، وبدههم بدهاء إلى أن بادوا.
ولم يزل بعد ذلك يتقلب في النيابات، ويشفي غلة سيوفه من التتار في المصافات إلى أن جاءه المصرع القاسر، واختطفه عقبان المنية الكواسر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بحلب وهو نائبها في أواخر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة، ونقل إلى حماة ودفن في تربتة المشهورة بها.
لما كان في بيت المنصور قلاوون كان مؤاخياً للأمير حسام الدين لاجين لا يكاد أحدهما يصبر عن الآخر إلى أن انعكس ذلك، على ما سيأتي ذكره.
وما زال الأمير سيف الدين قبجق مقدماً في البيت المنصوري، رأساً من رؤوس مماليكه، وتأمر وأستاذه ما يثق به ولا يركن إليه، ولا يزال ينتظر منه بادرة فلا يخرجه معه إلى حروب الشام، ولا تجاريده خوفاً منه لئلا يهرب.(2/180)
قال لي القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: حكى بلبان الطشلاقي مملوك الصالح علي، قال: ركب المنصور يوماً إلى قبة النصر في جماعة من خوشدا شيته الأمراء الصالحية، ونزلوا هناك في صواوين خفاف، فأكلوا وانشرحوا، وقام كل أمير إلى صيوانه، فأتى المنصور بعدة خراف رمسان بدارية، فقلبها ثم إنه تخير له منها خروفاً من أصحها أعضاءً، وفرق البقية، ثم بعث إلى كل أمير بخروف منها. وقال: ليقم كل واحد يذبح خروفه بيده ويشويه بيده مثلما نعمل في بلادنا، وأنا في الأول. ثم قام فذبح خروفه الذي اختاره وسلخه بيده، وأمر بنار فأوقدت، ثم شواه بيده، ولما انتهى طلب الأمراء ليأكلوا معه، ثم أخذ منه الكتف اليمين، فأكل لحمه، ولما فرغ لحمه جرده إلى أن أنقاه، ثم إنه تركه قليلاً إلى أن جف، ثم قام وجعل يلوحه على النار برفق، ثم نظر إليه وأطال فيه التأمل، ثم تفل عليه وسبه، فألقاه من يده، وكان يجيد معرفة النظر في الكتف فلم يجسر أحد من الأمراء على سؤاله عما رأى فيه، فدسوا عليه أميراً سماه الطشلاقي، قال القاضي شهاب الدين: أظنه بيسري، فمازحه، وقال له: يا خوند أي شيء رأيت في الكتف. فقال: والله حاشاك، قال عن هذا الصبي قبجق، وهذا الصبي عبد الله عن مملوك آخر كان عنده من المكتسبين أيضاً لا تخرجهم معك إلى الشام، فهؤلاء متى صاروا في الشام هربوا وعملوا فتنة. فأما عبد الله فتقدم موته، وأما قبجق، فلما صار نائب الشام هرب وأتى بالتتار.
وقال: قال والدي: إن الشجعاني، قال مرة، وقد جاء كتاب من قبجق: هذا قنينة دهن ورد مخبوء لكل يوم مشؤون.
ولم يزل مقدماً في بيت الملك المنصور وهو مؤخر إلى أن مات المنصور، وهو مؤخر.
ولما ملك ولده الأشرف أجلة ونوه بقدره، وكان من أقرب المقربين إليه، وربما استشاره في بعض الأمر.
ولما قتل الأشرف، وملك كتبغا لم يبق لحاشيته دأب إلا لاجين وقبجق، وتقصد قبجق قص جناح لاجين حتى اتفقا وطردا كتبغا، وملك لاجين، وخير قبجق بين نيابة الشام ونباية مصر، فاختار الشام، فجاء إليه وهو يظن أنه مالكها، ووصل إلى دمشق يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة.
وظهر من تعظيم لاجين له أن كتب إليه " بالجناب العالي " ، وكان يكتب إليه: " المملوك " ، فاستعفى، فقيل له: أنت تعرف مكانتك ونحن نعرف مكانتك.
ثم إن لا جين ولى جاغان، المقدم ذكره، أحد مماليكه شد الدواوين بالشام، وكان جاغان مدلاً على أستاذه، فعمل الوظيفة على قاعدة ضاق منها قبجق وانحصر.
وكانت مراسيم قبجق ترد عليه، فمنها ما يرده، ومنها ما يوقفه على المشاهدة، فنشأت بينهما منافسة، وبقي جاغان يكتب في حقه بما يغير بينه وبين السلطان من المودة التي أنفقوا فيها الأعمار، حتى اشتد تخيل لاجين منه، وبعث إلى آقوش الأفرم، وهو ابن خالة لاجين، يقول له: تجعل بالك من قبجق، وتعرفنا بأخباره، فطمع في النيابة، وكتب بما يزكي أخبار جاغان وأقواله.
واشتد نفار قبجق وهم بالأفرام، فجاء الأفرم البريد بطلبه إلى مصر، ورسم لجاغان بسلوك الأدب معقبجق ولا يرد له أمراً، ولا ينقل قدماً عن قدم إلا بأمره، فأظهر قبجق الرضا، وأسر ما أسر.
ثم إن الأخبار تواترت بقصد التتار أطراف الشام، فجردت العساكر المصرية والشامية، ورسم لقبجق بالخروج، وأن يكون مقدماً عليهم، فخرج إلى حمص وعرض عرضاً ما رأى قبله مثله " وخرج على قومه في زينته " وعليه قباء مزركش بالذهب مرصع بالجواهر، وكذلك سربه يبهر العيون، وعليه كلوته كذلك، وفي وسطه كاش ملبس بالذهب مرصع بالجواهر، وكذلك سرجه وكنفوشه ولجامه.
ونزل بحمص وخيم عليها، فقال منكوتمر للاجين: ما قصرت سلطنت قبجق وبعثت معه الجيوش والأمراء، وقعدت أنت وحدك برقبتك، وندمه.
وكان هذا دأب منكوتمر يوحش بين لاجين وبين الأمراء، ويتقصد إبادتهم، فشرع لاجين في العمل على إمساك من قدر عليهم منهم، واغتيال من لا يقدر على إمساكه، وندب لهذا صلغاي بن حمدان، وكان خؤوناً نماماً غربال أسرار.
ولما جاء قبجق وحدثه وكان والدي حاضراً، قال: فقال له: السلطان يسلم عليك، ويقول لك: قد حصل القصد بإلقاء السمعة والمهابة، وما بقي للتتار حركة، وأنا قد بعثني أرد العساكر المصرية من حلب والأمير يرجع إلى دمشق.(2/181)
فقال له قبجق: لما قال لك السلطان هذا، كان منكوتمر حاضراً عنده؟ قال: وإلا فأين يغيب ذاك. قال والدي: تفهمت بها خيانة ابن حمدان.
ثم إن ابن حمدان قطع الكلام، وقال: يا خوند أنا جيعان وقد اشتهيت كركياً يشوى لي. فقال: هاهنا كركي مشوي هاتوه، فأتوا به وأنا قاعد، فلما أتى به، قال ابن حمدان: لا يقطع لي أحد، أنا أقطع لنفسي، ثم إنه أخرج سيخاً كان معه، وجعل يقطع برأسه، ويأكل، ثم قطع بسفل ذلك السيخ وقدمه لقبجق، وقال له: أنا قد قطعت لك وأنت إن اشتهيت تأكل، وإن اشتهيت لا تأكل، ففهم قبجق أنه قد سم له ما قطعه له، وغضب وأربد وجهه واسود وظهر عليه ما لا يخفى من الأذى، ثم قال: أما ما آكل شيئاً.
قال والدي: فقمت من عنده، وشرع قبجق فيما هم فيه، وهم بما هم به.
ثم سافر ابن حمدان إلى جهة حلب وكان من الأمراء الذين بها ما كان، وركب بكتمر السرح دار وألبكي نائب صفد، عائدين إلى حمص حتى أتيا قبجق وشكيا إليه ما كان أريد بهما بحلب، فشكا هو إليهما ما أريد به بحمص، وأجمعوا على الرأي.
وأراد قبجق تحليف الأمراء له، وطلب من شهاب الدين بن غانم ليتولى له ذلك، فعمل نسخة بالتحليف، فلما حضر ليحلف. قال له أمراء الشام: أين كاتب السر، فقالوا: هو بعث هذا.
فقال الطواشي، وكان رأس الميمنة وكبير الأمراء والملك الأوحد بن الزاهر ما نحلف إلا إن حلفنا كاتب السر، فإنه أخبر بالعادة.
قال والدي: فطلبت، وأعطيت نسخة التحليف، فوجدتها مجردة لقبجق.
فقلت: ما جرت بهذا عادة، ثم أخذت القلم وأضفت فيها اسم السلطان ولزوم طاعته، وجماعته، فحلفوا على هذا.
وتنكر لي قبجق، قال: فلما رأى قبجق أن الأمر ما يتم له، لاختلاف الأمراء عليه، أعمل الرأي في الهرب، قال: حكى لي الغرسي الحاجب، قال: جئت إلى قبجق في الليلة التي أراد الركوب فيها للهرب، وأخذت في لومه وعذله، وقلت له: يا خوند بعد الحج إلى بيت الله الحرام وقطع هذا العمر في الإسلام، وأمير علي تروح إلى بلاد العدو؟ فقال: يا حاج، أنا كنت أعتقد أن لك عقلاً، الروح ما يعدلها شيء، وأما الإسلام فأنا مسلم أينما كنت، ولو كنت في قبرس. وأما الحج فكل سنة يحج من الشرق قدر من يحج من عندكم مرات، وأما أمير علي، فأي امرأة بصقت فيها جاء منها أمير علي وأمير إبراهيم وأمير خليل.
ثم قال: هاتوا ما نأكل، فجاؤوا بزبدية خشب فيها لحم يخني، فأخذ منها قطعة وحطها على قباء كنجي زيتي عليه، وشرع يقطع منها ويأكل، ويغني بالتتري، يريني بذلك أنه قد دخل في زي التتار، وعيشهم.
ثم هرب وأمسك نائب حمص معه. فقال: يا خوند أيش هو ذنبي. فقال: مالك ذنب، وإنما معي حتى تفرق هؤلاء الحيال، يعني جند حمص ثم إنه أطلقه بعد ذلك.
وبعد هروبه بيومين ثلاثة - قلت أنا: الصحيح بعد أسبوع وأكثر - جاءت الأخبار بقتل السلطان لاجين وذبح مملوكه منكوتمر، فجهز إليه البريدي الذي وصل بهذا الخبر، وهو علاء الدين الدبيسي، فلحقه وأخبره، فما صدقه، وهم بقتله، ثم تركه ورده، واستمر قبجق حتى وصل إلى أردو القان غازان، فقبل وفادته، ولم يجد لديه طائل إكرام.
قال: وحكى لي شرف الدين راشد كاتب بكتمر السلاح دار، قال: إن غازان رتب له راتباً لا يليق بمثله، ثم إن غازان حشد للصيد وجمع حلقةً ما رئي مثلها، وضمت ما لا يحصى من الوحش.
وقال لأمرائه: حتى نبصر هؤلاء إن كانوا أقجية أو لا، فظن أنه يفضحهم.
ثم قالوا لقبجق: يا قبجق نحن قد شبعنا، وإنما عملناه ضيافة لكم، فنزل قبجق، وضرب له جوكا، ثم قال: بسعادة القان نتصيد، فعبرت بهم حمر وحشية، فأمر غازان بالرمي عليها.
فقال قبجق: أيش يشتهي القان يأكل لحمه من هذه الحمير. فقال له: هذا وهذا، وأشار إلى اثنين منهما أو ثلاثة أو أكثر، فساق قبجق وصهر له عليها، واتفقا على الرمي على مكان منهما.(2/182)
ثم حاذياها ورميا عليها، فلم يخطئا المكان حتى تلاقى نشابهما وتقاصف. وهكذا في كل رماياهم، ثم إنهما حملاها حتى رمياها بين يدي غازان. فلما رأي رميهما المتوارد على مكان واحد في كل رمية زاد توقيرهم في صدره، وقال إلي قبجق بك، ثم ألبسه قبعاً كان على رأسه، وألبس صهره بكلاً كان عليه، ثم أصغى إلى كلامهم، فحدثوه في أمر الشام، واتفق أن الملك المظفر صاحب ماردين كان قد تحدث في هذه الإغارة التي شملت بلاده، فخرج بهم غازان حتى أتى بلاد حمص، وكان الملك قد آل إلى الملك الناصر، وقد خرج إلى الملتقى.
قال: فحكى لي والدي قال: قال لي قبجق بعد عوده لما تلاقينا: نحن وأنتم تتعتع جيشنا، فهم غازان بالرجوع، وطلبني ليضرب عنقي قبل أن نرجع لكون خروجه كان برأيي، ففطنت لذلك فلما صرت بين يديه قال: أيش هذا؟ فضربت له جوكا، ثم قلت له: أنا أخبر بأصحابنا، وهم لهم فرد حملة، فالقان يصبر، ويبصر كيف ما يبقى قدامه منهم أحد، وكان الأمر كما قلت، وخلصت من يده، فلما انكسر تم أراد أن يسوق عليكم، فعلمت أنه متى فعل ذلك لم يبق منكم أحد، فقلت له: القان يصبر فإن هؤلاء أصحابنا أخباث، وربما يكون لهم كمين، وقد انهزموا مكيدة حتى نسوق خلفهم فيردوا علينا، ويطلع الكمين وراءنا، فوقف حتى أبعدتم عنا، فلولا أنا ما قتل منكم أحد، ولولا أنا ما بقي منكم أحد.
ولما جاء غازان ونزل بتل راهط، جعل الحكم لقبجق بدمشق، وكان فيه مغلوباً مع التتار لا يسمعون منه، وعلى هذا، فكان يداري ويدافع عن المسلمين بجهده ويباطن أرجواش في عدم تسليم القلعة.
ولما عزم غازان على العود، جعل إليه نيابة الشام، ولبكتمر السلاح دار نيابة حلب، ولألبكي نيابة السواحل كلها.
قال: ووقفت على نسخ تقاليد كتبت لهم على مصطلح ملوكنا، كتبت بخط جمال الدين بن المكرم، وكتب لقبجق فيها " الجناب العالي " ، وجعل زكريا بن الجلال وزيراً بالشام وحلب والسواحل عامة يتحدث في الأموال، وترك بولاي من عسكر التتار، ليكون ردءاً لهؤلاء النواب إلى أن يستخدموا لهم جنداً.
ثم لما بنت ببولاي الدار، شرع يراسل المصريين، وجهز الصاحب عز الدين بن القلانسي والشريف زين الدين رسلاً منه إليهم، واستعان بكتب كتبها محمد بن عيسى، إلى الأمراء بسببه.
فأما سلار فلان له جانبه. وأما الجاشكير فخشن عليها، ثم غلب عليه رأي سلار والأمراء الكبار. وقالوا: لو لم يكن إلا لأجل محمد بن عيسى، فإنه بالغ في أمره، وقام معه هذا القيام الذي ما بقي معه يمكن أن يتخلى عنه، وإن لم يؤووه أنتم آووه هم.
وأخذوا وجهاً عند غازان، وقالوا: عملنا هذا لأجلك، فأجمعوا على صلحه، ثم جعلوا مقامه بالشوبك لخاصة مماليكه على رزق جيد عين لهم.
ودام على هذا حتى كانت الواقعة الثانية نوبةً شقحف، فحضر وشهد يومها بمماليكه، وأبلى بلاءً حسناً لم يبل أحد بلاءه.
وسبق إلى الماء ليملكه، فوجد عليها فوجاً من التتار، فما زال يقاتلهم حتى زحزحهم، وملكه. فبات المسلمون يرتوون بالماء، وبات التتار يصلون بنار العطش، وكان ذلك من أكبر أسباب النصرة فرعي له هذا العمل.
ولما خلت حماه بعث إليها قبجق نائباً، وكان مثل مالكها.
حكى الصاحب أمين الدين، قال: طلبت يوماً إلى دار النيابة وسلار جالس وبيبرس إلى جانبه، فدخلت مسرعاً لكثرة الاستعجال، وليس معي منديل للحساب.
فقال لي سلار: أين كارتك، يعني مزرة الحساب، فقلت: هي مع العبد، فأمر بها، فأحضرت.
فقال: اكشف أي شيء مضمون التذكرة التي كتبت على حماة، قال: فكشفتها، وكانت قد كتبت تذكرة على حماة، وكتب فيها إلى قبجق فالجناب العالي يتقدم بكذا، والجناب العالي يفعل كذا.
فقال لي: يا سبحان الله نسيت ما عمله قبجق أمس ها تريد تغيظه، حتى يعمل النوبة أنحس من النوبة الأولى، هو طلع رقاصاً عندكم، حتى تقولوا له: اعمل كذا، افعل كذا ما يقنعكم، أنه قنع بحماة ويسكت عنكم، ثم أخرج كتاباً جاء منه، وهو يقول فيه بين أسطره: لا إله إلا الله، يا خوند يا خوشداش صرت مشد جهة عند الكتاب والدواوين أو والي بلد، إن كان هذا بمرسومك، فحاشاك منه، والموت أهون من هذا، وإن كان بمرسوم الدواوين، فتريد تعرف أن الدنيا سائبة وأنت تعرف أيش يترتب على هذا.(2/183)
قال: فقمت والله ما أبصر الطريق، فلما كنت في الدهليز لحقني نقيب فردني، فلما رآني، قال: لا تعودوا تذكرون حماة، واحسبوا أنها ما هي في الدنيا، قال: فوالله، ما عدنا مددنا فيها قلم.
ثم لم يزل فيها قبجق حتى جاء السلطان الملك الناصر من الكرك إلى دمشق آخر مرة تسلطن فيها، وجاءه قبجق من حماة وأسندمر من طرابلس معاً، وكانا قد اتعدا لمثل ذلك.
وخرج السلطان للقائهما بظاهر الميدان الصغير بدمشق، وترجل لهما وعانقهما. ولما ركب أمسك أسندمر له الركاب وعضده قبجق، ثم توجها معه إلى مصر، ولما استقر الملك بمصر بعث قبجق، وفي ظنه أنه نائب الشام. وأتى دمشق ونزل بالقصر الأبلق وهو ينتظر التقليد، فجاءه التقليد بحلب، فتوجه إلى حلب، وأقام بها نائباً إلى أن مات في التاريخ المذكور، وكان ما يحب إلا دمشق، وما يتمنى سواها، ففرقت الأيام بينها وبينه، وعكست مراده، وهذه عادتها القادرة، وشيمتها الغادرة.
قبلاي الأمير سيف الدين الناصري
ولي نيابة الكرك في الأيام الصالحية إسماعيل لما أخذت من أخيه الناصر أحمد، فأقام بها مدة، ثم طلب إلى مصر، وأقام إلى أن ولي الحجبة الصغرى مع الأمير سيف الدين أمير حاجب أيتمش الناصري، ثم إنه ولي الحجبة الكبرى، ولم يزل على ذلك إلى أن خلع السلطان الملك الناصر حسن، وتولى الملك الملك الصالح صالح، فولاه نيابة السلطنة بالديار المصرية عوضاً عن الأمير سيف الدين بيبغاتتر، وذلك في شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة ست وخمسين وسبع مئة.
الألقاب والأنساب
القبتوري: خلف بن عبد العزيز.
قتال السبع: اسمه آقوش.
قجا الأمير سيف الدين
مشد الخاص بزرع وإربد وطفس، ومشد مراكز البريد بالقبلية والشمالية، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق.
كان خبيراً نحريراً، ذكياً بصيرا، يعرف ما يباشره، ويعرف الرجل قبلها يعاشره، إلا أنه كان متشدداً في أموره، متجدداً في يقظته يخاف من نسبته إلى قصوره.
وكان لا يمكن رفيقه من الحديث، ولا يدعه يستريب ولا يستريث، وكان المباشرون معه في بوتقة حصر، وأبواعهم المديدة تشكو من القصر. لا ينخدع ولا ينصدع، ولا يرتد عن الشدة ولا يرتدع. فكان الكتاب وغيرهم يبيتون معه بليلة السليم، ويصبح كل منهم وهو غير سليم:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعةً ... بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
ولم يزل في جبروته يتشدد، وفي قسوته يتمرغ ويتمرد، إلى أن قصمت بالمنون عرى غروره وبات وليه في حزنه، وعدوه في سروره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة الأحد رابع شوال سنة ست وخمسين وسبع مئة، وقد تعدى الخمسين.
ومن الغريب أنه في بلاد الساحل بغزة قد توجه للقسم وأرجف بأنه مات. وكان ذلك في شعبان، وأظنه بلغه الخبر، فنجز أشغاله، وحضر إلى دمشق، ورأى الناس نفسه وما به قلبه. ثم إنه توجه لقبض مغل زرع، فأرجف بموته، فحضر في آخريات رمضان وهو متوعك، وركب وجاء لدار السعادة في ليالي العيد، وهو يتجلد، ويري أنه ممن يخلد:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
فأقام على حاله بعد ذلك، وتوفي سامحه الله...
وأول أمره كان من جملة البريدية، وكان فيه حذق ومعرفة وخبرة، فجهز الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - بمشافهة فيها قوة وغلظة، إلى الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب، فبلغه المشافهة بعبارة فجة مؤلمة، فبقيت في قلب ألطنبغا.
ولما جاء نائب الشام أراد أذاه، فقطع خبزه وتهدده، وكان قجا رجلاً فسعى في إصلاح أمره، وسكنت القضية.
ولم يزل على حاله في جملة البريدية، إلى أن جاءت واقعة بيبغاروس، فاحتاج الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى المطالعة بأمره، فكتب مطالعة، واستنجد بالمصريين في سرعة إنجاده، وندب سيف الدين قجا في التوجه بالمطالعة، فتوجه بها، وكان ذلك مهماً كبيراً، فجاء قجا وقد أعطي إمرة عشرة، ثم إنه أخذ تقدمة البريدية وأخذ في الترامي إلى الأمير سيف الدين صرغتمش، والانتماء إليه.(2/184)
فلما كان السلطان الملك الصالح صالح بدمشق أعطي طبلخاناه، وتحدث في أمر شد زرع وطفس وإربد، ثم إنه توجه في أواخر سنة خمس وخمسين وسبع مئة إلى مصر وأثبت محاضر بوقفيه زرع وطفس وإربد، وأنه هو مشدها، وأبطل من كان فيها مباشراً، واستخدم غيرهم.
وزادت عظمته ووجاهته، وتسلطه إلى أن مات - رحمه الله تعالى - في وسط عزه.
وكتبت له توقيعاً بتقدمة البريدية عوضاً عن ناصر الدين محمد بن القرايلي، لما توفي إلى رحمة الله تعالى، في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، ارتجالاً من رأس القلم وهو: " أما بعد حمد الله على نعمه التي جردت من أولياء هذه الدولة القاهرة سيفا، ومنعت بجده جنفاً من الأيام التي زادت خطباً وحيفا، وجمعت بمضائه من المصالح ما كانت الأطماع لا تؤمل أن تراه طيفا، وصلاته على سيدنا محمد، وآله وصحبه الذين نصروا حزبه، وتظاهروا على قمع عداه، فحازوا من المعالي أرفع رتبه، وتضافروا على اتباع هداه، فلم يكن بين الكواكب وبينهم نسبه، صلاةً يملأ البر بريدها، ويكاثر موج البحر عديدها، ما تقعقع من البريد لجام، وزعزع من المهمات ريح تثير السحب السجام، وسلامه إلى يوم الدين.
فإن أولى من غدق به أمر البريد المنصور، وأضيفت إليه أمر التقدمة على فرسانه الذين يسابقون البروق اللامعة في الديجور، من قدمت خدمته في الدولة القاهرة، وساق في مهماته الشريفة، فشخصت لسيره، وسراه عيون النجوم الزاهره، وقطع المسافة في وقت تقصر عنه فيها الطيور الطائرة، كم تألق برق دجنة فسبقه في شق جيب الظلام، وأتى في مهم فبلغ الغاية قبل وصول خبره على أجنحة الحمام.
يكاد من السرعة يأتي، وما جف ختم كتابه، ولا ارتسم ظله على الأرض، ولا اعتقل الخيال بركابه، وتحمل من أسرار الملوك مشافهات لم يبدها من القلم لسان، وأدى فيها الأمانة التي لم تحملها الجبال وحملها الإنسان.
وكان المجلس السامي الأميري السيفي قجا الصالحي، هو الذي تضمنته هذه الإشارة، ومن ربا ذكره نفح عبير هذه العباره. وعلى شخصه دلت هذه الأدلة، وعليه وقع اختيار هذه الإماره. فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الصالحي أن يرتب مقدماً على جماعة البريدية الشاميين عوضاً عمن كان بها على عادة ابن الفراء، لما كان أمير عشرة، لأنه نصل تجرع العدو منه الغصة لما تجرد، وأصل تفرع بالمحاسن وبالمزايا تفرد، قد عرف الأيام وخبرها، ودرب الأمور ودبرها، وقطع مفاوز المباشرات وعبرها.
فليباشر ذلك مباشرة من مارس هذه الوظيفة طول عمره ولم يركن إلى زيد الزمان ولا عمره، وليرتب الجماعة نوباً يتدالون الخدمة، ويختر لكل شغل بريدياً يكون في ذلك المهم عالي الهمة، ويعامل باللطف كبيرهم، وصغيرهم، ويبذل البشر إذا رأى جليلهم ولا يعرف الناس حقيرهم. حتى يعترف الجميع بفضله الجليل الجلي، ويقولوا إن القرايلي ما يلي، وتعود أيامهم بيضاً بعدما سجا الدجا، ويقول أحدهم: ذهب ناصرنا، فجاء قجا، يعمر أرجاء الرجا، والوصايا كثيرة وتقوى الله تعالى عمدة إن ازدجر، وعمل للآخرة وادكر، وخاف من سفر ينتهي به إما إلى جنة عدن، وإما إلى سقر.
فلا يصحب غيرها خليلا، ولا يلمح من سواها وجهاً جميلا، والله يعلي درجته، ويحرس مهجته، والخط الكريم أعلاه، حجه في العمل بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
قجليس
الأمير سيف الدين الناصري السلاح دار.
كان خيراً، لطيفا، حسن العشرة ظريفا، يحب العلماء ويؤثرهم، ويتعصب لهم وينصرهم، ويخلص بجاهه لهم المناصب، ويدفع عنهم كل عذاب واصب.
إلا أن أستاذه الملك الناصر يقذف به في كل هوه، ويعتمد عليه في كل واقعة مرجوه، فما أمسك في الشام أمير إلا على يده، ولا كسف قمر منبر إلا بتتبع رصده، فكان إذا سمع الناس بخروجه من مصر تزلزلت أقدامهم، تحققوا أنه متى وصل تحتم إعدامهم.
وكان من كبار الخواص عند أستاذه المقربين، وأمراء الألوف الذي أصبحوا على وفق مراده مجربين.
ولم يزل على حاله إلى أن سقي بكأس سقي به سواه وضمه قبره وحواه.
وتوفي - رحمه الله تعالى في نصف صفر ليلة الثلاثاء، سنة إحدة وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.
وكان عارفاً بعلم المواقيت يضع الأسطرلابات والأرباع والرخامات المليحة، ويتقنها، ويعرف عدة صنائع، وعنده آلاتها المليحة الفائقة الظريفة.(2/185)
واقتنى من المجلدات النفيسة شيئاً كثيراً إلى الغاية. وكان الفضلاء يترددون إليه خصوصاً أرباب المعقول، كان يتردد إليه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني، وله عنده مملوك بإقطاع جعله أستاذ داره. ويتردد إليه شرف الدين بن مختار الحنفي وغيرهما من الفقهاء وغيرهم.
وكان جميل المودة، حسن الصحبة لطيفاً ظريفاً، حسن العشرة، ولكنه له سمعة في الشام سيئة لما ذكرته من أن السلطان يندبه في المهمات وثوقاً بعقله.
وكانت طبلخانته في القاهرة ما لأحد مثلها، لأنه اعتنى بصناعها وانتقاهم، وأحضر بعضهم من البلاد.
وكان قد تزوج ابنة الأمير سيف الدين الملك، كان يقال: إنه في القاهرة ليس لها نظير، وكان يحبها محبة مفرطة، وينفق عليها نفقة عظيمة إلى الغاية، ولا تنقطع الأغاني من داره ليلاً ولا نهاراً من الجواري المطربات الفائقات. فكانت إذا دخلت إلى الطهارة وخرجت تلقينها وزفينها، وكذلك إذا أرادت النوم مع زوجها يعملن لها زفة.
وأخذت يوماً منه إذناً لتنزل إلى المنظرة التي له على البحر مدة ثمانية أيام، فأعطاها لكل يوم مبلغ ألفي درهم، وأباعت هي من قماشها شيئاً بعشرة آلاف درهم، وطلعت إلى القلعة قبل الميعاد بيومين، وقالت: فرغت النفقة.
ولما مات - رحمه الله تعالى - ما انتفع بها أحد بعده، لأنه حصل لها مرض سوداوي، وتوفيت - رحمها الله تعالى - .
اللقب والنسب
القحفازي: الشيخ نجم الدين، علي بن داود.
القدسي: علاء الدين الشافعي علي بن أيوب. وشرف الدين محمد بن موسى.
ابن قدس: محمد بن أحمد.
قدودار الأمير سيف الدين
متولي القاهرة، ولاه السلطان الملك الناصر محمد القاهرة، بعد الأمير علم الدين سنجر الخازن في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة، فوليها وأحسن إلى الناس أول ولايته، ولم يزل فيها إلى أن توجه إلى الحجاز فحج وجاء.
توفي - رحمه الله تعالى - سادس عشرة صفر سنة ثلاثين وسبع مئة.
قرابغا، الأمير سيف الدين
قرابغا دوادار الأمير سيف الدين أرغون شاه.
لم نر ولم نسمع بداودار كانت له منزلة هذا عند أستاذه، على أنه كان قد قاسى منه شدائد في أول أمره ثم سخره - الله تعالى - له أخيراً.
كان لا يخالفه فيما يراه، ولا يخفي عنه ما ألم به في باطنه أو اعتراه. وكانت آراؤه عليه مباركه، وليس له فيها مع أحد مشاركه، قد تحقق نصحه ومحبته، وتيقن خبرته بحاله ودربته، فقوله عنده، قول حذام وأمره على كل حال لزام، وثور نعمه طائله، وسعادة هائله، في مدة يسيرة جداً، ووقت كأنه زمن الورد إذا رد وتردى. هذا مع أنه كان لا يعرف باللسان العربي كلمة واحدة، ولا درى ما اللفظة الفائتة من الفائدة.
ولكن اختطف من وسط هذه السعاده، واقتطف من روض هذه السياده، وخلت منه الديار، وشط منه المزار.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الاثنين حادي عشري شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة. ودفن في تربة زوجه كسباي عند دار الأمير شمس الدين حمزة التركماني بالقبيبات.
أخبرني القاضي ناصر الدين كاتب السر بالشام، قال: لم أدخل على هذا أرغون شاه قط فرأيته جالساً قدامه، بل إلى جانبه، ولا رأيته يتحدث هو وأستاذه، وعنده مملوك آخر، انتهى.
وكان يرجع إلى قوله ومهما أشار به فهو الذي يكون والعمل عليه، ولم يكن مشترى ماله بل السلطان الملك الناصر وهبه له على عادة إنعاماته، وزوجه بجاريته كسباي، وهي أعز جواريه، وأحظاهن عنده.
وكان بعد ذلك لا يصبر أستاذها عنها، ولما خرج معه إلى صفد، أعطي إمرة عشرة، ولما توجه إلى مصر وأعطي نيابة حلب أعطي قرابغا إمرة طبلخاناه.
ولما حضر إلى دمشق أعطاه أستاذه من عنده زيادة على إقطاع الطبلخاناه قرية بيت جن، وهي تعمل مئة ألف درهم، وأعطاه في كل سنة مئتي ألف درهم، غير الذي ينعم به على الدوام والاستمرار من الخيل والذهب والقماش.
مرضت زوجه كسباي المذكورة في أيام الطاعون وبصقت دماً وماتت في اليوم الثالث، ودفنت في تربة أنشأها لها في جمعة، فدفنت في يوم الخميس سادس عشر شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ثم إنه مات ابنها ودايته بعدها بيومين. ثم إنه هو بصق دماً، ومات يوم الاثنين في التاريخ، فلحقهما بعد خمسة أيام وحمل من دار حمزة إلى باب النصير، وخرج أستاذه وصلى عليه مع الأمراء والقضاة، والناس ولم يتبعه أستاذه - رحمهما الله تعالى - .(2/186)
وكان لي ربيب يدعى مراد، يحمل دواتي فوصف له، فدخل إلى قاعة الإنشاء، وأخذه بيده وراح وسلمه إلى طواشي أرغون شاه. وقال: هذا مملوك ملك الأمراء، فكتبت إلى القاضي ناصر الدين صاحب ديوان الإنشاء في هذا:
يا سيداً صرت ظل جنابه ... لي جنة إن جاد دهري أو بغا
أترى الزمان معاندي ومحاربي ... حتى رماني في الورى بقرابغا
قرابغا، الأمير سيف الدين
ابن أخت الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام.
حضر معه إلى دمشق، وكان في مصر من جملة السلاح دارية للسلطان الملك الناصر حسن، وكان خاله، قد قال له في مصر: يا قرابغا، إن كنت تجيء معي على أنك ابن أختي تشفع وتتكلم فيما لا يعنيك، فلا تجيء، وإن كنت جئت كأنك أجنبي لا يكون لك في شيء كلام، فتعال. فحضر معه، وأقام قليلاً، ورتب له في كل يوم مبلغ خمسين درهماً، إلى أن انحلت طبلخاناه، فأخذها وكان لا يجسر أن يتحدث مع خاله في شيء، وإنما كان الناس يخدمونه لأجل الصورة الظاهرة.
وكان أسمر طوالاً غليظاً، إلا أنه أرق من نسيم، وألطف من كأس تسنيم، حسن الأخلاق، يتصف بما راق، وما لاق، ويسجع على عوده كأنه الورقاء بين الأوراق، نادم جماعة من أهل دمشق وأجمعوا على لطفه، وجنوا ثمار الإحسان من عطفه، ولما توجه خاله إلى نيابة طرابلس توجه معه، ولم يحل عن تلك الحال، ولا ذاك الصنع الذي صنعه.
ولما توفي خاله - رحمه الله تعالى - توجه إلى مصر فأقام بها، إلى أن اضمحل وتلاشى، وأصبح على نار المنية فراشا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ...
قراجا بن دلغادر
بدال مهملة، ولام ساكنة، وغين معجمة وبعدها ألف ودال مهملة وراء: الأمير زين الدين النائب بالأبلستين.
كان من أمراء التركمان، وارتمى إلى الأمير سيف الدين تنكز وانتمى إليه، فأقامه وأحبه وعظمه، وكان ميله إليه أحد الأمور التي نقمها السلطان على تنكز لأنه كان يراجعه في أمره كثيراً، ويقول له: اعزله عن الأبلستين، فيراجعه في أمره، لأن ابن دلغادر كان الواقع بينه وبين الأمير أرتنا حاكم البلاد الرومية.
ولما هرب الأمير سيف الدين طشتمر، حمص أخضر نائب حلب المحروسة توجه إليه، واستجار به فآواه، وأقام عنده إلى أن انتصر الناصر أحمد على قوصون، وطلب طشتمر، فحضر من البلاد الرومية وابن دلغادر معه، وتوجه معه إلى مصر، وما صدق بالخروج من القاهرة، ورأى نفسه قد عدى حلب وقويت نفسه عليه من ذلك الوقت ووقع بينه وبين الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نائب حلب، وتواقعا وانتصر ابن دلغادر عليه.
ولما جاء الأمير سيف الدين أرغون شاه إلى حلب نائباً دخل معه، وكان يكاتبه دائماً ويهاديه ولما قدم دمشق استمر الود بينهما، وأخذ لابنه الأمير صارم الدين طبلخاناه بدمشق، وكانت بيده، وهو عند والده.
ولما وصل الأمير سيف الدين بيبغاروس إلى حلب وأراد الخروج على السلطان الملك الصالح صالح، راسله واتفق معه، وحضر معه في تركمانه إلى دمشق، وتسيب تركمانه يفسدون في الأرض، ويعبثون فنهبوا الأموال، وافتضوا الفروج، وسبوا الحريم، وسفكوا الدماء، واعتمدوا ما لا يعتمد الكفار في الإسلام.
ثم إنه لما تحقق خروج السلطان الملك الصالح، ووصوله إلى لد خامر على بيبغاروس، وتوجه على البقاع إلى بلاده، وساق قدامه ما وجده للناس من خيول. فأخذ لأهل صفد جشاراً فيه أكثر من خمس مئة فرس.(2/187)
ولما هرب بيبغاروس وأحمد وبكلمش وغيرهم، توجهوا إليه إلى الأبلستين فتقرب بإمساكهم، وجهز أولاً أحمد وبكلمش إلى حلب، ثم أمسك بيبغاروس من الأبلستين وجهزه إلى حلب، فجرى ما جرى، على ما هو مذكور في تراجمهم، ثم إن الأمير سيف الدين شيخو، والأمير سيف الدين طاز قاما في أمره قياماً عظيماً، وجهزا الأمير عز الدين طقطاي الدوادار إلى الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب حلب وصمما عليه. وقالا: لا بد من الخروج إليه بالعساكر، وخراب أبلستين، فتوجه بما معه من العساكر الحلبية وغيرهم من عساكر الثغور، ووصلوا إلى الأبلستين، وقاست العساكر شدائد عظيمة، وأهوالاً فنيت فيها خيولهم وجمالهم، ومشوا على أرجلهم في عدة أماكن، ووجدوا أهوالاً صعبة، وهرب منهم خلق فخرب الأبلستين وحرقها وخرب قراها، وتبعه بالعساكر إلى قريب قيصرية، وأحاطت به العساكر من هنا، وعساكر ابن أرتنا من هناك، فأمسكه قطلوشاه من أمراء المغول بالروم، وجهزه إلى ابن أرتنا.
وكتب نائب حلب إلى ابن أرتنا يطلبه، فدافعه من وقت إلى وقت إلى أن بعثه في الآخر مقيداً.
ودخل إلى حلب يوم السبت ثاني عشري شعبان سنة أربع وخمسين وسبع مئة. فثقل النائب قيوده وأغلاله واعتقله بقلعة حلب، وجهز سيفه إلى السلطان صحبة مملوكه علاء الدين طيبغا المقدم.
ولما كان يوم الاثنين خامس عشر شهر رمضان، وصل إلى دمشق وجهز إلى مصر صحبة عسكر يوصله إلى غزة. ووصل إلى مصر فأقام في الاعتقال مدة، ثم إنه وسط وعلق على باب زويلة قطعتين ثلاثة أيام، وذلك في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وسبع مئة. فسبحان مبيد الجبارين.
وكنت قد قلت لما أمسك ابن دلغادر أحمد وبكلمش وبيبغاروس وحضرهم إلى حلب، وذلك موالياً:
قد جيت في الغدر زايد با بن دلغادر ... وما تركت لفعلك في الورى عاذر
وخنت من آمنك وانقاد لك صاغر ... سودت وجهك في الأول وفي الآخر
ولما كان بيبغاروس على دمشق وتوجهنا نحن مع النائب بالشام الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى لد وأقمنا بها زائداً عن أربعين يوماً، وفي كل يوم نسمع من الأخبار ما ينكد عيشنا من جهة أهل دمشق وأهلنا وأولادنا، جاءني من القاضي شرف الدين حسين بن ريان كتاب قبل خروجي من دمشق، فلما عدت من لد كتبت جوابه، وجاء منه: " وحاول المملوك الجواب فجاءت هذه العوائق التي ما احتسبت والحوادث التي لم تكن كيوم القيامة، فإن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت، يا مولانا: هذه مصائب عمت وطمت وصرحت بالشر وما عمت، وقيدت إليها الأهوال وزمت ودعت الجفلى إلى مآدبها وأصم المسامع نعي نوادبها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قول من ضاقت به حيلته، واتسعت عليه بالهموم ليلته:
وكان ما كان مما كنت أذكره ... فظن شراً ولا تسأل عن الخبر
ونسأل الله تعالى حسن الخاتمة، وفجر هذه الليلة العاتمه، فقد بلغت القلوب الحناجر، وحزت الغلاصم بالخناجر، وكسرت براني الصبر، وحسد من امتطى ظهر الأرض من استكن في جوانح القبر، وهذه رزية شموس التثبت بها كاسفه، وليس لها من دون الله كاشفه، اللهم اكشف هذه البلية عن البريه، ولق النفوس الظالمة ووق البريه، وأجرنا على عادة وعجل فك أسرنا بأسرنا، إنك بالإجابة جدير، وعلى كشف هذه اللأواء قدير " .
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك نظماً ونثراً مطولاً، وكتبت أنا جوابه نظماً ونثراً مطولاً، وهما في الجزء الرابع والثلاثين من التذكرة التي لي.
قرا أرسلان
الأمير الكبير بهاء الدين المنصوري، أحد الأمراء المقدمين الكبار بدمشق، كان مليح الصورة، تام الخلق، سميناً، شجاعاً.
لما هرب الأمير سيف الدين قبجق إلى بلاد التتار أمر هو ونهى، وحج بالناس.
توفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة، ودفن بمقابر باب توما، في يوم الأربعاء مستهل جمادى الأولى من السنة المذكورة.
قرا سنقر
الأمير الكبير شمس الدين أبو محمد الجوكندار المنصوري، من كبار الأمراء وأجل مماليك البيت المنصوري، اشتراه الملك المنصور في زمان الإمرة قبل أن تطير سمعته ويظهر اسمه.(2/188)
وكان من رجالات العالم ودهاتهم، وممن إذا قصده عداه وقف كالشجى في لهاتهم، كثير العزم، كبير الحزم، لا يثق بمن يداهنه أو يداهيه، ولا يصبر لمن يظاهره أو يضاهيه، قد حلب الدهر أشطره، وعلم المخزية من الأمور والمأثرة:
يروعه السرار بكل شيء ... مخافة أن يكون به السرار
عاداه جماعة من الأكابر وربطوا عليه المخالص والمضائق والمعابر، ولم يظفرهم الله تعالى منه بمقصود.
ولم يزل زرعه قائماً غير محصود، ودفن من أعاديه جمله، وفرق بمكائده من حزبهم شمله، بطرق خفية المسارب، دقيقة المسالك بعيدة المرامي والمضارب.
ترك المال والوطن والولد، ونزع من عنقه مأنة الصبر والجلد، وألقى حمل الاحتمال عن الكبد، ولم يرض أن يكون ثالث الأذلين العير والوتد، وأخذ في النجا بسنة النبي عليه السلام فنجا برأس طمرة ولجام، ودخل بلاد التتار، وخلى من تطلبه كما يقال على برد الديار، فأخذ البريد بسببه في قعقعة لجمه والبر يضيق عن الجيش وحجمه، والقصاد تروح وتغدو ناكصةً على أعقابها، والفداوية تفد عليه ولكن يدوس على رقابها:
إلى كم ترد الرسل عما أتوا له ... كأنهم فيما سمعت ملام
لهم عنك بالبيض الخفاف تفرق ... وحولك بالكتب اللطاف زحام
وكادت خزائن مصر فيه يسكنها الغراب الأبقع، وبلد مصياف تعود وهي خراب بلقع، هذا والسلطان لا يني عزمه، ولا يثنى حزمه، بل البريد في أثر البريد، والقاصد في عقد القاصد فيما يريد، وغلب سعادة مثل الملك الناصر في احترازه وتوقيه ورد سهامه بتزفعة عنها وترقيه، إلى أن مات حتف أنفه من غير نجاح، أمر، وكاد يقول: بيدي لا بيد عمرو:
وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
وتوفي رحمه الله تعالى في مراغة في شوال سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
كان الأمير شمس الدين قراسنقر لما اشتراه المنصور وهو أمير جعله أوشاقياً، ثم إنه ترقى وعرف عنده من صغره بحسن التأني في الأمور والتحيل لبلوغ الغرض. وهو من أقران طرنطاي وكتبغا والشجاعي وتلك الطبقة، وكان أسعد منهم، لأنه عاصرهم وقاسمهم سعادة أيامهم، وعمر بعدها العمر الطويل متنقلاً في النيابات الكبار، فأناس كثيرون يعتقدون أنه من قارا النبك، وليس بصحيح، بل هم جهاركس استنابه الملك المنصور في حلب، وتتبعه طرنطاي ونصب له الحبائل، وسلط الحلبيين عليه فشكوا منه، وأخذ يحسن للمنصور عزله، ولم يزل يعبث به إلى أن أمره بالكشف عليه، فأتى حلب بنفسه وكشف عليه، ولم يظفر منه بمراد.
ثم إن الوزير ابن السلعوس أغرى به الأشرف وفطن له قراسنقر، فلم يزل يتلافى أمر نفسه ويرفع حاله بنفائس الأموال وكرائم الذخائر إلى أن سكن غيظ الأشرف عنه واستمر به.
ثم إن ابن السلعوس لم ينم عنه حتى عزله من حلب وولى الطباخي عوضه، ونقل قراسنقر إلى أمراء مصر وتقرب إلى الأشرف وخواصه بكل نفيس، إلى أن ندم الأشرف على عزله، فقال له: حلب الآن انفصل أمرها، ولكن سل حاجتك، فقبل الأرض وقال: نظرة من وجه السلطان أحب إلي من حلب وما فيها، ولكن أسأل أن أكون أمير جاندار، لأنني أرى وجه مولانا السلطان، وإذا جاء ذاك الرجل أقول له يتصدق مولانا ويقعد، فإن السلطان في هذا الوقت مشغول، يعني بذاك الرجل الوزير ابن السلعوس، فضحك السلطان ومزح معه في هذا، وقال له: هذا بس، قال: يا خوند يكفيني، وهذا ما هو قليل. واستمر أمير جاندار، وحجب ابن السلعوس مرات من الدخول إلى السلطان، وابن السلعوس يتلظى عليه، وقراسنقر يعمل مع الأمراء الأشرفية عليه إلى أن فعلوا تلك الفعلة.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: حكى لي أينبك مملوك بيسري قال: خرجنا مع الأشرف إلى جهة تروجة، فقدم للسلطان لبن ورقاق، وهو سائر، فنزل يأكل، وكان أستاذي بيسري ولاجين قراسنقر قد نزلوا جملة على جانب الطريق، فبعث الأشرف إليهم بقصعة من ذلك اللبن وقد سمها، فقال بيسري: فؤادي يمغسني، ما أقدر آكل لبناً على الريق، فقال: لاجين: أنا صائم، فقال قراسنقر: دس الله هذا اللبن في كذا وكذا ممن بعثه، نحن نأكله؟ ثم أخذ منه، وأطعم كلباً كان هناك، فمات لوقته فقال: أبصروا أيش كان، يريد يزقمنا.(2/189)
ثم قاموا على كلمة واحدة واتفاق واحد في نجاز ما كانوا بنوا عليه، إلى أن كان ما كان، ولم يباشر قراسنقر قتله، ولما قتل نزل إليه ونزع خاتمه من يده وأخذ حياصته بيده، وفعل به ما تقتضيه شماته المشتفي، ثم إنه اختفى هو ولاجين في بيت كتبغا، وكان ينادي عليهما ويتطلبهما وهما عنده. ولما تسلطن كتبغا أخرجهما وأمرهما، وعظم شأنهما.
ثم إن قراسنقر ناب للاجين لما تسلطن نيابةً عامة، وأورد الأمور وأصدرها برأيه، فعز على منكوتمر، ولم يزل به حتى أمسكه واعتقله في نصف ذي القعدة سنة ست وتسعين وست مئة، ومعه جماعة من الأمراء. وعمل منكوتمر النيابة عوض قراسنقر، وتحدث القاضي شرف الدين بن فضل الله معه في أمره، فقال له: يا شرف الدين، أنا أمسكه، ووالله ما أؤذيه، فقال له: يا خوند، أروح إليه وأعرفه هذا، فقال: روح إليه، فلما عرف قراسنقر ذلك بكى وقال: والله ما كنت أموت وأعيش إلا عليه، فعاد إلى لاجين وعرفه ذلك، فقال: يا شرف الدين هات المصحف، فحلف عليه أنه ما يؤذيه، ولا يمكن أحداً من أذيته، فعاد إليه وعرفه ذلك، فقال: يا شرف الدين، الآن طاب الحبس.
ولما قتل لاجين، وجلس السلطان الملك الناصر في المرة الثانية أطلقه وأعطاه الصبيبة، فبقي فيها مديدة، ونقل إلى نيابة حماة بعد العادل.
ولما مات الطباخي في حلب نقل قراسنقر إلى نيابة حلب، وأعطيت حماة لقبجق.
ولم يزل قراسنقر في حماة نائباً إلى أن حضر السلطان الملك الناصر محمد من الكرك إلى دمشق في شهر رمضان سنة تسع وسبع مئة، فحضر إليه، وركب السلطان وتلقاه وترجل له وعانقه وقبل صدره، والتقيا بالميدان الكبير، وبه استتم أمره واستبب له الملك.
وكان ابنه ناصر الدين محمد هو الذي استمال أباه قراسنقر، فشعر بذلك المظفر، فيقال: إنه سمه. وأخذ قراسنقر في تدبير الملك والسلطان تبع فيما يراه، ووعده بكفالة الممالك والنيابة العامة بمصر. ولما وصل إلى مصر وجلس على تخت الملك قال له: الشام بعيد عني وما يضبطه غيرك، فأخرجه لنيابة دمشق وقال له: هذا الجاشنكير خارج إلى صهيون، فأمسكه واحضر به لنتفق على المصلحة، فاجتهد على إمساكه، ولما وصل إلى الصالحية أتاه أسندمر كرجي، فأخذه منه وأعاده إلى الشام، ووصل إلى دمشق ودخلها يوم الاثنين خامس عشري القعدة سنة تسع وسبع مئة، ونزل بالقصر الأبلق وقد نفض يده من طاعة السلطان، غير أنه حمل الأمر على ظاهره ولم يفسد السلطان بكشف باطنه، وأقام بدمشق على أوفاز، فما حل بها أحمالاً، ولا خزن غلة، ولا تقيد فيها بشيء، وأخذ أمره فيها بالحزم، فجعل له مماليك بطفس، ومماليك بالصنمين، وعيناً ببيسان، وإذا وصل من مصر أحد بطقوا إليه من بيسان، وإذا وصل الواصل إلى طفس تلقاه نواب قراسنقر ومماليكه، وقدموا له ما يأكل وما يشرب، وإذا أتى إلى الصنمين فعلوا به كذلك، ويشغلونه بالأكل والشرب والتكبيس إلى أن يبلغ الخبر قراسنقر وخيله وهجنه كلها محصلة لما يريد يفعله، وإذا ركب من الصنمين ركب معه من مماليك قراسنقر من يوصله إلى قراسنقر بجميع من معه من مماليك وأتباع وسواقين حتى لا ينفرد أحد، ويكون معه ملطفات أو كتب أو مشافهات، فيتوجه بها، ثم إن قراسنقر ينزل الذي حضر من مصر هو وكل من معه عنده، ولا يدعه يجد محيصاً. فلما أتاه الأمير سيف الدين أرغون الدوادار وأنزله عنده ولم يمكنه من الخروج خطوة واحدة، وأنزل مماليكه عند مماليكه، وكان عنده كأنه تحت الترسيم، وفتح أجربتهم، وفتق نمازنيات سروجهم، فوجد فيها الملطفات بإمساكه، فأعادها إلى مكانها، وطاوله إلى أن نجز حاله، وهو لا يظهر شيئاً مما فهم منه، وغالطه بالبسط والانشراح.
قال الصاحب عز الدين بن القلانسي: أتيت إلى قراسنقر، وهو يأنس بي، وقلت له: ما هذا الذي أسمعه؟ فقال: اصبر حتى أفرجك، ثم قال لأرغون: بأي شيء غويتم أنتم؟ فإن نحن كنا في بيت المنصور غاوين بالعلاج والصراع، وحدثه في مثل هذا، فقال أرغون: ونحن هكذا، فقال: أيش تعمل؟ قال: أصارع، فأحضر قراسنقر مصارعين تصارعوا قدامه، ولم يزل به حتى قام أرغون وصارع قدامه فبقي قراسنقر يتطلع إلي ويقول: يا مولانا، أبصر من جاء يمسكني. انتهى.(2/190)
وفهم بيبرس العلائي الحال من غير أن يقال له، فركب على سبيل الاحتياط على أنه يمسكه، فبعث يقول له: إن كان جاءك مرسوم خلني، وإلا أنا أركب وأقاتل، إما أنتصر، أو أقتل، أو أهرب ويكون عذري قائماً عند أستاذي، وأبعث أقول له: أنت الذي هربتني، فتخيل بيبرس العلائي وراح إلى بيته.
وكانت نيابة حلب قد خلت، وقد بعث السلطان مع أرغون تقليداً وفيه اسم النائب خالياً، وقال له: تصرف في هذه النيابة، وعينها لمن تختاره، فهي لك إن اشتهيت تأخذها، وإن أردتها لغيرك فهي له. وكان في تلك المدة كلها يبعث قراسنقر إلى السلطان ويقول: يا خوند، أنا قد ثقل جناحي، في حلب بكثرة علائقي بها وعلائقي مماليكي، ولو تصدق السلطان بها علي رحت إليها.
فلما كان من بيبرس العلائي ما كان قال لأرغون: أنا قد استخرت الله - تعالى - ، وأنا رائح إلى حلب، ثم قام وركب ملبساً تحت الثياب من وقته، وركب مماليكه معه، وخرج في يوم الأحد ثالث المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة إلى حلب، وأرغون معه إلى جانبه وما يفارقه، والمماليك حولهما لا يمكنون الأمراء من الدخول إليه ولا التسليم عليه، وخرج - كما يقال - على حمية إلى حلب في يوم الأحد ثالث المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وأقام بحلب وهو على خوف شديد. ثم إنه طلب دستوراً للحج.
فلما كان بزيزاء أتته رسل السلطان تأمره بأن يأتي الكرك ليأخذ منها ما أعده السلطان له هناك من الإقامات، فزاد تخيله، وكثر تردد الرسل عليه في هذا، فعظم توهمه، وركب لوقته وقال: أنا ما بقيت أحج، ورمى هو وجماعته ما لا يحصى من الزاد، وأخذ مشرقاً يقطع عرض السماوة حتى أتى مهنا بن عيسى ونزل عليه واستجار به. وأتى حلب فوقف بظاهرها حتى أخرجت مماليكه ما كان لهم في حلب، مما أمكنهم حمله بعدما مانعه الأمير شهاب الدين قرطاي من ذلك، فإنه ركب في الجيش، ولكنه لم يقدر على مدافعة مهنا.
ولم يزل يكاتب الأفرم والزردكاش، ومهنا يستعطف لهم خاطر السلطان على أن يعطي الأفرم الرحبة، والزردكاش بهسنى، وقراسنقر البيرة، والسلطان يقول: بل الصبيبة، وعجلون، والصلت. فهموا بالمقام مع العرب، وعملوا على هذا، وتهيؤوا لإزاحة العذر فيه، فلما طالت المدة ضاقت أعطانهم وأعطان مماليكهم أكثر؛ لأنه ما يلائم العرب صحبة الأتراك وقشف البادية وخشونة عيشها، وشرعوا في الهرب فخاف قراسنقر من الوحدة، فقال لمهنا في هذا، فقال: أنا كنت أريد الحديث معك في هذا، ولكن خشيت أن تظن بي أنني استثقلت بكم، لا والله، ولكن أنتم ما تضمكم إلا الحاضرة والمدن، وهذا قد تخبث لكم، وأنتم قد تخبثتم له، وما بقي إلا ملك الشرق - يعني خربندا - وهو كما أسمع ملك كريم محسن إلى من يجيئه ويقصده، فدعوني أكتب إليه بسببكم. فوافقوه على هذا، فكتب لهم، فعاد جواب خربندا بأن يجهزهم إليه ويعدهم بالإحسان، فتوجهوا إليه، فوجدوا منه ما أنساهم مصيبتهم، وسلاهم عن بلادهم، وكان وصولهم إلى ماردين في أواخر شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، فتلقاهم صاحبها، وحمل إليهم بأمر خربندا ستين ألف درهم وفي كل يوم مئة مكوك شعيراً وخمسين رأساً من الغنم، وأقاموا عنده في بستان مدة تسعة أيام، وتوجهوا إلى خربندا.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: حكى لي شيخنا شمس الدين محمود الأصفهاني قال: لما جاؤوا أمر السلطان خربندا للوزير أن يبصر كم كان لكل واحد منهم من مبلغ الإقطاع ليعطيهم نظيره، فأعطاهم على هذا الحكم، فأعطى قراسنقر مراغة، وأعطى الأفرم همذان، وأعطى الزردكاش نهاوند، وتفقدهم بالإنعامات حتى غمرهم.
وقال: لقد كنت حاضراً يوم وصولهم، واختبرهم في الحديث، وقال عن قراسنقر: هذا أرجحهم عقلاً؛ لأنه قال لكل واحد منهم: أيش تريد، فقال شيئاً، فقال قراسنقر: ما أريد إلا امرأة كبيرة القدر أتزوجها، فقال: هذا كلام من يعرفنا أنه ما جاء إلا مستوطناً عندنا، وأنه ما بقي له عودة إلى بلاده، فعظم عنده بهذا، وأجلسه فوق الأفرم، وسنى له العطايا أكثر منه، وزوجه ابنه قطلوشاه، وسماه آقسنقر؛ لأن المغل يكرهون السواد، ويتشاءمون به.(2/191)
قال القاضي شهاب الدين: وكان خربندا وابنه بوسعيد يحضران قراسنقر في الألطاع والأرغو معهما دون الأفرم، وهما من مواضع المشورة والحكم. وامتد عمر قراسنقر بعد الأفرم، ووقع الفداوية عليه مرات ولم يقدر الله - تعالى - أنهم ينالون منه شيئاً، وما قدروا عليه إلا مرة وهو بباب الكرباس منزل القان، فإنهم وثبوا عليه وهو بين أمراء المغل، فخدش في ساقه خدشاً، وتكاثر مماليكه والمغل على الواقع فقطعوه، ولم يتأثر قراسنقر لذلك. انتهى.
قلت: يقال: إن الذي هلك بسببه من الفداوية ثمانون رجلاً. حكى لي مجد الدين السلامي الخواجا قال: كنا يوم عيد بالأردو، وجوبان وولده دمشق خواجا إلى جانبه، وقراسنقر جالس إلى جانبه وهو قاعد فوق أطراف قماش دمشق خواجا، فوقع الفداوي عليه، فرأى دمشق خواجا السكين في الهواء وهي نازلة، فقام هارباً، فبسبب قيامه لما قام مسرعاً تعلق بقماشه تحت قراسنقر، فدفع قراسنقر ليخلص، فخرج قراسنقر من موضعه، وراحت الضربة في الهواء ضائعة، ووقع مماليك قراسنقر على الفداوي فقطعوه قطعاً، والتفت إلي قراسنقر وقال: هذا كله منك، وما كان هذا الفداوي إلا عندك مخبوءاً؛ وأخذ في هذا وأمثاله، ونهض إلى القان بوسعيد وشكا إليه، ودخلت أنا وجوبان خلفه، فقال للسلطان بوسعيد: يا خوند، إلى متى هذا؟ بالله اقتلني حتى أستريح، والله زاد الأمر وطال، وأنا فقد التجأت إليكم، ورميت نفسي عليكم واستجرت بكم، والعصفور يستند إلى غصن شوك يقيه الحر والبرد. فانزعج بوسعيد لهذا الكلام، وقال لي بغيظ: إلى متى هذا وأنت عندنا والفداوية تخبؤهم عندك لهذا؟ فقلت: وحياة رأس القان ما كان عندي، وإنما حضر أمس مع فلان، لكن هذا أخوك السلطان الملك الناصر قد قال غير مرة: إن هذا مملوكي ومملوك أخي ومملوك أبي، وقد قتل أخي، وما أرجع عن ثأر أخي ولو أنفقت خزائن مصر على قتل هذا وهذا دخل إليكم قبل الصلح بيننا، وهو مستثنى من الصلح، فعند ذلك قال جوبان: هذا حقه، نحن ما ندخل بينه وبين مملوكه قاتل أخيه؛ وخرج فانفصلت القضية.
وحكى لي علاء الدين بن العديل القاصد قال: توجهنا مرة ومعنا أربعة من الفداوية لقراسنقر، فلما قاربنا مراغة وبقي بيننا وبينها يوم أو يومان ونحن في قفل تجار والفداوية مستورون أحدهم جمال والآخر عكام والآخر مشاعلي والآخر رفيق، فما نشعر إلا والألجية قد وردوا علينا، فتقدموا إلى أولئك الأربعة وأمسكوهم واحداً واحداً من غير أن يتعرضوا إلى أحد غيرهم من القفل، وتوجهوا بهم إلى قراسنقر فقتلهم، وكذلك فعل بغيرهم.
قلت: والظاهر أنه كانت له عيون تطالعه بالأخبار، وتعرفه المستجدات من دمشق ومن مصر، فإنه كان في هذه البلاد نائباً، وقد جهز جماعة من الفداوية، ويعرف قواعد هذه البلاد وما هي عليه، وما كان يغفل عن أمر الفداوية، وإ،ه ما كان يؤتى عليه إلا منهم.
قال القاضي شهاب الدين: ومات في عزه وجاهه معظماً بين المغل كأنه ما ربي إلا فيهم، ويقال: إنه ملك ثماني مئة مملوك، وعندي أنه لم يبلغ هذه العدة، وإنما كان عنده مماليك كثيرة، وحصل أموالاً جمة، وكان يعطي لمماليكه الأموال الكثيرة، وجماعته من الخيول المسومة والسروج الزرخونا والحوائص الذهب والكلاوت والطرز الزركش والأطلس والسمور والقماقم وغير ذلك من كل شيء فاخر. وتأمر في حياته بنوه الأمير ناصر الدين محمد تقدمة ألف، والأمير علاء الدين على إمرة أربعين، وفرج بعشرة. وتأمر له عدة مماليك مثل بيخان ومغلطاي وبلبان جركس بطلبخاناه، وبهادر وعبدون بعشرات.
قال شهاب الدين بن الصنيعة النقيب: لما جاءت العساكر الحلبية مع قراسنقر إلى دمشق سنة تسع وسبع مئة كان ثلث الجيش يحمل رنك قراسنقر؛ لأنهم أولاده وأتباعه ومماليكهم وأتباعهم. وكان في حلب، والأمراء الحكام في مصر مثل سلار والجاشنكير وغيرهما يخافونه ويدارونه ولا يخالفون أمره، وكان مع العظمة الكبيرة يداري بماله ويصانع حواشي السلطان حتى الكتاب والغلمان، فيقال له في ذلك، فيقول: ما يعرف الإنسان كيف تدور الدوائر، وواحد من هؤلاء يجيء له وقت يلقح كلمةً تعمر ألف بيت وتخرب ألف بيت.
وكان يرى أخذ الأموال ولا يرى إهراق الدماء، فحقن الله دمه وأذهب ماله.(2/192)
قال القاضي شهاب الدين: حكى الشيخ أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري الصوفي قال: كان ابن عبود إذا عمل المولد الشريف النبوي حضر إليه الأمراء وسائر المماليك والناس، فعمل المولد مرة في سنة من السنين، فحضره قراسنقر، وكان في المولد رجل شريف صالح مغربي يعرف بالمراكشي، فلما مدت الأسمطة قام قراسنقر وخلع سيفه وشمر ومد السماط المختص بالفقراء وقدم بيده الطعام، وشرع يقطع المشوي لهم، ولا يدع أحداً يتولى خدمتهم سواه، فقال المراكشي: من هذا؟ فقالوا له: هذا الأمير شمس الدين قراسنقر، أمير كبير صفته نعته، ومكانته في الدولة كبيرة، فقال: لا إله إلا الله! يعيش سعيداً وينزل به في آخر عمره كائنة، ويخلص منها ويخلص بسببه غيره، ويسلم وما يموت إلا على فراشه.
وكان لا يأخذ من أحد شيئاً إلا ويقضي شغله ويفيده قدر ما أخذ منه مرات مضاعفة، وأين مثله أو من يقارب فعله؟! حكي أن شخصاً من أبناء الأمراء الكبار بحلب كان يحب صبياً اشتهر به وعرف بحبه، فاتفق أن ذلك الصبي غاب، فاتهمه أهله بدمه وشكوه إلى الوالي، فأحضره وقرره بالضرب والتعليق، فلم يصبر وقال: قتلته، فألزم به وأودع الحبس على دمه، وكان بريئاً، فتحيل في إرسال شيء. خدم به قراسنقر، فأمر أن ينظر ولا يعجل عليه، فما مضت مدة حتى جاء كتاب نائب ألبيرة يخبر بأنه قد أنكر على صبي من أبناء النعمة مع جماعة من الفقراء قصدوا الدخول إلى ماردين، وأنه رده إلى حلب ليحقق أمره، فلما جاء إذا به ذلك الصبي بعينه، وظهرت براءة المتهم وخلي سبيله، وغفل عنه قراسنقر مدة لا يذكره إلى أن مات أمير بحلب وخلف نعمة طائلة ولا وارث به، فلما أتاه وكيل بيت المال والديوان يستأذنونه في الحوطة عليه، فقال: هذا مال كثير، أريد واحداً من جهتي يكون معكم، وطلب ذلك الرجل وأمره أن يكون معهم، فحصل من تلك التركة محصولاً جيداً، وعمل به ذهباً أضعاف ما أعطي قراسنقر أولاً، وأتى بالذهب إلى قراسنقر وقال: يا خوند، هذا الذي تحصل، فقال: بارك الله لك فيه، نحن أخذنا نصيبنا منك أولاً سلفاً؛ ولم يأخذ منه شيئاً، رحمه الله وسامحه.
وكان ورد إلى بغداد في أول شهر رمضان سنة خمس عشرة وسبع مئة، ومعه زوجته الخاتون بنت أبغا، وأقام ببغداد ثلاثة أشهر ونصفاً، ثم عاد إلى خدمة خربندا، وكان عزمه الإغارة على أطراف الشام، فلم يؤذن له، ووثب عليه فداوي في ذي القعدة فلم يصل إليه وقتل الفداوي.
قرا طرنطاي
الأمير حسام الدين. كان أميراً بحلب، ونقل إلى دمشق على إقطاع الأمير سيف الدين ملكتمر المعروف بالدم الأسود، فوصل إلى دمشق مريضاً، ومات - رحمه الله، تعالى - بعد أيام قلائل في مستهل شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة، ووصى إلى الأمير سيف الدين بلاط.
قراقوش
الأمير بهاء الدين.
كان يقال: إنه ظاهري، أتى إلى صفد أميراً على طبلخاناه، وكان عنده مماليك وخدام طواشية وأولاد ناس أتباع له ملاح. وأقام في صفد مدة مديدة. وقيل: إن القاضي فخر الدين ناظر الجيش كان يكرهه ويحط عليه؛ لأنه كان في وقت قد عمل شد الدواوين بالقاهرة، وكان فيه معرفة، وعنده مجلدات، ويستنسخ الكتب الأدبية وغيرها.
وحكي لي أنه كان بالوجه البحري مباشراً شيئاً من أمور الدولة، فلما وزر ابن السلعوس كتب إليه كتاباً، فأغلظ قراقوش في الجواب، ثم إن الوزير أحضره بعد ذلك وضربه بالمقارع.
اللقب
القرامزي: عبد الرحمن بن أبي محمد.
القرافي: صفي الدين محمود بن محمد.
قرطاي
الأمير شهاب الدين الأشرفي الجوكندار الحاجب، نائب طرابلس.
كان معدوداً في الأبطال، ومسروداً في عداد أبي محمد البطال، قد مارس الحروب، وعرف الأماكن والدروب، وتمرن في الحصارات، وتدرن جسمه بعد التنعم في الإغارات.
وكان كثير الاحتشام، عزيز المكارم التي تنتجع بروقها وتشام، معروفاً في الشام ومصر بالكفاءة، مشهوراً بالحمل والأناءة:
تشف على جسم الزلال صفاته ... وتلطف عن روح النسيم شمائله
أقام بطرابلس في المرة الأولى نائباً إلى أن عزل، وقطع أمره فيها وخزل، وحضر إلى دمشق وكان فيها أميراً كبيرا، نازلاً في حماها محلا أثيرا، يعظه تنكز ويرعى جانبه، ويجمل به مواكبه، إلى أن أعاده إلى طرابلس ثانياً نائباً كما كان، ووطد له عند السلطان القواعد والأركان.(2/193)
ولم يزل إلى أن توفي - رحمه الله، تعالى - في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وكان - فيما أظن - بحلب حاجباً في واقعة قراسنقر لما توجه إلى الحجاز وعاد من بركة زيزاء إلى حلب وأحاط، فوقف الأمير شهاب الدين قرطاي في وجهه ومنعه من الدخول إليها، فقال: أنا ما جئت إلا لأجل مملوكي جركس، فقال: خذه، وما عسى أن تفعله أنت وهو؟! وكان قد عزل عن طرابلس في المرة الأولى في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وسبع مئة، وحضر إلى طرابلس عوضه الأمير سيف الدين طينال المقدم ذكره. وأقام الأمير شهاب الدين بدمشق على إقطاع الأمير بدر الدين بكتوت القرماني، ولم يزل بها مقيماً إلى أن أعيد إلى نيابة طرابلس في العشر الأواخر من سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة عوضاً عن الأمير سيف الدين طينال، وجهز طينال إلى غزة نائباً، ونقل السنجري من غزة إلى نيابة حمص.
قردم
الأمير الكبير سيف الدين أمير آخور كان في أيام الصالح صالح، وهو في محل كبير، فعمل عليه وأخرج إلى دمشق على إقطاع الأمير سيف الدين منكلي بغا السلاح دار الصالحي، فوصل إلى دمشق في سادس عشري شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين، وطلب تلك الشحنة إلى مصر، فأقام الأمير سيف الدين قردم إلى أن أمسكه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي بين العشاء ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، واعتقله بقلعة دمشق، وبقي في الاعتقال إلى أن حضر السلطان الملك الصالح إلى دمشق، في واقعة بيبغاروس، ولما توجه إلى مصر أخذ معه صحبة من أمسك في تلك الواقعة إلى مصر، ثم إنه أفرج عنه وحضر إلى دمشق نائباً في عاشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وسبع مئة، ورتب له على الديوان في كل يوم خمسون درهماً، فلما مات الأمير سيف الدين ألجيبغا العادلي أنعم عليه بإقطاعه وتقدمته على الألف.
واستمر على حاله بدمشق في جملة مقدمي الألوف إلى أن مرض، وتوفي - رحمه الله، تعالى - في يوم الأحد تاسع عشر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة.
اللقب والنسب
ابن قرصة: أحمد بن محمد. عز الدين أحمد بن موسى.
ابن قرطاس: عبد الرحمن بن محمود.
القرماني: الأمير بدر الدين بكتوت.
القرمي: قاضي طرابلس الحسن بن رمضان.
قرمشي بن أقطون
الأمير سيف الدين ابن الأمير علاء الدين الحاجب بمصر والشام.
كان رجلاً داهيه، وذا همة لم تكن بغير المعالي لاهيه، خاطر في أمر لو انعكس عليه لم يكن لحمزة التركماني غيره ثانيا، ولم يصبح الهلال الوخي لعنان الموت عنه ثانيا، ولكنه حصنه الأجل، واستعمل القدر فيه التأني لا العجل، على أنه ما انشق له زهر السلامة عن الكمام، ولا سقي روض نجاته بحب الغمام، حتى وقع في أحبولة القدر وكان كمن سلم من الحمام إلى الحمام.
ومن تعلق به جمة الأفاعي ... يعش، إن فاته أجل، قليلا
وكان في صباه قد تنسك، وبحبال الآخرة تمسك، وامتنع من دخول الحمام، وأعرض عن لذات هذه الدنيا ورفض ما فيها من الحطام، وأخذ في مطالعة الأحاديث النبويه، والاقتفاء بسيرة السلف المرضيه، وتتلمذ للشيخ العلامة تقي الدين بن تيميه، وكانت ترد عليه بالنهي عن التمسك بالأمور الدنيويه، هذا وأبوه أمير كبير حاجب بصفد، والدنيا مقبلة عليه بالعطاء والمنح والصفد، وهو عنها بمعزل، وإذا ضربت له سرادق الدولة لا يعرج إليها ولا ينزل. ثم إنه انسلخ من ذاك، وآثر الفكاك، ونسي أن سلامة العقبى كانت له خيرا، وتلك الطريقة الأولى كانت أحمد سيرا.
وتنقلت به الأحوال فتقدم في دمشق فكان بها من جملة الحجاب، وأولي التقدم عند تنكز والاقتراب، ثم توجه إلى مصر فكان فيها حاجبا، ونال من الحظوة عند السلطان ما كان له واجبا، ثم إنه حضر إلى صفد وولي بها نيابة القلعة، ومنها كانت القلعه، وطلب إلى دمشق واعتقل، وحل به من نوائب الزمان ما لا عرف ولا عقل.
وكان موته - رحمه الله، تعالى - في شهر شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية ظاهر باب النصر بدمشق.
كان قد نشأ بصفد على خير وديانة وتعبد، ولم نعلم له صبوة، وكان يحب الفقراء والصلحاء، ويميل إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وأصحابه، واختص بالأمير سيف الدين أرقطاي نائب صفد، وكان يسمر عنده ويلازمه ليلاً ونهاراً.(2/194)
ولما كان في سنة ست وثلاثين اختص بالأمير سيف الدين تنكز، وأقام عنده ليلاً ونهاراً بدمشق، وأقبل عليه إقبالاً كثيراً، وصار من أحظى الناس عنده، ثم إنه أعطاه عشرة أرماح بدمشق، وعلت مكانته عنده، وتردد في البريد مرات عديدة. ثم إنه توجه مع الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله، تعالى - لما توجه إلى مصر، وهي آخر مرة توجه فيها إلى مصر، فغير إقطاعه هناك بالإمرة ثلاث مرات، وولاه الحجوبية بدمشق.
ولما أمسك هو طلب سيف الدين قرمشي إلى مصر، فتوجه إليه، وأقام بها حاجباً في باب السلطان، وكان الناس يرون أنه كان له باطن في واقعة تنكز، وشنع الناس بأنه نم على تنكز ورماه بما غير خاطر السلطان عليه، والله أعلم، فنفرت قلوب مماليك السلطان منه، وأبغضه الأمراء.
ثم إنه في أول دولة الصالح إسماعيل طلب الخروج إلى دمشق، فحضر إليها أميراً، ثم رسم له بالتوجه إلى صفد أميراً، ثم إنه بقي بها حاجباً. ثم إنه رسم له بنيابة قلعة صفد، فباشرها على أحسن ما يكون، وبالغ في عمارتها، ورم ما تشعث منها، فاجتهد في ذلك. ثم إن الأمير سيف الدين الملك نائب صفد لما أمسك في أيام الكامل شعبان شنع الناس أن الأمير قرمشي هو الذي نم عليه، وكتب إلى مصر في السر يقول: إنه قد عزم على أنه يهرب، فجددت هذه المرة عليه ما كان كامناً في نفوس الأمراء.
ولما برز الأمير سيف الدين يلبغا من دمشق إلى الجسورة، واجتمع عليه العساكر طلبه ليحضر إليه، فوعده بذلك ولم يحضر، واتفق أن وردت كتب الكامل إلى قرمشي في الباطن، فجهزها هو من جهته إلى أمراء الشام وغيرهم، وأمسك قصاده بالكتب، فحرك ذلك عليه ساكناً عظيماً.
ولما استقر الملك للمظفر حاجي جهز يلبغا حاجي إلى قرمشي، وأحضره على البريد، وأودعه معتقلاً في قلعة دمشق هو وأولاده وجماعة من أهله، فأقام بها قريباً من شهر أو أكثر، ثم أفرج عن أولاده وجماعته، وخنق وأخرج في الليل في صندوق، ودفن في مقابر الصوفية؛ رحمه الله تعالى وعفا عنه.
ولما كنت بالديار المصرية سنة خمس وأربعين وسبع مئة كتبت له مرسوماً بنيابة قلعة صفد ارتجالاً من رأس القلم، وهو: " الحمد لله الذي نصر هذا الدين بسيفه الماضي الشبا، وأيده بخير ولي تقصر عن بأسه سمر القنا وبيض الظبى، وحصن معاقله بكفء تأرج عنه الثنا وطاب النبا، وحمى سرحه بفارس إذا أظلم العجاج أطلع في دجاه من سنانه اللامع كوكبا.
نحمده على نعمه التي لا يداني جودها غمام، ولا يقارب حسن مواقعها تبسم زهر من ثغر كمام، ولا يجاري سراها برق تسرع جواده في ميدان ظلام، ولا يحاكي تواخيها في نواحيها ازدواج لآلئ تألفت حباته في النظام.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً رقم الإيمان برودها، وختم البرهان وجودها، وحسم الإدمان عنودها، ونظم الإيقان عقودها.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي تثنى الخطار من بأسه طربا، وضحك البتار في يمينه الشريفة عجبا، وولى الأدبار عدو الدين ممنعاً هربا، وباد الكفار من حزبه لما ذاقوا ويلاً وحربا. صلى الله عليه وعلى آله الذين سادوا الأنام، وجادوا بما فاق الغمام، وعادوا بفضلهم على أولي الفاقة والإعدام، وحادوا عن طرق الضلال والظلام، صلاةً دائمة السنا، قائمةً بنيل المراد والمنى، ما ابتسم في الروض ثغر أقاح، وفتق غمد الظلام شفرة صباح. وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد فإن ثغر صفد المحروسة من الحصون المشيده، والمعاقل الفريده، قد طاولت النجوم شرفاته، وعلت على الغيوم غرفاته، وتلهبت ذبالة الشمس في سراجه، ونفض الأصيل زعفرانه على بياض أبراجه. كم لاثت الغمائم على هامته عمائم، وكم لبست أنامل بروجه من الأهلة خواتم. والنيابة فيه منصب شريف، وفضل على الكواكب ينيف.(2/195)
وكان المجلس السامي الأمير سيف الدين قرمشي ممن جمل الدولة، وفاز بالقرب من الملوك الأول، ونصح والدنا الشهيد فأدى من حقه واجبا، واجتهد في رضاه فكان له عيناً وحاجبا، وآثر عوده إلى وطنه فنولناه مرامه، وأجبنا قصده الذي أحكم نظامه، رغبةً في العزلة والانجماع عن الناس، وطلباً للانفراد والخلوة وما في ذلك من باس، فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي، والمولوي، السلطاني، الملكي، الصالحي العمادي - أعلاه الله، تعالى، وشرفه - أن يستقر في النيابة بقلعة صفد المنصورة على أجمل العوائد وأكمل القواعد، فليجهد في مراعاة أحوالها، وتفقد مباشريها ورجالها، ورم ما تشعث من بنائها، وإصلاح ما تحتاج إليه في ربعها وفنائها، فإن لها منه أيام والده المرحوم إيثارا، وله في عمارتها آثارا، فليجرها على ما عهدت، وليزكها فيما له شهدت، ويبذل الجهد في تشييدها، ودوام تحصينها بالرجال وتخليدها، وتثمير حواصلها بالسلاح والعدد والغلال، وعرض رجالها النفاعة فما الحصون إلا بالرجال، ومثله لا يذكر بوصية، ولا ينبه على مصلحة دانية أو قصية، ولكن التقوى هي العمده، والكنز الذي لا يفنى في الرخاء ولا في الشده، وهي به أليق، وبشد عراه أوثق؛ والخط الشريف - أعلاه الله تعالى أعلاه - حجته في ثبوت العمل بما اقتضاه، إن شاء الله، تعالى.
قشتمر
الأمير سيف الدين قشتمر زفر - بفتح الزاي والفاء وبعدها راء - .
أول ما علمته من أمره أنه حضر في سنة ستين وسبع مئة من الديار المصرية إلى نيابة الرحبة، فأقام بها إلى أن حضر إلى دمشق، وتوجه بدله الأمير سيف الدين قطلو بن صاروجا. وأقام قشتمر زفر بدمشق إلى أن خرج الأمير بيدمر، فجهزه الأمير سيف الدين تمان تمر نائب طرابلس، فأحضره إلى دمشق، فنقم عليه ذلك.
ولما حضر السلطان الملك المنصور محمد بن حاجي إلى دمشق أمر بإمساك سيف الدين قشتمر زفر فأمسك، واعتقل بقلعة دمشق.
وتوفي في محبسه في يوم الجمعة سادس عشر شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة، رحمه الله، تعالى.
الأنساب والألقاب
ابن قريشة: الشيخ تقي الدين محمد بن بركات. أخوه محيي الدين عبد القادر. أخوهما الشيخ إبراهيم.
ابن قريش: علي بن إسماعيل.
ابن قرناص: علاء الدين علي بن إبراهيم، وهبة الله محمود.
القرندلي الكاتب: محمه بن بكتوت.
ابن القزاز: محمد بن أحمد.
ابن القسطلاني: محمد بن أحمد. وجمال الدين محمد بن محمد بن الحسن.
ابن قطرال: محمد بن علي بن محمد.
قطب الدين السنباطي: محمد بن عبد الصمد.
قطز
الأمير سيف الدين أمير آخور.
لما أخرج الأمير حسام الدين لاجين آخور الكبير إلى دمشق من الديار المصرية - على ما سيأتي - جعل هذا الأمير سيف الدين مكانه، وذلك في شهر رجب سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، فبقي في الوظيفة إلى أن خلع المظفر حاجي في شهر رمضان من السنة المذكورة، وتولى الملك الناصر حسن، فأخرج الأمير سيف الدين قطز إلى نيابة صفد عند موت الأمير سيف الدين أولاجا نائبها، فأقام بصفد نائباً إلى ثاني شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وسبع مئة. فوصل الأمير شهاب الدين أحمد الساقي إلى صفد نائباً، ورسم للأمير سيف الدين قطز بالحضور إلى دمشق ليكون بها مقيماً من جملة أمرائها ما عاش، إلى أن جاءه منشوره.
بل توفي - رحمه الله، تعالى - سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
قطلقتمر قلي
الأمير سيف الدين الناصري، أحد الأمراء بدمشق أصحاب الطبلخاناه.
كتب في حقه أرغون شاه إلى باب السلطان وشكاه، وسأل نقله إلى حلب، فأجيب إلى ذلك. وكان قد جرد من دمشق صحبة العسكر إلى سيس سنة خمسين وسبع مئة، فكتب أرغون شاه إلى نائب حلب أنه إذا عاد العسكر الدمشقي يتقدم إليه بالإقامة في حلب حسبما رسم به، فأقام بها تقدير خمسة أشهر أو أقل.
وتوفي إلى رحمة الله - تعالى - في جمادى الآخرة سنة خمسين وسبع مئة.
قطلقتمر
الأمير سيف الدين. كان يعرف بصهر الجالق.
وكان أحد الأمراء بدمشق، ثم إنه ولي نيابة غزة.
وأمسك في جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وجاء عوضه الأمير علم الدين الجاولي.
قطلوبغا
الأمير الكبير الداهية الشجاع المقدام سيف الدين الساقي الناصري المعروف بالفخري.(2/196)
رجل لا يهاب الموت، ولا يعبأ بالفوت، أسد يصول بمخلب من صارمه، ويربض في غاب من ذوابله التي ينصلها من عزائمه، دبر الحروب، وثبت في موقف تهرب منه الخطوب، كحل عيون النجوم بمراود الرماح، وضوأ الدجى الحالك بصباح الصفاح، ونور العجاج فكان كالإثمد والنجوم فيه مثل العيون الرمد، ومزقه بالبيض المرهفات لما نسجت ملاءته المطهمة الجرد:
ينم على فتكاته زهر القنا ... كذاك حديث الزهر يحلو إذا نما
ويحلو مع الخطي من كلف به ... ويحسبه قداً فيوسعه ضماً
وكان الناس يظنون به أنه فارس صيد، لا فارس حرب وكيد، وأنه حامل راية كاس، لا حامل راية القنا الدعاس، إلى أن قام في ناصر أحمد الناصر، وشهدت له بالفروسية والثبات الأواصر، وظهر عن تدبير ساعدته عليه المقادير، وثبت في وقت اللقاء ثبات الأنجاد المغاوير، وثبت للقاء جيش الشام بمجموعه، ورزقه الله النصر من أول طلوعه، وكان هو في دون الألفي فارس، وخصمه في أكثر من عشرين ألفاً، إلا أنهم في عداد الأطلال الدوارس، وكان يوماً عظيماً في النصر، ومشهداً تفوت عجائبه العد والحصر، وسار ألطنبغا في بيداء سملق، وسار الفخري ونزل القصر الأبلق.
ولكن قلبت هذه السعادة إلى تعاسه، فصلت عن جسده راسه، وقطعت من الحياة أمراسه، وقتل صبرا، وألقي على الأرض شلواً لا يودع قبرا، فسبحان من بيده تصاريف الأمور، وبأمره الحبور إلى الثبور.
وكانت قتلته بظاهر الكرك في أول المحرم سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
كان من أكبر مماليك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون من رفعة الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، ولم يكن لأحد من الخاصكية ولا من غيرهم إدلاله على السلطان، ولا فيهم من يكلمه بكلامه ويرد عليه الأجوبة الحادة المرة وهو يحتمله.
وقد تقدم شيء من ذكره في ترجمة أخيه الأمير سيف الدين طشتمر حمص أخضر.
لم يزل عند السلطان أثيراً عالي المكانة إلى أن أمسكه في نوبة إخراج أرغون النائب إلى حلب في سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وكان الفخري ممن يكره الأمير سيف الدين تنكز ويحط عليه، وهو الذي ساعد الأمير حسين بن جندر عليه، يقال: إنه توجه مرة إلى بابه، وأقام - فيما قيل - من بكرة إلى الظهر حتى أذن له في الدخول، ولما أخرجه السلطان معه إلى الشام في شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وسبع مئة شد الشلو في وسطه، وكان يركب في خدمته ويترجل قبل نزوله ويمشي في ركابه بالخف من غير سرموزة، ويحصل الصيد بين يديه، ويطعم طيوره، ولم يزل يدخل في قلبه بالخدمة إلى أن أحبه ومال إليه. قال تنكز مرة: والله أشتهي أن أركب مرة، وما أخرج ألتقي الفخري واقفاً ينتظرني.
قيل: إنه كان له واحد واقفاً دائماً بدار السعادة متى قدمت فرس تنكز للركوب توجه إليه وأعلمه، ويكون هو قاعداً متأهباً للركوب، فيركب ويقف ينتظره، فأحبه محبة شديدة حتى لم يبق عنده بدمشق أعز منه.
وقال تنكز عن الفخري: والله لو خدم أستاذه عشر هذه الخدمة ما كان أحد منا نال مرتبته.
كان يوماً في ضيافة الأمير صلاح الدين بن الأوحد، وقد شربوا القمز، فدخل عليهم الأمير سيف الدين أوران الحاجب وهو عند تنكز بمحل كبير، فأخذ الفخري الهياب وقام وقال: عندك يا أمير، فلم يقبله، فألح عليه، فلم يوافقه، فقال تنكز: عندي يا أمير، أنا أحق بك، والله يا أمراء ما عند أستاذنا أكبر منه ولا أعز، ولو وطأ نفسه قليلاً ما كان عند أستاذنا فينا أحد يصل إلى ركابه، وأخذ في الثناء عليه والشكر منه، ومنها، وكان الواقع، وانتحس أوران بها إلى أن مات، وكان إذا شفع عنده ما يرده. ولم يزل إلى ترضى له السلطان. وكان بعد ذلك يحضر إليه الخيل والجوارح وغيرها من السلطان.
ولم يزل في دمشق على هذا الحال إلى أن كتب السلطان إلى الفخري في الباطن في إمساك تنكز، وقال له: يا ولدي، ما خبأتك إلا لهذا اليوم، أبصر كيف تكون، وهذا من راح معه راح بلا دنيا ولا آخرة، فاجتمع هو والأمراء بدمشق، وخرجوا إلى الأمير سيف الدين طشتمر، وأمسكوا تنكز، على ما تقدم في ترجمته، فنظر إليه تنكز والتركاش في وسطه، فقال له: يا فخري، لا إله إلا الله، وأنت الآخر بالتركاش؟! فقال: ما شد إلا في يومه. ثم إنه أقام بعده بدمشق إلى أن حضر الأمير سيف الدين بشتاك وأخذ حواصل تنكز وخزائنه، وتوجه بها.(2/197)
ثم توجه الفخري إلى مصر بطلبه،وعظمه السلطان زائداً، ولم يزل في أعز مكانة إلى أن توفي السلطان الملك الناصر، فأظهر الميل إلى قوصون، وكان معه على بشتاك، وحضر إلى الشام، وحلف العساكر الشامية للمنصور أبي بكر، وذلك أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، ونزل في القصر، وخرج الناس لملتقاه، ودعوا له، وخصصوه بالدعاء دون ألطنبغا، وقدم له الأمراء بدمشق، وعاد إلى القاهرة.
ولما جرى للمنصور ما جرى وخلعوه وملكوا الأشرف علاء الدين كجك وجعلوا الأمير سيف الدين قوصون، مال الفخري إلى قوصون ميلاً عظيماً وقام بنصره، وطلب قوصون من يتوجه إلى الكرك ليحاصر أحمد، فلم يجسر أحد غير الفخري، فخرج هو والأمير سيف الدين قماري في ألفي فارس إلى الكرك، وحصر أحمد، ووسط جماعة من أهل الكرك، وبالغ وربما أفحش في خطاب الناصر أحمد، فحقدها عليه، ثم لما بلغ الفخري أن ألطنبغا نائب دمشق توجه إلى حلب لإمساك طشتمر نائبها، وخلت دمشق من العسكر، حضر الفخري إلى دمشق وترك الكرك، وخرج أهل دمشق إليه وتلقوه ودعوا له، فدخلها ونزل على خان لاجين، واقترض من مال الأيتام مبلغ أربع مئة ألف درهم ونفق فيمن معه من العسكر، ولحق الأمير بهاء الدين أصلم - وهو على قارا - بعسكر صفد ليلحق الأمير علاء الدين ألطنبغا إلى حلب، فبعث إليه الفخري ورده، وطلب الأمراء الذين تخلفوا في بر دمشق، فحضروا إليه، وأقام بخان لاجين، وكتب إلى الأمير سيف الدين طقزتمر نائب حماة، فحضر إليه وتلاحق الناس به، ولما حضر طقزتمر إليه قوي جأشه وجأش من معه.
وكان لما دخل إلى دمشق أحضر الناس وحلفهم للناصر أحمد، ودعا الناس إلى بيعته، ومال الخلق إليه، واستخدم الجند البطالة ورتب أناساً في وظائف، ووعده الناس كثيراً، وحضر إليه الأمير شمس الدين آقسنقر السلاري لما كان في غزة نائباً وأمسك الطرقات وربطها من صرخد إلى بيروت على من يحضر من مصر إلى حلب أو يحضر من حلب إلى مصر، وأمسك البريدية وأخذ ما معهم، وعمى الأخبار على قوصون وعلى ألطنبغا، وظهر بعزم كبير وحزم كثير، وساعده القدر وخدمته السعود زائداً، حتى لقد كنت أعجب منه.
وصار أمره كلما جاء قوي، وأمر ألطنبغا كلما جاء انحل وضعف، وترددت الرسل بينه وبين ألطنبغا، وطال الأمر بينهما، ولم يزالا كذلك إلى أن وصل ألطنبغا من حلب ونزل القطيفة، وأقام بها ثلاثة أيام، وجبن عن لقاء الفخري ومعه عسكر دمشق وعسكر حلب وعسكر طرابلس في عدة تسعة عشر ألف فارس أو أكثر، وضعفت نفوس الذين مع الفخري؛ لأنهم دون الثلاثة آلاف بمن معهم من رجالة الجبلية من أهل البقاع وبعلبك، وترددت القضاة بينهما، ومال الفخري إلى الصلح وقال: أرجع عنك بشرط أن توفي عني مال الأيتام؛ لأنني أنفقت على من معي من العسكر، ولا تقطع من رتبته في وظيفة. فتوقف ألطنبغا، وطال التردد بينهما، والعسكران في المصاف، وهلك من مع ألطنبغا من الجوع؛ لأن عسكر الفخري حال بينهم وبين دمشق، وسيب المياه على المرج، فحال بينه وبين حريمه، وبين العسكر وبين دمشق، ولو نزل ألطنبغا ولم يقف بالقطيفة داس الفخري ومن معه دوساً، ولو وافق الفخري على ما أراد ودخل إلى دمشق دخلها وملكها وبقي على حاله نائباً، وكان الفخري يكون ضيفاً عنده تحت أوامره ونواهيه، ولكن إذا أراد الله أمراً بلغه، فلم يكن ذلك النهار إلا بمقدار الثالثة من النهار حتى مال العسكر الشامي بمجموعه إلى الفخري، وحركوا طبلخاناتهم وتحيزوا إلى الفخري، وتركوا ألطنبغا وحده على ما مر في ترجمته، فهرب فيمن هرب معه من الأمراء، ودخل الفخري بعساكره إلى دمشق، وملكها ونزل القصر الأبلق، وأخذ في تحليف العساكر للسلطان الملك الناصر أحمد، وجهز إليه ليحضر إلى دمشق، فقال: جهز لي الأمراء الكبار الذين عندك. فتوجه إليه الأمير سيف الدين طقزتمر، والأمير بهاء الدين أصلم، والأمير سيف الدين قماري، وعلم الدين سليمان بن مهنا، فتوجهوا إلى الكرك، وعادوا ولم يحضر معهم، ووعده بأنه إذا حضر طشتمر نائب حلب حضرت، فأخذ الفخري في العمل على حضور طشتمر من بلاد الروم، ولم يزل في الليل والنهار يعمل على ذلك إلى أن حضر، ووصل إلى دمشق، فخرج وتلقاه، وأنزله بالنجيبية على الميدان، وحمل إليه مالاً عظيماً.(2/198)
ووردت كتب الملك الناصر أحمد إلى الأمراء الكبار بالشام تتضمن أن الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري هو كافل الشام يولي النيابات الكبار لمن يختار، فوجه الأمير علاء الدين طيبغا حاجي إلى حلب نائباً، ووجه الأمير حسام الدين طرنطاي البشمقدار إلى حمص نائباً، ووجه الأمير سيف الدين طينال إلى طرابلس نائباً، وشرع في عمل آلات السلطنة وشعار الملك، ويسأل من الناصر أحمد الحضور وهو يسوف به وبالأمير سيف الدين طشتمر إلى أن عزم الفخري وطشتمر على التوجه إليه بالعساكر إلى القاهرة، فلما قاربا القاهرة بعث إلى الفخري وإلى طشتمر من يتلقاهما، وأكرم نزلهما، واستتب الأمر للناصر أحمد، وحلف المصريون والشاميون له، وكان يوم البيعة الفخري واقفاً مشدود الوسط، وبيده عصاً محتفلاً بذلك الأمر احتفالاً كبيراً.
وخرج الأمير سيف الدين آقسنقر الناصري إلى غزة نائباً، وخرج الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي إلى صفد نائباً، وخرج الأمير سيف الدين الملك إلى حماة نائباً، وخرج الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور إلى حلب نائباً، وخرج الفخري بعد الجميع إلى دمشق نائباً، فلما كان قريباً من العريش لحقه الأمير علاء الدين ألطنبغا المادراني في ألفي فارس لإمساكه والقبض عليه، فأحس بذلك، ففرق ما معه من الأموال وهرب في نفر قليل من مماليكه، ولحق بالأمير علاء الدين أيدغمش وهو على عين جالوت، واستجار به. فأكرم نزله أول قدومه، ثم بدا له فيما بعد، فأمسكه وقيده وجهزه مع ولده أمير علي إلى القاهرة، فلما بلغ الناصر أحمد إمساكه خرج إلى الكرك، وأخذ معه طشتمر - وكان قد أمسكه أولاً على ما تقدم في ترجمته - وسير إلى أمير علي من تسلم الفخري منه، وسار به إلى الكرك، ودخل الناصر أحمد الكرك، واعتقل الفخري وطشتمر بالكرك مدة يسيرة، فيقال: إنهما في ليلة كسرا باب حبسهما وخرجا، ولو كان معهما سيف أو سلاح ملكا قلعة الكرك تلك الليلة، وكان الناصر أحمد في تلك الليلة قد بات خارج القلعة، ولما أصبح أحضرهما وقتلهما صبراً قدامه.
يحكى أن طشتمر خار من القتل وضعف وانحنى، وأما الفخري فلم يهب الموت، وقال للموكلين بهما: والكم قدموني قبل أخي هذا، فإن هذا ماله ذنب، لعله يحصل له بعدي شفاعة. وكان قتلهما في التاريخ المذكور.
وكان الفخري شجاعاً مقداماً أريباً داهيةً حليماً جواداً أمياً لا يحسن يكتب شيئاً، وإنما يكتب على التواقيع وعلى الكتب دواداره طغاي.
قال لي القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: ما رأيت أكرم منه، لا يستكثر على أحد شيئاً يطلبه. انتهى.
قلت: ولما جاء ونزل في القصر الأبلق بعد هروب ألطنبغا كتب كتباً على لسانه إلى الأمراء المصريين، ورمى بينهم، فاختلفوا على قوصون وأمسكوه، هذا وهم في قصر دمشق فعل هذه الفعلة، فكنت أعجب من دهائه مع غتميته وأميته وما دبره وما اعتمده حتى خبط الشام ومصر. على أنه لما أدبرت سعادته كان حتفه فيما دبره:
إن المقادير إذا أبرمت ... ألحقت الحازم بالعاجز
ولقد أقول إذا فكرت فيه:
أضاعوه وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
وقلت أنا فيه لما قتل - رحمه الله، تعالى - :
سمت همة الفخري حتى ترفعت ... على هامة الجوزاء والنسر بالنصر
وكان به للملك فخر فخانه ال ... زمان فأضحى ملك مصر بلا فخر
ولما كان بعد واقعته جلسنا يوماً بحماة في خدمة القاضي شهاب الدين بن فضل الله، فأخذ في نظم شيء من المجون مع شخص ينبسط معه، ونظم هو وغيره أشياء ما بين هجو وما بين مجون، وألزمني، فاستعفيت، فقال: لا بد، وأقسم علي، فقلت:
هل لك في أير غدا رأسه ... تعجب منه قبة النسر
لو أنه في جيش ألطنبغا ... خري له قطلوبغا الفخري
فأعجباه وزهزه لهما كثيراً، وقال: ما بقي بعد هذا شيء، وترك ما كان فيه.
قطلوبغا
الأمير سيف الدين الناصري المعروف بالمغربي.
كان قد جاء في بشرى بعافية السلطان إلى دمشق لما كان قد مرض السلطان وعوفي، وحصل له شيء كثير من تنكز ومن أمراء الشام.
وكان أمير مئة مقدم ألف، وكان قد حضر مع رسول القان بوسعيد من القاهرة، فوصله إلى الفرات، وعاد إلى القاهرة، فمات عند وصوله إليها في ثامن شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة.(2/199)
وكان فيه دين وخير. حج في وقت بالركب المصري، رحمه الله، تعالى.
قطلوبك
الأمير سيف الدين المنصوري المعروف بقطلوبك الكبير.
كان أميراً إذا قيل: أمير، لا بل ملكاً على تحقيق قدره الكبير، لم ير الناس مثل رخته، ولا مثل جلوسه في سعادة تخته، أموال تفوق الأمواج، وخيول حصونها أعظم من الأبراج، ومماليك كأنهم الكواكب، وحفدة تتجمل بهم المواكب، وآلات، تفتخر بها البدور في الهالات، حتى كان الناس يعجبون من بذخه، وعنفوان سعده الزائد وشرخه.
وكان ذا خبرة ودهاء، ومعرفة بالأصناف واعتناء في الاقتناء، وتوجه إلى السلطان الملك الناصر وأحضره من الكرك، والتزم له بأنه لا هم يناله ولا درك، وهو الذي أتى به، وأخذ في توكيد ملكه وأسبابه، ويقال: إنه هو الذي قام له بشعار الملك من عنده، وكلما احتاج إليه في ذلك المهم عجله في نقده، حتى إن الحوائص الفضة والذهب أحضرها في أطباق الغسيل، وزاد في هذه الأشياء وأمثالها حتى عجب منه الفرات والنيل، فعظمه السلطان، ووعده بأن يكون في دمشق نائباً، وأن يكون هو حاضر الملك إذا كان هو غائبا. ثم إنه من مصر أخرجه إلى صفد نائبها، وألزمه أن يكفيها مهامها ويكف نوائبها، ثم إنه أمسكه فيها بعد قليل، وأذاقه فيها الخطب الجليل. وقبض عليه في رابع عشري جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة بصفد، وحمل منها إلى الكرك.
وفي شهر رجب سنة إحدى عشرة حمل بكتمر الجوكندار إلى الكرك، واعتقل مع كراي وقطلقتمر صهر الجالق وأسندمر نائب طرابلس وبتخاص.
كان الأمير قطلوبك الكبير - رحمه الله، تعالى - مؤاخياً لسلار، وولي الحجوبية في مصر؛ لأنه كان قد ولي الشد بدمشق عوضاً عن جاغان لما قتل حسام الدين لاجين مدة يسيرة إلى أن وصل السلطان من الكرك إلى مصر، فأعرض عن الشد، وتوجه إلى مصر في يوم الأحد سادس عشري جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وست مئة، فولاه السلطان الحجوبية عوضاً عن الأمير سيف الدين كرت لما قتل، فعملها عملاً صغرت النيابة معه فيها، وقل قدرها؛ لجمع الأمراء عليه والأويراتية والوافدين، ومد السماك لهم وإفاضة الخلع عليهم، فأهم البرجية أمره خوفاً من قوة شوكة سلار، فأخرج إلى الشام وولي نيابة طرابلس، فكرهها، واستعان بالأفرم في الإقالة منها، فأقيل. ثم كانت بينه وبين أسندمر الكرجي نائبها بعده مصاهرة، كان معين الدين بن حشيش هو الساعي فيها.
واستقر قطلوبك الكبير في دمشق من مقدمي الألوف، ولم يمش إلا مشي عظماء الملوك من فرط البذخ والتجمل وعظم الخدم والحشم والأتباع ووفور الحاشية وكثرة الغاشية مما لا يقوم مغل إقطاعه بثلث الكلفة له، وكلما طال الزمان ومر عليه ازداد في ذلك أمره، وكان لا يدري من أين مدده، ولا كيف تنفق يده، وظهر من الأفرم كراهية له؛ لأنه بان له تكبره عليه، فوقع بينهما، ودخل الحاج بهادر وبكتمر الحاجب وغيرهما من الأمراء بينهما، فاصطلحا، وأوجبوا على قطلوبك الشكران، فعمل ذلك في المرج.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: أنفق فيه ما يقارب الثلاثين ألف دينار ما بين طعام وشراب وخلع وتقادم للأفرم وحاشيته، وكانت الضيافة ثلاثة أيام لم ينقطع مددها. قال: وكنت ممن حضرها ونظرها، وهي تزيد على الوصف.
قال: والتزم مرة بدرك الرحبة سنة حملاً عن الأمراء، وجر نحو مئة جنيب من الخيل غير الهجن مجللات بالحرير ملبسات حلي الذهب والفضة، جميعها باسمه ورنكه، وأقام بالرحبة عشرة أشهر غير مسافات طرقه، وكان يقيم بأكثر الجند المضافين إليه، فأما جنده فلا يتكلف أحد منهم شيئاً في مدة بيكاره قال: فحكى لي صاحبنا الشريف ناصر الدين محمد الحسيني - رحمه الله، تعالى، وكان من مضافيه - من هذا ما تعجب منه، وقال لي: كان راتب شرابخانته في شهر رمضان في كل يوم وزن خمسة وعشرين رطلاً بالدمشقي من السكر، وبنى بالرحبة جامعاً وقصراً وميدان كرة ومنازل للجند.
قال: ولما أتى السلطان من الكرك إلى دمشق كان لا ينفق في مدة مقامه بدمشق تلك الأيام إلا من خزائنه، وسفره، إلى أن دخل إلى مصر، وهو من دمشق على وظيفة الأستاذ دارية، ثم أخرجه إلى صفد نائباً، فأقام بها إلى أن أمسكه.(2/200)
وكان قطلوبك بغا يعاني زي المغل في لبس الكنبك والطرز بين كتفيه، وركوب الأكاديش غالباً، وكان أسمر شديد السمرة بطيناً حسن الصورة، يكتب خطاً جيداً قوياً، وله إلمام ببعض عربية وفقه وحديث، وعنده تندير وولع على سبيل اللعب، وله شعر منه ما عمله في مجلس الأفرم في ساق يسقيهم القمز، فقال:
أمير الحسن ساقينا ... يحيينا فيحيينا
فيالله ما أحلى ... إشارات المحبينا
فأمر الأفرم الشيخ صدر الدين بن الوكيل - رحمه الله، تعالى - بأن يزيد عليها، فذيلها بأبيات، ثم إنه أمر بها فلحنت، وغني بها عامة يومه.
قلت: إلا أنه كان يأخذ أموال الناس، وما يعطيهم شيئاً، وإذا اشترى من أحد شيئاً ما يعوضه بثمنه، فأخذ مرة من تاجر شيئاً، وحال ما بينه وبين ثمنه، ولم يجد التاجر من يخلص حقه، فشكا حاله إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية - رحمه الله، تعالى - فتوجه معه إليه، فلما دخل إليه قام له وأجلسه، وقال: شيخ، إذا رأيت الأمير بباب الفقير فنعم الأمير ونعم الفقير، وإذا رأيت الفقير بباب الأمير فبئس الأمير وبئس الفقير. فقال له الشيخ تقي الدين: اسمع قطلوبك، لا تعمل دركوانات العجم، موسى كان خيراً مني، وفرعون كان أنحس منك، وكان موسى يأتي إلى بابه كل يوم ويأمره بالإيمان، أعط هذا التاجر ماله. فقال: نعم، ووزن له الذي له.
وعمل عيد النحر في صفد، فنحر من الضحايا بقراً وغنماً ما يزيد على الوصف، وبعث بذلك إلى الزوايا والفقراء، وجافت بذلك صفد، وأنتنت بأسقاط الأبقار والأغنام، ولم يجد ذلك من يأكله.
قطلوبك بن قراسنقر
الأمير سيف الدين ابن الأمير شمس الدين الجاشنكير، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق.
كان ظريفاً في عباراته، لطيفاً في إشاراته، عليه خفر أولاد الناس، وفيه مباينة غيره من غرائب الأجناس، يتأنق في مآكله الشهيه، ويتخرق في ملابسه البهيه، يترامى على ود أصحابه، ويخالط كل أحد بما هو أولى به، وله ندماء وعشراء، وأصحاب وخلطاء.
ولم يزل على حاله إلى أن ذابت شحمتا عينيه، ووجد ما قدم من الأعمال بين يديه.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - في سابع شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
كان قد باشر الحجوبية بدمشق عوضاً عن الأمير شهاب الدين قرطاي في سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وعزل منها في... وبقي على إمرته، وندبه الأمير سيف الدين تنكز إلى عمارة القناة التي ساقها من عين عروب إلى القدس، ولما فرغ من ذلك طلبه السلطان الملك الناصر محمد، وطلب الصناع الذين كانوا معه في العمل، فتوجهوا في البريد، ولما وصلوا قال لهم السلطان: أريد أن أسوق خليجاً من النيل إلى سوق الخيل تحت القلعة، وأرميه على القاهرة. فتوجه الأمير قطلوبك بالصناع إلى حلوان، ووزنوا مجرى الماء وعادوا، وقالوا للسلطان: هذا يصير بسعادتك. قال: كم يريد؟ قالوا: ثمانين ألف دينار، قال: ما هو كثير؟ قال: وكم يريد من المدة؟ قالوا: عشر سنين، فقال: هذا كثير. وبطل ذلك العزم، وأعادهم إلى دمشق.
ولما جاء الأمير شرف الدين حسين بن جندربك إلى دمشق ليتوجه منها إلى القاهرة لما طلبه السلطان في سنة سبع وعشرين وسبع مئة اجتمعا وتحادثا، وانشرحا لما بينهما من الرومية التي تجمعهما، وذكرا قديم صحبتهما، وأحضر أمير حسين وصية كنت كتبتها له بصفد، وقرأتها عليهما. ومما وصى به فيها يقول: فإن مات بدمشق فيدفن في تربتهم بجبل قاسيون المعروفة بهم، وإن مات بالقاهرة يدفن في بيت الخطابة بجامعه الذي أنشأه ظاهر القاهرة بحكر جوهر النوبي، وإن مات في الغزاة يترك في مكانه في الفلاة ليبعثه الله - تعالى - من حواصل النسور وبطون السباع. فقال قطلوبك بن الجاشنكير: والله يا أمير شرف الدين لقد اخترت ميتة عجيبة، والله أنا ما أشتهي أن أموت إلا على فراشي، ونطوعي ومخادي المزركشة في باشخاناتي، ويخرج نعشي وعليه الريحان والياسمين، وجواري من خلفي يبكين علي ويندبنني، فعجبت من تفاوت قصديهما، رحمهما الله، تعالى.
قطلوبك
الأمير سيف الدين الشيخي، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق.
توفي - رحمه الله، تعالى - بدمشق في خامس شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
قطلوتمر
الأمير سيف الدين الخليلي الناصري.(2/201)
كان من جملة الأمراء بدمشق، وولاه الأمير سيف الدين طقزتمر نائب دمشق الحجبة. وكان حاجباً صغيراً، وعمر الدار التي في العقيبة قبالة سوق الخيل والمئذنة والمسجد، وله الدار التي في القصاعين، وبقي على ذلك إلى أن حضر الأمير حسام الدين طرنطاي البشمقدار من القاهرة متوجهاً إلى حمص نائباً في أول دولة الكامل شعبان، ولما وصل القسطل حضر البريد من مصر برده وأن يتوجه الخليلي مكانه إلى حمص نائباً، فتوجه الأمير سيف الدين قطلوتمر، وأقام بحمص قريباً من شهر.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - في أواخر جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وسبع مئة.
قطليجا
الأمير سيف الدين الحموي الناصري الجمدار.
كان حسن الصورة بهيا، لطيف الحركات شهيا، أبيض تعلوه حمرة قانيه، نقي الثغر كأنه أقحوانة في الروض زاهيه، معتدل القوام، مبتسماً على الدوام، إلا أنه في حماة أساء السيره، ولم يجعل التقوى ظهيره، ونقل منها إلى حلب فما تمتع بها، ولا لحق أمره يتمسك بسببها، إلى أن ذوت زهرته اليانعه، وقامت به الناعية الرائعه.
وتوفي بحلب - رحمه الله، تعالى - في آخر نهار الخميس جمادى الآخرة سنة خمسين وسبع مئة.
لما توفي الملك الناصر أستاذه عهدي به وهو أمير عشرة بالديار المصرية، ثم إنه تأمر طبلخاناه، وحضر إلى دمشق، وأقام بها أميراً مدة في أيام الكامل شعبان، ولما تولى المظفر حاجي ونقل أسندمر العمري من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس طلب قطليجا المذكور إلى مصر، ورسم له بنيابة حماة، فحضر إليها، وأقام بها. وهو الذي أمسك الأمير يلبغا اليحيوي لما خرج على المظفر، على ما سيأتي في ترجمته.
ولم يزل قطليجا في حماة نائباً إلى أن قتل أرغون شاه نائب دمشق، ورسم للأمير سيف الدين أرقطاي بنيابة دمشق، وأن يكون قطليجا بدله في نيابة حلب، فتوجه إليها، ودخلها في العشر الأوسط من جمادى الأولى سنة خمسين وسبع مئة، فأقام بها أياماً قلائل.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - في التاريخ المذكور.
قطليجا
الأمير علاء الدين بن الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار، وأحد أمراء الطبلخانات بدمشق.
كان أبيض أزهر اللون، حسن الشكل تام الكون، ظريف الحركات، لطيف السكنات، على وجهه مسحة جمال، وفيه من البدر حسنه ليلة الكمال. لم ير أزرق العين أحسن منه مقله، ولا أفتك من جفونه في كل حمله.
وكان الأفرم يعض على حبه بالنواجذ، وله في حسنه إدراكات وما عليه فيها مآخذ، وكان هو ليس في دمشق من يلعب مثله بالكره، وله في الميدان صولة بها ومقدره، إلى خصائص أخر من فروسيته، ومحاسن تذهل العقول إذا فكرت في انفراده وجمعيته.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح شخصه مع قربه أبعد من أمسه، وتخيل الناس أن النجم دفن في رمسه.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة عشرين وسبع مئة، وكان في عشر الأربعين.
لما جاء السلطان الملك الناصر من الكرك إلى دمشق جعله في عداد السلاح دارية، وكان - على ما قيل - يسوق الفرس، ويأخذ نصف السفرجلة من غصنها، ويدع النصف مكانه وهو في أقوى مشوار الفرس، وهو أمر معجز لغيره.
وأما اللعب بالكرة فكان فيه غاية، يقال: إن برديته كانت زنة مئتي درهم وخمسين درهماً، ولقد جاء إلى صفد مرات والجوكندار الكبير في صفد نائب، وكان يلعب هو والأمير ناصر الدين محمد بن الجوكندار، وكنا نتفرج عليهما، ويقول الناس: هذا طبجي مصر وهذا طبجي دمشق. وكان الأمير ناصر الدين أرشق على ظهر الفرس وأسرع حركة، والأمير علاء الدين قطليجا إذا تناول الكرة بصولجانه ما يحتاج معه إلا ضربة واحدة وقد بلغها المدى.
ورأيته - رحمه الله، تعالى - كثيراً ما يتقيأ، ثم بعد ذلك يتغرغر بالخل والماورد، هذا دائماً، وكان يحسو من دهن اللوز المربى شيئاً كثيراً قنينة قنينة، وكان للأمير سيف الدين قطلوبك الكبير إليه ميل، ولما جاء إلى صفد نائباً أحضره من دمشق إلى صفد أميراً، ولما أمسك قطلوبك عاد قطليجا إلى دمشق على مكانه.
اللقب والنسب
القفصي: محمد بن سليمان.
ابن قطينة: شهاب الدين التاجر أحمد بن محمد، وزين الدين عمر بن أحمد.
قطنبة: شرف الدين حسن بن محمد.
ابن قليلة: عمر بن عوض.
قلاوز
الأمير سيف الدين الجمدار الناصري.(2/202)
كان من جملة أمراء الطبلخانات بدمشق، ثم إنه أعطي إمرة مئة وتقدمة ألف.
ولاه الأمير سيف الدين طقزتمر نيابة حمص، فأقام بها مدة. ثم إنه عزل منها، وكانت ولايته لحمص بعد الأمير سيف الدين بكتمر العلائي، ولما عزل من حمص حضر إلى دمشق وأقام بها، وتقدم عند الأمير سيف الدين يلبغا. ولما برز إلى الجسورة في أيام الكامل عاضده ووازره، ولما انتصر رعى ذلك له، وصار حظياً عنده يلازمه وينادمه. ولما كانت المرة الثانية برز معه إلى الجسورة في الأيام المظفرية، ولما هرب يلبغا لم يتوجه معه أحد من الأمراء غيره وغير محمد بن جمق، على أنه كان قد أودع خزائنه في داريا، وأراد أن ينهزم، فما أمكنه. ولم يزل معه في البرية إلى أن دخلا إلى حماة، والأمير سيف قلاوز ضعيف، وقد عمل قدامه مخدة على الفرس، وأقام بها مدة جمعة، وورم وازرق؛ لأنها كانت أيام شديدة الحر، وكان هو في نفسه سميناً بديناً.
فمات - رحمه الله، تعالى - في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة قبل أن يخرج يلبغا من حماة، رحمهما الله، تعالى.
قماري
الأمير سيف الدين الناصري أمير شكار.
كان من الأمراء الخاصكية الكبار في أيام الملك الناصر محمد. كان عند أستاذه مكينا، ثابت الأساس ركينا، زوجه إحدى بناته، وجعل غصنه في روض ملكه من أحسن نباته، ثم قدمه على الألف، وجعله أمير مئة يكون إماماً والناس من خلف، وكان عقله وافرا، ووجهه كأنه البدر سافرا.
ولم يزل في مراقي سعوده، ومعارج صعوده، إلى أن قمر الموت قماري، وناحت عليه الحمائم والقماري.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة بالقاهرة.
جاء إلى دمشق في مهم لأستاذه إلى تنكز في سنة خمس وثلاثين - أو ست وثلاثين - وسبع مئة، وحضر إلى الجامع الأموي بدمشق، وتفرج فيه وفي الفوارة بجيرون، وفي غيرها، وكان مجيئه في الظاهر بطيور جوارح على العادة، وفي الباطن بسبب إمساك الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك.
حكى لي القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: لما عاد من الشام أرسل إلي وإلى الدوادار وإلى أمير جاندار، وقال: ما أدخل إلى مولانا السلطان إلا بكم، فقلنا له: يا خوند، أنت ما أنت غريب، أنت من كبار الخاصكية، وزوج ابنة مولانا السلطان، فقال: أنا الآن في حكم الغرباء الأجانب، فلما قيل ذلك للسلطان أعجبه هذا التأني، وقال: جيداً عمل.
ولما تولى الملك الصالح إسماعيل أخذ قماري هذا وجعله أمير آخور، فأقام قليلاً، وجاء الخبر إلى دمشق بوفاته في أوائل جمادى الأولى من السنة المذكورة.
قماري
الأمير سيف الدين الناصري أخو الأمير سيف الدين بكتمر الساقي الناصري.
كان شكله مليحا، ووجهه يلوح به الجمال صريحا، عمل أستاذ دارية الملك الصالح إسماعيل، وكان يشارك في الكثير والقليل، أحد من يشار إليه، وتقوم أركان الدولة به وعليه. ورأى في أيام الصالح دهراً صالحا، وعيشاً لو شراه بالنفس كان رابحا، إلى أن أخرجه الكامل إلى طرابلس نائبا، وأتاها فكان أمله في الحياة خائبا، وقوض الخيام للرحلة الكبرى، وجعل العيون على فقده عبرى. وأمسك بطرابلس في أواخر ذي الحجة سنة ست وأربعين وسبع مئة.
كان الأمير سيف الدين قماري في أيام أخيه أميراً صغيراً لا يدرى به ولا يحس، ولما مات أخوه بكتمر الساقي في طريق الحجاز أعطاه السلطان إمرة مئة وتقدمة ألف، ولم يزل إلى أن خرج مع الفخري إلى الكرك لحصار أحمد، وحضر معه إلى دمشق ثم توجه إلى مصر وأقام بها أميراً كبيراً، ولما تولى الملك الصالح كان أستاذ داره، وكان أحد المشارين إليهم في تلك الدولة، فلما ولي الكامل شعبان أخرجه إلى طرابلس نائباً، فمرض في أول قدومه إليها مدة أشفى معها على التلف، ثم إنه انتعش منها واستقل. ولم يزل بها إلى أن حضر الأمير سيف الدين طقتمر الصلاحي في البريد، فأقام بدمشق أياماً قلائل، وتوجه إلى طرابلس في العشر الأواخر من ذي الحجة، وقبض عليه وأحضره مقيداً إلى دمشق، ثم إنه جهز منها على البريد إلى مصر مقيداً في ذي الحجة سنة ست وأربعين، وكان الناس قد أرجفوا بأنه قد عزم على أن يقفز باتفاق مع الأمير سيف الدين الملك نائب صفد.
قماري
الأمير سيف الدين، كان أخا الأمير علاء الدين أمير علي المارداني نائب السلطنة بدمشق.(2/203)
ورد مع أخيه من الديار المصرية في خامس ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وكان يعتمد على عصاً إذا مشى؛ لأنه كان عرج يسير، وكان بطالاً، فرسم له بعد مدة بخمسين درهماً في كل يوم مرتباً على الأموال الديوانية إلى أن ينحل إقطاع إمرة، فأخذ ذلك مدة، ولما توفي الأمير ججكتو التركماني بدمشق أعطي إقطاعه بالإمرة، وأقام على ذلك إلى أن مرض مرضة طول فيها، وأصابه فيها فالج.
ثم إنه ابتلي بالصرع، فكان يصرع في النهار عشر مرات وأكثر وأقل، وبقي على ذلك قريباً من خمسين يوماً حتى تعجب الناس من ذلك، ولم يسمع بمثل أمره، وأغمي عليه مرات، وجزموا بموته، ثم إنه يفيق بعد ذلك إلى أن توفي - رحمه الله، تعالى - في بكرة الأحد ثالث شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية برا باب النصر، ومشى أخوه ملك الأمراء في الجنازة والأمراء والحجاب والقضاة وغيرهم. وكانت جنازة حافلة. وبعد دفنه مد أخوه سماطاً على قبره أكل منه من كان حاضراً من مماليكه وغيرهم، ولم يأكل هو شيئاً، وبات على قبره، وجاء الناس إليه على طبقاتهم ثاني يوم بكره.
وكتبت أنا فيه مرئية قرأها ملك الأمراء أخوه، وهي:
إن حزني على الأمير قماري ... علم الورق شجوها القماري
باح سري فيه بمضمون وجدي ... لا أواري بين الضلوع أواري
سار فوق الأعناق للترب عزاً ... ودموع الورى عليه جواري
ونجوم الدجى لبسن حداداً ... وأرتنا تهتك الأستار
وعيون الغمام تبكي بجفن ... وتبل الثرى بدمع القطار
ولكم لطم الرعود سحاباً ... فتراه مشقق الأطمار
وجبين الصباح شق فأضحى ... شفق الصبح زائد الإحمرار
ونسيم الصبا يهب عليلاً ... بفتور في ساعة الأسحار
لو أفاد الفداء ميتاً سمحنا ... بنفوس جادت بغير اعتذار
وترامت من دونه للمنايا ... لا توان يعوقها في توار
غير أن المنون في الفتك لا تع ... با بسمر القنا وبيض الشفار
كاد لولا أخوه حي يسيل الد ... مع في الخد كالدم الموار
جرح الدمع ثم آسى ببقيا ... كافل الملك ذي الزناد الواري
ملك قد حمى دمشق بعزم ... آمن في مدى الردى من عثار
وبها العدل قد أقام وحكم الش ... رع في ربعها رفيع المنار
لا تحل الخطوب منها بربع ... فهي محروسة بعين الداراري
وندى كفه إذا جاد يلقى ... لأنسكاب الغمام فيها يباري
صبر الله قلبه في مصاب ... زاد منه الأموات أكرم جار
ترك المال والبنين وولى ... عن ديار البلى لدار القرار
هو ضيف قد بات عند كريم ... باذل العفو ساتر غفار
يا سمي الولي لا ذقت يوماً ... بعدها حادثاً من الأقدار
وحمى الله منزلاً أنت فيه ... ووقاه من دهرنا الغدار
وفدتك النفوس من كل سوء ... ما أزاح الدجى بياض النهار
اللقب والنسب
ابن القماج: القاضي جمال الدين أبو بكر بن إبراهيم.
ابن القماح: القاضي شمس الدين محمد بن أحمد.
القمولي: القاضي نجم الدين أحمد بن محمد. ونجم الدين محمد بن إدريس.
القمني: محمد بن الحسن.
القمي الشريف: محمد بن محمد بن أحمد.
القنائي: جماعة منهم: محيي الدين أحمد بن محمد، والشريف تقي الدين محمد بن جعفر.
القواس: المسند أحمد بن عبد الرحمن.
القواس البعلبكي: صالح بن أحمد.
القواس الوتار: علي بن إسماعيل.
ابن القواس: ناصر الدين عمر بن عبد المنعم. وناصر الدين محمد بن إسماعيل.
ابن قوام: الشيخ نجم الدين أبو بكر.
ابن قوام: الشيخ محمد بن عمر.
والقوام الكرماني: مسعود بن محمد.
ابن القوبع: ركن الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن.
القونوي: الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل.
والقونوي: الشيخ علاء الدين علي بن محمود.
قوصون(2/204)
الأمير الكبير النائب سيف الدين الساقي الناصري.
كان أميراً وهو في عداد الملوك الكبار، وهو المشار إليه في أواخر الدولة الناصرية وما بسواه اعتبار، ليس فيه شر، ولا عنده ظلم ولا ضر، لطيف النفس، قليل البأس، ولما هيجوه هاج منه ذو لبدة ضرا، وسلوا منه حساماً ما لقي الضريبة إلا فرى.
نهض بخلع أبي بكر المنصور، وأعاد ذاك الشمل وهو مبتوت ومبتور، ونثر من الدولة عقداً نظيما، وفرق بعزمه جمعاً عظيما، وفرق أموالاً تكاثر البحار الزخاره، والكواكب السياره، إلا أن الزمان أخنى عليه أخيرا، ورد جبره كسيرا، وطرف سعادته حسيرا، ولو دام على ما كان عليه أيام أستاذه لما رمي بالداهيه، ولا كانت شدته متناهيه:
توقى البدور النقص وهي أهلةً ... ويدركها النقصان وهي كوامل
فإن رمت أهنأ العيش فابغ توسطاً ... فعند التناهي يقصر المتطاول
ولما خانه أصفياؤه وتمادوا، وتعاونوا على خذلانه وتغادوا، قبض عليه ونهبت أمواله، وفرق رجاله، وخرجت عمائره وأوقافه، وانهالت كثبه وأحقافه، وأصبح لعدوه رحمه، وصار بينه وبين الفرج زحمه، واعتقل بثغر الإسكندرية إلى أن خنق واشتفى منه كل قلب حنق.
وكانت واقعته التي عدم فيها في شوال سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
كان أولاً من أكبر خواص الملك الناصر، لم يكن بعد بكتمر الساقي أكبر منه، وزوجه السلطان ابنته - وهي ثانية ابنة زوجها من مماليكه - ودخل بها في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وكان عرساً حفلاً احتفل به السلطان، وحمل الأمراء التقادم إليه، وكانت جملتها خمسين ألف دينار، وكنت بالقاهرة في تلك المدة، وصنع في ليلة عرسه الأمير سيف الدين قجليس برج بارود ونفط يقال: إنه غرم عليه مقدار ثمانين ألف درهم.
وكان من قوصون قد حضر أولاً إلى الديار المصرية مع الجماعة الذين حضروا صحبة ابنة القان أزبك زوج السلطان، وهو ابن ناس ولم يكن مملوكاً، ولكنه طلع يوماً مع تجار المماليك ليرى السلطان قريباً، فوقعت عين السلطان عليه، فقال: لأي شيء ما تبيعونني هذا؟ فقالوا: هذا ما هو مملوك، فقال: لا بد أن أشتريه، فوزن فيه مبلغ ثمانية آلاف درهم وجهزت إلى أخيه صوصون إلى البلاد، ثم إنه أنشأه وقدمه وأمره ورشحه لكل شيء، وأعطاه آمرية مئة وتقدمة ألف، وصار في طبقة بكتمر الساقي، وكان يتنفس عليه ويفتخر، ويقول: أنا السلطان اشتراني بماله، وكنت من خواصه وأمرني وقدمني وزوجني ابنته، ما أنا مثل غيري تنقلت من التجار إلى الاصطبلات إلى الطباق.
وعمر جامعاً حسناً على بركة الفيل وعمر الخانقاة المليحة العظيمة بالقرافة وكان السلطان يتنوع في الإنعام عليه. قيل: إن السلطان دفع إليه مفتاح الزردخاناه التي لبكتمر الساقي وقيمتها ست مئة ألف دينار.
ولما مات السلطان الملك الناصر قام هو في صف المنصور أبي بكر، وقام في صف الناصر أحمد الأمير سيف الدين بشتاك، واختلفا، وفي الآخر كان الأمر على ما أراده قوصون حسبما تقدم ذكره في ترجمة بشتاك، وجلس الملك المنصور أبو بكر على التخت، واستقرت قواعده. ثم إن خلطاءه حسنوا له القبض على قوصون وعلى غيره من الأمراء، فبلغ ذلك قوصون، فعمل عليه وخلعه من الملك وجهزه إلى قوص، وأجلس أخاه الأشرف كجك على كرسي الملك، وحلف الناس له، وصار هو نائباً، وجهز الفخري إلى الكرك يحاصر أحمد، فجرى ما جرى في ترجمة الفخري.(2/205)
وكان طشتمر نائب حلب قد تنفس أولاً على قوصون، فاستعان عليه بألطنبغا نائب دمشق، ولما خرج من دمشق خامر الفخري على قوصون، وحضر إلى دمشق، وملكها، وجرى ما تقدم، وأغرى الفخري الناس بقوصون، وصار يقول: هذا الغريب يخلع ابن أستاذنا ويقتله؟! هذا ما نصبر عليه. وظهر الشناع على قوصون لما قتل أبو بكر في قوص، وكان قد قتل جماعة من الحرافيش، وقطع أيدي جماعة وسمرهم، وسمر جماعة من الخدام، وسمر ولي الدولة الكاتب الذي تقدم ذكره، وغيره، فنفرت القلوب منه، وأخذ الفخري يكاتب أمراء مصر عليه، فتنكر أيدغمش أمير آخور عليه، وعامل الخاصكية عليه، فاجتمعوا عنده، وأقاموا ليلتهم عنده صورةً في الظاهر معه، وهم في الباطن عليه عيون، ونادى أيدغمش في الناس بنهب إصطبل قوصون، فثار العوام والحرافيش، وخربوا الإصطبل والخانقاه ونهبوهما، ونهبوا بيوت جماعته وألزامه وحاشيته، وهو يرى ذلك من الشباك ويقول: يا مسلمين، ما تحفظون هذا المال، إما أن يكون لي أو للسلطان، فيقول أيدغمش: هذا شكران للناس، والذي عندك فوق من الجواهر يكفي السلطان، وكلما هم قوصون بالركوب في مماليكه الذين لبسوا السلاح كسر الخاصكية عليه وقالوا له: يا خوند، نحن غداً نركب، ونرمي هؤلاء بالنشاب وقد تفرقوا. لوم يزالوا به إلى أن أمسكوه وقيدوه وجهزوه مع ألطنبغا نائب دمشق وغيرهما، واعتقلوهم في ثغر الإسكندرية - على ما تقدم في ترجمة ألطنبغا - .
ولم يزل معتقلاً بها إلى أن حضر الناصر أحمد من الكرك، وجلس على كرسي الملك بقلعة الجبل، ثم إنه اتفق آراء الدولة على أن جهزوا الأمير شهاب الدين أحمد بن صبح إلى الإسكندرية، فدخل إلى السجن، وخنق ألطنبغا وقوصون وغيرهما في شوال أو في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة.
ولما مات - رحمه الله، تعالى - خلف عدة بنين وبنات.
وكان خيراً يعطي العشرة آلاف درهم والألف إردب قمحاً.
وكان إذا انفرد عن السلطان وهو في الصيد وتوجه هو لنفسه يروح معه ثلث العسكر، وكان الناس يهرعون إلى بابه، ويركب قدامه في القاهرة مئة نقيب أو دون ذلك.
وكان أخوه صوصون أميراً، وابن أخته الأمير سيف الدين بلجك أميراً.
وكان قد وقع بينه أخيراً وبين تنكز، ولما أمسك تنكز وحمل إلى باب السلطان ما عامله قوصون إلا بالجميل، وخلصه من القتل وأشار بحبسه. وعمل النيابة جيداً، وأنعم على الأمراء والخاصكية، وفرق فيهم وفي عسكر مصر - على ما قيل - ست مئة ألف دينار، ولم يتم أمره مستقيماً في النيابة شهرين حتى خرج عليه طشتمر من حلب والفخري من الكرك، وكثرت البثوق عليه، وأعياه سدها، ونهب الناس والحرافيش شيئاً كثيراً إلى الغاية، حتى إن الدينار أبيع بعشرة دراهم كل مثقال وبأقل لكثرة ما نهب.
وعلى الجملة فكان أمره في أول حاله وفي وسطه وفي آخره من أعاجيب الزمان وغرائب المقدورات.
وقلت أنا في واقعته مع أيدغمش:
قوصون قد كانت له رتبةً ... تسمو على بدر السما الزاهر
فحطه في القيد أيدغمش ... من شاهق عال على الطائر
ولم يجد من ذله حاجباً ... فأين عين الملك الناصر
صار عجيباً أمره كله ... في أول الأمر وفي الآخر
الألقاب والأنساب
القلانسي جماعة، منهم: مفيد بغداد جمال الدين أحمد بن علي. ومنهم: جمال الدين وكيل بيت المال أحمد بن محمد. ومؤيد الدين أسعد ابن الصاحب عز الدين حمزة. وجلال الدين إبراهيم بن محمد. وأمين الدين بن الجلال حسن بن علي. وعلاء الدين وكيل بيت المال علي بن محمد. والصاحب عز الدين حمزة بن أسعد. عز الدين المحتسب محمد بن أحمد. وشرف الدين محمد بن علي. وشرف الدين محمد بن محمد. ومحيي الدين محمود بن محمد. ونجم الدين محمد بن أسعد. وأمين الدين كاتم السر محمد بن أحمد.
قيران
الأمير شرف الدين المنصوري.
كان في القاهرة أمير عشرة، يسكن بالحسينية، وينوب في الأستاذ دارية، وصحب ابن معضاد، ويحفظ شيئاً من كلامه.
ثم إنه نقل إلى شد الديوان بدمشق، وأقام بها مدة. ثم إنه نكب مدةً،ثم نقل إلى حلب، ثم إنه قطع خبره.
وقدم دمشق وكانت نيته أن يتوجه إلى مصر، فتوفي - رحمه الله، تعالى - بداره في درب تليد بدمشق في شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبع مئة.(2/206)
القيراطي: شرف الدين عبد الله بن محمد.
الألقاب والأنساب
بنو القيسراني جماعة: عماد الدين القيسراني إسماعيل بن محمد. وولده القاضي شهاب الدين يحيى. وشمس الدين إبراهيم بن عبد الرحيم. والصاحب فتح الدين عبد الله بن محمد. وعز الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد الله. وشرف الدين محمد بن عبد الله.
قيصر
الحلاوي بالقاهرية. كان مشهوراً بجودة الحلوى يضرب به المثل في ذلك، مع المواظبة على الخير والصلوات في أوقاتها.
توفي - رحمه الله، تعالى - في تاسع شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ابن قيم الجوزية: شمس الدين محمد بن أبي بكر. وولده عبد الله بن محمد.
ابن القيم: علي بن عيسى.
حرف الكاف
الألقاب والأنساب
الكامل: شعبان بن محمد.
والملك الكامل: محمد بن عبد الملك.
الكازروني: علي بن محمد.
الكاساني: محمد بن إبراهيم.
كاوزكا
الأمير سيف الدين المنصوري.
كان من أكابر أمراء دمشق، ومن أكبر مماليك السلطان الملك المنصور.
ورثه السلطان الملك الناصر محمد بالولاء لما توفي في ذي القعدة سنة ست وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون.
ومما يحكى عنه أنه كان إذا استعمل الشراب وطاب وثمل وانتشى أمر مماليكه أن يخرجوا إلى مهتار الطبلخاناه ويأمروه بدقها، واشتهر ذلك عنه واستفاض، وإلى الآن بعض الناس يقول إذا سمع طبلخاناه في غير وقتها: سكر كاوزكا.
1392 - م -
كبيس بن منصور بن جماز
الشريف أمير المدينة الحسيني.
تولى إمرة المدينة لما قتل والده منصور في رابع عشر شهر رمضان سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ولم يزل بها إلى أن قتل أيضاً في شهر رجب سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ابن الكتاني: الشيخ زين الدين عمر بن أبي الحرم.
كتبغا
الملك العادل زين الدين المنصوري المغلي.
كان فيه دين وتعبد، وخير ومزايا له بها تفرد. عديم الشر لا يناوي من ناواه، ولا يقاوي من قاواه، منقاداً لأحداث دهره، مرتاداً لما يريده من خيره وشره، ولذلك سلمت له العاقبه، وأفادته الإنابة إلى الله والمراقبه. ولكن جاء الغلاء المفرط في أيامه، ونقص النيل زائداً عما عهد في قديم أعوامه، فتشاءم الناس بطلعته، ولم ينفق القدر له رديء سلعته، وكان إذا رأى ذلك زاد بكاؤه، وعظم ابتكاؤه، وقال: هذا بحظي وخطيئتي، وهذا جاء في قسمي وقدر في عطيتي:
وغايتي أن ألوم حظي ... وحظي الحائط القصير
ثم إن أخصاءه خانوه، وشانوه بعدما زانوه، ولما فطن لما بطن، وعلم أن الشر قد خيم عنده بعدما قطن، فعل كما فعل الحارث بن هشام، ونجا برأس طمرة ولجام، وتحصن بقلعة دمشق فما أفاده، ثم إنه رجع بعد ذاك إلى الهواده، ونزل على حكم اليد الغالبه، ورضي بعد الموجبة بالسالبه، فأمسى في حالة بعين الرحمة مرموقه، وأصبح بعد أن كان ملكاً وهو في عداد السوقه، عبرة لمن تذكر، وتبصرة لمن تفكر.
واضطر إلى قلعة صرخد بعد ملك مصر والشام، وقعد على مقالي النار بعد ذلك المقام، ثم بعد لأي لوى الزمان إليه عنانه، ورفع قليلاً مكانه، وتوجه إلى حماه، وأرشفه ثغر الزمان لماه، فأقام بها إلى أن زار الموت حماه، وأصابه بسهمه لما رماه.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - في يوم النحر نهار الجمعة سنة اثنتين وسبع مئة، ونقل تابوته إلى دمشق، ودفن بتربته بسفح قاسيون.
وكان - رحمه الله، تعالى - أسمر قصيراً دقيق الصوت، لحيته صغيرة في حنكه، أسر حدثاً من عسكر هولاكو نوبة حمص الأولى في آخر سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وأمره أستاذه الملك المنصور، وكان من أمراء الألوف، ثم إنه عظم في دولة الأشرف، التف الخاصكية عليه، وحمل بهم على بيدرا وقتلوه. ولما حضر السلطان الملك الناصر من الكرك عقيب ذلك جعله نائبه، واستمر الحال سنة، ثم تحول الناصر إلى الكرك، وتسلطن كتبغا ولقب العادل، ونهض بأمره لاجين وقراسنقر وطائفة كان قد اصطنعهم في نوبة الأشرف، وتمكن.
وكان جلوسه على الكرسي في يوم الأربعاء حادي عشر المحرم سنة أربع وتسعين وست مئة.
وقدم إلى دمشق يوم السبت منتصف ذي القعدة سنة خمس وتسعين، وصلى بجامعها الأموي غير مرة.(2/207)
وسافر في الجيش إلى حمص، ثم رد وعاد إلى مصر، فلما كان بأرض بيسان وثب عليه حسام الدين لاجين وشد على مملوكيه بتخاص وبكتوت الأزرق، فقتلهما في الحال، وكانا عضدي كتبغا، واختبط الجيش، وفر كتبغا على فرس النوبة. يقال: إن لاجين لحقه وضربه بطومار رماه به، وقال: انج بنفسك، وتبعه أربعة من مماليكه لا غير، وذلك في صفر سنة ست وتسعين وست مئة.
وكانت دولته سنتين وبعض شهر.
وساق كتبغا إلى دمشق، فتلقاه مملوكه نائبها في الأمراء وقدم القلعة، ففتح له نائبها أرجواش الباب، ودقت له البشائر، ولم يجتمع له أمر، واجتمع كجكن والأمراء، وحلفوا لصاحب مصر، وصرحوا لكتبغا بالحال، فقال: أنا ما مني خلاف، وخرج من قصر السلطنة إلى قاعة صغيرة، وبذل الطاعة للاجين، وقال: هو خوشداشي، فرسم له أن يقيم بقلعة صرخد، وأتاه بعض نسائه وغلمانه. وانطوى ذكره إلى بعد نوبة غازان، فأعطاه السلطان الملك الناصر حماة، فأقام بها إلى أن مات في التاريخ المذكور.
وكان السلطان الملك الناصر يكرهه وما يذكره بصالحة، ويقول: ما أنسى وقد أخرجني إلى الكرك، وفك حلقة من أذني فيها لؤلؤة، وأخذها وحطها في جيبه، وقل أن كان يرى له توقيعاً فيمضيه، وفيه يقول علاء الدين الوداعي لما خلع على أهل دمشق - ومن خطه نقلت - :
أيها العادل سلطان الورى ... عندما جاد بتشريف الجميع
مثل قطر صاب قطراً ماحلاً ... فكسا أعطافه زهر الربيع
كتبغا
الأمير زين الدين أمير حاجب الشام. أظنه تولى نيابة شيزر في وقت.
كان الأمير سيف الدين تنكز يعظمه، ويجلسه قدامه ويكرمه، ويرمل هو على يده، ويتوشح بما غلا من قلائده.
وكان في نفسه رئيساً، وقدر المال عنده خسيسا، وكان يحضر السماعات، ويرقص في الجماعات، ويعمل في كل سنة مولداً للنبي - عليه الصلاة والسلام - ، ويجمع فيه الخاص والعام، ويقف ويخدم بنفسه الفقراء، ويبالغ في ذلك ويعرض عن الأمراء. إلا أنه كانت فيه استحاله، وإعراض عما يثق به في الحاله.
ولم يزل على حاله إلى أن انتهت مدته، وفرغت عدته.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - في آخر نهار الجمعة ثامن عشري شوال سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، ودفن بتربته في القبيبات.
وكان تنكز يعظمه ويحترمه، ويحب حديثه ويصغي إليه، ويقبل شفاعاته، ويزوره في بيته.
وأظنه في وقت مشى بالفقيري، ولبس زي الفقراء، وكان إذا دخل إليه إنسان في بيته في أمر قال: السمع والطاعة، من أحق منك بهذا الذي تطلبه؟! قف غداً لمولانا ملك الأمراء، وأنا أساعدك، وتبصر ما أقول، فإذا وقف ذلك المسكين قال: يا مولانا، أي حائك قام، وأي بيطار قام، قال يريد يبقى جندياً. فإذا سمع ذلك الأمير سيف الدين تنكز قال: نحه، فتتناول المسكين العصي من كل جانب، ولكن هذا في بعض الأحايين. ولكنه كثيراً ما يشكر الناس عند تنكز، ويثني على من يعرفه ومن لا يعرفه حتى تحقق منه ذلك. ورتبوا يوماً قصة بعلم تنكز باسم إنسان يطلب إقطاعاً، وقرئت يوم الخدمة وهو حاضر، فقال: نعم يا خوند، أعرفه وأعرف أباه، وهو مسكين بطال، وفي هذه الجمعة حضر من حلب، فقال تنكز: أبصر جيداً، فقال: سبحان الله، وجهز نقيباً إلى ذلك الشخص، وأحضره، وكان الأمر كما قال، فتعجب تنكز من ذلك، وأعطى ذلك إقطاعاً، وكانت هذه من الغرائب.
وحج - رحمه الله، تعالى - غير مرة، وفرق في الحرمين مالاً وافراً.
وكان قد ولي شد الدواوين بدمشق والأستاذ دارية عوضاً عن الأمير سيف الدين أقجبا في ثالث عشري شوال سنة تسع وسبع مئة. وولي الحجوبية بالشام عوضاً في شهر رمضان سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
كجك بن محمد بن قلاون
السلطان الملك الأشرف علاء الدين ابن الملك الناصر ابن الملك المنصور.
لما خلع قوصون الملك المنصور أبا بكر ولى هذا كجك الملك، وأجلسه على التخت، وحلف له، وحلف له العساكر بمصر والشام، وكان عمره يومئذ خمس سنين تقديراً، وذلك في أواخر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة. واستقل الأمير سيف الدين قوصون بكفالة الممالك، وصار نائبه، وإذا حضرت العلامة أعطي قلماً في يده، وجاء فقيهه المغربي الذي يقرئ أولاد السلطان، ويكتب العلامة، والقلم في يد السلطان علاء الدين كجك.(2/208)
ثم إن الفخري خرج لمحاصرة الكرك، وكان ما كان، وجرى ما جرى - على ما تقدم في ترجمة ألطنبغا والفخري - ولما توجه الناصر أحمد من الكرك إلى مصر في شهر رمضان جلس على كرسي الملك، وخلع الأشرف كجك، وانفصل من الملك. ثم تولى أخوه الصالح إسماعيل بعد خلع الناصر، ولما توفي الصالح تولى الكامل شعبان.
وجاء الخبر إلى الشام بوفاة كجك - رحمه الله، تعالى - في سنة ست وأربعين وسبع مئة.
كجكن
الأمير سيف الدين المنصوري.
كان من أكابر مقدمي الألوف بدمشق، قديم الهجرة في الإمره، كثير المعرفة بالصيد والخبره، كثير الخدم، غزير الحشم، عمر دهراً صالحاً، وقطع عيشاً ناجحا، وهو وافر الحرمه، ظاهر النعمه، معظم عند النواب، مفخم على مر السنين والأحقاب.
ولم يزل على حاله أن ابتلعه فم القبر، وتعذر فيه على ذويه الصبر.
وتوفي - رحمه الله، تعالى - سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
وسمى أولاده الثلاثة الذكور كلا منهم محمداً، وأظنه كان قد نزل عن إقطاعه قبل وفاته بقليل، وكان السلطان الملك الناصر ينتظر موته، ويسأل عنه كل من يصل إلى دمشق.
أخبرني الأمير شرف الدين حسين بن جندر بك قال: لما حضرت قدام السلطان عند حضوري من دمشق قال لي أشياء سأل مني عنها، ومنها قال لي: أيش حس كجكن، فقلت: طيب.
وكان قد أمسك في دولة الناصر محمد في يوم الجمعة حادي عشري شهر رجب سنة ثمان وتسعين وست مئة.
كراي
الأمير الكبير سيف الدين المنصوري نائب صفد ودمشق.
كان شديد المهابه، بطيء الرجوع إذا غضب والإنابة، أطيش من حبابه، وأطير من ذبابه، إذا غضب لا يقوم شيء لغضبه، ولا تهجم الأسود على سلبه، ولا تقدم الملوك على غلبه؛
يقوم مقام الجيش تقطيب وجهه ... ويستغرق الألفاظ من لفظه حرف
إلا أنه كان شديد الديانه، مديد الصيانه، عفيف الفرج مع القدره، عزوف النفس لا يتناول من مال غيره ذره. لا يقبل لأحد هدية، ولا يدع ما فيه شبهة يدخل نديه.
وكان مغرى بالنكاح لا يكاد يفارقه، ولا يشغله عنه ولا يسارقه، ومع ذلك فكفه أندى من الغمام، وأجود من النسيم بالطيب إذا مر بالزهر وشق عنه الكمام، يحب الطرب الدائم، وسماع النغم الملائم. وكان منهوماً في المآكل والمشارب، ملهوفاً في تفرقة طعامه لكل مستخف وسارب، وما رزق في نيابة دمشق سعادة، ولا وافقته المقادير على ما أراده، وأبغضه أهلها، ونفر منه حزنها وسهلها، فأمسك فيها بعد قليل، وخرج منها بعدما رشف كأس الذل ورسف في القيد الثقيل، وذلك في يوم الخميس ثاني عشري جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
أنشدني لنفسه الشيخ علاء الدين بن غانم:
أنا راض بحالتي لا مزيد ... وبأن لا أزال عند الحميد
إن في أمر كافل الملك بالشا ... م عظات للحازم المستفيد
جاه بالتقليد أرغون بالأم ... س وولى وعاد بالتقييد
كان أولاً نائباً في صفد بعد الأمير فارس الدين ألبكي، وأقام بها إلى أن توجه في واقعة غازان، وحصلت الكسرة، فحضر هو إلى صفد، وقصد القلعة لإيداع حريمه بها، وانجفل الناس، فلم يفتح له الباب، وسبه جماعة من مستخدمي القلعة، وآلموه بالكلام، فقال: أنا ما أدخل، ولكن افتحوا للحريم، فلم يسمعوا له، وبقيت هذه النكاية في خاطره.
ولما توجه إلى مصر، طلب العودة إلى نيابة صفد، فعاد إليها، وقتل أولئك الذين جاهروه بالأذى ومنعوا حريمه بالمقارع، ونفاهم منها. ثم إنه توجه إلى مصر، وحضر بدله الأمير سيف الدين بتخاص، وأقام بمصر مدة، ثم إنه رمى إقطاعه وأقام بالقدس مدة يأكل من ريع أملاكه وهو بطال. ولم يزل إلى أن حضر السلطان من الكرك إلى دمشق، فحضر إليه وقال له: أي من ملك غزة ملك مصر، فقال له السلطان: أنت لها. وجهزه إلى غزة، فملكها، وأقام بها، وكان الأمر كما قال.
وقلت أنا في ذلك:
كرائي الذي أهدى الكرى لجفوننا ... وجمع شمل الملك بعد تنائي
أشار على السلطان يحفظ غزةً ... فلم أر في عمري كرأي كرائي(2/209)
ودخل معه إلى القاهرة ثم إن السلطان جهزه في عسكر مصر إلى حمص، فأقام بها قليلاً، وساق في ليلة العيد بالعساكر من حمص إلى حلب، ولم ينفجر الصبح إلا وقد أحاط بالعساكر على دار النيابة بحلب، وأمسك أسندمر، وحضر إلى دمشق نائباً في يوم الخميس حادي عشر المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ووصل تقليده إلى دمشق على يد الأمير سيف الدين أرغون الدوادار في خامس عشري المحرم من السنة المذكورة.
وحلف بالطلاق من زوجاته أنه ما يطلع على أحد سرق النصاب الشرعي إلا ويقطع يده، فضاق الناس منه، وبعث أحضر الناس المباشرين والكتاب من حمص إلى غزة لعمل الحساب في الزناجير، وضيق على الناس، وشدد واتكل في العلامة على الشيخ نجم الدين الصفدي لأنه كان يعرفه في صفد، وجعل دركها عليه، فكانت العلامة تحمل إليه، ويعتبرها شيئاً فشيئاً، فما رآه سائغاً وضعه في فوطة العلامة، ودخل به وما ارتاب فيه عزله عنها.
ولما كان في جمادى الأولى من السنة المذكورة، قرر على دمشق ألف وخمس مئة فارس، يقومون بها، لكل فارس خمس مئة درهم، وطلب الأكابر بالترسيم إلى دار الوالي، وتجمعوا لتقرير ذلك، وندب من يحضر، ويقف على الأملاك والأوقاف، وغلظ على الناس، وحلفوهم على مقدار الأجر، فضاق الناس، وتوجه الأعيان إلى الخطيب جلال الدين، فقام في ذلك، واجتمع بالحكام وقرر دفع القضية معهم ليكون الكلام في يوم الاثنين مع الأمير سيف الدين كراي. وخرج الناس بكرة النهار، ومعهم المصحف الكريم والأثر النبوي والصناجق التي على المنبر، فلما كان النائب واقفاً في سوق الخيل، ورأى ذلك السواد الأعظم من بعد والأطفال وغيرهم، فقال: ما هذا؟! فقالوا له: أرباب الأوقاف والأملاك وأرباب الرواتب على الجامع جاؤوا بسبب هذا المقرر عليهم، فقال: ردوهم، وقل لهم: الشغل انقضى، فجاء الأمير سيف الدين قطلوبك بن الجاشنكير الحاجب، وهو يعرف خلق النائب، فقال لهم: بسم الله، ارجعوا، فقد انقضى شغلكم، فقالوا له: المصحف ما يرد، فقال: ارجعوا وإلا ما هو جيد لكم، فأبوا، فشال العصا بيده، يشير إلى أنه يضرب بها، وكان المصحف الكريم - فيما أظن - على رأس الخطيب، فهرول به، فوقع المصحف الكريم إلى الأرض، فلما رآه الناس قد وقع تناولوه بالحجارة، فرده الحاجب إلى النائب والحجارة في قفاه، ووقع بعضها قدام كراي، فاشتد غضبه ورد إلى القصر، وأخرق بقاضي القضاة ابن صصرى، وقال: كل هذا عملك، فأنكر ذلك، وحلف له، فسبه، وأخرق به وبالخطيب، فقال له الشيخ نجم الدين التونسي: اسكت، كفرت. فرماه إلى الأرض، وضربه ضرباً مؤلماً كثيراً، ورسم عليهم، ثم أطلقهم بضمان وكفلاء.
ولم يكن بعد ذلك إلا دون العشرة أيام حتى حضر الأمير سيف الدين أرغون الدوادار من مصر يوم الأربعاء، وأحضر له تشريفاً عظيماً، فلبسه ثاني يوم بكرة، وعمل الموكب، وحضر دار العدل، ومد السماط، فأخرج أرغون كتاباً عظيماً مطلقاً إلى الأمراء بدمشق بإمساك كراي، فأمسك في التاريخ المذكور، وقيد في الحال، وجهز إلى الكرك صحبة الأمير سيف الدين اغرلو العادلي والأمير ركن الدين بيبرس المجنون، وكان قد أمسك الصاحب عز الدين بن القلانسي، ورسم عليه.
ولما كان في مستهل جمادى الأولى حكم القاضي نجم الدين الدمشقي نائب ابن صصرى ببطلان البيع الذي اشتراه ابن القلانسي من تركة السلطان الملك المنصور في الرمثا والسبوخة والفضالية لكونه بدون قيمة المثل، وبعزل الوكيل الذي صدر منه البيع قبل عقد البيع، ولوجود ما يوفى منه الدين غير العقار، ونفذ الحكام ذلك. ثم إن القاضي تقي الدين الحنبلي نقض ذلك في تاسع شعبان من السنة المذكورة، وادعى قبل هذا على الصاحب عز الدين واعتقل، فلما كان في يوم إمساك كراي خرج الصاحب عز الدين بن القلانسي من الاعتقال من دار السعادة، وفرح الناس بخلاصه، وبإمساك كراي.
ثم إن السلطان بعث إلى كراي وهو معتقل في الكرك من يخدمه، وجهز إليه جارية من حظاياه، وأقام كذلك إلى أن مات - رحمه الله تعالى - وكان له أربع زوجات وثلاثون سرية، وكان إذا سافر إلى الصيد استصحب نساءه معه، لأنه لا يقدر على الصبر عن النكاح، وتزوج بابنة الأمير سيف الدين قبجق وهو بدمشق.(2/210)
قال لي الشيخ: نجم الدين الصفدي - رحمه الله تعالى - : لما دخل على بستان ابنة قبجق غرم عليها حتى صارت عنده أربع مئة ألف درهم، وبعث إلى الأمير سيف الدين بهادر آص يقول: يا مسلمين يكون هذا، يكون هذا خوشداشي أنا وإياه مماليك بيت واحد وهو في مدينة أنا فيها، وهو نائب سلطان، ويدخل على زوجته، وما أقدم له شيئاً، والله ما أعرف قبول هذه البقج إلا منك، قال: فدخلت عليه، وقلت له: يا خوند أنا رجل غريب في هذه المدينة، وهذا الأمير سيف الدين بهادر آص أكبر من فيها وما بعدك أكبر منه، وقد قال: كذا وكذا، فقال: أين هذا الذي أحضره؟ فأحضرته، فقبله جميعه قطعة قطعة، ثم قال: قل له: أنت تعلم أخلاقه ومحبته لنسائه وجواريه، وهو قد حلف بالطلاق منهن وبعتقهن أنه ما يقبل في هذه النيابة لأحد من خلق الله تعالى شيئاً قل ولا جل، فأنت رأيت يا خوشداش طلاق زوجاته وعتق جواريه فالأمر أمرك. قال: فأعدت ما قاله عليه، فقبل العذر في ذلك.
وكان يحب الطرب، فأحضر ابن غرة العواد، وآخر يلعب بالكمنجا، وآخر دفياً، ورتب لهم معاليم على ديوانه، وقال لهم: أقسم بالله ما يتكلم أحد منكم في فضول، أو يحضر قصة، أو غير ذلك إلا كانت يده قبالة ذلك أو لسانه، وقد أكفيتكم، وهذا الطعام أنتم فيه وفي الفاكهة وفي الحلوى وفي المشروب ليلاً ونهاراً، فكلوا واشربوا وغنوا، ليس إلا.
وكانت له قصعة تسع ثمانية أرؤس غنماً يحملها أربعة عتالين يملؤها يوماً حلوى سكرية، ويوماً طعام أرز مفلفلاً، ولا يزال ليله ونهاره في مشروب وأطعمة وفاكهة وحلوى، واعتذر للسلطان عن إمساكه، فقال: ماله عندي ذنب إلا أنه خوشداش بكتمر الجوكندار، ولما أمسكت هذا؛ خفت من ذاك لئلا يتغير فإن نفسه قوية.
وراح في وقت إلى إقطاعه بالصعيد، واستغل من قرية ست مئة ألف درهم، فخطر له أن يدخل إلى بلاد السودان، ويفتحها، وقال لي - وأنا في الكرك - : أنا أقيم لك ست مئة جندي.
كرت
الأمير سيف الدين المنصوري نائب طرابلس.
كان من الفرسان المذكورة والأبطال المشهورة. له دين متين، وسلطان في التقوى مبين، وفيه بر ومعروف، وجوده على الفقراء والصالحين معروف.
حمل على التتار في الواقعه، وبين الفروسية ذلك اليوم لما ضاقت الرقعه، وأبلى بلاءً حسناً وقتل منهم جماعه، وخاض فيهم، فملأ الموت بالمصاع صاعه، وذلك في سنة تسع وتسعين وست مئة.
كان هذا الأمير سيف الدين من مماليك الأمير ضياء الدين بن الخطير، وجعله السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين حاجباً في أيامه، ثم إنه تولى نيابة طرابلس، وأبلى في واقعة غازان، وقتل من التتار جماعة، ثم إنه خاض فيهم فاستشهد، رحمه الله تعالى.
وكان فيه اعتناء بأهل الخير وأهل الحرمين، وله بالقدس رباط وعليه وقوف، وكان كثير الصدقة، متين الديانة.
كرت
الأمير سيف الدين الناصري، أخو الأمير سيف الدين طغاي الكبير المقدم ذكره.
حضر إلى صفد بتبع واحد، وأقام بها مدة، ثم إنه نقل في أواخر أيام الأمير سيف الدين تنكز إلى دمشق، وبقي كذلك إلى أيام الفخري، فجهزه إلى البلاد الرومية إحضار سيف الدين طشتمر، وأنعم عليه. ثم إن الناصر أحمد أمره طبلخاناه، وأقام بدمشق مديدة، ثم إنه جهزه إلى جعبر نائباً، فأقام بها قليلاً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
كرجي
الأمير سيف الدين.
كان جريئاً شجاعاً كثير التهور، شديد الإقدام ظالم النفس، هو الذي قتل السلطان حسام الدين لاجين - على ما سيأتي - .
ثم إنه قتل لما قتل طغجي، وطيف برأسه في القاهرة سنة ثمان وتسعين وست ومئة، قتله كردي من الحسينية برا القاهرة بين الكيمان.
اللقب والنسب
ابن الكركري: الأمير سيف الدين بهادر.
كرماس
الأمير سيف الدين، أحد أمراء البلخانات بدمشق.
توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن عشري المحرم سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
اللقب والنسب
كريم الدين الكبير: عبد الكريم بن هبة الله.
وكريم الدين الصغير: أكرم.
كستاي
بضم الكاف وسكون السين المهملة وبعدها تاء ثالثة الحروف وألف ممدودة وياء، الأمير سيف الدين الناصري.(2/211)
كان من أحسن الأشكال وأتمها، وأجمعها للمحاسن وأعمها، يميل إلى الأفاضل، وذيله بالإحسان إليهم فاضل، وله دين، وفيه خير وإحسان وبر، يسقط على حبه الطير، وكان خطه كحظه زائد الحسن والقوه، فائق الرونق، كأنه في العلامة عروساً على البصائر مجلوه.
تولى نيابة طرابلس، فأحسن فيها الولاية، وأظهر الاحتفال بعدله والعنايه.
ولم يزل بها على حاله إلى أن كست كستاي أكفانه، وجرى عليه من الدمع غدرانه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في جمادى الآخرة سنة ست عشرة وسبع مئة.
كان في رفعة طغاي الكبير، وهو ثانيه في المنزلة، ثم إن السلطان الملك الناصر أخرجه إلى نيابة طرابلس في جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبع مئة عوضاً عن تمر الساقي.
كشتغذي
الأمير الكبير المعمر علاء الدين أبو أحمد الخطائي.
كان شيخاً معمراً، جاوز التسعين. وسمع من النجيب الحراني ومن بعض أصحاب البوصيري والخشوعي.
توفي - رحمه الله تعالى - ثاني عشر جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبع مئة.
اللقب والنسب
الكفري: الشيخ شهاب الدين الحسين بن سليمان.
ابن كسيرات: تاج الدين علي بن إسماعيل.
ابن الكلاس: علاء الدين علي بن محمد.
كماليه
بفتح الكاف وبعدها ميم وألف ولام وياء مشددة وهاء.
أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين، قال: كانت المذكورة أديبة شاعرة، ذكرها لي ناصر الدين شافع وقال: إنها كاتبت شعراء عصرها من أهل مصر. قال: وأخبرني فتح الدين البكري، وأنشدني قال: كتبت كماليه إلي:
سمعت من شعرك سحراً غدا ... يخامر الألباب إذ ينفث
أصبح كالخمرة في فعلها ... فهو بألباب الورى يعبث
الكمالي: الأمير شمس الدين سنقر الحاجب.
كنجشكب
بالكاف المضمومة والنون الساكنة والجيم والشين المعجمة الساكنة وبعدها كاف أخرى وباء ثانية الحروف، ابنة أبغا.
كانت من الخواتين الكبار، وكان الأمير سيف الدين تنكز يبالغ في تعظيمها، ويكرم قصادها ومن يحضر من عندها أو يأتي بكتاب منها، وكانت تعلمه بأخبار القوم ومتجدداتهم، وما يدور بينهم، وكانت تجهز إليه في كل سنة من عندها كاملية طلسمو إما لون فاختي أو لون بنفسجي، أو غير ذلك من الألوان بطراز زركش، عمل الموصل، وداير باولي من أفخر ما يكون، وأصنعه بأزرار مرجان ملبسة ذهباً على فرو قاقم له داير سنجاب في عرض أصبع أزرق طري غض كشن من خيار ما يكون. وكان تنكز تعجبه هذه الكامليات، ويديم لبسها، لما فيها من الطرافة وحسن الصياغة، وكان هو يهدي إليها أضعاف ذلك.
وعهدي بها في حياة تنكز في سنة أربعين وسبع مئة.
الألقاب والأنساب
الكنجي: نائب مصياف، اسمه: آقوش.
والكنجي: محمد بن محمد بن أبي بكر. ومحمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن.
ومحمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن.
كندغدي
الأمير سيف الدين العمري.
أعرفه وهو والي باب القلعة بالديار المصرية، أقام على ذلك مدة.
وكان حسن الصوت والوجه، نقي الشيب، أحمر الوجنة.
ثم إن السلطان الملك الناصر محمد بعثه إلى إلبيرة نائباً، فتوجه إليها في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة - فيما أظن - ، وأقام بها إلى أن حضرت مطالعة الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نائب حلب تتضمن الشكوى منه، ويذكر أنه وقعت فيه قصص كثيرة ومحاضر، فرسم السلطان الملك الصالح إسماعيل بإحضاره إلى حلب، ومحاققته على ذلك في محفة، وكان مريضاً، فوصل إليها، وأقام ساعة واحدة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
كهرداس
الأمير سيف الدين الرزاق أحد الأمراء بدمشق.
كان ذكياً فطناً حذقاً، له اعتناء بالمجلدات النفيسة والخطوط المنسوبة وغير ذلك من الأصناف الغريبة، وأنفق على ذلك أموالاً جمة، عمل له قدمةً بالبندق غرم عليها ثلاث آلاف درهم، وهي مليحة، رأيتها وهي ناقصة الغالقة.
توفي - رحمه الله تعالى - بداره، وهي دار القيمري خلف المدرسة القيمرية بدمشق في سلخ شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة.
كوجبا
الأمير سعد الدين الناصري.
كان نائباً بثغر الإسكندرية.
روى للشيخ شمس الدين الذهبي أحاديث عن النجيب عبد اللطيف، وكان ختن ابن الظاهري.
توفي - رحمه الله تعالى - بمصر سنة سبع وتسعين وست مئة، وهو من أبناء السبعين.
كوكاي(2/212)
الأمير سيف الدين أحد الأمراء المشايخ بالقاهرة.
تزوج ابنته ستيته - المقدم ذكرها - في حرف السين - الأمير سيف الدين تنكز - رحمهما الله تعالى.
ولم يزل أميراً كبيراً مقدم ألف من الأيام الناصرية إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وخلف من الأموال على ما قيل ألف ألف ومئتي ألف درهم وسبعة وعشرين ألف دينار عيناً غير الخيل والبرك والعدة والبيوتات والقماش وغير الأملاك الكثيرة.
كوكنجار
الأمير سيف الدين المحمدي، أحد الأمراء الطبلخاناه بدمشق.
كان يسكن إلى جوار الأمير صارم الدين صاروجا، قريباً من الشامية البرانية.
توجه إلى الحج سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الجمعة منتصف القعدة سنة ثلاثين وسبع مئة.
اللقب والنسب
الكولمي: عز الدين عبد العزيز بن منصور.
ابن الكويك: سراج الدين عبد اللطيف بن أحمد. وشمس الدين محمد بن محمود.
كيتمر
الأمير سيف الدين، بفتح الكاف وسكون الياء آخر الحروف وبعدها تاء ثالثة الحروف وميم بعدها راء.
كان من خوشداشية الحاج أرقطاي والأمير سيف الدين البشمقدار، أظنه أمر طبلخاناه في أيام نيابة الأمير سيف الدين أرقطاي بمصر، والظاهر أنه كان أميراً قبل ذلك، عينه الأمير سيف الدين أرغون شاه أمير الحج.
فمات بالطاعون في شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ومات أيضاً جماعة من أولاده ومماليكه. وكان له ولدان هما في سماء الحسن فرقدان، ومات وصيه الأمير سيف الدين حاجي، الجميع في جمعة واحدة، وتأسف الناس على ولديه.
الكيزاني: سديد الدين عبد الرحمن بن عبد الرحيم.
حرف اللام
لاجين
السلطان الملك المنصور حسام الدين المنصور، مملوك السلطان الملك المنصور قلاوون.
كان من خيار الملوك في الإسلام، وأفضل من خفقت على رأسه البنود والأعلام، شجاعاً معدوداً في الفرسان، بطلاً في وقت تمرح جياده في الأرسان، جواداً يخجل الغمام إذا هتن أو همى، كريماً أنسى جوده كرم حاتم الذي سما، له ذب عن الإسلام وبيضته، وحماية في جلوسه ونهضته، أحق الناس بقول أبي الطيب:
فأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد
وكان صحيح الوداد لمن يصحبه، مليح الاعتقاد فيمن يألف به ويعجبه. تعجبه الفضائل ويعظم أهلها، ويذكر أنسها ويغض فضلها، ويجمع عليها شملها، ويتطفل على طفلها، ويوقر كهلها. شديد الغيرة على حريمه، لا يدع الأسد تقارب كناس ريمه.
سن لما ملك أشياء حسنه، وأزاح من جفن الملك بها وسنه. أحبه أهل دمشق لما كان عندهم نائبا، واستصحبوا ذلك لما كان عنهم غائبا، ولكن خان الزمان ملكه، وأوقف في وسط بحره فلكه، وجال الحسام في الحسام، وفصل أوصاله الجسام، وما راعى سميه، ولا حفظ وليه وسميه.
وكانت قتلته - رحمه الله تعالى - ليلة الجمعة، وقد صام نهار الخميس عاشر شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وست مئة.
أمره الملك المنصور أستاذه عندما ملك، وبعثه نائباً على قلعة دمشق، فلما تسلطن سنقر الأشقر، ودخل القلعة قبض عليه، ولما انكسر سنقر الأشقر أخرجه الأمير علم الدين سنجر الحلبي.
ثم إنه رتب في نيابة السلطنة بمرسوم السلطان، ودخل في خدمته إلى دار السعادة في أوائل شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة، وعمل النيابة إحدى عشرة سنة، وأحب أهل دمشق وأحبوه، وأحسن إليهم.
ثم إن الأشرف عزله من نيابة دمشق بالشجاعي لما أمسكه على عكا، وأفرج عنه، وحضر معه إلى قلعة الروم، ولما كانوا بعدها بدمشق هرب يوم العيد مستهل شوال سنة إحدى وتسعين، وركب الأشرف والعسكر في طلبه، وكان قد توجه إلى بعض عرب صرخد، ليتوجه به إلى الحجاز، فأمسكه وجاء به للأشرف فقيده، وجهزه إلى مصر هو وسنقر الأشقر، ثم إنه أفرج عنه، وأعطي إمرة مئة بالقاهرة.
وفي شوال سنة اثنتين وتسعين قطع الأشرف خبز الأفرم الكبير، وأعطاه للاجين المذكور، وكان عظيماً، وخنق بين يدي الأشرف ثم خلي عنه، فإذا فيه روح، فرق له السلطان، وأطلقه، ورده إلى رتبته.(2/213)
وقيل: إن السلطان الملك المنصور قال لولده الأشرف: هذا طرنطاي، لا تؤذه ولا تتعرض له أبداً، فإنه ما يؤذيك، وهذا لاجين، لا تمسكه، وإن أمسكته لا تبقيه، فإنه يحقد عليك، ويعمل على قتلك. فخالف والده في الجهتين، فأول ما تسلطن أمسك طرنطاي، وقتله وأمسك لاجين وأطلقه فقتله. وقيل إنه إنما قام على الأشرف لأنه تعرض لزوجته بنت طقصو فعز ذلك عليه.
ولما قتل الأشرف هو وبيدرا، كان بيدرا الذي تقدم إلى الأشرف وضربه وهو على الأرض يحصل طيراً صاده، وكانت ضربة غير طائلة، فجاء بعده لاجين، وهو سائق فرسه، فرأى ضربة بيدرا، فقال: يا مأبون، هذه ضربة من يطلب الملك، ثم إنه ضربه ضربة حل منها كتفه، فقضى عليه.
ولما قتله اختفى حسام الدين لاجين، وقيل: إنه هرب وقراسنقر، وعديا النيل، وجاءا إلى جامع ابن طولون، واختبأ في المئذنة، وبقيا فيها أكثر من يومين، ونذر لاجين إن سلم أنه يعمر الجامع المذكور، ووفى بنذره. وتنقل بعد ذلك في البيوت، وقاسى أهوالاً وشدائد من الجوع والعطش والخوف.
ثم إن كتبغا أجاره وأجار قراسنقر، وأحسن إليه، ودخل به إلى السلطان الملك الناصر وقرر معه أن يخلع عليه ويحسن إليه، ففعل به ذلك، وأعطاه خبزاً كان مع الأمير بدر الدين بكتوت العلائي بالديار المصرية وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وست مئة.
ولما ملك كتبغا جعله نائبه في مصر، فوثب عليه - كما تقدم في ترجمة كتبغا - وقتل مملوكيه الأزرق وبتخاص، وتغافل عنه لما عليه من الأيادي، وهرب كتبغا - كما تقدم - وساق لاجين والعساكر بين يديه من الغور، وما دخل غزة إلا وهو سلطان، وهو لم يختلف عليه اثنان.
وتملك في أول صفر سنة ست وتسعين وست مئة، وخطب له بغزة وبلد الخليل عليه السلام والقدس.
ولما دخل القاهرة جلس على سرير الملك، وبعث قبجق نائباً إلى دمشق؛ لأنه خوشداشه، وجعل قراسنقر نائبه بمصر إلى أن تمكن ثم قبض عليه، وأقام في النيابة مملوكه الأمير سيف الدين منكوتمر، فحسن له القبض على الأمراء، فأمسك البيسري وقراسنقر وأيبك الحموي، وسقى جماعة السم، ولذلك هرب قبجق وألبكي وبكتمر السلاح دار وبزلار إلى التتار - كما تقدم في تراجمهم - ولم يخرج إلى الشام مدة ملكه.
ولما كان يوم الخميس في التاريخ المذكور ركب موكبه وهو صائم، عمل عليه جماعة من الأشرفية، ودخلوا عليه بعد العشاء الآخرة، وهو مكب على الشطرنج وما عنده إلا القاضي حسام الدين الحنفي وعبد الله الأمير وبريد البدوي وإمامه محب الدين بن العسال، فأول من ضربه بالسيف كرجي - مقدم البرجية - وتوجه طغجي وكرجي إلى دار منكوتمر، ودقا عليه الباب، وقالا: السلطان يطلبك، فنكرهما، وقال: قد قتلتماه؟، فقال كرجي: نعم يا مأبون، وجئنا لنقتلك، فاستجار بطغجي، فأجاره، وحلف له، فخرج إليهما، فذهبا به الجب، وأنزلاه، فاغتنم كرجي الغفلة، وحضر إلى الجب، وأخرجه من الجب، وذبحه، وقال: نحن ما قتلنا أستاذه إلا من أجله فما في بقائه فائدة، ونهبوا داره في الحال، واتفقوا على إعادة الملك الناصر ثانياً إلى الملك، واتفقوا على أن يكون طغجي نائباً، وحلفوا له على ذلك، وأرسلوا سلار - وهو إذ ذاك أمير صغير - إلى الكرك، لإحضار الناصر محمد، وعمل طغجي النيابة أربعة أيام.
ولما حضر أمير سلاح من غزوة الشام؛ وطلعوا للقياه جرى ما جرى - على ما تقدم في ترجمة طغجي وأمير سلاح - وقتل طغجي وكرجي، وكان يعلم على الكتب إذ ذاك ثمانية أمراء: سلار والجاشنكير وبكتمر أمير جاندار وآقوش الأفرم والحسام أستاذ الدار وكرت وأيبك الخزندار والأمير عبد الله.
وقتل لاجين وهو في عشر الخمسين:
قدر عدت فيه الحوادث طورها ... وتجاوزت أقدارها الأيام
لأنه كان سلطاناً جيداً، عادلاً خبيراً، درباً كريماً، جواداً شجاعاً، كان يسل سيفه، ويهزه في يده، ويقول: أشتهي أرى أبغا وهذا في يدي.
ولمل ملك أخرج الخلفاء من الاعتقال، وأبطل تجهيز الثلج من بيروت وطرابلس، وقال: لا حاجة لي به، فإني كنت في دمشق، وأدري ما يجري على الرعايا في وسق الثلج في المراكب، وما يجدونه من التعب والمغارم والكلف.(2/214)
وكان ذكياً يقظاً: أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال: حكى لي والدي أنه وصل إليه في بعض الأيام بريد من مصر على يده كتاب من طرنطاي، ومما فيه بخطه أن الخروف نطح كبشه قلبه، فقال لي: ما هذا يا محيي الدين؟! قلت: ما أعلم، فقال: هذا كلام معناه أن بيدرا قد وثب على عمه الشجاعي، وكذا كان، فإن الشجاعي كان زوج أم بيدرا، فعمل عليه عند المنصور، وأمسكه، وعزله، وصادره. وهذا في غاية الفهم من مثل هذه الإشارة.
وحكى لي الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر بك، قال: قال لي السلطان حسام الدين لاجين يوماً: يا حسين، رأيت البارحة أخاك مظفر الدين في النوم وهو يقول لي: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " ، فما كان بعد ثلاث ليال حتى قتل رحمه الله تعالى.
وحكى عنه الشيخ علاء الدين بن غانم - رحمه الله تعالى - مكارم كثيرة ولطفاً زائداً وإحساناً جماً ومودة يرعاها لمن يعرفه.
وكذلك حكى لي عنه شيخنا فتح الدين بن سيد الدين لما دخل إليه لم يدعه يبوس الأرض، وقال: أهل العلم ينزهون عن هذا وأجلسه عنده - أظنه قال لي: على المقعد - ، ورتبه موقعاً في ديوان الإنشاء، فباشر ذلك أياماً، ثم استعفى فأعفاه، وجعل المعلوم له راتباً، فأقام يتناوله الشيخ إلى أن مات سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وكان شيخنا العلامة شهاب الدين محمود يوماً بين يديه، وهو بدمشق يكتب، فوقع شيء من الحبر على ثيابه، فأعلمه لاجين بذلك، قال لي: فنظمت في الحال بين يديه:
ثياب مملوكك يا سيدي ... قد بيضت حالي بتسويدها
ما وقع الحبر عليها بلى ... وقع منك بتجديدها
قال: فأمر لي بتفصيلتين ومبلغ خمس مئة درهم، فقلت: يا خوند مماليكك الجماعة رفاقي يبقى ذلك في قلوبهم، فأمر لكل منهم بمثل ذلك، ثم صار ذلك راتباً لنا في كل سنة عليه.
وندب الأمير علم الدين الدواداراي، وهو سلطان، فعمر جامع ابن طولون، واشترى له وقوفاً كثيرة، وجدد فيه وظائف كثيرة من التفسير والحديث والفقه والقراءات والطب وعمر بدمشق الخان المنسوب إليه تحت ثنية العقاب.
وكان أشقر، في لحيته طول يسير، وخفه. وجهه رقيق معرق وعليه هيبه، وهو تام القامة، في قده رشاقة وهيف. وكان وهو سلطان يجهز البريدية، ويحملهم السلام إلى الموقعين الذين كان يعرفهم.
وأنشدني شيخنا أبو الثناء محمود إجازة قصيدة مدحه بها وهي:
أطاعك الدهر فأمر فهو ممتثل ... واحكم فأنت الذي تزهى به الدول
واشرف فلو ملكت شمس النهار علاً ... ملكتها لم يزد في سعدها الحمل
وانهض بعزمك فهو الجيش يقدمه ... من بأسك المنذران الرعب والوجل
وسر به وحده لا بالجيوش وإن ... لم يحوها الأرحبان السهل والجبل
تلقى الفتوح وقد جاءتك وافدةً ... يحثها المزعجان الشوق والأمل
قد أرهف الملك المنصور منك على ... جيش الأعادي حساماً حده الأجل
تهوى أسنته بيض النحور فمن ... آثارها الحمر في أجيادها قبل
تدمي سطاه وتندى كفه كرماً ... كالغيث يهمي وفيه البرق يشتعل
سل يوم حمص جيوش المغل عنه وقد ... ضاق الفضاء بهم واستدت السبل
والهام تسجد والأجسام راكعة ... والموت يقبل والأرواح تنتقل
والبيض تغمد في الأبطال عاريةً ... وتنثني وعليها منهم حلل
والخيل تحفى وتخفى في العجاج فإن ... بدت غدت وهي بالهامات تنتعل
يخبرك جمعهم والفضل ما شهدت ... به العدا أنه ليث الشرى البطل
وأنه خاض في هيجائها وجلا ... غمارها واصطلاها وهي تشتعل
وصدهم وهم كالبحر إذ صدموا ... ببأسه وحمى الإسلام إذ حملوا
فمزقتهم سطاه ذا يسير وذا ... عان أسير وذا في الترب منجدل
كأن أسهمه والموت يبعثها ... بين المنايا وأرواح العدى رسل
كأن هاربهم والخوف يطلبه ... يبدو لديه مثال منه أو مثل(2/215)
فإن تنبه يوماً راعه وإذا ... أغفى جلته عليه في الكرى المقل
وعاد والنصر معقود برايته ... والمغل ما بين أيدي خيله خول
قد جمع الله فيه مل مفترق ... في غيره فهو دون الناس مكتمل
فعن ندى يده حدث ولا حرج ... اليم ثم وعم العارض الهطل
أستغفر الله أين الغيث منفصلاً ... من بره وهو طول الدهر متصل
عطاء من ليس يثني قط راحته ... عن الندى سأم يوماً ولا ملل
من حاتم؟ عد عنه، واطرح فبه ... فيالجود لا بسواه يضرب المثل
أين الذي بره الآلاف يتبعها ... كرائم الخيل ممن جوده الإبل
لو مثل الجود سرحاً قال حاتمهم ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل
أحاط بالناس سور من كفالته ... ظل لهم وعلى أعدائهم ظلل
أضحوا به في مهاد الأرض يكلؤهم ... من رأفة بهم يقظان إن غفلوا
يحنوا عليهم ويعفو عن مسيئهم ... حلماً ويصفح عنهم إن هم جهلوا
وأعدل الناس أياماً بلا شطط ... في الحكم منه ولا حيف ولا ميل
أطاع خالقه فيما تقلده ... فما عن الدين بالدنيا له شغل
إن رام صيداً فما الكندي مفتخراً ... بالخيل في الصيد إلا مطرق خجل
بكل طرف يفوت الطرف رؤيته ... لا يأخذ الصيد إلا وهو منفتل
في فتية من كماة الترك ليس لهم ... إلا التعلم من إقدامه أمل
إن يقتلوا الصيد في أيدي الجوارح ... جوارح اللحظ إن يرموا بها قتلوا
عزاً وصوناً لمن دان الأنام له ... حتى السهام إلى أغراضه ذلل
أو حاول اللعب المعهود بالكرة ال ... تي بها تستعين البيض والأسل
حيث السوابق تجري في أعنتها ... طوعاً وتعطف أحياناً فتمتثل
كأنه وهو والبردي في يده ... على الجواد وكل نحوها عجل
شمس على البرق حاز البدر يرفعه ... عن الهلال فيعلو ثم يستفل
لا زال بالملك المنصور منتصراً ... ما قال بالدوح غصن البانة الثمل
ولما تولى السلطنة جاء غيث عظيم، بعدما كان تأخر، فقال علاء الدين الوداعي، ومن خطه نقلت - :
يا أيها العالم بشراكم ... بدولة المنصور رب الفخار
فالله بارك فيها لكم ... فأمطر الليل وأضحى النهار
ولما أبطل المنكرات في أيامه؛ قال ابن دانيال:
احذر نديمي أن تذوق المسكرا ... أو أن تحاول قط أمراً منكرا
لا تشرب الصهباء صرفاً قرقفا ... وتزور من تهواه إلا في الكرى
أنا ناصح لك إن قبلت نصيحتي ... اشرب متى ما رمت سكراً سكرا
والرأي عندي ترك عقلك سالماً ... من أن تراه بالمدام تغيرا
ذي دولة المنصور لاجين الذي ... قهر الملوك فكان سلطان الورى
إياك تأكل أخضراً في عصره ... يا ذا الفقير يكون جنبك أحمرا
والمزر يا مسعود دعه جانباً ... واشرب من اللبن المخيض مكررا
وبنى حرام احفظوا أيديكم ... فالوقت سيف والمراقب قد درى
توبوا وصلوا داعيين لملكه ... فبه تنالون النعيم الأكبرا
ولما كان بدمشق نائباً - رحمه الله تعالى - ؛ أمسك نصراني في أوائل شهر رمضان سنة سبع وثمانين وست مئة عند امرأة مسلمة جميلة يشرب الخمر، فأمر بإحراقه ففدى النصراني نفسه بمال جزيل، فلم يقبله، وأمر بنار عظيمة، فأضرمت، وألقي النصراني فيها، فقال العلامة شهاب الدين محمود يمدحه، أنشدنيه لنفسه إجازة:
يا من به وبرأيه وروائه ... بلغ المراد الدين من أعدائه
أنت الذي لم يخش لومة لائم ... في الله فابشر فزت عند لقائه
ما يومك الماضي لديك بضائع ... والله والأملاك من شهدائه(2/216)
يا كافل الإسلام قبلك لم يقم ... هذا المقام سواك من كفلائه
بالسيف قام ولا اختلاف بأنه ... أنت الحسام وذاك من أسمائه
أقسمت لو آلى امرؤ لك أنه ... أحد الفتوح لبر في آلائه
أرسلتها في العدل أحسن سيرة ... بك يقتدي من كان في ألفائه
وغضبت للإسلام غضبة ثائر ... لله غير مشارك في رائه
وحميت سرح الدين من متخلس ... رجس يسر الغدر في استخفائه
أخفى سراه إلى الحريم وما درى ... أن الإله وأنت من رقبائه
جمع الخيانة والخنا في الأرض والإ ... شراك بالرحمن فوق سمائه
فأمرت أمراً جازماً بحريقه ... ورأيت أن القتل دون جزائه
أحرقت من أدنت عداوة كفره ... يده من الإسلام في استعلائه
طهرت من دمه الثرى وقذفته ... في النار عن تنجيسه بدمائه
ورفعت قدر السيف عنه وإنه ... ليجل عن تنجيسه بدمائه
أرعبت أهل الشرك منك وكلهم ... يلقى خيالك واقفاً بإزائه
وسلبتم طيب الرقاد فمن غفا ... ألفى دبيب النار في أعضائه
أو لو تخيل في المنام بحرمه ... خشي الحريق ومات في إغفائه
راموا شفيعاً عنده ذنبهم ... كي يسخط الرحمن في إرضائه
غابوا وهل في الأرض من يثنيه عن ... تنفيذ حكم الله في إمضائه
ماض حكيم ثابت متمسك ... بالشروع في أحكامه وقضائه
وكما البزاة أمن سطوة بأسه ... فكذا البغاة يئسن من إبقائه
كالسيف يبدو في توقد حده ... في الناظرين إليه رونق مائه
يا راعي الإسلام صنت السرب أن ... تدنو كلاب الشرك من ضعفائه
عاملت ربك بالذي أسلفته ... في دينه فابشر بحسن وفائه
ما غرت إلا للإله وخلقه ... من فتك شر عبيده بإمائه
نزهت شرعة دينه فابشر بها ... هي خير ما أولاك من ألائه
ولك الهناء إذ النبي محمد ... وافيته بالحوض تحت لوائه
فاستشهد الشهر الشريف فإنه ... يثني بما أبديت في أثنائه
أحييته بالعدل فارقد إن تشا ... فلقد بلغت القصد من إحيائه
عظمت حرمته وأهلكت الذي ... لم يرع حق الله في آنائه
فاسلم لهذا الدين تحرس سربه ... ويغض جفن الشرك منك بدائه
واشكر إلهك بالذي ألهمته ... فيما فعلت فذاك من نعمائه
لاجين
الأمير حسام الدين الأستاذ الدار الرومي.
كان من كبار الأمراء مقدمي الألوف بالديار المصرية. وكان مقدم الميسرة في يوم شقحب، ثبت هو ومن معه من أصحابه وكان معه ثمانية أمراء مقدمون أبلوا جميعهم بلاءً حسناً، وثبتوا لحملات التتار، فاستشهدوا جميعهم في الواقعة المذكورة - رحمهم الله تعالى - وذلك في شهر رمضان سنة اثنتين وسبع مئة.
وقبره هو وحده هناك على جبل عليه قبة يراها المسافرون على يمين المار من دمشق إلى الصنمين.
وكانت قتلته في عصر السبت ثاني شهر رمضان - رحمه الله تعالى.
ونقلت من خط الشيخ شهاب الدين أحمد بن يوسف الصفدي الطبيب بالبيمارستان المنصوري بالقاهرة من مرثية كتب بها إلى الأمير ركن الدين عمر بن الأمير حسام الدين لاجين الرومي أولها:
كأس الحمام على الأنام يدور ... والعمر ماض والزمان يسير
أنفاسنا كرواحل لنفوسنا ... لمراحل فيها الأنام تصير
يا من يسير على اليسير وحوله ... عبر وخلق في القبور عبور
انظر إلى الدنيا وما فعلت بمن ... ترنو إليه بطرفها وتسير
كم خولت فتحولت ولئن حلت ... قد أنحلت وأصابها التغيير
منها:
يا مرج صفر أصفرت بك أربع ... وجرت دموع نظمها منثور(2/217)
جاء التتار تدفقاً تترى له ... فترى... والجبال تسير
وردوا بمائة ألف مغلاً بعدها ... عشرون ألفاً بأسها محذور
لله من فادى الأنام بنفسه ... لم يرهباه منكر ونكير
في محضر شرع الأسنة شاهد ... إن الثناء لغيره محظور
فالسيف يكتب والمثقف ناقط ... والسهم يشكل والطلا المسطور
حضن السيوف به وهن ذكور ... وقدحن ناراً والأكف بحور
هذا حسام الدين والدنيا فما ... يلقى له بين الأنام نظير
كم خاض أهوال المعارك عاركاً ... والحرب تقدح والشرار يطير
والخيل تعثر بالنواصي والقنا ... والأرض راجفةٌ تكاد تمور
فرماحه مثل الرجوم نصالها ... شهب يراها في النحور تغور
تبكي عليه محافل وجحافل ... ومناصل وذوابل وقصور
وهي أربعة وستون بيتاً وهذا القدر منها كاف.
لاجين
الأمير حسام الدين الحموي.
كان أولاً بحماة أستاذ دار الملك المؤيد صاحب حماة. ولما ولي الأمر الملك الأفضل وقع بينهما، فنزح عن حماة، وتوجه إلى مصر، وعاد إلى دمشق أميراً.
وكان الأمير سيف الدين تنكز يكرمه، ولم يزل بدمشق إلى أن أمسك تنكز، وحضر بشتاك إلى دمشق، فولاه المهمندارية بدمشق. فأقام يويمات ثم ولي مدينة دمشق - فيما أظن - ، فأقام قليلاً وطلب الإقالة.
ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن توفي بدمشق في مستهل صفر سنة ست وأربعين وسبع مئة.
لاجين
الأمير حسام الدين المنصوري المعروف بالصغير.
كان أحد الأمراء الطبلخاناه بدمشق، وولي البر في وقت في المحرم سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ثم إنه قيد واعتقل بقلعة دمشق بعد قتل حسام الدين لاجين السلطان في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين، وأفرج عنه في جمادى الآخرة.
وعزل وجهز إلى ولاية الولاة بالقبلية عوضاً عن الحاج بهادر في شوال سنة إحدى عشرة، وتوجه أمير الحج في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وولي غزة بعد الجاولي.
ثم إنه توجه لنيابة إلبيرة، وأقام بها إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في ذي القعدة سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وفي سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وصل تابوته إلى دمشق في خامس صفر من السنة المذكورة وكان قد نقل أولاً إلى حلب ودفن بها ثم إن أستاذ داره نقله إلى دمشق، وكان قد أسند وصيته إلى الأمير سيف الدين تنكز، ولأجل ذلك لما اتفق ما اتفق لابنته أمر بخنقها، وكانت واقعة عجيبة.
لاجين
الشيخ الصالح حسام الدين الأزهري.
كان شيخاً كبيراً تجاوز المئة بثلاث سنين، وجاور بالجامع الأزهر في القاهرة مدة سبعين سنة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث عشر شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة، وكانت جنازته حافلةً، وصلي عليه غائباً بالجامع الأموي بدمشق.
لاجين
الأمير حسام الدين المنصوري المعروف بالزيرباج.
كان قد حبسه السلطان الملك الناصر محمد، فأقام في الحبس مدة سبع عشرة سنة، ثم إنه أفرج عنه وعن الأمير فرج بن قراسنقر وعن الأمير علم الدين وخلع عليهم في ليلة عرفة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
لاجين
الأمير حسام الدين الإبراهيمي أمير جاندار.
توفي - رحمه الله تعالى - في سابع عشري ذي الحجة سنة تسع وعشرين وسبع مئة، ودفن بالروضة تحت قلعة الجبل ظاهر القاهرة.
كان أمير خمسين، وفيه دين ومروءة.
لاجين
الأمير حسام الدين الغتمي نائب الرحبة.
كان من مماليك الغتمي نائب الرحبة، ولم يكن هو في نفسه غتمياً. وانتشا بالرحبة، وعمل بها ولاية البر مدة. ثم إنه أقام بدمشق وخدم القاضي محيي الدين بن فضل الله، فخلص له ولاية البقاع، فأظهر نهضة كافية وكفاية تامة، فنقله إلى ولاية نابلس، فأبان فيها عن سداد وشهامة، فأحبه الأمير تنكز، فقال له: يا خوند إن وليتني نيابة الرحبة، وفرت العسكر الدمشقي من التجريد إليها، فكتب له إلى السلطان، فأجابه إلى ذلك، وأعطاه إمرة طبلخاناه، فتوجه إليها، ووفى بما التزمه من عدم تجريد العسكر إلى الرحبة. وفرح بذلك تنكز، وأحبه.(2/218)
وحضر العربان والناس ورافعوه، ولم يلتفت إليهم، وأمسك غرماءه ورماهم في الحبس، وتوجه العربان الكبار من آل مهنا وغيرهم، وشكوا منه إلى السلطان شكوى كبيرة، فطلبه السلطان إلى مصر، فتوجه إليها في سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وكتب تنكز على يده، فلم يسمع فيه كلاماً، وخلع عليه، وجهزه إليها مكرماً، وتوجهت أنا إليها موقعاً في آخر هذه السنة المذكورة، وكتبت إليه من قباقب على جناح الحمام بطاقة بوصولي، وفيها:
هذي بطاقة خادم ... قد جاء يلهج بالمدح
حملتها قلبي الذي ... قد طار نحوك بالفرح
ولما قدمت إليها انجمع مني وانزوى عني مدة تزيد على شهرين، ثم إنه أقبل علي إقبالاً عظيماً، وأفضى إلي بأسراره، وأحسن إلي غاية الإحسان، وقال: يا مولانا، خوفوني منك، وقالوا: هذا واحد قد سيروه من مصر عيناً عليك، وزال ذلك.
ولما انفصلت من الرحبة وعدت إلى دمشق زودني وأعطاني مبلغ ألف درهم وقماشاً وحجراً عربية ثمينة واستمر لي عليه راتب في دمشق من الشعير لخيلي ومن التبن في كل سنة. وتوجهت إلى مصر، وهو يخدمني ويحسن إلي بأنواع، ويطلب الناس مني الشفاعات إليه، فلا يردها، إلا أنه كان جباراً سفاكاً للدماء يعاقب عقاب المغل، ويتنوع في ذلك بأنواع العذاب.
ولم يزل على حاله في الرحبة إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
لاجين
الأمير حسام.
كان قد تزوج بأم المظفر حاجي، وجعله أمير آخور على حاله وقدم في أيام المظفر إلى دمشق أمير مئة مقدم ألف، ووصل معه الأمير سيف الدين بتخاص في تاسع شهر رجب سنة ثمان وأربعين.
وكان أمير آخور في أيام الكامل أيضاً - فيما أظن - ، ووصل طلبه بعده، ومعه الأمير ناصر الدين محمد على إقطاعه في ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة. وطلب الأمير حسام الدين لاجين وولده إلى مصر، وأظنه أخرج بعد ذلك، ثم إلى مصر.
ولم يزل بها مقيماً على طبلخاناه إلى أن توفي في شهر رجب الفرد سنة أربع وستين وسبع مئة بالقاهرة في طاعون مصر.
اللقب والنسب
اللحياني: صاحب تونس: زكريا بن أحمد.
ابن اللمطي: محب الدين عمر بن عيسى.
ابن اللبان: محمد بن أحمد.
لولو
الأمير بدر الدين الحلبي المعروف بغلام فندش، بالفاء المفتوحة والنون الساطنة والدال المهملة المفتوحة والشين المعجمة.
كان المسكين جباراً خواناً أثيماً خواراً خداعاً غداراً مكاراً غراراً، حقوداً حسودا، عنيداً مريدا، قصياً من الخير بعيدا. مبيراً مبيدا، لو عاصر الحجاج لم يدعه يفرح بإمرة الكوفه، ولا اشتهر دونه من قبح سجاياه الموصوفه، ولم يكن قدامه إلا جلوازا، أو ماراً في طريقه مجتازا، أو مشاءً بنميم همازا:
مساو لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق
دخل إلى السلطان ورافع كتاب حلب، وجلب إليهم الويل والشوم فيما جلب، وسلمهم السلطان إليه، وعول في استصفاء أموالهم عليه، فمزق جلودهم بالسياط، وأهلك البريء والمتهم عملاً بالاحتياط، فباع بعض الناس موجودهم، وبعضهم باع مولوده. وكانت نوبة دون نوبة هولاكو وشراً منها، وواقعة تحدث الناس في سائر الأقطار عنها.
ثم إنه نكب فيها، وطلب إلى مصر وأخذ منحوسا، وظن الناس أنه يكون فيها مرموسا، فنجا وليته لا نجا، ووجد بين الأسنة مخرجا.
ثم إن السلطان ندبه لشد الجهات، فسد الجهات على من تنفس، ووصل شره حتى إلى الجواري الكنس، وأساء إلى من اصطنعه من تلك الورطه، وأخرجه من مصر بعد أي ضغطه، فولاه السلطان بمصر شد الدواوين بالقاهره، وتولى ذلك والناس أحياء " فإذا هم بالساهره " ونوع العذاب على المصادرين، وابتدع من العقاب ما لا مر بذهن الواردين ولا الصادرين، ثم إنه نكب بالقاهرة نكبة عظيمه، وانفرطت منها حبات سعادته النظيمه.
إلى النار يا ولد الزانية ... وهذا الهوي إلى الهاوية
وقعت فيا بردها في القلو ... ب، فيا ليتها كانت القاضية
ثم إنه جهز إلى حلب، وقدر الله أنه منها انقلب، فذاق فيها وبال أمره، وأفاق من سكرة خمره، وقاء ما كان أكل واتخم، وشكا وهو تحت العقوبة شكوى الجريح إلى العقبان والرخم، ومنها قضى، وأسفر الوجود بموته من الظلم وأضا.
وكان هلاكه في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.(2/219)
أول ما عرفت من أمره أنني رأيته بحلب سنة أربع وعشرين وسبع مئة وهو ضامن المدينة، وكان ضامنها من قبل بمدة، وطلع مرات إلى مصر ورافع الناس، والقاضي فخر الدين ناظر الجيش يصده ويرده ويكذبه قدام السلطان، ولم يبلغ مرامه مدة حياته، فلما مات طلع إلى مصر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة ودخل إلى السلطان ورمى بين يديه ديناراً ودرهماً وفلساً، وقال: يا خوند الدينار في حلب للمباشرين، والدرهم للنائب، والفلس لك، فتأذى السلطان من ذلك واستشاط غضباً وطلب الجميع من حلب على البريد، وسلمهم إليه وكان يقعد في قاعة الوزارة ويستحضرهم ويقتلهم بالمقارع، وكان الناس قد طال عهدهم بالمقارع لأن القاضي كريم الدين - رحمه الله تعالى - كان قد أبطلها، واستمر إبطالها بعده إلى أن جاء هذا لولو فأعادها وبالغ في أذى أهل حلب، فأنكر أهل مصر ذلك، وساءت سمعته ذلك اليوم ورثى الناس لمباشري حلب، ووقف الناس له ليرجموه إذا نزل ذاك النهار من القلعة، فأحس بذلك، ودخل إلى السلطان وعرفه ذلك، فزاد غضب السلطان، ولم ينزل لولو من القلعة، وربما جعل معه أو شاقية يحفظونه من الناس.
ولم يزل يعاقبهم بمصر حتى استصفى أموالهم وأخذهم معه، وتوجه بهم إلى حلب، وقد أمره السلطان وجعله مشد الدواوين بحلب.
ولما وصل إليها صادر وعاقب وتنوع في ذلك حتى أباع الناس أولادهم، وزاد في الخيانة، فبلغ الخبر إلى السلطان، فسير السلطان للكشف عليه الأمير سيف الدين الأكز فصانعه وداراه وقدم له، فأخذه معه وطلع إلى مصر بما معه من التقادم العظيمة فقبلها السلطان منه، وجعله بين يدي الأكز مشد الجهات بمصرف القاهرة، فزاد تسلطه على الناس، وكرهه الأكز، فأخذ العصا يوماً، وضربه إلى أن خرب عمامته، وخرج إلى برا وهو كذلك، فتوجه إلى القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص، ودخل عليه واتفق معه، وعملا على الأكز، وأخرجاه إلى الشام، وولاه السلطان شد الدواوين بالقاهرة، فعمل ذلك بجبروت عظيم، وزاد طغيانه وعتوه.
ثم إن السلطان غضب عليه، فأمسك لولو، وطلب الأمير علم الدين سنجر الحمصي من الشام وولاه شد الدواوين بالقاهرة، وسلم لولو إليه، فضربه بعض ضرب، وأقام مدة في الاعتقال ثم إنه خرج إلى حلب مشداً - والله أعلم - ، فأقام بها إلى أن حضر الأمير سيف الدين طشتمر حمص أخضر نائب حلب، ومعه الأمير سيف الدين بهادر الكركري مشد الدواوين، فغضب على لولو، وسلمه إلى ابن الكركري فقتله بالمقارع إلى أن مات - رحمه الله تعالى - سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
حكى لي الشيخ شمس الدين بن الأكفاني قال: أعرف هذا لولو وهو عند فندش - أو قال: قبل وصوله إلى فندش - وهو يبيع أسقاط الغنم والأقصاب والتعاشير وغير ذلك في لقين بحماة على الطريق، وربما حمل ذلك على رأسه ودار به يبيعه.
أنشدني لنفسه إجازة القاضي زين الدين عمر بن الوردي - رحمه الله تعالى - :
أشكو إلى الرحمن لؤلؤ فندش ... أضحى يصادر سادة وصدورا
نثر الجنوب بل القلوب بسوطه ... فمتى أشاهد لؤلؤاً منثورا
حرف الميم
النسب والألقاب
ابن الماسح: نجم الدين أحمد بن إبراهيم.
مالك بن عبد الرحمن
ابن علي بن عبد الرحمن، أبو الحكم بن المرحل الأديب الشاعر المغربي.
أخذ عن الشلوبين، وابن الدباج، وعده.
وروى عنه أبو القاسم بن عمران، ومحمد بن أحمد القيسي، وغيرهما.
واستوطن سبتة.
له الشعر الرائق، والنظم الفائق، لطف ألفاظه ورققها، وزخرف أبياته ونمقها. وكان من أفاضل شعراء المغرب وأدبائهم الذين يأخذون من كلامهم ب المرقص والمطرب.
ولم يزل على حاله إلى أن رحل ابن المرحل إلى الآخرة، وأقام تحت الأرض إلى أن تنشر العظام الناخره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وتسعين وست مئة بسبتة. وقيل: سنة سبع مئة بفاس - والله أعلم - .
ومولده بمالقة سنة أربع وست مئة، فمات عن خمس وتسعين سنة.
وكان قد نظم " التيسير " في قصيدة تزيد على ألفي بيت ورويها يلازم، وما أحسن قوله:
يا أيها الشيخ الذي عمره ... قد زاد عشراً بعد سبعينا
سكرت من أكؤس خمر الصبا ... فحدك الدهر ثمانينا
وليته زادك من بعدها ... لأجل تخليطك عشرينا(2/220)
ووقع بينه وبين ابن أبي الربيع في مسألة " كان ماذا " ؟ فنظم مالك بن المرحل:
عاب قوم " كان ماذا " ... ليت شعري لم هذا
وإذا عابوه جهلاً ... دون علم كان ماذا
وجهله ابن أبي الربيع، وصنف في المنع من المسألة مصنفاً.
وأنشدني العلامة شيخنا أثير الدين أبو حيان، قال: أنشدنا مالك بن المرحل لنفسه:
مذهبي تقبيل خد مذهب ... سيدي ماذا ترى في مذهبي
لا تخالف مالكاً في رأيه ... فبه يأخذ أهل المغرب
ومن شعر ابن المرحل:
يا راحلين ولي في قربهم أمل ... لو أغنت الحالتان القول والعمل
سرتم فكان اشتياقي بعدكم مثلاً ... من دون السائران الشعر والمثل
قد ذقت وصلكم دهراً فلا وأبي ... ما طاب لي الأسمران الخمر والعسل
وقد هرمت أسى في حبكم وجوى ... وشب مني اثنتان الحرص والأمل
غدرتم أو ملكتم يا ذوي ثقتي ... وبئست الخلتان الغدر والملل
عطفاً علينا ولا تبغوا بنا بدلا ... فما استوى التابعان العطف والبدل
قالوا: كبرت ولم تبرح كذا غزلاً ... أودى بك الفاضحان الشيب والغزل
لم أنس يوم تدانوا للرحيل ضحىً ... وقرب المركبان الطرف والجمل
وأشرقت بهواديهم هوادجهم ... ولاحت الزينتان الحلي والحلل
كم عفروا بين أيدي العيس من بطل ... أذابه المضنيان الغنج والكحل
دارت عليهم كؤوس الحب مترعة ... وإنما المسكران الراح والمقل
وآخرون اشتفوا منهم بضمهم ... يا حبذا الشافيان الضم والقبل
وقال قبل وفاته وأمر أن يكتب ذلك على قبره:
زر غريباً بمغرب ... نازحاً ما له ولي
تركوه موسداً ... بين ترب وجندل
ولتقل عند قبره ... بلسان التذليل
رحم الله عبده ... مالك بن المرحل
اللقب والنسب
ابن مالك: شمس الدين محمد بن محمد. وجمال الدين بن محمد بن محمد.
المارستاني: محيي الدين محمد بن علي.
المأمون: ناظر الكرك زكي الدين عبد الله بن عبد الكافي.
مبارك بن نصير
الفقيه الشافعي المعيد بالمشهد الجيوسي.
كان من أهل قوص ومن الصالحين المتواضعين يخدم الطلبة بنفسه، ويعالج المرضى، ويطبخ لهم، ويقوم بالوظائف من الإعادة والإمامة والآذان، من غاب قام عنه بوظيفته.
ولم يزل على حاله إلى أن توجه إلى الحج فغرق في سنة إحدى وسبع مئة.
مبارك
الأمير زين الدين المنصوري.
كان أمير فارساً بدمشق. ثم إنه نقل إلى طرابلس، فعمي هناك، وقطع خبزه. ثم إنه قدح عينيه فأبصر، ولم يعد إليه خبزه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شعبان سنة سبع عشرة وسبع مئة.
اللقب والنسب
المجير الخياط: أحمد بن حسن.
ابن المحسني: شهاب الدين أحمد بن بيليك.
ابن المحدث الكاتب: الشيخ بدر الدين حسن بن علي.
ابن المحب: الشيخ محب الدين عبد الله بن أحمد.
المحار: سراج الدين عمر بن مسعود.
محفوظ
ابن رشيد الدين العراقي الشاعر.
قدم إلى دمشق بعد السبع مئة، وكان شاعراً مطيقا، متكلماً منطيقا، يغوص على المعاني البعيده، ويبرزها في الألفاظ السديده، له مقاطيع راقت، وأبيات ساقت النفوس إلى الطرب وشاقت، فكان شعر محفوظ محفوظا، وشعر من سواه ملفوظا. إلا أنه كان الهجو عليه غالبا، ولسانه للأعراض ثالبا، ومدحه للأموال سالبا.
عاد إلى البلاد وانقطع خبره، وكأن الموت جبره لما زاد دبره.
وكان لما دخل الشام ووصل حماة اتصل بابن قرناص وطلب إيصاله إلى الملك المظفر صاحب حماة، وكان ابن قرناص كاتب سره، فأطال الشرح عليه، فلما يئس منه الرشيد عدل إلى كشتغدي الأستاذ دار وأنشده:
ولقد ركبت هجين عزم ساقه ... مني الرجاء إلى الأغر الأبلج
ملك توغره جنود حوله ... كالروض بات مسيجاً بالعوسج
فأنشدها كشتغدي للمظفر، فاستحضره وابن قرناص حاضر، فاستنشده البيتين فأنشدهما، وقال في الثاني:(2/221)
ملك تزان به جنود حوله ... كالروض بات مسيجاً ببنفسج
فقال له المظفر: ما هكذا قلت، فقال: كان ذاك قبل أن أحضر لديك، فأما الآن؛ فهو كما قلت، فأسنى عطاءه.
ثم إن الرشيد وصل إلى حصن الأكراد، وعمل قصيدة في نائبها وأعطاها كاتبه ابن الذهبي، ليوصلها، فعاد إليه بعد مدة وزعم أنها ضاعت من حزره فقال:
لا الذهبي اشترى المديح ولا ... أعذبه منهلاً وعذبه
أهديت سراً مدحي إليه فما ... ذهبه بل علي أذهبه
ومن شعره أيضاً:
ركب الله في فتاء بنى فع ... لان معنى النيران والجنات
أوجه القوم بالمكاره تحفى ... وفروج النساء بالشهوات
ومنه:
فرقت بيننا الحوادث لكن ... لي نفس إليكم أدنيها
فكأني في الود فارة مسك ... أفرغوها ونفحة الطيب فيها
وقال وقد رأى مشجر الفسيفساء في الجامع الأموي بدمشق:
ألم تر أشجاراً بجامع جلق ... حكت للورى لو أن صانعها باق
نضارتها أن لا تدانى فروعها ... بشمس ولا سقي مغارسها ساقي
ومنه
هيج البرق لوعة المشتاق ... بوميض لقلبه الخفاق
هذه مزنة إلي حدتها ... نسمة الصبح من نواحي العراق
يا قساة القلوب رقوا فإني ... لا غرامي فإن ولا أنا باق
هل لبؤس لاقيته من فراق ... ونعيم فارقته من تلاق
قلت: هذا البيت الثاني من هذه القطعة ذكرت به ما اتفق لي نظمه بالديار المصرية، وقد توجهت إليها في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وتركت أولادي بدمشق وهو:
قلت إذ رق لي النسيم وقلبي ... يتلظى بالشوق في أرض مصرا
هذه نفحة هدتها لبرئي ... وحدتها أنفاس سطرى ومقرى
محمد بن إبراهيم
ابن علي فتح الدين القوصي، ابن الفهاد.
كان فقيهاً حسناً مشكور السيرة، اشتغل بفقه الشافعي على أبيه وغيره، وتولى الحكم بسمهود، ثم إنه استوطن القاهرة، وجلس بحانوت الشهود، يعقد الأنكحة، وعرف بذلك، ومضى على جميل.
توفي - رحمه الله تعالى - سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن إبراهيم بن محمد
ابن أبي نصر الشيخ الإمام العلامة حجة العرب بهاء الدين أبو عبد الله بن النحاس النحوي شيخ العربية بالديار المصرية.
سمع من ابن اللتي، والموفق بن يعيش النحوي، وابن رواحة، وابن خليل، ووالده. قرأ القرآن على أبي عبد الله الفاسي. وأخذ العربية عن الشيخ جمال الدين محمد بن عمرون. ودخل مصر لما خربت حلب، وقرأ القرآن على الكمال الضرير، وأخذ عن بقايا شيوخها، ثم جلس للإفادة.
كان حسن الأخلاق، منبسطأ على الإطلاق، متسع النفس في حالتي الغنى والإملاق، ذكي الفطره، زكي المخالطة والعشره، مطرح التكلف مع أصحابه، عديم التخلف عن أشكاله وأضرابه، ومع ذلك فلم يرزق أحد سعادته في صدور الصدور، ولا فرح أحد بسيادته التي أربت على تمام البدور.
وكان معروفاً بحل المشكلات، موصوفاً بإيضاح المعضلات، كثير التلاوة والأذكار، كثير الصلاة في نوافل الأسحار، موثوقاً بديانته، مقطوعاً بأمانته.
وأما علمه بالعربية فإليهالرحلة من الأقطار، ومن فوائدها تدرك الأماني، وتنال الأوطار، قد أتقن النحو وتصريفه، وعلم حد ذلك ورسمه وتعريفه، ما أظن ابن يعيش مات إلا من حسده، ولا ابن عصفور لأجله طار ذكره إلا في بلده، ولا المرسي رست له معه قواعد، ولا لأبي البقاء العكبري معه ذكر خالد، بذهن نحى النحاس القديم عن مكانه، وجعل ابن بري برياً من فصاحة لسانه، وتحقيق ما اهتدى ابن جني إلى إظهار خباياه، ولا نسبت إلى السخاوي هباته ولا عطاياه.
تخرج به الأفاضل، وتحرج منه كل مناظر ومناضل، وانتفع الناس به وبتعليمه، وصاروا فضلاء من توقيفه وتفهيمه، وكتب خطاً أزرى بالوشي إذا حبك، والذهب إذا سبك.
ولم يزل على حاله إلى أن بلغ من الحياة أمدها، وأهدى الزمان إلى عينيه بفقده رمدها.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء سابع جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وست مئة بالقاهرة.
ومولده بحلب في سلخ جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وست مئة.(2/222)
وكان من العلماء الأذكياء الشعراء، له خبرة بالمنطق، وخط من إقليدس، وكان على ما قيل يحفظ ثلث " صحاح " الجوهري وثلث " سيبويه " ، وكان مطرحاً صغير العمامة، يمشي في الليل بين القصرين بقميص وطاقية فقط، وربما ضجر من الاشتغال فأخذ الطلبة، ومشى بهم بين القصرين وألقى لهم الدروس.
وكان متين الديانة، وله أبهة وجلالة في صدور الناس، وكان بعض القضاة إذا انفرد بشهادة حكمه فيها وثوقاً بديانته، واقتنى كتباً نفيسة.
أخبرني الشيخ نجم الدين الصفدي، وكان ممن قرأ عليه، قال: قال الشيخ بهاء الدين: ما يزال عندي كتب بألف دينار، وأحضر سوق الكتب دائماً ولا بد أن يتجدد لي علم باسم كتاب ما سمعت به انتهى.
ولم يتزوج قط، وكانت له أوراد من العبادة. وكان يسعى في حوائج الناس ويقضيها.
وأخبرني القاضي الرئيس عماد الدين بن القيسراني أنه لم يكن يأكل العنب، قال لأنه كان يحبه، فآثر أن يكون نصيبه في الجنة.
وأخبرني الحافظ بن سيد الناس، قال: زكى بعض الفقهاء تزكية عند بعض القضاة ما زكاها أحد قط، لأنه أمسك بيد الذي زكاه، وقال للقاضي: يا مولاي الناس ما يقولون: ما يرمن على الذهب والفضة إلا حمار، قال: نعم، وهذا حمار، وانصرف فحكم القاضي بعدالة ذلك الفقيه.
وأخبرني أيضاً أن الأمير علم الدين الشجاعي لما فرغت المدرسة المنصورية بين القصرين في أيام السلطان الملك المنصور قلاوون طلبه الأمير المذكور، فتوجه إليه وعمامته صغيرة بكراثة، على مصطلح أهل حلب، فلما جلس عنده، ولم يكن رآه، أخذ الأمير يتحدث بالتركي مع بعض مماليكه، فقال: يا أمير، المملوك يعرف بالتركي، فأعجب الأمير هذه الحركة منه، وقال له: السلطان قد فوض إليك تدريس التفسير بالقبة المنصورية، ونهار غد يحضر السلطان والأمراء والقضاة والناس، فغداً تحضر وتكبر عمامتك هذه قليلاً، فانصرف، ولما كان من الغد رآه الأمير علم الدين من بعيد، وهو جائز إلى المدرسة بتلك العمامة، فجهز إليه يقول له: ما قلت لك تكبر عمامتك قليلاً؟، فقال: يا مولانا، تعملوني مسخرة، وأراد أن يرجع، فقال الأمير علم الدين: دعوه يدخل، فلما جلس مع الناس؛ نظر الملك المنصور إلى الذين هناك، فقال: هذا ما هو الشيخ بهاء الدين بن النحاس؟، قالوا: نعم، فقال: هذا أعرفه، لما كنت ساكن في المدينة والناس يقرؤون عليه، وشكر الشجاعي على إحضاره، قال الشيخ فتح الدين: فلم يعرف السلطان غيره، ولا أثنى إلا عليه.
وأخبرني عنه غير واحد أنه لم يزل عنده في بيته من أصحابه ومن الطلبة من يأكل على مائدته لا يدخر شيئاً، ولا يخبئه عنهم، وهنا أناس يلعبون الشطرنج، وهنا أناس يطالعون، وكل واحد في شأنه لا ينكر على أحد شيئاً. ولم تزل أخلاقه مرتاضةً حتى يكون وقت الاشتغال يتنكر، وكان لا يتكلم في حل النحو للطلبة إلا بلغة العوام لا يراعي الإعراب.
وأخبرني الإمام أثير الدين، وعليه قرأ بالديار المصرية، قال: كان الشيخ بهاء الدين والشيخ محيي الدين محمد بن عبد العزيز المازوني المقيم بالإسكندرية شيخي الديار المصرية، ولم ألق أحدا أكثر سماعاً منه لكتب الأدب، وانفرد بسماع " صحاح " الجوهري.
وكان كثير العبادة والمروءة والترحم على من يعرفه من أصحابه، لا يكاد يأكل وحده، ينهى عن الخوض في العقائد، وله ترداد إلى من ينتمي إلى أهل الخير. ولي التدريس بجامع ابن طولون وبالقبة المنصورية، وله تصدير في الجامع الأقمر، وتصادير بمصر، ولم يصنف شيئاً إلا ما وجدناه من إملائه على الأمير سنان الدين الرومي شرحاً لكتاب " المقرب " لابن عصفور، وذلك من أول الكتاب إلى باب الوقف أو نحوه.
قال: وكنت وإياه نمشي بين القصرين، فعبر علينا صبي يدعى بجمال وكان مصارعاً، فقال الشيخ بهاء الدين: لينظم كل منا في هذا المصارع، ونظم الشيخ بهاء الدين:
مصارع تصرع الآساد شمرته ... تيهاً فكل مليح دونه همج
لما غدا راجحاً في الحسن قلت لهم ... عن حسنه حدثوا عنه ولا حرج
قال أثير الدين: ونظمت أنا:
سباني جمال من مليح مصارع ... عليه دليل للملاحة واضح
لئن عز منه المثل فالكل دونه ... وإن خف منه الخصر فالردف راجح
قال: وسمع الشيخ شهاب الدين العزازي نظمنا، فنظم فيه، وأنشدنيه:(2/223)
هل حكم ينصفني في هوى ... مصارع يصرع أسد الشرى
مذ فر عني الصبر في حبه ... حكى عليه مدمعي ما جرى
أباح قتلي في الهوى عامداً ... وقال: كم لي عاشق في الورى
رميته في أسر حبي ومن ... أجفان عينيه أخذت الكرى
قلت: أما قول الشيخ بهاء الدين - رحمه الله تعالى - فإنه منحط وما أتى فيه من مصطلح القوم إلا بلفظة " الراجح " لا غير. وأما قول شيخنا أثير الدين فإنه غاية لأنه أتى فيه بلفظ " المثل " و " الدون " و " الراجح " . وأما قول الشيخ شهاب الدين العزازي فبين بين، لم ينحط ولم يرتفع، لأنه أتى فيه بلفظة " حكى عليه " و " الإباحة " و " الرمي " و " أخذ الكرى " في أربعة أبيات وفيها عيب وهو التضمين وهو تعلق الثالث بالرابع، وقوله " الكرى " أخطأ فيه، لأن الكرى بمعنى النوم بفتح الكاف، والكرى بمعنى الأجرة بكسر الكاف فتنافيا وقد أشبعت القول في هذا في كتابي " فض الختام عن التورية والاستخدام " .
وأنشدني شيخنا العلامة أثير الدين قال: أنشدني الشيخ بهاء الدين لنفسه يخاطب الشيخ رضي الدين الشاطبي، وقد كلفه أن يشتري له قطراً:
أيها الأوحد الرضي الذي طا ... ل علاء وطاب في الناس نشرا
أنت بحر، لا غرو إن نحن وافي ... ناك راجين من نداك القطرا
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه يرثي الشيخ أحمد المصري النحوي:
عزاؤك زين الدين في الفاضل الذي ... بكته بنو الآداب مثنى وموحدا
فهم فقدوا منه الخليل بن أحمد ... وأنت ففارقت الخليل وأحمدا
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه مما يكتب على منديل:
ضاع مني خصر الحبيب نحولاً ... فلهذا أضحي عليه أدور
لطفت خرقتي ودقت فجلت ... عن نظير لما حكتها الخصور
أكتم السر عن رقيب لهذا ... بي يخفي دموعه المهجور
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه:
إني تركت لذا الورى دنياهم ... وظللت أنتظر الممات وأرقب
وقطعت في الدنيا العلائق ليس لي ... ولد يموت ولا عقار يخرب
وأنشدني شيخنا نجم الدين الصفدي من لفظه قال: أنشدنا الشيخ بهاء الدين لنفسه:
قلت لما شرطوه وجرى ... دمه القاني على الخد اليقق
ليس بدعاً ما أتوا في فعله ... ستروا البدر بمحمر الشفق
قلت: ذكرت أنا هنا ما نظمته في هذا:
قلت إذ شرطوا الحبيب وقد ضا ... ق علي الغرام في كل مسلك
قد ملكت الفؤاد من غير شرط ... قال: لكنني مع الشرط أملك
وقلت أنا فيه أيضاً:
تشرط من أحب فذبت خوفاً ... وقال وقد رأى جزعي عليه
عقيق دم جرى فأصاب خدي ... وشبه الشيء منجذب إليه
وأخبرني شيخنا الذهبي قال: قرأت على الشيخ بهاء الدين - رحمه الله - جزأين.
قلت: وغالب روايات الشيخ أثير الدين كتب الأدب عنه - أعني الشيخ بهاء الدين رحمه الله تعالى - .
محمد بن إبراهيم بن علي
ابن أحمد بن فضل الشيخ الموفق ابن الشيخ القدوة تقي الدين.
كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. وكان كثير التلاوة، قليل الاجتماع بالناس، لا يعرف له صاحب ولا عشير، وسمع كثيراً من الحديث على المشايخ الذين أدركهم بالصالحية.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس شهر المحرم سنة سبع مئة، ودفن عند والده.
محمد بن إبراهيم بن يحيى
ابن علي الأنصاري المروي الأصل، المصري المولد، جمال الدين الكتبي المعروف بالوطواط.
كان من كبار الأدباء، وأعيان الألباء، ألف وجمع، وصنف فأبرق ولمع. وكان نثره جيدا، وطبعه عن النظم متحيدا، لم يقدر ينظم البيت الواحد، ولو لحده اللاحد، وينثر جيداً ما شاء، ويتقن في هذا الفن الإنشاء.
وكانت له معرفة بالكتب وقيمتها، ودربة بوجودها وعدمها، وله فهم وذوق ومعرفة، وفضل يد له في مجاميعه على ما يريد أن يورده أو يصرفه، تدل تواليفه على ذلك، وتشهد له بحسن السلوك في تلك المسالك، وكان يرتزق بالوراقه، ويجمع في أثنائه ما راقه.
ولم يزل على ذلك إلى أن بلغت حياته غايتها، وتناولت وفاته رايتها.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ...... وسبع مئة.
ومولده بمصر سنة اثنتين وثلاثين وست مئة.(2/224)
أخبرني شيخنا العلامة أثير الدين، قال: كان له معرفة بالكتب وقيمتها، وله نثر حسن، ومجاميع أدبية. وكان بينه وبين ابن الخويي قاضي القضاة مودة، لما كان بالمحلة، فلما تولى قضاء الديار المصرية، توهم جمال الدين أنه يحسن إليه، ويبره، وسأله فلم يجبه إلى شيء من مقصوده، فاستفتى عليه فضلاء الديار المصرية، فكتبوا له على فتياه بأجوبة مختلفة، وصير ذلك كتاباً، وقد راحت به نسخة إلى بلاد المغرب. وكان قد سألني على أن أجيب على ذلك، فامتنعت لأن الإجابة اقتضت ذم المستفتى عليه، وكذلك أجاب جميع من كتب عليها. انتهى.
قلت: أما هذه الفتيا فقد رأيتها، ونقلتها بخطي، وهي في الجزء الثاني عشر من " التذكرة " التي لي، وقد سماها " فتوى الفتوة ومرآة المروة " . وكتب له الشيخ بهاء الدين بن النحاس وناصر الدين حسن بن النقيب، ومحيي الدين بن عبد الظاهر كتب له جوابين أحدهما له والآخر عليه، وشرف الدين بن فضل الله والسراج الوراق، وناصر الدين شافع، وشرف الدين القدسي، وشرف الدين بن قاضي إخميم، ومكين الدين الجزري كتب له جوابين، والنصير الحمامي وكمال الدين بن القليوبي، وعلم الدين بن بنت العراقي، وشمس الدين الخطيب الجزري، وعلم الدين القمني، وبدر الدين الحلبيالموقع، وعماد الدين بن العفيف الكاتب، وشمس الدين بن مهنا، بدر الدين المنبجي، وأمين الدين بن الفارغ، وشمس الدين بن دانيال، والفقيه شعيب، وناصر الدين بن الإسكاف، ونور الدين المكي، وآخر لم يذكر اسمه لأنه عاهده على ذلك.
ومن تصانيف جمال الدين المذكور كتاب " مناهج الفكر، ومناهج العبر " أربع مجلدات، تعب عليه، وجوده، وما قصر فيه، وكتاب " الدرر والغرر والدرر والعرر " .
وملكت بخطه تاريخ " الكامل " لابن الأثير، قد ناقش المصنف في حواشيه، وغلطه، وواخذه.
وفي جمال الدين هذا يقول شمس الدين بن دانيال وقد حصل للوطواط رمد:
ولم أقطع الوطواط بخلاً بكحله ... ولا أنا من يعييه يوماً تردد
ولكنه ينبو عن الشمس طرفه ... وكيف به لي قدرة وهو أرقد
وأنشدني إجازة له ناصر الدين بن شافع:
كم على درهم يلوح حراماً ... يا لئيم الطباع سراً تواطي
دائماً في الظلام تمشي مع النا ... س، وهذي عوائد الوطواط
وأنشدني له أيضاً:
قالوا: ترى الوطواط في شدة ... من تعب الكد وفي ويل
فقلت: هذا دأبه دائماً ... يسعى من الليل إلى الليل
وكان المسكين جمال الدين لا يزال الواقع بينه وبين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، فكتب تقليداً على سبيل المداعبة لشخص يعرف بابن غراب يعرض فيه بالوطواط، وهو: " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " إلى كل ذي جناح، وكل اجتراء من الطير واجتراح، وإلى كل ذي صيال منهم، وكل ذي صياح، وإلى كل ذي عفاف منهم، وكل ذي جماح.
أما بعد:(2/225)
فإنه لما علمنا من الله كلام الطير وفهمناه من منطقه، وألزمناه من عهده وموثقه، فقال: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " ترى أن من برز لعجز من أولي المخالب وذوي المناسر، صار على ذي مسالمه، وإن غدا بعضها لبعض طعماً، ولا يتجاوز أحد منها مقامه المحمود في المكارمه، وإن اتفقت الأجناس واختلفت الأسماء للوضيع والأسمى، وأن يشكر للورق حسن شجعها وعفاف طبعها، مساعدتها للخلي بغنائها في دوحها، وللحزين بترجيع ندبها ونوحها، ولأنها متجملة بتخضيب الكف وتطويق الأعناق، ومتحملة من القدود إلى الغصون رسائل العشاق بالأشواق، حتى وسمت بأنها على تعانق القضب رقبا، وسمت حتى أصبحت على منابر الأشجار خطبا. ويؤثر أن يحمل لذوات الاصطياد من الجوارح تحصيل ما تقتات به النفوس، وتمتار منه الجوارح لأنها شرفت بنفوسها حتى علت على أيدي الملوك، وقيل لابنها: لله أبوك، وأن يصف بحسن اعتذاره في جيئته وذهابه، وأن ينثني على حسن خطبته وجميل خطابه، إلى غير ذلك من قطا لو ترك لهدأ ونام، وإلى بلابله الملوك من الحمام، وإلى غرانيق تهرب الثعابين من أصواتها، وإلى سباطر ترتج الأرض بأكلها لحياتها، وإلى لغالغ تنطق، وكأنما ألبست ملابس أهل الجنان من السندس والاستبرق، وإلى ما ينجلي من طواويس كأنما استعار منها قوس قزح أثواباً دبجتها الشمس بشعاعها، وأهلتها الأهلة لإيداع إبداعها، وإلى ديكة مباركه، يؤذن آذانها بمرور ملك من الملائكة، وإلى نسر عظيم التأمير، وإلى نعام كاد يطير.
وإنا فكرنا في بعض ذوات الأجنحة خبيث حقير السمات، أسود الوجه والقفا والصفات، لا يألف إلا قبور الأموات، ولا يسعى إلا في الظلم والظلمات، ذو أذن ناتئة وما هذه الصفة من صفات الطيور، وإنه يولد والطير لا يعرف منها إلا أنها تحضن بيضها في أعشاشها والوكور، وإنه لا يقع في الشباك ولا في الفخوخ، وإنه يمني كما يمني الرجل وليس من الأنس، وإن كان شيطاناً فإنه شيطان ممسوخ، ولا يسمع منه هديل ولا هدير، ولا يصير مسرور حيث يصير، يغدو على الروضات متلصصا، ويغدو للثمار منقصا، مشؤوم الطلعه، مذموم النجعه، مرجوم البقعه سيئ الجوار قبيح الآثار، مؤذن بخراب الديار، أسود من قار، وأفسد من فار، لا يحسن به الانبساط، ولا يمكن معه الاحتياط، أخس مخلوقات الله تعالى، وهو المسمى بالوطواط. كم ضري وكم ضر، وكم ساء وما سر، وما أبرأ قط ولا أبر، ولا هو حيوان من بحر ينتفع به ولا من بر.
وهذا كتابنا إلى كل ذي بسط وقبض، وإلى كل ذي انتهاس وانتهاش وعض، وكل رب مقبرة مظلمه، وكل ذي موحشة معتمه، وكل من إليه توغل الأعماق المقتمه، يتضمن إهلاك هذا الحيوان الخبيث وتطهير الأمكنة من رجسه، وسد المنافس على الكريهين من نفسه ونفسه، وأن لا ترعى له حرمه، ولا يرقب فيه إل ولا ذمه، بحكم أنه ليس من الطير ولا من الوحش، ولا ذو قوة ولا بطش، ولا فيما ينتفع به صائل ولا صائد ولا آكل، ولا هو معين ذي فرج ولا ثاكل، وإن ضرره للأحياء والأموات فاش. ولأنه إذا دعي بأحب الأسماء إليه قبل له: خفاش، لا يكرع في نهر النهار، ولا يحوم مع ذوات الجناح في مطار، وأكره شيء إليه الأنواء والأنوار، ولا يوصف بأنه الشهم، ولا هو ذو ريش ينتفع به بإراشة السهم، لا تحد له الصفائح، ولا يعد في جملة الذبائح، ولا ريح له في الشواء، ولا ريح له في الشرائح.
ورسمنا أن يفوض أمره وحسبة الطير للإمام شرف الدين بن غراب، فليتق الله في كل ذات طوق وغير طوق، وليراقبه مراقبة أبيه إذا قنع من إيمانه بما اقتنع به صلى الله عليه وسلم من السوداء بأن قال لها: أين الله؟، فقالت: في السماء. وأبوه، فلا يزال يقول: الله فوق، وليحتسب على هذا الخبيث المشوه، وهذا الخسيس المنوه، فقد فوضنا ذلك إليه إذ هو كأبيه منطق مفوه، وليترك في أمره النعيق والنعيب، وليعلن بلغته إعلاماً فصيحاً يستوي فيه البعيد والقريب، ويتجاوز فيه في ذلك كل سمي بهذا الاسم المشؤوم، إذ لكل امرئ من نعته نصيب، وليقرأ هذا المرسوم على رؤوس الأشهاد وعند الآبار المعطلة والبراني والخراب واليباب، ويزيل من الترب المظلمة والقباب عند كل باب، والخاتم الشريف السليماني أعلاه حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى.
محمد بن إبراهيم بن سعد الله(2/226)
ابن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر، الإمام العالم قاضي القضاة بدر الدين أبو عبد الله الكناني الحموي الشافعي قاضي قضاة الديار المصرية.
سمع سنة خمسين من شيخ الشيوخ الأنصاري بحماة وبمصر من الرضي بن البرهان والرشيد العطار وإسماعيل بن عزرون وعدة. وبدمشق من ابن أبي اليسر، وابن عبد، وطائفة. وأجاز له عمر بن البراذعي، والرشيد بن مسلمة وطائفة. وحدث " بالشاطبية " عن ابن عبد الوارث صاحب الشاطبي. وله إجازة في سنة ست وأربعين أجازه فيها الرشيد بن مسلمة، ومكي بن علان، وإسماعيل العراقي، واليلداني، والصفي عمر بن عبد الوهاب الراذعي، وخطيب مردا، وغيرهم.
وسمع من والده، وأحمد بن القاضي زين الدين الدمشقي، وابن علاق، وعثمان بن رشيق، والحافظ العطار، والنجيب عبد اللطيف الحراني، والرضي بن البرهان الواسطي، وشمس الدين إسحاق بن بلكويه الصوفي المعروف بالمشرف، والشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والقاضي شمس الدين بن عطا الحنفي، وكمال الدين عبد العزيز بن عبد، وشيخ الشيوخ شرف الدين، والشيخ ناصح الدين القسطلاني، وأخيه قطب الدين، والشيخ محب الدين بن دقيق العيد، والشيخ جمال الدين بن مالك، والشيخ جمال الدين الصيرفي، وجماعة غيرهم.
وطلب الحديث بنفسه، وقرأ على الشيوخ وحدث ب " صحيح " البخاري بطريق البوصيري.
وحدث بالشام ومصر والحجاز، وخرج له المحدثون عوالي ومشيخات بمصر وبدمشق، وخرج هو لنفسه أربعين حديثاً من الأحاديث التساعيات العوالي، وسمعت عليه مع جماعة بمنزله بمصر المجاور للجامع الناصري، وأجاز لي في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وحدث بالكثير، وتفرد في وقته.
كان إمام زمانه، وصدر أوانه، وانتهت إليه رياسة الدين والدنيا، رقى بسيادته في مراتب العليا، وجمع له من المناصب ما لم يجمع في وقته لسواه، وترك كل عدو له وحاسد ينطوي على نيران جواه، اشتغل بالعلم من صغره، واستمر على ذلك في مدة كبره. وصحب قاضي القضاة تقي الدين بن رزين، وانتفع به وقرأ عليه كثيراً من كتبه، ولازم طريق الخير وصحبة الصالحين، واتحد بالفقراء العاملين العالمين، واشتهر بهذه الطريقة، وعرف بهذا الخير الذي هو نعم الرفيق في كل فريق، فترشح بذلك للوظائف الكبار، والمناصب التي ما على حسنها غبار، ومع هذا كله لازم طريقة واحدة، وباشر القضاء والحكم وقد جعل الله فضله شاهده ورزق السعادة العظمى في كل ما تولاه، وزانه من محاسنه ما تحلاه، واتصف بصفات، وما يقول الناس في البدر إذا محا سواد الدجى وجلاه:
وجلال لو كان للقمر البد ... ر جاز فيه حكم المحاق
ثم إنه ضعف بصره واستعفى من المباشره، وترك الخلطة بالناس والمعاشره، وانقطع في منزله قريباً من ست سنين يزوره الناس للبركه، ويقصدونه للتملي بمحاسنه، والأخذ من فوائده المشتركه.
ولم يزل على حاله إلى أن كسف بدره، وأزلف قبره، وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الاثنين بعد العشاء الآخرة الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ومولده ليلة السبت عند مضي الثلث الأول من ليلة رابع شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وست مئة.
وصلي عليه بجامع دمشق صلاة الغائب يوم الجمعة بعد الصلاة عاشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة.
وكان قد درس أولاً بدمشق في المدرسة القيمرية مضافاً إلى الخطابة في أول دولة لاجين. ثم إنه نقل إلى قضاء القدس مع الخطابة به في شوال سنة سبع وثمانين وست مئة عوضاً عن فخر الدين الزرعي. ثم إنه طلب لقضاء الديار المصرية، فتوجه إليها في شهر رمضان سنة تسعين بدل ابن بنت الأعز، وجمع له بين قضاء البلدين، فأحسن السيرة هناك، وأقام مدة، وتجمعت له هناك مناصب جليلة.
أقام بالقاهرة على حاله، إلى أن قتل الأشرف، وأمسك الصاحب بن السلعوس، فصرف القاضي بدر الدين بن جماعة وأعيد قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز إلى ما كان عليه.(2/227)
واستقر ابن جماعة هناك في تدريس وكفاية؛ إلى أن توفي قاضي القضاة شهاب الدين محمد بن الخوبي، فنقل إلى قضاء الشام، ووصل إلى دمشق رابع عشر ذي الحجة من السنة قاضي قضاة الشام، وجمع له مع القضاء الخطابة - وليها بعد الشيخ شرف الدين المقدسي في شوال سنة أربع وتسعين وست مئة - ومشيخة الشيوخ، وأقام على ذلك مدة، ولم يتفق هذا لغيره، وازداد على ذلك التداريس الكبار ونظر الأوقاف وغير ذلك.
ولم يزل على ذلك إلى أن طلب ثانياً لقضاء الديار المصرية في شعبان سنة اثنتين وسبع مئة عوضاً عن ابن دقيق العيد، فأقام على ذلك إلى أن حضر السلطان من الكرك في سنة تسع وسبع مئة، فعزله، وولى مكانه قاضي القضاة جمال الدين الزرعي في شهر ربيع الأول سنة عشر وسبع مئة مستهل الشهر. وعزل أيضاً شمس الدين السروجي قاضي القضاة الحنفي، وطلب ابن الحريري، فولاه مكانه، وتولى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة في هذه العطلة تدريس المدرسة الناصرية في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ثم إنه أعيد إلى منصبه قضاء القضاة بالديار المصرية عوضاً عن القاضي جمال الدين الزرعي في الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة واستقر له مع الحكم مشيخة الحديث بالكاملية وجامع ابن طولون، وتدريس الصالحية والناصرية.
ولم يزل على حاله إلى أن استعفى من القضاء في جمادى الآخرة - فيما أظن - سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فاستمرت بيده الزاوية المنسوبة إلى الشافعي - رضي الله عنه - بجامع مصر، وقرر له السلطان الملك الناصر راتباً في الشهر مبلغ ألف درهم وعشرة أرادب قمحاً، وكان قد ترك تناول المعلوم قبل انفصاله عن القضاء بمدة.
وحج ست مرات، أولها سنة ست وخمسين وست مئة، وجاوز التسعين سنة، وكان قد رزق القبول عند الخاصة والعامة، وصنف في التفسير والحديث والفقه والأصول والنحو وعلم الميقات وغير ذلك، وقرئت عليه مصنفاته. وكان يخطب غالباً من إنشائه، ويؤدي الخطابة بفصاحة، ويقرأ في النهار طيباً. واجتمع له من الوجاهة والمناصب والعمر المديد في العز والعمل والتقدم ما لا اجتمع لغيره، وانقطع نظراؤه، وانقرضوا، وساد هو عليهم في حياتهم.
ومن نظمه - رحمه الله تعالى - ما أنشدنيه له إجازة:
يا لهف نفسي لو تدوم خطابتي ... بالجامع الأقصى وجامع جلق
ما كان أهنأ عيشنا وألذه ... فيها وذاك طراز عمري لو بقي
الدين فيه سالم من هفوة ... والرزق فوق كفاية المسترزق
والناس كلهم صديق صاحب ... داع وطالب دعوة بترقق
وأنشدني له أيضاً إجازة:
لما تمكن من فؤادي حبه ... عاتبت قلبي في هواه ولمته
فرثى له طرفي، وقال: أنا الذي ... قد كنت في شرك الهوى أوقعته
عاينت حسناً باهراً فاقتادني ... سراً إليه عندما أبصرته
وأنشدني لنفسه إجازة:
أحن إلى زيارة حي ليلى ... وعهدي من زيارتها قريب
وكنت أظن قرب العهد يطفي ... لهيب الشوق فازداد اللهيب
قلت: ما أحسن قول القائل:
وكلما زدتني دنواً ... زدت إلى وجهك اشتياقاً
وأنشدني لنفسه إجازة:
وإذا ما قصدت طيبة شوقاً ... صار سهلاً لدي كل عسير
وإذا ما ثنيت عزمي عنها ... فعسير علي كل يسير
قلت: ما أحسن القائل:
يا ليل ما جئتكم زائراً ... إلا وجدت الأرض تطوى لي
ولا انثنى عزمي عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالي
محمد بن إبراهيم بن محمد
ابن طرخان، الصدر الشيخ بدر الدين بن الحكيم، العالم رئيس الأطباء عز الدين أبي إسحاق السويدي - من سويداء حوران - من أولاد سعد بن معاذ.
سمع من جماعة فوق المئة منهم الرشيدي مسلمة، وابن علان، وإبراهيم بن خليل، والعراقي، وعبد الله بن الخشوعي، والصدر البكري، ومحمد بن عبد الهادي، وأخوه عبد الحميد، واليلداني، والكفر طابي، ومحمد بن سعد المقدسي، وخطيب مردا. وأجاز له من بغداد بعض أصحاب ابن شاتيل، وبعض أصحاب شهدة.
وكان مستوفي الأوقاف، وخدم بديوان الجامع مدة، وسمع منه الطلبة.(2/228)
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة خمس وثلاثين وست مئة.
محمد بن إبراهيم
ابن معضاد... .
توفي - رحمه الله تعالى - ..... سنة سبع وثلاثين وسبع مئة بمصر.
ولما توفي - رحمه الله تعالى - قام أخوه عمر.
قال لي شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين - رحمه الله - : هؤلاء أهل بيت لا يتكلم فيهم أحد حتى يموت واحد قبله.
محمد بن إبراهيم بن غنايم
الصالحي الحنفي المحدث العدل، شمس الدين بن المهندس الشروطي.
سمع من ابن أبي عمر، وابن شيبان، والفخر، وطبقتهم. وكتب العالي والنازل، ورحل إلى مصر بابنه، ونسخ الكثير، وحصل الأصول، وخرج، وأفاد مع التصون والتواضع وطيب الخلق وصحة النقل. وخلف أولاداً وملكاً.
وكان رأسه يضطرب دائماً لا يفتر، وصى بوقفية أجزائه، وكتب شيخنا الذهبي عنه، وأجاز له.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في الثالث والعشرين من شوال سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وخمسين وست مئة تقريباً.
محمد بن إبراهيم بن محمد
ابن أحمد الفقيه المفيد الرحال أمين الدين الواني الدمشقي الحنفي، رئيس المؤذنين بدمشق وابن رئيسهم برهان الدين. وقد تقدم ذكر والده شرف الدين.
كتب أمين الدين، وتعب، وحصل الأصول، وحدث بمصر ودمشق ومكة عن أبي الفضل بن عساكر، والتقي بن مؤمن، وجماعة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بعد والده بشهر، ودفن إلى جانبه... سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، عاش إحدى وخمسين سنة.
قال شيخنا الذهبي: كان من خير الطلبة، وأجودهم نقلاً.
محمد بن إبراهيم بن عبد الله
الشيخ الجليل الفاضل القدوة أبو عبد الله بن الشيخ السيد القدوة ابن الشيخ السيد القدوة الأرموي.
روى " جزء ابن عرفة " عن ابن عبد الدائم.
كان من كبار الأدباء، وجلة العلماء، وسادة العارفين، وأئمة المصنفين، ديانته متينه، وصيانته مبينه، له فضائل، وفيه تودد ولطف شمائل، يكرم من يزوره، ويقبل عنده لكرم طباعه حقه وزوره. له وجاهة عند الأمراء والأكابر، وأرباب الطيالس والمحابر، وكلمته نافذة فيما يراه، وقوله يسمع فيما يأمر به ويراه. وشعره أرق من دموع العشاق وعتاب الأحباب إذا وصلوا بعد الصد والفراق، ونسيم الرياض إذا هب في وقت الاغتباط بالاعتباق:
تسمع من شعره بيوتاً ... ألذ من غفلة الرقيب
كأنما إذا صفت ورقت ... شكوى محب إلى حبيب
لم أر مثل نظمه العذب، وقريضه الذي هو في سلالة الماء وصقال العضب، يهزأ بسجع الحمام، ويهز عطفي بالطرب؛ حتى كأني ثملت من المدام. وقد أوردت منه جملة في الجزء والثامن والثلاثين من " التذكرة " لي.
ولم يزل الشيخ على حاله إلى أن رمي الأرموي بسهم الحمام، وبكى عليه يوم مات حتى جفون الغمام.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في عاشر شهر رمضان سنة إحدى عشرة وسبع مئة، بزاويته بسفح قاسيون، وصلي عليه بالجامع المظفري، ودفن عند والده، وحضر جنازته خلق كثير من الأمراء والقضاة والفقهاء والصدور وعامة الناس. وغلق سوق الصالحية بأسره، وكان يوماً مطيراً كثير الوحل والطين.
وكان فيه خير وتودد ومواظبة على المشيخة، وإكرام من يزوره.
ومولده في شهر رجب سنة خمس وأربعين وست مئة.
جمع جزءاً في السماع وجزءاً في أخبار جده.(2/229)
ومن كلامه في السماع قال: افتقار السماع إلى الوجد افتقار الصلاة إلى النية، فكما لا تصح الصلاة إلا بالنية والقصد؛ كذلك لا يباح السماع إلا بالوجد، فمن كانت حركته في السماع طبيعيه؛ كانت نشوته به حيوانيه، ألا ترى أن كثيراً من الحيوانات ينشأ له حال غير المعتاد عند سماع المطربات، وقوة حركة لسماع النغمات، فمن كان هذا السماع الحيواني في ذلك أقصى أربه؛ كان مقصوراً فيه على لهوه ولعبه، وهو سماع الطبيعة لا سماع الأرواح، فجدير أن يجتنب، فإنه يستعمل الطبيعة فيه غير مباح، والسماع الذي اختلفت فيه الأقوال، إنما هو سماع أهل المقامات والأحوال، فمنهم من أباحه على حكم الاختصاص، ومنهم من جعله زلة الخواص، ومنهم من توقف، ولم يجد إلى إقامة الدليل على كلا أمريه نشاطا، ورأى الاستغفار منه إذا قدر له الحضور فيه احتياطا، فهو متردد في أمريه، فتركه لمثل ذلك أولى، ولم يدر على من حضره من السلف، ولكن لم ير نفسه لحضوره أهلاً، فهذه جملة إقناعية مما قيل فيه، ونبذة لعل من تأملها تكفيه:
إذا حرك الوجد السماع إليكم ... يباح، وإلا فالسماع حرام
ومن هزه طيب السماع حديثكم ... ومال من الأشواق ليس يلام
ولا عجب إن شتت الحب جمعه ... فليس لأحوال المحب نظام
غذي بلبان الحب قدماً وماله ... سواه إذا آن الفطام فطام
يسير مع الأشواق أنى توجهت ... وليس له في الكائنات مقام
ولا غرو إن ضلت مذاهب عقله ... فإن مقر العز ليس يسام
حمى لا سبيل أن يباح مصونه ... وكل الورى طافوا عليه وحاموا
وقاموا وقد جدوا لأول منزل ... فقاموا حيارى فيه حيث أقاموا
ومن شعره أيضاً:
وافى الربيع فعاد الروض مبتسماً ... وطالما انتحبت فيه سحائبه
والغصن من فوقه الشحرور تحسبه ... يتلو الزبور بأعلى الدير راهبه
وشاطئ النهر قد دبت عوارضه ... وافتر مبسمه واخضر شاربه
فصفق الدوح لما أن رأى عجباً ... من أجل ذلك قد شابت ذوائبه
ومنه:
لم أنس ليلة بات البدر يخدمنا ... إلى الصباح ولم يشعر بنا الرقبا
والنهر يجري لجيناً والدجى سيج ... فمذ بدا الصبح ياقوتاً جرى ذهبا
ومنه:
وافى النسيم أمام القطر فانثنت ال ... أغصان ترقص من تيه ومن مرح
وأعين الروض تجري وهو مبتسم ... وقد تفيض دموع العين بالفرح
ومنه:
أصبحت أسجع من ورقاء فاقدة ... تنوح في الدوح طول الليل لم تنم
بعد الأحبة لا تهوى المنام بلى ... إن سامحوها وزار الطيف في الحلم
ومنه:
رأيت الصبا لما استعنت بلطفها ... على حمل ما لاقيته تتعلل
وقمت بحفظ العهد للنجم في الدجى ... فما باله في صحبتي يتنقل
وقلب الدجى ما زال للسر كاتماً ... وها هو عما خلته يتحول
ومنه:
سكرت كما تهب صباً صباحاً ... فرق لأنه بر كريم
فلا تعجب له إن مال عطفاً ... فإن الغصن يعطفه النسيم
ومنه:
لطفت شمائله فعدن شمائلاً ... من أجلها عرف النسيم معطر
لو لم ينم عبيره بعبوره ... كان الرقيب للطفه لا يشعر
ومنه:
أصافح الأغصان أبغي الحيا ... مستسقياً أكؤس جريالها
وكيف لا يدركني جودها ... وقد تعلقت بأذيالها
ومنه:
يا معرضاً عني وفي إعراضه ... لطف يفي بفضائل القرب
من دون سفك دمي بحبك عامداً ... معنى يقيك بواعث العتب
ومنه:
كأنما النهر في ظل الغصون وقد ... ألقى السحاب عليه حمرة الشفق
خد تكنفه فرط الحياء وقد ... مد العذار عليه خضرة الورق
ومنه:
وربوع يكاد طيب شذاها ... يفضح المسك في نحور العذارى
أشرقت شمس نورها فرأينا ... نحوها في الدجى نؤم نهارا(2/230)
وأتى القابسون نحو سناها ... فرأوا جل نارها جلنارا
ومنه:
أنا مستجير بالدجى ... من سل سيف صباحه
فعساه يكلأ ذا هو ... كرماً بظل جناحه
ومنه:
كأن سماءنا والبدر فيها ... وأنجمها محدقة إليه
حديقة نرجس من حور عين ... تدفق ماؤها فطفا عليه
ومنه:
تبسم ثغر الروض بعد قطوبه ... سروراً بإقبال الربيع إليه
ألم تر أن الغصن إذ رقت الصبا ... يصفق مسروراً لها بيديه
وأن ثياب الورد وهي شقيقة ... يشققها حتى تمر عليه
ومنه:
خلت أن الغصون ترقص لما ... أن أتاها النسيم بالأمطار
فلهذا ألقت له ما عليها ... فهي من شدة السرور عواري
لبست في الثياب ثوب وقار ... ورأت في المشيب خلع عذاري
محمد بن إبراهيم بن أبي بكر
شمس الدين المؤرخ الجزري.
لهج بالتاريخ، وجمعه، وسمع من إبراهيم بن أحمد بن كامل، والفخر علي، وابن الواسطي، والأبرقوهي، وابن الشقاري، وغيرهم من الشعراء.
وكان حسن المذاكرة، سليم الباطن صادقاً، وفي تاريخه عجائب وغرائب عامية. أجاز لي بخطه - رحمه الله تعالى - سنة ثلاثين وسبع مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ... سنة تسع وثلاثين وسبع مئة بدمشق، ودفن في مقابر الباب الصغير.
وروى عنه الشيخ علم الدين البرزالي هذه الأبيات:
إلهي قد أعطيتني ما أحبه ... وأطلبه من أمر دنياي والدين
وأغنيتني بالقنع عن كل مطمع ... وألبستني عزاً يجل عن الهون
وقطعت عن كل الأنام مطامعي ... فنعماك تكفيني إلى يوم تكفيني
ومن دق باباً غير بابك طامعاً ... غدا راجعاً عنه بصفقة مغبون
قلت: وأنا أستكثر هذه الأبيات عليه، وإن لم تكن في الذروة.
محمد بن إبراهيم بن إبراهيم
ابن داود بن حازم، الشيخ الإمام الصدر الكامل قاضي القضاة الأذرعي شمس الدين الحنفي.
كان فاضلاً من أعيان مذهبه، يعرف الفقه والأصول والنحو، ودرس بالمدرسة الشلبية، وولي القضاء بدمشق سنة كاملة، وروى عن ابن عبد الدائم.
قال شيخنا البرزالي: قرأت عليه بدمشق وبتبوك. توجه إلى القاهرة متمرضاً، ونزل بخانقاه سعيد السعداء، فأقام خمسة أيام.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس شهر رجب سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة.
وكان قد ولي القضاء بدمشق في ثاني عشر ذي القعدة سنة خمس وسبع مئة عوضاً عن القاضي شمس الدين بن الحريري، ولما وصل توقيعه في شهر ربيع الآخر سنة ست وسبع مئة غلط البريدي، وتوجه بالتوقيع إلى ابن الحريري، ولما قرئ علم أنه قد غلط، فعاد به إلى الأذرعي.
محمد بن إبراهيم
العدل الرئيس الفاضل صلاح الدين أبو عبد الله الطيب المعروف بابن البرهان. كان أبوه جرائحياً، وفي أبيه يقول القائل، وقد ظرف:
كل من عالج الجراحة فدم ... وأقيم الدليل بالبرهان
ولما نشأ صلاح الدين المذكور لأبيه أقرأه أبوه القرآن، فحفظ منه نحو النصف، وقرأ طرفاً من العربية على الشيخ بهاء الدين بن النحاس، وقرأ الطب على العماد النابلسي، ثم على الشيخ علاء الدين بن النفيس.
وكان قد أجيز أولاً بالكحل، ثم بالتصرف في الطب، وكان فاضلاً في فروع الطب، مشاركاً في الحكمة، مائلاً إلى علم النجوم والكلام على طبائع الكواكب وأسرارها، وقرأ في آخر عمره على الشيخ شمس الدين الأصفهاني كثيراً من الحكمة، وسمع بقراءة فخر الدين عبد الوهاب كاتب الدرج كتاب " الشفاء " لابن سينا على الشيخ شمس الدين، وهو يشرحه لصلاح الدين ميعاداً فميعاداً إلى أن أكمله.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: وسألت الشيخ شمس الدين عنه، فقال: اشتغاله أكثر من ذهنه، وكان علمه بالطب أكثر من معالجته.
وقال لي شيخنا شمس الدين: إنه طلعت في أصبعه سلعة، فاستطب لها صلاح الدين، فبهت، ثم وصف أشياء لم تفده، فقال له فخر الدين عبد الوهاب: لو عملت كذا وكذا كان أنفع له، فعمله، فنفعه، وبرئ به.(2/231)
وكان صلاح الدين المذكور ذا مال ومتجر، وأكثره في إخميم، وكان من أعيان أطباء السلطان الذين يدخلون عليه، ويعرف له السلطان مكانته وفضله، وكان خصيصاً بالنائب الأمير سيف الدين أرغون. ثم إنه اختص بعده بالأمير سيف الدين طقزتمر، ويطلع معه في كل سنة إلى الصعيد، فيكون في خدمته، ويستعين بجاهه على استخراج أمواله وإنفاق متاجره.
وصحب قاضي القضاة تاج الدين القزويني، وكان يسفر عنده لقضاة الصعيد، يقدم كتبهم، ويتنجز أجوبتهم. وكان لا يزال ضيف الذرع من تقدم القاضي جمال الدين بن المغربي رئيس الأطباء عليه، وسأل من السلطان الإعفاء من الطب، وأن يكون من تجار الخاص، فقال السلطان: نحن نعرف أنه إنما قال هذا لكون ابن المغربي هو الرئيس، وكونه هو أكبر وأفضل، فلا يأخذ في خاطره من هذا، فهو عندنا عزيز كريم، ولكن إبراهيم صاحبنا، ونعرف أنه ما يستحق التقدم عليه. فطاب قلب صلاح الدين بهذا الكلام، وخطب بعد ذلك أخت ابن المغربي، وتزوج بها، واتحدا بعد مباينة البواطن.
وكان صلاح الدين يثبت علم الكيمياء، ويقول إنه صحب ابن أمير كان اسمه ابن سنقر الرومي، وقال: عملها بحضوري غير مرة.
وكان مغرى بالروحانيات، واعتقاد ما يقال من مخاطبات الكواكب، حدثني بهذا جميعه القاضي شهاب الدين بن فضل الله، وكان كثير التردد إليه والاجتماع به، وقد اجتمعت به أنا غير مرة، وسمعت كلامه، وكان يستحضر كليات " القانون " ، وكان يلثغ بالراء لثغة مصرية، وعلى ذهنه شيء من الحماسة والمقامات وشعر أبي الطيب.
وكان في ذهنه جمود، وكان يجتمع هو والشيخ ركن الدين بن القوبع - رحمه الله تعالى - في دكان الشهود التي على باب الصالحية، فيذكر صلاح الدين شيئاً من كلام الرئيس ابن شينا، إما من الإشارات أو من غيرها، ويشرح ذلك شرحاً غير مطابق، فما يصبر له الشيخ ركن الدين، ويقول: سبحان الله! من يكون ذهنه هكذا يشتغل فلسفة، هذا الكلام معناه كيت وكيت، فهو في واد وأنت في واد، وهذا الذي يفهم من كلام الشيخ هو المطابق للقواعد عند القوم. فيعود صلاح الدين في خجل كبير من الجلوس. وأظنه فارق الزوجة أخت ابن المغربي قبل وفاته.
ولما مرض النائب أرغون بحلب أول مرة طلبه من السلطان، فجهزه إليه فحضر وعالجه، ثم توجه إلى القاهرة، ثم إنه مرض الثانية، فطلبه، فوصل إلى إربد، وبلغته وفاته، فعاد من إربد إلى القاهرة.
وتوفي صلاح الدين - رحمه الله تعالى - في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
وكنت أراه دائماً يحمل " شرح الإشارات " للنصير الطوسي ويتوجه به إلى الشيخ شمس الدين الأصفهاني ليقرأه عليه.
محمد بن إبراهيم بن يحيى
الشيخ الإمام الفقيه العالم شمس الدين الصنهاجي المالكي، إمام محراب المالكية بالجامع الأموي.
كان فقيهاً فاضلاً من أهل العلم والصلاح وملازمة الاشتغال.
توفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشر ذي الحجة سنة اثنتين وسبع مئة، ودفن برا الباب الصغير.
وتولى الإمامة بعده الشيخ أبو الوليد بن الحاج الإشبيلي.
محمد بن إبراهيم بن ساعد
الشيخ الإمام الفريد المحقق النحرير الفاضل الحكيم شمس الدين أبو عبد الله الأنصاري، السنجاري الأصل والمولد، المصري الدار والوفاة، المعروف بابن الأكفاني.
كان فاضلاً قد برع في علوم الحكمه، وجمع شتات العلوم من غيرها بماله من الهمه، لو رآه الرئيس لكانت إليه إشاراته، وبه صح شفاؤه، وتمت نجاته، ولم يكن قانونه يطرب، ولا حكمته المشرقية مما يأتي بالفوائد فيغرب. ولو عاصره النصير الطوسي لما بنى الرصد، وكف من طول باعه في التصنيف واقتصد، ولم يعد الناس متوسطاته في المبادي، وعلم أنه ما ظفر بهيبة من الهيئة إلى يوم التنادي. ولو عاينه بطليموس لما وضع اسرلابا، ولم يدر مجس المجسطي، ولم يجد له فيه طلابا. ولو ناظره الخونجي لما أجلسه على خوانه، وعلم أن منطقه في " كشف الأسرار " هذر عند بيانه. هذا إلى توسع في علم الأدب على كثرة فنونها، واتساع بحرها لملاعب نونها، وفهم نكته ودقائقه، ومعرفة مجازاته وحقائقه. واستحضار كثير من وقائع العرب وأيامها وتواريخ الأعيان وأحكامها.(2/232)
اجتمعت به فكنت أرى العجائب، وأسير في فضاء غرائبه على متون الصبا والجنائب، أخذت عنه فوائد في الرياضي، وملأت بقطر علومه حياضي، ولم أر مثل عبارته، ولا لطف إشارته، فكنت أحق بقول أبي الطيب:
من مبلغ الأعراب أني بعدها ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا
ولقيت كل العالمين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
ولم يزل الشيخ على حاله إلى أن اندرج ابن الأكفاني في الأكفان، وتحقق معنى قوله: " كل من عليها فان " .
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وأربعين وسبع مئة بالقاهرة، في طاعون مصر، تعجيزاً من الله تعالى لما يعرفه، وينفقه من حواصل علومه ويصرفه.
كان هذا الشيخ شمس الدين، قد برع في علوم الحكمة، وتفرد بإتقان الرياضي، فإنه كان إماماً في الهندسة والحساب والهيئة، وله في ذلك تصانيف وأوضاع مفيدة، قرأت عليه قطعة جيدة من كتاب إقليدس، وكان يحل لي ما أقرأه عليه بلا كلفة، كأنه ممثل بين عينيه، فإذا ابتدأت في الشكل شرع هو يسرد باقي الكلام سرداً، وأخذ الميل، ووضع الشكل، وحروفه في الرمل على التخت، وعبر عنه بعبارة جزلة فصيحة بينة واضحة، كأنه ما يعرف شيئاً غير ذلك. وقرأت عليه مقدمة في وضع الأوفاق، فشرحها لي أحسن شرح، وقرأت عليه أول " الإشارات " ، فكان يحل شرحه نصير الدين الطوسي بأجل عبارة، وأجلى إشارة، وما سألته عن شيء في وقت من الأوقات عما يتعلق بعلوم الحكمة من المنطق والطبيعي والرياضي والإلهي إلا وأجاب بأحسن جواب، كأنه كان في بارحته يطالع في تلك المسألة طول الليل.
وقرأت عليه " رسالة الاستبصار فيما يدرك بالأبصار " ، وهو كتاب صغير في علم المناظر، تصنيف الشيخ شهاب الدين القرافي الأصولي المالكي، فحل كلامه، وواخذه في أشياء.
وأما الطب فإنه كان فيه إمام عصره، وغالب طبه بخواص ومفردات يأتي بها إلى المريض، وما يعرفها أحد، لأنه يغير كيفيتها وصورتها، حتى لا تعلم، وله إصابات غريبة في علاجه.
وأما الأدب - وكان فيه فريداً، يفهم نكته، ويذوق غوامضه، ويستحضر من الأخبار والوقائع للناس قاطبةً جملة كبيرة - فحفظ من الشعر شيئاً كثيراً إلى الغاية للعرب والمولدين والمحدثين والمتأخرين والعصريين. لوه في الأدب تصانيف، وكان يعرف العروض والبديع جيداً، ولم أر مثل ذهنه يتوقد ذكاءً بسرعة ما لها روية، وما رأيت فيمن رأيت أصح ذهناً منه، ولا أذكى.
وأما عبارته الفصيحة الموجزة الخالية من الفضول فما رأيت مثلها. قال لي شيخنا الحافظ فتح: ما رأيت من يعبر عما في ضميره بعبارة موجزة مثله. انتهى.
ولم أر أمتع منه، ولا أفكه من محاضرته، ولا أكثر اطلاعاً منه على أحوال الناس وتراجمهم ووقائعهم، ممن تقدم، وممن عاصره.
وأما أحوال الشرق ومتجددات التتار في بلادهمفي أوقاتها فكأنها كانت القصاد تجيء إليه، والملطفات تتلى عليه، بحيث إنني كنت أسمع منه ما لم أطلع عليه في ديوان الإنشاء عند كاتب السر.
وأما الرقى والعزائم فيحفظ منها جملاً كثيرة، يسردها سرداً. وله اليد الطولى في الروحانيات والطلاسم وإخراج الخبايا، وما يدخل في هذا الباب، وله اليد الطولى والباع المديد في معرفة الأصناف من الجواهر والقماش والآلات وأنواع العقاقير والحيوانات، وما يحتاج إليه البيمارستان المنصوري لا يشترى شيء، ولا يدخل البيمارستان إلا بعد عرضه عليه، فإن أجازه اشتراه الناظر، وإن لم يجزه؛ لم يشتر البتة، وهذا اطلاع كثير ومعرفة تامة، فإن البيمارستان يريد كل ما في الوجود، مما يدخل في الطب والكحل والجراح والترايق، وغير ذلك.
وأما معرفة الرقيق من المماليك والجواري فإليه المآل في ذلك، ورأيت المولعين بالصنعة يحضرون إليه ويذكرون ما وقع لهم من الخلل في أثناء ذلك العمل، فيرشدهم إلى الصواب، ويدلهم على إصلاح ذلك الفساد، ولم أر شيئاً يعوزه من كمال أدواته، إلا أن عربيته كانت ضعيفة، وخطه أضعف من مرضى مارستانه، ومع ذلك فله كلام حسن، ومعرفة جيدة بأصول الخط المنسوب، والكلام على ذلك وأنشدني من لفظه لنفسه:
ولقد عجبت لعاكس للكيميا ... في طبه قد جاء بالشنعاء
يلقي على العين النحاس يحيلها ... في لمحة كالفضة البيضاء(2/233)
وقرأت عليه من تصانيفه " إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد " عوداً على بدء، ومن هذا المصنف يعرف قدره، وكتبت عليه:
لقد وضع الشيخ تصنيفه ... ولكن على زهرات النجوم
جلا كل فضل بمرآته ... فيها تطالع كل العلوم
وقرأت عليه " اللباب في الحساب " ، وكتاب " نخب الذخائر في معرفة الجواهر " ، وكتاب " غنية اللبيب عند غيبة الطبيب " ، وقد جوده. ومما لم أقرأه عليه من تصانيفه، بل أجازه لي كتاب " كشف الرين في أمراض العين " ، وتألمت لفقده لما بلغتني وفاته - رحمه الله تعالى - .
وكان له تجمل زائد في بيته وفي ملبوسه ومركوبه من الخيول المنسوبة والبزة الفاخرة، ثم إنه اقتصر على الخيل، وآلى على نفسه أن لا يطلب أحداً إلا إن جاءه إلى بيته أو في الطريق أو البيمارستان، وامتنع من التوجه إلى بيت أحد.
وكان مرصداً لتركيب الترياق في كل سنة بالبيمارستان المنصوري، وله في كل سنة مبلغ ست مئة درهم، ولما باشر الأمير جمال الدين نائب الكرك نظر البيمارستان أعجبه كثيراً، وأضعف معلومه - لأنه كان ستين درهماً - فجعله مئة وعشرين درهماً، وكان يعطيه الذهب من عنده خارجاً عن الجامكية المقررة له، وكان من أطباء البيمارستان، ومن نصيبه فيه مداواة الممرورين، ولما بلغتني وفاته - رحمه الله تعالى - ؛ قلت أنا فيه:
من الطاعون قلبي في انقلاب ... فإن لكل من تلقاه فاني
ولما مات شمس الدين نادى ... كفاني فقد الأكفاني كفاني
وكنت قد كتبت أنا إليه من الرحبة:
أمولاي شمس الدين قد كنت أولاً ... تحل محل النور في العين بالأمس
فلا بدع أن يسود يومي وليلتي ... وقد حجبت عيناي عن طلعة الشمس
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك:
طبيبك في مصر مريض من الجوى ... وقد قص منه بالبعاد جناحه
فيا من لذي سقم تمكن داؤه ... وأفسده مذ غاب عنه صلاحه
وكتبت أنا إليه أيضاً من الرحبة:
سلام فض من مسك ختاماً ... وفتق زهره منه كماما
ووصف محبة وحفاظ عهد ... وشوق سل في كبدي حساما
وكم لي في النسيم إليك شكوى ... أضمنها اشتياقي والغراما
وكم فيها تحيات لطاف ... حكت أنفاسها ريح الخزاما
تجانس فعل أجفاني وقلبي ... فتلك همت، وهذا فيك هاما
فنار القلب ليس لها خمود ... ودمع العين قد فاق الغماما
وأما الحال لست أطيل فيها ... شروحاً مل سامعها الكلاما
بليت بعكس آمالي وظني ... وحظ عنده تنسى الظلاما
وعيش ضاق فاتسعت همومي ... وكان فراق مولانا تماما
يقبل الأرض، وينهي بعد سلام اتسم برقه، وارتسم برقه، وشوق منع طرفه القريح لذة الهجوع، ووحشة علمت جفنه كيف تجري الدموع، وأسف خيم بين المنحنى من الضلوع، ووجد يشب له جمر الفؤاد، كلما أضاء له البرق اللموع، وورود المثال العالي فقبل كل حرف منه ألفا، وصاغ لجيده ورأسه وأذنه عقداً وتاجاً وشنفا، يا له من أفق فضل كلما غاب بدر أطلع شمسا، وبحر أدب إن أعطى سائله لؤلؤاً رطبا قذف بعده دراً نفيساً، وغادة فضح الغزالة نورها، وتحية فضح قلائد العقيان منثورها.
غريبة تؤنس الآداب وحشتها ... فما تمر على سمع فترتحل
محمد بن إبراهيم بن يوسف
ابن حامد الشيخ الإمام تاج الدين المراكشي الشافعي.
كان فقيهاً، نبيهاً نبيلاً، نحوياً فاضلا، أصولياً مناظراً مناضلا، عنده غرائب ونكت، وفوائد لو سمعها الرازي ما وسعه إلا أن سكت. جيد الذهن والفهم، سريعاً إلى إدراك المعاني يكاد يسبق السهم، قوي النفس، لا يخضع لأحد، ولا يكون له دون السمو والرفعة ملتحد، ضيق العطن، لا يصبر على أذى، ولا يغضى جفونه من السلطان على قذى. أساء الأدب مرات على قاضي القضاة جلال الدين القزويني، واحتمله، ونشر له رداء الحلم واشتمله، ولما زاد عليه رصع التاج بالدره، وكسر دالها، فكانت في أيامه بلا نقطة غره. ثم إنه زاد في تسلط لسانه عليه، فشكاه إلى السلطان، فبقاه مصحفا، وأخرج إلى الشام، فنشر فيه من فضائله برداً مفوقا.(2/234)
ولم يزل بدمشق إلى أن ارتدى بالترب، وأصبح بعيداً عن العيان، وهو في غاية القرب.
وتوفي - رحمه الله تعالى - فجأة بعد العصر من يوم الأحد ثالث عشر جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
ومولده بالقاهرة بعد الشبع مئة.
تفقه بالديار المصرية على الشيخ علاء الدين القونوي - رحمه الله تعالى - ، ولازم الشيخ ركن الدين بن القوبع كثيراً، وأخذ عنه فوائد وإيرادات ومآخذ، وما يعظم أحداً مثله. وأعاد في القاهرة بقبة الشافعي، وتولى بدمشق تدريس المسرورية، وأقام على ذلك مدة، ثم إنه قبل موته بسنة نزل عنها، وقال: شرط المدرس أن يعرف الخلاف، وما أعرف أحق بهذا الشرط من قاضي القضاة تقي القضاة تقي الدين السبكي، وانقطع بدار الحديث بالأشرفية معتكفاً على طلب العلم، ولم أر أحرص منه على ذلك ليلاً ونهاراً، يدع طعامه وشرابه لأجل القراءة والاشتغال. وكان ضريراً، ليس له إلا بعض نظر من عين واحدة، وكان لا يفتر عن الطلب إلا إذا لم يجد من يقرأ له ما يريد.
محمد بن إبراهيم بن عبد الله
الإمام العالم الثقة الصالح عز الدين أبو عبد الله ابن الإمام عز الدين ابن شيخ الإسلام أبي عمر المقدسي الصالحي الحنبلي.
حدث ب " صحيح " مسلم عن ابن عبد الدائم. ودرس بأماكن. وخطب بالجامع المظفري.
وكان على سمت السلف، مواظباً على الجماعات، وتشييع الجنائز، وتلقين الموتى. طلق الوجه، حسن البشر.
خرج له ابن المحب " مشيخة " في أربعة أجزاء، حدث بها غير مرة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة عن خمس وثمانين سنة.
محمد بن إبراهيم
الشيخ شمس الدين الكردي، إمام مشهد علي بالجامع الأموي.
حدث عن ابن الواسطي وغيره، وكان يحفظ " التنبيه " ، ويفتى. وكان إماماً في صناعة الحساب.
توفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
وكان عسراً في مباشرة الوظائف التي يليها.
محمد بن أحمد
ابن عثمان بن سياوش، الشيخ الإمام المقرئ الفقيه الصالح، بقية السلف، شمس الدين أبو عبد الله الخلاطي الدمشقي الشافعي الصوفي، إمام الكلاسة وابن إمامها.
كان ديناً خيراً وقوراً، حسن الشكل، طيب الصوت إلى الغاية، جيد المشاركة في القراءات، والفقه مليح الكتابة.
خطب بالجامع الأموي بدمشق بعد الشيخ شرف الدين.
وتوفي - رحمه الله تعالى - فجأة بعد سنة من ولايته في بكرة يوم الأربعاء ثامن شوال سنة ست وسبع مئة، وحضر الأفرم والأعيان جنازته.
عاش اثنتين وستين سنة. وولي الخطابة بعده جلال الدين القزويني. وكان الناس يقبلون يده، ويتباركون به، وما تصل أيديهم إليه من الزحام.
وهو ممن كان كاملاً في الإمامة والخطابة لورعه ودينه وصلفه وتواضعه وفضيلته وطيب نغمته وحسن أدائه ومعرفة الأنغام وفقهه، وكل ما كان فيه غاية.
محمد بن أحمد
الشيخ سعد الدين الكاساني، شيخ خانقاه الطاحون بدمشق.
كان فاضلاً في فنه على رأي الصوفية، بصيراً بأقوالهم. قرأ هو والشيخ شمس الدين الأيكي على الشيخ صدر الدين القونوي.
وهو قرأ على الشيخ محيي الدين بن عربي، وقد شرح قصيدة ابن الفارض التائية في مجلدين.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سابع عشر ذي الحجة سنة تسع وتسعين وست مئة.
محمد بن أحمد بن عبد العزيز
ابن عبد الله بن علي بن عبد الباقي، العدل الخطيب معين الدين أبو المعالي بن الصواف الإسكندري المالكي الشروطي.
سمع " أربعين " السلفي من جده. قال شيخنا الذهبي: قرأتها عليه، وهو أخو شيخنا شرف الدين يحيى. وكان شيخاً صالحاً جليلاً حسن البزة، ينوب في خطابة الثغر، ويعقد الوثائق.
توفي - رحمه الله تعالى - في سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده في سنة اثنتين وعشرين وست مئة.
محمد بن أحمد بن نوح
ابن أحمد بن زيد بن محمد بن عصفور، الأديب الفاضل أبو عبد الله الإشبيلي ابن أخت الإمام ابن عصفور صاحب " المقرب " .
كان شيخاً مطبوعاً حلو المجالسة، دمث الأخلاق، متفنناً في الآداب واللغة، وله نصيب من علوم القرآن والأثر والبلاغة والحساب، وله اليد الطولى في الشعر.
وكانت فيه ديانة وعفاف، أخذ عن علماء المغرب، قال شيخنا الذهبي: جالسته مرات.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده، بإشبيلية سنة إحدى وثلاثين وست مئة.(2/235)
محمد بن أحمد بن صلاح
شمس الدين السرواني الصوفي، شيخ الخانقاه الشهابية بدمشق.
كان عارفاً بالنجوم والأرصاد والأحكام، ويقرئ الفلسفة، وله مشاركات جيدة في المعقولات.
توفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وتسعين وست مئة.
محمد بن أحمد بن محمد
ابن أبي بكر بن محمد، الشيخ المقرئ العابد المسند أبو عبد الله الحراني القزاز أبوه، الحنبلي ابن أخت المحدث سراج الدين بن شحانة.
سمع " صحيح " البخاري من ابن روزبة أو بعضه، وسمع من إبراهيم بن الخير، والمؤتمن بن قميرة، وأبي الوقت الركبدار، ومحمد بن أبي البدر بن المني، وعلي بن بكروس، ومحمد بن إسماعيل بن الطبال، وتفرد بأشياء.
وسمع بمصر من ابن الجميزي، وسمع " الصحيح " من صالح المدلجي صاحب المأموني. وسمع من الضياء بن النعال، والشرف المرسي، وابن بنين، ومحمد بن إبراهيم المخزومي، وبحلب من ابن خليل.
وكان زاهداً تالياً لكتاب الله تعالى، صاحب نوادر ودعابة.
قال شيخنا الذهبي: حدثني أنه تلا بمكة أزيد من ألف ختمة، وأنه اتكأ في ميزاب الرحمة، فتلا فيه ختمة، فلعله قرأ سورة الإخلاص ثلاثاً. حدث بدمشق والحجاز.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة خمس وسبع مئة.
ومولده سنة ثماني عشرة بحران - فيما زعم - .
محمد بن أحمد
ابن قاضي الجماعة، أبو الوليد بن أبي عمر محمد بن عبد الله بن القاضي أبي جعفر بن الحاج التجيبي الأندلسي القرطبي الإشبيلي المالكي نزيل دمشق، إمام محراب المالكية بالجامع الأموي.
كان وقورا، ونصيبه من الديانة قد جعله موفورا، لم يزل عن الناس في انقباض، وبمعارفه في رياض، منور الشيبه، موفر الهيبه. كتب بخطه المليح الصحيح المغربي عدة كتب، وأتى بها وهي أضوأ من الشهب. وذكر لنيابة القضاء فما وافق، بل واقف في الإباء وحاقق.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح أبو الوليد، وهو تحت الصعيد.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الجمعة وقت الآذان ثامن عشر رجب سنة ثماني عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة.
ومات أبوه وجده كلاهما في عام إحدى وأربعين وست مئة، وورث مالاً جزيلاً، فتمحق بمصادرة السلطان ابن الأحمر له، أخذ منه في وقت عشرين ألف دينار، وعدمت له كتب جليلة.
ونشأ يتيماً في حجر أمه، وتحولوا إلى شريش ثم إلى غرناطة. ثم إنه شب، وقدم تونس، وسكنها خمس سنين. ثم إنه رحل بولديه إمامي المالكية إلى دمشق، وسكنوها، وسمعوا من الفخر بن البخاري، وكانت له جنازة حافلة مشهودة.
قال شيخنا الذهبي: سمعت عليه حديثاً واحداً، وملكت أنا بخطه الظريف " الأذكار " للشيخ محيي الدين، و " رياض الصالحين " له، وكتاب " المفصل " للزمخشري، ورأيت بخطه " شرح مسلم " و " شرح الموطأ " في عدة مجلدات، وكتاب " جامع الأصول " في عشرة وغير ذلك، وكتب بخطه نحو المئة مجلد.
وكان منجمعاً عن الناس، وله عدة كاملة من السلاح والخيل، يعدها للغزاة من ماله.
وكان له ورد من الليل، ورؤيت له المنامات الصالحة.
محمد بن أحمد بن أبي نصر
القدوة الزاهد شمس الدين بن الدباهي البغدادي الحنبلي.
كان من أكابر التجار كأبيه، ثم إنه تزهد، وقوى نفسه على الوجود، فتفهد، ولبس العباءه، ورفض الملاءه، واللذة برفيع الملاءه. وجاوز بمكة مده، وتصوف ولقي من المشايخ عده، وكان ذا صدق وإنابه، وخضوع وكآبه، وله مواعظ نفع بها، وجر الخير بسببها.
وكان بالحق قوالا، وعلى أولي اللعب صوالا، وصفاته حميده، وحركاته سديده.
ولم يزل على حاله إلى أن حلت أم الدواهي بابن الدباهي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
وكان قد قدم دمشق وصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية.
محمد بن أحمد بن إبراهيم
القاضي عز الدين الأميوطي.
تفقه على ضياء الدين عبد الرحيم، والنصير بن الطباخ. وأخذ أيضاً مذهب مالك عن ابن الأبياري قاضي الثغر، وبحث " مختصر ابن الحاجب " ، وقرأ بالسبع على النور الكفتي، والمكين الأسمر، وجماعة.
وتصدر للإقراء، وتخرج به جماعة من الفقهاء، وكان فيه ورع.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة الخميس سادس شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وقد أكمل خمسة وسبعين عاماً.(2/236)
وكان حاكماً بالكرك ثلاثين سنة، وكان يروي كتاب " التنبيه " بالسند عن القسطلاني عن شيخ ابن سكينة، عن ابن عبد السلام، عن المؤلف. ويروي " مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه " عن شيخ له عن المصنف، كذا نقلته من خط شيخنا علم الدين البرزالي. وقال: اجتمعت به في سنة ثلاث وسبع مئة بالكرك، وأراني " التنبيه " و " المختصر " وعليهما طبقة السماع.
محمد بن أحمد بن محمود
ابن أسد بن سلامة بن سلمان بن فتيان الشيباني القاضي الصدر الرئيس بدر الدين بن العطار، تقدم ذكر والده القاضي كمال الدين في الأحمدين مكانه.
حضر على الشيخ تقي الدين بن أبي اليسر في السنة الثالثة، وروى عنه. وسمع من ابن الصيرفي، والقاضي ابن عطاء، وابن علان، وابن الصابوني، والمقداد، والشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن البخاري، وغيرهم.
قال شيخنا: علم الدين البرزالي، ورافقني في سماع " مسند أحمد " و " صحيح " البخاري وغير ذلك، كتب المنسوب، وأتى به آنق من تخارج العذار في خد المحبوب، ونظم القريض، وباهى به زهر الروض الأريض، وباشر نظر الجيش في أيام الأفرم، فخظي عنده، وصار عضده في ذلك الوقت وزنده، وسمر عنده ونادمه، وصد عنه الأذى وصادمه، واختص به كثيرا، وأحله من العز محلاً أثيرا، وما أحمد عقبى ذلك لما عاد الناصر من الكرك، ووقع من الردى في حبائل موبقة الشرك، فغودر، وقد صودر، ثم انتاشه الله من تلك الورطة، وأجاب الخلاص شرطه.
ولم يزل بعد ذلك على حاله إلى أن لحق أباه، وسلب الموت قلبه، وسباه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة السبت رابع عشري ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ودفن بتربة والده بسفح قاسيون.
ومولده في ليلة الجمعة سادس جمادى الأولى سنة سبعين وست مئة.
وكان في أيام الأفرم زائد الحظوة لديه، نادمه، وعاشره، وطلع يوماً إلى بستانه، فوجد الفعول يعملون في طين السطوح، فأخذ الأفرم الحبل بيده، ومتح به أسطال طين، ولما جاء الأمير سيف الدين تنكز في الرسلية إلى الأفرم من عند أستاذه الناصر إلى الكرك قام إليه، وفتش حتى تكة لباسه، لئلا يكون فيها كتب إلى الأمراء بدمشق. ولما توجه مع الناس صحبة السلطان إلى أن عوقه في مصر، وصادره، وأخذ منه مالاً، وعاد بعد الناس بمدة إلى دمشق، وكان قد ولي نظر الأشراف وكتابة الإنشاء بدمشق وغير ذلك. وكان حسن المباشرة، شديد التصرف، وشكره الناس عند موته، وتألموا، وتأسفوا عليه.
محمد بن أحمد بن شبل
الفقيه الإمام المفتي شمس الدين أبو عبد الله الحريري المعروف بالبغدادي المالكي.
أسره التتار، وعمره اثنتا عشر سنة، ونشأ ببغداد وغيرها، وتفقه لمالك - رضي الله عنه - ، وكان كثير الاشتغال والمطالعة، وأقام بدمشق مدة، وعرض عليه نيابة الحكم، فامتنع، وقال: الشهادة أسلم، وكان رجلاً مباركاً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثاني عشري شعبان سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وأربعين وست مئة.
محمد بن أحمد
الشيخ الصدر الرئيس الفاضل المسند تاج الدين أبو المكارم ابن الشيخ الجليل المسند الزاهد بقية المشايخ كمال الدين زين الدين محمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن النصيبي الحلبي.
حضر على ابن قميرة، وسمع من يوسف بن خليل جملة من الأجزاء والكتب، وسمع من أبي طالب عبد الرحمن بن العجمي وجماعة.
وولي وكالة بيت المال بحلب مع تدريس العصرونية. وولي نظر الأوقاف وكتابة الدرج.
وجرت له نكبة في أيام طرنطاي في الأيام المنصورية، وقيد، وسجن بالقاهرة مدة. وكان من رؤساء حلب المعروفين.
وتوفي في ذي القعدة سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده في شهر رمضان سنة إحدى وأربعين وست مئة.
محمد بن أحمد بن عيسى
ابن رضوان القليوبي المحتد، القاضي الفاضل الأديب فتح الدين.
اشتغل بالفقه على مذهب الشافعي على أبيه وعلى غيره، وتأدب. له الشعر الجيد، والنظم الذي به السمع متقيد، يلهي الندامى عن الأوتار، ويغنيهم عن معاطاة كؤوس العقار.
وكانت فطرته ذكيه، ونفسه فيها بقايا من لوذعيه، واسع الكرم والجود، لا يبقي على موجود، كثير التبذير، غزير التنديب والتنذير، واسع الخيال، زائد التوهم والاحتيال، إلا أنه تعب بخياله، وحصل له أنكاد منعته من طيف خياله.
ولم يزل بذلك في نكد، وما يهب نسيم سعوده، حتى يراه وقد ركد.(2/237)
ولم يزل على حاله إلى أن انقلب القيلوبي في حفرته، وأورث أصحابه دوام حسرته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة ثالث عشر جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وست مئة.
حضر هذا فتح الدين إلى صفد قاضي القضاة، بعدما عزل عنها القاضي شرف الدين محمد النهاوندي، وأقام بها قليلاً، وعاد إلى الديار المصرية. وكان كثير التخيل والتوهم، فتوهم شيئاً في قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، فحصلت الوحشة بينهما، فأعرض عنه بعد الإقبال عليه، وجفاه، وأعده، وألجأته الضرورة والحاجة إلى قيام الصورة، حتى ناب القاضي عز الدين عبد العزيز بن أحمد الأشمومي بمدينة المحلة. ثم إنه حصلت بينهما نفرة من خياله، فعاد إلى القاهرة، وأقام بها مدة لطيفة، وتوفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور.
وله نوادر طريفة، منها: قال كمال الدين الأدفوي - رحمه الله تعالى - : حكى لي فتح الدين قال: كنت أجلس دائماً فوق الصدر سليمان المالكي، فجاء مرةً لمجلس قاضي القضاة ابن مخلوف المالكي، فجلس فوقي، فقلت لقاضي القضاة: قال ابن شاس: إن مالكاً - رضي الله عنه - كره طول اللحية جداً، - قوله " جداً " وصف للكراهة أو للحية - وكان الصدر طويل اللحية، فقام من المجلس. وقلت له مرة: من أي بلد أنت؟ فقال: من شبرا مريق، فقلت له: بلدة مليحة هي! فقال: ما فيها أكثر من الشعير، فقلت له: لأجل ذلك أخذت في وجهك مخلاة.
وطلبوه مرة ليرسلوه إلى العراق، فجلس معي، يشكو إلي، فقلت: يا صدر الدين! ما أوقعك في هذه الحرية إلا هذه الذقن، فتوجه الصدر رسولاً، ثم حضر، فقال له فتح الدين: أي شيء غنمت في هذه السفرة؟ قال: كبرت لحيتي، قال: هذه الغنيمة الباردة.
وجمع فتح الدين من هذه الأشياء كراسة، وسماها " نتف الفضيلة في اللحية الطويلة " .
قلت: لو قال: " نتف الفضيلة في نتف اللحية الطويلة " ؛ لكان ذلك حسناً، وقد ذكرت هنا ما اتفق للشيخ تاج الدين الكندي والحافظ ابن دحية، وكان الشيخ تاج الدين جالساً إلى جانب الوزير - أظنه ابن شكر - ، فجاء ابن دحية، فجلس من الجانب الآخر، فأورد ابن دحية حديث الشفاعة، فلما وصل إلى قول إبراهيم عليه السلام: " إنما كنت خليلاً من وراء وراء " ، وفتح ابن دحية الهمزتين؛ فقال الكندي: وراء وراء بضم الهمزتين، فعز ذلك على ابن دحية، وقال للوزير: من ذا الشيخ؟! فقال: هذا الشيخ تاج الدين الكندي، فتسمح ابن دحية في حقه بكلمات، فلم يسمع الكندي إلا قوله: هو من كلب قبيح. وصنف ابن دحية في ذلك مصنفاً، وسماه " الصارم الهندي في الرد على الكندي " ،وبلغ ذلك تاج الدين الكندي، فعمل مصنفاً، وسماه " نتف اللحية من ابن دحية " .
قلت: قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: رأيت في " أمالي " أحمد بن يحيى ثعلب جواز الأمرين. انتهى.
قلت: قال الأخفش: يقال من وراء، فترفعه على الغاية، إذا كان غير مضاف تجعله اسماً وهو غير متمكن. كقولك: من قبل ومن بعد، وأنشد:
إذا أنا لم أؤمن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلا من وراء وراء
هكذا أثبته بالرفع.
رجع ما انقطع من بقية ترجمة القاضي فتح الدين القليوبي: وقال له يوماً فخر الدين الأحدب المعروف بابن القابلة: كان والدي يدعو الله تعالى أن يرزقه ولداً نجيباً، فقال فتح الدين: لا جرم أنك جئت بختياً، قال فتح الدين: كان بيني وبين الجلال الهوريني صحبة ورفقة، فولي قضاء منية بني خصيب، فأهدى إلى بسراً، فوجدت نواه كثيراً، فكتبت إليه:
أرسلت لي بسراً حقيقته نوى ... عار فليس لجسمه جلباب
ولئن تباعدت الجسوم فودنا ... باق، ونحن على النوى أحباب
قلت: سبقه إلى هذا التضمين سراج الدين الوراق - رحمه الله تعالى - ، ونقلته من خطه، قال: أهدى إلي الرشيد الماوردي قدور تمر كربس، فكتبت إليه من أبيات:
يا من غدا لي واضعاً بقدوره ... قدراً له فوق السماء قباب
جاءت بأنواع النوى، فمجلبب ... أدماً، وعار ماله جلباب
وعلى النقير لتمرها أثر عفى ... فهدى إليه الحائرين ذباب
أرجيع ما لاك الحجاز بعثته ... والرزق سد فما لديه باب
أم خلت زجاجاً أخاك ومصر من ... شؤم النوى قفر الرحاب يباب(2/238)
وإذا تباعدت الجسوم فودنا ... باق، ونحن على النوى أحباب
وأنشدني شيخنا العلامة أبو حيان، قال: أنشدني فتح الدين المذكور لنفسه:
تظافر الموت والغلاء ... هذا لعمري هو البلاء
والناس في غفلة وجهل ... لو فطن الناس ما أساؤوا
وأنشدني أيضاً، قال: أنشدني لنفسه:
إني لأؤثر أن أرا ... ك، ولست أوثر أن تراني
علماً بأني في السما ... ع أجل مني في العيان
قلت: من قول الأول:
أنا المعيدي، فاس ... مع بي، ولا تراني
والأصل في هذا المثل المشهور: " يسمع بالمعيدي خير من أن تراه " .
وأنشدني الشيخ أثير الدين، قال: أنشدني لنفسه:
علقته محدثاً ... شرد من عيني الوسن
حديثه ووجهه ... كلاهما عندي حسن
قلت: ذكرت هنا ما قلته أنا في محدث:
محدث ذو قوام ... قوامه في العوالي
وطرفه ليس يغرى ... إلا بجرح الرجال
وقلت فيه أيضاً:
قال حبيبي لا تحدث بأو ... صافي من لا عنده معرفه
فإنه لين قدي وإن ... حدثته عن ناظري ضعفه
وأنشدني الشيخ أثير الدين، قال: أنشدني في فتح الدين لنفسه:
يا أيها المولى الوزير الذي ... إفضاله أوجب تفضيله
أحسنت إجمالاً ولم ترض بال ... إجمال إذ أرسلت تفصيله
قلت: وذكرت أنا هنا قولي:
وقف القضيب لما مشى ... وجرت دموع العين في تحصيله
رشأ كساه الحسن منه حلةً ... جاءت بجملتها على تفصيله
قلت: ولفتح الدين المذكور موشحة مليحة أولها:
قد حدثت ألسن التجارب ... بكل ما فيه معتبر
وأنت يا حاضراً كغائب ... فلست تصغي إلى الخبر
تعايش الناس منذ كانوا ... بالمكر والحقد والحسد
وخلفوا ذكرهم وبانوا ... لم يصلحوا منه ما فسد
إلا القليل الذين دانوا ... بالحق في المسلك الأسد
والكل للترب في سباسب ... قد أودعوا ضيق الحفر
قد عوملوا بالذي يناسب ... من كل خير وكل شر
وقد ذكرتها كاملة في الجزء السابع والثلاثين من " التذكرة " التي لي، وهي موشحة جيدة صنعة.
محمد بن أحمد بن عبد الرحمن
ابن علي، الشيخ الصالح المقريء أبو عبد الله البجدي - بالباء الموحدة والجيم المشددة والدال المهملة - الصالحي الحنبلي.
سمع من المرسي، وخطيب مردا، وإبراهيم بن خليل، وأجاز له الكثير، منهم عبد اللطيف بن القبيطي، وعلي بن أبي الفخار، وكريمة القرشية. وطال عمره، وروى الكثير، وسمعوا منه قديماً في صباه ابن عبد الدائم ثلاثيات البخاري عن ابن الزبيدي، ثم إنهم ترددوا فيه.
قال شيخنا الذهبي - رحمه الله - : سألته سنة ثلاث وسبع مئة بكفر بطنا عن جلية الأمر، فذكر ما يقتضي أن مولده سنة ست وثلاثين وست مئة، وأنه من أقران عبد الله بن الشيخ. وقال: كان لي أخ اسمه امسي، ذاك من أقران القاضي تقي الدين سليمان، ذاك مات صبياً.
وكان البجدي ذا نصيب من صلاة وتأله وتواضع وقناعة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ... سنة فثنتين وعشرين وسبع مئة.
وبجد: قرية قريبة من الزبداني.
محمد بن أحمد بن عبد الخالق
ابن علي بن سالم بن مكي شيخ القراء ومسندهم تقي الدين أبو عبد الله المصري الشافعي، المشهور بالصائغ.
تلا بعدة كتب على الكمال " الضرير والكمال " بن فارس، والتقي الناشري، وسمع من الرشيد العطار وجماعة. وأعاد بالطيبرسية وغيرها.
وكان شاهداًَ عاقداً خيراً صالحاً متواضعاً صاحب فنون، صحب الرضي الشاطي مدة، وتضلع من اللغة، وسمع مسلم عن ابن البرهان. وكان يدري القراءات وعللها، وتفاصيل إعرابها وجملها، يبحث، ويناظر فيها، ويعرف غوامض تواجيهها وخوافيها.
صنف خطباً للجمع، وأظهر فيه أنه تعب وجمع، وقرأ عليه الأئمة، وفضلاء الأمة، وقصد من أطراف الأرض، وقام بنفل الإتقان والفرض.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الصائغ في الأحياء ضائعاً، وأمسى نشر الثناء عليه ضائعاً.(2/239)
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة الأحد ثامن عشر صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة بمصر.
وتلا عليه أئمة مثل إبراهيم الحكري، وإسماعيل العجمي، وابن غدير، وبرهان الدين الرشيدي، وجمال الدين بن عوسجة، وتاج الدين بن مكتوم، وعلي الحلبي الضرير، وعوض السعدي، ومحمد بن الزمردي، وأبي العباس العكبري النحوي، والقاضي بهاء الدين بن عقيل، والشمس العزب، وخلق سواهم.
وكتب الختمة في سبعة وعشرين يوماً، وصنف خطباً جمعية، وابتدأ كل خطبة بعلامة قاض.
وتقدم للصلاة عليه قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بعد الظهر بجامع مصر، وحضره خلق كثير، وحمل على الأيدي، ودفن بالقرافة، وكان آخر من بقي من مشايخ الإقراء.
محمد بن أحمد بن أبي الهيجاء
الشيخ المسند الرحلة الصدوق شمس الدين أبو عبد الله الصالحي بن الزراد الحرير.
سمع بعد الخمسين من البلخي، ومحمد بن عبد الهادي وأخيه، والعماد بن النحاس، واليلداني، والصدر البكري، وخطيب مردا، وابن خليل، والفقيه اليونيني، وعدة.
وسمع من الكتب الكبار، وتفرد، وروى الكثير، وخرج له شيخنا الذهبي مشيخة.
وكان ديناً متواضعاً، يتجر، ويرتفق، ثم ضعف حاله، وافتقر، وساء ذهنه قبل موته، وتبلغم. وكان له نظم.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث عشر شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وأربعين وست مئة.
محمد بن أحمد
الشيخ أبو عبد الله بن الشيخ المحدث كمال الدين عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المقدسي الحنبلي، المعروف بالضياء السالك طريق الفقر.
كان شيخاً يخالط الفقراء طول عمره، وحضر غزوات الظاهر مع المشايخ، وسمع من المزي حضوراً، ومن خطيب مردا، والبكري، وابن سعد، ومحمد بن عبد الدائم، وجماعة. وله إجازة بعض أصحاب السلفي، وشهدة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سادس شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة.
محمد بن أحمد بن هبة الله
ابن قدس تاج الدين الأرمنتي.
كان مقرئاً فاضلاً، وكان يؤم بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة.
توفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة في حدود السبع مئة.
ومن شعره:
قد قلت إذ لج في معاتبتي ... وظن أن الملال من قبلي
خدك ذا الأشعري حنفي ... وكان من أحمد المذاهب لي
حسنك ما زال شافعي أبداً ... يا مالكلي كيف صرت معتزلي
قلت: سبقه إلى هذا الأول، فقال:
وعطلت من وجهه ... تلك الخدود الصقلة
يا أشعري خده ... إني من المعتزلة
والآخر أيضاً فقال:
وابن عجوز قال لي مرةً ... يا هاجري ظلماً ولم أهجر
معتزلي صرت، فقلت اتئد ... واعتب على مبعرك الأشعري
ولكن قول الشيخ تاج الدين الأرمنتي أجمع، وألطف، وأحسن من هذا كله قول القائل - وقد نسب إلى الشيخ صدر الدين بن الوكيل:
قويت شيعي ومن حظي أنا سني ... لولا الذهب شافعي كان انتفى مني
ظهر وسريجي وكنت أحسن به ظني ... صار مالكي أشعري قلت اعتزل عني
ومن شعر تاج الدين الأرمنتي:
احفظ لسانك لا أقول فإن أقل ... فنصيحة تخفى على الجلاس
وأعيد نفسي من هجائك فالذي ... يهجى يكون معظماً في الناس
محمد بن أحمد بن فتوح
المحدث العالم أبو الفضل المصغوني - بالميم المفتوحة والصاد المهملة الساكنة والغين المعجمة وبعدها واو ونون - الإسكندراني.
قد دمشق، وطلب الحديث سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وقرأ الحديث، وسمع من القاضي تقي الدين، وطائفة، وقرأ الصحيح على بنت المنجا.
قال شيخنا الذهبي: وعلقت عنه شيئاً. وكان ديناً عاقلاً فاضلاً، وحدث عن التاج الغرافي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة أربعين وسبع مئة.
ومولده قبل الثمانين وست مئة.
محمد بن أحمد بن منعة
بالنون بعد الميم والعين المهملة - ابن مطرف بن طريف، شمس الدين أبو يوسف القنوي الصالحي، الشيخ الصالح المعمر.(2/240)
سمع من عبد الحق بن خلف جزء ابن عرفة حضوراً، وسمع من ابن قميرة - إن شاء الله - والمرسي، واليلداني، وأجز له ابن يعيش النحوي والحافظ الضياء، وإبراهيم بن الخشوعي. وحدث بالكثير.
قال شيخنا الذهبي: كان خيراً أميناً.
توفي - رحمه الله تعالى - في سابع المحرم سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وله اثنتان وتسعون سنة.
وكان يعرف مضيه للسماع من ابن قميرة بدرب السوسي، وإنما لم يجزم لأن له أخوين باسمه.
قال شيخنا البرزالي: كان الأخوة الثلاثة يسمعون، ولكن يترجح هذا لأنه الأكبر.
محمد بن أحمد بن محمد
ابن أحمد بن محمود، الصدر الرئيس القاضي عز الدين بن القلانسي العقيلي، ناظر الخزانة بقلعة دمشق، ومحتسب البلد.
سمع من ابن البخاري مشيخته. وحدث، وسمع منه بعض الطلبة.
وكانت له ديانه، وفيه مسكة وصيانه، وعنده للخير محبة وإيثار، وعنه في حسن المباشرات أحاديث مروية وآثار.
وكان كافياً فيما يتولاه من الوظائف، وله على العوام سائق من مهابته وظائف، شكرت سيرته، وظهرت لما ظهرت بالأمانة سريرته، لم يعهد الناس منه إلا عفافاً، ولم يباشر الحسبة إلا ودخل الناس منها جنات ألفافاً.
وما زال إلى أن لبى داعيه، وسمع الناس ناعيه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بكرة الاثنين تاسع شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
وكان شكلاً ضخماً، عليه مهابة ووقار، يتحدث وهو مطرق، ولم يضرب أحداً من السوقية إلا دون العشرة ضرباً خفيفاً، وله في قلوبهم المهابة العظمى، باشر الحسبة مدة سنين، ووصل من مصر إلى دمشق في أوائل صفر مباشراً نظر الخزانة عوضاً عن نجم الدين البصروي بحكم ولايته الوزارة.
ولما شهد جماعة من رؤساء دمشق بأن الصاحب شمس الدين غبريال، إنما عمر أملاكه من بيت المال، لأنه كان فقيراً طلب عز الدين المذكور ليشهد بذلك، فقال. كيف أشهد وهو في كل شهر يصرف له جامكية من بيت المال بمبلغ عشرة آلاف درهم؟ وله هذه المدة الطويلة يتناول ذلك، ومن كان كذلك لا يكون فقيراً، ولم يشهد. فقالوا له: تعزل من وظائفك، فلم يوافق. وعزل من الحسبة، وبقي بيده نظر الخزانة. وأعجب ذلك الأمير سبف الدين تنكز، وأثنى عليه، ولما بلغ السلطان أعجبه دينه، ولم يحل أملاك الصاحب شمس الدين.
محمد بن أحمد بن محمد
القاضي الرئيس الأصيل، بقية الرؤساء، عماد الدين بن الصاحب تاج الدين بن الشيرازي، ناظر الجامع الأموي، ومحتسب دمشق.
كان من الرؤساء بالشام، ومن أولي الحشمة الذين لهم فيها الوجوه الوسام والأيادي الجسام، عريق في الرئاسة، غريق في السيادة والمباشرة والسياسة، يخدم الناس، ويتقرب إلى القلوب بسائر أنواع المكارم والأجناس. يزته فاخره، ووجاهته من شكله ظاهره. بقية أولئك الرؤساء الأول، والأكابر الذين تجملت بهم الأيام والدول، باشر الجامع مرات، وأثر فيه من العمارة ما يجلب للنفس المسرات. وباشر الحسبة مرات عده، فما رأى الناس إلا كل خير أعده واستجده.
ولم يزل على حاله متنقلاً فيما يتولاه، ويباشر أمره، فيملؤه ما جلاه وحلاه، إلى أن دارت عليه طاحون الطاعون، وراح مع أولئك القوم الذين هم إلى الساعة ساعون.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
وكان قد تولى نظر الجامع الأموي بعد تقي الدين بن مراجل في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأول. وفي هذا اليوم دخلت أنا في ديوان الإنشاء بدمشق. وأقام فيه مدة سنين. ثم إنه نقل إلى نظر الحسبة، وأقام بها مدة. ثم إنه جاء المرسوم في أيام الصالح بعزله، فأقام في المدرسة الطرخانية جوار داره تقدير شهرين، ووزن بعض شيء، ثم أعيد إلى الحسبة.
وكتبت أنا له عدة تواقيع منها ما هو بنظر الحسبة، ومنها ما هو بنظر الجامع الأموي، فمن ذلك توقيع كتبت له بالحسبة مضافاً إلى نظر الجامع الأموي في جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبع مئة ارتجالاً من رأس القلم، وهو: الحمد لله الذي جعل ولي هذه الدولة القاهرة عماداً، وملكه من الرئاسة التي امتاز بها من غيره قياداً، وثنى الجوزاء تحت يده لما ساد وساداً، وبلغ همته العلية من المفاخر السامية مراماً ومراداً.(2/241)
نحمده على نعمه التي حسنت مواقعها عند من ألفها معاجاً ومعاداً، ومنته التي فاقت جواهرها ازدواجاً وازدياداً، وعوارفه التي تجد النفوس لعرفها ارتياحاً وارتياداً، وأياديه التي تتخير الاقتراح محاسنها انتقاءً وانتقاداً.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تزعم معاطس من أنكرها عناداً، وتخجل من تلفظ بها تقية وأضمر الباطل اعتقاداً، وتدحص حجج من أصر على البهتان، وتمالا ضلالاً وتمادى، وتنير وجوه قائلها بياضاً يوم تدلهم وجوه جاحديها سواداً.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي ارتقى شبعاً شدادا، وأبلى في أعداء الدين القيم لله جهادا، وجلى غياهب العجاج والأسنة تحكي النجوم اتقادا، وحمى سرح الحق فما ضره من عاد إلى الباطل وكاد وعادى.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تسابقوا في حلبة الهدى جياداً، واتحدوا في سبيل الله محبة وودادا، وتقلدوا لنصر دينه بيضاً صفاحا، واعتقلوا سمراً صعادا، ونظمت جواهر معاليهم على جيد الزمان تؤاماً وفرادى صلاةً لا يمل طرف السهى من مراقبتها سهادا، ولا يعرف الأبد لأمدها ولا مددها نفادا، ما نزعت يد الصباح عن منكب الظلماء حدادا، ونفت نسمات الصبا عن عيون الأزهار رقادا، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد: فإن نظر الحسبة الشريفة بالشام المحروس منصب جليل القدر، ومحل سامي الأفق، لا يطلع في أوجه إلا من تم تمام البدر، ومكان لا يستكن في ذراه إلا من رفض عش الغش، ولم يخض في غدير الغدر، من ولي أمره غدقت به الأمور، وعلقت به مصالح الجمهور، وساس الرعية سياسةً محبتها في القلوب ومحلتها في الصدور، لأنه ينظر فيما دق وجل، وكثر وقل، وانحصر بمقدار، وضبط بمثقال ورطل وقنطار، وكل ما ابتلعته فم كيل وامتد له باع ذراع، أو تحدث فيه لسان ميزان مما يجلب من تحف البلاد ونفائس البقاع، وكل ما يعمل من أنواع المعايش، وكل ما أمره محرر أو سهم تقديره طائش، وله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحديث فيما شأنه أن يشكى أو يشكر، فهو الآمر في كل ذلك أجمع، وشآبيب تأديبه تهمع، وبروق تهديده تلمع.
وكان الجناب الكريم العالي المولوي القضائي العمادي محمد بن الشيرازي ممن قتل هذا المنصب خبرا، وقلبيته معرفته بطناً وظهرا، باشره مدة أمدها الله بالمحاسن الباهره، وجعل رياضها بالعدل زاهره، وأتى بيوت الرئاسة من أبوبها، وجنى ثمر السعادة من حدائق الإقبال متشابها، وجاذبته السيادة أهداب هدابها، ومدت له المعالي من المجرة طويل أطنابها، وذرب هذه الوظيفة فعرفها جيداً، كما أن أهل مكة أخبر بشعابها، وتشوقت عوده إليها تشوق الروض إذا ذوى إلى صوب الغمام، وتشوقت إلى رجوعه تشوق المشتاق إلى نوح الحمام.
فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الكاملي السيفي - أعلاه الله تعالى - أن يفوض إليه نظر الحسبة الشريفة بالشام المحروس، لأنه أفضل من سكته التجارب ذهبا، وأولى من دربته المعارف، فأظهرته حساماً ماضي الشبا.
فليباشر ما فوض إليه مباشرةً ألفها الناس من سياسته، وعرفها الأنام من حميد رئاسته، وعهدها الرعية لما أنامهم الأمن في مهد حراسته، وشهدها البرية من جميل أصله ونفاسته، لأن آثار اعتماده في الجامع المعمور للعيون مشاهدة، وحسنات صنيعه في صحائف الأيام والليالي خالده، ومحاسن ما زخرفه في جدرانه على كل عامود حالة وعلى كل قاعدة قاعده. هذا إلى ما أنماه من أجوره، وأسماه من إدرار ما عليه من الرواتب، حتى شارك بها الواقف في أجوره، وأتعب من يأتي بعده حتى يسد مسده، أو يلبث مدة ما يمد قلمه من الدواة مدة.(2/242)
ووصايا هذه الحسبة الشريفة كثيرة إلى الغاية، عزيزة لا يقف القلم في سردها عند نهاية، شهيرة عند معارفه التي أصبح فيها آية، ولكن القلم يطرق عند مثله لائذاً بالصمت، ويجف ريق المداد في لهوات الدواة هيبةً لما يراه فيه من عظمة الوقار وحسن السمت. فاجر فيها على عادتك الحسنى، وأول الناس فيها أمناً ومنا، واستعمل البأس في موضعه الذي يليق به وضعا، والرفق ولكن عز مكانه، فإن الغدر والخيانة يكونان في أكثر الناس طبعا، وأمر نوابك - أعزك الله - أن يحذروا في العفة والأمانة حذوك، وأن يتلوا في حسن السياسة تلوك، وأن يصبروا على مر طريقك في المباشرة، إن أرادوا أن تسوغهم حلوك، ولا شيء يزين الإنسان مثل تقوى الله فإنه واسطة العقود في الصفات المحموده، وزينة الوجوه في السمات المشهوده، تصدق يوم القيامة، إذا كذبت الظنون، وتنفع " يوم لا ينفع مال ولا بنون " ، وأنت بحمد الله لا ينوب فيها أحد منابك، ولا يزر عليها سواك ثيابك، وإنما الخطاب لك ظاهراً، وأردنا بباطنه نوابك، فلتكن خطوتهم كل خطوه، وجلوتهم في كل جلوه، والله يتولى إعانتك على ما ولاك ويزيدك مما أولاك، والخط الكريم أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
محمد بن أحمد
الإمام الفاضل الرئيس الأصيل الشيخ عز الدين ابن الشيخ شمس الدين بن المنجا التنوخي الحنبلي، ناظر الجامع الأموي، ومحتسب دمشق أخيراً.
كان حسن الشكل والعمه، مليح الوجه، يحكي البدر وتمه، فيه مكارم وإحسان، ومحاسن قلما تجتمع في إنسان، غزير المروه، كثير الفتوه. حنبلي كثير الاختلاط بالشافعية، ظاهر الذكاء فيما يباشره والألمعيه، أثر في الجامع آثاراً حسنه، وجدد فيه الترخيم والزخرفة، وما أسهر له العيون الوسنه.
وكان جماعة للكتب النظيفه، والمجلدات الطريفه، خلف منها أشياء نفائس، وكتباً عدة كالنجوم الزاهرة أو الكواعب العرائس، وبهضه ما تحمل من الديون، وكانت جملة لو صورت خارت لها القوى، وحارت العيون، ولكن لنيته الجميلة، قام ولده بحملتها الثقيله.
ولم يزل على حاله في الحسبة إلى أن جاء ما لا أحتسب، وقدم على ما قدم واكتسب.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في العشرين من جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبع مئة.
ومولده...
وحدث عن زينب بنت مكي، وكان قد ولي نظر الجامع الأموي عوضاً عن عماد الدين بن الشيرازي في يوم عرفة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وانتقل ابن الشيراوي إلى الحسبة.
محمد بن أحمد بن محمد
الإسكندراني الصوفي، شمس الدين المعروف بابن الفويه - بضم الفاء وتشديد الواو والياء آخر الحروف - .
كان ظريفاً لطيفاً شاعراً، حسن المحاضره، جميل المذاكره، اجتمعت به غير مرة بالقاهره، وأنشدني من شعره كثيراً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر، وكان قد نسك آخر عمره، واقتصر.
ومما أنشدني له قوله:
لي أم من أصلح الناس تدعو ... لي رب السماء سراً وجهرا
جعل الله كل يابسة يا نو ... ر عيني بين كفيك خضرا
فاستجيب الدعاء في وما رد ... ت يداها من المواهب صفرا
فلذا لا أفيق ظهراً وعصراً ... سكرةً لا ولا عشاءً وفجرا
وأنشدني له أيضاً:
أعجامنا قد أصبحت قلوبهم ... وجداً بحب الخاتقاه خافقه
لا تعجبوا فكل كلب نابح ... ولا يحب الكلب إلا خانقه
وأنشدني له أيضاً:
وقالوا الشيخ مجد الدين ... شيخ الجهالة والبلاده
فقلت وأوحد في ال ... لياط وفي القياده
وزيدوا إن أردتم ... وشيخ النحس زاده
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً في نجم الدين وكيل الفخر، وكان أعور:
يا ربنا لي صاحب ... بالذنب مدحو شقي
غطيت منه عورةً ... يا خير رب مشفقي
وسترت منه ما مضى ... يا رب فاستر ما بقي
ذكرت بهذا التهكم في الدعاء ما نقلته من خط السراج الوراق:
طالت مسافة بيني ... بين الصفي وبيني
فلا أموت إلى أن ... أرى الصفي بعيني
قلت: هذه تورية، خدمت معه من ثلاثة وجوه: أحدها: وهو الظاهر في بادئ الرأي، من أنه يراه بعينه.(2/243)
والثاني: أن يراه ضعيفاً، " فعيلاً " بمعنى " مفعول " .
والثالث: أن يراه بفرد عين أي أعور، وهكذا يكون النظم الذي يسمع.
وكتب الشيخ جمال الدين بن نباتة إلى ابن الفويه:
واحربا من سوالف الخشف ... والنواعس الوطف
كم لك يا خشف من فتى وامق
لنون صدغيك يعبد الخالق
يا لكما من رشا ومن عاشق
من ذا ومن نون صدغ ذا قل في ... عابد على حرف
سكنت عندي بيتاً هو القلب
وغبت عن ناظري فلا عتب
يفديك يا بدر هائم صب
بمنزل القلب منه تستكفي ... لا بمنزل الطرف
جادت جفوني بالأدمع الحمر
جود ابن فضل الإله بالتبر
لله منه جواد ذا الدهر
يمسك جود الحيا عن الوكف ... وهو جائد الكف
انظر لآثار مجده العالي
وصنعه بالعدا وبالمال
صنعة نحو بديعة الحال
فالمال نحو العفاة للصرف ... والعداة للحدف
ختام ذكر العلا به مسك
وأن لفظي لفظه سلك
وصفي وجدواه ليس ينفك
فليس يخلي يدي من عرف ... أو علاه من وصف
وأغيد زاره مخالفه
وعاد بعد الجفا يساعفه
وقال لما مشى يكاتفه
أصبح بعد الجفاء والخلف ... كالطراز على كتفي
فكتب شمس الدين بن الفويه الجواب:
زهر أم الزهر يانع القطف ... من كمائم السجف
رياض حسن قد راضها الدل
من ورد خد فيه الحيا طل
وآس صدغ فيه الحيا ظل
كففت عن هصر كفي ... إذ رعيت بالطرف
من لي ببدر حشاشتي أفقه
يزيده حسن وجهه طلقه
لو جال في سمع عاذلي نطقه
لقال فيه بالصوت والحرف ... عاذلي بلا خلف
قلت وصدغ في الخد قد عقرب
ونمل ذاك العذار فيه دب
وحسنه في طرازه المذهب
يا واو صدغ من لين العطف ... هل أتيت للعطف
قال وأبدى ابتسامة درا
أعطيت نظم الجمال والنثرا
ونطقه فاتخذتهم ثغرا
وصنتهم في مواضع الرشف ... لا مواضع الشنف
أشرف يا بني نباتة الأدب
وقد نشا في القريض والخطب
فهم ولو لم يضمهم نسب
بينهم نسبة من الظرف ... والبيان واللطف
وغادةً دون حسنها الوصف
يثقلها عند خطوها الردف
قالت وأمواج ردفها تطفو
هذا الثقيل ردفي يعتمد خلفي ... أمشي ينقطع خلفي
قلت: ما أبدع هذه الخرجة الداخلة والألفاظ الجادة، وهي هازلة، رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن إبراهيم
ابن حيدرة بن علي القاضي الإمام الفاضل شمس الدين أبو عبد الله المعروف بابن القماح المصري الشافعي.
سمع من أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن مضر " صحيح " مسلم إلا قليلاً، ومن النجيب عبد اللطيف والعز عبد العزيز ابني عبد المنعم بن علي بن الصيقل الحراني، وعبد الرحيم بن يوسف بن خطيب المزة، وقاضي القضاة تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعي في آخرين.
وحدث، وتفقه، وبرع، وأجاد، وأفتى، وأفاد، وجاد بالعلم، فأجاد، وناب في الحكم بالقاهره، وشكرت سيرته الزاهره، وكانت فتاويه مسدده، ولياليه وأيامه بالعدل مجدده، وهو آية في الحفظ الذي لا يحكيه فيه نظير، ولا يضبطه فيه حوزة ولا حظير.
ولم يزل إلى أن بان وباد، وسكن الأرض إلى يوم المعاد.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وأربعين وسبع مئة. ومولده سنة ست وخمسين وست مئة.
وقد أجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وكان متى سئل عن آية، ذكر ما قبلها، وكذلك يفعل في التنبيه، وهذه غاية لم يصل إليها أحد إلا من من الله عليه بها، ولعل الإنسان ما يقدر يفعل هذا في الفاتحة. ويحكى أن الحجاج بن يوسف ما كان يمتحن القراء إلا بذلك ما يسأل أحداً منهم إلا يقول له: إيش قبل الآية الفلانية، فيبهت ذلك المسكين.(2/244)
وكان ينوب في الحكم على باب الجامع الصالحي بظاهر القاهرة، ودرس بالمدرسة المجاورة لقبر الإمام الشافعي بالقرافة - رضي الله عنه - ، وناب عن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة في تدريس الكاملية مدة غيبته في الحجاز، وجمع مجاميع مفيدة، وكان على ذهنه تواريخ ووفيات وحكايات وفوائد، واختصر كتباً في الفقه، ولكن كان يتسامح في الأحكام حتى إن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة كان يمنعه من إثبات كتب الأوقاف.
ولما تولى ولده قاضي القضاة عز الدين بن جماعة لم يوله القضاء، فانقطع للاشتغال، وقراءة القرآن.
محمد بن أحمد بن عبد الرحمن
ابن محمد تاج الدين بن الشيخ جلال الدين، الدشناوي محتداً، القوصي مولداً وداراً ووفاةً.
قرأ القراءات على الشيخ نجم الدين عبد السلام بن حفاظ، وسمع على المنذري، والرشيد العطار، وتقي الدين بن دقيق العيد، وشرف الدين الدمياطي، وغيرهم.
وحدث بقوص ومصر والقاهرة والإسكندرية. وسمع منه شيخنا أبو الفتح، والشيخ عبد الكريم بن عبد النور، وفخر الدين النويري، وسراج الدين بن الكويك، وغيرهم.
وأخذ الفقه عن الشيخ مجد الدين بن دقيق العيد، وعن والده جلال الدين، والشيخ بهاء الدين هبة الله القفطي.
ودرس بالفاضلية بالقاهرة نيابة عن الشيخ مجد الدين بن دقيق العيد، ودرس بالعزية بظاهر قوص، والمدرسة النجمية والمدرسة السراجية. وأفتى، وحدث، واستبقى الخيرات وما تلبث.
وكان قوي الجنان، فصيح اللسان، طيب الأخلاق، كريم المعاشره، جميل الأوصاف فيما تولاه أو باشره، مقرئاً محدثاً أديباً، شاعراً لبيباً أريباً.
لم يزل على حاله إلى أن فارق العيش واستوى عنده الحلم والطيش.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بقوص سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وأربعين وست مئة.
قال كمال الدين الأدفوي: أنشد شيخنا تاج الدين، قال: أنشدنا الشيخ شمس الدين التونسي:
اصبر على حادثه أقبلت ... فهي سواء والتي ولت
وأرهف العزم فليس الظبى ... تفري وتبري كالتي كلت
قال: فنظمت هذه الأبيات، وأنشدتها للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فاستحسنها، وهي:
ليت يداً صدت حبيباً أتى ... للوصل يشفي غلتي غلت
قضيت قدماً معه عيشةً ... يا ليت فيها مدتي مدت
لو لم أرض نفسي بصبرغدا ... ساعة صد جنتي جنت
قلت: كذا رأيت البيتين الأولين قد ساقهما الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي، ولو أن فيهما حكماً، لقلت: " اصبر إذا ما حالة حلت " ، فإنها أنسب من قوله: " حادثة أقبلت " ، وأما بيتا الشيخ تاج الدين الدشناوي الأولان فإنهما في الحسن غاية، ولكن البيت الثالث في تركيبه قلق، وليس بأخ لما تقدمه، ولو كان لي فيه حكم؛ لقلت:
أقبح بصد جاء لو لم يكن ... صبري لنفسي جنتي جنت
على أن الأول أيضاً فيه قلق، وأما الأوسط فإنه في الذروة.
وقد كنت نظمت قديماً، لما وقفت على البيتين الأولين، وهما مشهوران أبياتاً من جملتها:
هذي التي نلت بها ذلتي ... وحلتي في الصبر قد حلت
وأدمعي في وجنتي أطلقت ... وفي فؤادي غلتي غلت
خلائقي وفق غرامي بها ... فاستخبروها ما التي ملت
وقلت في جارية لي توفيت:
دفنتها كالبدر تحت الثرى ... ومن شقائي مدتي مدت
كانت إذا ما سيف أجفانها ال ... مرهف يدعو لبتي لبت
ما سجعت في الأيك ورق الحمى ... لكنها في عزتي عزت
قال كمال الدين الأدفوي: وأنشدني لنفسه:
الشين في الشيخ من شرب غدا كدراً ... فلم تعفه نفوس الغانيات سدى
والياء من يأس أن تصبو إليه وقد ... بدت لها لحمة من شيبه وسدى
والخاء من خوف أن تقضي له فترى ... ما ابيض من شعره في جيدها مسدا
قلت: شعر كمال الدين أخصر وأحسن وأفصح وأمتن. وقد نظمت أنا في هذا المعنى في أقصر وأخصر فقلت:
الشين في الشيخ شين ... والياء يأس تبين
والخاء خسران عمر ... والحين من ذا تعين
ومن شعر تاج الدين الدشناوي:
ولولا رجائي أن شملي بعدما ... تشتت بالبين المشت سيجمع(2/245)
لما بقيت مني بقايا حشاشة ... تحال على طيف الخيال فتقنع
قلت: لولا الزيادة التي ألحقها في آخر البيت الثاني؛ لكان معنى بيتيه في بيت واحد من قول الأول:
ولولا رجاء القلب أن تعطف النوى ... لما حملته بينهن الأضالع
ومن شعر تاج الدين - وقد جوده - :
عجزت عن قصة الطيب وعن ... قصة أخذ الشراب إن وصفه
والحال أبدت لمن يميزها ... تعجباً ساء مصدراً وصفه
قلت: جمع في هذا البيت الثاني الحال والتمييز والتعجب والمصدر والصفة بتركيب سهل عذب.
محمد بن أحمد بن تمام
ابن كيسان أبو عبد الله الصالحي الخياط، الشيخ البركة، أخو الشيخ تقي الدين بن تمام - وقد تقدم ذكره - .
سمع من عمر بن غوة التاجر، وتمام السروري ومن ابن عبد الدايم، وعبد الوهاب بن محمد، ومن والده عن القزويني.
كان رجلاً صالحاً، منجمعاً عمن يراه طالحاً، له أبهة في الصدور، وعلى وجهه لمحة من جمال البدور، هشاً بشاً بساما، لين الكلمة بالمعروف، قوالاً قواماً. صحب الأخبار، وأسمع الأحاديث والأخبار، يرتزق من الخياطة، ومما يفتح عليه ممن يأتي رباطه. يؤثر من جمع ما يملك ويؤثر، ويصبر ولا يمنن بذاك ولا يستكثر. وكان قد تفقه قليلاً، واعتزل طويلاً.
ولم يزل على حاله إلى أن التحق بالرحمن، وأدرج في الأكفان.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، وشيعه خلق كثير، وموته في ثالث عشر شهر ربيع الأول من السنة المذكورة.
ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
خرج له شيخنا الذهبي مشيخةً في جزء ضخم.
وسمع منه خلق كثير، وطال عمره، وحدث أكثر من أربعين سنة، وصحب الأخبار، ورافق الإمام شمس الدين بن مسلم، والشيخ علي بن نفيس.
وكان الأمير سيف الدين يكرمه ويزوره، ويذهب هو إليه، ويشفع عنده.
ومتع بحواسه، وأبطأ شيبه، وروى عن المؤتمن بن قميرة.
وأجاز لي بخطه في سنى تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق.
محمد بن أحمد بن عبد الهادي
ابن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة، الشيخ الإمام الفاضل المفنن الذكي النحرير شمس الدين الحنبلي.
سمع القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة، وأبا بكر بن عبد الدايم، وعيسى المطعم، وأحمد الحجار. وأكثر عن محمد بن الزراد وسعد الدين بن سعد، وعدة. وتقفه بالقاضي شمس الدين بن مسلم، وتردد كثيراً إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية. وأخذ العربية عن أبي العباس الأندرشي، وعلق على " التسهيل " ، مجلدين تأذى بذلك منه أبو العباس الأندرشي، وأخذ بعض القراءات تفقهاً عن ابن بصخان.
وحفظ كتباً منها " أرجوزة " الخوبي في علم الحديث و " الشاطبية " و " الرائية " و " المقنع " و " مختصر ابن الحاجب " . وعلق على أحاديثه وعمل تراجم الحفاظ، وعمل " كتاب الأحكام " ولم يكمل. قيل لي بأنه مجلدات. وله غير ذلك.
كان ذهنه صافياً. وفكره بالمعضلات وافياً، جيد المباحث، أطرب في نقله من المثاني والمثالث. صحيح الانتقاد، مليح الأخذ والإيراد، قد أتقن العربيه، وغاص في لجتها على فوائدها ونكتها الأدبية، وتبحر في معرفة أسماء الرجال، وضيق على المزي فيها المجال.
نزل أخيراً عما بيده من المدارس، وعدها من الأطلال الدوارس ليكون مفرغاً للإشغال، ويترك ما هو دون ويأخذ ما هو غال، ولو عمر لكان عجباً في علومه، ونقطه البدر طرباً منه بنجومه، ولكن اجتث يانعا، ولم يجد له من الحمام مانعا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في العشر الأول من جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وسبع مئة.
كان من أفراد الزمان، رأيته يواقف شيخنا جمال الدين المزي، ويرد عليه في أسماء الرجال، واجتمعت به غير مرة، وكنت أسأله أسئلة أدبية وأسئلة عربية، فأجده فيها سيلاً يتحدر، ولو عاش كان عجباً.
محمد بن أحمد بن بدر بن تبع
الشيخ المقرئ صلاح الدين أبو الحسن البعلبكي القصير.
روى عن ابن عبد الدائم. قال شيخنا البرزالي: وذكر لنا أنه حدث ببغداد لما سافر إليها لاستنفاذ ولده.
وكان رجلاً جيداً فيه خير ودين ومعروف، وعنده مروءة، مواظب على قراءة القرآن.
توفي - رحمه الله تعالى - بالمدرسة الرواحية سابع عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة. وشيعه جماعة.(2/246)
محمد بن أحمد بن سليمان الدلاصي
الشيخ المعمر صدر الدين.
حدث عن ابن خطيب المزة، تجاوز الثمانين.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة سنة ست وخمسين وسبع مئة.
محمد بن أحمد بن يعقوب
كمال الدين أبو عبد الله الدمشقي الكاتب.
باشر كتابة الإنشاء، وتنقل بها في حنايا بلاد وأحشاء، وكان يكتب سريعاً، ويجعل الطرس بقلمه روضاً مريعاً، إلا أنه لا ينشئ شيئاً، ولكنه يجعل له في التقييد ظلاً وفيئاً.
وكان في خلقه حده، وفي ممارسته شده. لا يزال طالباً ما لا يمكنه، جالباً لنفسه من الشر والنكد ما يوهي جلده ويوهنه، يتخيل حتى من حبيبه، ويتخيل على من يكون من أنصاره ليجعله بمنزلة رقيبه، فمضى عمره في أنكاد، وقضى وفي القلوب منه أحقاد.
ولم يزل على حاله إلى أن نقص كماله، وذهب في طلب المحال روحه وماله.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
ومولده في نيف وسبع مئة.
طلب الحديث في وقت، ودار على الشيوخ، وكتب الطباق، وسمع من الحجار، والعفيف الآمدي.
وكان قد توجه لتوقيع الرحبة، ووكالة بيت المال عوضاً عني في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وأقام بها مدة ثم حضر إلى دمشق.
وتوجه لتوقيع جعبر، وأقام بها مديدة، وحضر إلى دمشق، وباشر ديوان الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - . ثم توجه إلى مصر، وباشر في ديوان الأسرى بدمشق، وبيده فقاهات في المدارس.
ولما كان في أواخر أيام الأمير سيف الدين يلبغا نائب دمشق نزل له ابن البياعة عما باسمه على كتابة الإنشاء بدمشق، فدخل ديوان الإنشاء، ثم إنه توجه إلى الحجاز في سنة ثمان وخمسين وسبع مئة، وعاد مع الركب المصري. فاتفق أنه مات في تلك الأيام شرف الدين موقع غزة، فاستخدمه القاضي علاء الدين بن فضل الله في توقيع غزة، فحضر إليها، وباشرها مدة بنفس قوية حتى على النواب. فنفرت القلوب منه، وكثرت الشكاوى عليه بباب السلطان، فرسم بعزله، ومع عناية القاضي علاء الدين معه خرج منها، وقد كاد يعطب. وكان قد نزل عن بعض جهاته لقاضي غزة من مباشرة الأسرى، وقام باسم أولاده على كتابة الإنشاء بدمشق، وأخذ من القاضي الخطابة بجامع الجاولي، والتدريس.
حكى لي القاضي شرف الدين قاضي غزة أنه صعد المنبر، فقال: الحمد لله، وسكت ساعة، ثم قال: الحمد لله، وسكت ساعة، فعل ذلك مراراً! حتى إنه قال لي النائب: قم أنت اخطب، فخطبت عنه ذلك النهار، ولما حضر إلى دمشق رسم السلطان الملك الناصر حسن بإبطال من استجد بديوان الإنشاء بعد الشهيد، فبطل هو لأنه كان قد قايض قاضي غزة بماله على كتابة الإنشاء من الأيام الشهيدية، وأبقى له على ذلك ما استجد، فجرت بينه وبين القاضي مخاصمات ومحاورات ومحاكمات كادت تفضي إلى ملاكمات، ولم يثبت له شيء، فتوجه إلى مصر، فمرض مرضةً طويلة بالبيمارستان المنصوري، ثم إنه خرج في محارة مع العرب، فلما كان بين سرياقوس والقاهرة، أو بعد سرياقوس، توفي - رحمه الله تعالى - فحمله العرب إلى بلبيس، ودفن بها عفا الله عنه وسامحه.
وكان أولاً يعرف بالزينبي، ثم إنه أخيراً كتب عن نفسه الجعفري. وكان إذا خاصم أحداً يقول: أنا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا مولانا السيد كن، أعرف ما تقول إن كنت جعفرياً فهذه نسبة إلى جعفر الطيار أخي علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وجعفر ما تزوج ببنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي تزوج بها أخوه علي بن أبي طالب، فإن أردت النسبة إلى بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل أنا علوي، لأنك تكون من أولاد الحسن والحسين رضي الله عنهم. فأخجله هذا، ولم يرجع عن هذه الدعوى، سامحه الله وعفا عنه.
وكان مبغضاً إلى كل من يرافقه من فقهاء المدارس، وكتاب الجامع الأموي وكتاب الإنشاء حتى أنشدني فيه بعض الناس:
يا حب لي فيك واش ... بيني وبينك يوقع
وماله من محب ... مثل الشريف الموقع
وأنشدني من لفظه لنفسه القاضي شمس الدين محمد بن شرف الدين عيسى بن قاضي شهبة في ذلك:
ولرب خل قال لي يهنيك قد ... عطف الحبيب وزار بعد تجنب
وكستك أيدي الدهر ثوب شبيبة ... ما عشت عنك جديده لم يذهب(2/247)
وأنا لك الدهر الخؤون قياده ... وأمنت من صرف الردى المتغلب
وصفت لك الدنيا ووسع رزقها ... فتمل بالمحبوب واشرب واطرب
فأحببت قد أفرحت لكن لم تقل ... وكذاك قد مات الكمال الزينبي
وأنشدني من لفظه لنفسه غير ذلك في هذا المعنى، والجميع مثبت في الجزء الثالث والثلاثين من " التذكرة " التي لي.
الشيخ محمد بن أحمد بن علي بن عبد الكافي
الشيخ تقي الدين أبو حاتم ابن الشيخ الإمام العلامة بهاء الدين أبي حامد ابن شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي.
تقدم ذكر جده وذكر عمه في مكانيهما من حرف العين والحاء.
شاب شب على الهدى، ودب إلى الندى، وحث في طلب العلم، ودب في حمى الكرم والحلم، فخطب ودرس، وسرى إلى المعالي وما عرس، ما وصل هلاله إلى الإبدار، ولا انفصل زلاله عن الإكدار حتى قصف غصنه المائل، وخسف بدره الكامل، وفجع به أبوه وعمه، ودفع إلى كل منهما فيه همه وغمه، فعطلت غصون المنابر من ورقائه، وخملت فنون المدارس من إلقائه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في... من شهر رجب الفرد سنة أربع وستين وسبع مئة.
ومولده في غالب الظن في شهر رجب الفرد سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
كان هذا تقي الدين أبو حاتم قد نشأ أحسن نشأة، وربي خير مربى، اجتهد جده قاضي القضاة تقي الدين رحمه الله تعالى لما كان عنده بدمشق، وحفظه القرآن، و " التنبيه " ، و " العمدة " في الأحكام. وحفظ هو بالديار المصرية كتاب " جمع الجوامع " لعمه قاضي القضاة تاج الدين. وولاه السلطان مدارس والده وخطابة جامع ابن طولون، فقام بجميع ذلك أتم قيام، وسد وظائفه كلها على أحسن نظام، ولبس تشريفاً في دمشق وألقى به الدرس في العادلية في حياة جده سنة ست وخمسين وسبع مئة، وعمره يومئذ دون الاثنتي عشرة سنة.
وعلى الجملة، فكان من نجباء الأبناء، ولكن جاءه أجله مبكراً.
ولما مات توجه والده إلى الحجاز ولحق بالركب الرحبي، ولم يلق بعده قراراً، وضاقت رحاب القاهرة به، وهو معذور في هذا الولد إذا ضاقت به الأرض فضلاً عن البلد.
وكتبت إلى عمه قاضي القضاة تاج الدين أعزيه بقصيدة هي:
الموت ختم يا أبا حاتم ... وغير مستثنى بنو آدم
وليس تنجو من ورود الردى ... لا نفس مخدوم ولا خادم
وكل عمر فله عروة ... ولا بد أن تفضي إلى فاصم
والموت يقظان لهذا الورى ... وكلنا في غفلة النائم
كالذود في الرعي به غفلة ... عن ملتقى جزاره الغاشم
وكلنا يسعى إلى غاية ... لا بد من إدراكها اللازم
ونشرب الكأس التي ذقتها ... من كف ساق للمنى حاسم
وقد تساوى الناس في شربها ... تأتي على المحسن والجارم
لهفي على نجمك لما هوى ... وليل شعر للصبا فاحم
لهفي على علمك ذاك الذي ... قد كنت فيه ندرة العالم
ودرسك الفقه الذي قال في ... ه الناسي ما دار على الدارمي
كأن من جدك فيه غدا ... جدك يمليه على الراقم
كذلك التفسير قالوا أبو ... حيان حي أو أبو حاتم
كم منبر تحتك يهتز من ... بلاغة ما حازها الغانمي
تملي عليه خطباً شجعها ... كالدر يزهى في يد الناظم
فصاحة يعجب من لفظها ال ... جاحظ والراغب والحاتمي
وأنت في أعلاه قمرية ... وذاك مثل الغصن الناعم
فما لنا اليوم ولا للعلا ... ولا دروس العلم من راحم
وكلنا بعدك في ضيعة ... كالذود إذ أمسى بلا سائم
لهفي على الشيخ أبيك الذي ... تركته بعدك كالهائم
قد كان على بلواه في غفلة ... بل كان في إغفاءة الحالم
فاعتاقه صرف الردى دون ما ... أمله في ظنه الزاعم(2/248)
قد كنت منه مثل ما قال عب ... د الله في أمر ابنه سالم
جلدة بين العين لكنه ... راح بأنف في الورى راغم
هج إلى مكة من حزنه ... يعض كف النادم السادم
وأم بيت الله مستصرخاً ... في الضر بالصفوة من هاشم
رحت إلى الله خفيف المطا ... غير مسيء لا ولا آثم
تصافح الولدان والحور في ... جنات عدن برضى دائم
فأين تلك الحركات التي ... أنحى عليها الموت بالجازم
لهفي على نفسي فقد كنت لي ... ركناً محته صدمة الهادم
أراك في الأنصار لي عدةً ... ولم أخل أن الردى فاطمي
وكنت من شوق كطير قد ان ... قض إلى منهله حائم
وكان ذاك البعد من قبل ذا ... دخان هذا الضرم الجاحم
كم قلت لما أن سمعت الذي ... يسرني من خبر القادم
ترى أرى الناشي وقد خصني ... بنظمه الزاهي على الناجم
وهل أرى ذاك المحيا الذي ... بارقه راق لدى السائم
والآن لا الصبر غدا نافعي ... وليس من بحر البكا عاصمي
تعز يا مولاي عن ذاهب ... مضى به سيل ردى عارم
وأنت في بيت دراريه أم ... ثال الذراري في الدجى العاتم
قد زينوا الدهر الذي ضمهم ... فراح ذا ثغر بهم باسم
واصبر لخطب قد عرا واحتسب ... تظفر بأجر الصائم القائم
والله يسقي ترب من قد مضى ... صوب الحيا من جوده الساجم
محمد بن أحمد بن بصخان
بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة، وبعدها خاء معجمة وألف ونون، ابن عين الدولة، شيخ القراء بدمشق، الشيخ الإمام بدر الدين أبو عبد الله بن السراج الدمشقي، المقرئ النحوي.
سمع الكثير بعد الثمانين من أبي إسحاق اللمتوني، والعز بن الفراء، والإمام عز الدين الفاروثي، وطائفة. وعني بالقراءات سنة تسعين وبعدها، فقرأ للحرميين وأبي عمرو على رضي الدين بن دبوقا، ولابن عامر على جمال الدين الفاضلي، ولم يكمل عليه ختمة الجمع، ثم كمل على الدمياطي وبرهان الدين الإسكندري، وتلا لعاصم ختمة على الخطيب شرف الدين الفزاري، ولازمه مدةً، وقرأ عليه القصيدة لأبي شامة.
قال شيخنا شمس الدين الذهبي: وترددنا جميعاً إلى الشيخ المجد نبحث عليه في القصيد، ثم إنه حج غير مرة، وانجفل عام سبع مئة إلى مصر، وجلس في حانوت تاجر، وأقبل على العربية فأحكم كثيراً منها، وقدم دمشق بعد ستة أعوام، وتصدى لإقراء القراءات والنحو، وقصده الطلبة، وظهرت فضائله، وبهرت معارفه، وبعد صيته، ثم إنه أقرأ لأبي عمرو بإدغام " الحمير لتركبوها " ، وبابه ورآه سائغاً في العربية، والتزم إخراجه من القصيد، وصمم على ذلك، مع اعترافه بأنه لم يقل به أحد، وقال: أنا قد أذن لي في الإقراء بما في القصيد، وهذا يخرج منها.
فقام عليه شيخنا المجد وابن الزملكاني وغيرهما، فطلبه قاضي القضاة ابن صصرى بحضورهم، وراجعوه وباحثوه فلم ينته، فمنعه الحاكم من الإقراء بذلك، وأمره بموافقة الجمهور، وذلك في عشري شهر ربيع الأول سنة أربع عشرة وسبع مئة، فتألم وامتنع من الإقراء جملة. ثم إنه استخار الله تعالى في الإقراء بالجامع، وجلس للإفادة، وازدحم عليه المقرئون وأخذوا عنه، وأقرأ العربية.
قال: وذهنه متوسط لا بأس به، ثم ولي بلا طلب مشيخة التربة الصالحية بعد مجد الدين التونسي بحكم أنه أقرأ من بدمشق في زمانه، انتهى.(2/249)
قلت: وكان بهي المحيا، يطوي السكون طيا، ظاهر الوقار، بادي التكبر على الناس والاحتقار، نظيف اللباس، طيب الرائحة في الانطلاق والاحتباس، ظريف العمامه، كأنه من بياض ثيابه حمامه، له قعدد في جلوسه، وتسدد في ناموسه، وكذا إذا مشى لا يلتفت ولو زحمه الليث والرشا. وإذا كان في حالة تصدره للقراءة يتلبس بالتوفر على التوقر والأناة، لا يتنحم ولا يتلفت لا يعير بصره وسمعه غير من يقرأ عليه إن عطس أو شمت، مشغولاً بمن قد أمه قدامه، مجموع الحواس على القارئ الذي جعله إمامه أمامه:
ويبقى على مر الحوادث صبره ... ويبدو كما يبدو الفرند على الصقل
ولم يزل على حاله إلى مات به شاطبي عصره، وأنزل إلى قعر لحد من علو مجده في قصره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.
واشتهر عنه أنه كان لا يأكل اللحم إلا مصلوقاً والحلاوة السكرية لا غير. وقيل إنه لم يأكل المشمش في عمره؛ ومن شعره في المشمش:
قد كسر المشمش قلبي ولم ... أكسر له لما أتى قلبا
لسعره الغالي وعسري معاً ... وأستحي أن ألقط الحبا
وكان له ملك يرتفق بمصالحه، ولم يتناول من الجهات درهماً ولا طلب جهةً كمال أهليته.
وكان يدخل الحمام وعلى رأسه قبع لباد غليظ إذا تغسل رفعه وإذا أبطل قلب الماء أعاده، فأفاده ذلك ضعفاً في بصره، وكان طيب النغمة.
دخل يوماً هو والشيخ نجم الدين القحفازي في درب العجم وفيه ظروف زيت، فعثر في أحدها، فقال نجم الدين: تسعنا في ظرف المكان. فقال له الشيخ بدر الدين: لا بل تمشي بلا تمييز، فقال: إن ذا حال نحس.
وقد أجاز لي رحمه الله تعالى جميع ما صنفه ونظمه بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وأنشدني شمس الدين محمد الخياط الشاعر، قال: أنشدني من لفظه لنفسه:
كلما اخترت أن ترى يوسف الحس ... ن فخذ في يمينك المرآة
وانظرن في صفائها تبصرنه ... واعذرن من لأجل ذا الحسن باتا
لا يذوق الرقاد شوقاً إليه ... قلق القلب لا يطيق ثباتا
قلت: كان الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى لما سمع كلام الناس في كلامه هذه المادة مثل قول القائل:
ما أخذ المرآة في كفه ... ينظر فيها للجمال المصون
إلا رأى الشمس وبدر الدجى ... ووجهه في فلك يسبحون
وقول أبي الحسن بن يونس بن عبد الأعلى:
يجري النسيم على غلالة خده ... وأرق منه ما يمر عليه
ناولته المرآة ينظر وجهه ... فعكست فتنة ناظريه إليه
وقول الآخر:
وأهيف ظل بالمرآة مغرى ... يواظب رؤية الوجه المليح
يقول طلبت معشوقاً مليحاً ... فلما لم أجده عشقت روحي
وقول الآخر:
أخذ المرآة بكفه كيما يرى ... فيها محاسن وجهه فتحيرا
ما كان يدري ما جنت عيني على ... قلبي فحين رأى محاسنه درى
وقول الآخر:
عجبت لبدر التم أصبح عاشقاً ... هلالاً وأمسى مغرماً فيه قلبه
ولو أخذ المرآة ينظر وجهه ... لأبصر ما يسليه عمن يحبه
وقول ابن الساعاتي:
يقول ماذا ترى وفي يده ... مرآته وهو ناظر فيها
قلت أرى البدر في السماء وقد ... أفاض نوراً على نواحيها
وقلت أنا في هذه المادة:
لو أخذت المرآة يا من سباني ... لترى طلعة سمت كل بدر
وتحققت أن عذري باد ... في غرامي وفي تهتك ستري
وللناس في هذا كثير، وهذا القدر كاف.
وأراد الشيخ بدر الدين أن ينظم مثل ذلك في رقته وطلاوة تراكيبه فأتى بما أتى وزاد علواً في الثقالة وعتا.
وأنشدني شمس الدين الخياط أيضاً، قال: أنشدني لنفسه في مليح دخل الحمام مع عمه، فلما جعل السدر في وجهه قلب الماء عليه عبد أسود كان هناك:
وبروحي ظبي على زجهه السد ... ر وقد أغمض الجفون لذلك
قائلاً عند ذاك حين أتاه ... يسكب الماء عليه أسود حالك
من ترى ذا الذي يصب أعمي ... قلت بل ذا الذي يصب كخالك(2/250)
قلت: قد حقق الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى ما قيل عن شعر النحاة من الثقالة، على أنني ما أعتقد أن أحداً رضي لنفسه أن ينظم هكذا، والذي أظنه أنه تعمد هذه التراكيب القلقة وإلا فما في طباع أحد يعاني النظم هذا التعاظل، ولا هكذا التعسف ولا هذه الركة، ولكني المعاني جيدة، فهي عروس تجلى في ثياب حداد.
محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز
الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي، شيخنا الإمام حافظ الشام.
كان في حفظه لا يجارى، وفي لفظه لا يبارى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، عرف تراجم الناس، وأزال الإبهام في تواريخهم والإلباس، مع ذهن يتوقد ذكاؤه، ويصح إلى الذهب نسبه وانتماؤه.
جمع الكثير، ونفع الجم الغفير، وأكثر من التصنيف، ووفر بالاختصار مونة التطويل في التأليف، وكتب بخطه ما لا يحصى، ولا يوقف له على حد يستقصر ولا يستقصى.
ومنذ انتشا لم يضع له زمان، ولا ظفر الفراغ منه بأمان، أخذنا من فوائده الجليلة وفرائده الجميله، وأضحت دمشق بعده من فنه دمنةً والعيون كليله:
أطل على الأخبار من كل وجهة ... وشارفها من كل شرق ومغرب
وأضر قبل موته بسنوات، وحصل للناس بذلك في تلك الحال هفوات.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الذهبي وقد ذهب، ونهب الأجل من عمره ما وهب.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثالث ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ودفن في مقابر باب النصر.
ومولده سألته عنه فقال: في ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
وقلت أنا أرثيه:
لما قضى شيخنا وعالمنا ... ومات فن التاريخ والنسب
قلت عجيب وحق ذا عجب ... كيف تخطى البلى إلى الذهب
وقلت فيه أيضاً:
أشمس الدين غبت وكل شمس ... تغيب وزال عنا ظل فضلك
وكم ورخت أنت وفاة شخص ... وما ورخت قط وفاة مثلك
وارتحل وسمع بدمشق وبعلبك وحمص وحماة وطرابلس ونابلس والرملة وبلبيس والقاهرة والإسكندرية والحجاز والقدس وغيرها.
سمع بدمشق من عمر بن القواس وغيره، وببعلبك من عبد الخالق بن علوان وغيره. وبالقاهرة من الحافظين ابن الظاهري والشيخ شرف الدين الدمياطي، ومن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، ومن أبي المعالي الأبرقوهي. وسمع بالإسكندرية من الغرافي وغيره.
وسمع بمكة من التوزري وغيره، وسمع بنابلس من العماد بن بدران، وباشر تدريس الحديث بالتربة الصالحية بدمشق عوضاً عن الشيخ كمال الدين بن الشريشي.
أخبرني شيخنا العلامة تقي الدين قاضي القضاة قال: عدته ليلة مات، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: في السياق.
وكان قد أضر قبل موته بأربع سنين أو أكثر بماء نزل في عينيه، وكان يتأذى ويغضب إذا قيل له: لو قدحت هذا لرجع إليك بصرك، ويقول: ليس هذا بماء، وأنا أعرف بنفسي، لأن بصري لا زال ينقص قليلاً قليلاً إلى أن تكامل عدمه.
اجتمعت بع غير مرة، وقرأت عليه كثيراً من تصانيفه. ولم أجد عنده جمود المحدثين ولا كودنة النقلة، بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس، ومذاهب الأئمة والسلف وأرباب المقالات.
وأعجبني ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثاً يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن أو ظلام إسناد أو طعن في رواية وهذا لم أر غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده.
ومن تصانيفه " تاريخ الإسلام " ، وقد قرأت عليه منه المغازي والسيرة النبوية إلى آخر أيام الحسن، وجميع الحوادث إلى آخر سنة سبع مئة. وكانت القراءة في أصله بخطه، و " تاريخ النبلاء " ، ونقل عني فيه أشياء، و " الدول الإسلامية " و " طبقات القراء " سماه: " معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار " ، تناولته منه، وأجازني روايته عنه، وكتبت أنا عليه:
عليك بهذه الطبقات فاصعد ... إليها بالثنا إن كنت راقي
تجدها سبعةً من بعد عشر ... كنظم الدر في حسن اتساقي
تجلي عنك ظلمة كل جهل ... به أضحى مقالك في وثاق
فنور الشمس أحسن ما تراه ... إذا ما لاح في السبع الطباق(2/251)
و " طبقات الحفاظ " مجلدان، " ميزان الاعتدال في الرجال " في ثلاث أسفار، كتاب " المشتبه في الأسماء والأنساب " ، " نبأ الدجال " مجلد، " تذهيب التهذيب " ، " اختصار تهذيب الكمال " للحافظ شيخنا المزي، اختصار كتاب " الأطراف " أيضاً للمزي، " الكاشف " ، " اختصار التذهيب " ، " اختصار السنن الكبير " للبيهقي، تنقيح أحاديث " التعليق " لابن الجوزي، " المستحلى في اختصار المحلى " ، المقتنى في الكنى " ، " المغني في الضعفاء " ، " العبر في خبر من غبر " ، مجلدان، " اختصار المستدرك " للحاكم، " اختصار ابن عساكر " في عشرة أسفار، " اختصار تاريخ الخطيب " مجلدان، وملكتهما بخطه، " اختصار تاريخ نيسابور " مجلد، " الكبائر " جزءان، " تحريم الأدبار " جزءان، " أخبار السد " ، " أحاديث مختصر ابن الحاجب " ملكته بخطه، " توقيف أهل التوفيق على مناقب الصديق " ، " نعم السمر في سيرة عمر " ، " التبيان في مناقب عثمان " ، " فتح المطالب في أخبار علي بن أبي طالب " ، قرأتهعليه كاملاً، " معجم أشياخه " ، وهم ألف وثلاث مئة شيخ، وملكته بخطه، " اختصار كتاب الجهاد " لبهاء الدين بن عساكر، " ما بعد الموت " مجلد، " اختصار كتاب القدر " للبيهقي ثلاث مجلدات، " هالة البدر في عدد أهل بدر " ، " اختصار تقويم البلدان " لصاحب حماة، " نفض الجعبة في أخبار شعبة " ، " قض نهارك في أخبار ابن المبارك " ، " أخبار أبي مسلم الخراساني " ، وله في تراجم الأعيان في كل واحد مصنف قائم الذات مثل الأئمة الأربعة، ومن جرى مجراهم، ولكنه أدخل الكل في " النبلاء " ، ومن تكلم فيه، وهو موثق كتبته من خطه، وقرأته عليه، و " الثلاثين البلدية " كتبتها من خطه، وقرأتها عليه.
وكتب بخطه من الأجزاء شيئاً كثيراً، وملكت منها جملة.
أنشدني من لفظه لنفسه، وجود ما شاء:
إذا قرأ الحديث علي شخص ... وأخلى موضعاً لوفاة مثلي
فما جازى بإحسان لأني ... أريد حياته ويريد قتلي
فنظمت أنا وأنشدته:
خليلك ما له في ذا مراد ... فدم كالشمس في عليا محل
وحظي أن تعيش مدى الليالي ... وأنك لا تمل وأنت تملي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
تولى شبابي كأن لم يكن ... وأقبل شيب علينا تولى
ومن عاين المنحنى والنقا ... فما بعد هذين إلا المصلى
قلت: الشيخ رحمه الله تعالى أخذ هذا من قول الأول:
ألا يا سارياً في بطن قفر ... ليقطع في الفلا وعراً وسهلا
قطعت نقا المشيب وبنت عنه ... وما بعد النقا إلا المصلى
قلت: ولكن شيخنا العلامة رحمه الله تعالى زاد عليه المنحنى، وهي زيادة مليحة، زيادة من له ذوق، ولو كان لي في قوله حكم لقلت: " ومن وصل المنحنى والنقا " وهو أحسن، وكذا في قول الأول لكان في حكم لقلت: " ليقطع في المدى " .
وكتب شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى إلى شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، ولعله آخر شعر نظمه:
تقي الدين يا قاضي الممالك ... ومن نحن العبيد وأنت مالك
بلغت المجد في دين ودنيا ... ونلت من العلو مدى كمالك
ففي الأحكام أقضانا علي ... وفي الخدام مع أنس بن مالك
وكابن معين في حفظ ونقد ... وفي الفتوى كسفيان ومالك
وفخر الدين في جدل وبحث ... وفي النحو المبرد وابن مالك
تشفع بي أناس في فراء ... لتكسوهم ولو من رأس مالك
لتعطى في اليمين كتاب خير ... ولا تعطى كتابك في شمالك
ثم إنه استطرد إلى مديح ولده قاضي القضاة تاج الدين، فقال بعد ذلك:
والمذهبي إدلال الموالي ... على المولى لحلمك واحتمالك
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لو أن سفيان على حفظه ... في بعض همي نسي الماضي
نفسي وعرسي ثم ضرسي سعوا ... في غربتي والشيخ والقاضي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
العلم: قال الله قال رسوله ... إن صح والإجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالةً ... بين الرسول وبين رأي فقيه
وأنشدني من لفظه لنفسه:
أفق يا معنى بجمع الحطام ... ودرس الكلام ومين يصاغ
ولازم تلاوة خير الكلام ... وجانب أناساً عن الحق زاغوا(2/252)
ولا تخدعن عن صحيح الحدي ... ث فما في محق لرأي مساغ
وما للتقي وللبحث في ... علوم الأوائل يوماً فراغ
بلاغاً من الله فاسمع وعش ... قنوعاً فما العيش إلا بلاغ
ولما توفي شيخنا علم الدين البرزالي - رحمه الله تعالى - تولى الشيخ شمس الدين - رحمه الله تعالى - تدريس المدرسة النفيسية وإمامتها عوضاً عنه، فكتبت له توقيعاً بذلك، وهو: " رسم بالأمر العالي لا زالت أوامره المطاعة تطلع في أفق المدارس شمسا، وتذيل بمن توليه عن المشكلات لبسا، أن يرتب المجلس السامي الشيخي الشمس في كذا وكذا، علماً بأنه علامة، وحافظ متى أطلق هذا الوصف كان علماً عليه وعلامة، ومتبحر أشبه البحر إطلاعه والدر كلامه، ومترجم رفع لمن ذكره في تاريخ الإسلام أعلامه، فالبخاري طاب أرج ثنائه عليه، ومسلم أول مؤمن بأن هذا الفن انتهى إليه. وأبو داود يحمد آثاره في سلوك سنن السنن، والترمذي يخال أنه فداه بنور ناظره من آفات دار الفتن، والنسائي لو نسأ الله في أجله لرأى منه عجبا. وابن ماجه لو عاين ما جاء به ماج له طربا.
فليباشر ما فوض إليه مباشرة تليق بمحاسنه وتدل طالبي السواد على مظانه وأماكنه، ويبين لهم طرق الرواية. فالفقه حلة وعلم الحديث علمها وطرازها، والرواية حقيقة، ومعرفة الرجال مجازها، ويتكلم على الأسانيد، ففي بعض الطرق ظلم وظلام، ويورد ما عنده كامن الجرح والتعديل إن بعض الكلام فيه كلام، ويوضح أحوال الرواة الذين سلفوا فليس ذاك بعيب. وما لجرح بميت إيلام، ويتم بما أطلع عليه من تدليسهم فما أحسن روضةً هو فيها تمام، ويسرد تراجم من مضى من القرون التي انقضت " فكأنها وكأنهم أحلام " ، ويحرص على اتصال السند بالسماع ليكون له من الورق والمدار " رصدان ضوء الصبح والإظلام " . ولا يدع لفظة يوهم إشكالها، " فالشمس تمحو حندس الأوهام " .
حتى يقول الناس إن شعبةً منك شعبه، وأبا زرعة لم يترك عنده من الفضل حبه، وابن حزم ترك الحزم وما تنبه، وابن عساكر توجس منك رغبه، وابن الجوزي عدم لبه وأكل الحسد قلبه. ولا تغفل عن إلزام الطلبة بالتكرار على المتون الصحيحة دون السقيمة فيما يستوي الطيب والخبيث. وذكرهم بقوله عليه الصلاة والسلام: " من حفظ على أمتي أربعين حديثاً " ، وإن كان الحفظ بمعنى الجمع فالعمل بظاهر الحديث، فأنت ذو الصفات التي اشتهرت، والفضائل التي بهرت، والدربة التي اقتدرت على هذا الفن ومهرت، والفوائد التي ملأت الأمصار وظهرت، والحجج التي غلبت الخصوم وقهرت.
لم تضع وقتاً من زمانك إما أن تسمع أو تلقي أو تنتقي، وإما أن تجتهد في نصرة مذهب الشافعي حتى كأنك البيهقي، وإما أن يصنف ما يود بقي بن مخلد لو عاش له وبقي.
وأنت أدرى بشروط الواقف رحمه الله تعالى، فارعها وابتع أصلها وفرعها، وأهد الدعاء له عقيب الميعاد، وأشركه مع المسلمين في ذلك فآثار الرحمة تلمع على هذا السواد، واذكر من تقدمك فيها بخير ففضله الباهر كان مشهورا، واسأل له من الله الجنة ليسرك يوم القيامة أن تراه علماً منشورا.
والوصايا كثيرة، ومثلك لا ينبه، ولا يقاس بغيره ولا يشبه، وملاك الأمور تقوى الله تعالى، وقد سلكت منها المحجه، وملكت بها الحجة، فلا تعطل منها جيدك الحالي، وارو ما عندك فيها فسندك فيها عالي، والله يمدك بالإعانة، ويوفقك للإنابة والإبانة، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
محمد بن أحمد بن عثمان
ابن إبراهيم بن عدلان بن محمود بن لاحق بن داود، الشيخ الإمام العلامة شمس الدين أبو عبد الله الكناني المصري الشافعي، المعروف بابن عدلان.
سمع من العز بن الصقيل الحراني، ومن النظام محمد بن الحسين بن الخليلي، مشيخة عمر بن طبرزد تخريج ابن الدبيثي بإجازتهما منه، ومن محمد بن إبراهيم بن ترجم، ومن الدمياطي أخيراً. وأجاز له عبد الله بن الواحد بن علاق، وعبد الرحيم بن خطيب المزة، وأبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني، وغيرهم.
وتفقه على الشيخ وجيه الدين البهنسي. وقرأ في الأصول على الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني شارح " المحصول " . وقرأ " المفصل " على الشيخ بهاء الدين بن النحاس، وكان قد قرأ القرآن على الصفي خليل بن أبي بكر المراغي.(2/253)
وكان في الفقه بارعاً، وإلى استحضار الفروع ونقلها مسارعاً. لو عاصره المزني غرق قطره في بحره، أو الماوردي لاستطاب نفحة ذكره، أو الغزالي لسدى تحت طاقه، أو القاضي أبو الطيب لقضى أن المرارة ساعة فراقه.
شرح " مختصر المزني " وما أظنه كمله، ولو أتمه طرز به المذهب وجمله، إلا أنه مع عظم قدره، وسمو بدره، كان الملك الناصر يكرهه، ويصده بالكلام المؤلم ويجبهه، لأنه أفتى الجاشنكير في تلك المرة بما أفتاه من خلعه، وكان ذلك سبباً إلى صرم ثمره، وشرط طلعه.
ولم يزل إلى أن تسجى، وعد فيما لا يرجى.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بين العيدين في سنة تسع وأربعين في طاعون القاهرة.
ومولده سنة نيف وستين وست مئة.
قال القاضي تاج الدين بن قاضي القضاة تقي الدين السبكي: أفتى ابن عدلان في واقف وقف مدرسة على الفقهاء ومدرس ومعيد وجماعة عينهم، قال: ومن شروط المذكورين أن لا يشتغلوا بمدرسة أخرى غير هذه المدرسة ولا يكون لواحد منهم تعلق بمدرسة أخرى ولا مباشرة تجارة ولا بزازة يعرف بها غير تجارة الكتب، ولا ولاية بأنه يجوز للمقرر في هذه المدرسة الجمع بينهما وبين إمامة مسجد قريب منها، ووافقه شيخ الحنفية في زمانه قاضي القضاة بالديار المصرية علاء الدين علي بن عثمان المارديني رحمه الله تعالى، وهذا فيه نظر؛ لنص الشافعي على أن الإمامة ولاية حيث يقول ولا أكره الإمامة إلا من جهة أنها ولاية، وأنا أكره سائر الولايات.
قال: ومن محاسن ابن عدلان أنه سئل أيهما أفضل أبو بكر أو علي في مكان لا يمكنه التصريح بمذهب أهل السنة، فقال: علي أفضل القرابة وأبو بكر أفضل الصحابة.
قلت أنا: جواب حسن، لكنه لا يرضي السائل من كل وجه، لأن علياً رضي الله عنه من الصحابة، وأحسن ما مر بي في ذلك قول ابن الجوزي وقد سئل من أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ومماليك الخليفة واقفون فرقتين، فقال: من كانت ابنته تحته. فقالت كل فرقة قال بتفضيل من ذهبنا إليه، وتركهم في الخصام، ونزل عن المنبر حتى لا يستفسروه في الضمير إلى من يعود، وهذا في غاية الحسن، لأنها عبارة أوهمت كل فرقة نصرة مذهبها.
قلت: وتوجه الشيخ شمس الدين رسولاً إلى اليمن في أيام سلار والجاشنكير، وباشر الوكالة لأمير موسى بن الصالح علي بن الملك المنصور، وهذه أيضاً من أسباب الجاشنكير، فنقم السلطان عليه هذا الأمر، وبقي إلى آخر أيامه، وهو عنده ممقوت. قرأ له في وقت القاضي شهاب الدين بن فضل الله قصةً على السلطان، فقال: قل له: الذين كانوا يعرفونك ماتوا، ثم إنه - رحمه الله تعالى - ولي قضاء العسكر في أيام الناصر أحمد لما حضر من الكرك إلى أن مات ودرس بعدة مدارس، وأفتى وولي نيابة القضاء للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد.
محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الإسعردي
الشيخ الإمام أبو عبد الله شمس الدين لمعروف بابن اللبان الدمشقي.
سمع بدمشق من أبي حفص عمر بن عبد المنعم بن القواس، وانجفل إلى مصر، وسمع بها من الدمياطي، ومن عبد الرحمن بن عبد القوي بن عبد الحكيم الخثعمي رطهرمس من الجيزية، وحدث بالديار المصرية، وسمع منه الطلبة، وخرج له شهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي جزءاً من حديثه، وتفقه وبرع وأخذ في الإشغال وشرع، ولم يترك ابن اللبان لغيره في الفقه زبدة.
وروى الحديث، وكان لحلاوة روايته كأنما أسند عن شهدة، ودرس بزاوية الشافعي في جامع عمرو بن العاص، وعقد مجالس الوعظ، فاشتمل عليه العام والخاص، واشتهر ولا شهرة ابن الجوزي في بغداد، وطارت سمعته كأنه ابن سمعون الأستاذ.
ولم يزل على حاله إلى أن نقل ابن اللبان إلى الجبانه، وراح بفقره إلى الغني سبحانه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
ومولده في حدود سنة خمس وثمانين وست مئة.
وكان قد قام عليه في وقت قاضي القضاة القزويني بالديار المصرية، وربما أنه كفره في سنة ست ثلاثين وسبع مئة وقام في أمره القاضي شهاب الدين بن فضل الله وناصر الدين خزندار الأمير سيف الدين تنكز وغيرهما من أصحابه فسكت عنه وعمل في ذلك كمال الدين الأدفوي مقامةً.
محمد بن أحمد بن علي
الإمام المفتي شيخ القراء شمس الدين أبو عبد الله الرقي.(2/254)
سمع الحديث ورافق الطلبة، ودار على المشايخ، وتميز في الفقه والقراءات وغير ذلك. وتلا بالسبع على الفاروثي وابن مزهر وغيرهما.
وأقرأ ودرس وأفتى، وروى الكثير عن ابن البخاري وطبقته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في غرة شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة سبع وستين وست مئة.
محمد بن أحمد
الإمام المفتي الشيخ بدر الدين بن الحبال الحنبلي، فاضل الحنابلة في عصره.
سألت عنه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، فقال لي: فقيه فاضل، كان ينوب للقاضي تقي الدين الحنبلي.
توفي - رحمه الله تعالى - في سلخ ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
محمد بن أحمد بن شويش
الفيه نجم الدين محتسب قلعة الجبل بالقاهرة الحنفي.
كان كثير التلاوة، وفيه مروءة وخير.
توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن شوال سنة ثلاثين وسبع مئة.
محمد بن أحمد بن عبد الرحيم
الإمام شمس الدين أبو عبد الله المزي الموقت بالجامع الأموي بدمشق.
كان قد حفظ " الشاطبيه " ، وينقل القراءات، وعلى ذهنه عربيه، برع في وضع الإسطرلابات والأرباع، وتأنق فيها ودقق من حسن الرسوم والأوضاع، لم يلحقه أحد في زمانه في ذلك، ولم يسلك طريقه فيه سالك، وكان على ذهنه شيء من حيل بني موسى، ولديه صنائع لو يعيش بها لم يلق بوسا، قل أن رأيت مثله في ذكائه أو وصل أحد فيما يعانيه إلى مدى اعتنائه.
ولم يزل على حاله إلى أن ذاق المزي طعم الموت خلا، وترك أقرانه على إثره وولى.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة خمسين وسبع مئة، وكان من أبناء الستين فما فوقها.
قرأ أولاً على الشيخ شمس الدين الأكفاني، وكان يشكر ذهنه وإتقانه لما يعلمه بيده، ثم انتقل عائداً إلى الشام، وسكن دمشق، وكان أولاً يوقت بالربوة، ثم انتقل إلى الجامع، وكان قد برع في وضع الاسطرلابات والربع، ولم أر أحسن من أوضاعه، ولا أظرف ولا أتقن ولا أكثر تحريراً، كان يباع اسطرلابه في حياته بمئتي درهم، وربعه بخمسين درهماً وأكثر، ولعله إذا تقادم زمانه غلا أكثر من ذلك. وبرع في دهن القسي، ومن ملازمته للشمس نزل في عينيه ماء، ثم أنه قدحه فأبصر بالواحدة، وله رسائل في الإسطرلاب ورسالة سماها " كشف الريب في العمل بالجيب " ، وله نظم أيضاً.
محمد بن أحمد بن يمن
قاضي القضاة شمس الدين الحنفي الحاكم بطرابلس.
هو أول من ولي قضاء الحنفية بطرابلس بعد السلطان الملك الناصر محمد. ولم يكن فيها في أيامه إلا حاكم واحد شافعي، وصل إليها في غالب ظني إما في أوائل سنة أربع وأربعين وسبع مئة، أو في أواخر سنة ثلاثين وأربعين.
ولم يزل على حاله إلى أن وجد في بيته مذبوحاً بطرابلس، وقد أخذ ما في بيته من المال، وذلك في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وسبع مئة رحمه الله تعالى.
محمد بن أحمد بن عمر بن إلياس
الصدر عز الدين ابن العدل شهاب الدين الرهاوي.
شاب بلغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً، وكان كاتباً جيداً، باشر استيفاء الأوقاف وغير ذلك، وكانت له خصوصية بالصاحب أمين الدين، فلما أمسك الصاحب بمصر، اعتقل عز الدين بالمدرسة العذراوية.
وتوفي بها في تاسع عشري جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
محمد بن أحمد بن مفضل
ابن فضل الله المصري القاضي الرئيس علم الدين بن قطب الدين. تقدم ذكر والده في الأحمدين.
وكان هذا علم الدين أخيراً ناظر الجيوش المنصورة بدمشق، وكان في نفسه رئيساً، قضى عمره في نعمى عجيبة، إلا أنها ما خلت من بوسى، يتأنق في المأكل والملابس. ويتخرق بالتجمل والمجالس، بنفس يتدفق بحرها، ويتألق وفرها، يبالغ في إكرام من يعاشره، ويهش لوفادته عليه ويكاشره. قد اشتهر بالتوسع في الأطعمة والمشارب، والتنقل في النزه والمسارب، قل من رئي في دمشق من يدانيه في سماطه، أو تنخرط لآلئ حشمته في أسماطه.
من تعاطى تشبهاً بك أعيا ... ه ومن دل في طريقك ضلا
وكانت مساعيه دقيقه، ومجازاته في المناصب الكبار حقيقه، وثب من الثرى إلى الثريا، وطوى شقة المشقة طيا، وتنقل في الوظائف الكبار، وتوقل هضبات المجد من غير اعتناء ولا اعتبار، كأن له غصن الرياسة يجنى ويهتصر، أو كأن له طريقاً إلى العلياء تختصر.(2/255)
ولم يزل في سعاداته، وما ألفه في اللذات من عاداته، إلى أن دك علمه، وفك من التصرفات قلمه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بكرة نهار الاثنين ثاني جمادى الأولى سنة ستين وسبع مئة. ودفن في تربة بني هلال بالصالحية.
كان هذا القاضي علم الدين من بقايا رؤساء دمشق، رأى الناس وصحبهم وعاشرهم وخالطهم.
وكان جميل الصورة، أنيق الشكل، مديد القامة، حسن البزة، نظيف اللباس، عاطر الرائحة، يتجمل في الملابس، ويتأنق في المآكل، ويتوسع في المطاعم والمشارب، يمد في كل يوم من الطعام ألواناً، وينفق على مخالطيه المال مجاناً.
أول ما علمته من أمره أنه كان في خدمة عمه القاضي محيي الدين كاتب قبجق، وسيأتي ذكره في مكانه، وكان يميل إليه ويركن إلى تربيته له دون والده قطب الدين، وكان يتوجه معه إلى قسم النواحي، وينوبه في ديوان الأمير سيف الدين تنكز. ولما توفي قطب الدين رتب هو مكان والده في عمالة خانقاه الشميساطي.
ثم إنه بعد ذلك بمدة رتبة الأمير سيف الدين تنكز في استيفاء ديوانه، وأضاف إليه عمالة الأشراف، وفي ديوان الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، وكان مداخلاً سؤوساً، خبيراً بالمساعي عارفاً بالتوصل درباً بالتوسل، فداخل حمزة التركماني، وقد انفرد بالأمير سيف تنكز، وقد احتوى عليه، وكان يشكره للأمير سيف الدين تنكز ويرشحه عنده لكل وظيفة، ويستكتبه عنه في مكاتبات خاصة ما يرى أن كاتب السر يطلع عليها فيأتي فيها بالمراد فيعجبه ذلك. ولم يزل به إلى أن أحسن له أن يوليه كتابة سر دمشق، فكتب فيه إلى السلطان وشكره وبالغ في أمره، فأجابه الملك الناصر محمد إلى ذلك، وجهز توقيعه بكتابة السر بدمشق في سنة ست وثلاثين وسبع مئة ثاني شعبان المكرم، وكان قد باشرها في هذا اليوم قبل وصول توقيعه الشريف، ووصل التوقيع والتشريف من مصر في حادي عشري الشهر المذكور. وتولاها عوضاً عن القاضي جمال الدين عبد الله بن الأثير، فوليها وعملها على القالب الجائر. وخضع الناس له، وتمكن من قلب الأمير سيف تنكز، وكان يعجبه شكله وكتابته وتأنيه. إلى أن لم يكن عنده في دمشق غيره، وسلم قياده إليه، وتوجه معه إلى مصر، وشكره للسلطان، وبالغ في وصفه، فعظمه السلطان وألبسه تشريفاً بطرحة ولم يكن ذلك لغيره، وحضر بريد من الشام، فدخل به القاضي شهاب الدين بن فضل الله ليقرأه، فطلب السلطان علم الدين هذا، وقرأه عليه، فما حمل القاضي شهاب الدين ذلك، وجرى له مع السلطان ما جرى، وقدم الدواة الأمير سيف الدين تنكز لعلم الدين هذا بين يدي السلطان، فزادت عظمته عند الناس.
ولم يزل كذلك وهو في أوج سعده إلى أن تغير عليه في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، فقبض عليه وضربه بالعصي ضرباً مبرحاً، واحتاط على موجوده، واعتقله مدة، ثم أفرج عنه وأمر أنه لا يخرج من داره، ولا يجتمع بأحد، فسكن عند حمام السلاري، وكان ليله ونهاره في تربة الكاملية المجاورة للجامع الأموي، وأقام على ذلك مدة إلى أن أمسك الأمير سيف الدين تنكز. فقال السلطان للأمير بشتاك: إذا وصلت إلى دمشق، اطلب العلم بن القطب الذي كان مستوفي تنكز، فهو يدلك على جميع ماله.
ولما وصل بشتاك إلى دمشق، ونزل بالقصر الأبلق، طلب القاضي علم الدين واستعان به على تطلب أموال تنكز، وتحكم علم الدين في تركة تنكز، وأخذ منها غالب ما وجده فيها من الأصناف التي أخذت منه، ودخل في الأمير بشتاك وخدمه، ودخل معه إلى مصر، فعينه السلطان لاستيفاء الصحبة بالديار المصرية، وأراد السلطان أن يمكنه ويتسلط على الكتاب، فأداه عقله إلى مصاحبة جمال الكفاة، ومن كان في ذلك الزمان، وداخلهم واتحد بهم، وصافوه.
ويئس السلطان منه فتركه ولم يزل في استيفاء الصحبة إلى أن توفي السلطان، ودخل الفخري وطشتمر إلى القاهرة، فسعى معهما في أن يكون ناظر النظار بدمشق عوضاً عن الصاحب علاء الدين بن الحراني، فوصل إلى دمشق وباشر بها الوزارة، ولكنه تعب فيها تعباً كثيراً، فاستوخم مرعاها، وطلب النقلة من الأمير طقزتمر إلى نظر الجيوش بدمشق، فكتب له، فأجيب إلى ذلك، وحضر توقيعه، فباشر ذلك عوضاً عن القاضي فخر الدين بن العفيف، فحمد مسراه عند صباح هذه المباشرة، ورأى فيها ما رآه غيره، ودانت له الأيام، وطال عمره فيها، وطاب عرفه.(2/256)
وكان كثير الهدية للمصريين والخدمة لهم، وما جاءت دولة إلا وهو فيها عزيز مكرم لا يبالي بمن ناواه، ولا يعبأ بمن جاراه، يقهر خصومه ولا يدرون سره ولا مكتومه، وباشر هذه الوظائف الثلاث التي هي أكبر مناصب دمشق.
ولم يزل على حاله إلى أن مرض بعلة الربو، فأقام على ذلك قريباً من خمسين يوماً، وتوفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور، وكان يعتريه وجع المفاصل في كل سنة فأنهكه ذلك، وهرم به وانحنت قامته وضعف.
وكنت قد كتبت له توقيعاً بعمالة ديوان الأشراف بدمشق في شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة وهو: " رسم بالأمر العالي، لا زال يتلقى برفع علمه، ويكسب المناصب فخراً بمن يوليه لكفاية هممه أن يرتب المجلس السامي القضائي علم الدين في كذا،ثقةً بكفايته التي شهدت بها مخائله، ودلت عليها حركاته السعيدة وشمائله، وتكفلت حركاته المباركة أن تبلغه من العليا ما يحاوله، إذ هو الكاتب الذي أضحت نظراؤه في المعدوم معدوده، والبارع الذي مخزومة فضله لا تبيت إلا وهي بالمحاسن مسدوده، والماجد الذي خرج سيادته عن سلفه، فكانت أبواب النقص فيها مردودة. أقلامه في كفه أنابيب يضمها منه خير عامل، وأعنة يصرفها في السيادة بأطراف الأنامل. فليباشر ما فوض إليه مباشرةً يطلب بها من الله رضاه، ويدخر عمله فيها عنده، فيا حبذا ما يعتمده ويتوخاه، ويحمل لواء الشرف لهذا الديوان، تولى خدمته وتوالاه، وينفق في الفضل من سعة مجده فقد كفاه ما نالته منه كفاه، ويثق بالسعادة التي أظفرته حتى ببركة آل البيت، ويشكر الله على هذه النعمة التي أدخلته في حساب حسبهم الذي هو شرف الحي والميت، مجتهداً على رضا السادة الأشراف بإيصال كل منهم ما يخصه، على اختلاف القسمة، محققاً معرفة بيوتهم الشريفة التي بقاؤها ما بين هذه الأمة نعمه، وتقوى الله تعالى معقل حصين، فلا يلتجئ إلى غيره، وحبل متين فلا يتمسك بغير عروته التي هي سبب خيره، وليقابل هذه النعمة بشكر يوصله إلى ما تستحقه أهليته في ذمتها، وتبلغه الرتب العلية التي لا تنالها النفوس إلا بشرف همتها، والله يتولى عونه فيما ولاه، ويزيده فضلاً إلى فضله الذي أولاه، والاعتماد فيما رسم به على الخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه إن شاء الله تعالى.
وكتبت أنا إليه من القاهرة وهو بدمشق:
من جود كفيك تخجل الديم ... ومن محياك تنجلي الظلم
يا من سما وارتقى وطال علاً ... حتى غدا وهو في الورى علم
ومن صفت للورى مكارمه ... وساعدتها الأخلاق والشيم
ومن إذا خط طرسه خجلت ... منه رياض بالزهر تبتسم
ومن إذا فاه بالكلام فما ... تراه إلا العقود تنتظم
لست أطيل الكلام في صفة ... ترضى بها في علوك الكلم
مثلك والله ما رأيت ولا ... يصلح إلا لمثلك الكرم
عندي من الشوق والتطلع ما ... يعجز عن بعض وصفه القلم
أوحشني وجهك الجميل فلم ... يلذ من بعده لي الحلم
فالقلب من لوعة ومن حرق ... مضطرب دائماً ومضطرم
والعين أفنى البكاء مدامعها ... فسال منها بعد الدموع دم
والله ما سار في الطريق معي ... بعدك إلا البكاء والندم
فليتني لا أطعت فيك نوىً ... ولا سعت لي الفرقة قدم
وكتبت إليه من مصر أهنئه بكتابة السر بدمشق:
قد علمنا هذا الهناء الذي ... حديثه عند العلا مسند
وهو من الأقلام والنفس قد ... حققه الأحمر والأسود
يا سيداً كم لمساعيه من ... فضل بإبلاغ العلا يشهد
نوديت مرفوعاً إلى رتبةٍ ... إذ أنت فيها علم مفرد
محمد بن أحمد بن محمد
القاضي الرئيس أمين الدين بن القلانسي التميمي، كاتب السر الشريف بدمشق.
تقدم نسبه في ترجمة والده القاضي جمال الدين في الأحمدين.
باشر وكالة بيت المال، ثم انتقل إلى كتابة السر في آخر الحال، وما لبث في ذلك إلا دون الثلاث سنين أو ما يزيد، وعزل منها عزلاً غير حميد.(2/257)
وله الأملاك التي تكاثر الأفلاك وتفاخر الدر المنظم في الأسلاك من البساتين المونقه، والأراضي التي تمسي النواظر إلى حدائقها محدقه، والقاعات التي تبهت العيون في زخرفها، وتجتلي محاسن ما رأتها صواحب المكر من يوسفها، وحوانيت لكل آجرة منه أجره، وفي كل ذرة منها لولا الغلو لقلت درة، ومن ذلك ما جره الإرث إليه، ومن ذلك ما أنشأه بما لديه ولكنه " ما أغنى عنه ماله " ولا كثرة ملكه ولا باطن الأرض لمواراته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الأحد سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
ومولده فيما أظن في سنة إحدى وسبع مئة.
وله إجازةً من الحافظ شرف الدين الدمياطي وجماعة. وحدث عن ابن مكتوم، وعن عيسى المطعم وغيرهم.
وكان قد دخل إلى الديوان في حياة والده، واختص بالقاضي شرف الدين بن الشهاب محمود لما كان كاتب السر بدمشق، ولما مات والده أعطي من وظائفه نظر الظاهرية وتدريس العصرونية، ووقع في الدست في أواخر أيام تنكز. ولم يزل يسد الغيبة عن كتابة السر في غيبة من يغيب. وتولى بيت المال مدة. وأخذها منه القاضي علاء الدين الزرعي، فما لبث فيها شهرين فيما دونها، حتى أعيدت إليه. ولما أخذ الزرعي منه الوكالة عوضوه عن ذلك بقضاء العسكر، ولما أعيد إلى الوكالة لم يزل فيها إلى أن رسم له بكتابة السر في دمشق عوضاً عن القاضي ناصر الدين، وذلك في أوائل صفر سنة ستين وسبع مئة. وتوجه القاضي ناصر الدين إلى كتابة سر حلب عوضاً عني، وحضرت أنا إلى دمشق عوضاً عن القاضي أمين الدين على وظيفته وكالة بيت المال، وتوقيع الدست.
ولم يزل في كتابة السر إلى أن حضر السلطان الملك المنصور وصلاح الدين محمد بن حاجي في واقعة الأمير سيف الدين بيدمر، فعزل منها بالقاضي ناصر الدين، ورسم عليه، وأخذ منه مبلغ مئة وخمسين ألف درهم وأكثر، فوزنها، وأباع ما بيده من الوظائف وغيرها، وطرح الرياسة، وصار يمشي بلا كلفة في ملبوس ولا غيره. ولم يبق على ذلك إلا دون السبعة أشهر حتى انقطع يومين.
وتوفي - رحمه الله - في التاريخ المذكور. ولم تبق معه مدرسة ولا تصدير في الجامع الأموي، غير أنطار يسيرة نزل عنها لولده، ودفن في تربتهم عند حمام النحاس.
وبلغني أنه كان له أربعة جباة لأملاكه. ومن الغريب أنه هو وأبوه وعماه وجدهم كل منهم ما تعدى الاثنتين وستين سنة، وكان دائماً يقول: أنا ما أعدي أعمار أهلي، فكان الأمر كما قال.
وكان - رحمه الله - خاتمة رؤساء بيته.
وكان قد قرأ على شيخنا العلامة شهاب الدين أبي الثناء محمود كتابه " حسن التوسل " وكتابه " منح المدح " وغير ذلك.
محمد بن أحمد
الشيخ الإمام ناصر الدين الحنفي المعروف بالربوة، بضم الراء وسكون الباء الموحدة وبعد الواو المفتوحة هاء.
كان من فضلاء الحنفية. وكان بيده تدريس المقدمية داخل باب الفراديس بدمشق، ونزل عنها لولده، واشتغل هو بخطابة جامع الأمير سيف الدين يلبغا - رحمه الله - بعد منازعات ومخاصمات.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبع مئة.
وتولي مكانه في الخطابة قاضي القضاة جمال الدين الكفري الحنفي.
وكان الشيخ ناصر الدين المذكور يعرف بالقونوي.
محمد بن إدريس بن محمد
الشيخ الإمام الفاضل نجم الدين القمولي، بفتح القاف وضم الميم وسكون الواو وبعدها لام.
كان من الفقهاء النبلاء والأعيان الفضلاء، يكاد يستحضر " الروضة " ، ويترع من سردها حوضه، وينقل من شرح مسلم كثيراً، ويكر على شرحه مغيراً، ويفعل كذلك في " وجيز " الواحدي في التفسير، ويأتي على ما فيه من تقرير فوائده بأحسن تقريب وتقرير، ويده في العربية والأصول طولى، وإذا تكلم في الفرائض والجبر والمقابلة بلغ المطالب مراماً وسولا.
ولم يزل على حاله إلى أن التقم القمولي قبره، وطاب خبره، وعدم خبره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بقوص في جمادى الأولى سنة سبع وسبع مئة.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوني: كان لا يستغيب أصلا، ولا يستغاب بحضرته، قائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وملازماً للعبادة والإشغال، متقللاً من الدنيا، قليل النظر، وأظنه لو عاش ملأ الأرض علماًً.
حج وزار وعاد، فتوفي في قوص رحمه الله تعالى.
محمد بن أرغون بن أبغا(2/258)
ابن هولاكو بن تولي بن جنكز خان المغلي، القان غياث الدين خدابندا، معناه بالعربي عبد الله وإنما الناس غيروه فقالوا خربندا، صاحب العراق وأذربيجان وخراسان.
ملك بعد أخيه غازان، وتقدم ذكره، وكانت دولته ثلاث عشرة سنة.
كان شاباً مليحاً، حسن الوجه صبيحاً، لكن شانه العور قليلاً، وما شان ذلك من حاز وجهاً جميلا.
وكان جواداً لا يلحقه في حلبة الكرم جواد، سمحاً تمحو أياديه البيض ما في الدياجي من السواد، محباً للعماره، معرضاً عما يتعلق بالمملكة والإمارة، قد استغرق في اللعب، وأعرض عما يجده الجاد التعب، لعب بعقله الروافض فرفضوه، وأجابهم إلى ذلك لما دعوه إلى الضلالة وفاوضوه.
فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل
ولم يزل في عيشه لا يرد فيضه، إلى أن فارق الحياة بهيضه.
وتوفي في شهر رمضان سنة ست عشرة وسبع مئة، ودفن بسلطانية. وسلطانية بلده أنشأها ورسم بعمارتها، وتوفي بقوص من أبناء الأربعين.
وكان قد حضر إلى الرحبة، وحاضرها في شهر رمضان سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وأخذها بالأمان، وعفا عن أهلها، ولم يسفك فيها دماً وبات بها، فما أصبح ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من شهر رمضان المذكور، وترك لأهل الرحبة أشياء كثيرة من أثقال مجانيق وغيرها. وكان معه يومئذ قراسنقر والأفرام وسليمان بن مهنا، وذكرت في ترجمة جوبان ما اعتمده في أهل الرحبة من الخير في هذه الوقعة، وكان أهل الرحبة، قد حلفوا لخربندا، فلما ارتحل عنها، واستقر الأمر، التمس قاضيها، ونائبها وطائفة حلفت له من السلطان عزلهم فعزلهم لمكان اليمين من خربندا.
وكان مسلماً فما زال به الإمامية حتى رفضوه وغير شعار الخطبة، وأسقط منها ذكر الخلفاء سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصمم أهل باب الأزج عليه وخالفوه، فما أعجبه ذلك، وتنمر، ورسم بإباحة دمائهم وأموالهم، فعوجل بعد يومين بهيضة مزعجة، داواه فيها الرشيد بمسهل منظف فخارت قواه.
وكان قبل موته قد رجع عن التشيع، وقال بقول أهل السنة.
وفي رحيله عن الرحبة يقول علاء الدين الوداعي، ومن خطه نقلت:
ما فر خربندا عن الرحبة ال ... عظمى إلى أوطانه شوقا
بل خاف من مالكها أنه ... يلبسه من سيفه طوقا
ولما تشيع السلطان خربندا قال جمال الدين إبراهيم بن الحسام المقدم ذكره يمدحه:
أهدي إلى ملك الملوك دعائي ... وأخصه بمدائحي وثنائي
وإذا الورى والوا ملوكاً غيره ... جهلاً ففيه عقيدتي وولائي
هذا خدابندا محمد الذي ... ساد الملوك بدولة غراء
ملك البسيطة والذي دانت له ... أكنافها طوعاً بغير غناء
أغنتك هيبتك التي أعطيتها ... عن صارم أو صعدة سمراء
ولقد لبست من الشجاعة حلةً ... تغنيك عن جيش ورفع لواء
ملأ البسيطة رحبةً ومهابةً ... فالناس بين مخافة ورجاء
من حوله عصب كآساد الشرى ... لا يرهبون الموت يوم لقاء
وإذا ركبت سرى أمامك للعدى ... رعب يقلقل أنفس الأعداء
ولقد نشرت العدل حتى إنه ... قد عم في الأموات والأحياء
فليهن ديناً، أنت تنصرملكه ... وطبيبه الداري بحسم الداء
نبهته بعد الخمول فأصبحت ... تعلو بهمته عن الجوزاء
وبسطت فيه بذكر آل محمد ... فوق المنابر ألسن الخطباء
وغدت دراهمك الشريفة نقشها ... باسم النبي وسيد الخلفاء
ونقشت أسماء الأئمة بعده ... أحسن بذاك النقش والأسماء
ولقد حفظت عن النبي وصيةً ... ورفعت قرباه على الغرباء
فابشر بها يوم المعاد ذخيرةً ... يجزيكها الرحمن خير جزاء
يابن الأكاسرة الملوك تقدموا ... وورثت ملكهم وكل علاء
ولما رجع عن الترفض وتسنن، وكتب على الدراهم والدنانير الشهادتين وأسماء الصحابة، قال بعض الشعراء في ذلك:
رأبت لخربندا اللعين دراهماً ... يشابهها في خفة الوزن عقله(2/259)
عليها اسم خير المرسلين وصحبه ... لقد رابني هذا التسنن كله
محمد بن أرغون
ابن الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير سيف الدين أرغون.
كان والده نائب الديار المصرية، وكافل الممالك، وتوجه مع والده لما توجه إلى حلب نائباً، وكان السلطان الملك الناصر محمد قد أمره بالديار المصرية طبلخاناه وأمر معه جماعة منهم الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام والأمير سيف الدين بيدمر البدري نائب حلب وغيرهما، وكان السلطان يحبه ويعظمه ويقربه.
وكان حسن الصورة، بديع الجمال، محاسنه للواصف غير محصورة، أخلاقه لطيفه، وحركاته ظريفة، أظن الشيخ أثير الدين أقرأه العربية، ودربه في النكت الأدبية، وله فيها أبيات نظمها غزلاً، وجودها عملاً، وكان يشكره ويوقره، وللمكارم يوفره:
أفعال من تلد الكرام كريمة ... وفعال من تلد الأعاجم أعجم
كان يتأسى بأخلاق والده، ويتكسب من طارفه وتالده، وزاد عليها فبلغت بالإجادة، وأتى عليها والفرع فيه ما في الأصل وزيادة.
ولم يزل بحلب على حاله إلى أن كسف الموت شمسه، وأطبق على دره المكنون رمسه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الجمعة ثاني عشر شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، ودفن يوم السبت في تربة سودي خارج باب المقام.
محمد بن إسحاق بن محمد
ابن نصر بن صقر، شمس الدين الحلبي الحنبلي ناظر أوقاف حلب.
كان قد باشر نظر الأوقاف وبيده جهات، يلبس لبس الفقراء، وهمته همة الأمراء، يمدحه الشعراء ويجيزهم، وينفلهم عن غيرهم في العطاء ويميزهم، وفيه كرم وسماحه، وعلى محياه قبول وصباحه، وهو مقيم بالخانقاه، والعز والجاه، قد أقاما معه وما فارقاه. وحضر إلى دمشق صحبة قراسنقر فما لاقى بها ولا لاقت به، لمن بها من الكتبة، وكان إذ ضاق عطنه بها قال: ما يحملني إلا تلك الخرية.
وعاد إلى حلب وأحمد فيها المنقلب، وأقام بها إلى حلقت على ابن صقر من الموت عقابه الكاسر، ووقع بسياقه منها بين المخالب والمناسر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شعبان سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده بحلب ثالث عشري جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
كان يذكر أنه سمع من قرابته الضياء، ومن الحافظ يوسف بن خليل.
قال شيخنا البرزالي: وما وجدنا شيئاً من ذلك، وإنما روى عن النجيب عبد اللطيف، سمع منه بالقاهرة مشيخة بن كليب، انتهى.
قلت: وقد رأيته بحلب غير مرة في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وهو شيخ أبيض، أحمر الوجه، نقي الشيب، نظيف الثياب، ورأيت الحلبيين يشكون في شهاداته، وإنما كان فيه كرم وقيام بحقوق الواردين إلى حلب.
وممن امتدحه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة، وأنشدني من لفظه لنفسه:
.................... ... والله لولا شمسها المجتبى
لم يلق راجي حلب زبدةً ... ولم يصادف لبناً طيبا
وأنشدني:
حمى الله شمس المكرمات من الأذى ... ولا نظرت عيناي يوم مغيبه
لقد أبقت الأيام منه لأهلها ... بقية صافي المزن غير مشوبه
كأن سجاياه اللطيفة قهوة ... حباب حمياها بياض مشيبه
وبلغني أنه كان يأخذ القصيدة من شاعرها، ويكتب في قفاها تاريخ إيصالها إليه، ويذكر الجائزة ما هي، ويدعها عنده. فإذا تقدم ذلك الشاعر في الزمان أو صارت له صورة في الدولة، أحضر للناس تلك القصيدة، وقال: هذه أتى بها إلي في الوقت الفلاني، وأجزته عليها بكذا، فعل ذلك بجماعة كبار، وحكي أنه كان تاج الدين بن النصيبي له حجرة شقراء يركبها دائماً. فاتفق أن ركب غيرها في بعض الأيام فرآه شمس الدين بن صقر فقال له: يا تاج الدين أين الشقراء: فقال ابن النصيبي: في استي. فضحك هو ومن سمعه.
محمد بن إسحاق بن لولو
الأمير جلال الدين بن الملك المجاهد سيف الدين بن السلطان بدر الدين الأتابكي، صاحب الموصل.
سمع من النجيب عبد اللطيف " جزء ابن عرفة " ، والحديث المسلسل، و " الثمانيات " و " المصافحات " المخرجة له، وسمع " الجمعة " للنسائي.
محمد بن أسعد بن عبد الكريم
ابن سليمان بن طحا القاياتي، الشيخ الإمام كمال الدين أبو بكر المنصوري.
سمع من النجيب عبد اللطيف وأخيه العز عبد العزيز، وابن الحامض، وغيرهم.(2/260)
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.
وقد أجاز لي رحمه الله تعالى.
وكان معيداً بزاوية الشافعي وبالزاوية المجدية.
محمد بن أسد
الشيخ شمس الدين، الكاتب المجود، المعروف بابن النجار.
كتب عليه جماعة بمدرسة القليجية بدمشق وبداره، وانقطع في آخر عمره مدة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - تاسع عشر ربيع الآخر سنة ست وعشرين وسبع مئة.
محمد بن أسعد بن حمزة
القاضي نجم الدين بن القاضي مؤيد الدين بن الصاحب عز الدين بن القلانسي التميمي، تقدم ذكر والده وجده.
كان نجم الدين رحمه الله تعالى كثير الأدب، وافر الحشمة، قد تمسك فيها بأقوى سبب، زائد التواضع في الرغب والرهب، متيماً عشاقا، يشرب كأس الحب دهاقاً، لا يزال يهيم من المحبة في كل واد، ولا يصده عمن يألفه يد عواد.
وكان في ديوان الإنشاء أولاً، ثم جعل له إلى ديوان الجيش متحولاً، وبيده أوقاف وأنظار، وماله في سعادته أشباه ولا أنظار. وكان يؤدي الأمانة فيما يباشره من الوقوف، ولم يكن له تربص عن الخروج من الحق ولا وقوف، وكان يرجع إلى ديانه وتمسك بعصم الأمانة. إلى أن انكدر نجمه، وانضم عليه لما نزل رجمه.
وكان لا يأكل إلا مما يدخله من وقف والدته دون أوقاف أبيه وجده.
وكان في ديوان الإنشاء أولاً، ولم يسمع له نظم ولا نثر، ويقول: أنا لا أدع الناس يضحكون علي.
ولما جاء الفخري وملك دمشق خرج من ديوان الإنشاء وباشر صحابة ديوان الجيش بدمشق، وكانت بيده أنظار وأوقاف وغيرها يؤدي فيها الأمانة، ويتحرى في مصروفها، وكان قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يثني عليه في ذلك، ويقول: ما رأيت في دمشق مثله.
وكان يدخله من ملكه ووقفه في كل سنة ما يقارب الأربعين ألف درهم، إلا أنه كان مبخلاً، وفي يده مسكة. ويكتب كتابة ضعيفة مرجوفة.
وقف يوم الخميس لملك الأمراء، وسأله الإعفاء من الجامكية إلا الكسوة لا غير، فتعجب ملك الأمراء منه، وخرج من عنده، فمرض يوم السبت وما جاء الخميس الآخر إلا وهو تحت التراب.
محمد بن إسماعيل
السلطان الملك الأفضل ناصر الدين ابن السلطان الملك العالم الفاضل عماد الدين المؤيد بن الأفضل علي ابن الملك المظفر ابن الملك المنصور ابن صاحب حماة تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي. ملك ابن ملك، وذو نسب في البيت الأيوبي يضيء به الليل الحالك، يعطي عطاء الملوك، ويجود بما تخجل من نفاسته الشمس في الدلوك، ويغنم من الثناء عليه بالجواهر التي تنتظم في السلوك، إلا أنه لم يكن محظوظاً في جوده، ولو سمح بما في موجوده.
كان والده رحمه الله تعالى في ذلك أسعد، وأرقى في درج الثناء وأصعد.
وكان الملك الأفضل سليم الباطن عديم الشر للنازح والقاطن، تنسك في وقت وجلس على لباد، ورفض سماع الشعر حتى نقائض الفرزدق وجرير.
وما كان يخلو من ذوق، وعنده فضيلة تزين رب التاج والطوق، كثير التأدب مع من يخاطبه، غزير التعتب على من يقاطعه أو يجانبه، كبير التألب على من يستدعيه لجوده ولا يجاوبه.
ورث السيادة كابراً عن كابر ... كالرمح أنبوباً على أنبوب
وقل أخيراً إلى دمشق من حماه، وترك ملكه فيها وحماه، فأكمده على ذلك الحزن، وطول الغم له الرسن، وحصل له قولنج أعقب بصرع، وألحق بالأصل الفرع. وجف من حياته الضرع، وضاق من أهله وخدمه الذرع، وأفضى الأفضل إلى ما قدم من عمل، وخاب ممن كان يقصده ويرجوه الأمل، ووضع في تابوت ونقل إلى حماه، ورشف العدو من السرور لماه، فعاد من وطنه إلى غير سكن، وناح عليه حتى ناعورة أم الحسن.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بدمشق ليلة الثلاثاء حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
كان والده رحمه الله تعالى، قد سماه في حياته بالمنصور، فلما توفي والده في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة رسم له السلطان الملك الناصر محمد بمكان أبيه في حماة، وسماه بالأفضل باسم جده، ورسم السلطان للأمير سيف الدين تنكز ولسائر نواب الشام أن يجروه على عادة والده في جميع أحواله من المكاتبة وقبول الهدية وسماع الشفاعة وغير ذلك.(2/261)
وطلبه إلى مصر وأقبل عليه، وكتب تقليده بحماة على عادة والده، وأفاض عليه التشاريف الفاخرة، وكان يعطي الناس ويجود عليهم، ويخدم الأكابر وهو مذموم.
وما زال في حماة مروعاً مدة حياته تارة من جهة السلطان، وتارة من جهة تنكز، وتارة من جهة العربان، يأخذون إقطاعاته، وتارة من جهة أقاربه يشكون عليه.
وكان هو في حماة قد ولاني نظر المدرسة التقوية بدمشق نيابة عنه، وزاد معلوم النظر، ولما حضر إلى دمشق توجهت إلى خدمته، فتصدق وأحسن وأجمل، وترددت إليه، وسمعت كلامه غير مرة، وما كان يخلو من استشهاد على ما يقوله بشعر مطبوع، أو مثل مشهور.
ولم يزل على حاله في حماة إلى أن تولى الأشرف كجك، فرسم له بحضوره إلى دمشق، وولي الأمير سيف الدين طقزتمر نيابة حماة، وأن يكون الأفضل بدمشق أمير مئة رأس الميسرة، وأن يطلق له من دخل حماة ألف ألف درهم ومئتا ألف في كل سنة، فوصل إليها في أوائل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، فلم يركب بها سوى مركبين، وحصل له قولنج أعقب بصرع، فتوفي في التاريخ المذكور.
ومن الغريب أن زوجته كانت قد مرضت وأشرفت على الموت، فعمل لها تابوتاً ليضعها فيه إذا توفيت، ويحملها إلى حماة، فتوفي هو قبلها، فوضعته والدته هو فيه بعينه ونقلته إلى حماة. ثم إن زوجته المذكورة توفيت عشية ذلك النهار، وتوجه ابناه إلى مصر صحبة جدتهما، فأكرم نزلها إكراماً لقومها، وأعطي ابنه الأكبر سبعين فارساً، فمات في مصر قبل خروجهم. فسبحان من يقرب الآجال، ويقطع الآمال.
وترك الملك الأفضل - رحمه الله تعالى - عليه من الدين على ما بلغني ممن له اطلاع على حاله فوق الألفي ألف درهم.
وكان الأمير سيف الدين تنكز قد حنا عليه آخراً حنواً كثيراً، وأراد السلطان أن يعزله عن حماة فتوجه تنكز إلى مصر، وشفع فيه، ولما أمسك تنكز تعب بعده، ولزمته مغارم كثيرة، وكثرت الشكاوى عليه، وقل ناصره فتضعضعت أحواله، واختلت أموره، وكان الموت فجاءة آخر خموله - نعوذ بالله من الخمول - .
وقال شاعره وشاعر أبيه جمال الدين محمد بن نباتة يرثيه وأنشدنيها من لفظه:
تغرب عن مغنى حماة مليكها ... وأودى بها من بعد ذاك مماته
وما مات حتى مات بعض نسائه ... بهم وكادت أن تموت حماته
وقال فيه أيضاً قصيدة منها:
بكى الشعر أيام المنى والمنائح ... ففي كل بيت للثنا صوت نائح
ولما ادلهمت صفحة الأفق بالأسى ... علمنا بأن الشهب تحت الصفائح
حيا المزن أسعدني على فقد سادتي ... بدمع كجدواهم على الخلق سافح
أبعد بني شاد وقد سكنوا الثرى ... قريض لشاد أو سرور لفارح
أبعد ملوك العلم والباس والندى ... تشب العلا نار القرى والقرائح
لئن أوحشوا منهم بيوت مقامهم ... لقد أوحشوا منا بيوت المدائح
منها:
تلا فقد إسماعيل فقد محمد ... فيا للأسى من فادح بعد فادح
وزالا فما إنسان عيني بممسك ... بكاه ولا إنسان عيني بكادح
كأن لم يجد بعد المؤيد أفضل ... فمن جذع بذ الجياد وقارح
كأن زناد الفضل لم يور منهما ... سنا شيم ما فيه قول لقادح
منها:
ووالله كانوا في صفات محمد ... إذا نحن أثنينا عليه بصالح
سلام على جنات أجداثهم ولا ... سلام لنار الحزن بين الجوانح
وأنشدني من لفظه لنفسه الأديب علاء الدين علي بن مقاتل الحموي بحماة يرثي صاحبها الملك الأفضل ويعرض بمجيء طقزتمر لحماة نائباً بدله، وهو مملوك لأبيه:
صاحب حماة ما عطي في الدست إلهامات ... بيدق تغرزن عقد بندو على الهامات
دارت عليه رخاخ أفيال وهامامات ... لعب بنفسو على خيل ركبها مات
وأنشدني أيضاً:
يا أولاد الأفضل كسرتوا كسر ما لو جبر ... فقدتم ابن المؤيد نجل ذاك الحبر
تصبروا واندبوا من قد حواه القبر ... فآل أيوب هم أهل البلا والصبر
وأنشدني له أيضاً:
بالأمس يا أولاد الأفضل صاح صايحكم ... على الملا بين غاديكم ورايحكم(2/262)
واليوم صارت مغانيكم نوايحكم ... وابتدلت بمراثيكم مدايحكم
وأنشدني له أيضاً:
محمد المصطفى المختار من منشاه ... من شرف الكون في سابع سما ممشاه
أذاقه الموت من كل الورى تخشاه ... من هو ملك مصر أو من هو ابن شاهنشاه
ولما مات والده الملك المؤيد - رحمه الله تعالى - حضر منه كتاب إلى الأمير سيف الدين تنكز يعلمه بذلك فكتبت أنا الجواب إليه: " جعله الله خير خلف، وهنأ البيت الأيوبي بما ورثه من المجد المؤثل والشرف، وسقى صوب الرحمه أصله الذي فرع دولته الطاهرة وسلف، تقبيل من صدع الهناء جبر قلبه، ومسح كف السرور غمام دمعه الذي كاد هيدبه يذهب بهديه، وينهي بعد الدعاء الذي أجيب بالقبول لإخلاصه رفعه، والولاء الذي لم يضق بالعبودية ربعه ولا ذرعه، والثناء الذي أخجل تغريد الحمام في الخمائل سجعه، أن مثاله الكريم ورد على يد فلان يتضمن ما قدره الله تعالى من وفاة المقام الشريف العمادي الواد مولاناه قدس الله روحه الكريمه، وسقى تربةً ضمته صوب كل ديمه. فوقف للمملوك على الخبر الذي روع العباد، وغدا كل قلب كأنما يجربه على شوك القتاد، ونظر إلى النجوم كأنها خرائد سافرات في حداد، فأرسل المملوك دمعة الصب على الحبيب الذاهب، وأخذ من قسمة الأحزان بين الأنام نصيبه الواجب، وكيف لا يعم الوجود هذا المصاب، وتبين الدموع بسحها شح السحاب، وقد كورت الشمس، ولا تقول انقض الشهاب، وغيض البحر، ولا نقول انقشع الرباب ووهى عماد الملك، ولا نقول انقصمت الأطناب، وفجع بمن أثقلت أياديه الأعناق قبل أن حمل على الرقاب:
ردت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
وللوقت طالع المملوك العلوم الشريفة بذلك، وورد الجواب الشريف يتضمن شمول مولانا بالصدقات الشريفة، وإقامته مقام والده قدس الله روحه، فهنأ الله مولانا بهذه البشرى التي صدقت الرجا، والمسرة التي رقمت سطورها على كافور النهار بعنبر الدجى. وما أحق هذه البشرى أن تهتز لها أعطاف المنابر، وأن تنطق بحمدها ألسنة الأقلام من أفواه المحابر، وأن تعد نعمها أنامل الرايات إذا خفقت، وأن تتورد صفحات السيوف من دم الأعادي إذا امتشقت، والله يجمل الأيام بدولته الزاهره، ويجعل الأقدار على مراده ومرامه متظافره، بمنه وكرمه - إن شاء الله تعالى - " .
فعاد جوابه يتضمن أنه واصل إلى دمشق ليتوجه منها إلى الديار المصرية، فكتبت أنا الجواب إليه: " أعز الله أنصار المقام الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الأفضلي، ولا زال مقامه الشريف بالتحف ملتحفا، ومجده المؤثل بأزاهر المحامد روضه أنفا، وركابه العالي إذا سار أخذت الأرض زينتها، ولبست زخرفاً تقبيلاً يكسب به ثغر الثريا شرفاً، ويغدو على شفة الهلال شفا، بعد أن كان من السقم على شفا. وينهي بعد أدعية رقمت على سرادق الإجابة أحرفا، وعبودية لم يجد الولاء عن إخلاصها مصرفا، وأثنية تنشر على الروض بروداً وتقرأ الحمائم من سجعها صحفا. ورد المثال العالي يتضمن حركة الركاب الكريم إلى الأبواب الشريفة، فكاد قلب المملوك لتلقيه يطير فرحا، ويميد عطف الزمان ومن فيه مرحا، ويكون يوم قدومه يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى. فالله تعالى يجعلها حركةً مقرونةً بالسعود، موصولةً بالميامن التي بها جمال الأيام والأنام والوجود " .
وكتبت أنا إليه عن السلطان الملك الناصر محمد كتاباً ببشارة النيل عقيب وروده من الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة:(2/263)
" أعز الله أنصار المقام الشريف، وجعل رسل الهنا تتوارد على مقامه تترى، وأبهجه بكل نبأ من الخصب يتحرق له البرق حسداً في قلب السحاب ويتحرى، وسره بكل خبر يتفرق به محل المحل ويتفرى، ويعمه بكل وارد يقص عليه حديثاً جعل البر بحراً وملأ البحر برا. أصدرناها إلى مقامه الكريم تجد رعي عهوده، وتفض سلاماً يتردد إليه تردد أمواج البحر في انحداره وصعوده، وتبث ثناء لا يزال بين خفق ألويته وبنوده، وتبدي إلى العلم الكريم أنه ورد ركابنا الشريف إلى محل ملكه، ومجرة فلكه، ومجرى فلكه، فوجدنا النيل المبارك قد جعل الأرض لجه، وأرخى نقاب تياره على وجه كل محجه، وارتفع إلى أن جعل على هضبات السحاب مقره، وزاد إلى أن كاد يمازج نهر المجره، وبعث سرايا مقدماته، فتحصنت في كل فج وفجوه، وانعطف حول أزرار الأهرام كالعروه، وشرب دم المحل فهو من تحت حباب القلوع كالقهوه، واتصف بصفات الأولياء، فبينا هو في أقصى الجنوب إذا هو في أقصى الشمال، والأرض للرجل الصالح خطوه، وأصبح في طلب تخليقه مجدا، وأعد للجدب من تياره سابغة وعداء علندى، ومرق كالسهم في خليجه من قسي قناطره، وخنق المحل بعبراته في محاجره، وبشر أن آلاف الأموال أضعاف ما فيه من الأمواج، وخبرت رقاعه أنه لم يبق فيها محتال ولا محتاج، فأكمل الستة عشرة ذراعاً.
وكتبت إليه أجوبة كثيرة عن الأمير سيف الدين تنكز، منها ما هو جواب على مشمش كافوري أهداه في باكورة السنة، ومنها ما هو عن رخام ملون أهداه وغير ذلك، وهي في الجزء الثامن عشر من " التذكرة " التي لي.
محمد بن إسماعيل بن أسعد
وقيل: ابن أحمد بن علي بن منصور بن محمد بن الحسين الشيباني، الأمير شمس الدين بن الصاحب شرف الدين الآمدي، المعروف بابن التيتي، بتاء ثالثة الحروف مكسورة، وبعدها ياء آخر الحروف، وتاء ثانية وياء النسب.
كان وزيراً بماردين، وحضر أخيراً في الرسلية من الملك أحمد صحبة الشيخ عبد الرحمن الكواشي، ومات من أرسله وحبس رسله، ومات الشيخ عبد الرحمن، على ما ذكرته في ترجمته في " تاريخي الكبير " ، وطلب شمس الدين هذا إلى مصر، وأعطي إقطاعات الحلقة، وترقى إلى أن صار نائب دار العدل في أيام السلطان حسام الدين لاجين.
وجفل به فرس فوقع، فمات - رحمه الله تعالى - في ثامن جمادى الآخرة سنة أربع وسبع مئة بمصر.
روى عن الشيخ بهاء الدين بن بنت الجميزي، وأبي الحسن بن المقبر، وجماعة.
وكانت له مشاركة في نحو ولغة. وروى عنه شيخنا الحافظ أبو الفتح، والشيخ قطب الدين عبد الكريم، وغيرهما.
ومن شعره:
إذا ما الدهر مال عليك يوماً ... وصال بصرفه وسطا وجارا
فثق بالله معتمداً عليه ... يكن لك من صروف الدهر جارا
وإن دارت دوائر ببغي ... عليك وعنك بالإقبال دارا
وشط بك المزار فلا مزار ... وباعد عنك أحباباً ودارا
فلا تجزع ودار وكن صبوراً ... فمن يرجو نجاةً منه دارى
ولا تركن إلى الدنيا وبادر ... بفعل الخير واغتنم البدارا
فإن أخا الجهالة من تولى ... ولم ينظر إلى الدنيا اعتبارا
أنشدني من لفظه شيخنا الحافظ فتح الدين؛ قال: قال الأمير شمس الدين ابن التيتي: أنشدني الزين خالد:
قلت للزين: كيف لا تثبت البع ... ث وتنفي إنكارها للحشر
قال: أثبت. قلت: ذقنك في استي ... قال: انف. فقلت: في وسط حجري
قلت: أخذ هذا المأخذ من قول الأول:
جاء سد يد الدين في وجهه ... أنف له كاد يواريه
قلت له: ماذا القضا؟ قال لي: ... ذا منخري، قلت: أنا فيه
محمد بن إسماعيل بن موسى
الشريف تقي الدين الحسيني الأشقر.
كان يتوكل للناس من الأمراء، وغيرهم وتوكل لأمير حسين بن جندر بك، وتوجه له إلى مصر، وعاد إلى دمشق.(2/264)
ثم أنه شنق روحه في بيته بحارة بلاطة، وكتب ورقة وعلقها في عنقه، يقول فيها: ما آذاني أحد من خلق الله تعالى، وما فعلت هذا بنفسي إلا بسبب الديون التي علي، وخشيت أن أضرب بمقارع الأمير علم الدين الطرقجي. وما كان قد استدان من جامع السلامي، ومن غيره عشرة آلاف درهم وأكلها، فراح ابن جامع وشكاه إلى أوران الحاجب، فرسم عليه وتهدده بالطرقجي، ففعل بنفسه ذلك في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
محمد بن إسماعيل بن أحمد بن سعيد
القاضي الرئيس الكاتب كمال الدين بن الأثير، موقع الدست بالديار المصرية.
كان فاضلاً في صناعته، كاملاً في براعته، فصيحاً في عبارته، مليحاً في إشارته وشارته. يكتب خطاً آنق منالحدائق، وأرشق من الأغيد الذي لطفت منه الخلائق، كتب المناشير الكبار والتواقيع، وأتى فيها بمقاصد الكتاب المطابيع، فكان كما قال الغزي:
تصيخ له الأسماع ما دام قائلاً ... وتعنو له الأبصار ما دام كاتباً
ولم يزل على حاله في توقيع الدست بمصر إلى أن أصبح مسجى.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة النصف منه سنة إحدى وعشرين وسبع مئة. ودفن بالقرافة، وكانت جنازته حافلة بأرباب الدولة والعلماء والصوفية، وصلي عليه بالجامع الأموي بدمشق، يوم الجمعة سادس عشر ذي الحجة.
ورثاه شيخنا العلامة شهاب الدين محمود - رحمه الله تعالى - بقصيدة طنانة وهي... .
ومن إنشاء القاضي كمال الدين بن الأثير - رحمه الله تعالى - نسخة تقليد للأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري بنيابة دمشق عقيب قدوم الملك الناصر من الكرك وهو: " الحمد لله الذي أنجز من الألفة للإسلام ما وعد، وأطفأ لهب الخلف، وقد وقد، وأحسن عاقبة المسلمين فيما صدر من أمرهم وما ورد، جاعل الملك من هذا البيت الشريف منتقلاً في عقبه، آيلاً إلى من أصبح ومغناه أهل به لما حل في رتبه، وأضحى وهو مفروض الطاعة على الأولياء في تغير الدهر ومنقلبه. نحمده حمد من يعلم أنه يؤتي الملك من يشاء من عباده، وأن الأقدار جارية على مراده، غير معترض على مشيئته معرض نفسه لعناده.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من رضي بقسمه، وفوض الأمر إلى حكمه، ووقف في زمرة قوم يعلمون أن الله " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه " .
ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي وطأ للإسلام مهاده، وأزال عن جفن الإيمان غمض الشرك وسهاده، واستنفذ من يد الضلالة ربا الحق ووهاده.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أصحاب الحل والعقد ذوي الاجتهاد والجد، وأهل السعي المقترن بالسعد، صلاةً مستمرة الإيراد، متصلة الأوراد، موفيةً بالمراد مؤذنةً للرائد بخصب المراد، وسلم تسليماً.
وبعد: فإن الممالك أولى من قام بنصرها، وقعد بالمصلحة في أمرها، وأقيمت به دعوتها وعزت بعزمه ذروتها، وفوض تدبيرها إلى نظره، وحسنت فيها مواقع أثره، واستقامت هضبة أسها على رايه، واستقلت بمهامها كفالة ولائه، من حمى سرحها وبنى صرحها، وسدد أمورها، وسد ثغرها وثغورها، وحماها من الأيدي المتخطفه، وصانها من الأغراض المتحيفه، واستقل بأعبائها التي آدت، ونهض بحفظها، وقد كانت العزائم همت بأن تفل أو كادت، ووقف المواقف التي تهول، وثبت بحيث الأقدام تزل والأحلام تزول، واصطلى في مضائق الحروب جمرها، وكان فيها بحمد الله في الرأي قيسها، وفي الإقدام عمرها، وهو الجناب العالي الأميري الشمسي قراسنقر، ذو الصفات الكامله، والسيرة العادله، والأنا الجميلة والهمم الجليله، والمحاسن الجزيله، والطريقة المتبعه، والأفعال التي لا تخشى منها تبعه، والآراء الصائبه، والمساعي التي لم تشبها في نصرة الإسلام شائبه.
طالما خاض الغمرات، واصطلى الجمرات، وأقدم إقدام الليث، وحرس الممالك من العيث، وأقام الأدلة على فضله، وأجلب إلى الأعداء بخيله ورجله. إليه تشد الرحال في صون الأمور وصلاح الجمهور، واستطلاع خبايا المقاصد، وأخذ الأعداء بالمراصد، وإقامة شعائر الدين، ونصرة حزب الموحدين.(2/265)
وقد اقتضى رأينا الشريف أن نفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس من حدود العرائش إلى سلميه، وجعلنا كلمته في النفاذ باقيه، وعزمته في رتبة المضاء راقيه، واقتضينا في المهمات عقدة عزمه وحله، وأمضينا في مصلحة المملكة تصرفه كله، واستندنا من تدبيره إلى ركن شديد، وعطفنا إلى مضافرته كل جيد، إذ كان الملك بمثله يصان، وبمحاسنه يزان، وبتدبيره يستد ثلمه، وبتفويقه يستد سهمه. وقد قلدناه منا سيف اعتناء مطلق الحد، ومضافرة غير متناهية إلى حد، ومنحناه اهتماماً يكفيه ما أهم، ومعاضدةً لرأيه الذي يشرق في ليل الخطب إذ ادلهم، وقبولاً يبلغه من رفعة القدر ما يريد، واتحاداً أقرب إلى الداعي من حبل الوريد.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري، لا زالت دولته مباركة على الإسلام وأيامه عائدةً بصلات الجميل التي لا تحصرها الأقلام، أن تفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس، وأعمالها وعساكرها وممالكها وقلاعها وبلادها ورعاياها وذخائرها وأموالها، وثغورها ورجالها، وكبيرها وصغيرها، ومأمورها وأميرها، وكل ما يتعلق بها وينسب إليها، على عادة من تقدمه في ذلك كله، علماً منا بأنه أولى من فرع ذروتها، وقرع مروتها، وحلت له حباها، وحمي به حماها، واتسقت به عقودها، وحفظت به عهودها.
فليمض على رسله فيما رتبناه فيها وقررنا، ويتحقق حسن النية فيما أعلنا من أمره وأسررنا، ويدأب في بسط المعدلة والسيرة المجملة، والعمل بالعدل فإنه الطريق المسلوك، وليشمل الرعايا بنظره فإنهم عند الملوك هذه وصيتنا له، وأما عداها من مصالح المسلمين، واعتماد كل ما يقتضي بنصرة المؤمنين، وجند تعرض، وأرزاق تفرض، وأموال تثمر، وبلاد تعمر، وثغور تسد، وعقود تشد، وسطوة تكف الأيدي عن الجور، ومهابة تزعزع كل جبار متعدي الطور، ونظر في المصلحة الخاصة والعامه، وقصد يدل على الخبرة التامه، وشرع يتبع حكمه، وأمر بالمعروف يجدد رسمه، وقلوب تؤلف على الطاعه، وخدم يبذل فيها جهد الاستطاعه، فهو أدرى بما يعاد منها وما يبدا، ولم يزل في طرق الخيرات ولله الحمد أهدى أن يهدى. وهو غني عن شرح فيها يطول، والعمدة في ذلك على الله تعالى ثم على تدبيره المعول.
وسبيل كل من يقف على هذا التقليد الشريف من أمراء الدولة ونوابها ووزرائها ومتحفظي حصونها وولاة أمورها كافة أن يأتمروا بأمره، ويعرفوا له جلالة قدره، وينتهوا إلى إشارته في سر كل عمل وجهره.
والله يشد به قواعد الممالك ومبانيها، ويؤهل بجميل تدبيره معاهدها ومغانيها، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
؟محمد بن إسماعيل بن إبراهيم
الشيخ المسند المعمر أبو عبد الله ابن المحدث نجم الدين.
كان خاتمة أصحاب ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن عبد وغيرهم. وكان قد بقي مسند الوقف.
توفي رحمه الله تعالى في سنة ست وخمسين وسبع مئة عن تسعين سنة.
محمد بن إسماعيل بن عبد المؤمن
ابن عيسى بن أبي بكر بن أيوب الشيخ المسند المعمر الصوفي، المعروف بابن ملوك.
حدث عن العز الحراني وابن الأنماطي، وابن خطيب المزة، وطائفة، وتفرد.
وتوفي بالقاهرة في سنة ست وخمسين وسبع مئة وقد تجاوز الثمانين.
محمد بن إسماعيل بن عمر
ابن المسلم بن حسن بن نصر بن أبي الدم، القاضي الرئيس المعمر المسند عز الدين ابن القاضي الرئيس ضياء الدين ابن القاضي عز الدين أبي حفص الدمشقي، المعروف بابن الحموي.(2/266)
حفظ في صغره " التنبيه " و " الفضول " لابن معط. وسمع الحديث الكثير من الشيوخ. وأجاز له جماعة من شيوخ مكة والمدينة ومصر وحلب وبعلبك وغيرها. وروى عن والده، وتفرد في آخر عمره برواية " السنن الكبير " للبيهقي. ومن مروياته " الموطأ " ، و " مسند " الإمام أحمد بن حنبل، و " صحيح " البخاري، و " صحيح " مسلم، و " سنن أبي داود " ، و " جامع " الترمذي، و " سنن " النسائي وابن ماجه، و " مسند عبد " ، و " مسند الدارمي " ، و " مسند ابن الزبير " ، و " مسند الطيالسي " ، وكتاب " المغازي " للزهري، و " عمل يوم وليلة " لأبي بكر أحمد بن السني، و " مكارم الأخلاق " للخرائطي، و " خطب ابن نباتة " ، و " فوائد " الرازي، و " شرح السنة " للبغوي، و " معالم التنزيل " له، و " الحجة على تارك المحجة " لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي، و " الجعديات " و " الغيلانيات " و " الخلعيات " ، و " مشيخة " ابن البخاري مع ما ذيله الحافظ المزي عليها.
وحدث، وروى كثيراً.
وترك ما بيده من الأوقاف، وأقبل على الرواية، وألحق الصغار بالكبار.
ولم يزل على حاله وملازمة الجامع الأموي إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في أواخر جمادى الآخرة سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الأول سنة ثمانين وست مئة.
محمد بن إسماعيل...
الأمير ناصر الدين أخو الأمير صارم الدين حاجب صفد. تقدم ذكر أخيه مكانه.
كان أحد أمراء العشرات بدمشق، وكان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله يثق بعقله ودينه ومعرفته، فولاه نظر الأوقاف بدمشق في جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، عوضاً عن بدر الدين بن معيد، وولاه نظر الحرمين بالقدس، فتوجه إليها، وعزل، وعاد إليه. وكانت الولاية الأولى في المحرم سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ولم يزل إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن ناجح
الشيخ الفقيه الإمام الزاهد الخطيب ناصر الدين أبو عبد الله الحموي، المعروف بابن القواس وابن النقيري.
نِشأ في خير واشتغال وتصوف بدمشق، ثم إنه انتقل إلى حلب، وتزوج بها، وولي خطابة جامع ألطنبغا نائب حلب، والنظر عليه وعلى أوقافه، وتقدم عنده وأحبه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثامن عشري ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
محمد بن أسندمر
الأمير ناصر الدين بن الأمير سيف الدين الجوكندار.
كان والده من أمراء الطبلخاناه، ثم إنه نقل من مصر إلى صفد، ومن صفد إلى دمشق، ومات بها. وولده هذا ناصر الدين كان أمير عشرة بدمشق.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
محمد بن آقوش
الأمير ناصر الدين ابن الأمير جمال الدين المطروحي.
كان رجلاً جيداً، وعنده دراية.
قال شيخنا علم الدين: وسمع من شيخنا ابن النجار، وحدث.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الاثنين رابع جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن الآقوش
الأمير ناصر الدين، أحد أخوته، وهم الأمير سيف الدين كجكن، والأمير زين الدين أمير حاج، وغرس الدين خليل، أولاد الآقوش.
كان أبوهم أميراً بطرابلس، ولهم وصلة بالأمير سيف الدين قرطاي نائب طرابلس، كان وكانوا آخر الحال مقيمين في حلب، ولما حضر لنيابة دمشق حضر معه ناصر الدين محمد هذا، وحصل له إمرة عشرة، ثم انتقل إلى إمرة الطبلخاناه. ثم إنه تولى نيابة بعلبك فتوجه إليها، وأقام بها قليلاً، ثم إنه عاد إليها نائباً مرة ثانية، ثم أعطي نيابة حمص، فتوجه إليها وأقام بها، فلما أمسك الأمير صرغتمش رسم السلطان الملك الناصر حسن بمصادرته، ومصادرة إخوته وعزلهم من وظائفهم، فأخذ منهم تقدير ثلاث مئة ألف درهم، وأقاموا بدمشق بطالين.
ثم رسم بتوجهه إلى حلب وتوجه أخيه سيف الدين كجكن إلى طرابلس، وبتوجه أخيه زين الدين أمير حاج إلى صفد، وأقاموا كذلك إلى أن خلع الناصر حسن، فرسم بإحضارهم إلى دمشق. ولما حضر السلطان الملك المنصور إلى دمشق في واقعة بيدمر أعطى الأمير ناصر الدين إمرة طبلخاناه.
وحصل له مرض توفي منه في بكرة الاثنين عشري شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
محمد بن أيبك
الأمير صلاح الدين المعروف بابن أيبك الطويل.(2/267)
تنقل في المباشرات في أيام الأمير سيف الدين تنكز، فباشر شد الساحل وولاية الولاة بالصفقة القبلية، ثم تنقل في نيابة الرحبة وجعبر مرات، وكاد في واقعة الأمير سيف الدين تنكز ينعطب، لأنه كان في جعبر نائباً، وكان قد أودع عنده زردخاناه، وطلب إلى مصر عقيب الواقعة، فأصلح أمره، ونجاه الله تعالى، وعاد.
ولما كان في آخر الأمر جهز إلى صفد صحبة الأمراء الذين جهزوا إلى محل إقطاعاتهم، فأقام بها قريباً من نصف سنة.
وتوفي في العشر الأواخر من شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون صفد.
وهو أخو الأمير علاء الدين علي بن أيبك الطويل.
محمد بن أيوب بن علي
ابن حازم الدمشقي الشافعي، المعروف بابن الطحان، نقيب السبع والشامية بدمشق.
تفقه وقرأ بروايات، وأذن مدة بتربة أم الصالح.
وكان فاضلاً مناظراً حسن الخلق، وفيه وسوسة في أمر المياه.
سمع مع زوج خالته النجم بن الشاطبي، ومن عثمان خطيب القرافة جزءاً، ومن الزين خالد والكرماني ويوسف بن يعقوب الإربيلي، وعجز وانقطع بالشامية، وسمع منه جماعة الطلبة.
قال شيخنا الذهبي: ورويت عنه " المعجم " .
قلت أنا: وسمعت عليه بقراءة ابن طغريل الجزء الثاني من الأول من " فرائد " القاضي أبي الحسين عبد الباقي بن قانع بن مرزوق الحافظ بالمدرسة الرواحية.
ومولده سنة اثنتين وخمسين وست مئة في شهر ربيع الأول.
محمد بن أيوب
الفقيه العالم شمس الدين أبو عبد الله الأشقر الزرعي.
سمع الكثير، ودار على الأشياخ في أيام ابن البخاري، ونظم الشعر وحدث.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده قبل الستين وست مئة.
محمد بن أيوب بن عبد القاهر
الإمام بدر الدين التاذفي شيه القراء بحماة، الحنفي الحلبي.
تلا على الفاسي، وسمع من ابن علاق، وابن العديم، وجماعة. وقرأ بنفسه، وتميز وصنف.
قال شيخنا الذهبي: أخذت عنه مباحث، وسمعنا منه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بحماة في شهر رمضان سنة خمس وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة.
قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن ابن علاق " جزء " القدوري، وأقرأ الناس زماناً بدمشق، وكان معيداً في المدارس الحنفية، وكان عارفاً بالعربية والقراءات و " شرح قصيدة الصرصري " الطويلة في مجلدين، ونسخ كثيراً. وكان يكتب المصاحف على الرسم، وأقام إمام الربوة مدة بعد الثمانين، وكان يقرئ نائب السلطنة عز الدين الحموي، ثم إنه سكن حماة.
محمد بن بادي بن أبي بكر
ابن عثمان بن بادي، شمس الدين الطيبي نسبة إلى الطيب، لأنه كان يصنع فتائل العنبر، وكان يهدي إلي منها كل قليل.
وكان يتطور أطواراً، مرة يكون معلم كتاب بدمشق، وتارة يسافر إلى طرابلس ويقيم بها، ثم ينتقل إلى حلب وغيرها.
وفي آخر أمره، أقام في بيروت واتخذها سكناً، ثم إنه كان يقرأ فيها الحديث بالجامع ويحضر إلى دمشق في كل سنة، لما كان يباشر في فرع الحرير، ويعود إلى بيروت.
وكان يحل التقويم، وعلى ذهنه أشعار وحكايات، وما تمل محاضرته.
ولم يزل على حاله إلى أن بلغتني وفاته في ثغر بيروت في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة.
وسألته عن مولده فذكر لي: أنه في سنة ثمان وثمانين وست مئة في شهر رمضان بالقاهرة.
وأنشدني من لفظه لنفسه في العيون الزجاج التي يعانيها من ضعف بصره لرؤية الخط الدقيق، ويضعها على أنفه:
لهفي على دولة التصابي ... وحق لي أن يزيد لهفي
كانت عيوني من فوق خدي ... فاليوم أمست من فوق أنفي
محمد بن بتخاص
الأمير ناصر الدين بن الأمير الكبير سيف الدين بتخاص المنصوري العادلي.
كان قدم إلى الشام في خدمة الأمير سيف الدين سلار، ثم رجع معه وشوش ووصل إلى القاهرة مريضاً، وأقام عشرة أيام وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده في عاشوراء سنة سبع وسبعين وست مئة.
وكان شاباً حسناً فصيح العبارة، كثير الحياء، حسن الهيئة محباً للعلوم، واشتغل وحصل وسمع الحديث.
محمد بن بركات
ابن أبي الفضل بن أبي علي الشيخ تقي الدين أبو عبد الله ابن الشيخ الصالح البعلبكي.(2/268)
سمع من الفقيه محمد اليونينى، وحدث عنه. وسمع بدمشق من ابن أبي اليسر، والنجم بن النشى، وشيخ الشيوخ، وهو سبط الشيخ إبراهيم بن محمود البطائحي البعلبكي، وكان شيخ الخانقاه الشبلية بظاهر دمشق.
قال شيخنا علم الدين: قرأت عليه " جزء ابن عرفة " و " جزء ابن جوصا " .
وتوفي رحمه الله تعالى بحصن الأكراد في ثالث عشري شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين ببعلبك.
وقد تقدم ذكر أخيه إبراهيم وذكر أخيه الشيخ محيي الدين عبد القادر أيضاً.
محمد بن بكتاش
الأمير ناصر الدين متولي دمشق كنت أعرفه أولاً مشد غزة والساحل في أواخر أيام الأمير سيف الدين تنكز، وسرقت له عملة من بيته بدمشق، ولم يقع لها على خبر إلى آخر وقت، وقيل: إنها كانت بخمسين ألف درهم.
ثم إنه بعد ذلك تولى مدينة دمشق، فعمل الولاية على أتم ما يكون من الصلف الزائد والعفة والأمانة، ثم إنه وقع في أيامه حريق دمشق الذي أمسك بسببه النصارى وجرى لهم ما جرى، وورد كتاب الملك الناصر محمد إلى تنكز يقول فيه: هذا فعل أهل دمشق كراهةً في ابن بكتاش: فلما أمسك تنكز رسم بعزله، فبقي بطالاً مدة.
واحتيج إليه لأجل دربته ومهابته في الولاية، فأعيد إليها بلا انقطاع، ثم عزل عنها وبقي مدةً بطالاً. ثم إنه جهز إلى حماة مشد الدواوين بها، فأقام هناك سنة ونصفاً تقريباً، ثم إنه طلب هو وناظرها القاضي شرف الدين حسين بن ريان إلى مصر، فتوجها، وعاد القاضي شرف الدين وهو على حاله إلى حماة، وحضر الأمير ناصر الدين بن بكتاش نائب المرقب وأعطي طبلخاناه وخرجت عنه، وبقي في طرابلس أميراً، فلما كان طاعون طرابلس توفي ابنه الأصغر وجماعة من أهل بيته، فنزح عن طرابلس، فماتت ابنته في الطريق، فجاء إلى بعلبك ليدفنها، ونزل على رأس العين، فحضر إليه نائب بعلبك بطعام، وأقسم عليه أن يأكل، فأكل بعض شيء.
وتوفي إلى رحمة الله تعالى عقيب ذلك في أواخر شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة ودفن رحمه الله تعالى إلى جانب ابنته.
وكان قد ولي شد خاص داريا ودومة في أيام تنكز، وكان يهز رأسه دائماً، وكان مع هذه المعرفة والمهابة والدربة إذا أنشد الشعر لا يقيم وزنه، قال لي صلاح الدين محمد الكبتي الدمشقي وكان صاحبه كثيراً: كان ينشد:
قد أقبل المنثور يا سيدي وأمير الناس كلهم ومخ من يشناك مثل اسمه
محمد بن بكتاش
الأمير ناصر الدين ابن الأمير بدر الدين أمير سلاح.
توفي في ثامن عشري جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبع مئة ودفن بتربة والده برا باب النصر بالقاهرة.
محمد بن بكتمر
الأمير ناصر الدين بن الأمير الكبير سيف الدين الجوكندار، كافل المملكة بالديار المصرية.
كان من رشاقته كأنه غصن بان، ومن هيفه يكاد يعقده النسيم ألوان.
ولم يكن في مصر والشام من يلعب بالكرة مثله، وكل طبجي في الإثليمين يعرف في ذلك فضله. ويقول ما عندي منه إلا فضله، كأنه على ظهر جواده عقرب أبو برق يتسرع والكرة أمامه كوكب. رأيته بصفد وهو يلعب مرات، وللكرات قدامه غدوات وكرات.
وكان قد ربي هو والسلطان الملك الناصر محمد، وما يدعوه إلا بأخي، ولا يرى إلا وهو ينتخب له كل وقت وينتخي.
ولما كان في الكرك كانت كتبه لا تنقطع عنه البتة، إما أن تجيء إلى ميعاد وإما أن تجيء بغته. ولما توجهوا إلى مصر بقيت له المكانة العليا، وضاقت بسعادته الدنيا، إلا أن المدة ما طالت، وما زارت حتى زالت، وكان كأنه كوكب السحر في قصر عمره، أو الزهر الذي أينع فاجتني لطيب نشره.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، ودفن بالقرافة، وتجرع أبوه غصته. وما أمكنه أن يشرح قصته.
كان الأمير علاء الدين بن الجوكندار طبجي الشام يجيء إلى صفد كل قليل ويلعب هو وناصر الدين فيرى الناس منهما أمراً عجيباً.
محمد بن بكتوت
ناصر الدين بن بدر الدين، الكاتب المجود، المعروف بالقرندلي، لأنه لبس زيهم في حلب.(2/269)
كان قادراً على الكتابة. وله فيها رأي، لا تفارقه الإصابة. كتب الأقلام السبعة، وكاد فيها يسمو على الثريا رفعة. يدعي أنه كتب على ابن الوحيد، وما قوله في ذلك بسديد، وإنما كتب في بعلبك على خطيبها، وفاز من طريقة ابن الوحيد بلذاتها وطيبها، ونسخ من المصاحف الكريمة والمجلدات كثيراً. وعلى الجملة فكان على الكتابة قديرا.
ولم يزل يكتب إلى أن محي اسمه من المحيا، ونزل إلى قرار اللحد بعد العليا.
وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، في يوم الاثنين خامس عشر شهر ربيع الأول.
حكي له أنه لبس زي القرندلية بحلب ودخل بينهم وهو ينسخ فقالوا: ما هذا؟ ما هو طريقنا. قال: فقلت لهم: أنتم تعلمون هذه القلائد الصوف، فقال له من بينهم واحد: أريد أن أنزل أنا وأنت في هذه البركة بالبلاس، فقال: فنزلت معه في يوم بارد في مثل حلب، فبقينا نغطس إلى أن عجز هو وطلع، فلما أعياهم قالوا له: فينا واحد يكاثرك في أكل الحشيش، فقلت: أحضروه قال: فأحضروه وجعلوا يلقموننا وأنا وهو نأكل إلى أن نزل الدم من منخريه، وأظنه قال: مات، فعند ذلك أخرجوه من بينهم.
وكان الذي أغواه في الكتابة القاضي جمال الدين بن ريان - رحمه الله تعالى - فإنه رأى خط يده القابلة فلازمه، وجعل ينسخ له المجلدات، فنسخ له " الكشاف " وغيره، ورتب له الدراهم والطعام، وألزمه بالكتابة فأجاد، وكتب أولاده وغيرهم في حلب.
وحكى لي جماعة عنه أنه كان يضع المحبرة في يده الشمال والمجلد من الكشاف على ونده ويكتب منه وهو يغني ما شاء اللهولا يغلط، وكان قليل اللحن فيما يكتبه، وأما أنا فرأيته غير مرة يكتب ويغني ولا يغلط.
وكان قد أقام أولاً بحماة عند الملك المؤيد صاحبها ينسخ له، فأحب امرأة تعرف ببنت النصرانية، فكان كل ما يحصله ينفقه عليها، ويشتغل بها عن الكتابة، فشق أمره على الملك المؤيد، فنفاها إلى شيزر، فحكى لي أنه كان يكتب في حماة إلى المغرب، ويجري من حماة إلى شيزر، ويبيت عندها، ويقوم من آذان الفجر ويجري إلى حماة ويكتب، وأقام على ذلك سنة وكانت قد تعنتت عليه يوماً وقالت له: إن كنت تحبني فاكو لي في رأس صليباً. ورأيت أنا كي الصليب في يافوخه، وكتبت أنا عليه أربعة عشر سطراً قلم الرقاع، ثم إنه امتنع من توقيفي، ولم أكتب بعده على غيره.
وكان كاتباً مطيقاً كتب من الربعات والختم بقلم الفضاح والمحقق الكبير في قطع البغدادي كاملاً ومن الهياكل المدورة والمجلدات شيئاً كثيراً.
محمد بن أبي بكر بن محمد
الشيخ الإمام، العالم شمس الدين الأيكي، بهمزة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة وبعدها كاف، كان قاضي القضاة جلال الدين القزويني يقول: هو بكسر الهمزة.
وكان فاضلاً في المقولات، كاملاً في المنقولات، وكان يكشف أسرار " الكشاف " وهو لما فيه من أمراض الاعتزال كالشاف، يدري دقائقه، ويمري حقايقه، ويقرئه الطلبة ويقريه، ويفرق بذهنه ما فيه من الغمود في الغموض ويفريه.
وكان في علم التصوف إماما، وفي فن التعريف لمن تقدم ختاما، لو عاصر المعري لأملى في وصف الأيكي أيكه وغصونه، أو سنان الراشدي لأنزله معاقله وحصونه.
ولم يزل على حاله في الإفاده، والتفرد في فنونه بالإجاده، إلى أن خرست تلك الفصاحه، وكرر الحمام في الأيك عليه النياحه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الجمعة قبل العصر ثالث شهر رمضان سنة سبع وتسعين وست مئة، بالمزة في دمشق.
وله شرح على أول " مختصر " ابن الحاجب، تكلم على منطقه. ودرس بالغزالية، وولي مشيخة الشميساطية، وولي مشيخة الصلاحية بالقاهرة، وتكلم فيه الصوفية، وحضر قاضي القضاة تقي الدين وقال: يا شيخ شهد عليك جماعة من الصوفية بكذا وكذا، فقال: أنت تنكل بي في هذا الجمع نكل الله بك. فقال قيموه: فأقيم وهو يقرأ: " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " ولما قال: " فسبح بحمد ربك " ما قال: ادفع بحيلك وقوتك، وتوجه إلى الشام وأقرأ الجماعة " الكشاف " .
وقيل إنه وصف للشيخ بدر الدين بن مالك ومعرفته " الكشاف " ، فحضر ليلةً درسه وسمعه وهو يتكلم، فلما فرغ قال له: يا شيخ بدر الدين ما سمعتك تتكلم. قال: كيف أتكلم ومن وقت تكلمت إلى أن سكت، عددت عليك ثلاثين لحنة.
وفيه يقول شيخنا العلامة شهاب الدين محمود:
بنت فبات الطيف لي مؤنساً ... يبيحني جنة خديك(2/270)
وطالما أملتها يقظة ... فصد عنها سيف جفنيك
ولم أخل أن حمام اللوى ... في الأيك يغني عن رقيبيك
نفر نوماً كان مثل الصبا ... يعطف لي إن ملت عطفيك
فلا رعى الله حمام اللوى ... ولعنة الله على الأيك
وكان سبب نظمها أن الأيكي تكلم في حق الإمام أحمد رضي الله عنه وثار الحنابلة عليه. ولما بلغه قال: والله لقد تلطف في الهجو، وكان شيخنا أبو الثناء بعد موته لا ينشدها إلا ويقول: ورحمة الله على الأيك.
وبعض الناس قال فيه: اسمه أحمد بن أبي بكر.
قلت: واشتهرت هذه الأبيات كثيراً، وسلك هذه الطريقة جماعة ممن عاصره. فقال النصير الحمامي:
مذ أحضرتني زوجتي حاكما ... أنكرت ما قد كان من حقي
فأخرجت رق صداق لها ... رد كلام الكل في حلقي
وكان ذاك الرق أصل البلا ... فلعنة الله على الرق
وقال النور الإسعردي:
ورب خل قلت إذ قدم لي ... خلاً وقباراً على سماط
لا آكل القبار من بغضي له ... ولعنة الله على الخلاط
محمد بن أبي بكر
ابن عبد الرحمن بن عبد الله، الشيخ الصالح أبو عبد الله الكنجي.
جاور بالجامع الأموي مدة طويلة أكثر من ستين سنة، وسمع كثيراً بعد الخمسين وست مئة على الزين خالد، والخطيب عماد الدين بن الحرستاني وغيرهم.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ربيع الآخر سنة سبع مئة، وحضر جنازته القضاة والعلماء والصلحاء، وكان قد بلغ التسعين سنة.
وسيأتي ذكره ولده محمد بن محمد بن أبي بكر.
محمد بن أبي بكر بن خليل
ابن إبراهيم بن يحيى بن فارس، الإمام رضي الدين المعروف بابن خليل المكي الشافعي.
كان فقيهاً عالماً، مفنناً، ذا فضائل ومعارف وعبادة وصلاح وحسن أخلاق، سمع منه شيخنا البرزالي وابن العطار، وأجاز لشيخنا الذهبي مروياته.
وولد في أيام التشريق بمنى سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
وكان يعرف " التنبيه " جيداً، وحفظ " المفصل " في النحو للزمخشري.
محمد بن أبي بكر بن عبد السلام
ابن إبراهيم الصالحي المقرئ الحفار، يعرف بابن الطبيل.
كان شيخاً معمراً ذا جلادة وهمة وملازمة للجماعة.
سمع " الصحيح " من ابن الزبيدي. وحدث عنه ابن الخباز في معجمه في حياة ابن عبد الدائم، وسمع منه ابن البرزالي، وأخذ شيخنا الذهبي عنه ثلاثيات البخاري وغير ذلك.
وتوفي في سنة إحدى وسبع مئة - رحمه الله تعالى - .
محمد بن أبي بكر بن إبراهيم
ابن هبة الله بن طارق الأسدي الحلبي الصفار، الشيخ الصالح المعمر المسند أمين الدين، نزيل دمشق، المعروف بابن النحاس.
سمع لما حج مع إخوته من صفية القرشية، ومن شعيب الزعفراني بمكة، ومن يوسف الساوي وابن الجمزي بمصر، ومن ابن خليل بحلب، وأجاز له أبو إسحاق الكاشغري وطائفة. وأضر، وتفرد، وعجز وانحطم، وأبطل الحانوت.
وكان ساكناً خيراً عامياً، وله دنيا، وفيه بر، وما تزوج قط ولا احتلم، ثم إنه قدح بعدما أضر فأبصر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة عشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة.
محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم
شيخ الإمامية وعالمهم شمس الدين الهمداني الدمشقي السكاكيني الشيعي.
قال شيخنا الذهبي، رحمه الله تعالى: حفظ القرآن بالسبع، وتفقه وتأدب، وسمع في حداثته من الرشيد بن مسلمة، والرشيد العراقي، ومكي بن علان وجماعة، وخرج له ابن الفخر عنهم.
وربي يتيماً فأقعد في صناعة السكاكين عند شيخين رافضيين، فأفسداه، وأخذ عن أبي صالح الحلبي، وصاحب الشريف محيي الدين بن عدنان.
وله نظم وفضائل، ورد على التلمساني في الاتحاد. وأم بقرية جسرين مدة، ثم أخرج منها. وأم بالسامرية، ثم إنه أخذه منصور بن جماز الحسيني معه إلى المدينة، لأنه صاحبها، واحترمه. وأقام بالحجاز سبعة أعوام، ثم رجع.
وهو شيعي عاقل، لم يحفظ عنه سب، بل نظم في فضائل الصحابة.
وكان حلو المجالسة، ذكياً عالماً فيه اعتزال، وينطوي على دين وإسلام، وتعبد، على بدعته، وترفض به ناس من أهل القرى.(2/271)
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية، رحمه الله تعالى: هو ممن يتشيع به السني، ويتسنن به الرافضي. وكان يجتمع به كثيراً وقيل: إنه رجع آخر عمره عن أشياء.
نسخ " صحيح " البخاري، وكان ينكر الجبر ويناظر على القدر.
وتوفي في سادس عشري صفر سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة.
قلت: لما كان يوم الاثنين حادي عشري ذي الحجة سنة خمسين وسبع مئة، أحضر صلاح الدين محمد بن شاكر الكبتي بدمشق إلى شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى كتاباً في عشرين كراساً قطع البلدي في ورق جيد، وخط مليح سماه مصنفه " الطرائف في معرفة الطوائف " افتتحه بالحمد لله وشهادة أن لا إله إلا الله فقط. وقال بعد ذلك: " أما بعد فإنني رجل من أهل الذمة ولي على الإسلام حرمة، فلا تعجلوا بسفك دمي قبل سماع ما عندي، ثم أخذ في نقض عرا الدين عروة بعد عروة، وأورد أحاديث وتكلم على متونها، وتكلم في جرح الرجال وطعن عليهم، كلام محدث عارف بما يقول، وذكر أموراً دلت على زندقته وتشيعه، وختم ذلك بأن قال: ولله القائل:
فإن كنت أرضى ملةً غير ملتي ... فما أنا إلا مسلم أتشيع
وشهد صلاح الدين المذكور وآخر من أهل الحديث المعروفين بأن هذا خط شمس الدين السكاكيني، فظهر من ذلك أنه تصنيفه، لأنه قال في فهرست الكتاب المذكور: تصنيف عبد المحمود بن داود المصري، وقال شيخنا عماد الدين بن كثير: الأبيات التي كتبت للشيخ تقي الدين، أولها:
أيا معشر الإسلام ذمي دينكم ... ........................
وقد ذكرتها أنا في ترجمة الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي كاملة لهذا السكاكيني. فقطع شيخنا قاضي القضاة هذا الكتاب الملعون وغسله وحرقه، قال - رحمه الله تعالى: أخذته معي إلى بستان لأنظر فيه ونويت تقطيعه وغسله، ثم إنني انتبهت في الليل وقلت لنفسي: لعلك يا علي لا تصبح غداً، فقمت في الليل وقطعته وغسلته، قلت: والله أعلم لحقيقة حال هذا الرجل.
ولكن الذي ظهر لنا أنه كان متزندقاً، غير مسلم.
وقالوا: إن قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم رجع من جنازته.
ونقلت من خط شيخنا علم الدين البرزالي، قال أنشدني لنفسه:
أجزت لهم ما يسألون بشرطه ... أثابهم ربي ثواب أولي العلم
ووفقهم أن يعملوا بالذي رووا ... فعال أولي الإخلاص والجد والعزم
وكاتبها العبد الفقير محمد ... هو ابن أبي بكر بن قاسم العجم
ومولده في عام خمس وبعدها ... ثلاثون والست المئون لدى النجم
ونقلت منه أيضاً ما خاطب به صاحب المدينة منصور ورميثة صاحب مكة:
ألا يا ذوي الألباب أصغوا لناطق ... بحق وباغي الحق من ذا يدفعه
إذا لم نسل النبي محمد ... نتابعه في الدين من ذا نتابعه
فإن كان مسبوقاً وذو البعد سابقاً ... إلى المصطفى والدين من ذا يمانعه
فكم من بعيد للشريف معلم ... طرائق آباء له وهو سامعه
وهذا بديع في الزمان وأهله ... وما زال الدهر جم بدائعه
ونقلت من خط الشيخ شهاب الدين بن غانم، قال أنشدني الشيخ شمس الدين السكاكيني لنفسه:
هي النفس بين العقل والطبع والهوى ... وما العقل إلا كالعقال يصونها
فداعي الهوى يدعو إلى ما يشينها ... وداعي النهى يدعو إلى ما يزينها
فإن أطلقت من غير قيد توثبت ... على حظها الأدنى وزاد جنونها
وإن نظرت بالعقل ينبوع نوره ... أضاءت لها الظلمات طاب معينها
وحنت إلى الذكر الحكيم تدبراً ... رياض معانيه وذاك يعينها
وفزت به منه إليه محققاً ... وعادت إلى الأكوان تزكو فنونها
فأكرم بها نفساً زكت مطمئنةً ... بمجبوبها قرت لديه عيونها
فياذا الذي ضيعت نفسك في الهوى ... تروم لها عزاً وأنت تهينها
أجب إذا دعاك الحق طوعاً لأمره بطيب رضا نفس قوي يقينها
ولا تبخلن بالنفس إذ هي ملكه ... إليه بها فارجع فأنت أمينها(2/272)
قال شيخنا علم الدين البرزالي: حدثني قاضي القضاة شمس الدين محمد بن مسلم الحنبلي، قال: كنت بالجامع بعد الجمعة وقد أحضرت جنازته، فقمت وصليت عليه ومشيت مع الجنازة إلى قريب المدرسة الركنية، فأخبرت أنها جنازته، فرجعت من هناك، ولم أشهد دفنه، وذلك لأنه كان رافضياً داعية إلى الرفض، أقام بعدة قرى فرفض أهلها وأخرج من الصالحية لهذا السبب.
محمد بن أبي بكر بن عمر
ابن محمد، قاضي الممالك القانية، برهان الدين، أبو عبد الله السمرقندي النوجاباذي الحنفي البخاري، قاضي المغل.
كان صدراً معظما، وعالماً مفخما، كثير الكيس واللطافة، عزيز النفس التي تحف أخلاقه وأعطافه، حسن المذاكره، جميل المحاولة والمحاوره، يلازم الملوك والزراء، ووجوه الدول والأمراء.
ولم يزل على حاله في وجاهته وعظم قدره ونباهته إلى أن سلب روحه، وعمر بجسده ضريحه.
وتوفي - رحمه الله تعالى.... - سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وأربعين وست مئة.
قدم بغداد مراراً، وروى بالإجازة عن سيف الدين الباخرزي، يقال إنه سمع منه. قال شيخنا الذهبي: ولم يصح.
ولما كمل من عمره ثمانين سنة عمل وليمة عظيمة، واتفق موته بعدها بجمعة، وكانت وفاته قريباً من تبريز.
وأخذ عنه السراج القزويني ومحمد بن يوسف الزرندي وأجاز لأولد شيخنا الذهبي.
محمد بن أبي بكر بن عيسى
ابن بدران بن رحمة، الإمام قاضي القضاة، علم الدين الأخنائي، بهمزة وخاء معجمة ونون وألف ممدودة، السعدي المصري الشافعي، قاضي قضاة الشام.
حدث عن أبي بكر الأنماطي، والأبرقوهي، وابن دقيق العيد، وتفقه، وشارك، وكان من عدول الخزانة بالديار المصرية. ثم إنه ندب لقضاء الإسكندرية.
ولما توفي شيخ الشيوخ علاء الدين القونوي بدمشق رسم له السلطان بقضاء الشام، وحضر صحبة الأمير سيف الدين تنكز من القاهرة، وكانت ولايته في الإصطبل السلطاني يوم السبت بعد العصر رابع المحرم سنة ثلاثين وسبع مئة، ووصل إلى دمشق يوم الجمعة رابع عشري المحرم.
كان عالماً، ساكناً صيناً، وافر الجلاله، سافر البساله، متوسطاً في العلم، كتبسطاً في الحلم، محمود السيرة، مجهود السريرة، سلفي الطريقه، سلفي الحقيقة، يحب الروايه، ويعتني بها أتم عنايه.
ولم يزل على حاله إلى أن أخنى على الأخناي دهره، وضمه بعد علو منصبه قبره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثالث عشر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده عاشر شهر رجب سنة أربع وستين وست مئة.
وتولى بعده قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن جملة. وكان القاضي علم الدين قد لازم الدمياطي مدة.
ومن أمداح الشيخ جمال الدين محمد ابن نباته فيه، قوله:
قاضي القضاة بيمنى كفه القلم ... يا ساري القصد هذا البان والعلم
هذا اليراع الذي تجني الفخار به ... يد الإمام الذي معروفه أمم
معيي الأماثل في علم وفيض يد ... فالسحب باكية والبحر ملتطم
وافى الشآم وما خلنا الغمام إذاً ... بالشام ينشأ من مصر وينسجم
آهاً لمصر وقد شابت لفرقته ... فليس ينكر إذ يعزى لها الهرم
وأوحش الثغر من رؤيا محاسنه ... فما يكاد بوجه الدهر يبتسم
ينشي وينشد فيه الثغر من أسف ... بيتاً تكاد به الأحشاء تضطرم
يا من يعر علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم
يزهى الشآم بمن فارقت طلعته ... واحر قلباه ممن قلبه شبم
محمد بن أبي بكر بن عيسى
قاضي القضاة تقي الدين الأخنائي المالكي الحاكم بالديار المصرية.
أجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة في شهر رمضان.(2/273)
تولى الحكم بالديار المصرية في... وأقام على حاله إلى أن طلع القلعة ليحضر دار العدل، فرأى السلطان الملك الناصر من نظرة حاله فهم منها أنه يعمى، قال شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي: فأرسل إليه السلطان من قال له: انزل إليه فما تجده قد وصل إلى بيته إلا وهو أعمى، فلما وصل إليه الرسول وجده قد عمي بماء نزل في عينيه، فلما أخبره بذلك قال له: أشتهي من صدقات السلطان أنه كما فهم عني هذا الحال يكتمها علي ويدع منصبي علي إلى أن أعالج نفسي، فقبل السلطان ذلك، وترك منصبه عليه مدة ستة أشهر إلى أن قدح عينيه وأبصر وطلع القلعة ونزل، أو كما قال.
واستمر على حاله إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في طاعون مصر سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وكان السلطان يعظمه ويرجع إلى أقواله في أشياء، ولما عزل القضاة بمصر عزل قاضي القضاة جلال الدين القزويني وقاضي القضاة برهان الدين بن عبد الحق الحنفي، وعزل قاضي القضاة تقي الدين الحنبلي، وأما قاضي القضاة تقي الدين بن الأخنائي فلم يغير عليه شيئاً من حاله، وكان السلطان الملك الناصر محمد قد قال في وقت يوم دار عدل للقضاة: أريد تبصرون لي رجلاً فاضلاً شافعياً يعرف عربية، ويكون ساكناً، لا يدخل في شيء غير التعليم، فأجمعوا كلهم على الشيخ برهان الدين الرشيدي خطيب جامع أمير حسين، وانفصل الحال على ذلك ولم يجر شيء غير ما جرى، ولا طلب الشيخ برهان الدين، وسكن الحال حتى نقب قاضي القضاة جلال الدين القزويني عن السبب، فوجد أن القاضي تقي الدين الأخنائي قال للسلطان: مالك به حاجة، فإنه من أصحاب ابن تيمية، فسكت السلطان ولم يجر بعد ذلك شيء. وكان في نفس قاضي القضاة تقي الدين منه من أيام واقعة شهاب الدين بن مري لما كان يتكلم عنده في الجامع، وجرى ما ذكرته في ترجمة شهاب الدين بن مري.
محمد بن أبي بكر بن ظافر
ابن عبد الوهاب، قاضي القضاة، شرف الدين الهمداني، بسكون الميم وبعدها دال مهملة، المالكي، ابن قاضي القضاة معين الدين أبي بكر ابن الشيخ ركن الدين أبي منصور.
حضر من الديار المصرية إلى دمشق في خامس جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة.
كان ساكناً، كثير الوقار، سعيد الحركات في المحافل الكبار، كثير التجمل في ملابسه، غزير الإطراق والصمت عند مجالسته، لا يرى من حاضره في دسته المكمل، غير أنه " كبير أناس في بجاد مزمل " . إلا أنه وادع السر ليس عنده أذى ولا يطبق أحد جفنه منه على قذى.
وكان الأمير سيف الدين تنكز يجله ويضعه فوق النجوم ويحله.
ولم يزل على حاله إلى أن قضى قاضي القضاة نحبه، وفارق أعزاءه وصحبه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بكرة الأحد ثالث المحرم سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وصلى عليه الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نائب دمشق والأمراء والقضاة والحجاب والأعيان بسوق الخيل، ودفن في تربته التي أنشأها بميدان الحصى، وفي يوم موته حررت قبلة الجامع الذي عمره يلبغا.
وكان شكلاً طويلاً مهيباً يعظمه النواب كلهم ويحترمونه، وكان يعاني الآلات الكبار في جميع ما عنده من دواة وقنديل ومغرز وطاسة، وما يرى أحد مثل القماش الذي يكون عليه ولا أغرب، ولا يرى ألطف من شاشة وقماشه، ولا أطيب من ريحه.
محمد بن أبي بكر بن محمد
ابن طرخان بن أبي الحسن، العالم الفاضل الأديب شمس الدين.
سمع حضوراً من إبراهيم بن خليل، والنجيب عبد اللطيف، وسمع الكثير من ابن عبد الدائم، وكتب المنسوب، وله نظم ونثر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس عشري ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
وأجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وله حضور في شهر رمضان سنة سبع وخمسين وست مئة، وهو في الثانية من عمره. وحضر على إبراهيم بن خليل، والنجيب عبد اللطيف الحراني، وأبي طالب بن السروري، وسمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وعبد الوهاب بن الناصح وجماعة وطلب بنفسه وكتب الطباق، وسمع من جماعة من أصحاب ابن طبرزد ومن بعده، وخرج له ابن خاله شمس الدين بن سعد " مشيخةً " في مجلدين وحدث بها غير مرة.
وكان كاتباً مجيداً، وكان يصحب الأكابر ويخدمهم وله مرتبات جيدة بالشام على الديوان السلطاني.
محمد بن أبي بكر بن أيوب(2/274)
ابن سعد بن حريز الزرعي، الشيخ الإمام الفاضل المفتن شمس الدين الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية.
سمع على الشهاب العابر وجماعة كبيرة منهم سليمان بن حمزة الحاكم، وأبو بكر بن عبد الدائم، وعيسى المطعم، وأبو نصر محمد بن عماد الدين الشيرازي، وابن مكتوم، والبهاء بن عساكر، وعلاء الدين الكندي الوداعي، ومحمد بن أبي الفتح البعلبكي، وأيوب بن نعمة الكحال، والقاضي بدر الدين بن جماعة، وجماعة سواهم.
وقرأ العربية على ابن أبي الفتح البعلي، قرأ عليه " الملخص " لأبي البقاء، ثم قرأ " الجرجانية " ، ثم قرأ " ألفية ابن مالك " ، وأكثر " الكافية الشافية " وبعض " التسهيل " ، ثم قرأ على مجد الدين التونسي قطعة من " المقرب " .
وأما الفقه فأخذه عن جماعة منهم الشيخ مجد الدين إسماعيل بن محمد الحراني، قرأ عليه " مختصر " أبي القاسم الخرقي و " المقنع " لابن قدامة، ومنهم ابن أبي الفتح البعلي، ومنهم الشيخ تقي الدين بن تيمية، قرأ عليه قطعة من " المحرر " تأليف جده، وأخوه الشيخ شرف الدين.
وأخذ الفرائض أولاً عن والده وكان له فيها يد، ثم اشتغل على إسماعيل بن محمد، قرأ عليه أكثر " الروضة " لابن قدامة، ومنهم الشيخ تقي الدين بن تيمية، قرأ عليه قطعة من " المحصول " ومن كتاب " الأحكام " للآمدي.
وقرأ في أصول الدين على الهندي أكثر " الأربعين " و " المحصل " ، وقرأ على الشيخ تقي الدين بن تيمية قطعة من الكتابين، وكثيراً من تصانيفه.
وكان ذا ذهن سيال، وفكر إلى حل الغوامض ميال، قد أكب على الاشتغال، وطلب من العلوم كل ما هو نفيس غال، وناظر وجادل وجالد الخصوم وعادل، قد تبحر في العربية وأتقنها، وحرر قواعدها ومكنها، واستطال بالأصول، وأرهف منها الأسنة والنصول، وقام بالحديث وروى منه، وعرف الرجال وكل من أخذ عنه.
وأما التفسير فكان يستحضر من بحاره الزخارة كل فائدة مهمه، ومن كواكبه السيارة كل نير يجلو حنادس الظلمه.
وأما الخلاف ومذاهب السلف فذاك عشه الذي منه درج، وغابه الذي ألفه ليثه الخادر ودخل وخرج.
وكان جريء الجنان ثابت الجأش لا يقعقع له بالشنان، وله إقدام وتمكن أقدام، وحظه موفور، وقبوله كل ذنب معه مغفور، وكان يسلك طريق العلامة تقي الدين بن تيمية في جميع أحواله، ومقالاته التي تفرد بها والوقوف عند نص أقواله.
وتوجه إلى الحجاز مرات، وحاز ما هناك من المبرات.
ولم يزل على حاله إلى أن دخل تحت رزة الرزيه، وعدم الناس منه لذة الحلوى السكرية وإن كانت نسبته إلى الجوزيه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث عشر شهر رجب الفرد سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى تسعين وست مئة.
وكان محظوظاً عند المصريين من الأمراء، يعطونه الذهب والدراهم، وهبه الأمير بدر الدين بن البابا مبلغ اثني عشر ألف درهم، والأمير سيف الدين بشتاك أعطاه في الحجاز مئتي دينار.
وكان قد اعتقل مع الشيخ تقي الدين بن تيمية في قلعة دمشق بسبب " مسألة الزيارة " ، ولم يزل إلى أن توفي الشيخ تقي الدين، فأفرج عنه في ثالث عشري الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وما جمع أحد من الكتب ما جمع، لأن عمره أنفقه في تحصيل ذلك. ولما مات شيخنا فتح الدين اشترى من كتبه أمهات وأصولاً كباراً جيدة، وكان عنده من كل شيء في غير ما فن ولا مذهب، بكل كتاب نسخ عديدة، منها ما هو جيد نظيف، وغالبها من الكرندات. وأقام أولاده شهوراً يبيعون منها غير ما اصطفوه لأنفسهم.
واجتمعت به غير مرة، وأخذت من فوائده، خصوصاً في العربية والأصول.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
بني أبي بكر كثير ذنوبه ... فليس على من نال من عرضه إثم
بني أبي بكر جهول بنفسه ... جهول بأمر الله أنى له العلم
بني أبي بكر غدا متصدراً ... يعلم علماً وهو ليس له علم
بني أبي بكر غدا متمنياً ... وصال المعالي والذنوب له هم
بني أبي بكر يروم ترقياً ... إلى جنة المأوى وليس له عزم
بني أبي بكر يرى الغنم في الذي ... يزول ويفنى والذي تركه غنم
بني أبي بكر لقد خاب سعيه ... إذا لم يكن في الصالحات له سهم
بني أبي بكر كما قال ربه ... هلوع كنود وصفه الجهل والظلم(2/275)
بني أبي بكر وأمثاله غدوا ... بفتواهم هذي الخليقة تأتم
وليس لهم في العلم باع ولا التقى ... ولا الزهد والدنيا لديهم هي الهم
فوالله لو أن الصحابة شاهدوا ... أفاضلهم قالوا هم الصم والبكم
ومن تصانيفه: " زاد المعاد في هدى خير العباد " أربعة أسفار، " مفتاح دار السعادة " ، مجلد كبير، " تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته " ، نحو ثلاثة أسفار، " سفر الهجرتين وطريق السعادتين " سفر كبير، كتاب " رفع اليدين في الصلاة " ، سفر متوسط " معالم الموقعين عن رب العالمين " ، سفر كبير، كتاب " الكافية الشافية لانتصار الفرقة الناجية " ، وهو نظم نحو ستة آلاف بيت، وهذا الكتاب لما وقف عليه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي أنكره وتطلبه أياماً، " الرسالة الحلبية في الطريقة المحمدية " ، " بيان الاستدلال على بطلان محلل السباق والنضال " ، " التحبير بما يحل ويحرم لبسه من الحرير " ، " الفروسية المحمدية " ، " جلي الأفهام في أحكام الصلاة والسلام على خير الأنام " ، " تفسير أسماء القرآن " ، " تفسير الفاتحة " ، مجلد كبير، " اقتضاء الذكر بحصول الخير ودفع الشر " ، " كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء " ، " الرسالة الشافية في أسرار المعوذتين " ، " معاني الأدوات والحروف " ، " بدائع الفوائد " مجلد.
محمد بن أبي بكر بن إبراهيم
ابن عبد الرحمن الدمشقي، الشيخ الإمام قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب الشافعي، قاضي حمص، وقاضي قضاة طرابلس، وقاضي قضاة حلب، ومدرس الشامية الكبرى بدمشق أخيراً.
كان عالماً حبرا، وحاكماً برا، من قضاة العدل وأئمة الهدى، وحكام الحق الذين تساوى عندهم في القضاء الأحبة والعدا، مع لطف خلق كأنه نسيم، وتواضع يراه محادثه ألذ من كأس تنسيم، سالكاً طريق السلف والأخيار، ناهجاً سبيل السنة والآثار، لم يحك عنه ميل مذ حكمه ولا حيف، ولا جنف تزول به عن المظلوم لذة من قدوم ضيف الطيف، وكان من بقايا الأئمة، وخبايا هذه الأمه.
ولم يزل على حاله بدمشق إلى أن طرق الموت لابن النقيب طريقه، وترك العيون بالدموع غريقه، والقلوب بالأحزان حريقه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة خمس وأربعين وسبع مئة، ومات عن بضع وثمانين سنة.
وحدث عن ابن النحاس وطائفة.
وكان قد تفقه على الشيخ محيي الدين النواوي - قدس الله روحه - وقال له يوماً: أهلاً بقاضي القضاة ومدرس الشامية، فما مات رحمه الله تعالى حتى نال ذلك أجمع ببشرى الشيخ له.
وسمع من ابن البخاري وغيره، وكان عنده خمائر في الفقه من الشيخ محيي الدين، ويعرف " شرح العمدة " للأحكام الذي لابن دقيق العيد معرفة جيدة ويقرئها لما كان بدمشق للطلبة.
ولما عزل القاضي فخر الدين ابن البارزي من حمص رسم الأمير سيف الدين تنكز للشيخ شمس الدين بالتوجه إلى قضاء حمص، فامتنع من ذلك، فتهدده، فما أمكنه إلا الرواح إليها، وتوجه إليها في يوم الاثنين حادي عشر شهر رمضان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وخرج الناس لوداعه واستناب في وظائفه.
محمد بن أبي بكر بن أحمد
ابن عبد الدائم المقدسي.
سمع الكثير من جده، ومن محمد بن إسماعيل خطيب مردا، وأجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع ربيع الأول سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن بلبان
الأمير ناصر الدين ابن الأمير الكبير سيف الدين البدري.
كان أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، وكان قد زوج ابنته بركن الدين عمر بن الأمير ناصر الدين دوادار تنكز، ودخل بها في ليلة الجمعة عاشر شوال سنة ثلاثين وسبع مئة، وكان عرس عظيم وزفة عظيمة، ثم إن تنكز ولاه الحجبة.
محمد بن تميم
شرف الدين أبو عبد الله الإسكندري، نزيل اليمن، أحد كتاب الدرج للملك المؤيد هزبر الدين صاحب اليمن.
نقلت من خط الشيخ تاج الدين عبد الباقي اليمني. قال: نشأ المذكور في بلاد المعبر من بلاد الهند، وكان كاتب درج الملك الرحيم تقي الدين عبد الرحمن بن محمد الوساملي الطيبي، ثم لما مات مخدومه وفد إلى الملك المؤيد فاستكتبه.(2/276)
وكان ذا لفظ صنيع، ونظم بديع وله إنشاء حسن، وكان يعرف بالمقاماتي وحاولته على أن أرى تلك المقامات، وكان يجيب ما هي مقامات بل قمامات. اجتمعت به في عدن سنة ثلاث وسبع مئة وأنشدني قصيدة مدح بها عز الدين عبد العزيز بن منصور الحلبي عرف بالكويكي وقد جاء إلى عدن بمال عظيم لم ير مثله، وأول القصيدة:
أتذكر ليلى عهدنا المتقدما ... أم البين أنساها عهوداً على الحمى
وأيامنا اللائي على الخيف قد مضت ... بمجلس أنس بالمسرة تمما
وكنت أنا وإياه يوماً على باب البحر بثغر عدن فمر خادم هندي بديع الصورة فقال لي: أنظم في هذا بيتين فنظمت بديهاً:
بأبي طبي من الهند حكى ... لحظه الهندي في أفعاله
جوهري الثغر يدعى جوهرا ... وأراه الفرد في أمثاله
فعجب من سرعة البديهة، قال: لكني أحكي لك حكاية اتفقت لي في بلاد الهند، اقترح علي بعض التجار الرعن اقتراحاً فيه قبح، وذاك أنه كان له خادم هندي يسمى جوهراً وكان مغرماً به، فقال لي تستطيع أن تنظم أبياتاً مضمونها أن فعلي لذلك الحال موجب لنفاسة هذا العلق عندي ومتى فعلت هذا أعطيك عشرين عيناً، فأنشدته أبياتاً من غير روية، وهي:
أقول للخل عداك الردى ... إني أنا الماس فلا تعتجب
في أصلي الحدة أسطو بها ... على أصم الجوهر المنتسب
والجوهر الشفاف ما لم يكن ... يثقبه الثاقب لم ينتسب
فلي على الجوهر فضل إذا ... صيرته بين الورى منثقب
قال الشيخ تاج الدين: وكان مولعاً بأكل البر شعثا أكثر أوقاته، غائب الذهن منها، وكرهه السلطان لذلك.
مات - رحمه الله تعالى - سنة خمس عشرة وسبع مئة وله موشحات بديعة.
محمد بن تمر
الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير سيف الدين الساقي نائب طرابلس.
كان شاباً حسن الصورة، كريماً، شجاعاً، فيه خير ودين، قرئ في داره " صحيح " البخاري، وسمعه معه جماعة، وكان عمره يوم مات خمسة وثلاثين سنة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بدمشق تاسع صفر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وتقدم ذكر والده في حرف التاء مكانه.
محمد بن ثابت
الفقيه شمس الدين الخبي الحنبلي الصالحي رفيق ابن سعد.
قال شيخنا الذهبي: عاقل، سمع ودار على الشيوخ، وتنبه قليلاً، ثم أم بقرية بالمرج، سمع مني.
وتوفي شاباً - رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
محمد بن جابر
العالم المقرئ المحدث، الجليل، أبو عبد الله الأندلسي، الوادي آشي، ثم التونسي المالكي.
قرأ على والده، بالسبع على طائفة، وسمع من ابن هارون الطائي، وأبي العباس بن الغمار، وطائفة بتونس.
قال شيخنا الذهبي: وقرأ عندنا " صحيح " البخاري، وسمع من البهاء بن عساكر، وبمكة من الرضي الإمام، انتقى العلائي عليه جزءاً، وكان حسن المشاركة في الفضائل، خرج " الأربعين البلدانية " ، كتبها عنه شيخنا علم الدين البرزالي.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
محمد بن جعفر بن ضوء البعلبكي
الفقيه شمس الدين الشافعي.
كان من فقهاء المدرسة القيمرية بدمشق، وكان له تردد إلى الناس واجتماع بهم، وله عليهم خدمة ومعرفة بقضاء حوائجهم وأشغالهم، على في نفوسهم، وهو مطبوع داخل. وكانت بينه وبين النجم هاشم البعلبكي مودة وصحبة واتحاد، وكان حسن الشكالة والصورة.
توفي - رحمه الله تعالى - ثاني عشري شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ودفن بمقبرة باب الفراديس وأثنى الناس عليه وتأسفوا عليه.
محمد بن جعفر بن محمد
ابن عبد الرحيم بن أحمد بن حجون الشيخ الإمام الشريف تقي الدين ابن الشيخ ضياء الدين القنائي، بالقاف والنون.
كان فقيهاً، شاعراً، صالحاً، سمع من أبي محمد عبد الغني بن سليمان، وأبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن نصر بن فارس.
وحدث بالقاهرة، وسمع منه الشيخ عبد الكريم بن عبد النور وجماعة، ودرس بالمدرسة المسرورية وتولى مشيخة خانقاه أرسلان الدوادار، وانقطع بها وتزوج بعلما أخت الشيخ تقي الدين، ورزق منها ابنين فقيهين، قال كمال الدين الأدفوي: كان خفيفاً، لطيفاً، وله شعر. أنشدني بعض أصحابنا بقوص مما نظمه سنة اثنتين وسبع مئة، عندما حصلت الزلزلة.(2/277)
مجاز حقيقتها فاعبروا ... ولا تعمروا هونوها تهن
وما حسن بيت له زخرف ... تراه إذ زلزلت لم يكن
ومن شعره أيضاً:
من بعد فراقكم جرت لي أشيا ... لا يمكن شرحها ليوم اللقيا
كم قلت لقلبي بدلاً قال بمن ... والله ولا بكل من في الدنيا
قال: ووفاته بالقاهرة في جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده بقوص ظناً سنة خمس وأربعين وست مئة.
قلت: أخبرني من لفظه القاضي الرئيس الكاتب تاج الدين محمد بن محمد البارنباري. قال: قال لي الشيخ تقي الدين المذكور لما نظمت: " مجاز حقيقتها فاعبروا " البيتين بقي في نفسي شيء من كوني ذكرت في الشعر أسماء سور القرآن العظيم، فأتيت الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد - رحمه الله تعالى - وأنشدتهما له، فقال: لو قلت: " وما حسن كهف له زخرف " لكنت قد زدت سورة رابعة. قال: فقلت له يا سيدي: قد أفدتني وأفتيتني، أو كما قال.
وأنشدني قال: أنشدني المذكور لغزاً في العين الباصرة:
ومحبوبة عند المنام ضممتها ... أحس بها لكنني ما نظرتها
لذيذة ضم لا أطيق فراقها ... وكم من ليال في هواها سهرتها
قلت: وما أحسن قوله " في هواها سهرتها " .
وقد ذكرت هنا لغزاً في العين للجهرمي وهو حسن:
إن التي أودت فؤادي تلت ... حزناً عليه وهو ملسوعها
جملتها واحد أجزائها ... طبيعة يعجب مطبوعها
فالكل إذ يقرأ بعض لها ... والبعض إذ يذكر مجموعها
عميتها في لحن قولي فمن ... يخرجها إذ كان يسطيعها
وقد رأيت لبعضهم ستة أسماء من سور القرآن العظيم في بيت واحد وهو قوله:
أقول وقد هبت لنا نسمة الصبا ... ترى دارت بنا كأس قرقف
وفاطر قلبي هل أتى نبأ الورى ... بتمل عذار جاء في صف يوسف
وما أحسن ما نقلته من خط السراج الوراق:
سامح بفضلك من أتى ... ذنباً ولقنه المعاذر
وبزخرف من قوله ... كن أنت للزلات غافر
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه أيضاً:
حياة المنازل سكانها ... هم روحها وهي جثمانها
أضاءت بمن حلها بهجةً ... كما حل بالعين إنسانها
وللظاعنين تحن الديا ... ر كأن الأحبة أوطانها
قلت: ذكرت بهذا قول أبي الحسين الجزار، وهو:
طرف المحب فم يذاع به الجوى ... والدمع إن صمت اللسان لسان
يا سائلي عما تكابد مهجتي ... إعراب طرفي بالدموع بيان
تبكي الجفون على الكرى فاعجب لمن ... تبكي عليه إذا نأى الأوطان
وأنشدني قال أنشدني المذكور لنفسه في باذهنج:
كأنما الباذهنج قلع ... علا على الفلك حين تسري
لكن ذاك الرياح أجرت ... وذا غداً للرياح يجري
وذكر هنا قول شهاب الدين مسعود بن محمد بن مسعود السبكي المالكي:
وباذهنج إذا حر المصيف أتى ... أهدى النسيم وقد رقت حواشيه
مصغ إلى الجو ما ناجاه نافحة ... إلا ونم عليه فهو واشيه
قلت: ومما قلته أنا في باذهنج:
بنينا للتنسم باذهنجا ... غلا فعلى إلى جو السماء
وراق به الهواء ورق لطفاً ... فسميناه راووق الهواء
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه في شيخ منحن مطيلس:
كالعين شيخ منحن ... مطيلس أعرفه
تقويسها كظهره ... ورأسها رفرفه
قلت: هذا تشبيه عجيب، وتخيل غريب إلى الغاية.
وأنشدني قال أنشدني فيمن جهز إليه بوريه فايتة:
دع الاضطراب عن الحيا ... ة وخل نفسك ثابتة
وازرع فحبات القلو ... ب بها المحبة نابته
وذكرت فايتةً فقم ... للفور واقض الفايته
محمد بن جنكلي
الأمير ناصر الدين ابن الأمير بدر الدين جنكلي ابن البابا الحنبلي.
تقدم ذكر والده في حرف الجيم مكانه.(2/278)
كان جمال المواكب، وثمال الكواكب، أحسن خلق الله وجهاً وقواما، كأنه غصن بان ركب الله في أعلاه قمراً تماما، مع أخلاق ما للنسيم لطفها، ولا لأزاهر الرياض اليانعة عرفها، ولا للغصون الناعمة لينها ولا عطفها، وسماح يتعلم السحاب سحه، ويظهر من البحر شحه، وكتابة إن وصفتها بالخمائل أخملتها، وإن قلت: هي كالعقود، فقد نقصت من قدرها وأهملتها، تصبح بها السطور وقد توشت، والعيون وقد تردت بالمحاسن وتغشت، وفقه ما لابن حزم حزمه، ولا لابن عبد البر نقله ولا جزمه، وحديث ما ترقى الخطيب درجه، ولا ألم به ابن عساكر ولا خرجه، وأسماء رجال يغرق فيها ابن نقطه، ويتحقق سامعه أنه ما عند السمعاني بعدها غبطه، وأدب ما وصل الحصري إلى أنماطه، ولا صاحب " الذخيرة " إلى التقاطه، ولا صاحب " القلائد " إلى تيجانه وأقراطه، وشعر راق نسجه، ولاق نهجه:
شخص الأنام إلى جمالك فاستعذ ... من شر أعينهم بعيب واحد
ولم يزل على حاله إلى أن حل بحماه الحمام، وأبكى عليه حتى الحمام.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وتسعين وست مئة.
كان أولاً قد اشتغل بمذهب أبي حنيفة، ثم إنه تمذهب للإمام أحمد بن حنبل وأنشدني من لفظه لنفسه غير مرة:
بك استجار الحنبلي ... محمد بن جنكلي
فاغفر له ذنوبه ... فأنت ذو التفضل
وكتب طبقة واشتغل في غير ما فن، ولم يزل مواظباً على سماع الحديث، واختلط بشيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس وبه تخرج، وعنه أخذ معرفة الناس وأيامهم وطبقاتهم وأسماء الرجال.
وكان آية في معرفة فقه السلف ونقل مذاهبهم وأقوال الصحابة والتابعين، وهذا أجود ما عرفه، مع مشاركة جيدة في العربية والطب والموسيقا.
وكان في النظم متوسط الطبقة وربما تعذر عليه حيناً، لكن له ذوق في الأدب، يفهم لطائف المعاني ويدركها ويهتز للفظ السهل، ويطرب لنكت الشعراء المتأخرين كأبي الحسين الجزار والوراق وابن النقيب وابن دانيال وابن العفيف ومن جرى مجراهم، ويستحضر من مجون ابن حجاج جملة.
وكان يلعب الشطرنج والنرد، وقل أن رأيت مجموعه في أحد.
رأيته غير مرة واجتمعت به كثيراً، وقد شاركته في بعض سماعاته، وسمع بقراءتي على شيخنا الحافظ أبي الفتح كثيراً، ورد علي يوماً بعض الأسماء صحفته أنا ذهولاً مني، ولما فرغنا أنشدته:
يرد علينا ما نقول أميرنا ... لئلا يرانا في النهى دون حدسه
ويختار منا أن نكون كمثله ... ويطلب عند الناس ما عند نفسه
فأعجبه هذا التضمين وطرب له.
وكان فيه بر وإيثار لأهل العلم والفقراء، ويخير مجالسة أهل العلم على مجالسة الأمراء والأتراك، وكان كثير الميل إلى من يهواه، لا يزال متيماً، هائماً، يذوب صبابة ويفنى وجداً، ويستحضر في هذه الحالة ما يناسبها من شعر الشريف الرضي ومهيار وابن المعلم، ومتيمي العرب جملة يترنم بها ويراسل بذلك، ويعاتب.
وخرج له شهاب الدين أحمد الدمياطي أربعين حديثاً، وحدث بها قبل موته، وأثنى عليه الفاضل كمال الدين الأدفوني في تاريخه: " البدر السافر " ثناء كثيراً.
ولما بلغتني وفاته - رحمه الله تعالى - وأنا بدمشق قلت أرثيه، وضمنت القصيدة أعجاز أبيات قصيدة أبي الطيب:
هي الأيام ليس لها ذمام ... وليس لها على عهد دوام
نصبنا للردى غرضاً فأصمت ... حشانا من رزاياه السهام
وما بعد الرضاع وذاك حق ... تبين عندنا إلا الفطام
نسير على مطايا للمنايا ... وفي كف الزمان لها زمام
إذا متنا تنبهنا لهول ... نرى أن الحياة هي المنام
ألم تر كيف عاث الدهر فينا ... وأودى ناصر الدين الهمام
فشق الرعد جيب السحب لما ... تلهب برقها وبكى الغمام
فيا أسفاً لوجه كان يبدو ... فيستحيي له القمر التمام
وبالشمائل كم هام فيها ... فؤاد ما يسليه المدام
ويا لخلائق كالروض لما ... تفتح عن أزاهره الكمام
ويا لفضائل قلنا لديها ... أفدنا أيها الحبر الإمام(2/279)
ويا لكتابة كالدر لما ... يؤلفه على النحر انتظام
وكان يرام في بذل العطايا ... وأما في الجدال فما يرام
ولم نر في الزمان له شبيهاً ... وإن كثر التجمل والكلام
أيا من في الرقاب له أياد ... هي الأطواق والناس الحمام
لئن عمت مصيبتك البرايا ... وصار بها على الدنيا ظلام
فكم حسنت بك الأوقات حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام
ستندبك المواكب كل يوم ... ويبكيك المثقف والحسام
لأنك ما شهدت الحرب إلا ... تعالى الجيش وانحط القتام
فلو تفدى بذلنا كل نفس ... لأن حلال بقيانا حرام
ولو رد الردى حرب لشبت ... وكان وقودها جثث وهام
وكف الخطب عنك كفاة أهل ... هم في الروع أمجاد كرام
أب وأخ هما ليثا عرين ... إذا ما كان للحرب اصطلام
يعز عليهما أن بت فرداً ... وجالت في محاسنك الهوام
وما تركاك رهن الترب عندا ... ولكن معدن الذهب الرغام
فنم فلو افتقرت لفعل بر ... لأعطوك الذي صلوا وصاموا
وما تحتاج عند الله قربى ... مواهبه لنا أبداً جسام
فللرحمن لطف واعتناء ... بمن بالعلم كان له اعتصام
فكم أذريت خوف الله دمعاً ... غمائمه إذا انهلت سجام
قضيتك بالوفا حقاً أكيداً ... لأن بصحبة يجب الذمام
سأجعل طيب ذكرك لي سميراً ... ومن يعشق يلذ له الغرام
وأرجو الله أن يوليك رحمى ... ومن إحدى عطاياه الدوام
فلا تبعد فنحن عليك وفد ... وغايتنا لهذا والسلام
وأورد الكمال الأدفوي في آخر ترجمة الأمير ناصر الدين، وأظن ذلك في نظم كمال الدين المذكور فيه:
أبكي عليك بدمعة كتبت على ... صفحات خد للكئيب سطورا
تجري من العين التي أنشأتها ... ما زال من إحسانه مسرورا
سالت عقيقاً فاستحالت عندما ... شابت فصارت لؤلؤاً منثورا
قلت: العين وإنسانها لا يوصفان بسرور البتة، وإنما السرور من صفات القلب.
وأنشدني من لفظه لنفسه - رحمه الله تعالى - لما أخرج السلطان الملك الناصر محمد خليل بن بلغدار إلى الشام بسببه، وكان له إليه ميل عظيم:
ومن حيثما غيبت عني ظاهراً ... وسرت على رغمي وفارقتني قسرا
أقمت ولكني وعيشك آيس ... من الروح بعد الخل أن تسكن الصدرا
فكم عبرة للعين أجريتها دماً ... وكم حرق في القلب أذكيتها جمرا
لعل الذي أضحى له الأمر كله ... على طول ما ألقاه يحدث لي أمرا
وأنشدني من لفظه لنفسه في المذكور، اهتدم قول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وحولي... إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مناهل جلق ... ويبدو لعيني شامة وخليل
وقال كمال الدين الأدفوني نقلت من خطه له:
وإذا اعتبرت سني عمرك في الهوى ... ومرورها في أعصر الخسران
وعلمت أن المرء منها راحل ... سقراً به للسخط أو رضوان
أيقنت أن الفوز فيها للتقى ... ولمن يقوم بمحكم القرآن
فاجهد لنفسك يا أخي مخلصاً ... فلقد نصحتك في جميل بيان
وكتبت له وأنا بالقاهرة منشوراً بإمرة أحد وأربعين رمحاً في أيام السلطان الملك الناصر محمد سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة وهو: " الحمد لله الذي نصر هذا الدين بمحمده، وجعل مفارق العدا من أغماد مهنده، وأطفأ بوبل نبله حر الوغى إذا زاد في توقده وجمع له بين فضل السيف والقلم، فكان هذا الجمع من مزايا تفرده.(2/280)
نحمده على نعم التي منحت دولتنا القاهرة ولياً تعقد عليه الخناصر، وخصت أيامنا الزاهرة بماجد طابت منه الأصول، كما طابت العناصر، وزانت مواكبنا الوافرة بفارس يصبح النجم عن مداه وهو قاص والبرق قاصر، واعتزت جيوشنا الباهرة منه ببطل من لم يكن له وسمه واسمه " فماله من قوة ولا ناصر " .
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ترغم معاطس الكفر والضلال ونعلي بها كلمة الإيمان بصدور البيض البتر وكعوب السمر الطوال، ونطلع بها في ليل العجاج المظلم أسنة الذوابل تتقد كالذبال، وننال بإخلاصها النصر إذا تبت يد الكافر يوم الفتح في القتال.
ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده ونصر الدين الحنيف بأنواع أعوانه وأجياد جياده وأتعب السيوف في راحته حتى لقي الشرك وألوفه بالتوحيد وآحاده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين دعاهم إلى هداهم فثنوا إليه الأعنة ورأوا أفعاله فرووا عنه السنة وجالدوا عداه، فرووا منهم الأسنة واستبشروا ببيعهم الذي بايعهم بأن لهم الجنة، صلاة تتبلج بها نجوم الظلم، وتتأرج بها نسمات الضال والسلم ما خفقت عذبات علم وثل الإيمان عرش البهتان وثلم، وسلم تسليماً كبيراً إلى يوم الدين.
وبعد: فإن أحق الأولياء بموالاة النعم ومغالاة القيم ومضاعفة الآلاء عليه حتى تخجل الديم، من تزاحم النجوم علياه بالمناكب، ويغدو بدر الجيوش في هالة المواكب، ويمتشق الصوارم بيمناه ويركب من شوق إلى كل راكب، ويعتقل الذوابل فتلج في علو " كأنما تحاول ثأراً عند بعض الكواكب " .
وكان المجلس السامي الأميري وألقابه الناصري ونعوته محمد بن الجناب العالي الأميري البدري محمد بن جنكلي بن البابا الناصري من قوم ندعوهم فيلبون إلى طاعتنا مسرعين، ونرجو لفتاهم كمال المئة، فإنه قد تجاوز حد الأربعين، فهم أبطال تفرق الأسود الغلب من وثباتها وثباتها، وفرسان قوائم خيلهم صوالج تلعب من رؤوس العدى بكراتها في كراتها، وشجعان ألفوا مقاعد الخيل فكأنهم ولدوا على صهواتها، وأمراء زانوا مواكبنا السعيدة التي لا تخرج الأقمار عن هالاتها، قد احتكم إلى يمينه السيف والقلم، وانطوى على نشر العلم والعلم، ونقص عند أقوامه زيد الخيل، وشاب من شجاعته عامر بن الطفيل، وعجز ابن عساكر عن حفظه، وغرق ابن نقطة في بحر لفظه، فهو من المناضلة إلى المفاصلة، ومن تدبير العوالي إلى تسطير الأمالي، ومن جلاد الفوارس إلى جدال المدارس، ومن ظهور السابقة العراب، إلى بطون الناطقة بالصواب عملاً بقول القائل:
أعز مكان في الدنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب
لأنه نجل والده الذي ما رفعنا راية رأيه في أمر ففسد، وفرع أصله الذي نشأ في خدمتنا الشريفة، والشبل في المخبر مثل الأسد، كم لوالده من يوم حرب أذكر الناس بيوم بدر، وكم له من ليلة علا فيها قدره " وما أدراك ما ليلة القدر " .
وقد اقتضت آراؤنا الشريفة تغيير إقطاعه ليقوى حزبه على الحرب وينتقي من يكون أمامه من أبناء الطعن والضرب، وتمرح به كمت الجياد في الأرسان وتشاهد في مقامات حربه مقاتل الفرسان وينظم في صفاته " صحاح " الجوهري إذا نثر من الدماء " قلائد العقيان " ، فالفتوح تيسر للدين القيم بالحتوف، والجنة كمال قال صلى الله عليه وسلم تحت ظلال السيوف:
وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
يفوق الألوف فلذلك خرج الأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أعلاه الله تعالى وشرفه أن يجرى في إقطاعه.
فلما جهز المنشور إليه كتب هو إلي قرين تشريف جهزه والده رحمهما الله تعالى إلي: " يا مولانا ما هذا منشور إن هذا إلا لؤلؤ منثور، كل سطر منه جنة قد حفت بالثمار، وكل شطر من سطره لو يباع اشتري بألف دينار، تلعب فيه قلم مولانا بالعقول، وأدار بكلامه على الأسماع كأس الشمول، فعلم كل بليغ ما يقول، وتصدق على المملوك بأوصاف استعارها له بيانه، ورصع جواهرها بنانه، وقد وقف عليه محبكم الوالد وقال: بمثل هذا الفضل يحيى الذكر الخالد، وقد سير إليكم شيئاً من تمام الإحسان قبوله، وهو يعتذر بما إذا حضر المملوك يذكره ويقوله، والله تعالى يعلي لمولانا المكانة، ويديم لهذه الدولة الشريفة بيانه بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.(2/281)
وكنت قد كتبت أنا إليه وأنا بالقاهرة في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة:
لي في الجوانح من حزني حرارات ... كما لبرد اللمى فيها حرارات
وللبوارق إن لاحت أو اعترضت ... في الضوء من ثغرك الضاحي إشارات
وللغصون إذا ورق الحمام تلت ... أيات عطفيك في الأسحار سجدات
أشكو ظلام ذؤابات دجت فغدت ... وما لها غير نور الفرق مشكاة
خيالك البدر في جو السماء إذا ... نظرت فيها لأن الأفق مرآة
ومن يسق نفسه للوجد فيك ففي ... لعب الغرام على خديك شامات
يا بدر حسن له دون البرية في ... أهلة اللثم لا في السحب هالات
دينار خدك واف في الجمال فلم ... زيدت به من سواد القلب حبات
لولا تجنيك لم يعذب جناك ولا ... طابت عليك لذات الصب لذات
لم لا سمعت دعاوى الصب فيك على ... هواك إن دعاويه صحيحات
وأنت يا من أداجيه على شغفي ... به وهيهات أن تخفى الصبابات
لا تقبلن شهادات الدموع ومن ... تعديل عطفيه في جفني جراحات
حلبت شطري زماني وارتضيت بها ... لي وحشة عن أنيس فيه إعنات
فكم مجالس لهو خمرها غزلي ... وشمعتي فكرة فيها شرارات
وليس لي طرب إلا إذا تليت ... عن ناصر الدين أخبار وآيات
فتى إذا فكرتي صاغت له مدحاً ... شنت على الوصف في علياه غارات
وسابق اللفظ في نظمي مدائحه ... الدر والزهر والزهر المنيرات
حوى الفضائل من سيف ومن قلم ... فليس عند الورى إلا فضالات
له محاريب حرب كلما ركعت ... سيوفه سجدت إذ ذاك هامات
فالأرض طرس وغى والخيل أسطره ... والسمهري ألف واللام لامات
وكم أدار كؤوس الموت حين شد ال ... حسام وارتقصت للسمر قامات
ليث فرائسه الفرسان يوم وغى ... وما البراثن إلا المشرفيات
إن أظلم الجو من جون العجاج فمن ... خرصان ذبله فيه ذبالات
وإن دجا البحث في تحقيق مسألة ... جلت حنادسه منه الدلالات
وأوضح الحق بالبرهان وازدحمت ... فيما يرى نصره منه العبارات
وإن أتاك بنقل فالبحور طمت ... ويعضد الرأي ما تهدي الروايات
وإن تمسك في قول بظاهره ... تخضع له الشهبات الفلسفيات
نقول إلا إذا ما كان حاضرنا ... فهو الخطيب ومنا نحن إنصات
وإن أدار على قرطاسه قلماً ... فباطن الطرس أنهار وجنات
عن كل همز سما في سطره ألفاً ... فقل غصون بأعلاها حمامات
يكاد من عبارات يسطرها ... تبدو لها من حمام الهمز رنات
نظم يروق ومعناه يرق لنا ... فاللفظ كأس له المعنى سلافات
يا شاكي الزمن الجاني استجر كرماً ... به فللدهر من نعماه ردات
وسوف يغفر للأيام زلتها ... وتنجلي ظلمات أو ظلامات
فما سمي النبي الهاشمي له ... بدع إذا انكشفت عنك الغيابات
لقد سما والورى من دون رتبته ... ولم تزل تفضل الأرض السماوات
خلائق مثل أنفاس الرياض إذا ... مرت بأزهارها ليلاً نسيمات
وجود كف كأن الفقر قفر فلاً ... تهمي على عطش منه غمامات
من معشر قد سها طرف السهى لهم ... عليه من مجدهم ترخى الذؤابات
لا زال في نعم أنفاس لذتها ... في كل ناد لها بالند نفحات
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك:
أوراق نظمك للأبصار روضات ... فيها لغر المعاني منك زهرات(2/282)
يا ناظماً نزلت زهر السماء له ... كانت بروجاً فأضحت وهي أبيات
وفاضلاً لا يفض الله خالقنا ... له فما منه للدنيا كمالات
ترجلت لك فرسان القريض وولوا منك خوفاً كأن القوم أموات
كل بفضلك أمسى وهو معترف ... وليس يقوى لعصف الريح نسمات
يروي الأنام حديث الفضل عنك وقد ... علت لهم منك في ذاك الإجازات
ومن يعاند فيما رحت أذكره ... عما حويت من العليا فقل هاتوا
وكتبت أنا إليه أهنئه بقدومه من الحجاز في شهر الله المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة:
قدمت قدوم البدر والليل قد دجا ... فأشرقت الآفاق من سائر الأرجا
وكانت ربا مصر رياضياً تصوحت ... فجئت إليها كالغمام إذا ثجا
إذا النوق أعياها المسير فإنها ... بطيب الثنا والذكر عنك غدت تزجى
أيا من سرى والأنجم الزهر في الدجى ... ليهدى بها في القفر قد علقت سرجا
وأمسى هلال الأفق كوراً لنجبه ... وإلا على ظهر الجياد له سرجا
قطعت الفيافي نحو مكة محرما ... ولم تتخذ إلا التقى والفلا منجا
وجردت من ثوب مخيط ولم تزل ... برود الندى والبأس تحكمها نسجا
ولبيت لباك الإله لأنه ... رأى خير من لبى بركبك أو عجا
وطفت ببيت لم تر الباب مرتجاً ... متى جئته تدعو ولا الركن مرتجا
ترى الحجر المسود أحسن موقعاً ... بقلبك من خال على وجنة بلجا
فتوسعه لثماً بأبيض واضح ... إذا قال قلنا السحر من لفظه مجا
وفي عرفات كان عرفك ذائعاً ... تضوع عرفاً نشره ملأ الفجا
وحلقت حتى لا تكون مقصراً ... وذلك أنجى في العبادات بل أرجى
وسقت مطايا الهدي تنحر كومها ... وقد نضجت أكبادها بالسرى نضجا
فبخلت حتى السحب في جود وبلها ... وزدت إلى أن كدت أن تغرق اللجا
وجئت إلى قبر حوى خير مرسل ... ومن حبه الذخر المؤمل والملجا
تجادل عنه أو تجالد من غدا ... يعالج منه المسلمون فتىً علجا
إذا أنت رفعت الرماح مراوداً ... تشق بها من نقعه مقلةً دعجا
وإن ظمئت يوم الوغى أنفس العدا ... سللت لها في الروع بيض الظبا خلجا
أيا من غدت أعلامه وعلومه ... تنير لنا مثل الشهاب إذا أجا
قطعت الورى بحثاً وطفت بمكة ... فأصبحت في الحالين أفضل من حجا
بقيت مليكاً في الفضائل والعلا ... متى هاج خطب والتفت له هجا
ولا زلت محروس الجناب من العدا ... يسل لها غمد الدجا فجره نمجا
وكتب هو إلي من القاهرة بعد خروجي منها إلى صفد في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد:
يا راحلاً وجميل الصبر يتبعه ... هل من سبيل إلى لقياك يتفق
ما أنصفتك دموعي وهي دامية ... ولا وفى لك قلبي وهو يحترق
يا مولانا تذكر قوله صلى الله عليه وسلم: ما قضى الله لامرئ مؤمن من قضاء إلا وكان الخيرة له فيما قضى من ذلك، إن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وليس إلا للمؤمن. وفي الأثر: المؤمن ملقى، وفي حديث سويد الأزدي وقومه حين قدومهم على سيد البشر أنه فسر إيمانهم بخمس عشرة خصلة وعد منها الصبر عند البلاء، والرضا بمواقع القضاء. وبالجملة الحمد والشكر لله أولاً وآخراً، والله معك حيث كنت، والسلام:
أوحشت مصراً فادلهم ربعها ... شوقاً إلى ذلك المحيا الزاهر
أفضت من فضائلها فضائلاً ... من بحر علم قد حويت زاخر
نثر إذا نظرته كأنه المنثور لاح وسط روض ناضر
ونظم شعر راق في تأليفه ... فأخجل العقود في الجواهر
وحسن خط قد جعلت طرسه ... مدبجاً كالروض بالأزاهر(2/283)
يا فخر دهر أنت من كتابه ... تخجل كل ناظم وناشر
وعز ملك كنت في ديوانه ... تنشئ ما يلعب بالضمائر
إذا ترسلت إلى أعدائه ... أغنيته عن الحسام الباتر
يا فاضلاً أخنى عليه دهره ... لا تخضعن لنكبة في الظاهر
فاصبر ولا تقلق لأهوال الردى ... فإن ثبت نلت أجر الصابر
أرجو لك العود لمصر سرعةً ... مظفراً كما يظن خاطري
فكتبت أنا الجواب إليه، رحمه اللهتعالى:
يا برق هل ترثي لصب ساهر ... وهل ترى لكسره من جابر
وهل لما قد نابه من راحم ... أو لم يكن فهل له من عاذر
أبيت لا أنيس لي إلا الذي ... يدور من شكواي في ضمائري
أخرجني كالسهم من كنانة ... حكم زمان في القضاء جائر
وابتزني صبري وما أرى الورى ... على الذي قد نالني من صابر
فأضلعي تحنى على جمر الفضى ... وما الشرار غير قلبي الطائر
ومن غدا باطنه مشتعلاً ... لم يفنه تجلد في الظاهر
ومقلتي تعثرت دموعها ... لأنها تجري على محاجري
والنوم لا أعرف منه سنة ... في سنة إلا بحكم النادر
يا دهر قد رميتني بنكبة ... عدمت فيها قوتي وناصري
القاتل المحل يجود كفه ... وصاحب الإبداع في المفاخر
كم حدثتني راحتاه عن عطا ... وكم روى إحسانه عن جابر
يا قاطع البيد إلى أبوابه ... ظفرت من جدواه بالجواهر
لا تشك في القفر ظماً فكفه ... أطبقها على الخضم الزاخر
ويا مجاريه لغايات العلا ... قف واسترح من هذه الخواطر
كم قد جرى البرق على آثاره ... فلم يفز إلا بجد عاثر
ويا مناوي بأسه إلى الوغى ... جهلت ما تبغي فلا تخاطر
أما ترى ما حاز من فضائل ... فاقت على قطر الغمام الماطر
والسيف واليراع في بنانه ... ما اجتمعا إلا على المآثر
سيادة في بيته مشهورة ... يعدها في كابر عن كابر
آه على ما فات من نواله ... وفضله وجبره لخاطري
ولطفه ذاك الذي إذا بدا ... تعرفه في كل روض زاهر
أبعدني دهري عن أبوابه ... يا ويح دهر بالفراق ضائري
وربما يسمح لي بعودة ... فيغفر الأول عند الآخر
وكنت كتبت إليه من الرحبة سنة تسع وعشرين وسبع مئة:
لي حالة بعد الأمير ناصر ال ... دين لها كل الأنام عاذر
ضنيت بالبعد فما لي قوة ... وغاب عن عيني فما لي ناصر
وكتبت أيضاً إليه:
يا غائباً عني بحكم النوى ... وذكره ما زال في خاطري
قد جار في الحكم زماني ولا ... بدع إذا اشتقت إلى ناصري
محمد بن جوهر بن محمد
أبو عبد الله التلعفري المقرئ المجود الصوفي.
قرأ علي أبي إسحاق بن وثيق لأبي عمرو، وأخذ عنه التجويد ومخارج الحروف. وسمع بحلب عن ابن رواحة، وابن خليل، والصلاح موسى بن راجح، وغيرهم.
قال شيخنا الذهبي: قدم علينا دمشق، وقرأت عليه مقدمته في التجويد وجزءاً من الحديث. وكان شيخاً ظريفاً فيه دعابة وحسن محاضرة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وتسعين.
ومولده بتلعفر سنة خمس وست مئة.
محمد بن حازم بن حامد
ابن حسن الشيخ الإمام الصالح شمس الدين أبو عبد الله بن القدوة المقدسي، إمام دار الحديث الأشرفية بالجبل.
كان شيخاً صالحاً بهي المنظر، حسن الهيئة، كثير الخير، مشكور السيرة، حدث ب " صحيح " البخاري وغيره، وسمع عن ابن اللتي، والحسين بن صصرى، والناصح الحنبلي، وابن غسان، والفخر الإربلي، وغيرهم.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة عشرين وست مئة أو بعدها بقليل.
ووجد سماعه في أول سنة خمس وعشرين وست مئة حضوراً.
محمد بن الحراني
ناصر الدين التاجر الشرابيشي.(2/284)
كان للأمير سيف الدين تنكز به اعتناء، وإذا توجه للقاهرة يقف حوله ويشتري له ما يريد، وما يخرج من القاهرة حتى يقترض منه مبلغاً كبيراً من المئة ألف وما فوقها وما دونها، وما كان القاضي شرف الدين النشو يعارضه لأجل تنكز.
توفي - رحمه الله تعالى - في سنة أربعين وسبع مئة، وخلف ستة عشرة ألف ومئتين وستين ديناراً، ومئة وخمسة وثلاثين ألف درههم، وحججاً على أناس بمئة وخمسين ألف درهم، وخلعاً وقماشاً بسبعين ألف درهم، ولم يخلف وارثاً، وكان عند موته يقول: مالي.. مالي.. مالي.. إلى أن مات.
محمد بن الحسن بن إبراهيم
فتح الدين الأنصاري المعروف بالقمني.
سمعت عليه بثغر الإسكندرية في صفر سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة جميع الحديث المسلسل بروايته عن النجيب عبد اللطيف الحراني، وأجاز لي جميع ما يجوز له روايته، وكتب بذلك بخطه.
محمد بن الحسن بن سباع
الشيخ الإمام العروضي، شمس الدين الصائغ الدمشقي.
كان من مشيخة الأدب، والناس ينسلون إليه من كل حدب، أقرأ الناس في دكانه بالصاغة زمانا، وأخذوا عنه لشعرهم ميزانا، والعروض أول ما كان يعرف، وينفق من حاصله لمن يقصد ويصرف.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الصائغ في الأحياء ضائعا، وصوح روض الأدب منه، وكان به ضائعا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الثلاثاء ثالث شهر رمضان المعظم سنة عشرين وسبع مئة. والصحيح أنه مات في ثالث شعبان.
ومولده في صفر سنة خمس وأربعين وست مئة.
رأيته غير مرة وكان يتردد إلى القاضي قطب الدين بن شيخ السلامية، وينفق آدابه عليه، وله نظم كثير، ونثر كثير، وشرح " ملحة الإعراب " ، و " اختصر صحاح " الجوهري، فجرده من الشواهد، وله قصيدة عارض بها " القصيدة الهيتية " التي لشيطان العراق، فما داناها وشرحها على هوامشها، وملكتها بخطه وأخرجتها عن يدي، " وشرح الدريدية " في مجلدين من أربعة، ملكتها بخطه، وقد أخرجتها عن يدي لما وقعت على أشياء في الشواهد ضبطها بخطه على غير الصواب، وله " المقامة الشهابية " وضعها للقاضي شهاب الدين بن الخويبي، ملكتها بخطه مشروحة.
ومن شعره:
إن جزت بالموكب يوماً فلا ... تسأل عن السيارة الكنس
فثم آرام على ضمر ... لله ما تفعل بالأنفس
بأحمر هذا وذا أصفر ... وأخضر هذا وذا سندسي
فقل لذي الهيئة يا ذا الذي ... ينقل ما ينقل عن هرمسي
قولك هذا خطأ باطل ... أما ترى الأقمار في الأطلس
قلت: أخذه من سيف الدين بن قزل المشد ونقصه، لأنه قال:
زعم الأوائل أنما ... تبدو الذوائب للكواكب
وتوهموا الفلك المعظ ... م أطلساً ما فيه ثاقب
أتراهم لم ينظروا ... ما في الزمان من العجائب
كم من هلال قد غدا ... في أطلس وله ذوائب
وأنشدني من لفظه القاضي شهاب الدين أحمد بن عز الدين الفارقي الموقع قال: أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ شمس الدين الصائغ ملغزاً:
ما اسم إذا عكسته ... رأيته بنفسه
كذاك إن ضاعفته ... لم يختلف بعكسه
قلت: هو في سدس وضعفه ثلث، وهذا في اللغز البديع.
وقال الشيخ شمس الدين الصائغ وهو بمصر يتشوق إلى دمشق:
لي نحو ربعك دائماً يا جلق ... شوق أكاد به جوى أتمزق
وهمول دمع من جوى بأضالعي ... ذا مغرق طرفي وهذا محرق
أشتاق منك منازلاً لم أنسها ... أنى وقلبي في ربوعك موثق
طلل به خلقي تكون أولاً ... وبه عرفت بكل ما أتخلق
وقف عليك لذا التأسف والبكا ... قلبي الأسير ودمع عيني المطلق
أدمشق لا بعدت ديارك عن فتى ... أبداً إليك بكله يتشوق
أنفقت في ناديك أيام الصبا ... حباً وذاك أعز شيء ينفق
ورحلت عنك ولي إليك تلفت ... ولكل جمع صدعة وتفرق
فاعتضت عن أنسي بظلك وحشةً ... منها وهي جلدي وشاب المفرق
فلبست ثوب الشيب وهو مشهر ... ونزعت ثوب الشرخ وهو معتق(2/285)
ولكم أسكن عنك قلباً طامعاً ... بوعود قربك وهو شوقاً يخفق
منها:
والريح تكتب في الجداول أسطراً ... خط له نسخ النسيم محقق
والطير يقرأ والنسيم مردد ... والغصن يرقص والغدير يصفق
ومعاطف الأغصان غنتها الصبا ... طرباً فذا عار وهذا مورق
وكان زهر اللوز أحداق إلى الزوار من خلل الغصون تحدق
وكأن أشجار الغياض سرادق ... في ظلها من كل لون نمرق
والورد باللون يجلو منظراً ... ونسيمه عطر كمسك يعبق
فبلابل منها تهيج بلابلي ... ولذاك أثواب الشقيق تشقق
وهزاره يصبو إلى شحروره ... ويجاوب القمري فيه مطوق
فكأنما في كل عود صارخ ... عود حلا مزمومه والمطلق
والورق في الأوراق يشبه شجوها ... شجوي وأين من الطليق الموثق
قلت: وهي طويلة جداً، وقد ذكرتها مستوفاة في الجزء الأول من " التذكرة " التي لي.
محمد بن الحسن بن محمد
الخطيب كمال الدين أبو عبد الله ابن الشيخ الإمام العلامة نجم الدين أبي محمد ابن الشيخ كمال الدين القرشي الأموي القرطبي الأصل الصفدي الخطيب بن الخطيب بن الخطيب، الدمشقي المولد.
كان خطيباً مصقعا، وأديباً ترك ربع البلاغة بعده بلقعا، كم أسال الدموع وفضها على الخدود من الخشوع، وكم علا ذروة المنبر واستقبل الناس فقالوا: هذا بدر قد بدا في سماء من العنبر. ليس للحمائم مثل أسجاعه إذا غردت، ولا للفصحاء مثل عبارته التي جمعت أنواع البيان فتفردت.
وكان ممن ينظم وينثر، ويجري قلمه في ميدان البلاغة ولا يعثر، يأتي فكره بقصائد كأنها قلائد، ونثره برسائل كلها فرائد:
لا تطلبن كلامه متشبهاً ... فالدر ممتنع على طلابه
كلم كنظم العقد يحسن تحته ... معناه حسن الماء تحت حبابه
خطب في حياة والده، وهو خالي الوجنة من النبات، وحير العقول بماله من الإقدام والثبات، وكان وهو أمرد يفتن القلوب بنظره، ويقسم الأفق أنه أحسن من قمره.
ومات والده وهو عار من حلي الآداب سار في ميعة الصبا والشباب، فلما مات والده - رحمه الله تعالى اجتهد ودأب، وتمسك بعرا الفضل والأدب، فنظم ونثر وكتب.
ولم يزل على حاله إلى أن خاطبه الخطب فجاءه، ولم يدفع الطبيب داءه.
وتوفي رحمه الله تعالى - يوم الاثنين رابع جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وسبع مئة.
ومولده بدمشق، تقريباً سنة تسع وسبع مئة.
صلى الظهر بالناس يوم الاثنين، وجاء إليه المؤقت فقال له: إن بعض المؤذنين ما يلازم التأذين، فأحضره وأنكر عليه، وحصل له منه غيظ، دخل بعد ذلك إلى بيته ونام فجأة على فراشه. وكذلك توفي والده رحمه الله تعالى - فجأة بصفد أيضاً، وقد تقدم ذكره في حرف الحاء مكانه.
وكان الخطيب كمال الدين يكتب خطاً حسناً وهو من بيت بلاغة وكتابة، وبيني وبينه مكاتبات ومراجعات، ذكرت أكثرها في كتابي " ألحان السواجع بين البادي والمراجع " ، وكنت أود ما يوده، وأختار ما يختاره من مسكنه دمشق - رحمه الله تعالى - وما اتفق له ذلك.
وكان قد كتب هو إلي من صفد في أواخر سنة أربع وخمسين وسبع مئة:
سلام كنشر المسك يسري ويعبق ... على معهد كالبدر يعلو فيشرق
ومشهد أنس حله من أحبتي ... موال لهم في شاهد المجد مشرق
وسادات عز قيدوا القلب في الهوى ... على حبهم والدمع في الخد أطلقوا
يذكرنيهم كل شيء يروقني ... فلي بهم مع كل حسن تعلق
ويذكي فؤادي هجرهم وبعادهم ... ولي نحوهم في كل حين تشوق
يردده سار ينم به الشذا ... ويخبر عن جار من الدمع يسبق
ويتلو على سمع التعطف منهم ... حديثي عسى يوماً يرق ويشفق
ويرفع حالاً نكرت وصف لمتى ... بعطف ابتداء لي على الود ينسق
وينسخ أشواقي بريحان قربه ... ويرقمه حقاً دنوي المحقق
أأحبابنا إن لم أفز بلقائكم ... فمنوا بطيف في الكرى وتصدقوا(2/286)
فقد طال هذا البعد والزمن انقضى ... بأحلام قرب لا تتم فتصدق
وإن كان مع بعدي صحيحاً ودادكم ... أكيد ولكن التداني أوفق
سقى دوحةً كنا نلوذ بظلها ... من القرب سحاح الندى متدفق
وحيا زماناً كان فيه بوصلكم ... لسان حبوري بالمسرات ينطق
فما كان أهنا عيشنا وألذه ... وما راعنا بعد ولا شاب مفرق
ولا فرقت أيدي الحوادي شملنا ... ولا بات قلبي من لقا البين مورق
فواهاً على أوقات قرب قطعتها ... بكم وشبابي مائس الغصن مورق
ووصلكم داني الجنى في ربا المنى ... وصافي التصافي بيننا يترقرق
مضت بسلام ثم أعقبت الأسى ... فؤاداً سوى إعراضكم ليس يفرق
فما ذات طوق راعها فقد إلفها ... وأشجى حشاها بينه والتفرق
وأنطقها بالنوح في الدوح والبكا ... غريم غرام شفها والتحرق
بأشجى فؤاداً أو أشد تشوقاً ... وأحرى لعبرات بها العين تشرق
وأبرح مني أو بأذكى تلهباً ... على قرب إلف أو على الطيف يطرق
لعمري لقد كنت البعيد مزاره ... فحبك في سوداء قلبي ملصق
وإن تنكر الأيام ما لي عندها ... فأنت على دعوى ودادي مصدق
فديتك كن لي في ودادي معاضداً ... فأنت بإسعادي أحق وأخلق
ورأيك مسعود فكن لي مساعداً ... فإنك ذو الرأي السعيد الموفق
وإن أنت لم تسمع لقول شكايتي ... فعش سالماً مما يسوء ويرهق
فشكري أياديك الجميلة واجب ... أقوم به ما دمت أحيا وأرزق
وأسجع من مدحي بكل غريبة ... لأني بعقد المن منك مطوق
فدم في بقاء ينبت العز والغنى ... فأنت لنا الكنز الذي منه ننفق
يقبل الأرض التي يسأل الله تعالى أن يحمي حماها من الغير، ويجعلها كعبة تطوف بها الآمال والفكر، وأن يمنح ربها من مزيد النعم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وينهي أشواقه التي أصبح من حرها على خطر، ويذكره الذي كم له فيه من وطر، فلا يخلو منه أين كان ولا أنى نظر، وصحيح وده الذي هو بنقل الثقات معتبر، وحديث حبه المستطر، وقديم ولائه الذي هو للسان الملأ سمر.
وتلك نسبة رق قد عرفت بها ... حفظ الولا منكم حق لها يجب
يا مالكي أين إسعافي بما طمعت ... نفسي به من بعيد الدار يقترب
فقد سئمت حياتي مع بعادكم ... وقد خشيت الردى تأتي به النوب
وإن قضيت ولم يقض اللقاء لنا ... فكم مضى بحزازات الحشا وصب
فلا تعينوا على قلبي بقسوتكم ... فقد كفاه الجفا والشوق والنصب
وإن تباخل أحبابي بقربهم ... فالرسل والطيف يكفي الصب والكتب
وإن تجنوا برفع الود من خبر ... فالعبد للحب في الحالين ينتصب
فكتبت أنا الجواب إليه من رأس القلم ارتجالاً:
تحية ذي ود براه التشوق ... وأضناه بل أفناه وجد مؤرق
تروق كم راقت معاني حديقة ... إليها عيون الناظرين تحدق
وتأتي بلطف من تخص ربوعه ... كدمعة صب ودقها يترقرق
إلى مجدك السامي البنا الغامر الثنا ... تروح وتغدو دائماً تتأنق
بعثت كمال الدين نحوي مشرفاً ... عقود لآليه لجيدي تطوق
تنزهت منه في رياض بلاغة ... بها أدب أنهاره تتدفق
كأن قوافيه كؤوس يديرها ... على السمع مني البابلي المعتق
قوى في قوافيه التي قد تمكنت ... يخور لها عند البيان الخورنق
به ألفات كالغصون تقومت ... من الهمز يعلوها الحمام المطوق(2/287)
ولا عين إلا مثل عين مريضة ... يهيم بها في الناس من يتعشق
ولا ميم إلا مبسم من رضابه ... رضاب يحاكيه المدام المروق
وأين البها أعني زهيراً فلو رأى ... أزاهر هذا كان في الحال يطرق
وذلك شعر ليس للناس مثله ... ولكن ذا أندى وأحلى وأرشق
وذاك قريض قد سما للسما وذا ... على أذن الجوزاء قرط معلق
وذاك إمام في البلاغة شامل ... وهذا موشى بالبديع موشق
فأذكرتني عهد الصبا بقدومه ... وذلك عهد الصبا معرق
إذا ذكرت نفسي زماناً قطعته ... وغصن الصبا ريان باللهو مورق
تصوب على خدب سحائب أدمع ... فلولا زفيري كنت بالدمع أغرق
ولو كان لي صبر لقيت به الأسى ... ولكن ثوب الصبر عني ممزق
فيازمني بالغت في عكس مقصدي ... فما لي بالحرمان أرزى وأرزق
فلا وطني يدنو ولا وطري أرى ... ومن دون ما أبغيه هام تفلق
أمولاي مدت بيننا حجب النوى ... وما رفعت والعمر من ذاك أضيق
فإن كان مولانا صفد صفت ... فإنك قد جلت بقربك جلق
وهبك خطيباً قد علا فوق منبر ... أما في دمشق منبر بك أليق
أدم شق لج البين في عرصاتها ... فكم من أناس أفلحوا مذ تدمشقوا
وجدد لباس العز في غير ربعها ... فطول مقام المرء في الحي مخلق
وضم بنا شمل التآلف واللقا ... بأسحم داج عوض لا نتفرق
فكل مكان ينبت العز طيب ... وفي كل أفق للسعادة مشرق
فلو وضحت لي من مرادك لمحة ... لكنت لوفد الريح والبرق أسبق
فما أنا في حفظ الوفا متاصنعاً ... ولا أنا للزور القبيح منمق
وأنت فتدري ما قضته جبلتي ... فما أدعي إلا وأنت تصدق
ولكن دهراً قد بلينا بأهله ... أباعوا به ثوب النفاق ونفقوا
أناس تنازلنا إلى أن ترفعوا ... علينا ألا يا ليتهم لو ترفقوا
فكانوا أصولاً في صحائف عزهم ... ونحن على بعض الهوامش ملحق
فثق بقضاء الله وارض بحكمه ... فلي أمل لا بد فيك يحقق
يقبل الأرض وينهي ورود المثال الكريم الذي فضح كماله القمر، وسلب بسحره الألباب وقمر، وأحيا رسم البلاغة، فساد بما شاد وعمر، وهمى غمام فضله وسقى رياض الفصاحة وهمر، وقسم نظمه ونثره فهذا للندامى غناء، وهذا للمحدثين سمر، وخالف العادة لأنه جاء بستاناً في ورقه، إلا أن جميعه زهر وثمر، وأمر ونهى في سلطان فضله، فأذعن الفصحاء له وقالوا له: السمع والطاعة فيما نهى وأمر، وأطرب المسامع فعلم أن من أنشأه لو شاء بالطرس طبل وزمر، فوقف المملوك على أبياته وآمن بآياته وعلم أنه يقصر عن مباراة مباديه وهو في غاياته، وتصور عتبه فتضور وتفكر في أمره الأمر فتكفر، وتربض لما يدبره في معناه فما تصبر، وترفق للحيلة فما رأى لها دليلاً تقرر، وتحرى فيما يعتمده فما وجد فيه بحثاً تحرر:
سوى حضورك في أمن وفي دعة ... ليقضي الله ما نرجو ونرتقب
أو فالتصبر أولى ما ادرعت له ... فالسول يقضى به والقصد والأرب
فلي أماني خير فيك أرقبها ... أرى بعيد مداها وهو مقترب
فلا يضيق لك صدر من أذى زمن ... أيامه تمنح الحسنى وتستلب
وربما كان مكروه الأمور إلي ... معروفها سبباً ما مثله سبب
وكنت قد كتبت له توقيعاً من الفخري لما كان بدمشق، على أن يكون موقعاً بصفد في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، ونسخته:(2/288)
رسم بالأمر العالي، لا زال يزيد بدور أوليائه كمالا، ويفيد سفور نعمائه جمالاً، ويعيد وفور آلائه على من بهر بفوائده التي غدا سحر بيانها حلالا، أن يرتب المجلس السامي القضائي الكمالي في كذا، لأنه الأصيل الذي ثبت في البيت الأموي ركنه، وتفرع في الدوحة العثمانية غصنه، وكمل قبل بلوغ الحلم حلمه، فلم يكن في هضبات الأبرقين وزنه، وألف حين أشبل غاب المجد حتى كأنه كنه، والبليغ الذي تساوى في البديع نظمه ونثره، وخلب العقول من كلامه سحره، وفاق زهر الليالي لآليه ودراريها دره، والفاضل الذي ألقى إليه العلم فضل الرسن ومج السهاد فم جفنه وغيره قد ذر الكسل فيها فترة الوسن، وبهر في مذهبه فللشافعية به كما للحنفية محمد بن الحسن، والخطيب الذي يعلو صهوة المنبر فيعرفه وإن لم يضع العمامة، ويطمئن له مطاه حتى كأنه بينه وبين علميه علامه، ويبرز في سواد شعاره بوجه يخجل البدر إذا بدا في الغمامة، ويود السمع إذا أطاب لو أطال، فإنه ما سامه منه سآمه، ويغسل دون الذنوب إذا أيه بالناس وذكر أهوال القيامة، ويتحقق الناس أن كلامه روض ومنبره غصن، وهو في أعلاه حمامه.
فليباشر ذلك مباشرةً هي في كفالة مخائله، وملامح شمائله، ومطامح الآمال في نتيجة المقدمات من أوائله، وليدبج المهارق بأقلامه التي تنفث السحر في العقد، وتشب برق الإسراع حتى يقال: هذا الجمر قد وقد، وتنبه على قدر هذا الفن فإنه من عهد والده خمل وخمد، وتنبهه فإن ما رقى لما رقد، ليسر ذلك الليث الذي شب له منه شبله، وذلك الغيث الذي فض له منه فضله، والوصايا كثيرة وهو غني عن شرحها. ملي بحراسة سرحها، فلا يهدى إلى هجره منها تمره، ولا يلقن إلى بحره منها دره، ولكن تقوى الله تعالى أعم الوصايا وأهم نفعاً مما في حنايا الزوايا من الخبايا، وهو بها يأمر الناس على المنابر، والآن تنطق بها ألسنة أقلامه من أفواه المحابر، فليكن بها أول مأمور، وأول متصف أسفر له صبحها من سواد الديجور. والله يزيده فضلا، ويزيده من القول المحكم فصلا.
والخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه حجة ثبوته، والعمل بمقتضاه إن شاء الله تعالى.
محمد بن الحسن
الأمير ناصر الدين ابن الأمير عماد الدين بن النشائي.
كان أمير عشرة مقدماً على خمسين بدمشق، وأحد الحجبة بين يدي النواب وأخذ حكومة البندق بعد الأمير سيف الدين بلغاق المقدم ذكره في حرف الباء.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وصلي عليه بالجامع الأموي ودفن بسفح قاسيون.
محمد بن الحسن بن يوسف الأرموي
الفقيه المحدث الصالح، صدر الدين الشافعي نزيل دمشق.
قدم دمشق ولزم ابن الصلاح، وحدث عنه، وعن كريمة، والتاج بن حموية، وابن قميرة، وعدة، وتفقه وحصل وتعبد.
قال شيخنا الذهبي: كتبت أنا عنه وسائر الرفاق.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة سبع مئة.
ومولده سنة عشر وست مئة.
محمد بن الحسن
الأمير صلاح الدين أبو الحسن ابن الملك الأمجد مجد الدين ابن السلطان الملك الناصر داود ابن السلطان الملك المعظم عيسى ابن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
سمع حضوراً من والده، وروى عنه، وسمع من ابن البخاري والفاروثي وجماعة. وكانت له ديون كثيرة.
ولم يزل في تعب إلى أن توفي - رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده في رابع عشري القعدة سنة أربع وستين وست مئة.
محمد بن الحسين بن محمد
ابن يحيى الأرمنتي، جمال الدين.
كان فقيهاً ذكيا، كريم النفس أبيا، لطيف الذات، ظريف الصفات، نهايةً في السماح، لا يلحقه البرق في ذلك ولا عاصف الرياح، حتى أفضى به ذلك إلى الفقر، وأدى بحاله إلى العقر.
وكان أديباً ناظماً ناثرا، إذا جرى في فن الإنشاء لم يكن عاثرا.
ولم يزل على حاله إلى أن حضرت منيته، وانقطعت من الحياة أمنيته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بأرمنت سنة إحدى عشرة وسبع مئة.(2/289)
كان قد أخذ الفقه عن الشيخ بهاء الدين القفظي، والشيخ جلال الدين أحمد الدشناوي، والأصول عن الشيخ شهاب الدين القرافي والشيخ شمس الدين محمد بن يوسف الجزري الخطيب، وأصول الدين والمنطق عن بعض العجم، وذكر للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فقال: الفقيه ابن يحيى ذكي جداً، فاضل جداً. وتولى الحكم بأدفو، ناب في الحكم بقوص وبنى بأرمنت مدرسةً ودرس بها.
ومن شعره:
عريب النقى قلبي بنار الجوى يكوى ... وجيدي عنكم دائم الدهر لا يلوى
ولي مقلة تبكي اشتياقاً إليكم ... ولي مهجة ليست على هجركم تقوى
نشرتم بساط البعد بيني وبينكم ... ألا يا بساط البعد قل لي متى تطوى
بعادكم والله مر مذاقه ... وقربكم أحلى من المن والسلوى
محمد بن الحسين بن تغلب
موفق الدين الأدفوي خطيب أدفو.
كان فيه كرم وجود وسماح، شاع خبره في الوجود، وله في الطب يد باسطه، وقوة في العلاج ناشطة، وينظم وينثر، ويخطو لما يخطب فلا يعثر. ومعرفته بالوثائق جيدة وكتابته.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح فلم يجد لعلته علاجا، وأمسى وقد اتخذ إلى المعاد معاجا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة سبع وتسعين وست مئة.
قال الفاضل كما الدين الأدفوي: رأيته مرات، وكان يأتي الجماعة أصحابنا أقاربه فيسمعهم يشتمونه، فيرجع ويأتي من طريق أخرى حتى لا يتوهموا أنه سمعهم.
ووقفت له على كتاب لطيف تكلم فيه على تصوف وفلسفة.
وكان وصياً على ابن عمه وعليه ثمر للديوان وقف، عليه منه خمسة وعشرين أردباً، فشدد الطلب عليه، فتقدم الخطيب إلى الأمير وأنشده:
وقفت علي من المقرر خمسة ... مضروبة في خمسة لا تنكر
من ثمر ساقية اليتيم حقيقةً ... ليت السواقي بعدها لا تثمر
حمت النصارى بينهم رهبانهم ... وأنا الخطيب وذمتي لا تخفر
واجتمع يوماً بالجامع جماعة وعملوا طعاماً وطلبوا جعفر المؤذن ولم يطلبوا الخطيب، فبلغه ذلك، فكتب إليهم أبياتاً منها:
وكيف رضيتم بما قد جرى ... صحبتوا المؤذن دون الخطيب
أمنتم من الأكل أن تمرضوا ... ويحتاج مرضاكم للطبيب
قال: وكان يمشي للضعفاء والرؤوساء ويطبهم - رحمه الله تعالى - .
محمد بن الحسين
الشيخ شمس الدين الغوري، بضم الغين المعجمة وسكون الواو بعد راء، الحنفي المدرس.
كان فاضلاً، وكان في لسانه عجمة، وكتب بخطه كتباً في العربية، ووقع المسكين في لسان الفخر عثمان النصيبي، فجعل يمسخر به في حكاياته، ويذكر وقائعه ويزيد في بعضها من مضحكاته. ولقد حكي عنه مرة حكاية تنمر فيها تنكز نائب الشام ورسم بقتل الشيخ شمس الدين بالمقارع، وما خلص من ذلك إلا بالجهد.
وأهل دمشق يحكون عنه حكايات مشهورة بينهم.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
محمد بن الحسين بن القاسم
ابن علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين، الصدر الأصيل بدر الدين ابن العدل عماد الدين ابن الحافظ بهاء الدين ابن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر.
كان رجلاً حسناً.
قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن ابن أبي اليسر، وسمع على جماعة، وشهد على الحكام بدمشق، وولي الولايات من جهة الكتابة، وحج وأقام باليمن مدة، وكان له ثلاثة أولاد نجباء قدمهم بين يديه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
محمد بن الحسين بن عبد الله
ابن الحسين، زين الدين أبو عبد الله القرشي ابن الفويي.
روى " الخلعيات " كاملة عن ابن العماد، وكان من الفقهاء بمصر.
وكان عدلاً خيراً، عمر وتفرد في وقته، وأخذ الناس عنه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سادس عشري المحرم سنة ثلاث وسبع مئة.
ومولده سنة أربع عشرة وست مئة.
وأجاز شيخنا البرزالي.
محمد بن الحسين بن عتيق
ابن رشيق، الشيخ الإمام علم الدين المصري المالكي.
سمع " الأربعين المخرجة " لابن الجميزي عليه، وسمع " صحيح " مسلم من ابن البرهان.(2/290)
وكان فقيهاً عارفاً بالمذهب مفتياً، ولي نيابة القضاء بالإسكندرية نحو اثنتي عشرة سنة، وليها قبل شرف القضاة ابن الربعي نحو سنة وأكثر، ثم وليها بعده بقية المدة، ثم عزل واستمر إلى أن مات.
وكان متعيناً للقضاء، وعينه بدر الدين بن جماعة لقضاء دمشق، وكان يقول: ما عندي مثله.
وتوفي - رحمه الله تعالى - حادي عشر المحرم سنة عشرين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.
وكان يكتب في الإجازات:
أجزت لهم أبقاهم الله كل ما ... رويت عن الأشياخ في سلف الدهر
وما سمعت أذناي من كل عالك ... وما جاد من نظمي وما راق من نثري
على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... برياً من التصحيف عار من النكر
وبالله توفيقي عليه توكلي ... له الحمد في الحالين والعسر واليسر
محمد بن الحسين
السيد الشريف شمس الدين ابن السيد شهاب الدين الحسيني الموقع، تقدم نسبه في ترجمة والده رحمهما الله تعالى.
كان يكتب خطاً حسناً، ويجعل الطروس بسطوره تختال بين سناء وسنى، كأن المهارق تحت خطه خمائل، وألفاته فيها غصون تتمايل، وكان والده ينشئ وهو يكتب، فما ترى أحداً يتعنت ولا يعتب.
ولم يزل على حاله إلى أن لحق أباه قريبا، وما خلص من شرك المنية من كان الأجل لأجله رقيبا.
وجاء الخبر إلى دمشق بوفاته في حادي عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
ومولده...
وكان قد دخل إلى توقيع الدست الشريف بالديار المصرية لما توجه والده لكتابة السر بحلب، واستمر على ذلك، وحضر صحبة ركاب السلطان الملك الصالح في سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وحضر صحبة ركاب السلطان المنصور صلاح الدين محمد بن حاجي إلى دمشق، وعاد إلى مصر.
وكان قد اختص بالكتابة عند الأمير سيف الدين الداودار، وما سمعت له بنظم ولا نثر، وإنما كان عنده من إنشاء والده شيء كثير إلى الغاية.
محمد بن حسينا الأمير
كان قد حكم في مملكة التتار بأذربيجان، أعطاه يوماً النوين جوبان قدحاً ليشربه، وذلك في سنة أربع وعشرين وسبع مئة فقال: إن لم تشربه تؤدي ثلاثين توماناً من المال، فقال: أنا أؤدي ذلك ولا أشربه، فأشار جوبان إلى جماعة بأن يلازموه على المبلغ، فخرج محمد حسينا من عنده، ومضى إلى الأمير نكباي وهو ذو مال عظيم، فقال له: أعطني ثلاثين توماناً، فقال له: بربح عشرة توامين، فقال: نعم، وكتب عليه حجة بأربعين توماناً وسلمها إليها، فقال الأمير نكباي للجماعة الذين هم مع حسينا: اذهبوا إلى النوين جوبان وقولوا له: إن المال عندي، فهل أحمله إلى خزانته أو أسلمه إلى العسكر، وأي شيء تريد من النقود. فحضروا إلى جوبان وعرفوه ذلك، فطلب محمد حسينا، وقال له: تعطي أربعين توماناً من الذهب ولا تشرب قدحاً من الخمر؟! قال: نعم. فأعجب جوبان ذلك، وخلع عليه ملبوسه، ومزق الحجة، وحكمه حكماً قوياً، وصار عنده مقرباً.
محمد بن الحشيشي
الشمس الرافضي الموصلي.
قال شيخنا الذهبي، ومن خطه نقلت: حدثني الإمام محمد بن منتاب أن عز الدين يوسف الموصلي، كتب إليه وأراني كتابه قال: كان رفيق معنا في سوق الطعام، يقال له الشمس بن الحشيشي، كان يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ويبالغ، فلما ورد شأن تغيير الخطبة إذ ترفض القان خربندا، افترى وسب. فقلت له: يا شمس، قبيح عليك أن تسب هؤلاء، وقد شبت. مالك ولهم وقد درجوا من سبع مئة، والله تعالى يقول: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم " فكان جوابه: والله إن أبا بكر وعمر وعثمان في النار، قال ذلك في ملأ من الناس، فقام شعر جسدي، فرفعت يدي إلى السماء وقلت: اللهم يا قاهر فوق عباده يا من لا يخفى عليه شيء، أسألك بنبيك إن كان هذا الكلب على الحق فأنزل بي آية، وإن كان ظالماً فأنزل به ما يعلم هؤلاء الجماعة أنه على الباطل في الحال. فورمت عيناه حتى كادت تخرج من وجهه، واسود وجهه وجسمه حتى بقي كالقير، وخرج من حلقه شيء يصرع الطيور، فحمل إلى بيته، فما جاوز ثلاثة أيام حتى مات، ولم يتمكن أحد من غسله مما يجري من جسمه وعينيه. ودفن.
قال ابن منتاب: جاء إلى بغداد أصحابنا وحدثوا بهذه الواقعة، وهي صحيحة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة.
محمد بن حمزة بن أحمد بن عمر(2/291)
القدوة الشيخ الصالح شمس الدين أبو عبد الله المقدسي الحنبلي.
سمع حضوراً من ابن اللتي، وجعفر الهمذاني، وسمع من كريمة، والضياء، وجماعة. وتفقه ودرس وأفتى وأتقن المذهب.
قرأ الحديث بالصالحية التي بالسفح وكتب الخط المليح.
وكان صالحاً خيراً إمام أماراً بالمعروف، داعية إلى ما يعتقده، يحط على من خالفه.
ناب في القضاء عن أخيه مديدة قبل موته.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
محمد بن حمزة بن عبد المؤمن
أمين الدين الأصفوني الشافعي.
كان فقيهاً فاضلاً متديناً، تولى الحكم بأبوتيج، وتولى إسنا، وأعاد بمدرسة سيوط.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده بسيوط.
محمد بن حمزة بن معد
الفرجوطي، مجد الدين.
كان له أدب ونظم. قال كمال الدين الأدفوي: أنشدني ابن أخيه أبو عبد الله محمد قال: أنشدني عمي لنفسه:
يا سيداً أسند في جاهه ... بجانب عز به جانبي
عساك أن تنظر في قصة ... واجبة تطلق لي واجبي
أوصلك الله إلى مطلب ... مؤيد بالطالب الغالب
وتوفي رحمه الله تعالى بفرجوط سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
محمد بن الخضر بن عبد الرحمن
ابن سليمان بن علي، القاضي تاج الدين بن زين الدين، المعروف بابن الزين خضر.
كان من جملة كتاب الدرج بباب السلطان، ثم إنه كتب قدام الوزير الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، وكان حظياً عنده، وكان يجلس في دار العدل هو وشمس الدين بن اللبان خلف موقعي الدست على عادة كتاب الدرج للوزير. ثم إن السلطان الملك الناصر محمد جهزه إلى حلب كاتب سرها لما عزل القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود. فتوجهه إليها في أوائل سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، فباشرها إلى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة فحضر أو أوائلها صحبة الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب إلى باب السلطان، فهزلهما معاً، وجهز بدلهما الأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير نائباً والقاضي شهاب الدين أحمد بن القطب كاتب سر، فأقام القاضي تاج الدين بمصر بطالاً مدة.
وكان الأمير سيف الدين طاجار يعتني به كثيراً، فسعى له حتى رتب من موقعي الدست بين يدي السلطان، فأقام على ذلك مدة. فلما توفي القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب سر دمشق، رسم السلطان الملك الكامل للقاضي تاج الدين بكتابه سر دمشق عوضاً عنه، فحضر إليها في سلخ شعبان سنة ست وأربعين وسبع مئة، وأقام بها إلى ثامن شهر ربيع الآخر من السنة الثانية.
وتوفي ليلة الجمعة من الشهر سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون وصلى الناس عليه والقضاة والأعيان، وكان مرضه بدوسنطاريا انقطع به ثمانية أيام.
محمد بن خلف بن محمد بن عقيل
الشيخ بدر الدين المنبجي التاجر السفار.
كان رئيساً متمولاً معروفاً بالدين والعقل والثقة، يحضر بمجالس الحديث، ويسمع لأولاد ابنه.
توفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة.
محمد بن خليل
الشيخ شمس الدين الصوفي.
سمع من الشيخ شمس الدين أبي بكر محمد بن إبراهيم المقدسي، وأبي الهيجاء غازي بن أبي الفضل بن الحلاوي، وغيرهما. حدث مراراً. أجاز لي...
محمد بن دانيال بن يوسف
الخزاعي الموصلي، الحكيم الفاضل الشاعر الأديب شمس الدين.
صاحب النظم الحلو، والقريض الذي ليس فيه بيت من النكت خلو، والنثر العذب الرائق، والكلام الذي أصبح وهو على زهر الرياض فائق، والطباع الداخله، والمخيلة التي هي بالصواب غير باخله.
كان ابن حجاج عصره، وابن سكرة مصره. لو كانا حيين لقلداه المجون. وعلما أن نكته تفعل بالألباب ما لا تفعله ابنة الزرجون. قد لطف كلامه، وظرف نظامه، يأتي بمضحكات تعجب منها الثكالى، وتنشط الكسالى، لو رآه أبو نواس لما قال: " أما ترى الشمس حلت الحمل " .
أو ابن الهبارية لما نظم " حي على خير عمل " . وكان لا يبالي بما يقول من سخفه، ولا يستحي في المجون إذا رفع مرخى سجفه:
لو عابه سيبويه قال له: ... خرا الكسائي في لحية الفراء
ولم يزل على حاله إلى أن استجن حشا ضريحه، وأوحش الزمان وأهله خفة روحه.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة ليلة الأحد ثاني عشري جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة.(2/292)
وكان ابن دانيال رحمه الله تعالى طبيباً كحالاً، أديباً شاعراً مطبوعاً على الدخول في أقواله وأفعاله. توجه صحبة الأمير سيف الدين سلار إلى قوص ومع الأمير سلار حسن الحليق، وكان من جملة مماليك سلار غلام جميل الصورة، له صورة عند أستاذه، فتمشى الحليق ومعه الخادم، فوجدا ظل جميز وجدولاً يجري، فرقد الحليق هناك، ونام الخادم عنده، فطلبه أستاذه فلم يجده، ففرق المماليك في طلبه، فوجدهما على تلك الحالة، فأحضروا وقد اشتد غضب سلار، فلما رأى ابن دانيال ذلك تقدم وقال: يا خوند، أقول لك ما تفعل بهذين، فقال: قل. قال: احلق ذقن هذا القواد حسن، واخص هذا الخادم. فضحك سلار وسكن غضبه.
حكى لنا شيخنا الحافظ فتح الدين قال: اجتزنا جماعة به وهو في دكان داخل باب الفتوح والناس عليه مجتمعون، فقالوا: تعالوا نخايل على الحكيم، فقلت لهم: ما أنتم وزنه فلا تشاكلوه فقالوا: لا بد وهو يكحل الناس. فقال بعضنا: يا حكيم تحتاج إلى عصيات؟ فقال: لا والله، إلا... أي من كان منكم يشتهي يقود فليتقدم قال: فقلت لهم: قلت لكم: لا تشاكلوه فما قبلتم قولي، أو كما قال.
وله نوادر كثيرة من هذا النمط. يقال إن الملك الأشرف أعطاه قبل أن يلي فرساً، وقال له: هذا اركبه إذا طلعت القلعة أو سافرت معنا إلى الصيد، لأنه كان في خدمته، فلما كان بعد أيام رآه وهو راكب على حمار مكسح، فقال له: يا حكيم أين الفرس الذي أعطيناك؟ فقال: بعتها وزدت عليها واشتريت هذا الحمار، فضحك منه.
وكان له راتب لحم على ديوان السلطان فعمل في وقت استيمار، وقطع هو وغيره، فدخل على الأمير سيف الدين سلار وهو يعرج فقال له: ما بك يا حكيم؟ قال: بي قطع لحم، فضحك منه، وأمر له بإعادة مرتبه من اللحم.
وله من التصانيف كتاب " طيف الخيال " أبدع فيه وقيل: إنه أخرجه من القوة إلى الفعل، ولبس ثيابه ورقص بآلاته جميعها، وله أيضاً أرجوزة سماها: " عقود النظام في من ولي مصر من الحكام " .
ومن شعره يستهدي قطراً:
نعم أنت أولى من نؤمله قدراً ... وأكرم من نهدي المديح له درا
وما أنت إلا ديمة أي ديمة ... تسح فيحيي سحها البلد القفرا
ولو لم تكن يا ابن المكارم ديمةً ... تجود لما استهديت من جودك القطرا
فجد لي به من ساعتي إنني امرؤ ... أخاف إذا جرعت في عسل صبرا
ودعني من رفع النحاة ونصبهم ... وجرهم أن يملأوا جرتي جرا
فقد لهبت عندي القطائف غلة ... عليه وأبدت ألسناً للظما حرا
وشقت له أيدي الكنافة جيبها ... وقد شيقت من طول وحشتها الصدرا
وقد صدع البين المشت لبعده ... قلوباً، فقلب اللوز منكسر كسرا
وإن جاءني مع ذلك القطر سكر ... أنقطه حتى يكون لكم شكرا
ومنه في الثقة عامل الملقة بالجيزة:
ما لي وللمنخرقه ... والعطف والمنزلقه
وغله الخالص في ... تحصيلها والملقه
ورحلتي في مركب ... بكل فدم موسقه
أرجاؤها علي من ... زحامهم مضيقه
بت بها لضيقها ... وضنكها في بوتقه
ترقص في البحر لدى ... أمواجه المصفقه
والريح لا تجري على ... طريقة متفقه
تهب غرباً وتهب ... ب تارةً مشرقه
كأنها من هوج ... رفيقنا اللص الثقه
أقبحنا خلقاً فسب ... حان الذي قد خلقه
بصورة القر فلو ... لا، ذقنه والعنفقه
وأنه الكلب لمن ... عاينه أو حققه
والكلب لو جاراه في ... خساسة ما لحقه
شيخ لنقصه وإن ... كان ثقيلاً طبقه
رافقته ولم تكن ... رفاقيته رفقه
حتى إذا ما غيب الأ ... فق لدينا شفقه
وهوم الناس فلا ... عين امرئ مؤرقة
نام فكان نائماً ... كالحية المطوقه(2/293)
وقام في الليل كمث ... ل من يريد السرقه
يسعى إلى عبد له ... وجه شبيه الدرقه
عبل الذراع أسود ... بشفة مشتقه
لو جاز رأس أيره ... في كم قاض فتقه
أولجه في سرمه ... ثم عليه طبقه
وفك سندان استه ... بفيشة كالمطرقه
ولم يزل حتى رمى ... بيض المخاصي زنبقه
فقلت في نفسي ترى ... خيطه أم فتقه
وعاد نحوي قائلاً ... وجحره مبصقه
ما أطيب الأير سج ... قا والخصي مدققه
ولو أتاني نكته ... على سبيل الصدقه
أحسن من ذاك وذا ... جارية معشقه
جديدة في حسنها ... وقهوة معتقه
ذات حر يضيق بالأي ... ر إلى أن يخنقه
حر رميت طيره ... من خصيتي بندقه
فخر مصروعاً ولم ... يقطع سواي سبقه
غنت فأغنت عن شدا ال ... حمامة المطوقه
لله صب لا يضي ... ع عهده وموثقه
أو شادن عليه أك ... باد الورى محترقه
علق نفيس كل كه ... جة به معتلقه
يموج عند نيكه ... تحتك مثل العلقه
يكاد موج ردفه ... للصب أن يغرقه
كم ليلة ركبني ... من خلفه في الحلقه
لما استجاد عدتي ... في العرض يوم النفقه
وجونة زاهية ... بظلمة وبرزقه
ذات شواء قد غدا ... مشتملاً بجردقه
وافى ونفسي لم تزل ... إلى لقاء شيقه
لولا خلوق ثوبه ... لكدت أن أخلقه
في إثره دجاجة ... مصلوقة في مرقه
تتبع بوارانيةً ... في دهنها معرقه
فمن حبته هذه ... سبحان رب رزقه
وقال يوم كتب كتابه:
قد تجاسرت إذ كتبت كتابي ... طمعاً في مكارم الأصحاب
وهي طويلة وقد أوردتها في الجزء الأول من " التذكرة " .
وقال وقد أبطلوا المنكرات في أيام الملك المنصور حسام الدين لاجين.
رأيت في النوم أبا مره ... وهو حزين القلب في مره
وعينه العوراء مقروحةً ... تقطر دمعاً قطرةً قطره
يصيح واويلاه من حسرتي ... تلك التي ما مثلها حسره
وحوله من رهطه عصبةً ... فيهم على قلتهم كثره
من كل علق مثل بدر الدجى ... قيمته في واحد بدره
مظفر اللحظ بعشاقه ... وإنما في جفنه كسره
شمس ضحى غصن نقىً قدره ... وظله من خلفه الشعره
تجميشه نقل لمن ضمه ... وجوز التينة بالتمره
يهون وزن المال في وصفه ... طالعه الميزان والزهره
ومن سحور العين فتانةٍ ... خود لها شمس الضحى ضره
تقول للعشاق من معصمي ... تنزهوا في الماء والخضره
إذا رأى عاشقها كسها ... يود لو ترضعه بظره
وكل قواد له ضرطة ... من شدقه يتبعها شخره
يسطو على العاشق في سومه ... مغالباً لما اقتضى حذره
يقول والكيفاح من خلفه ... وعنده في قوله شمره
زن ألف دينار إذا رمتها ... إن كنت ما ترضى بها بعره
سبحان من ولد في خدها الن ... قي بياضاً فوقه حمره
هيا تمتع دي بحق الوفا ... لا تترك القصف على فشره
وكل لوطي له نهمةً ... على سميط اللحم في السفره
إن وسوست في وجهه فسوة ... يقل لها يا طيبها نخره(2/294)
وكل زناء يرى بولة ال ... قحبة في صبحته نشره
وكل بنت ما لها عذرةً ... لكن هواها من بني عذره
سحاقةً قد كلكلت بظرها ... وما لها في دلكها شعره
وكل خمار وفي كفه ... كأس على عاتقه جره
ومن حشيشي سطيل على ... شاربه قد بقلت خضره
ومن بني حام له مزرة ... صفى لها صاحبه المزره
وكل بغاء به أبنة ... مبادل أبغى من الإبره
وكل جلاد على خلوة ... عمرةً هاجت به عميره
ومن خيالي ومن مطرب ... وزامر قد جاء في الزمره
فقلت يا إبليس ماذا الذي ... أسال من مقلتك العبره
وما الذي أزعج أشياعك النو ... كى وإن كانوا ذوي شره
فقال لي: يا بأبي أنت قد ... وقعت في مس أخت ما أكره
قلت جيوشي ووهى منصبي ... وعدت لا أمر ولا إمره
وأصبح الخمار لا يلتقي ... في بيته كوزاً ولا جره
ومنزل المزار صفر وقد ... علته من ذلته صفره
وبات قلي الفار في حسرة ... وقلبه يقلى على جمره
وكاد أن يسطو الحشيشي وأن ... يجرح بالخنجر والشفره
وسائر الستات من قحبنا ... أكثرهن اليوم في الحجره
يطلبن أزواجاً فلا قحبة ... منهن إلا أصبحت حره
وكل سالوس قمار وقد ... أجاد بالعفق بها مهره
كم جهد ما أغوي وأعوي وكم ... أصفف المقصوص والطره
وكم أرى العينين مكحولة ... لمن رمي بالعين والنظره
وكم وكم أشهر في خدمة ال ... عشاق في الليل إلى بكره
وما أرى اليوم ولا عاشقاً ... إلا الذي أغويه في الندره
قد كسدت سوق المعاصي فلا ... شرب ولا قصف ولا عشره
هذا على أني ومن غيتي ... أقود لا أجر ولا أجره
فقلت: يا إبليس سافر بنا ... وطول الغيبة والسفره
إياك أن تسكن مصراً وأن ... تقربها إن كنت ذا خبره
فإن فيها صاحباً عادلاً ... مبارك الطلعة والغره
قد علم السلطان في نصحه ... لملكه ما شاع بالشهره
جزاء من خالف مرسومه ... تجريسه والضرب بالدره
وقال على لسام المشاعلة:
لا ودخان المشعل ... وضوئه المشتعل
وعرفه الذي غدا ... يزري بعرف المندل
وقد جودها وهي طويلة، وقد أوردتها في الجزء الثالث من " التذكرة " . وقال:
قد عقلنا والعقل أي وثاق ... وصبرنا والصبر مر المذاق
كل من كان فاضلاً كان مثلي ... فاضلاً عند قسمة الأرزاق
وقال:
بي من أمير شكار ... وجد يذيب الجوانح
لما حكى الظبي جيداً ... حنت إليه الجوارح
وقال:
ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ولا بختي
قد بعت عبدي وحماري معاً ... وصرت لا فوقي ولا تحتي
وقال:
يا سائلي عن صنعتي في الورى ... وحرفتي فيهم وإفلاسي
ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس
وقال:
إذا ما كنت متخوماً ... فكن ضيفاً على شير
فما يخرج منه الخب ... ز إلا بالمناشير
وقال:
يا رشاً لحظه الصحيح عليل ... كل صب بسيفه مقتول
لك ردف غادرته رهن خصر ... وهو رهن كما علمت ثقيل
وقال:
وأقطع قلت له ... أنت لص أوحد
فقال هذي صنعة ... لم يبق لي فيها يد
وقال:
كم قيل لي: إذ دعيت شمساً ... لا بد للشمس من طلوع
فكان ذاك الطلوع داءً ... يرقى إلى السطح من ضلوعي(2/295)
وقال قد صلبوا ابن الكازروني، وفي عنقه جرة خمر في أيام الظاهر:
لقد كان حد الخمر من قبل صلبه ... خفيف الأذى إذ كان في شرعنا جلدا
فلما بدا المصلوب قلت لصاحبي ... ألا تب فإن الحد قد جاوز الحدا
وقال أيضاً:
لقد منع الإمام الخمر فينا ... وصير حدها حد اليماني
فما جسرت ملوك الجن خوفاً ... لأجل الحد تدخل في القناني
وقال أيضاً:
يقولون الحكيم أبو فلان ... حوى كرماً وجوداً في اليدين
فقلت علمت ذلك وهو سمح يضيع كل يوم ألف عين
وقال أيضاً:
قطعت من يومين بطيخةً ... وجدت فيها جعس مصمودي
قالوا خرى الخولي في أصلها ... من يوم جري الماء في العود
قال في مكارم اليهودي:
مكارم ما زال في طبه ... مكارهاً واللفظ فيه اشتباه
أعني به الغارق في ذقنه ... ولست أعني غارقاً في خراه
قلت: وقد اخترت أنا " ديوانه " بالديار المصرية وهو أجمعه في الجزء الرابع عشرين من التذكرة.
وللحكيم شمس الدين بن دانيال موشحة ظريفة وهي:
غصن من البان مثمر قمرا ... يكاد من لينه إذا خطرا يعقد
أسمر مثل القناة معتدل
ولحظه كالسنان منصقل
نشوان من خمرة الصبا ثمل
عربد سكراً علي إذ خطرا ... كذاك في الناس كل من سكرا عربد
يا بأبي شادن فتنت به
يهواه قلبي على تقلبه
مذ زاد في التيه من تجنبه
أحرمني النوم عندما نفرا ... حتى لطيف الخيال حين سرى شرد
عيناه مثوى الفتور والسقم
قد زلزلا من سطاهما قدمي
سيفان قد جردا لسفك دمي
إن كان في الحب قتلتي نكرا ... فها دمي فوق خده ظهرا يشهد
لا تلحني بالملام يا عذلي
فإنني في هواه في شغل
وانظر لماذا المحب به بلي
لو عبد الناس قبله بشراً ... لكان من حسنه بغير مرا يعبد
حملت وجداً كردفه عظماً
وصرت نضواً كخصره سقماً
لو أن ما بي بالصخر لأنهدما
فالحب داء لو حمل الحجرا ... لذاب من هول ذاك وانفطرا وانهد
جوى أذاب الحشا فحرقني
ونيل دمع جرى فغرقني
لكنه بالدموع خلفني
فبت أجري في الدمع منحدرا ... ذاك لأني غدوت منكسرا مفرد
بديع حسن سبحان خالقه
أحمر خد يبدي لعاشقه
مسكاً ذكي الشذا لناشقه
نمل عذار يحير الشعرا ... وفود شعر يستوقف الزمرا أسود
وقد عارض ابن دانيال بهذه الموشحة موشحة لأحمد بن حسن الموصلي الوشاح وهي:
بي رشاً عندما رنا وسرا ... باللحظ للعاشقين إذ أسرا قيد
السحر من لفظه ومقلته
والرشد من فرقه وغرته
والغي من صدغه وطرته
بدر بصبح الجبين قد سترا ... بليل شعر وانظر له سترا أسود
إن قلت بدر فالبدر ينخسف
أو قلت شمس فالشمس تنكسف
أو قلت غصن فالغصن ينقصف
وسنان جفن سما عن النظرا ... وكل طرف إليه قد نظرا سهد
حاجبه مشرف على شغفي
عارضه شاهد على أسفي
ناظره عامل على تلفي
به غرامي قد شاع واشتهرا ... وسيفه في الحشا إذا اشهرا يغمد
زها بثغر كالدر والشنب
وأطلع الأقحوان كالحبب
رصع شبه اللجين في الذهب
حوى الثريا من نوره أثرا ... له أدمعي الذي نثرا نضد
عذاره النمل في القلوب سعى
والنحل من ثغره الأقاح رعى
ويوسف أيدي النسا قطعا
بالنور من وجهه سبا الشعرا ... وردني بالجفا وما شعرا مكمد
بما بأجفانه من الوطف
وما بأعطافه من الهيف
وما بأردافه من الترف
ذا الأسمر اللون ردني سمرا ... وفي فؤادي من قده سمرا أملد
خلد طول الحياة في خلدي
وكابدت لاعج الجوى كبدي
ضعيف خصر يوهي قوى جلدي
فخصره حالتي قد اعتبرا ... وعن سقامي فقد روى خبرا مسند(2/296)
قلت: وسيأتي في ترجمة شمس الدين محمد بن علي الدهان عدة موشحات في هذا الوزن وهي جيدة.
محمد بن داود بن محمد بن منتاب
بضم الميم وسكون وبعدها تاء ثالثة الحروف وبعدها ألف وباء موحدة، التقي المأمون شمس الدين أبو عبد الله الموصلي السلامي الشافعي التاجر.
حضر غزاة عكا، وحفظ " التنبيه " و " الشاطبية " وسمع من أبي جعفر بن الموازيني، وببغداد من أبي القاسم وغيره.
وسافر للتجارة وغاب عن دمشق زماناً، ثم إنه عاد إليها وسكنها بعد العشرين وسبع مئة.
وكان مليح الشكل مهيباً جميل اللباس حسن البشر، دائم البذل والصدقة، خبيراً بالأمتعة، ذا خط من أوراد وتهجد ومروة، مجوداً لكتاب الله. وكان التجار يخضعون له ويحتكمون إليه وثوقاً بعلمه وورعه.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة رابع عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة نيف وسبعين وست مئة.
وصلي عليه بعد الجمعة، وشيعه أمم من الناس.
محمد بن داود
المسند الجليل شرف الدين أبو الفضائل بن الخطيب عماد الدين بن عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل بن يوسف بن يحيى بن خطيب بيت الأبار.
روى عن السخاوي، وشيخ الشيوخ تاج الدين بن حويه، وإبراهيم الخشوعي، وعز الدين بن عساكر، وعتيق السلماني، والصفي عمر بن البراذعي، والرشيد بن مسلمة، وإسحق بن طرخان الشاغوري، والمرجا بن شقيرة، والحافظ ضياء الدين المقدسي، وابن الصلاح، وجماعة.
وتوفي رحمه الله تعالى في عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن داود
مجير الدين بن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن عمر بن قزل المشد التركماني الأصل، سبط الملك الحافظ ابن السعيد بن الأمجد صاحب بعلبك، القاضي شمس الدين بن الحافظ.
كان فقيهاً حنفيا، شاعراً ذكياً يقع بقوة ذهنه على المعنى إذا كان خفيا، ويرى غوامض المواقيت وكيف لا وقد كان للشمس سميا، وله مشاركة في العربيه، ومداخلة في النكت الأدبيه. ونثره غير طائل، وخطه ليس بهائل.
يعرف الرياضي جيداً، أعني فيما يتعلق بالحساب، وآلات المواقيت من الربع والاصطرلاب، ويضع الآلات بيده ولكن وضعاً عفشا، ويكتب رسومها رسماً وحشا. وكان يضع من حيل بني موسى جمله، ويحمل نفسه من تجارب أعمالها ما لا يطيق حمله. قد أفنى عمره في ذلك وسلك طرائقها الموحشة وليله حالك. إلا أنه كان في حل المترجم آيه، وذهنه في حله بلا فاصلة غايه، وهو أول من كتب لي مترجماً وحللته، وهززت له حسامه وسللته.
ولم يزل على حاله إلى أن ضاع من ابن الحافظ حساب عمره، وأذهل ذويه مبهم أمره.
وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس فيما أظن سنة أربع وثلاثين وسبع مئة في تاسع عشر المحرم، ودفن هناك، وكان وصى بأن ينقل إلى دمشق.
وكان أولاً بصفد ناظر الجيش، فأقام بها زماناً، ثم إنه نقل إلى نظر جيش طرابلس.
وكان قد سمع من ابن شيبان " ثلاثيات المسند " ، ومن ابن البخاري " كتاب الترمذي " ، وسمع بمصر والإسكندرية، وحدث.
ولما توجه الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب من صفد والأمير علم الدين الجاولي لحصار سلع، عمل رسالة في ذلك نظماً ونثراً، وسمعتها من لفظة غير مرة، ومما جاء فيها نظماً:
دعت قلعة السلع من مضى ... بلطف إلى حبها القاتل
وغرتهم حين أبدت لهم ... محياً كبدر دجى كامل
ولما استجابوا لها أعرضت ... دلالاً وقالت إلى قابل
تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل
وقرأت عليه بصفد " رسالة الإصطرلاب " لقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وأخبرني أنه قرأها على المصنف.
وحكى لي أن القاضي بدر الدين حكى له أن إنساناً من المغاربة جاء إليه وهو بمنزله دار الخطابة بالجامع الأموي، وكان إذ ذاك قاضي القضاة وخطيباً، وقال: يا سيدنا رأيت اليوم في الجامع إنساناً وفي كمه آلة الزندقة، فاستفهمت كلامه واستوضحته إلى أن ظهر لي أنه رآه وفي كمه إصطرلاب، قال: فقال لي: إذا جئت لتقرأ علي شيئاً تحيل في إخفاء ذلك ما أمكن.(2/297)
ووصف لي يوماً حل المترجم وحببه وزينه، وقال لي: يعوزك أن تكون تحل المترجم، فقلت له: اكتب لي شيئاً منه، فكتبه لي وأخذته من عنده، وبت بعض ليلتي أفكر فيه، وفتح الله علي بفكه من غير شيخ ولا موقف، فحللته وكتبت جواب ما كتبه لي، وكتبت فيه:
سلكت المترجم في ليلة ... ولولاك ما كنت ممن سلك
وما كان ليلي به ذا حياً ... لأنك شمس تضيء الحلك
وكتب إلي يوماً، وقد بلغه عني كلام لم أقله، واستقالني من العتب فلم أقله:
أعيذك من ضمير غير صاف ... وأنت كما نراك أبو الصفاء
وغرس الدين لا يذوي ثراه ... فمحتاج لشمس الاستواء
فكيف يرى بعاداً عن سناها ... ويعمل فكره طلب الخفاء
أحاشي ذهنك الوقاد يسطو ... عليه ظلمه الخل المراء
وأن تصغي إلى الواشي وأنت ال ... عليم بصدق ودي وانتمائي
فلا بالله لا تسمع حديثاً ... ينمقه الحواسد بافتراء
فإني قد جعلتك في مماتي ... خليلاً أصطفيه وفي بقائي
فكتبت أنا الجواب إليه:
أيا شمس العلوم لمجتليها ... ويا من فضله بادي السناء
ومن قد ظل منه الفضل فينا ... ولولاه نبذنا بالعراء
ألست إذ ادلهمت مشكلات ... جلاها بالتروي والذكاء
فما يخفى عليه مقال غش ... لأن الغش يظهر في الصفاء
أعيذك أن تصدق قول واش ... وأن تمشي على غير استواء
أتحسبني أفوه بغير شكر ... لفضلك لا وخلاق السماء
وبابك منذ كنت عرفت نفسي ... عقدت عليه ألوية الولاء
وما أهدى النسيم إليك طيباً ... وكان شذاه إلا من ثناء
وودي أنت تعلمه يقيناً ... صحيح لا يكدر بالجفاء
فلا تسمع لما نقل الأعادي ... وما قد نمقوه من افتراء
فأصلك طيب حاشاه يجفو ... خليلاً دأبه رفع الدعاء
وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لله در الخليج إن له ... تفضلاً لا نطيق نشكره
حسبك منه بأن عادته ... يجبر من لا يزال يكسره
قلت: أخذه من قول الأول وفيه زيادة:
سد الخليج بكسره جبر الورى ... طراً فكل قد غدا مسرورا
الباء سلطان فكيف تواترت ... عنه البشائر إذ غدا مكسورا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
وذي شنب مالت إلى فيه شمعة ... فردت لإشفاق القلوب عليه
فمالت إلى قدامه شغفاً به ... فقبلت البطحاء بين يديه
وقالت بدا من فيه شهد فهزني ... تذكر أوطاني فملت إليه
فحالت يد الأيام بيني وبينه ... فعفرت أجفاني على قدميه
قلت: أخذ قول الأول، وزاد هو عليه:
أتدرون شمعتنا لم هوت ... لتقبيل ذا الرشأ الأكحل
درت أن ريقته شهدة ... فحنت إلى إلفها الأول
محمد بن داود
الأمير ناصر الدين ابن الأمير نجم الدين بن الزيبق.
كان أولاً أمير عشرة بعد وفاة والده، ثم أعطي نيابة الرحبة في أيام الأمير سيف الدين أيتمش، فأقام تقدير سنتين أو أقل، ثم عزل منها وأقام في دمشق وهو أمير طلبلخاناه، فولاه الأمير سيف الدين أغون الكاملي ولاية مدينة دمشق، فباشرها إلى أن أتى الأمير علاء الدين أمير المارداني إلى دمشق نائباً، فجعله والي الولاة بالصفقة القبلية، فسفك فيها الدماء، واستخرج الأموال، ولكن اطمأنت به البلاد من العشران والفتن.
ولم يزل بها أن مرض مدة، وتوفي رحمه الله تعالى، وجاء الخبر إلى دمشق بوفاته في أول شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة، ونقل إلى دمشق.
محمد بن رضوان
ابن إبراهيم بن عبد الرحمن، زين الدين العذري، المعروف بابن الرعاد، براء وعين مهملة مشددة وبعدها ألف ودال مهملة.(2/298)
أخبرني شيخنا العلامة أثير الدين قال: كان المذكور خياطاً بالمحلة من الغربية وله مشاركة في العربية وأدب لا بأس به، وكان في غاية الصيانة والترفع عن الدنيا والتردد إليهم، واقتنى من صناعة الخياطة من الكتب كثيراً، وابتنى بها داراً حسنة، ورأيته بالمحلة مراراً.
وأنشدني لنفسه قال: أنشدني للشيخ بهاء الدين بن النحاس:
سلم على المولى البهاء وقل له: ... شوقي إليه وإنني مملوكه
أبداً يحركني إليه تشوق ... جسمي به مشطوره منهوكه
لكن نحلت لبعده فكأنني ... ألف وليس بممكن تحريكه
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه:
رأيت حبيبي في المنام معانقي ... وذلك للمهجور مرتبة عليا
وقد جاء لي من بعد هجر وقسوة ... وما ضر إبراهيم لو صدق الرؤيا
وأنشدني قال: أنشدني لنفسه:
نار قلبي لا تقري لهباً ... وامنعي أجفان عيني أن تناما
فإذا نحن اعتنقنا فارجعي ... نار إبراهيم برداً وسلاما
وأنشدني قال أنشدني لنفسه:
قالوا وقد عاينوا نحولي ... إلام في ذا الغرام تشقى
ضنيت أو كدت فيه تفنى ... وأنت لا تستفيق عشقا
فقلت: لا تعجبوا لهذا ... ما كان لله فهو يبقى
قلت: شعر عذب منسجم.
وتوفي رحمه الله تعالى بالمحلة سنة سبع مئة.
وكان قد أخذ النحو عن العلامة أبي عمرو ابن الحاجب.
ومن شعر ابن الرعاد أيضاً:
أشكو إلى الله قصاصاً يجرعني ... بالصد والهجر أنواعاً من الغصص
إن تحسن القص يمناه فمقلته ... أيضاً تقص علينا أحسن القصص
قال كمال الدين الأدفوي: أخبرني شيخنا أثير الدين قال: قال لي زين الدين المذكور: أرسل إلي شهاب الدين الخوبي حين كان قاضياً بالغربية أن أرسل إلي بالكتاب الذي استعرته مني، فقلت له: ما استعرت في دهري من أحد شيئاً فأعاد الرسالة، فكتبت إليه هذه الأبيات:
غنيتم فأطغاكم غناكم فأغنتنا ... قناعتنا عنكم ومن قنع استغنى
ألا مالكم سدتم فساءت ظنونكم ... ومن عادة السادات أن يحسنوا الظنا
عسى سفرة شرقية حلبية ... تروح بكم منا وتغدو بكم عنا
وأرسلها إليه، فما فرغ من قراءته إلا بريدي وصل إليه أن يتوجه إلى حلب قاضياً.
ومن شعر ابن الرعاد أيضاً قوله:
أعد نظراً فما في الخد نبت ... حماه الله من ريب المنون
ولكن رق ماء الوجه حتى ... أراك خيال أهداب الجفون
قلت: مأخوذ من قول الأول:
ولما استقلت أعين الناس حوله ... تراقبه حيث استقل وسارا
تمثلت الأهداب في صفو خده ... خيالاً فخالوا الشعر فيه عذارا
ولعل هذا وما قبله منقول من قول ابن سناء الملك:
لم يهني إلا هواه ولا دل ... ل على السقام إلا دلاله
ما خلا خده الصقيل من الخا ... ل ولكن سواد عيني خاله
وزاده تصريحاً نجم الدين بن صابر المنجنيقي حيث قال:
أهلاً بوجه كالبدر حسنا ... صيرني حبه هلالا
قد رق حتى لحظت فيه ... سواد عيني فخلت خالا
وقال تاج الدين مظفر الذهبي:
لاح هلالاً وانثنى مثقفاً ... وصال ليناً ورنا غزالاً
لو لم تكن وجنته ماء لما ... خلت سواد العين فيه خالا
وكلهم أخذه من الشريف البياضي حيث قال:
بوجه شف ماء الحسن فيه ... فلو لثمت صحيفته لسالا
يؤثر فيه لحظ العين حتى ... رأيت سوادها في الخد خالا
محمد بن سالم
ابن نصر الله بن سالم بن واصل، القاضي الإمام العلامة جمال الدين بن واصل الحموي الشافعي، قاضي القضاة بحماة.
كان أحد الأئمة الأعلام، والقائمين بجمع العلوم الخافقة الذوائب والأعلام.(2/299)
برع في العلوم الشرعية وطلع كالشمس في الفنون العقليه، وجمع شمل ما تفرق في العلوم الأدبيه. صنف وجمع وألف، ودخل في كل فن وما تخلى عنه ولا تخلف. وأفتى واشتغل ودرس، وقضى وحكم وفصل لما علم وتفرس. وبعد صيته واشتهر، وبرز على الأقران في الجدال ومهر. وغلب عليه الفكر إلى أن صار يذهل عن جليسه، ويغيب عن وجوده في حضرة أنيسه:
وأديم نحو محدثي نظري ... أن قد فهمت وعندكم عقلي
ولي القضاء مدة مديده، وفاز منها بالسيرة الحميده، وأضر أخيراً، وحاز بذلك أجراً كبيرا.
ولم يزل على حاله إلى أن قطع عمر ابن واصل، ولم يبق في حياته حاصل.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة ثاني عشري شوال سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده بحماة في ثاني شوال سنة أربع وست مئة.
ودفن بتربته بعقبة بيرين.
وقيل إنه كان يشغل في حلقته في ثلاثين علماً وأكثر، وحضر حلقته نجم الدين دبيران المنطقي، وأورد عليه إشكالاً في المنطق.
وكان قد جهز عن صاحب مصر رسولاً إلى الأنبرور، فتوجه، فأعظمه الأنبرور، وسأله عن مسائل تتعلق بعلم المناظر وغيرها، فأخذها وبات بها، وأصبح وقد أملى الجواب عليها في مجلد صغير، فعظم في عين الأنبرور وقال: يا قاضي ما سألناك عن حلال ولا حرام في دينك الذي أنت فيه قاض، وإنما سألناك عن أشياء لا يعرفها إلا الفلاسفة الأقدمون، فأجبت عنها، وليس معك كتب ولا ما تستعين به، مثلك يكون قسيساً، وحسد المسلمين عليه، وزاد في تعظيمه وإكرامه، وأحضر له الأرغل وهو الآلة عندهم في الطرب، ولا يضرب به إلا في أيام أعيادهم، فقيل: إنه ما اهتز له ولا تحرك، وعندهم إن أحداً ما يسمعه فيملك نفسه من الطرب، إلا أنه لما قام وجدوا كعابه مما حكها في البساط قد أدماها الحك، وبقي أثر الدم في البساط، فزاد تعجب الأنبرور منه أيضاً وأعطاه شيئاً كثيراً.
وحكى لي عنه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني غرائب من حفظه وذكائه، وحكى الحكيم السديد الدمياطي عنه أنه تعشى ليلة عند الشيخ علاء الدين بن النفيس، وصلينا العشاء الآخرة. قال: إلا أن القاضي جمال الدين كان يحتد في البحث ويحمار وجهه، والشيخ علاء الدين في غاية الرياضة، ثم إن القاضي آخراً قال: والله يا شيخ علاء الدين أما نحن فعندنا نكيتات ومواخذات وإيرادات وأجوبة، وأما أنت فهكذا خزائن علوم، هذا أمر بارع. أو كما قال.
وأخبرني شيخنا العلامة أثير الدين قال: قدم المذكور علينا القاهرة مع الملك المظفر صاحب حماة، فسمعت منه، وأجاز لي جميع مروياته ومصنفاته، وذلك بالكبش من القاهرة في يوم الخميس التاسع والعشرين من المحرم سنة تسعين وست مئة. وهو من بقايا من رأيناه من أهل العلم الذين ختمت بهم المئة السابعة.
وأنشدني لنفسه مما كتب به لصاحب حماة الملك المنصور محمد بن مظفر:
يا سيداً ما زال نجم سعده ... في فلك العلياء يعلو الأنجما
إحسانك الغمر ربيع دائم ... فلا نرى في صفر محرما
ومن شعر قاضي القضاة جمال الدين بن واصل أيضاً:
وأعيذ مصقول العذار صحبته ... وربع سروري بالتأهل عامر
وفارقته حيناً فجاء بلحية ... تروع وقد دارت عليه الدوائر
فكررت طرفي في رسوم جماله ... وأنشدت بيتاً قاله قبل شاعر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فقال مجيباً والفؤاد كأنما ... يقلقه في القلب مني طائر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
قلت: ومن مصنفاته " التاريخ " الذي له، وكان مفرج الكروب في دولة بني أيوب وله " مختصر الأربعين في أصول الدين " ، " وشرح الموجز في المنطق " لأفضل الدين الخونجي، و " شرح الجمل " له أيضاً، و " شرح قصيدة ابن الحاجب " في العروض والقوافي، و " التاريخ الصالحي " ، و " مختصر الأدوية المفردة " لابن البيطار، واختصر " الأغاني الكبير " ، وملكت به نسخة عظمى. وكان خطه عليها بعدما أضر، وكتاب " نخبة الأملاك في هيئة الأفلاك " .
محمد بن سعد الله
ابن مروان بن عبد الله القاضي الرئيس عز الدين ابن القاضي سعد الدين أبي الفضل ابن الشيخ الفقيه العدل بدر الدين الفارقي.(2/300)
كان جيد الكتابة يكتب المطالعة بديوان الإنشاء بدمشق، وهو مرشح لكتابة السر، مشاراً إليه معظماً.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة سابع عشري، شعبان سنة سبع عشرة وسبع مئة، وعمره اثنان وخمسون سنة.
وهو والد القاضيين محيي الدين محمد، وشهاب الدين أحمد، كاتبي الإنشاء بدمشق.
محمد بن سعيد بن أبي المنى
الإمام الفقيه بدر الدين الحلبي الحنبلي نزيل القاهرة.
سمع من التقي بن مؤمن، والعز بن الفراء، والأبرقوهي. ونسخ كثيراً، وحصل وأفاد. وكانت فيه صفات حميدة.
قال شيخنا الذهبي: انتقيت له جزءاً حدث به.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وسبعين وست مئة.
محمد بن سعيد بن عبد الله
تقي الدين المدني الحجازي، قارئ الحديث بالمدينة النبوية.
كان أسود اللون، فاضلاً في الأدب. ورد إلى دمشق، ثم توجه منها إلى القاهرة، ليعود إلى المدينة.
فتوفي رحمه الله بالقاهرة في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة.
وسمع بالشام ومصر وكتب عنه من شعره شيخنا البرزالي.
ومولده في أحد الربيعين سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
محمد بن سعيد بن محمد بن سعيد
الصدر الرئيس الفاضل شرف الدين ابن الصدر شمس الدين بن الأثير الكاتب، تقدم ذكر والده.
كان شاباً حسناً عاقلاً وقوراً، كان قد أسره التتار في واقعة غازان فيمن أسروه، ومن الله عليه بالرجوع إلى وطنه، وكان وصوله إلى دمشق في تاسع عشر صفر سنة إحدى وسبع مئة، فأصيب بوالده، وترك له ميراثاً جيداً، فلم يتمتع به.
وتوفي رحمه الله تعالى سابع ربيع الأول سنة ثلاث وسبع مئة، وكان على طريق حميدة ودفن عند والده.
محمد بن سعيد بن ريان
الطائي، القاضي، تاج الدين ابن الرئيس عماد الدين.
أول ما عرفت من أمره أنه كان كاتب إنشاء بحلب، ثم إنه حضر إلى القاضي كريم الدين الكبير لما جاء لزيارة بيت المقدس في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، وأخذ كتابه إلى الأمير سيف الدين تنكز بأن يكون مباشراً بدمشق، فتولى نظر بعلبك وأقام بها مدة، ثم إنه توجه إلى حلب صاحب الديوان، ثم إنه خرج منها في واقعة لؤلؤ وعاد إلى دمشق وأقام بها على نظر البيوت وصحابة ديوان الجامع الأموي.
ودام على ذلك مدة، ثم أصابه فالج فأقعده في بيته بقدر أربع سنين أو أكثر، إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في بكرة الاثنين ثاني عشري جمادى الآخرة سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
وكان - رحمه الله تعالى - شكلاً حسناً، فيه رئاسة وسؤدد، حسن الأخلاق كريماً، يتجمل في ملبسه ومأكله، ويكتب خطاً جيداً.
ورأيته يكتب الكتاب مقلوباً من الحسبلة إلى البسملة في أي معنى اقترح عليه.
وبرع في كتابة الحساب والإنشاء.
ومات - رحمه الله تعالى - وقد تجاوز الستين قليلاً.
محمد بن سلمان بن حمائل بن علي
الصدر الرئيس الفاضل شمس الدين المقدسي، عرف بابن غانم. وقد تقدم ذكر أولاده شهاب الدين أحمد، وعلاء الدين علي، وبهاء الدين أبو بكر.
قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن ابن حمويه وابن الصلاح. وكان من أعيان الناس، معروفاً بالكتابة والكفاية والمعرفة والتقدم وحسن المحاضرة، وحصل كتباً نفيسة.
ولي التدريس بالعصرونية. وسمع أيضاً في سنة ثلاث وثلاثين وست مئة من الشيخ تقي الدين يوسف بن عبد المنعم بنابلس، وسمع بدمشق من القرطبي وابن مسلمة وجماعة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شعبان سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة سبع عشرة وست مئة.
محمد بن سليمان بن الحسن بن الحسين
العلامة الزاهد جمال الدين أبو عبد الله البلخي الأصل، المقدسي، الحنفي المفسر، المعروف بابن النقيب، أحد الأئمة.
دخل القاهرة، ودرس بالعاشورية، ثم تركها وأقام بالجامع الأزهر مدة.
وكان صالحاً زاهداً متواضعاً عديم التكلف، أنكر على الشجاعي إنكاراً تاماً، بحيث إنه هابه وطلب رضاه. وكان الأكابر يترددون إليه ويلتمسون منه الدعاء.
صرف همته أكثر دهره إلى التفسير، وجمع تفسيراً حافلاً، جمع فيه خمسين مصنفاً. وذكر فيه أسباب النزول والقراءات والإعراب واللغات والحقائق في علم الباطن. قيل: إنه في ثمانين مجلدة. ولهذا التفسير نسخة في جامع الحاكم بالقاهرة.
قال شيخنا الذهبي: سمعت منه حديث علي بن حرب.(2/301)
وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة في شهر الله المحرم سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى عشرة وست مئة.
وقال الفاضل كمال الدين الأدفوني في تاريخه " البدر السافر " في ترجمة ابن النقيب هذا: وله نظم، منه يمدح الشيخ قطب الدين القسطلاني وهو قوله:
سألت أخاك البحر عنك فقال لي ... شقيقي إلا أنه الساكن العذب
لنا ديمتا ماء ومال، فديمتي ... تماسك أحياناً وديمته سكب
إذا نشأت تبريه فله الندى ... وإن نشأت بحرية فلي السحب
أقل عليه من سماح صفاته ... فإني أخشى أن يداخله العجب
قلت: كذا قال كمال الدين الأفودي، ونسب هذه الأبيات إلى ابن النقيب المفسر، وليس الأمر كذلك، وإنما هذه من قصيدة لابن اللبانة مدح بها المعتمد بن عباد وأولها:
بكت عند توديعي فما علم الركب ... أذاك سقيط الطل أم لؤلؤ رطب
وتابعها سرب وإني لمخطئ ... نجوم الدياجي لا يقال لها سرب
وأظن ابن النقيب كتب بها إلى ابن القسطلاني مستشهداً بها على عادة الناس.
وأورد لابن النقيب أيضاً:
نسيم الصبا هيجت من قلبي المضنى ... فنوناً من الأشواق نفنى ولا تفنى
وعهدي بأنفاس الصبا تبرد الجوى ... وتهدي من الأرواح راحاً لمن أنا
فما لي إذا هبت سحيراً يهزني ... غرام كما هزت جنوبية غصنا
وما لي إذا هبت صبا شام بارق ... من الحزن أنساني صميم الحشا حزنا
قلت: نعم هذا شعر ابن النقيب، وإلا فأين هذه الطبقة من تلك الطبقة الأولى، أين الثريا من الثرى.
محمد بن سليمان بن أبي العز بن وهيب
الإمام المفتي شمس الدين ابن قاضي القضاة صدر الدين الحنفي مدرس النورية والعذراوية.
كان من كبار الحنفية مقصوداً بالفتوى، أفتى نيفاً وثلاثين سنة، وناب في القضاء عن والده، وكان منقبضاً عن الناس.
توفي - رحمه الله تعالى - نهار الجمعة سادس عشر ذي الحجة سنة تسع وتسعين وست مئة.
وكانت له إجازة بعد سنة خمسين وست مئة، ولم يحدث.
محمد بن سلمان
الإمام المفتي وجيه الدين الرومي القونوي الحنفي، إمام الربوة.
كان شيخاً فاضلاً متواضعاً، ولي تدريس العزية التي بالميدان، وأعاد وأفتى.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وتسعين وست مئة.
محمد بن سليمان بن عمر بن سالم
الصدر الرئيس بدر الدين محمد بن قاضي القضاة جمال الدين الأذرعي المعروف بالزرعي.
كان رئيساً محتشماً قد باشر عدة أنظار بالديار المصرية، وكان من أصحاب القاضي كريم الدين الكبير، وكان قد سمع من ابن البخاري وزينب بنت مكي وجماعة، وحدث بالقاهرة وبمنفلوط. وآخر ما تولى نظر الفيوم.
فتوفي - رحمه الله تعالى - فجأة في آخر جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن سليمان بن سومر البربري الزواوي
قاضي القضاة جمال الدين أبو عبد الله المالكي.
قدم الإسكندرية حدثاً، وتفقه بها، وبرع في المذهب، وفرط في السماع من ابن رواج والسبط.
ثم إنه سمع من أبي عبد الله المرسي، وأبي العباس القرطبي، والشيخ عز الدين بن عبد السلام، والسيخ أبي محمد بن برطلة. وعالج الشروط، وناب في الحكم بالقاهرة، وحكم بالشرقية وغير مكان.
ثم إنه قدم على قضاء دمشق فحكم بها ثلاثين سنة، وكان حاكماً ذا صرامه، قاضياً يبلغ بها الضعيف مرامه، ماضي الأحكام بتاتاً، أراق دم جماعة تعرضوا لجناب النبي صلى الله عليه وسلم، عارفاً بمذهبه، عالماً بمقدمه ومنقلبه، لو رآه مالك رضي الله عنه لسره وأشهب لما ركب في إثره إلا المجره.
حصل له في آخر عمره فالج ورعشه، وبقي على نطقه من العجز وحشه، وكان لا ينطق إلا بمشقة، ولا يأتي بالكلمة إلا حسيت شفته منشقه، وعجز عن العلامه، واستناب من يكتب عنه من برئ عنده من الملامه.
وعزل قبل موته بقليل، وبقي إلى أن سلك تلك السبيل، ومضى إلى ربه ذي المن والفضل الجزيل.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبع مئة.
عزل قبل موته بنحو عشرين يوماً بالقاضي فخر الدين بن سلامة المالكي.
ومولد القاضي جمال الدين الزواوي في حدود سنة ثلاثين وست مئة، ومات ولم يسرع إليه الشبهات.(2/302)
وكان بمصر من أعيان العدول، وناب في الشرقية والغربية، وناب في القاهرة، وترجح لولاية القضاء بالقاهرة عقيب وفاة ابن شاش، وتولي ابن مخلوف، ثم إنه تولى قضاء دمشق ووصل إليها في عاشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وست مئة، واستمر بها قاضيا نحو ثلاثين سنة.
وظهر في أيامه ما لم يكن معروفاً من مذهب مالك، وعمر المدرسة النورية والصمصامية، وحصلت له رعشة في وسط ولايته وكان يجد له مشقة، وثقل لسانه عن الكلام أخيراً.
وحدث " بصحيح " مسلم و " الموطأ " رواية يحيى بن يحيى، و " بالشفا " لعياض وغير ذلك.
محمد بن سليمان بن أحمد بن يوسف
الشيخ الصالح المقرئ الصنهاجي المراكشي الإسكندري، إمام مسجد قداح.
سمع عبد الوهاب بن رواج، ومظفر بن الفوي.
أخذ عنه الرحالون، وكتب في الإجازات.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة سبع عشرة وسبع مئة.
محمد بن سليمان بن حمزة
ابن أحمد بن عمر، ابن الزاهد أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة، قاضي القضاة عز الدين أبو عبد الله بن قاضي القضاة تقي الدين المقدسي الحنبلي.
وسمع الحديث من جماعة من أصحاب ابن طبرزد، منهم الشيخ شمس الدين، وابن البخاري، وأبو بكر الهروي. وجدته خديجة بنت خلف، وحبيبة بنت الشيخ أبي عمرو، ومن جماعة غيرهم.
وخرج له شمس الدين بن سعد " مشيخة " عن أكثر من خمسين شيخاً. وأجاز له ابن عبد الدائم وجماعة.
واشتغل وحصل، وقرأ الفقه على والده وغيره. وكان له محفوظ في الحديث. واستنابه والده في الحكم. وترك تدريس المدرسة الجوزية، وكتب في الفتوى. وكان فيه عقل وحسن تودد.
ولما مات والده باشر تدريس دار الحديث الأشرفية بالصالحية، وانقطع في بيته مدة ولاية قاضي القضاة شمس الدين ابن مسلم الحنبلي، ولما توفي ولوه مستقلاً، ووصل توقيعه بذلك إلى دمشق في ثاني عشر ربيع الأول سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فباشره واختاره الناس لما تقدم لوالده من الحقوق، ولحسن خلقه وتودده، وقضاء حوائج الناس.
وحج ثلاث مرات، وحدث في كل حجة منها، وزار القدس مرات، وحضر بعض الغزوات، وتولى القضاء مستقلاً أربع سنين ولم يكملها. وكان له ورد من التلاوة، ومن الصلاة في الليل.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الأربعاء تاسع صفر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وحضر جنازته خلق كثيرة، وكان يوماً كثير المطر والوحل، ودفن بتربة الشيخ أبي عمر.
ومولده في العشرين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وست مئة.
وولي المنصب بعده قاضي القضاة شرف الدين أبو محمد عبد الله بن الحافظ.
محمد بن سليمان بن أحمد
تاج الدين بن الفخر.
سمع من أبي عبد الله محمد بن غالب الجياني بمكة، ومن تقي الدين بن دقيق العيد بالقاهرة، ومن غيرهما.
وحدث بقوص وغيرها. واشتغل بالعلم. وكان متعبداً ممتنعاً عن الغيبة وسماعها.
له في السماع حال حسنة، وكتب الخط الجيد، وكتب كثيراً من الحديث والفقه وغير ذلك.
قال كمال الدين جعفر الأدفوي: لما عدل بعض الجماعة بقوص في أيام ابن السديد قام في ذلك وقصد أن لا يقع، وتوجه إلى مصر وقال قصيدة سمعتها منه أولها:
شريعتنا قد انحلت عراها ... فحي على البكاء لما عراها
وأقام بمصر.
وتوفي فيها - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
قلت: أنشدت بالقاهرة وقد تعدل جماعة سقاط:
تعدل كل جمري بمصر ... وشاف إلى العدالة كل جمري
فقل للفاسقين ازنوا تزكوا ... ولا تتأخروا فالوقت بدري
محمد بن سليمان بن همام بن مرتضى
الصدر القاضي جلال الدين ابن العدل وجيه الدين، المعروف بابن البياعة، أحد كتاب الإنشاء بدمشق، وناظر ديوان الرباع. كان أبوه من عدول القاهرة.
روى عن جعفر الهمذاني وغيره، وسمع منه علاء الدين الوداعي وغيره.
كان يمني نفسه بالوزاره، ويزعم أن طيفها جاءه في النوم وزاره، ويعد أصحابه بوظائف، ويجعلهم في الذهن كباراً وهم ما بين حارس وطائف، وله في ذلك آثار، وعند رفاقه الموقعين أخبار.
ولم يزل على ذلك إلى أن مرض مرضة طول فيها، وانقطع عواده وعدم تلافيها، وانفلج أخيرا، ولم يجد له في ذلك أجرة ولا أجيرا، ثم إنه أصبح ثالث التراب والمدر، وانقبض عن الأحياء وانقبر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ثلاثين وسبع مئة.(2/303)
ومولده سنة خمسين وست مئة.
وكان شيخاً طوالاً، مسترسل الذقن خفيفها، وكانت له معرفة بابن الخليلي الوزير، وصحبه، فمن هنا كان يحدث نفسه الأمارة بالوزارة، وبلغت هذه الأماني شمس الدين غبريال وكان يضحك منه ويهزو به، وما ترتب على ذلك إلا مصلحة من خلاص جامكيته وماله على الديوان.
جاء الأمير علاء الدين ألطنبغا من مصر متوجهاً رسولاً إلى مهنا عن السلطان قبل أن يلي نيابة حلب، فلما وصل إلى دمشق توجه إليه الصاحب شمس الدين وسلم عليه، وقال: يا مولانا الساعة يجيء إليك شيخ طوال صفته كذا وكذا، ونشتهي توهمه أنك سمعت هناك أنه يكون وزير الشام، وجاء الصاحب شمس الدين، وطلب جلال الدين وقال له: يا مولانا كنا عند هذا الأمير ورأيناه يسأل عنك كثيراً، وقال: لي معه كلام وأريد أجتمع به، رح إليه وعرفني أي شيء يقول لك، فتوجه إلى ألطنبغا، فحالما رآه عرفه بالصفة التي قررها عنده الصاحب شمس الدين، فقام إليه وأجلسه إلى جانبه وتلقاه، وقال: توقيع مولانا بوزارة دمشق قد كتب في مصر، وكان السلطان رسم بأن أحضره إليك ولكن تعوق ليكون التشريف قرينه، وفي هذه الأيام يصل إليك. ويا مولانا أنا والله قد بشرتك والحلاوة أنك لا تنسانا، فقال: بسم الله، وبينما هم في هذا الحديث دخل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، ولم يعلم القضية، فجلس فوقه إلى جانب الأمير، فتأذى جمال الدين وقال: هذا قلة أدب، فقال له الشيخ كمال الدين: إيش جرى؟ فذكروا له طرفاً من ذلك وأن تقليده بالوزارة واصل في هذه الأيام. فقال له الشيخ كمال الدين: يا شيخ مسكين هؤلاء يضحكون عليك. فقام وخرج مغضباً.
وقال يوماً للشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم: بلغني أنك لما كنت في مصر سعيت عند فخر الدين ناظر الجيش حتى أبطل كتابة تقليدي، فقال: والله يا مولانا ما دولة أكون أنا مشيرها وأنت وزيرها إلا دولة خرا.
وكان قد أنزل عليه الشيخ تاج الدين اليمني، وكان في زمن الأفرم بدمشق، وكان ينشئ له ما يحتاج إليه في الديوان.
محمد بن سليمان بن عبد الله بن سليمان
المحدث الفقيه الفاضل تقي الدين الجعبري، الشاهد.
سمع من الحجار وطبقته، وقرأ عليه كثيراً، وتخرج بوالد حميه شيخنا الحافظ جمال الدين المزي، وقرأ على العامة، وهو رفيقي في أكثر مسموعاتي بالشام، وقد كنت أجزت له ولأولاده.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وسبع مئة.
محمد بن سليمان بن أحمد
القاضي شمس الدين القفصي، بالقاف المفتوحة والفاء الساكنة، وبعدها صاد مهملة، نائب الحكم العزيز المالكي بدمشق.
ناب لقاضي القضاة شرف الدين المالكي، ومن بعده لقاضي القضاة جمال الدين المسلاتي.
كان فهماً بمذهب مالك رضي الله عنه، خبيراً بالأحكام، وفي لسانه عجمة المغاربة، يجعل الثاء سيناً والجيم زاياً. وكان يسكن المنيحة، ويدخل المدينة كل يوم ويخرج منها. وكان إذا رأى في مجلس حكمه ما لا يعجبه قال بفمه، وأشار بيده بالفحش، ويقول للمرأة التي يتأذى منها: واللك يا مومس.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثاني شوال يوم الأحد سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
وكانت له مشاركة في العربية والأصول، عفا الله عنه وسامحه.
وكان قد ولي نيابة الحكم في صفر سنة عشرين وسبع مئة.
محمد بن شرشيق
بكسر الشين المعجمة وبعدها راء ساكنة وسين ثانية معجمة وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة وقاف، ابن محمد بن عبد العزيز بن عبد القادر بن صالح بن دوست بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله الجون بن عبد الله المحسن بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الشيخ الإمام العارف الكامل شمس الدين أبو الكرم ابن الشيخ الإمام القدوة حسام الدين أبي الفضل ابن الشيخ الإمام القدوة جمال الدين أبي عبد الله ابن الشيخ الإمام علم الدين الزهاد شمس الدين أبي المعالي ابن الشيخ الإمام قطب العارفين أبي محمد الجيلي الحسني الحنبلي المعروف بالحيالي، بكسر الحاء المهملة والياء آخر الحروف وألف بعدها لام، والحيال: بلدة من أعمال سنجار.(2/304)
حفظ القرآن العظيم في صباه، والفقه للإمام أحمد، وسمع الحديث وهو كثير من جماعة منهم الإمام فخر الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد البخاري المقدسي بدمشق، وأبو العباس أحمد بن محمد النصيبي بحلب، والإمام عفيف الدين أبو محمد عبد الرحيم بن محمد بن أحمد بن الزجاج بمكة، والإمام عفيف الدين أبو محمد عبد السلام بن محمد بن كزروع المصري البصري بالمدينة الشريفة. ورحل وحدث ببغداد ودمشق والحيال وغيرها من البلاد.
وروى عنه جماعة منهم أولاده المشايخ حسام الدين عبد العزيز، وبدر الدين حسن، وعز الدين الحسين، وظهير الدين أحمد، ومحدث العراق تقي الدين أبو الثناء محمود بن علي بن محمود الدقوقي الحنبلي، والشيخ الإمام زين الدين أبو الحسن علي بن الحسين بن شيخ العوينة الموصلي الشافعي، والإمام بدر الدين محمد بن الخطيب الإربلي الشافعي، وخلق.
كان مشهوراً بالصلاح والعبادة والزهد والسماح، يكاثر الغمام إذا سح، ويتحقق البحر الزاخر معه أنه شح. وله هيبة في النفوس وعليه وقار وناموس، يعظمه الناس وهو لا يعبأ بأمرهم، ولا يلتفت إلى شواظ نارهم ولهيب جمرهم، وكان ملوك دار بكر يحبونه ويخدمونه ويحيونه ويقبلون إشاراته ويقبلون على رسائله وإماراته، ولهم فيه اعتقاد وانتفاء لما يؤثره منهم وانتقاد، ومع ذلك مليح الخلق، صبيح الخلق، زائد الحشمه، كثير الإحسان للناس والخدمه.
ولم يزل على حاله إلى أن حالت حياة الحيالي وأبلت جدته الأيام والليالي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الجمعة سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده ليلة الجمعة منتصف شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وست مئة بالحيال.
وبيته بيت رياسة وحشمة وسؤدد ومروءة. والخير والإحسان معروف بهم، ولم تمس يد هذا الشيخ شمس الدين من نشأته إلى موته فضة ولا ذهباً، وجوده في تلك البلاد مشهور، وكان له كشف وأحوال وحلم وتجمل، وهو وأهل بيته معروفون بمناصحة الإسلام، ويكاتبون ملوك مصر ونواب أطراف بلاد الشام.
ولما كنت في الرحبة سنة تسع وعشرين وسبع مئة وما بعدها أهديت إليه قماشاً إسكندرياً وأهدى إلي أشياء من طرائف سنجار، ولم تزل رسله مدة مقامي بالرحبة تتردد إلى الرحبة وأخدمهم وأقوم بما يجب لأجله. رحمه الله تعالى.
محمد بن شريف بن يوسف
الفاضل الكاتب المجيد صاحب الخط الفائق، شرف الدين ابن الوحيد الزرعي.
سافر إلى الحجاز والعراق، واجتمع بياقوت المجود.
كان تام الشكل، متأنقاً في اللبس والأكل، حسن الزه، لدن المهزه، موصوفاً بالشجاعه، وبالعبارة السادة والبراعه، يتكلم بعدة ألسن، ويأتي فيها بما يروق ويحسن، وقد ضرب بحسن كتابة المثل، وسار ذكرها في السهل والجبل، لأنها أخملت زهرات الخمائل، وفاقت على من تقدمه الأوائل، فلو رآه ابن البواب لجود تحت مثاله، وعلم أن بدر هذا فاق على هلاله، أو ابن مقلة شخص إليه إنسانه، وعلم أنه ما تلحق إجادته ولا حسانه، أو الولي التبريزي لتحقق أنه قد برز وسبقه، وأنه ما يشم ريحانه ولا محققه.
وكان قد فضح الأوائل والأواخر بفصاح نشخه، وتفرد هو بكمال الخط وترك غيره يخبط في مسخه، فما أحقه بقول البستي:
إن هز أقلامه يوماً ليعملها ... أنساك كل كمي هز عامله
وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له
أما أنا فلا أرى أحداً مثله كتب في المحقق والريحان وفصاح النسخ، لأنه أتى في ذلك بالإبداع. وكان في حياته يبيع المصحف نسخاً بلا تجليد ولا تذهيب بألف درهم. وكان ابن تمام قد كتب عليه وحكى طريقه، وكان يكتب المصاحف فيقول له: اكتب أنت المصحف وهاته إلي. فإذا أتى به يزن له أربع مئة درهم، ويأخذ الشيخ شرف الدين فيكتب في آخره: كتبه محمد بن الوحبد، ويبيعه هو بألف درهم.
وروى عنه البرزالي وقاضي القضاة جلال الدين القزويني.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن الوحيد في قبره وحيدا، وفقد الناس منه كاتباً فريدا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في البيمارستان المنصوري بالقاهرة في يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده بدمشق سنة سبع وأربعين وست مئة.
وكان يتكلم بعدة ألسن، وكان يتهم في دينه. قيل: إنه وضع الخمر في دواته وكتب منها المصحف.(2/305)
وأخوه علاء الدين مدرس البادرائية كان ممن يحط عليه ويذكره بكل سوء، وكان قد اتصل بخدمة الجاشنكير قبل السلطنة وأعجبه خطه. فكتب له ختمة في سبعة أجزاء في ورق بغدادي قطع النصف بليقة ذهب، قلم الأشعار، دخل فيها ألف وست مئة دينار ليقة، فدخل في الختمة ستة مئة دينار وأخذ هو الباقي، فقيل له في ذلك، فقال: متى يعود آخر مثل هذا يكتب علي مثل هذه الختمة، وزمكها صندل، ورأيتها أنا وهي وقف بجامع الحاكم بالقاهرة وما أظنها يكون لها ثان من حسنها، ولما فرغت أدخله الجاشنكير ديوان الإنشاء، فما أنجب في الديوان، فكانت الكتب التي تدفع إليه ليكتبها في أشغال الناس على القصص تبيت عنده وما تتنجز، وهذا تعجيز من الله تعالى لمثل هذا الكاتب العظيم. كما يحكى عن الحريري صاحب " المقامات " وأنه بعد عمل المقامات طلب إلى ديوان الإنشاء ببغداد فأعطاه صاحب الديوان كتاباً فمكث فيه من بكرة النهار إلى الظهر وهو ينتف عثنونه، ولم يفتح الله عليه بشيء حتى قال فيه ابن حكينا:
شيخ لنا من ربيعة الغرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان وقد ... ألجمه في العراق بالخرس
هذا وقد كان يوماً في بعض مجالس الأكابر، فجرى ذكر البستي وقوله في رجل بخيل شرير: إن لم يكن لنا طمع في درك فاعفنا من شرك شرك، فلم يبق أحد حتى استحسنها، وأقر بالعجز عن الإتيان بمثلها، فقال الحريري في الحال: وإن لم تدننا من مبارك فأبعدنا عن معارك معارك.
قلت: وما لابن الوحيد والحريري إلا قول أبي الطيب:
وتوهموا اللعب الوغى والطعن في ال ... هيجاء غير الطعن في الميدان
ولهذا، إنه لما دخل ابن الوحيد ديوان الإنشاء بلغ القاضي شرف الدين بن فضل الله صاحب الديوان عنه كلام يفهم منه أنه ينقص به، فطلبه وقال: اقعد. أعطوه درجين قطع الثلاثين، وقال: أوصل أحدهما بالآخر وعجل، فوصلهما. فقال: اكتب وعجل إلى صاحب اليمن وهد قوائمه، وزعزع أركانه فيه، وتوعده وهدده، ثم لطف القول حتى لا ييأس، ثم عد ببعض تلك الغلطة الأولى وعرفه أن العساكر التي نجهزها إليه يكون أولها عنده وآخرها عندنا، وذكره باصطناعنا لوالده قبله، وأنه لو شئنا ما تركناه جالساً على سرير مملكته، ولكن نحن نرعى هذا البيت الأيوبي، ومن هذا وأشباهه. وعجل بكتابة هذا لأدخل وأقرأه على السلطان، فبهت شرف الدين وأسقط في يده وأرعدت فرائصه، ولم يدر ما يقول ولا ما يكتب، ثم إنه اعترف وقال: يا مولانا والله ما أنا قدر هذا، والعفو. فقال له: إذا كنت كذا فلا تكن بعدها تكثر فضولك. فاستغفر الله وخرج.
وكان الشيخ شرف الدين شيخ خطيب بعلبك وغيره ممن كتب عليه.
ونظمه فيه يبس قليل، إلا أنه كان جيد العربية، عارفاً باللغة، وله رسائل كثيرة وقصيدة لامية سماها " سرد اللام في مادة لامية العجم " .
وكان الله قد رمى بينه وبين محيي الدين البغدادي حتى عمل له ذلك المنشور المشهور الذي أقطعه فيه قائم الهرمل وأبو عروق وما أشبه هذه الأماكن.
ولقد وقفت أنا بالديار المصرية على كتاب " خواص الحيوان " وفي بعضه ذكر الضبع، ومن خواص شعره أنه من تحمل بشيء منه حدث به البغاء، وقد كتب ابن البغدادي على الهامس: أخبرني الثقة شرف الدين بن الوحيد أنه جرب ذلك فصح معه، أو كما قال.
ومما ينسب إلى ابن الوحيد، ورأيته لغيره:
وخضراء لا الحمراء تفعل فعلها ... لها وثبات في الحشا وثبات
تؤجج ناراً في الحشا وهي جنة ... وتبدي مرير الطعم وهي نبات
ومن شعر ابن الوحيد:
الله باري قوس حاجبه التي ... مدت وإنسان العيون النابل
ولحاظه نبل لها من هدبه ... ريش وأفئدة الأنام مقاتل
ومنه:
جهد المغفل في الزمان مضيع ... وإن ارتضى أستاذه وزمانه
كالثور في الدولاب يسعى وهو لا ... يدري الطريق ولا يزال مكانه
وكان السراج الوراق قد مرض في وقت، فجهز إليه شرف الدين بن الوحيد أبلوجة سكر ومعها رقعة بخطه المليح، فكتب إليه السراج ومن خطه نقلت:
أرسل لي ابن الوحيد لما ... مرضت بالأمس جام سكر
ومدحةً لي بخطه لي ... فقلت ذا سكر مكرر(2/306)
حلى وحلى فمي وجيدي ... عقد شراب وعقد جوهر
ووقف يوماً شيخنا ناصر الدين شافع على شيء من نظم ابن الوحيد فقال:
أرانا يراع ابن الوحيد بدائعا ... تشوق بما قد أنهجته من الطرق
بها فات كل الناس سبقاً فحبذا ... يمين له قد أحرزت قصب السبق
فقال ابن الوحيد:
يا شافعاً شفع العليا بحكمته ... فساد من راح ذا علم وذا حسب
بانت زيادة حظي بالسماع له ... وكان يحكيه في الأوضاع والنسب
فجاءني منه مدح صيغ من ذهب ... مرصعاً بل أتى أبهى من الذهب
فكدت أنشد لولا نور باطنه ... أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
فلما بلغت هذه الأبيات ناصر الدين شافعاً قال:
نعم نظرت ولكن لم أجد أحداً ... يا من غدا أوحداً في قلة الأدب
جازيت مدحي وتقريظي بمعيرة ... والعيب في الرأس دون العيب في الذنب
وزدت في الفخر حتى قلت منتسباً ... بخطك اليابس المرئي كالحطب
بانت زيادة حظي بالسماع له ... وكان يحكيه في الأوضاع والنسب
كذبت والله لن أرضاه في عمري ... يا بن الوحيد وكم صنفت من كذب
جازيت نظمي وقد نضدته درراً ... يروق سمع الورى دراً بمحتلب
وما فهمت مرادي في المديح ولو ... فهمته لم توجهه إلى الأدب
سأتبع القاف إذا جاوبت مفتخراً ... بالزاي يا غافلاً عن سورة الغضب
خالفت وزني عجزاً والروي معاً ... وذاك أقبح ما يروى عن العرب
قلت: ابن الوحيد - رحمه الله تعالى - معذور في العدول عن الوزن والقافية لأنه ما كان يجد في ذلك الوزن والقافية مثل قول أبي الطيب: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي، فإن ناصر الدين كان ذلك الوقت قد أضر، وقد احترز ابن الوحيد بقوله: " لولا نور باطنه " احترازاً، لكنه ما أفاده مع تسرع ناصر الدين شافع، ورحم الله كلا منهما.
وأخبرني شيخنا الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس اليعمري - رحمه الله تعالى - قال: كان شرف الدين بن الوحيد الكاتب يقول في قول القائل: " النبيذ بغير الدسم سم، وبغير النغم غم " : هاتان السجعتان ما وقع لهما ثالث، وهو قولي: " وبغير المليح قبيح " .
قلت أنا: ما كان ابن الوحيد - رحمه الله تعالى - لمح فيهما من الجناس المرقص والمطرب، ولو أن الأمر راجع إلى السجع فقط أو إلى الوزن فقط عمل الناس مجلدات من هذا النوع، ولكن أنا تكلفت لهما ثالثاً: " وبغير النهم هم " أعني أن الإكثار من الشراب سبب الانشراح والسرور، على العادة من كلام أولعوا بالشراب وبالغوا في الإكثار وحثوا على معاقرته.
محمد بن شكر
الشيخ الإمام الفاضل شمس الدين الديري الشافعي الناسخ.
كتب ما لا يحصى كثرة، وكان مقرئاً بالسبع، وكان يعرف علم الحرف ويتكلم عليه جيداً إلى الغاية، وله مشاركة في علوم كثيرة، وأظنه كتب في المصطبة في وقت. والله أعلم.
وكانت له عناية بتصانيفي، لا يسمع بشيء منها إلا ويكتبه لنفسه أولاً وللناس ثانياُ، وكتب من الكتب الستة الصحاح كثيراً، ومن كتب الفقه المطولة كثيراً.
ثم إنه آخر الحال أقام بدار الحديث الأشرفية يرتزق بالنسخ إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة وقد قارب التسعين عفا الله عنه.
محمد بن الشنبكي
بالشين المعجمة والنون الساكنة وبعدها باء موحدة وكاف، ناصر الدين.
كان من ظرفاء القاهرة، ساكناً خيراً، يلعب بالعود ويلوذ بالقاضي جمال الدين رئيس الأطباء، ورأيته بسوق الكتب مرات وكتب إلي يوماً:
أيا صلاح الدين يا فاضلاً ... لفظك ما أسمى وأسناه
كالدر منظوماً وإن كان منثوراً فما أغلى وأعلاه
إن دار بين الشرب في أكؤس ال ... أفواه ما أجلا وأحلاه
ما الزهر ما الزهر إذا استمتعوا ... منه برؤياه ورياه
فيطرب السمع لألفاظه ... ويرقص القلب لمغناه
فكتبت أنا الجواب إليه:(2/307)
يا ناصر الدين الذي نظمه ... قد زان مغناه ومعناه
أتحفتني منه بشعر غدا ... كالزهر مرآه ورياه
فلفظه إن حال في منطق ... حلاه أو في السمع حلاه
يحكي محياك الكريم الذي ... حياه لي الله وحياه
كذا يكون الشعر يا مالكي ... ما كل من أنشاه وشاه
محمد بن شهري
الأمير شجاع الدين متولي بعلبك.
توفي يوم الأحد خامس شهر رجب سنة تسع وتسعين وست مئة، ودفن بمقبرة اللوزة يوم الاثنين.
محمد بن صالح بن حسن
شمس الدين بن البنا القفطي الشافعي.
كان فقيهاً أديباً شاعراً، أخذ الفقه والأصول عن الشيخ مجد الدين بن دقيق العيد وتلميذه بهاء الدين القفطي، وتولى الحكم بسمهود والبلينا وجرجا وطوخ.
وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد يكرمه، وتوجه صحبته إلى دمشق، وسمع منه. قال ابن الوالي: قد سمع منه بقوص.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ثمان وتسعين وست مئة.
محمد بن صبيح بن عبد الله
بدر الدين، رئيس المؤذنين بالجامع الأموي بدمشق المعروف بالتفليسي، لأن والده كان عتيق امرأة كانت ابنة كمال الدين التفليسي التاجر، وتارة كان ينتسب إلى الكرخي.
سمع على أبيك الجمالي سنة سبع وخمسين وهو حاضر في الخامسة، وسمع بعد ذلك على ابن عبد الدائم، وعمر الكرماني، وأبي بكر بن النشبي، وأحمد بن نعمة المقدسي، وغيرهم.
وقرأ القرآن على الشيخ يحيى المنبجي. وكان حسن الصوت في القراءة والأذان والتسبيح موصوفاً بذلك مشهوراً في البلاد، سمع منه الطلبة وأم بنائب السلطنة مدة، وولي حسبة الصالحية والإشراف على الجامع الأموي. وكان يقرأ في المصحف على الكرسي عقيب صلاة الصبح ويخرج أمام الخطيب يوم الجمعة بالسواد.
توفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة خمس وعشرين وسبع مئة بخانقاه الطواويس.
ومولده تقريباً سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
محمد بن أبي طالب الأنصاري الصوفي
شمس الدين المعروف بشيخ حطين أولاً، ثم أخيراً بشيخ الربوة.
رأيته بصفد مرات، واجتمعت به مدة مديدة.
كان من أذكياء العالم وأقوياء الفهم الذي من رزقه فقد سلم وسالم. له قدرة على الدخول في كل فن، وجرأة على التصدي لكل ما سنح في الأذهان وعن، رأيت له عدة من التصانيف في كل علم حتى في الأطعمه، وكل ما يعمل على النار المضرمه، وفي أصول الدين على غير طريق الأشاعره، ولا طريق الاعتزال ولا الحشوية المتظاهره، لأنه لم يكن له علم. وإنما كان ذكيا، وعقله بفهم الغرائب زكيا، فكنت يوماً أراه أشعرياً، ويوماً أراه معتزليا، ويوماً أراه حشويا، ويوماً أراه يرى رأي ابن سبعين وقد نحا طريقه، وتكلم على العرفان والحقيقه. نعم كان يتكلم على الأوفاق ووضعها، وحفظها فيما يستعمله ورفعها، ويتكلم على أسرار الحروف كلاماً مناسبا، ويدعي أنه لا يرى دونه في ذلك حاجبا، ويعرف الرمل ويتقنه ضربا، ويدريه جنساً ونوعاً وضربا.
وكان ينظم نظماً ليس بطائل، ويستعير فيه ما يريده من جميع القبائل، وكان قد لحقه الصم، وحصل به له ولمن يعرفه ألم، ثم أضر بأخرة من عينه الواحده، وبقي رحمه لمن يراه عدواً أو عنده له معانده.
ولم يزل على حاله إلى أن رأى عين اليقين، وعلم أن معارات الدنيا لا يحمين من الموت ولا يقين.
وتوفي - رحمه الله تعالى - فيما أظن في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبع مئة بصفد.
ومولده سنة أربع وخمسين وست مئة.
نقلته من خط شيخنا البرزالي.
كان ذكياً وعبارته حلوة، ما تمل محاضرته، وكان يدعي عمل الكيمياء، ودخل على الأفرم وأوهمه شيئاً من ذلك، فولاه مشيخة الربوة، والظاهر أنه كان يعلم منها ما يخدع به العقول، ويتلعب بالألباب الأغمار، ولما جاء إلى صفد ورأيته بها كان شيخ قرية علمين الفقراء، وهي قرية عند قرية مغران بالقرب من الشريعة عند جسر يعقوب، وقف السلطان صلاح الدين يوسف تغمده الله تعالى برحمته.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: ومولده بزاوية جده الشيخ أبي طالب بقصر حجاج بدمشق.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: وأعرف جده أبا طالب، وكان صالحاً يصلي الجمعة دائماً تحت النسر، انتهى.(2/308)
قلت أنا: وهو شيخ النجم الحطيني المعروف بنجيم الذي سمره السلطان الملك الناصر بالقاهرة وجهزه إلى دمشق مسمراً على جمل، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف النون مكانه، وكان هذا النجم يخدمه، وهو شيخ الخانقاه بحطين من بلاد صفد، وورد عليهم إنسان في تلك المدة أضافوه على العادة، وكان هذا النجم رأى مع الضيف ذهباً، فاتبعه لما سرى من الخانقاه، وقتله في الطريق وأخذ ذهبه، وبلغت القضية نائب صفد الأمير سيف الدين كراي، فأحضر الشيخ شمس الدين وضربه ألف مقرعة، على ما قيل، وعوقب زماناً، ثم أفرج عنه، ثم إن هذا النجيم كان بعد ذلك يؤذي الشيخ. حكى لنا الشيخ شمس الدين قال: كنت أخافه على نفسي، فأنام في الربوة وأغلق باب المكان وهو محدود، وأستوثق من الأقفال وغيرها، وأكون نائماً آمناً، وما أشعر به إلا وقد أيقظني فأفتح فأرى السكين في يده مجردة، ويقول: يا أفخاذ الغنمة، ما تريد أن أفعل بك؟ قال: فأدخل بكل طريق من ضروب الخداع والتلطف أنه أي فائدة في قتلي، وفرضنا أني قتلت، فهل في هذا فائدة تحصل، ولا أزل أخدعه حتى يمضي ويتركني.
وأنشدني لنفسه ومن خطه نقلت:
الله أكبر يا الله من قدر ... حارت عقول أولي الألباب في صدره
نجم به كسفت شمس وذا عجب ... أن يكسف الشمس جرم النجم مع صغره
ولم يزل الشيخ شمس الدين مروعاً من هذا النجم إلى أن سمر. وكان ما يسميه بعد ذلك إلا الهالك، ويكني عن نفسه بالشخص. فيقول: جرى للشخص مع الهالك كيت وكيت، وما كانت حكاياته عنه تمل، لأنه يؤديها بعبارة فصحى وينمقها ويزمكها.
وجمع هذا الشيخ كتاباً في علم الفراسة سماه " كتاب السياسة في علم الفراسة " كتبته بخطي من خطه، وتناولته منه بصفد، ولم أر في كتب الفراسة مثله، وقد نقله مني جماعة أفاضل بمصر والشام منهم الشيخ شمس الدين الأكفاني، لأنه جمع فيه كلام الشافعي رضي الله عنه وكلام ابن عربي وكلام صاحب المنصوري وكلام أفلاطون وكلام أرسطو، فجاء حسناً إلى الغاية.
ولحقه صم زائد قبل موته بعشرة أعوام، أضرت عينه الواحدة. وتوفي بمارستان الأمير سيف الدين تنكز بصفد رحمه الله تعالى.
كان من أفراد العالم وله في كل شيء يتحدث فيه مصنف.
وأنشدني من لفظه لنفسه، ومن خطه نقلت، في مليح كان يميل إليه، وتوكل بقرية فرادية من عمل صفد، ولاه الحاكم بصفد هذه الوكالة:
قل للمقيمين بفراديه ... من ذا الذي أفتى بإفراديه
ومن لحيني في الهوى عامداً ... أصدرني من قبل إفراديه
وما الذي أوجب هجري وأن ... تقصد الأتراك أكراديه
فقيل مت في حبهم أو فعش ... فما لمقتول الهوى من ديه
وهجرك الحكم العزيز اقتضى ... من غير ما ذنب ولا عاديه
وإنما سنة أهل الهوى ... تغاير الحضار والباديه
ونقلت من خطه له:
للنفس وجهان لا تنفك قابلةً ... مما تقابل من عال ومستفل
كنحلة طرفاها في مقابلة ... فيها من اللسع ما فيها من العسل
ونقلت من خطه وأنشدنيه:
نظر الهلال إليه أول ليلة ... فرآه أحسن منظراً فتزيدا
ورآه أحسن وهو بدر فهو من ... غم يذوب ويضمحل كما بدا
ونقلت من خطه له:
يا من تعالى أن يجوز بذاته ... وصفاته التلويح والتصريح
أنت العلي عن الصفات بأسرها ... لكن تنزيلك اللطيف يبوح
والقول منا عند كل تعقل ... وتخيل وتوهم سبوح
ونقلت من خطه له، يعني نفسه:
تأدب حتى لم يجد من يناظره ... وحتى قلته كتبه ودفاتره
ودارس ما فيها فلم ير ذا حجى ... وذا أدب مما يراه يحاوره
وطاب به الحرمان من كل جانب ... وظل إليه الفقر تسعى بوادره
فلو رام بحراً زاخراً وهو ظامي ... يحاول منه شربة غاص زاخره
وكان يعرض شعراً كثيراً علي وأغير منه كثيراً.(2/309)
وكان صبوراً على القلة والفقر والوحدة، كثير الآلام والأوجاع. وكان به انفتاق في أنثييه يثور به كل قليل ويقاسي منه شدة، وكان قد كبر سنه وأنقى شيبه. والذين رأيتهم يقومون بعلم الفراسة ثلاثة: شيخنا نجم الدين بن الكمال الصفدي الخطيب رحمه الله تعالى، وهذا الشيخ شمس الدين، والحكيم أسد اليهودي، وكان أصدقهم فراسة أسد اليهودي، ولكنه لما رأى هذا المصنف الذي ذكرته لشيخ الربوة معي بحلب سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة وطلبه مني لينسخه، فأبيت، ثم طلبه بدمشق، ثم طلبه بالقاهرة وما اتفق إعطاؤه.
محمد بن طرنطاي
الأمير ناصر الدين ابن الأمير الكبير حسام الدين، أمير مئة مقدم ألف بالديار المصرية.
وكان قد اتصل ببستان ابنة الأمير سيف الدين قبجق نائب الشام، أظنها كانت أولاً زوجة الأمير سيف الدين كراي المنصوري نائب الشام.
كان جيداً خيراً، سليم الباطن، وعنده ثلاثة مماليك اسم أحدهم " حلب " والآخر " مصر " والآخر " دمشق " ، وهو ابن الأمير حسام الدين طرنطاي نائب الديار المصر لأستاذه الملك الناصر.
وحج الأمير ناصر الدين أربع مرات.
وكان قد أجاز له ولأخوته سنة سبع مئة الحافظ شرف الدين الدمياطي، والأبرقوهي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الخميس تاسع شهر رجب الفرد سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمدرسة والده داخل القاهرة.
محمد بن طغريل الصيرفي
المحدث، المخرج، مفيد الطلبة، ناصر الدين الدمشقي.
روى عن أبي بكر بن عبد الدائم، والمطعم. وقرأ الكثير. وسمعت بقراءته " صحيح " مسلم على البندينجي الصوفي وغير ذلك. وكان سريع القراءة فصيحها يأتي فيها إتيان السيل إذا تحدر، لا يكترث ولا يدأب فيها.
توفي - رحمه الله تعالى - غريباً في حماة سنة سبع وثلاثين وسبع مئة ولم يتكهل أو بلغ الأربعين.
قال شيخنا شمس الدين الذهبي: جيد التحصيل، مليح التصريح، كثير الشيوخ، حسن القراءة، ضعفوه من قبل العدالة، ثم ترددنا في ذلك وتوقفنا، فالله يصلحه، ولو قبل النصح لأفلح.
قلت: لم يطعنوا عليه إلا لأنه إذا قرأ قلب الورقتين والثلاث، والله أعلم.
محمد بن طغلق شاه
السلطان الأعظم العادل الفاضل أبو المجاهد، صاحب دهلي وسائر مملكة الهند والسند ومكران والمعبر، وكان يخطب له بمقدشوة وسرنديب وكثير من الجزر البحرية.
ورث الملك عن أبيه طغلق شاه، ملك هو إسكندر زمانه، وحاكم الأرض في عصره وأوانه، قد دوخ البلاد، ودخل في طاعته العباد، يحكم على بلاد الهند، وما دخل في مسمى السند، ليس في ملوك الأرض من يدانيه في اتساع ملكه، ولا من ينخرط در بلاده في سلكه، تكاثر الرمال عساكره، وتفاخر النجوم جواهره، وتغامر البحار الزاخرة ذخائره، وتحصى الحصى قبل أن تحصى مآثره إذا تغلغل طرف المرء في طرف من ملكه غرقت فيه خواطره، كريم بخل الغمام، وجواد أضحت هباته هي الأطواق والناس الحمام، تغرق البحار في فضاء كرمه، وتستحي السيول أن تطأ مواطئ حرمه، قد وسع الناس طوله، وشملهم بالإحسان فعله وقوله، ما أمه عاف إلا وتلقاه الغنى، وسرى الفقر عنه والعنا، ونوله في مبادي جوده غايات المنى:
وغير كثير أن يزورك راجل ... فيرجع ملكاً للعراقين واليا
وأما تواضعه لله تعالى مع هذه العظمة فأمر عجيب، وفعل لا يصدر إلا ممن إذا دعاه الهدى يجيب.
وأما محبته لأهل العلم فشيء زاد على الصفة، وعجزت عن إدراك كنهها بنت كل شفة، يجعلهم ندماءه الخواص وجلساءه الذين هم في بحر كرمه غواص، يتقرب إليهم بالمكارم، ويحكمهم في أمواله كما يحكم في فريسته الليث الضبارم.
لم يزل على حاله إلى أن أوحش منه إيوانه، وما أغنى عنه ماله وهلك عنه سلطانه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة تقريباً.
مما يستدل به على عظمة هذا السلطان أنه ورد في وقت كتابه إلى سلطاننا الأعظم محمد في مقلمة ذهب وزنها ألفا دينار، وهي مرصعة بجوهر قوم بثلاث آلاف دينار.(2/310)
وكنت يوماً عند الأمير عز الدين أيدمر الخطيري وقد جاء إنسان في زي فقير، فقال: يا خوند أنا جئت في جملة من أرسله السلطان صاحب الهند محمد بن طغلق شاه، وسبب الرسالة أن السلطان فتح تسعة آلاف مدينة وقرية أو قال: تسعة عشر ألف، وأخذ من ذلك ذهباً عظيماً يتجاوز الحد والوصف، وانتعل من مدينة دهلي كرسي ملكه إلى وسط هذه البلاد التي فتحها ليكون قريباً من الأطراف، وأنه أجري يوماً عنده ذكر مكة والمدينة. فقال: أريد أن يتوجه من عندنا ركب يحج في كل سنة، فقيل له: إن ذلك في مملكة الملك الناصر محمد بن قلاوون، فقال: نجهز إليه هدية، ونطلب منه الإذن في ذلك. وأنه جهز إليه مركباً قد ملئ من التفاصيل الهندية الفائقة خيار ما يوجد، وعشرة بزاة بيض وخدم وجواري، وأربعة عشر حقاً قد ملئت من فصوص الماس، وكنت أنا في جملة المسفرين. وأننا لما وصلنا إلى اليمن أحضر صاحب اليمن المماليك الذين في خدمة الرسول، وقال لهم: أي شيء يعطيكم صاحب مصر، اقتلوا أستاذكم وأنا أجعلكم أمراء عندي، فلما قتلوه شنق الجميع وأخذ المركب بما فيه، وأريد أن تحضرني عند السلطان فأدخله الأمير عز الدين الحظيري إلى السلطان وحكى له الواقعة.
وكتب القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله في ذلك الوقت كتاباً إلى صاحب اليمن جاء فيه عند ذكر ذلك: وبعد أن كان في عداد الملوك أصبح وهو من قطاع الطريق.
ومن الأدلة على سعة ملكه وكثرة الذهب عنده أنه أقل ما يوجد الدينار عنده مثقالين وثلاثة كثيراً، ويوجد الدينار خمسين مثقالاً، وأنا رأيت في الرحبة ديناراً زنته تسعون مثقالاً.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: وكان طغلق شاه رجلاً تركياً من مماليك ملوك الهند، ويقال إنه الذي عمل أبيه فقتله. قالوا: صورة قتله أنه تركه في خركاه وقد بدت به علة، ثم إنه هيج عليه الفيلة حتى أتى فيل منها على الخركاه وحطمها وألقاها عليه، وتمادوا في إخراجه حتى أخرجوه ميتاً لا روح فيه.
قال: وكان محمد هذا عنيناً لكي كوي على صلبه أيام الحداثة لعلة حصلت له، وهو متمذهب بمذهب أبي حنيفة، يحفظ في المذهب كتاب " الهداية " . وقد شدا طرفاً جيداً من الحكمة، ويحضر مجلسه الفقهاء للمناظرة بين يديه، ويجيز الجوائز السنية، وملكه ملك متسع جداً، وعسكره كثير.
قال: ذكر الافتخار عبد الله دفتر خوان الواصل في الرسلية في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون أن عسكره مبلغ تسع مئة ألف فارس، قال: وفي ذلك نظر، إنما الشائر الذائع أنه يقارب الست مئة ألف يجري على كلهم ديوانه، منهم الفارس والراجل، والراجل أكثر لقلة الخيل عندهم، لأن بلادهم لا تنتج الخيل وتفسد ما يجلب إليها من الخيل. وذكر أن عنده ألفاً وسبع مئة فيل وأن عنده عدداً كثيراً من الأطباء والندماء والشعراء بالعربية وبالفارسية وبالهندية، وعدداً كثيراً من المغاني رجال وجواري قال: ونعته في بلاده: " سلطان العالم، إسكندر الزمان الثاني، خليفة الله في أرضه " ، ولهذا يدعو له الخطباء على المنابر في ممالكه والدعاة.
وفي بلاده معادن كثيرة وتجاوره كوة قراجل، بالقاف والراء والألف والجيم واللام، وهو جبل يقارب البحر المحيط الشرقي، وهي بلادكفار، وفيها معادن الذهب، وله عليها أتاوة جزيلة إلى غير ذلك. ومما يوجد في بعض بلاده من نفائس الياقوت والماس عين الهر والمسمى بالماذنبي. قلت: هو البنفش الماذنبي، يعنون أنه يقول: ما ذنبي كوني لم أكن بسعر البلخش.
قال: وذكر لي الشيخ مبارك الأنباتي، وكان من كبار دولته ثم تزهد: أن ابن قاضي شيراز أتاه بكتب حكمية منها كتاب " الشفاء " لابن سينا بخط ياقوت في مجلدة، فأجازه عن ذلك جائزة عظيمة، ثم إنه أمر بإدخاله إلى خزائنه ليأخذ منها ما يريد، فأخذ منها ديناراً واحداً وضعه في فمه فلما خرج ليقبل يده قيل له: ما فعل شيئاً، وأنه لم يتعرض إلا لدينار واحد فسأله عن ذلك. فقال: أخذت حتى امتلأ بطني، وطلع هذا الدينار من فمي، فأعجبه ذلك وضحك منه وأمر له بلك من الذهب، واللك عبارة عما يقارب المئتي ألف مثقال وسبعين ألف مثقال بالمصري.
قال: ولحقه يبس مزاج من قبيل السوداء، انتهى.
قلت: ومما يؤكد كرمه المفرط ما ذكرته في ترجمة الشريف عضد المذكور في حرف العين مكانه.
محمد بن طولو بغا
المحدث ناصر الدين أنو نصر التركي.(2/311)
شاب ساكن دين، كتب الأجزاء، ودار على الشيوخ وحصل. أجزت أنا له. وكان قد سمع من الحجار بعض " الصحيح " ، وسمع من ابن أبي التائب، وبنت صصرى، وخلق بنفسه. وكتب، وتخرج.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ......
ومولده سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
محمد بن طينال
الأمير ناصر الدين ابن الأمير الكبير سيف الدين نائب طرابلس وغزة وصفد.
كان الأمير ناصر الدين المذكور من جملة أمراء الطبلخاناه بدمشق. وكان ذا صورة بديعة ومحيا جعله البدر طلعته في الكمال طليعة، ووجنات يقطف الورد من جناتها الغضة، ويخال أنها خليطا عقيق أحمر وبلور أو مرجان وفضة، بحيث إنه ظهر للنساء في دمشق قماش يعرف بخدود ابن طينال، وبذل الناس في ذلك جملة من الأموال.
وكان في مرح الشبيبة يجري مرخى الرسن، ويملأ عينيه في غفلة الزمان عنه من الوسن، وورثه والده جملة من الأملاك والعين، ورخت الإمرة الذي هو من النعمة الطائلة أحد النصفين، فأذهب الجميع وتحمل ما يقاربه من الدين.
ولم يزل على حاله إلى أن خسف الموت بدره في الكمال، وأودع في بطن الأرض منه جملة من الجمال.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في بكرة الأربعاء تاسع عشري شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة.
محمد بن عالي بن نجم
الشيخ شمس الدين الدمياطي.
سمع من النجيب، والمعين الدمشقي.
وأجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في...
ومولده سنة خمسين وست مئة.
محمد بن عبد الجبار
معين الدين الأرمنتي الفلكي المعروف بابن الدويك.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: كان ينظم، وأنشدني من نظمه، وكان يعمل التقاويم، وأخبرني في بعض السنين أن النيل يقصر فجاء نيلاً جيداً، فعمل فيه بعض الشعراء أبياتاً منها قوله:
أخرم تقويمك يابن الدويك ... من أين علم الغيب يوحى إليك
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة أربعين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
محمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن محمد
الإمام المفتي البارع شمس الدين أبو عبد الله ابن الشيخ المفتي الزاهد فخر الدين البعلبكي الحنبلي.
سمع من خطيب مردا، وشيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري، والفقيه محمد الونيني، والزين بن عبد الدائم، والرضي بن البرهان، والنجم البادرائي، وجماعة، وتفقه على والده على الشيخ شمس الدين بن قدامة، وجمال الدين بن البغدادي، ونجم الدين بن حمدان.
وقرأ الأصول على مجد الدين الرووراوري، وبرهان الدين المراغي.
وقرأ الأدب على الشيخ جمال الدين بن مالك. وحفظ القرآن وصلى بالناس وهو ابن تسع، وحفظ " المقنع " و " منتهى السول " ، و " مقدمتي " أبي البقاء، وقرأ معظم " الشافية " لابن مالك.
وكان أحد الأذكياء المناظرين العارفين بالمذهب وأصوله، والنحو وشواهده، وله معرفة حسنة بالحديث والأسماء غير ذلك وعناية بالرواية. وأسمع أولاده الحديث.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة أربع وأربعين.
قال شيخنا الذهبي: سمع بقراءتي " معجم " الشيخ علي بن العطار، ولي منه إجازة.
وكان يبحث مع الشيخ تقي الدين بن تيمية.
محمد بن عبد الرحمن بن سامة
ابن كوكب بن عز بن حميد الطائي السوادي، الدمشقي الصالحي الحنبلي، الحافظ المتقن المحدث الصالح شمس الدين أبو عبد الله، نزيل القاهرة.
سمعوه من ابن عبد الدائم. وطلب بنفسه فسمع من ابن أبي عمر، وابن الدرجي، والكمال عبد الرحيم، وأصحاب حنبل والكندي. وارتحل فسمع بمصر من العز الحراني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وببغداد من الكمال الفويرة وعدة بواسط وحلب والثغر، وانتهى إلى أصبهان. قال شيخنا الذهبي: وما أظنه ظفر بها برواية.
وقرأ الكثير من الأمهات، وانتفع به الطلبة.
وكان فصيحاً سريع القراءة حسن الخط، له مشاركة في أشياء، وفيه كيس وتواضع ودين وتلاوة، وله أوراد، وتزوج بأخرة.
وكان عمه شهاب الدين بن سامه محدثاً عدلاً شروطياً، نسخ الأجزاء وحمل عن ابن عبد الدائم وعدة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - رابع عشري ذي القعدة يوم الثلاثاء سنة ثمان وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة.
وكانت وفاته بالقاهرة، ودفن بالقرافة بالقرب من الإمام الشافعي.
محمد بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب(2/312)
بهاء الدين الأسنائي.
كان فقيهاً فرضياً فاضلاً، تفقه على الشيخ بهاء الدين هبة الله القفطي، وقرأ عليه الأصول والفرائض والجبر والمقابلة، وكان يقول له: إن اشتغلت ما يقال لك إلا الإمام.
وكان حسن العبارة، ثاقب الذهن، ذكياً، فيه مروة، بسببها يقتحم الأهوال، ويسافر في حاجة صاحبه الليل والنهار.
قال كمال الدين جعفر: ثم ترك الاشتغال بالعلم وتوجه لتحصيل المال فما حصل عليه ولا وصل إليه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بقوص ليلة الأضحى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن زيد
البقراط الدندري، بدالين مهملتين بينهما نون ساكنة وبعد الدال راء.
قرأ القرآن على أبي الربيع سليمان الضرير البوتيجي، وقرأ أبو الربيع على الكمال الضرير، وتصدر للإقراء، وقرأ عليه جماعة بدندرا، واستوطن مصر مدة واشتغل بالنحو مدة، واختصر " اللمحة " نظماً، وقال في أول اختصاره:
وها أنا اخترت اختصار اللمحة ... أمنحه الطلاب فهو منحه
وفي الذي اختصرته الحشو سقط ... ليقرب الحفظ ويبعد الغلط
وفيه أيضاً بما أريد ... فائدة يحتاجها المريد
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وهو الآن حي.
قلت:....
محمد بن عبد الرحمن بن محمد
ابن عمر بن عبد الرحيم، الصدر الرئيس الكاتب شهاب الدين، أبو عبد الله بن العجمي كاتب الدرج بحلب، وهو أخو الشيخ عز الدين عبد المؤمن، وأخو الخطيب شمس الدين أحمد.
وقد تقدم ذكرهما في مكانيهما، وكانوا قد سمعوا على الشيخ كمال الدين بن النصيبي " الشمائل " للترمذي في سنة ثمان وثمانين وست مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - تاسع عشر شوال سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربتهم.
محمد بن عبد الرحمن بن عمر
الشيخ الإمام العلامة، ذو الفنون، قاضي القضاة جلال الدين أبو عبد الله القزويني الشافعي الأشعري.
سمع من الشيخ عز الدين الفاروثي وطائفة. وأخذ المعقول عن شمس الدين الأيكي.
كان قاضي القضاة جلال الدين شريف الخلال، منيف الجلال، وارف الظلال، صارف الملال، طود حلم، وبحر علم، يتموج فضائل، ويتبرج براهين ودلائل، بذهن يتوقد، ويدور على قطب الصواب كالفرقد، قد ملأ الزمان جودا، وجعل أقلام الثناء عليه ركعاً وسجودا.
ولم ير قاض أشبه منه بوزير، ولا إنسان كأنه وفي أثوابه أسد يزير، يجلس إلى جانب السلطان في دار عدله، ويغدو كالشمس بين أهلة وأهله، مهما أشار به هو الذي يكون، ومهما حركه فهو الذي لا يعتريه سكون. يرمل على يد السلطان لا يفعل ذلك غيره إذا حضر، ولا يتقدم عليه سواه من أشراف ربيعة أو مضر:
فالأمر مردود إلى أمره ... وأمره ليس له رد
جمع بين قضاء الشام والخطابة، وفاز في كل المنصبين بالإصابة، وطلب إلى قضاء الديار المصرية فسد ما فسد، وعوذته مكارمه " من شر حاسد إذا حسد " ، وأقام هناك مدة ينشر ألوية علومه، ويفيض على الناس سواكب غيومه. ثم إنه عاد إلى الشام عود الغمام إلى الروض إذا ذوى، والبدر التمام إلى الأفق الذي زل نجمه وهوى، فجدد معاهد الفضل والإفضال، وعمر غابه بالليث الخادر أبي الأشبال.
ولم يزل على حاله إلى أن زال ذلك الطود، وزل وتقشع ذلك المطر الجود.
وتوفي - رحمه الله تعالى - منتصف جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. وشيع جنازته خلق عظيم، ودفن في مقابر الصوفية.
ومولده بالموصل سنة ست وستين وست مئة.
وسكن الروم مع والده وأخيه، وولي بها قضاء ناحية وله من العمر نحو ثلاثين سنة، وتفقه وناظر واشتغل، وتخرج به الأصحاب، وناب في قضاء لأخيه قاضي القضاة سنة ست وتسعين، وناب في ما أظن لقاضي القضاة نجم الدين بن صصرى في أول المحرم سنة خمس وسبع مئة. وولي خطابة الجامع الأموي مدة.(2/313)
وطلبه السلطان إلى دمشق في جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وشافهه بولاية قضاء الشام، ووصله بذهب كثير ولما طلبه دافع عنه تنكز، فقال: هذا عليه ديون كثيرة، وابنه نحس ما يجمل أن يكون أبوه قاضي القضاة. فقال السلطان: أنا أوفي دينه، وولده أنا أدعه يقيم في الديار المصرية. فجهزه في نصف جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة. صلى بالناس صلاة الخسوف لأن القمر خسف تلك الليلة. ثم إنه صلى الصبح يوم الخميس وسافر إلى القاهرة.
وعاد إلى دمشق في خامس شهر رجب يوم الخميس، وباشر المنصب على أتم ما يكون وصرف مال الأوقاف على الفقراء والمحتاجين وراك المدارس، واستناب الشيخ جمال الدين بن جملة والشيخ فخر الدين المصري.
ولما كان في يوم الجمعة نصف جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة وصل البريد إلى دمشق فطلبه إلى مصر وولاه السلطان قضاء الديار المصرية، وعظمه ورفع شأنه، ورأى من العز والوجاهة ما لا رآه غيره.
وكان يرمل على يد السلطان في دار العدل.
قال لي القاضي شرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود، وقد كان كاتب السر بمصر، وقد خرج من يوم اثنين نهار دار عدل: اليوم أخرج قاضي القضاة جلال الدين من كمه ست عشرة قصة غير ما شفع فيه وأشار به وشكر منه، والجميع يقضيه السلطان وما يرده.
وحج مع السلطان، ورتب له ما يكفيه بزيادات، وأحسن في مصر إلى أهلها وإلى الشاميين، وكان في باب السلطان ذخراً وملجأ لمن يقصده من الشاميين يشفع له ويساعده على مقاصده، ويصله عند قدومه وعند سفره وما بين ذلك. وأحبه المصريون، وفتح لهم باب الاشتغال في الأصول. كنت يوماً عنده وقد جاء إليه محضر فيه شهود، فوقف على أسماء الشهود اسماً اسماً، والتفت وقال: من هو فلان؟ فقال أحد الواقفين: أنا يا مولانا، فقال له: ما أنت الذي كان يعمل الدوادارية لقبجق؟ قال: نعم. قال: ما هذه الحالة؟ فشكا بطالة وقلة. فقال له: اصعد إلى فوق، وأجلسه. ولما انقضى ذلك الشغل وخف المجلس ولم يبق إلا من هو به خاص أخرج كيس النفقة ونفضه فنزل منه ما يقارب المئة. فقال: خذ هذه ارتفق بها في هذا الوقت وعد إذا فرغت، ولما كان في... رسم له السلطان بالعود إلى دمشق قاضي القضاة كما كان أولاً، فحضر إليها وصحبه، وصحب أولاده من المجلدات النظيفة النفيسة ما يزيد على خمسة آلاف مجلد، وفرح الناس به. فأقام قليلاً وتعلل، وأصابه فالج إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور، وتأسف الناس عليه لما كان فيه من الحلم والمكارم وعدم الشر وعدم المجازاة لمن أساء إليه بالإحسان.
وكان ينتسب إلى أبي دلف العجلي وكرمه بصدق هذه الدعوى.
وكان فصيحاً بليغاً في وقت البحث والجدل، منطقياً إلا إذا علا صهوة المنبر فإنه ليس ذلك، لغلبة الحياء.
وكان مليح الصورة، حلو العبارة، كبير الذقن رسلها، موطأ الأكناف، سمحاً، جواداً حليماً، جم الفضائل، حاد الذهن، يراعي قواعد البحث. وكان يحب الأدب ويحاضر به، وله فيه ذوق كثير يستحضر نكته، ويكتب خطاً جيداً حسناً. وصنف في المعاني والبيان مصنفاً وسماه " تلخيص المفتاح " وشرحه وسماه " الإيضاح " ، وقرأ عليه جماعة بمصر والشام، وكان يعظم الأرجاني الشاعر، يرى أنه من مفاخر العجم، واختار شعره وسماه " الشذر المرجاني من شعر الأرجاني " .
وعلى الجملة فكان من أفراد الزمان في مجموعه علماً وعقلاً وأخلاقاً. وأجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين بالقاهرة.
وكتبت أنا إليه أهنيه في الديار المصرية لما قدم من الحج سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة بقصيدة فائية وهي:
من خص ذاك البنان الغض بالترف ... وزان ذاك القوام اللدن بالهيف
وضم في شفتيها در مبسمها ... فراح من أحمر المرجان في صدف
وحلل الفرق فرعاً من ذوائبها ... والبدر أحسن ما تلقاه في السدف
علقتها من بنات الترك قد غنيت ... بدمع عاشقها عن منة الشنف
يلقى المتيم من تثقيف قامتها ... ما لا يلاقيه كوفي من الثقفي
ومنها:
في حفظ سالفها للحسن ترجمة ... فاقت وما اتفقت للحافظ السلفي
يا للهوى عينها عين؛ وحاجبها ... نون وتم العنا من قدها الألفي(2/314)
يا هذه إن للأشعار معجزةً ... تبقى عن السلف الماضين للخلف
ضعي بنانك مخضوباً على جسدي ال ... بالي ليجتمع العناب بالحشف
يا عاذلي في هوى عيني محجبة ... خف شر ناظرها، فالسر فيه خفي
ودع فؤادي ودعه نصب ناظرها ... لا ترم نفسك بين السهم والهدف
إني لأعجب للعذال كيف رأوا ... شخص وقد رحت ذا روح تردد في
أليس يشغلهم طيب الثناء على ... قاضي القضاة جلال الدين عن شغفي
ويستفزهم أفراح مقدمه ... من حجه وهو مثل الشمس في الشرف
حج غدا حجة في الدهر ثابتة ... إن ينكسف نورها للشمس تنكسف
كم جاب في سيره والعيس قد سئمت ... جذب البرى والسرى في مهمه قذف
والركب من فضله أو من فضائله ... ما بين مغترف منه ومعترف
حتى نضا الإحرام ملبسه ... عن الهدى والندى والعلم والصلف
وراح ذا جسد قد طاب عنصره ... عار من العار بالإحسان ملتحف
ما مس طيباً وإن كان الحجيج بما ... أثنوا عليه غدوا في روضة أنف
وأم أم القرى ذات القرار ومن ... يطلب رضى الله في تلك الديار كفي
وطاف بالبيت فارتاح المقام له ... لما تمسك بالأستار والسجف
فكل ركن إذا حاذاه منكبه ... يود لو كان عنه غير منعطف
وراح في عرفات واقفاً وله ... عرف يسير به عرق ولم يقف
وفي منى كم أنال الطالبين منى ... أمسوا بها عن سطا الأعداء في كنف
وجاء طيبة يقضي حق ساكنها ... ومثل ذمته ترعى له وتفي
وزار من لم يزل في نصر ملته ... وشرعه بالقضا يا خير معتكف
هذا الإمام الذي ترضى حكومته ... خلاف ما قاله النحوي في الصحف
حبر متى جال في بحث وجاد فلا ... تسأل عن البحر والهطالة الوكف
له على كل قول بات ينصره ... وجه يصان عن التكليف بالكلف
قد دب عن ملة الإسلام ذب فتى ... يحمي الحمى بالعوالي السمر والزعف
ومذهب السنة الغراء قام به ... وثقف الحق من حيف ومن جنف
يأتي بكل دليل قد جلا جبلاً ... فليس ينسفه ما مغلط النسفي
وقد شفى العي لما بات منتصراً ... للشافعي بزعم المذهب الحنفي
تحمي دروس ابن إدريس مباحثه ... فحبذا خلف منه عن السلف
فما رأى ابن سريج إذ يناظره ... من خيل ميدانه فليمض أو يقف
ولو أتى مزني الوقت أغرقه ... ولم يعد قطرةً في سحبه الذرف
وقد أقام شعار الأشعري فما ... يشك يوماً ولا يشكو من الدنف
وليس للسيف حد يستقيم له ... ولو تصدى له ألقاه في التلف
والكاتبي غدا في عينه سقم ... إذ راح ينظر من طرف إليه خفي
من معشر فخرهم أبقاه شاعرهم ... في قوله: " إنما الدنيا أبو دلف "
هو الحفي بما يوليه من كرم ... فما جرى قلم في مدحه فحفي
لو شاء في رفعة من مجده وغلا ... لمد نحو الثريا كف مقتطف
قد زان أيامه عدل ومعرفة ... فسعده في دوام غير منصرف
يغدو الضعيف على الباغين منتصراً ... ولم يكن قبله منهم بمنتصف
لو يشتكي النهر مثل الغصن عنه مع الصبا إليه رمى عطفيه بالقصف
بل لو شكى الدهر خصم من بنيه غدا ... من خوفه بين مرتج ومرتجف
دامت مآثره اللاتي أنظمها ... تهدي لسمع المعالي أحسن التحف
ما رسخت عذبات البان سافحةً ... من الصبا وشفت صباً من الأسف
فكتب هو إلي قرين ما بعث به:(2/315)
يا مولانا هذه الأبيات التي تفضلت بإرسالها، وأنبطت معين زلالها، ما أقول فيها إلا أنها ذهب مسبوك، أو وشي محبوك، أو ستر ظلام عن الذراري مهتوك، أو دمع مسفوح من صب دمه في الحب مسفوك، قد رق وراق وراع، وأمال الأعطاف وشنف الأسماع، وتألق في دياجي سطوره برق معناه اللماع. كم قد تلعبت فيه بضروب الفنون، وخضت من أنواع العلوم في شجون، أخملت أرج الخمائل من الأرجاني، وأهنت ما عز من أبكار ابن هاني:
وأخذت أطراف الكلام فلم تدع ... قولاً يقال ولا بديعاً يدعى
فكذا فليكن كلام الأفاضل، وكذا فليكن من يناصر أو يناضل. لقد تفضل مولانا بأوصاف هو أحق بها ممن وصفه، وأولى بأن يجعل إليه مرجعه ومصرفه، ومن تمام الإحسان العميم والبر الجسيم، قبول ما جهزه المملوك صحبة محكم القاضي ضياء الدين فإنه نزر، وما يقابل من هذا مده بهذا الجزر، والله تعالى يمتع الزمان وأهله بهذه الكلمات، ويمد بعونه في الحركات والسكنات، إن شاء الله تعالى.
محمد بن عبد الرحمن
الصدر الرئيس الكبير، القاضي شرف الدين ابن القاضي الكبير ابن العدل أمين الدين سالم ابن الحافظ بهاء الدين أبي المواهب الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التغلبي الدمشقي.
سمع كثيراً من الحديث. وسمع رضيعاً بقراءة شيخنا البرزالي على والديه وجدته وخاله، ثم سمع على الشيخ فخر الدين بن البخاري " مشيخة " بكمالها. وكان صدراً يملأ العين والصدر، ويجعل لمحاسنه البدر، يستحيي الغمام من جوده، ويهب كل ما هو في موجوده، ساد على الدماشقة، بكثرة المكارم، وعلم الناس السماح حتى الغمائم:
ولهذا أثنت عليه الليالي ... ومشت دون سعيه الأيام
ولم يزل في المعالي يترقى ويحاذر الملام ويتوقى إلى أن فاضت نفسه وهو محرم يلبي، وختم الله له بخير فهو يخبأ له عمله ويربي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سابع ذي الحجة سنة سبع عشرة وسبع مئة، وعمره خمسة وثلاثون سنة، ودفن ضحوة يوم التروية بمقبرة الحجون على باب مكة.
وكان له همة وعزمة ومعرفة وكفاية. باشر بدمشق نظر الأشراف، ونظر الجامع الأموي، ولبس خلعة بصحابة الديوان في سادس عشر المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ولبس الصاحب غبريال أيضاً لنظر الدواوين، وكان هو قد وصل من حماة إلى دمشق في شهر رمضان سنة ثمان وسبع مئة، وكان لها ناظراً لما أقطعت حماة للأمير سيف الدين قبجق، وولي عوضه بهاء الدين عبد الصمد بن المغيزل وباشر نظر الجامع الأموي في ذي القعدة من السنة المذكورة.
ومن مكارمه ما حكاه لي عنه القاضي الرئيس ضياء الدين أبو بكر بن خطيب بيت الآبار بالقاهرة، قال: كنا عنده ليلة وقد أحضر حلوى ليجهزها لبعض أصحابه الذين يقدمون من الحجاز، قال: فأكلناها بمجموعها، ثم إنه أحضر عوضها مرة أخرى، فأكلناها بمجموعها، ثم إنه أحضر الثالثة، وأنا في شك هل قال: فأكلناها، وأحضر الرابعة أو لا، وأهل دمشق يحكون عن كرمه غرائب - رحمه الله تعالى - .
وكان قد تولى صحابة الديوان بدمشق في سادس عشر المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وخلع عليه وعلى الصاحب شمس الدين غبريال.
محمد بن عبد الرحيم بن الطيب القيسي
الأندلسي الضرير العلامة الضرير المقرئ أبو القاسم.
تلا بالسبع على جماعة، وسكن سبتة، أراده الأمير العزفي أن يقرأ في شهر رمضان " السيرة " فبقي يدرس في كل يوم ميعاداً ويورده، فحفظها في شهر رمضان. وكان طيب الصوت صاحب فنون، يروي عن أبي عبد الله الأزدي، وأخذ عنه أئمة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في رمضان سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاثين وست مئة أو نحوها.
محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي
الشيخ الإمام العلامة المحقق صفي الدين أبو عبد الله الشافعي الأشعري المعروف بالهندي.(2/316)
كان قيماً لفن الكلام، عارفاً بغوامضه التي خفيت عن السيف والإمام، لو رآه ابن فورك لانفرك، أو الباقلاني لقلا معرفته، ووقع معه في الدرك، أو أمام الحرمين لتأخر عن مقامه، أو الغزالي لما نسج " المستصفى " إلا على منواله ولا رصفه إلا على نظامه، أو ابن الحاجب لحمل العصا أمامه، وجعله دون الناس إمامه. مع سلامة باطن تنعته يوم حشره، وديانة طواها الحافظان له إلى يوم نشره، ومودة لا تنسى عهودها، ولا تجفو على كبره مهودها، وانعطاف على الفقراء وحنو، وبراءة من الكبرياء والعتو. أقرأ الكبار وأفادهم، وأفاض عليهم فضلة فضله وزادهم.
ولم يزل على حاله إلى أن تكدر للصفي مورد حياته، وناداه الموت بإغفال شياته، فبات الدين وقد ثلم هنديه، وثل عرش الأصول بل هد نديه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الثلاثاء تاسع عشري صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة بمنزله بالمدرسة الظاهرية بدمشق، ودفن في مقابر الصوفية.
ومولده في ليلة الجمعة ثالث شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وست مئة بالهند.
وكان له جد لأمه فاضل من أهل العلم هو شيخه، قرأ عليه ومات سنة ستين وست مئة، وخرج من دهلي البلد المشهور بالهند في شهر رجب سنة سبع وستين وست مئة، ودخل اليمن، وأقام بمكة نحواً من ثلاثة أشهر، واجتمع بابن سبعين.
ولما كان باليمن أكرمه المظفر وأعطاه أربع مئة دينار. ثم إنه ركب البحر، ودخل الديار المصرية في سنة سبعين، وخرج منها، ودخل البلاد الرومية وأقام بها إحدى عشرة سنة، منها خمسة بقونية، وخمسة بسيواس، وسنة بقيصرية. ودرس بقونية وسيواس، واجتمع بالقاضي سراج الدين الأرموي وأكرمه وأخذ عنه المعقول.
وخرج من الروم سنة خمس وثمانين وست مئة، وقدم دمشق وأقام بها واستوطنها وعقد حلقة الإشغال بالجامع الأموي وقرأ عليه الأعيان وفضلاء الناس، ودرس في دمشق بالروحانية والدولعية والأتابكية والظاهرية. وكان مقصوداً بالاستفتاء، ويكتب كثيراً في الفتاوى. وكان فيه خير وديانة وبر للفقراء يفطر في شهر رمضان عشرة من الفقراء الضعفاء.
وصنف في أصول الدين كتاب " الفائق " ، وكان يقوم في الليل فيتوضأ ويلبس أفخر ثيابه، وعلى ما قيل حتى الخف والمهماز، ويصلي ورده في جوف الليل، وكان يحفظ ربع القرآن لا غير. قيل عنه إنه قرأ يوماً في الدرس: " المص " ، مصدر يمص مصاً، ولم ينطق بها حروفاً مقطعة كما هو لفظ التلاوة.
وممن تخرج عليه الشيخ صدر الدين بن الوكيل وغيره، وأظن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني أيضاً، وكان في بعض مدارسه ناظر لا ينصفه، فقال: هذه المدرسة يعمل فيها بآيتين من كتاب الله تعالى، المدرس: " ليس لك من الأمر شيء " ، والناظر: " لا يسأل عما يفعل " .
ولما عقد بعض المجالس للعلامة تقي الدين بن تيمية عين صفي الدين الهندي لمناظرته، فلما وقع الكلام قال لابن تيمية: أنت مثل العصفور تنط من هنا إلى هناك. وقيل: إن الشيخ تقي الدين ذكر ما هو المشهور في سبب تسمية المعتزلة بهذا الاسم، وهو أن واصل بن عطاء لما اعتزل حلقة الحسن البصري سمي بذلك معتزلاً، فيقال إن الشيخ صفي الدين قال: لا نسلم. فقال الحاضرون: ما يقال في نقل التاريخ لا نسلم، وكان ذلك سبب نصرة ابن تيمية. ومنها أن قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى قال لابن تيمية: هذا الكلام الذي يثلج الصدر. فقال له الشيخ كمال الدين بن الزملكاني: والله تسخر وجه الشافعية بتلك الحاجة لما كنت أنت حاكمهم، فقال لابن صصرى: لي يقال هذا الكلام؟ اشهدوا علي أني عزلت نفسي من القضاء، فانفصل المجلس على غضب ابن صصرى.
قلت: وما أنصف تقي الدين الهندي في قوله، لعله كان عنده سبب آخر لتسمية المعتزلة غير ذلك، إذ هو ممكن.
وما رأيت أضعف ولا أوحش من خطه ومن خط الشيخ شمس الدين بن الأكفاني، وقد تقدم ذكره. وقيل إنه أجري بين يديه ذكر خطه، فقال له بعض الطلبة: والله يا سيدي ما رأينا أوحش من خطك. فقال: والله البارحة رأيت كراساً أوحش من خطي. فقالوا له: هذا يمكن. فقام وأتى بالكراسة فإذا بها أوحش من خطه، واعترفوا بذلك، ثم إن ذلك الطالب تتبع الكلام إلى آخره فوجد آخره: وكتب محمد بن عبد الرحيم الأرموي. فقالوا: هذه بخطك، فأعجبه ذلك، وضحك.(2/317)
وكان قد جاءه يوماً حمل دبس هدية من بعلبك، فأخذه الردادون الذين يقفون في الطريق لأجل المكس. فقالوا: هذا للشيخ تقي الدين الهندي. فقالوا: هاتوا خطه، فحضروا إليه وأخذوا خطه. وقد كتب: صفي الدين هندي في حمل دبس، إن يكن هو هو فهو هو وإلا فليس به، وكانت في لسانه عجمة الهنود.
محمد بن عبد الرحيم بن إبراهيم
ابن هبة الله البارزي، القاضي كمال الدين أبو عبد الله بن البارزي الجهني الحموي.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: كان رجلاً جيداً موصوفاً بالخير، عنده مروة وانقطاع، وكان من الفقهاء المدرسين، روى لنا عن جده، وسمع حضوراً من صفية القرشية.
توفي - رحمه الله تعالى - في العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومولده في ثالث صفر سنة إحدى وأربعين وست مئة.
محمد بن عبد الرحيم بن عمر
الجزري الباجربقي، بالباء الموحدة، وبعدها ألف وجيم وراء ساكنة وباء موحدة وقاف. الشيخ الزاهد ابن المفتي الكبير جمال الدين الشافعي.
وقد ذكرت والده في " التاريخ الكبير " .
كان أمره عجيبا، وحاله تجعل الولدان شيبا، خلب عقول الكبار من الفضلاء، وسحر بحاله السادة النبهاء النبلاء. لم نسمع عن أحد ما بلغنا عنه من الأمور الخارقه، والأحوال التي هي للعوائد مفارقه. حكى عنه جماعة فضلاء لا أتهم علومهم، ولا أستنزل حلومهم، حكايات ما أدري ما هي، ولا أعرف ما تضاهي، إلا أنها بعيدة عن تصديق عقلي بها، نائبة عن انفعال نفسي لصحتها عند تقليبها.
ولكن شاع هذا عند كثير من أهل عصري، وأخذ كل منهم على ذلك إصري، فما أدري ما أقول، إلا أن جماعة كفروه وأخرجوه عن حمى الإسلام ونفروه، والله يعلم السرائر وما تنطوي عليه الضمائر، وحكم بإراقة دمه من دمشق. وكان يكون ذلك درية للسيوف عند المشق.
وضاقت خطة فخلصت منها ... خلوص الخمر من نسج الفدام
وفر إلى الديار المصرية، وانقطع بالجامع الأزهر. وأتى هناك بأشياء مما أتى به في دمشق وأشهر، ثم إنه عاد إلى دمشق بعد مدة مديدة، وأقام بالقابون. واستمر الناس يترددون إليه وينتابون.
ولم يزل على حاله إلى أن جاءه ما أعجز الأوائل والأواخر رده، وفصل أوصاله الذي لا يلف على طول المدى خده.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الأربعاء سادس عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
كان والده الفقيه قد تحول بولديه بعد الثمانين إلى دمشق، وسمعا من ابن البخاري، وجلس أبوهما للإفتاء. ودرس ومات وقد شاخ، فتزهد محمد هذا. وحصل له حال وكشف وانقطع، وصحبه جماعة فهون لهم الشرائع، وأراهم بوارق شيطانية، وكانت له قوة نفسانية فعالة مؤثرة، فقصده الشيخ صدر الدين بن الوكيل وقلده جماعة في تعظيمه، وكان ممن قصده الشيخ مجد الدين التونسي النحوي، فسلكه على عادته، فجاء إليه في اليوم الثالث في الوقت الذي قال له يعود فيه، وقال له: ما رأيت؟ وقال: وصلت في سلوكي إلى السماء الرابعة. فقال له: هذا مقام موسى بن عمران بلغته في ثلاثة أيام، فرجع الشيخ مجد الدين إلى نفسه وتوجه إلى القاضي المالكي وحكى له ما جرى وجدد إسلامه. وطلب الباجربقي وحكم بإراقة دمه القاضي جمال الدين المالكي قاضي القضاة بمحضر جماعة من العلماء في يوم الخميس ثاني ذي القعدة سنة أربع وسبع مئة. وفي سابع عشر رمضان حكم قاضي القضاة تقي الدين الجنبلي بحقن دمه بحكم عداوة الشهود، وذلك في سنة ست وسبع مئة، وكان الشهود عليه مجد الدين التونسي وعماد الدين محمد بن مزهر، والشيخ أبو بكر شرف الصالحي، وجلال الدين بن النجاري خطيب الزنجلية، ومحيي الدين بن الفارغي، والجمال إبراهيم بن الشيخ إسماعيل اللبناني. والذين شهدوا بالعداوة ناصر الدين بن عبد السلام، والشريف زين الدين بن عدنان، وأخوه، والقاضي قطب الدين ابن شيخ السلامية، وشهاب الدين الرومي، وشرف الدين قيروان الشمسي، فاختفى وتوجه إلى مصر وانقطع بالجامع الأزهر، وتردد إليه جماعة.(2/318)
وحكى لي عنه الشيخ شمس الدين بن الأكفاني حكايات عجيبة وأموراً غريبة، وحكى لي غيره من مادتها أشياء ليس للعقل فيها مجال. وحكى لي عنه القاضي شهاب الدين بن فضل الله أن أمين الدين سليمان رئيس الأطباء حكى له عنه، قال: كنت يوماً عنده في البستان الذي كان فيه، فجاء البستاني وهو من أهل الصحراء العوام، فقال له ابن الباجربقي: اقعد. فقعد ورمق الشيخ وقال للفلاح: تحدث مع الريس أمين الدين، قال: فأخذ ذلك الفلاح يتحدث معي في كليات الطب وجزيئاته وأنواع العلاج وخواص المفردات إلى أن أذهل عقلي، ثم بعد ساعة شال الشيخ رأسه من عبه فبطل ذلك الكلام، وسألت الفلاح فقال: والله ما أردي ما قلت، ولكن شيء جرى على لساني ما أدري.
وقد حكي عنه عجائب من هذا. وكان الشيخ صدر الدين يتردد إليه كثيراً، ويجلس بين يديه ويحصل له بهت في وجهه ويضع كفه على ضقنه ويخللها بأصابعه:
عجب من عجائب البر والبح ... ر وشكل فرد ونوع غريب
وشهد عليه مجد الدين التونسي، وخطيب الزنجلية، ومحيي الدين ابن الفارغي، والشيخ أبو بكر بن مشرف بما أبيح به دمه، وجن أبو بكر هذا أياماً ثم عقل.
وحكي عنه التهاون في الصلوات وذكر النبي صلى الله عليه وسلم باسمه من غير تعظيم ولا صلاة عليه، يقول: ومن هذا محمدكم؟! فحكم القاضي جمال الدين الزواوي المالكي بإراقة دمه، فاختفى وسافر. وسعى أخوه بجاه بيبرس العلائي إلى القاضي الحنبلي، فشهد نحو العشرين أن الستة بينهم وبينه عداوة، فعصم الحنبلي دمه، وغضب المالكي، وجدد الحكم بقتله. ثم إنه جاء بعد مدة ونزل بالقابون، وأقام به إلى أن مات وله ستون سنة.
ومما قيل عنه إنه قال: إن الرسل طولت على الأمم الطريق إلى الله تعالى.
قلت: بدون هذا يباع الحمار، بدون هذا يسفك ألف دم من هذا وأمثاله.
محمد بن عبد الرحيم
الخطيب محيي الدين شيخ بعلبك، ومسندها، وشيخ الكتابة.
حدث عن ابن عبد الدائم، والقاسم الإربلي، والرشيد العامري، وابن هامل، وطائفة. وسمع الكثير، وكتب المنسوب.
وكان مليح الشكل عاقلاً صيناً.
توفي - رحمه الله تعالى - في تاسع شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة عن خمس وثمانين سنة.
محمد بن عبد الرحيم بن علي
القاضي شرف الدين الأرمتني.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوني: كان فقيهاً ذا ورع ونزاهة ومكارم، وتولى الجكم بقنا، ثم ارتحل إلى مصر، وتولى الحكم بإطفيح، ثم بمنية بني خصيب وأبيارفوة ودمياط والفيوم وسيوط. قال: وكان قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة يرعاه ويكرمه لما اتصف به من النزاهة، ولا يأكل لأحد شيئاً مطلقاً سواء كان من أهل ولايته أو غيرهم، غير أنه كان يقف مع حظ نفسه ويحب التعظيم وأن يقال عنه رجل صالح، وإذا فهم من أحد أنه لا يعتقده يحقد عليه ويقصد ضرره، ويرى أنه إذا عزل عن ولاية لا يتولى أصغر منها ويعالج الفقر الشديد، وعزله قاضي القضاة جلال الدين القزويني من سيوط ثم عرض عليه دونها فلم يوافق مع شدة ضرورته، واستمر بطالاً.
قلت: ما أحقه بقول الأول:
لإاصبحت بعد ذاك تفسو ... فما سوى عطرها فساها
قال: وكان يحفظ " التنبيه " حفظاً متقناً معرباً. وكان قليل النقل والفهم، وله في الحكم حرمة وقوة جنان.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بمصر في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة فيما يغلب على الظن.
محمد بن عبد الرحيم بن عباس
ابن أبي الفتح بن عبد الغني بن أبي محمد بن خلف بن إسماعيل القرشي، الشيخ شرف الدين أبو الفتح المعروف بابن النشو.
كان حسن الشكل، فيه أمانة ومعرفة. وسافر في التجارة إلى بغداد وديار مصر. وكان له ملك.
أسمعه خاله الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الغني القرشي ابن النشو بالقاهرة من ابن رواج، ويوسف الساوي، وفخر القضاة ابن الجباب، وابن الجميزي بهاء الدين، وغيرهم. وسمع أيضاً بدمشق.(2/319)
وخرج له فخر الدين البعلبكي " مشيخة " في أربعة أجزاء عن نحو عشرين شيخاً. قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأتها عليه، ومن الأجزاء التي تفرد بها بدمشق، وقرأتها عليه مراراً كتاب " المحدث الفاصل " الذي للرامهرمزي سبعة أجزاء، و " مشيخة وكيع ابن الجراح " ، وحديث إسماعيل الصفار عن الصغاني والدوري، و " مسند عائشة " للمروزي، والأجزاء الثلاثة من " المحامليات " : السادس والسابع والتاسع من المركبات وغير ذلك.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث شوال سنة عشرين وسبع مئة، ودفن برا الباب الصغير.
ومولده في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وست مئة.
محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطي
قطب الدين، الفقيه الشافعي.
سمع من الحافظ الدمياطي، وقاضي القضاة ابن جماعة، وغيرهما. وتفقه على ظهير الدين التومنتي، وتقي الدين بن رزين. وبرع في مذهب الشافعي. وأفتى، ودرس، وتصدر للإشغال، وانتفع به الطلبة. وكان كثير النقل حافظاً للفروع ساكناً متديناً. وناب في الحكم في القاهرة، وولي الوكالة بالديار المصرية، ودرس بالفاضلية والحامية، وأعاد بالصالحية، وصنف تصحيحاً لكتاب " التعجيز " و " أحكام المبغض " .
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده بشبرا من الغربية سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
قول أصحاب الشافعي رضي الله عنه: إن الراهن والمرتهن إذا تشاحا في الرهن يكون عند من يسلمه الحاكم إلى عدل صورة التشاحح مما يسأل عنه.
فإنه إن كان قبل القبض فالتسليم غير واجب، وإن كان بعد القبض فلا يجوز نزعه ممن هو في يده.
وكان الشيخ قطب الدين السنباطي - رحمه الله تعالى - يصور ذلك فيما إذا وضعاه عند عدل ففسق، فإن يده تزال والرهن لازم، فإذا تشاحا حينئذ فمن يكون تحت يده اتجه اختيار الحاكم وكذلك لو رضيا بيد المرتهن لعدالته حين القبض ثم فسق ينبغي أن يكون كذلك.
قلت: هذه الكذلكة الثانية لا فائدة فيها فإنها هي الأولى بعينها.
محمد بن عبد العظيم بن علي بن سالم
جمال الدين بن السقطي القاضي الشافعي.
كان رئيساً عاقلاً لبيباً وقوراً، من قضاة العدل، تولى نيابة الحكم بمصر والجيزة والقاهرة والقليوبية سنين كثيرة، ولم يؤخذ عليه في حكم حكم به، ولا نقص عليه أمر أبرمه. شهد عنده جماعة في قضية فتثبت فيها وركب إلى القرافة وقرأ تاريخ الوفاة من المشهود عليه، ورجع الجماعة إليه، فقال لهم: امضوا إلى قبره، واقرؤوا تاريخ الوفاة، فوجموا لذلك.
وله حكايات في التوقف وعدم التسامح في الأحكام. ودرس بالطيرسية بمصر وبالجامع الأقمر.
وسمع الحديث من ابن الصابوني، وأجز له ابن باقا. وترك القضاء مدة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة الاثنين حادي عشر شعبان سنة سبع وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين أو ثلاث وستين وست مئة.
ومن تشدده - رحمه الله تعالى - ما حكاه الفاضل كمال الدين الأدفوي قال: حكى لي العالم الفقيه أبو إسحاق إبراهيم الإسنائي قاضي قوص قال: وقعت لشخص عنده قضية احتيج فيها إلى التعريف، فقال له: أحضر من يعرف بك. فأحضر الشيخ علاء الدين الباجي، فقام إليه وأجلسه معه وبجله، فقال ذلك الشخص: سيدي علاء الدين يعرف بي، فقال القاضي: سيدي علاء الدين أكبر من ذلك، امض وأت بمن يعرف بك.
قال: وقال لي صاحبنا أبو عبد الله محمد الإخميمي الشهير بابن القاسح: طلبت من قاضي القضاة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ولاية العقود بالقاهرة وسألته أن يفوض ذلك إلى ابن السقطي فقال: ما يفعل، قلت: بلى يفعل. فقال: أنا أقرب في ذلك منه.
وله حكايات في التثبت والاحتياط والاحتراز معروفة مشهورة بين المصريين.
محمد بن عبد الغني بن عبد الكافي
ابن عبد الوهاب بن محمد بن أبي الفضائل، الشيخ زين الدين الأنصاري بن الحرستاني.
سمع من ابن صباح، وابن اللتي، وغيرهما.
وحدث بالدارمي، قرأه عليه بن حسيب، وكان ذهبياً بقيسارية المد، وله حرمة ووجاهة ببلده لدينه ومكارمه، وكان حافظاً للحكايات والأشعار يوردها إيراداً جيداً، وكان يلقب بالنحوي.
توفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة.
محمد بن عبد الغني بن محمد
ابن يعقوب بن إلياس، الشيخ شمس الدين بن عز الدين ابن قاضي حران، الحموي النحوي.(2/320)
كان متصدراً بجامع حماة الأعلى لللإقراء، وفقيهاً في المدارس، وله خصوصية بالأمير بدر الدين حسن بن الأفضل، وله عنده منزلة.
توفي - رحمه الله تعالى - في ثامن صفر سنة ثمان عشرة وسبع مئة.
محمد بن عبد القادر
ابن عثمان بن منهال المصري، الصدر عز الدين.
كان رجلاً جيداً عارفاً، ولم يكن رأى دمشق، فنزل بالمدرسة الإقبالية الحنفية.
قال شيخنا البرزالي: فاجتمعت به وذاكرني في مروياته ومسموعاته، وكان له ميل إلى أن يخرج له شيء، وكان له شعر، وتولى إمامة الجامع الحاكمي بالقاهرة.
وسمع من الحراني، وشامية، والصفي خليل، وطبقتهم.
وأجاز له جماعة من المتأخرين من أصحاب البوصيري، وجمع شيوخه بالإجازة، ورتبهم فزادوا على الألف.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثاني عشر جمادى الأولى سنة تسع وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون في تربة ابن الجوخي.
ومولده سنة إحدى وستين وست مئة.
محمد بن عبد القوي بن بدران
الإمام المفتي النحوي شمس الدين أبو عبد الله المقدسي المرداوي الحنبلي.
قدم الصالحية، وتفقه على الشيخ شمس الدين وغيره.
وبرع في العربية واللغة، وأقرأ ودرس وأفتى وصنف، وكان حسن الديانة، دمث الأخلاق. ولي تدريس الصاحبية، وكان يحضر دار الحديث ويشغل بها وبالجبل.
وسمع من خطيب مردا، ومن محمد بن عبد الهادي، وعثمان بن خطيب القرافة، ومظفر بن الشيرجي، وإبراهيم بن خليل، وابن عساكر تاج الدين.
وله قصيدة دالية في الفقه، وكان على ذهنه حكايات ونوادر. وقرأ النحو على الشيخ جمال الدين بن مالك وغيره. وأخذ عنه القاضيان شمس الدين بن مسلم، وجمال الدين بن جملة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده بمردا سنة ثلاثين وست مئة.
محمد بن عبد الكريم بن علي التبريزي
المقرئ المعمر نظام الدين.
سافر مع أبيه للتجارة وأقام بحلب، وسمع من ابن رواحة، وقال: سمعت بها من بهاء الدين بن شداد. وكمل القراءات سنة خمس وثلاثين وست مئة على السخاوي إفراداً وجمعاً، وتلا بحرف أبي عمرو بالثغر على أبي القاسم الصفراوي، وبمصر على ابن الرماح. وتلا به ختماً على المنتخب الهمذاني.
ثم استوطن دمشق وأم بمسجد وأقرأ بحلقة، وكان ساكناً متواضعاً كثير التلاوة. قرأ عليه شيخنا الذهبي لأبي عمرو، وسمع منه " حرز الأماني " بقراءة ابن منتاب.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الأربعاء سادس عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وسبع مئة.
ومولده بتبريز سنة ثلاث عشرة وست مئة.
محمد بن عبد الكريم بن محمد بن محمد
الصدر مجير الدين بن المغيزل.
كان قد تولى نظر الدواوين بحماة.
وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبع مئة.
وقد تقدم ذكر والده شرف الدين في حرف العين مكانه.
محمد بن عبد الكريم بن محمد بن علي
الشيخ الإمام العالم الزاهد الورع شمس الدين أبو عبد الله القرشي بن الشماع.
كان فاضلاً، من أعيان الفقهاء، وله مشاركة في القراءات والحديث والأصول والنحو، سمع من أصحاب الخشوعي وابن طبرزد، وحصل النسخ، وقرأ وحدث وتزهد مدة.
أقام بصفد في أواخر عمره إلى أن مات بها - رحمه الله تعالى - في مستهل جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبع مئة.
محمد بن عبد اللطيف بن يحيى
ابن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن تميم بن حامد، أقضى القضاة تقي الدين أبو الفتح بن أبي البركات بن أبي زكريا الأنصاري الخزرجي السبكي الشافعي.
أجاز له لما ولد جماعة من المسندين منهم الحافظ شرف الدين الدمياطي، وفي تلك السنة توفي.
وأحضره أبوه علي أبي العباس أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي، وأبي الحسن علي بن محمد بن هارون الثعلبي، وأبي المحاسن يوسف بن المظفر بن كوركيك الكحال، وأبي الحسن علي بن عيسى بن سليمان بن القيم، وغيرهم.(2/321)
وأجاز له في سنة سبع وسبع مئة خلق من أعيان المشايخ بالديار المصرية والشامية يطول ذكرهم. ثم سمع بنفسه من خلق بالقاهرة ومصر وأعمالها ومكة والمدينة ودمشق بقراءته وقراءة غيره كأبي علي الحسن بن عيسى بن خليل الهكاري وأبي الحسن علي بن عمر بن أبي بكر الواني وأبي الهدى أحمد بن محمد بن علي بن شجاع العباسي، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ومحمد بن عبد الحميد بن محمد الهمذاني، وعبد الله بن علي بن عمر بن شبل الحميري، ويوسف بن عمر بن حسين الختني، وأحمد بن أبي طالب الصالحي، ويحيى بن يوسف المقدسي، ومحيي الدين بن فضل الله، وعلي بن إسماعيل المخزومي، ومحمد بن عبد المنعم الصواف، وأبي بكر بن يوسف بن عبد العظيم المصري، وخلائق يطول ذكرهم. وسمع العالي والنازل، وكتب بنفسه وخرج وانتقى وحصل.
وقرأ القرآن بالسبع في ختمات على شيخنا العلامة أبي حيان، وأجاز له بإقرائه حيث شاء متى شاء، وكتب له خطه بذلك.
وقرأ الفقه على مذهب الشافعي، وغيره من العلوم على شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وقرأ الفقه أيضاً على جدهيحيى بن علي وعلى الشيخ قطب الدين السنباطي. وقرأ الفقه أيضاً على ذي الفنون أبي علي الحسين بن علي الأسواني، ولازمه مدة طويلة، واشتغل بأصول الفقه على جده يحيى.
وقرأ النحو على شيخنا العلامة أثير الدين، لازمه نحواً من سبعة عشر عاماً، وشرح عليه " تقريب المقرب " تصنيفه، وكتاب " التسهيل " لابن مالك، وأجازه بإقرائهما، وسمع عليه كثيراً من " شرحه للتسهيل " ، وكثيراً من " كتاب سيبويه " سماعاً وشرحاً، وسمع عليه كثيراً من شعره بقراءتي أنا، وسمع عليه من شعر غيره، وكثيراً من المرويات الأدبية. وسمع عليه " مقامات " الحريري بقراءتي أنا، وقرأ كتاب " لباب الأربعين " وكثيراً من علم الخلاف على شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي. وقرأ كتاب " مطالع الأنوار " مرتين على الشيخ تاج الدين التبريزي، وسمع عنده كثيراً من الكتب المنطقية والخلافية والأصولية. وجالس في الأدب شيخنا العلامة ناصر الدين شافع بن علي وسمع عليه من شعره وتصانيفه، ومدحه بأبيات منها:
رأت العدا عباس جدك طاهراً ... فأتوا إلى عليا نداك بشافع
كان هذا أقضى القضاة تقي الدين من أصح الناس ذهناً وأذكاهم فطرة كما سفر البدر وهناً.
شارك في فنون، وعارك في عدة علوم خاض منها في شجون، عمل في القراءات عملاً بخل الزمان به على السخاوي، وكسر له ابن جبارة فما يقاومه ولا يقاوي.
وجد في سماع الحديث، وقرأ بنفسه، فما عند السلفي منه نقده، ولا ابن عساكر لو لاقاه لولى فراراً وهو وحده.
واشتغل بالفقه فلو أن الماوردي في زمانه ما تسمى أقضى القضاه، أو رآه الروياني نشف بحره في فضاه.
ودأب في الأصول فما للآمدي في مداه خطوه، ولا لابن خطيب الري ري إذا رقا من المنبر على ذروه.
وأكب على العربية حتى أطار ابن عصفور عن هذا الفن، وغدا الزجاجي يكسر قواريره على ضنه بما ظن. وحضر مآدب الأدب حتى افتقر صاحب الذخيرة وجعل صاحب " القلائد " مع الحصيري على حصيره. وكتب فروض المهارق، وأخمل بخطه الخمائل، وقد أحدقت بها زهر الحدائق. ونظم الشعر الذي ترقرق وانسجم. ولام الناس صاحب " لامية العرب " و " لامية العجم " :
لفظ كأن معاني السكر تسكنه ... فمن تحفظ بيتاً منه لم يفق
إذا ترنم شاد لليراع به ... لاقى المنايا بلا خوف ولا حرق
وأما الدين فإنه تمسك منه بالحبل المتين، وأما الورع فكان معلقاً منه في الوتين، له في ذلك عجائب، وأخبار تحملها الصبا والجنائب، قدم على شيخنا العلامة شيخ الإسلام وهو مقيم بالشام وعاد إلى القاهرة ثم زاره ثانياً فأمسكه إمساك غريم ألد، وألزمه بنيابته فسلك فيها الطريق الأسد بالأمر الأشد.
ولم يكن يزل على حاله إلى أن جر أبو الفتح إلى لحده، وطوت شقة الأيام منه نسيج وحده.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ليلة السبت ثاني عشر ذي القعدة سنة أربع وأربعين وسبع مئة.(2/322)
وكان قد نزل بالمدارس بالقاهرة وتولى الإعادة للفقهاء بالمشهد الحسيني والمدرسة السيفية في حدود سنة عشرين وسبع مئة. ودرس بالمدرسة السيفية المذكورة سنة أربع وعشرين وسبع مئة نيابة عن جده أبي زكريا يحيى، واستقر التدريس بها باسمه، ولم يزل بها مدرساً مع ما أضيف إليه من الوظائف إلى أن باشر التصدير بالجامع الطولوني وغيره لما توجه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي إلى الشام وولي القضاء بالمقسم ظاهر القاهرة.
ثم إنه ورد الشام وتولى تدريس المدرسة الركنية الجوانية وخلافة الحكم العزيز بالشام والتصدير بالجامع الأموي.
وكان - رحمه الله تعالى - شديد الورع متحرزاً في دينه محتاطاً لنفسه، درس بالركنية فحكى لي بعض الفقهاء أنه كان لا يتناول منها ما فيها من الجراية ويقول: تركي لهذا في مقابلة أني ما يتهيأ لي فيها الصلوات الخمس. وكان سديد الأحكام بصيراً بمواقع الصواب فيها.
وكتب إلى شيخنا العلامة أبي حيان مع خشكنانج جهزه إليه بعد عيد الفطر:
أهنيك بالعيد الذي حل عندنا ... خلعت عليه من علاك جلال
وحاولت تعجيل البشارة والهنا ... فأرسلت من قبل الهلال هلال
ومن شعره - رحمه الله تعالى - :
والله لم أذهب لبحر سلوةً ... لكم ولا تفريج قلب موجع
لكنه لما تأخر مدةً ... أحببت تعجيل الوفاء بأدمعي
ومنه:
منذ بعدتم فسروري بعيد ... وبعدكم لم أتمتع بسعيد
وكيف يهوى العيد أو نزهة ... شهيد وجد ودموع تزيد
فالبحر من تيار دمعي له ... يبكي به والعيد عيد الشهيد
وكنت قد كتبت إليه في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وسبع مئة:
تقي الدين يا أقضى البرايا ... ويا رب النهى والألمعية
ويا من راح أثنيتي عليه ... تضوع كمسك فطرته الذكية
أهز إلي منك بجذع علم ... فوائده تساقط لي جنية
لأنك لا تسامى في علوم ... نزلت بها منازلك العلية
ونظمك نظم مصري طباعاً ... حلاوته لذلك قاهرية
ودأبك فتح باب النصر حقاً ... وغيرك شغله بالباطلية
أفدنا إننا فقراء فهم ... لما تملي فضائلك الغنية
تقرر أن فعالاً فعولاً ... مبالغتان في اسم الفاعلية
فكيف تقول فيما صح منه ... وما الله بظلام البرية
أيعطي القول إن فكرت فيه ... سوى نفي المبالغة القوية
وكيف إذا توضأنا بماء ... طهور وهو رأي الشافعية
أزلنا الوصف عنه بفرد فعل ... وذاك خلاف رأي المالكية
فأوضح ما ادلهم علي حتى ... تغادرني على بيضا نقية
فإن يدنو ظلام الشك مني ... فإنك ذو قناديل مضية
ودم للمشكلات تميط عنها ... أذى فهم لأذهان مدية
فكتب الجواب إلي عن ذلك، وأجاد:
جلوت علي ألفاظاً جلية ... وسقت إلي أبكاراً سنية
ونظمت الجواهر في عقود ... فأزرت بالعقود الجوهرية
وأبدعت المسير من نظام ... فما لمسير عندي مزية
لآل مثل بدر التم نوراً ... ولكن في النهار لنا مضية
حلاوتها تخالط كل قلب ... ومن حشو وحوشي نقية
أتت من حافظ الآداب طراً ... وقلبي مغرم بالحافظية
وتعزى للخليل فما فؤادي ... يميل هوى لغير السكرية
فهمت بما فهمت من المعاني ... ولم أظفر بنكتتها الخفية
لأن العجز مني غير خاف ... ومالي في العلوم يد قوية
تأفف صاغة الآداب مني ... ومالي للإجابة صالحية
ومن جاء الحروب بلا سلاح ... كمن عقد الصلاة بغير نية
فخذ ما قد ظفرت به جواباً ... فما أنا قدر فطرتك الذكية
فظلام كبزاز وأيضاً ... فقد يأتي بمعنى الظالمية(2/323)
وقد ينفى القليل لعلة في ... فوائده بنفي الأكثرية
وقد ينحى به التكثير قصداً ... لكثرة من يضام من البرية
وأما قوله ماء طهور ... ونصرته لقول المالكية
فجاء على مبالغة فعول ... وشاع مجيئه للفاعلية
وقد ينوى به التكثير قصداً ... لكثرة من يروم الطاهرية
وأيضاً فهو يغسل كل جزء ... ولاء وهو رأي الشافعية
فخذها من محب ذي دعاء ... أتى منه الروي بلا روية
له فيكم موالاة حلت إذ ... أصول الود منه قاهرية
فإن مرت إذا مرت فعفواً ... فإن الستر شيمتك العلية
فمرسل شعره ما فيه طعم ... تجاب به القوافي السكرية
وأورد له قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب السبكي في " الطبقات الصغرى " له، قال: وأنشدني أبو الفتح لنفسه بقراءتي عليه:
إذا رمت تعداد الخلائف عدهم ... كما قلته تدعى اللبيب المحصلا
عتيق وفاروق وعثمان بعده ... علي الرضى من بعده حسن تلا
معاوية ثم ابنه وحفيده ... معاوية وابن الزبير أخو العلا
ومروان يتلوه ابنه ووليده ... سليمان وافى بعده عمر ولا
يزيد هشام والوليد يزيدهم ... سناهم وإبراهيم مروان قد علا
بسفاح المنصور مهدي ابتدي ... وهاد رشيد للأمين تكفلا
وأعقب بالمأمون معتصم غدا ... بواثقه يستتبع المتوكلا
ومنتصر والمستعين وبعده ... لمعتز المتلو بالمهتدي انقلا
ومعتمد يقفوه معتضد وعن ... سنا المكتفي يتلوه مقتدر سلا
وبالقاهر الراضي تعوض متق ... وبالله مستكف مطيع تفضلا
وطائعهم لله بالله قادر ... وقائمهم بالمقتدي استظهر العلا
ومسترشد والراشد المقتفى به ... ومستنجد والمستضي ناصر تلا
وظاهرهم مستنصر قد تكلموا ... بمستعصم في وقته ظهر البلا
ومستنصر وحاكم وابنه ولم ... يقم واثق حتى أتى حاكم الملا
فدونكها مني بديهاً نظمته ... فإن آت تقصيراً فكن متطولا
وكتب له شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى:
أجدت تقي الدين نظماً ومقولاً ... ولم تبق شأواً للفضائل والعلا
فمن رام نظماً للأئمة بعدها ... يؤم محالاً خاسئاً ومجهلا
قلت: لم يذكر تقي الدين - رحمه الله تعالى - إبراهيم بن المهدي، وكان قد تولى بعد الأمين، ولا ابن المعتز في خلفاء بني العباس، لأنه بويع له في حياة المقتدر بعدما خلع، وكانت بيعة ابن المعتز يوم السبت لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومئتين، وأقعد في دار الداية، وسلم عليه بإمرة المؤمنين، لأن أولياء الأمر قالوا: المقتدر غير بالغ، ثم كان أمر ابن المعتز يوم السبت وبعض يوم الأحد، ثم فسد أمره وبطل لأن غلمان المقتدر صعدوا في الطيارات في الماء وصاحوا من دجلة، فخاف أصحاب ابن المعتز وتفرقوا، وأخذ وقتل وأعيد المقتدر. وفي ابن المعتز قال القائل:
لله درك من ملك بمضيعة ... واف من العلم والعلياء والحسب
ما فيه لو ولا لولا تنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب
وفي قوله - رحمه الله تعالى - : " ووليده سليمان " تجوز يوهم من لا علم له أو وليده سليمان واحد، ومراده اثنان لأنه قال: " ومروان يتلوه ابنه " ، يعني به عبد الملك، وولي بعد عبد الملك ابنه الوليد الذي عمر الجامع الأموي، ثم تولى بعده سليمان، فقوله: " ووليده سليمان " كان ينبغي أن يأتي بينهما بفيصل، لأن لفظة الوليد مشتركة بين الولد والعلم.(2/324)
وقد نظم الشيخ برهان الدين الجعبري - رحمه الله تعالى - قصيدة في هذه المادة مليحة ذكر الخلفاء إلى آخر وقت كلا منهم بلقبه وعمره ومدة خلافته، لكنها بخلاف بحروف الجمل، وقد ذكرتها مستوفاة في الجزء الرابع عشر من " التذكرة " التي لي. وله قصيدة أخرى نونية مردفة بألف، ذكر ذلك بعد حروف الجمل، بل ذكره تصريحاً.
ولشيخنا الذهبي أبيات قليلة ضمنها أسماء الخلفاء أيضاً في ثمانية أبيات ذكرتها أيضاً في هذا الجزء، وللرشيد الكاتب قصيدة رجز في ذكر الخلفاء، وقد أودعتها في الجزء السابع والثلاثين من " التذكرة " التي لي، وبعضهم نظم الخلفاء المصريين وما رأيت من نظمهم غيره، وهي:
الأول المهدي ثم القائم ... وبعده المنصور ذاك العالم
ثم المعز بعده العزيز ... والحاكم المبرز الإبريز
والظاهر المشهور والمستنصر ... في عهده شخص الهدى مستبصر
والمصطفى للدين والمستعلي ... وآمر والحافظ المستتلي
والظاهر المذكور ثم الفائز ... والعاضد الأخير ذاك الفائز
ونظم أبو الحسين الجزار أرجوزة سماها: " العقود الدرية في الأمراء المصرية " ، ذكر فيها من حكم في مصر من أول الإسلام إلى آخر أيام السعيد بن الظاهر، ثم كمل على ذلك فيما أظن الشيخ علاء الدين بن غانم إلى آخر أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون في الدولة الثانية، ثم كمل عليها القاضي شهاب الدين بن فضل الله إلى آخر أيام الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد، ثم إنني أنا كملت عليها إلى آخر وقت، وهي جميعها في الجزء الرابع من " التذكرة " التي لي.
محمد بن عبد الله بن أحمد
القاضي شرف الدين بن الصاحب فتح الدين القيسراني المخزومي.
روى " جزء ابن عرفة " عن ابن عبد الدائم، وسمع من الفقيه اليونيني، وإبراهيم بن خليل، وجماعة.
ولد بحلب سنة ثمان وأربعين وست مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الجمعة مستهل شعبان سنة سبع وسبع مئة.
وكان من بيت حشمة وصداره، وكتابة ووجاهة وعباره، وسيادة تسفل عن مراقي مراتبهم النجوم السياره. جملوا الممالك وصانوها، وزادوا الدول بهجة بألفاظهم وزانوها.
وكان القاضي شرف الدين هذا إذا كتب أخذ أرض الطرس ظخرفها وازينت. وعدت من الخيرات اليمانية وتعينت. نظم كأنه القلائد، ونظم يشبه الدر على لبات الخرائد، كله منتخب، وكله وجه غانية كأنه بالحسن البارع قد انتقب:
كأن طروسه روض نضير ... وأزهار المعاني فيه غضه
فكم نال الأديب بها غناه ... لأن كلامه ذهب وفضه
وكان متين الديانة، متوشحاً بالصيانه، معروفاً بالعفة والأمانه، وكان يلازم تلاوة القرآن، لا يخل بذلك في ولا أوان. يقرأ القصص، وإذا فرغ منها عاد إلى التلاوة على الراتب. وإذا مر بآية سجدة دار إلى القبلة وسجد وظهره إلى النائب. وتبرم منه النائب وشكاه، وذكر للسلطان وغيره وحكاه، فما رجع عن عادته، ولا ترك ذلك من سعادته.
ولم يزل على حاله إلى أن سكن نبضه وبطل من بيت المال قبضه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور.
أخبرني شيخنا الحافظ أبو الفتح بن سيد الناس قال: كان القاضي شرف الدين قد توجه صحبة السلطان إلى غزوة، فرأيته في المنام كأنه منصرف عن الواقعة، وقد نصر الله المسلمين فيها على التتار، فأخبرني بما فتح الله به، فنظمت في المنام بيتين، واستيقظت ذاكراً للأول منهما وهو:
الحمد لله جاء النصر والظفر ... واستبشر النيران: الشمس والقمر
فكتبت إليه أعلمه بذلك، فكتب إلي الجواب عن ذلك:
أيا فاضلاً تلهي معاني صفاته ... فكل بليغ فاضل من رواته
ومن يستبين الفهم من لحظاته ... له أمر بالرشد في يقظاته
وفي النوم يهديه لخير الطرائق
ومن قربه غايات كل فضيلة ... وأشطره تزهى بزهر خميلة
وجملته في الناس أي جميلة ... فإن قام لم يدأب لغير فضيلة
وإن نام لم يدأب لغير الحقائق(2/325)
يقبل اليد العالية الفتحية فتح الله أبواب الجنة بها ولها، وأسعد خاطره الذي ما اشتغل عن الصواب ولا لها، ومشتهى خلقه الذي لا أعرف لحسنه مشبهاً، تقبيل مشتاق إلى روايته ورؤيته، ونتائج بديهته ورويته، كتعطش إلى روائه وإروائه والتيمن بعالي آرائه، والتحلي به في هذه السفرة المسفرة بمشيئة الله تعالى عن الفلاح والنجاح، والغزوة التي لها الملائكة الكرام النجدة، والرايات النبوية السلاح، والحركة التي أخلص المسلمون لله تعالى رواحهم، وغدوهم، وتعلقت آمالهم بأنه سبحانه وتعالى يهلك عدوهم، فإنهم قد بغوا والبغي وخيم المصرع، وابتغوا الفتنة والفتنة لمثيرها تصرع. وقد تكفل الله تعالى بالملة المحمدية أن يديل دولتها، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله لا يسلط على هذه الأمة من يستبيح بيضتها، فلهذا ما أمضينا في السهر ليلا، ولا أنضينا في السفر خيلا، ولا رجونا إلا أن " نحمد السرى عن الصباح " ، وكدنا أن " نطير إلى الهيجاء زرافات ووحداناً " بغير جناح ولا جناح. وسمحنا بنفوس نفائس في طلب الجنة والسماح رباح، وينهي أن المشرف العالي ورد إليه فتنسم أرواح قربه، وأوجد مسرات قلبه، وأعدم مضرات كربه، وأبهجه الكتاب بعبير رياه، وألهجه الخطاب تعبير رؤياه، فرأى خطه وشياً مرقوما، ولفظه رحيقاً مختوما، ووجده محتوياً على درر كلامية وبشر مناميه، وحديث نفس عصاميه.
نرجو من الله أن نشاهد ذلك أيقاظا، ونكون لأبنائه حفاظا.
وهو كتاب طويل. وأجاب عنه شيخنا فتح الدين، وقد أثبتهما في الجزء الأول من " التذكرة " التي لي.
محمد بن عبد الله بن المجد إبراهيم
الشيخ الكبير المشهور الصالح المرشدي.
قرأ على ضياء الدين بن عبد الرحيم، وتلا على الصائغ. وكان فقيهاً شافعي المذهب. وكانت له أحوال وهمة عظيمة، في خدمة الناس على مر السنين والأحوال، يطعم الناس الذين يردون عليه، ويأتي لكل واحد بما في خاطره ويقدمه بين يديه، اشتهر هذا الأمر عنه وذاع، وامتلأت به النواحي والبقاع. ولو ورد عليه من الألف نفس فما دونها أو جاؤوه في أي وقت كان من غير هدية يهدونها وجدوا ما يكفيهم ويكفي دوابهم وشيوخهم وشوابهم.
ولم يكن يقبل لأحد شيئاً البته. وتحيل الناس عليه في مثل هذا فحالما علم به رده بغته.
ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى خالقه على سداد، وسكن لحده إلى يوم المعاد.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وسبع مئة.
كان يحكي عجائب يحار لها السامع من إحضاره الأطعمة الكثيرة للواردين وكل من حضر وخطر بباله في الطريق قبل وصوله إليه شيء من المآكل الغريبة أحضره إليه ووضعه قدامه على الخصوص، وكان مقامه بقرية منية مرشد بالقرب من بلد فوه بالديار المصرية.
تحيل السلطان الملك الناصر محمد وجهز له مع الأمير سيف الدين بكتمر الساقي جملة من الذهب، فغالطه في قبولها ودسها معه في مأكول جهزه معه إلى السلطان. وحج في هيئة كبيرة وتلامذة.
أنفق في ليلة ما قيمته ألفان وخمس مئة درهم، وقيل: إنه أنفق في ثلاث ليال ما قيمته ألف دينار، وكان يأتيه الأمراء الكبار ومن دونهم من الفقراء، فيقوم بخدمتهم على أتم ما يكون، وقل من أنكر عليه، فاجتمع به إلا وزال ذلك من خاطره. وكان شيخنا فتح الدين بن سيد الناس ممن ينكر حاله ويشنع عليه، فما كان إلا أن اجتمع به، فسألته عنه، فقال: هو إنسان حسن. ثم إنه اجتمع به مرة ومرة، وكذلك الأمر ناصر الدين بن جنكلي كان ينكر عليه واجتمع به، وجرى بينهما تنافس في الكلام، ولم يجئ من عنده إلا وقد رضي به.
وأخبرني جماعة ممن توجه إليه وأقام عنده أن في مكانه مسجداً ومنبراً للخطيب يوم الجمعة، وكان يأمر الناس بالصلاة، ولم يصل مع أحد، وصلاة الجماعة لا يعدلها شيء. وأمره غريب والسلام، يتولى الله سريرته.
وكان قد عظم شأنه، ويكتب الأوراق إلى دوادار السلطان، وإلى كاتب السر، وإلى من يتحدث في الدولة بقضاء أشغال الناس بعبارة ملخصة موجزة على يد من يتقاضاه ذلك، ويقضي جميع ما يشير به، وما عظم واشتهر في الديار المصرية إلا بتردد القاضي فخر الدين ناظر الجيش إليه، فإنه كان يزوره كثيراً، فعظم لذلك محله في النفوس.(2/326)
وبات في عافية، وأرسل إلى الذين من حوله ليحضروا إليه فقد عرض أمر مهم، فأتوه، فدخل خلوته وأبطأ، فطلبوه فوجدوه ميتاً في التاريخ المذكور.
والحكايات في شأنه تزيد وتنقص إلا أنه لا يدعي شيئاً، ولم يحفظ عنه شطح، حسن العقيدة، شافعي المذهب، وكان يخرج إلى الواردين أطعمة كثيرة من داخل مكانه، ولا يدخل إلى ذلك المكان أحد سواه.
قال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: حكى لي الأمير الوزير مغلطاي الجمالي رحمه الله تعالى، قال: توجهت إلى زيارة الشيخ محمد المرشدي، فلما قربت منه اشتهيت قمحية بلبن حليب بلحم رميس، فلما وصلنا جاء ومعه زبدية كبيرة فيها قمحية بلبن حليب بلحم رميس، وقال لي: كل. ثم بقي يغيب ويأتي بأشياء أخر ويضعها قدام مماليكي، وكلما أتى بشيء إلى واحد منهم تعجب منه ويقول: أنا والله كنت اشتهيه، وأحضر أكثر من عشرين لوناً ما يطبخ إلا في مطبخ السلطان.
قال: وحكى لي شهاب الدين أحمد بن مليح الإسكندري بالإسكندرية، قال: نويت زيارة الشيخ محمد في نفسي. وقلت: لعلي أصادف عنده هيطلية بسمن وعسل آكل منها. فجاء كتاب وكيل الخاص باستعمال حوائج السلطان، فعاقني عما عزمت عليه، فلم يمض غير يومين أو ثلاثة وإذا أنا برجل قد أتاني من عند الشيخ، وقال: الشيخ يسلم عليك وقد بعث لك هذا السمن والعسل ليعمل لك هيطلية وتأكل بهما، ولو كانت تحمل إليك لبعث بها.
قال: وقد زعم قوم أن هذه الكرامات إنما كانت بصناعة مقررة بينه وبين قاضي فوه فإنهما كانا روحين في جسد، وكان قد تحصن بالشيخ، فلا يقدر قاضي القضاة ولا أحد على عزله، وطال ذيله، وأكثر من تسجيل البلاد والتجارة، والولاة ترعاه إما لاعتقاد في الشيخ أو لرجاء العناية من الشيخ بهم عند الدولة. فنمت أمواله، وصلحت حاله، واتسعت دائرة سعادته، ولم يبق له دأب إلا يلقى من يصل من ذوي الأقدار قاصداً زيارة الشيخ، لأن فوه طريق منية مرشد، فإذا وصل الزائر أنزله وأضافه وشرع في محادثته ومحادثة من معه حتى يقف على ما في خواطرهم وما يقترحونه، ثم إنه يبعث إلى الشيخ بذلك على دواب مركزة في الطريق بينهما ويمده من الأصناف بما لعله لا يكون عنده، ويعطيه حلية كل رجل من المذكورين واسمه.
قلت: هذا فيه بعد إلى الغاية، وهذا يريد أموالاً كثيرة ينفقها القاضي أولاً على الزائرين، ثم إنه يجهز إلى الشيخ بما يطعم به زواره ثانياً. ولعل الذي كان يشتهي المأكول أو المشروب يشتهيه بعد فراق القاضي في نفسه، فمن أين يعلم الشيخ بذلك أيضاً؟ فما كل من قصد الشيخ يعمل طريقه على فوه ويجتمع بالقاضي.
واستفاض أنه ما راح أحد وتمنى شيئاً يأكله أو يشربه إلا وجاءه الشيخ به.
وكان الشيخ - رحمه الله تعالى - أسمر مبدناً ربعة من الرجال، حسن الشكل، منور الصورة، جميل الهيئة، حسن الأخلاق.
ومات - رحمه الله تعالى - وقد قارب الستين. وكان يفتي من يسأله من غير أن يكتب خطه.
محمد بن عبد الله بن الحسين
ابن علي بن عبد الله الزرزاري الإربلي الدمشقي، قاضي القضاة العلامة شهاب الدين أبو الفرج وأبو عبد الله بن الإمام مجد الدين.
سمع من ابن أبي اليسر، ومظفر بن عبد الصمد الصائغ، والفخر علي، وابن أبي عمر، وأبي بكر بن الأنماطي، وابن الصابوني، وعبد الواسع الأبهري، والنجم بن المجاور، وابن الواسطي، وابن الزين، وابن بلبان، وغيرهم.
وكتب الطباق، وسمع كثيراً، وأفتى، ودرس، وجود العربية والفقه. وكان في الشروط آية، وفي معرفة الأحكام ونقضها وإبرامها غاية. وكان في المكارم لا يجارى، وفي الجود لا يبارى، وله على الناس خدم، وفي المروة رسوخ قدم. ينظر في المكتوب نظرة واحدة فيعرف فساده من صلاحه، ويزيل منه واواً أو يزيده ألفاً فيأتي بالمراد على اصطلاحه. ولي قضاء القضاة بدمشق بعد ابن جملة فلم يحمد، وعاد طرف الدين به وهو أمد.
ولم يزل على حاله إلى أن انهدم ابن المجد، وأهلك نفوس ذويه عليه من الألم والوجد.(2/327)
كان أولاً ينوب في وكالة بيت المال عن القاضي جمال الدين والقاضي علاء الدين ابن القلانسي، ثم إنه انفرد بالوكالة في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ثم ولي قضاء القضاة بعد ابن جملة، ولبس تشريفه لذلك اليوم في يوم الأحد ثامن عشري القعدة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. ولم يزل به إلى أن عزل من باب السلطان بقاضي القضاة جلال الدين القزويني، ولم يعلم، ثم إنه توجه إلى القاضي شهاب الدين بن القيسراني يهنئه بكتابة السر، فنفرت به البغلة عن حمام الخضراء فرض دماغه، فحمل في محفة إلى العادلية.
ومات بعد أسبوع في آخر جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة، ولم يعمل له عزاء. وأوذي أصهاره.
أنشدني من لفظه لنفسه شمس الدين محمد الخياط الشاعر:
بغلة قاضينا إذا زلزلت ... كانت له من فوقها الواقعة
تكاثر ألهاه من عجبه ... حتى غدا ملقى على القارعة
فأظهرت زوجته عندها ... تضايقاً بالرحمة الواسعة
وكتب إليه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة:
قاضي القضاة ابق في سماء علاً ... مقتبل السعد نافذ الحكم
كم من صديق قد جاء يسألني ... في البر والمكرمات والحلم
عن ابن صصرى وعنك. قلت له: ... لا فرق بين الشهاب والنجم
محمد بن عبد الله بن عمر
الشيخ الإمام العلامة الخير الورع زين الدين بن علم الدين ابن الشيخ زين الدين بن المرحل الشافعي. هو ابن أخي الشيخ صدر الدين بن الوكيل.
ربي على طريق خير وسلامه، ونشأ في صون وعفاف لم يلحقه في ذلك سآمه، يلازم الاشتغال ليلاً ونهارا، ويكرر دروسه في كل وقت مرارا. وكان من أحسن الناس شكلا، وأبهجهم وجهاً، كأن البدر منه تجلى.
وكان قد جود الفقه والأصول وتوفر عنده منهما المحصول.
وأما العربية فكان فيها ضعيفا، ولم يسمع الناس له فيها صريفا.
وناب في الحكم بدمشق فحمدت سيرته، وود الناس، لو دامت على ذلك جيرته.
ولم يزل على ذلك إلى أن رحل ابن المرحل إلى المقابر وعد بعد أن كان موجوداً في الغوابر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
وكان عمه الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى يحسده، ويقول: لا إله إلا الله ابن الجاهل طلع فاضلاً وابن الفاضل طلع جاهلاً يعني بذاك ابنه.
وكان قاضي القضاة شمس الدين بن الحريري عينه للقضاء وأشار به على السلطان إما لقضاء مصر أو لقضاء الشام، ولم يكن فيه ما يمنعه عن ذلك غير صغر سنه. وجهزه السلطان على البريد إلى دمشق وولاه تدريس الشامية البرانية عوضاً عن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، فوصل إليها يوم الثلاثاء تاسع عشري شهر رجب سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وكان الناس قد أوهموا الأمير سيف الدين تنكز ووصفوه بالدين المتين، فلما جاء كان في الميدان، فلما رآه ترجل له وجاء وقبل يده، فنزل بذلك من عينه.
وأخبرني جماعة أن دروسه لم تكن بعيدة عن دروس الشيخ كمال الدين لفصاحته وعذوبة ألفاظه.
وباشر نيابة الحكم عن قاضي القضاة علم الدين الأخنائي بدمشق في الحادي والعشرين من صفر سنة ثلاثين وسبع مئة.
محمد بن عبد الله بن محمد الأموي المروي
الشيخ الأديب محب الدين أبو عبد الله المغربي المعروف بابن الصائغ.
رأيته بالقاهرة مرات، واجتمعت به في دروس شيخنا العلامة أثير الدين وغيرها. وسمعت أنا وهو " صحيح " البخاري بقراءة الشيخ شهاب الدين بن المرحل النحوي على الشيخ فتح الدين وأخيه بالقاهرة أبي القاسم بالظاهرية بين القصرين، فكان هذا الشيخ محب الدين يأتي بفرائد في أثناء السماع مما يتعلق بالعربية الغريبة واللغة.
وكان يعرف العروض معرفة تامه، ويجيد الكلام على غوامضها الخاصة والعامه.
وأما العربية فكان عنده لبابها، ولديه تجتمع أبوابها، ذهنه الخارق فيها كالنار إذا توقدت، وحلها بيده إذا تعقدت.
وشعره فائق جزل، يسلك به طريق الجد لا الهزل، أنشدني منه كثيرا، وحباني منه لؤلؤاً نظيماً ونثيرا. وكان يعاني اللعب بالعود، ويطيب وقته بالأماني والوعود.
ولم يزل على حاله إلى أن سكت المحب فما نبس، وصح عنده من أمر الموت ما التبس.(2/328)
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
وكان قد كتب إلي وأنا بالقاهرة:
صلاح الدين يا رب المقال ... ويا ترب المعاني والمعالي
تصدق لي بصرف زكاة جاه ... ففيها إن أردت صلاح حالي
فكتبت جوابه مع شيء أهديته إليه:
محب الدين في الآداب شيخ ... نوى لي أن يعرض بالنوال
إذا ما الجاه لم أك فيه وجهاً ... فما لي لا أجود بفضل مالي
وأنشدني من لفظه لنفسه يمدح القاضي نجم الدين محمد بن محمد الطبري قاضي مكة، وقد أنشده القاضي خمسة أبيات على هذا الوزن والروي، وستأتي في ترجمة المذكور إن شاء الله تعالى:
شرع الهوى هوني لعزة جاهك ... فارثي لذلة موقفي بجاهك
رقي لجسم رق من دنف الهوى ... وشفاه ما تحويه حو شفاهك
لا تعجبي إن ذبت شوقاً واعجبي ... أن ليس إلا سقم طرفك ناهك
وسن نفى وسني فنمت ولم أنم ... ما ليلة الساهي كليل الساهك
بطحاء وادي الأثل لولا تيهها ... ونفارها ما حمت في أتياهك
ولما وخدت بها شوازب ضمراً ... أوردتها عشراً ثغاب مياهك
بدلت سدرك بالسدير وما حوى ... ونفائح النسرين فيح عضاهك
وهجرت طيب كرى وواصلت السرى ... بمشقة التهجير في إدماهك
أدعوا بسعدى أين يمن سراي إذ ... أكرهتم وعففت عن إكراهك
نصبوا علي رحاضهم لكنهم ... شاهت وجوههم لصولة شاهك
جبت الشعاب وآل شعبة عندما ... سدل الظلام رداءه برداهك
أعشو إلى حلي الترائب خفيةً ... إذا غمض الأتراب عن أفكاهك
ادني اللجين لعسجدي شاحب ... صدئ الإهاب بما اكتساه ساهك
اسقي عهاد الدمع عهداً باللوى ... أنسيته لشفاي لا لشفاهك
زمناً أردد آهة المشغوف من ... حرقي فيحيكيني ترجع آهك
أنضارتي اشتعل المشيب فأنضبت ... شعل الحشا ما راق من أمواهك
ينهى وينهكني مشيب صنته ... ولما عرفت بصون ناه ناهك
حللك المفارق قد تنفس صبحه ... يا نفس هبي من كرى استعماهك
يستبد هونك للنسيب فشرفي ... بشريف مكة منتج استبداهك
قاضي الشريعة والمقيم منارها ... حيث المقام وحيث بيت إلهك
بلدت في جوب البلاد ومدحه ... يشفي فينفي تهمة استبلاهك
لولاه أوشكت الخمول فلازمني ... شكر الذي سنى لقاه لقاهك
يا خير أرض الله قد رضي النوى ... رجل ثوى فأوى إلى أواهك
القطب نجم الدين إشراق الدنا ... معنى العلا أسنى وجوه وجاهك
من إن تشابهت الوجوه أقل لها ... من بعد هذا الذهن لاستشباهك
إن يخف معناك السقيم فعامل ... بصحيح حكمته على أفقاهك
روى الحديث فرويت ساحاتها ... يا سحب إذا حلت عرا أفواهك
غيثاً أغاثك يا حجاز بدره ... وجلا هوامد أغبرت بجلاهك
فاخضر مرعاك المبارك ممرعاً ... والتفت البهمى بغض شباهك
جودي سماء يمن دعوة من سما ... رتبا يقل لها انتعال جباهك
يا نفس إنك قد نقهت من الغنى ... ولقد غنيت اليوم في استنقاهك
هذا الجواد لما حوى يمناه في ... إفقار كيس المال أم إرفاهك
يسخو بما يوعى ويطبي ما يعي ... كم بين كنز نفيسة ونفاهك
دارت رحى الأيام تبغي جاره ... فأجاره من كل داء داهك
أم القرى قد جار من أم القرى ... بفناء بدنك كلها وشاهك
ناسبت غرته وبيت نسيبه ... فأعدت ليس البدر من أشباهك
يا همةً عن كل هم نزهت ... إلا العلا دومي على استنزاهك(2/329)
لسموت حين سمهت في شأو العلا ... أفردت فالأسماء في أسماهك
يا فكرة بدهت بأبدع ملحة ... ما أقرب الإبداع من إبداهك
عرضتها لمعارض لم يحكها ... أنى وقد لزمت قوافيها هك
محمد بن عبد الله بن الحسين
ابن علي بن عبد الله بن عمر بن عيسى ابن أحمد بن حسن، الشيخ الفقيه الصالح الزاهد عفيف الدين أبو عبد الله ابن الشيخ الإمام مجد الدين أبي محمد الزرزاري الإربلي الدمشقي.
سمع من شيخ الشيوخ الأنصاري، وإبراهيم بن خليل، وجماعة. حفظ " التنبيه " ، ولما مات والده ولي تدريس الكلاسة مدة بعده. وكان إماماً بالقيمرية، ثم انتقل عنها إلى الظاهرية.
حدث بالقاهرة ودمشق وبطريق الحجاز.
توفي رحمه الله تعالى ثالث عشري شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده بحلب سنة خمسين وسبع مئة، وأثنى الناس عليه عند موته كثيراً.
محمد بن عبد المجيد بن عبد الله
القاضي سعد الدين بن فخر الدين بن صفي الدين ابن الأقفاصي.
كان قد ولي نظر الخزانة بمصر، ولما توجه السلطان الملك الناصر إلى الكرك في سنة ثمان وسبع مئة توجه صحبته، وأظهر هناك شراً كثيراً وعسفاً.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة أربع عشرة وسبع مئة في ثامن عشري ذي الحجة.
كذلك يقال في ألسنة العوام: " الأقفاصي " ، وإنما هو الأقفهسي، بهمزة مفتوحة وقاف ساكنة وفاء مفتوحة وبعدها سين مهملة، نسبة إلى أقفهس، وهي قرية من قرى مصر.
محمد بن عبد المجيد بن أبي الفضل
ابن عبد الرحمن بن زيد الحنبلي، الشيخ الفقيه الإمام المفتي بدر الدين أبو عبد الله.
كان فاضلاً صالحاً مسجلاً، ليس في بلده له نظير، وكان يكتب الإسجالات والشروط كتابة مليحة خطاً ولفظاً.
ويفتي الناس ويقرئهم.
توفي رحمه الله تعالى تاسع شهر ربيع الأول سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
محمد بن عبد المحسن بن الحسن
شرف الدين الأرمنتي، قاضي البهنسا.
كان فقيهاً نحوياً شاعراً ذكياً كثير الاحتمال، أريباً باذلاً للنوال. بنى مدرسة ورباطاً ومسجداً بالبهنسا. ورسخ بذلك قدمه في الخير ورسا.
ولم يزل على حاله إلى أن جاءه حتفه، ورغم بالموت أنفه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وسبعين وست مئة.
وكان قد قرأ الفقه بالصعيد على خاله سراج الدين يونس بن عبد المجيد الأرمنتي، وتأدب به ولازمه، وأقام بمصر سنين يشتغل بها مع خاله، إلى أن ولي خاله فسار معه وتزوج ابنته، وكان ينوب عنه حيث كان، وكان قد عين شرف الدين المذكور لقضاء الإسكندرية، وطلب إلى القاهرة فحضر جمع كبير من أهل البهنسا وأظهروا الألم لفراقه، وسألوا القاضي جلال الدين القزويني ألا يغيره، فأعفاه، ورجع إلى البهنسا. ثم إنه عين لقوص، فلم يوافق، ومات رحمه الله تعالى ولم يعقب.
وقال القاضي كمال الدين الأدفوي: أنشدني كثيراً من شعره ومنه:
جز بسفح العقيق وانشق خزامه ... وفؤادي سل عنه إن رمت رامه
وإذا ما شهدت أعلام نجد ... وزرود وحاجر وتهامه
صف لجيرانها الكرام بيوتاً ... حالة الصب بعدهم وغرامه
وترقق لهم وسلهم وصالا ... وقل الهجر والصدود علامه؟
عبدكم بعدكم على الود باق ... لم يغير طول البعاد ذمامه
يا كرام النصاب إنا نراكم ... حيث كنتم بكل حي كرامه
قال: أنشدني لنفسه يجمع " العبادلة " :
إن العبادلة الأخيار أربعة ... مناهج العلم في الإسلام للناس
ابن الزبير وابن العاص وابن أبي ... حفص الخليفة والحبر ابن عباس
وقد يضاف ابن مسعود لهم بدلاً ... عن ابن عمرو لوهم أو لإلباس
وقال: حكى لي أن بعض عدول البهنسا حكى له أن امرأة حضرت مع زوجها إلينا لنوقع بينهما الطلاق، فرأيناه لا يشتهي ذلك، فكلمناها، فلم تقبل، فاوقعناه، فالتفت إلينا وأنشدت:
لما غدا لأكيد عهدي ناقضاً ... وأراد ثوب الوصل أن يتمزقا
فارقته وخلعت من يده يدي ... وتلوت لي وله " وإن يتفرقا "(2/330)
1638 - ... محمد بن عبد المحسن بن أبي الحسن
ابن عبد الغفار، الشيخ الفاضل الواعظ المسند المعمر، مسند الوقت، عفيف الدين أبو عبد الله الأزجي البغدادي الحنبلي الخراط، والده الدواليبي شيخ الحديث بالمستنصرية.
سمع سنة أربع وأربعين من ابن الخير إبراهيم، وابن العليق، وابن قميرة، وأخيه يحيى، وبعد الملك بن قينا، وأحمد بن عمر الباذبيني، وعجيبة الباقدارية، وطائفة أخرى، وسمع " المسند " كله بفوت، و " صحيح مسلم " ، وانتهى علو الإسناد إليه.
كان يقول: حفظت " اللمع " في النحو و " مختصر الخرقي " .
وحج غير مرة. ووعظ بكلاسة دمشق، وسمع منه شيخنا الذهبي بالعلا وغيرها، وكان حسن المحاضرة، طيب الأخلاق، أخذ عنه الفرضي وابن الفوطي، وشيخنا البرزالي، وصفي الدين بن الخطيب، وسراج الدين القزويني، وشمس الدين بن خلف، وأخوه منصور، وعفيف الدين المطري، وخلق سواهم.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الخميس، ودفن يوم الجمعة خامس عشري جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة ببغداد.
ومولده سنة سبع وثلاثين وست مئة.
ومن شعره:
كم قد صفت لقلوب القوم أوقات ... وكم تقضت لهم بالليل لذات
فالليل دسكرة العشاق يجمعهم ... ذكر الحبيب وصرف الدمع كاسات
ماتوا فأحياهم إحياء ليلهم ... ومن سواهم أناس بالكرى ماتوا
لما تجلى لهم والحجب قد رمغت ... تهتكوا وصبت منهم صبابات
وغيبتهم عن الأكوان في حجب ... وأظهرت سر معناهم إشارات
شافي القلوب هو المحبوب يشهده ... صب له بقيام الليل عادات
إذا صفا الوقت خافوا من تكدره ... وللوصال من الهجران آفات
وكان ينظم المواليا والكان وكان.
محمد بن عبد المحسن
القاضي قطب الدين أبو عبد الله بن مجد الدين بن تقي الدين السبكي، قاضي حمص.
مولده سنة أربع وثمانين وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق بعدما نزل عن القضاء بحمص، وكان قد وليها في سنة تسع وأربعين وسبع مئة، ولم يزل إلى أن ولي بعلبك في سنة ثلاث وستين وسبع مئة فأقام بها مديدة يسيرة، ثم عاد إلى حمص، وحضر إلى دمشق في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وسبع مئة وحصل له ضعف انقطع به إلى أن توفي في بكرة الجمعة مستهل جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبع مئة، ودفن بالصالحية.
وكان كثير السكون والميل إلى الموادعة والركون، لا يتحدث فيما لا يعنيه، ولا يؤسس الشر ولا يبنيه. وكان شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يركن إليه ويعتمد عليه.
وروى عن ابن الحبوبي، وعلي بن محمد بن هارون الثعلبي وطائفة.
وكان قد تفقه على الشيخ صدر الدين السبكي، وأخبرني قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب السبكي أنه كان يستحضر من " الحاوي " جملة كبيرة، وكان كثير التلاوة رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الملك بن عمر
الشيخ الإمام الزاهد القدوة شرف الدين الأرزوني.
كان شيخاً مشهوراً بالصلاح، تام الشكل، أسمر، مهيباً جليلاً قليل الشيب مليح الهمة والعمة والشيبة والبزة، صاحب سمت وهدى ووقار.
صحب الكبار وتعبد وانقطع سنة ست وتسعين وست مئة.
محمد بن عبد الملك بن إسماعيل
الأمير الملك الكامل ناصر الدين ابن الملك السعيد بن السلطان الملك الصالح ابن العادل الأيوبي سبط الكامل وابن خالة صاحب الشام الناصر يوسف وابن خالة صاحب حماة.
حدث عن ابن عبد الدائم.
كان من أمراء دمشق الأكابر في الطبلخاناة، وكان ذكياً خبيراً، بصيراً بالورود في القضايا والصدور يعد في رؤساء الأمراء وسادة الصدور، ويجلس من المحافل الكبار في الصدور، ينبسط كثيراً مع لطافه، وينخرط في التنديب إلى سلك يزين عقوده من الزمان أعطافه، ونوادره عديده، وبوادره فيها عتيده، لو عاصره أبو العيناء لقال هذا هو الإمام، أو الجماز قفز وناوله هذا الزمام. أو أبو العبر لعثر، أو أشعب الطمع لسلا عما رأى وسمع.
كانت تقع له نكت حاره، وتناديب إلى القلوب ساره، هزازة، خلابه، بزازة سلابه.
ولم يزل يستدين وينفق ويستعين ممن لا يرفق إلى أن بهضه حمل الدين، وصار منه بمنزلة القذى في العين، وصار كلما نهض بهض. وكلما نسخ رسخ.(2/331)
كخائض الوحل إذا طال العناء به ... فكلما قلقلته نهضة رسبا
وأنجده الله أخيراً بالأمير سيف الدين تنكز فحجز عليه في إقطاعه، وترم الصاحب شمس الدين يتحدث له في مشتراه وابتياعه ووفاء ديونه وانتفاء غبونه. فصلحت حاله بعض الصلاح. وما تقدر على الإمساك كف تعودت البذل والسماح.
وبقي على حاله حتى فقده الوجود، وترك العيون عليه بالدموع تجود.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء العشرين من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
وأوصى أن يدفن عند أبيه بتربة الكامل فما مكن، ودفن بتربة جدتهم أم الصالح، ووالدته وهي ربيعة خاتون بنت السلطان الملك الكامل محمد ابن السلطان الملك العادل أبي بكر.
وكان الملك المنصور صاحب حماة ابن خالته، وكان الملك العزيز صاحب حلب مزوجاً بخالته الأخرى.
كان أولاً من أمراء دمشق، ثم نقل إلى حماة، ثم أعيد إلى دمشق، ولما حضر إليها اجتمع بأصحابه، فسألوه عن حماة، فقال: أنا ما كنت في حماة بل كنت في الأردو، يعني بذلك أن الملك المؤيد ابن خالته صاحب حماة يتكلم بالتركي.
وعاشر الأفرم ونادمه وأحبه كثيراً وقربه، وكان لا يصبر عنه، وكان يوما هو والشيخ صدر الدين بن الوكيل عند الأمير جمال الدين الأفرم وقد أحضر لهم على بكرة سخاتير صنعها لهم وتأنق الطباخون بها، فقال الملك الكامل: يا شيخ أنا أحب السخاتير فقال صدر الدين: " حب الوطن من الإيمان " فانتكى الكامل منها، وكان قد تقرر بينهم أنه من سبق وحضر إلى حضرة الأفرم يركب الذي يجيء بعده ويدور في المجلس فتأخر الملك الكامل تلك الليلة إلى أن تحقق أن صدر الدين قد سبقه وجاء بعده، فقال الأفرم: أيش أخرك إلى هذا الوقت، قم يا شيخ اركبه، فقال: والله طيب إن غبنا ما تذكرونا، وإن جئنا تحملون علينا الكلاب! فقال صدر الدين: يا خوند ما يضيع له شي، استوفاها.
قلت: والشيخ صدر الدين أخذ تنديبته من قول نصير الدين الحمامي، أنشدني من لفظه شيخنا الحافظ فتح الدين اليعمري، قال: أنشدني من لفظه لنفسه النصير الحمامي:
رأيت شخصاً آكلاً كرشةً ... وهو أخو ذوق وفيه فطن
وقال ما زلت محباً لها ... فقلت من الإيمان حب الوطن
ونقلت من خط الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم، وأنشد فيه إجازةً:
أيها اللائمي لأكلي كروشا ... أتقنوها في غاية الإتقان
لا تلمني على الروش فحبي ... وطني من دلائل الإيمان
وقيل له: إن هلال رمضان ثبت البارحة، فقال: من رآه؟ فقالوا: مجد الدين الميت، فقال: هذا ميت وفضولي، ويخلط شعبان في رمضان.
وحضر عند الصاحب شمس الدين ليلة، فلما أحضرت الحلوى وجاء البابا بالفوطة والماوردية ورش على يده، فأخذ الماورد ومسح به عينيه وقال: الحلوى رأيتها بعيني، وأما بيدي فما لمستها، لأن الصاحب كان قد أشغله بالحديث عنه حتى فرغت، فضحك الصاحب وأحضر له حلوى تخصه.
وحكى لي الأمير شرف الدين حسين بن جندر قال: جرى الحديث بيننا يوماً في حضرة الأفرم، فقلت المثل المشهور: " فقلت اصفعوني وردوا شبابي " ، فقال: والله الأولى نقدر عليها الساعة والأخرى ما يقدر عليها إلا الله تعالى.
ونظر ولده يوماً في حضرة الأفرم وهو واقف قدامه إلى بعض الفقهاء وقد لبس بابوجاً أزرق، فتعجب ولده من ذلك فقال: لا تعجب منه، هذا نصراني مقلوب.
ووجدوه يوماً في الصيف وعليه فروة سنجاب، فقالوا: يا ملك في الصيف بفروة؟ فقال: أنا ما ألبس بالفصول، إلا إذا بردت لبست الفروة.
وكان من أخص الناس بالشيخ كمال الدين الزملكاني، وكان إذا وقع بينه وبينه ركب فرسه ودار على أصحابه ومعارفه وقال: قد وقع بيني وبين ابن الزملكاني فلا تسمع في ما يقول، وكذلك يفعل الآخر.
ودخل إليه الأمير شرف الدين حسين بن جندر يعوده في مرضه، وكان قد طلب إلى الديار المصرية وأخذ معه ثلاث مئة درهم فقال: هذه برسم الطبيب، فقال: بالله دعها تحت الطراحة لئلا يبصرها أرباب الدين، وقال له يوماً: أمير شرف الدين ما نحن كلنا أولاد ناس، فما أعلم من أين داخلت هؤلاء التتر وصرت منهم، وما أعلم وجه المناسبة بينكم، نعم دينك هو الذي يجمع بينكم.
وقلت أنا فيه:(2/332)
الملك الكامل في سعده ... نقص وفي تنديبه قد كمل
كبيت شعر نصفه سائر ... حسناً وباقي لفظه قد خمل
وكان الملك الكامل قد باشر شد الأوقاف بدمشق وصار يولي ويعزل، فغضب ابن صصرى لذلك، وترك الكلام في الأوقاف، فصار الملك الكامل يصرف مال الأوقاف الحكمية بقلمه إلى أن وصل كتاب السلطان لقاضي القضاة ابن صصرى في أواخر شهر رجب الفرد سنة تسع وسبع مئة باستمراره على نظر الأوقاف، فانشرح لذلك وتكلم على عادته في الأوقاف.
ولم يزل الكامل في شد الأوقاف إلى أن عزل بالأمير سيف الدين بكتمر المنصوري لما وصل الناصر من الكرك، وكان الملك العادل كتبغا قد أمره في المحرم سنة تسع وتسعين وست مئة لما كان بدمشق.
محمد بن عبد المنعم
شرف الدين بن المعين المنفلوطي.
كان فقيهاً شافعياً، أديباً شاعراً تفقه بالشيخ نجم الدين البالسي وغيره، وقرأ الأصول على الشمس المحوجب. وكان مقبولاً عند الحكام، واختصر " الروضة " ، وتكلم على أحاديث " المهذب " وسماه " الطراز المذهب " .
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ومن شعره:
ما للمليحة ما رعت حق الإخا ... لمحبها يوماً ولم تدر السخا
أضحت رياح صدودها لمحبها ... نكداً عواصف بعدما كانت رخا
وعزيزة بالدل ظلت لعزها ... متذللاً أبغي لديها منتخا
سفكت دمي عمداً وآية سفكها ... في الخد إذ أضحى به متضمخا
كم أثبتت للصب آية صدها ... منها أبت لثبوتها أن تنسخا
محمد بن عبد الوهاب بن عطية
الفقيه المحدث ناصر الدين الإسكندراني.
قال شيخنا الذهبي: صحبته بالثغر، وسمعت بقراءته على الغرافي، وكان قارئ الحديث عنده بالأبزارية ويؤم بمسجد، وكان دينا عاقلاً، مليح الخط.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده في حدود الستين وست مئة.
محمد بن عبد الوهاب بن عبد العزيز
ابن الحسين بن الحباب، القاضي نجم الدين المصري، وكيل بيت المال بالقاهرة.
روى " جزء الحفار " عن علي ابن مختار بن الجمل، وسمع أيضاً من جده وابن الجميزي.
توفي رحمه الله تعالى حادي عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده في شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وست مئة.
وكان موصوفاً بالأمانة والنزاهة، وهو من بيت رئاسة في مصر.
محمد بن عبد الوهاب بن علي
القاضي جمال الدين بن السديد الإسنائي.
نشأ في سعادة ورئاسة، وسيادة ونفاسه. وكان له خدم، وأتباع وحشم، وكانت فيه صداره، وعليه رونق من السعادة والنضاره.
وتوفي رحمه الله تعالى... وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وسبعين وست مئة.
اشتغل بالعلم، وقرأ الفقه على الشيخ بهاء الدين القفطي، وأجازه بالفتوى. وتوجه إلى القاهرة، وسمع من الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والحافظ شرف الدين الدمياطي، وقاضي القضاة ابن جماعة، وقرأ على شيخنا أثير الدين " الفصول في النحو " ، وعلى الخطيب الجزري " الأصول " وأجازه بالفتوى، وأجازه الشيخ فخر الدين عثمان بن بنت أبي سعد.
وتعدل وجلس بالقاهرة وقوص، وتولى العقود، واستنابه زين الدين إسماعيل السفطي في الحكم بأرمنت، وتولى الخطابة بإسنا، وتولى الحكم بقمولا وقنا وقفط وأصغون، ثم ولي النيابة بقوص ثم إن قاضي القضاة جلال الدين القزويني قسم على قوص بينه وبين شهاب الدين أحمد بن عبد الرحيم بن حرمي القمولي، فتولى جمال الدين قوص والبر الشرقي وذاك في البر الغربي، وتزوج ببنت ابن حرمي للائتلاف، وأقبل جمال الدين على المتجر بجملته، واستمال ابن حرمي الوالي بالهدايا. فاتفق أن وقع الغلاء في قوص سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، وكان عند جمال الدين تقدير ألفي إردب وخمس مئة إردب، فقال الوالي لجمال الدين: إنه يبيع بالسعر المعروف، فأراد التأخير لغلاء السعر، فكتب الوالي إلى السلطان، فبرز مرسومه بالحوطة عليه وإحضاره، وصرف عن القضاء. ثم إن جمال الدين تولى النيابة خارج باب النصر بالقاهرة بعد سنتين وشهرين مديدة لطيفة، فلما تولى قاضي القضاة عز الدين بن جماعة لم يوله.
محمد بن عثمان بن أبي الوفاء
القاضي بدر الديم بن فخر الدين العزازي، أحد كتاب الدرج بدمشق.(2/333)
كان حسن البزة والسمت، كثير الوقار يلزم الصمت، عديم الشر، حافظ السر، يكتب خطاً حسنا، يطلع به في روض الطرس ورداً وسوسنا.
لم يزل على حاله إلى أن غاب بدره فما طلع، وسار على النعش وما رجع.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الخميس ثالث عشر ذي الحجة سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وسبعين وست مئة.
حج واستصحب معه الشيخ إبراهيم الصياح، وعادله في المحمل. وكان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان.
قال شيخنا البرزالي: وسمع معنا على الشيخ تقي الدين الواسطي عدة أجزاء.
قلت: وكان كثير الملازمة بسوق الكتب بحسر اللبادين يوم الجمعة، ويقتني الكتب النفيسة، وملك منها ومن الكرند شيئاً كثيراً، وكان عنده من والده - وقد تقدم ذكره في حرف العين - أشياء نفيسة مثل السرطان البحري والكحل الأصبهاني والنصفية في داخل قصبة، إلى غير ذلك. إلا أنه كان إذا أنشأ شيئاً يأتي بما يضحك منه.
ولما توفي رحمه الله تعالى طلبت أنا من الرحبة ورتبت مكانه، وكان في آخر أمره قد حنا عليه الأمير سيف الدين ألجاي الناصري الدوادار ووعده أن يكون من جملة موقعي الدست فعاجلته المنية ولم تبلغه الأمنية.
محمد بن عثمان
الصاحب الأمير نجم الدين البصروي، ابن أخي قاضي القضاة صدر الدين الحنفي.
كان فيه كرم زائد، وجود يأتي لعافيه بالصلة والعائد، وعنده شهامه، ولديه همة وصرامه.
ودرس أولاً ببصرى، وأتى بفوائد في دروسه تترى، وخدم السلطان الملك الناصر وهو في الكرك، ونقل إليه ما أراد فما بقى ولا ترك، وسعى له في الباطن مع أمراء دمشق بملطفات إلى أن انبرم له الأمر، وصار لهباً ذلك الجمر، فرعى له حقه، وملكه من السؤدد رقه. فولي الحسبة، ثم نظر الخزانة، ثم الوزارة، وانتقل بعد ذلك إلى الإمارة، فأعطي طبلخاناه، ولم يلبس زي الأمراء، وأنف منه للازدراء.
ولم يزل على حاله إلى أن انبثق نجمه وضمه رجمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشري شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ووصل من مصر إلى دمشق في سابع صفر سنة عشر وسبع مئة متولياً وزارة دمشق، وترك الحسبة لأخيه فخر الدين سليمان، وأظنه استمر في الوزارة إلى أن تولاها الصاحب عز الدين بن القلانسي ثالث ذي القعدة سنة عشر وسبع مئة، ولبس هو للإمرة يوم الخميس ثالث عشر صفر سنة إحدى عشرة وسبع مئة ولم يغير ملبوسه، وكان قد وصل من مصر إلى دمشق في ذي الحجة سنة ست وسبع مئة.
وقد تولى الحسبة عوضاً عن أمين الدين يوسف العجمي، ثم إنه وصل من مصر أيضاً متولياً نظر الخزانة عوضاً عن شمس الدين بن الخطيري مضافاً إلى الحسبة في أواخر شهر رمضان سنة سبع وسبع مئة. ثم إنه عزل من الحسبة في عشري جمادى الآخرة سنة تسع وسبع مئة بالشيخ عز الدين بن القلانسي.
وقد تقدم ذكر أخيه الشيخ صفي الدين أبي القاسم بن عثمان في مكانه، وذكر أختهما أم يوسف فخرية الصالحة في مكانه من حرف الفاء.
محمد بن عثمان بن يوسف
الصدر الكبير القاضي بدر الدين أبو عبد الله الآمدي ثم المصري الحنبلي، المعروف بابن الحداد.
تفقه بمصر، وحفظ " المحرر " وتميز، ثم دخل في الكتابة، واتصل بالأمير قراسنقر، ودخل معه إلى حلب وولي نظر ديوانه والأوقاف والخطابة. ولما تولى دمشق ولى ابنه خطابة دمشق، انتزعها من الخطيب جلال الدين القزويني، ثم وصل توقيع جلال الدين بعد أيام من مصر بإعادته. ثم ولي الحسبة عوضاً عن فخر الدين البصروي. ووصل إلى دمشق من مصر في ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة، ثم إنه عزل بابن مبشر، ثم أعيد إليها في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وسبع مئة. وتولى نظر البيمارستان النوري، ثم نظر الجامع الأموي.
وكان له سماع من القاضي شمس الدين بن العماد، وذكر لقضاء دمشق في وقت.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
محمد بن عثمان
الصدر المقرئ صلاح الدين ابن الشيخ المقرئ شمس الدين بن محمد بن منيع بن عثمان بن شاد البشطاري.
كان مقرئاً، رئيس المؤذنين بالجامع الصالحي خارج باب زويلة بالقاهرة، كانت له قراءات في عدة أماكن، وفيه مروءة وعصبية، وله مكانة عند الناس.
توفي رحمه الله تعالى ليلة عبد الأكبر سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن ثاني يوم بالقرافة.
محمد بن عثمان بن أبي الحسن(2/334)
ابن عبد الوهاب الأنصاري، قاضي القضاة، شمس الدين بن الحريري، قاضي القضاة بدمشق وبالقاهرة.
سمع من ابن أبي اليسر، وابن عطاء، والجمال بن الصيرفي، والقطب بن أبي عصرون، وجماعة. وتفقه فبرع في الفقه، وحفظ " الهداية " وغيرها، وأفتى ودرس وتميز.
وكان من قضاة العدل، والحكام الذين خص ستر وقارهم بالهدل، نظيف البزه، صلب القناة في الحق عند الغمز والهزه، عليه مهابة ووقار، وسمت ترمى النجوم عنده بالاحتقار، وله عباره، وشارة وإشاره، وكان قوالاً بالحق، قواماً بالصدق، حميد الأحكام، صارماً على الخاص والعام، متين الديانه، وصين الصيانه، له أوراد يقوم بأوقاتها، ويعد ذلك لنفسه من أقواتها.
وكان يراعي الإعراب في كلامه، وفي فصله القضاء عند أحكامه، ومع نسائه وخدامه، إلا أنه كان مفرطاً في تعظيم نفسه، ورؤية الناس من أبناء جنسه. وبهذا لا غير نقم عليه، وبه يشار عند الذم إليه.
ولم يزل على حاله إلى أن لبس الحريري قطن أكفانه، وأطبق القبر على إنسانه ما يطول من غمض أجفانه.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة يوم السبت رابع جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وفي شهر ربيع الأول ورد البريد يطلبه إلى مصر متولياً قضاء القضاة بها عوضاً عن قاضي القضاة شمس الدين السروجي، وولاه السلطان أيضاً تدريس الناصرية والصالحية وجامع الحاكم. وكان وهو بدمشق قد عزل بقاضي القضاة شمس الدين الأذرعي، وطلب للأذرعي توقيع شريف من الشام، فلما كان في شهر ربيع الآخر سنة ست وسبع مئة وصل البريد من مصر ومعه توقيع فتوهم البريدي أنه لقاضي القضاة ابن الحريري، فتوجه به إليه، وحضر أصحابه إليه للهناء به، ففتح التوقيع وقرئ، ولما وصل القارئ إلى الاسم وجده غير فطوى التوقيع، وحصل لقاضي القضاة خجل من هذا الأمر، وكانت هذه واقعة غريبة.
ولما أقام بمصر قاضياً كان لبكتمر الساقي إصطبل بأرض بركة الفيل لورثة الملك الظاهر وقفاً، فتعرض إليهم وقال: هذه الأرض زادت معكم، فتوجه وكيل بيت المال ونائب الحكم لقياس الأرض فما زادت شيئاً، ثم أرسلوهم مرة أخرى وتحيلوا على الزيادة وقالوا: أعطونا أرض الإصطبل بالزيادة، فقالوا: نحن نشهد علينا بقبض الأجرة ونعوض، فقيل للسلطان: في مذهب أبي حنيفة يجوز التعويض، فقال لابن الحرير عن ذلك، فقال: هذا رواية عن أبي يوسف وحده، وما أعمل بها، فولى السلطان القاضي سراج الدين عمر صهر القاضي السروجي قاضياً وعزل ابن الحريري، وحكم سراج الدين بذلك وبقي على القضاء مدة يسيرة، ثم مات، وأعيد ابن الحريري، وعظمت مكانته.
وكان فقيهاً جيداً، له محفوظات جيدة، ودرس بعدة مدارس، وأفتى وشغل الطلبة وولي قضاء دمشق مدة سنتين، وانفصل منه، ثم طلب لقضاء مصر، وكان موصوفاً بالنزاهة لا يقبل لأحد هدية، وكان له حرص على خلاص الحقوق وفصل القضايا، وصحبته جيدة، ومودته أكيدة، ينفع أصحابه ومعارفه.
وكانت جنازته حافلة، وعمل عزاؤه بالجامع الأموي، وكان قد سمع الحديث على النجيب المقداد، وابن علان، وغيرهم. وحدث بدمشق والقاهرة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: وخرجت له جزءاً عن عشرة من الشيوخ، قرئ عليه غير مرة.
وفي قاضي القضاة شمس الدين الحريري يقول شمس الدين الباذرائي:
مذ أسلمتني عين أم سالم ... إلى الردى يئست من مسالمي
وكلما قل نصيبي عندها ... تكاثرت في حبها لوائمي
يا مقلتي أنتما نعمتما ... والقلب يشقى وهو غير جارم
جنيتما الذنب فلا أقل من ... أن تبكيا قلبي بدمع ساجم
عيناي عونان علي وهما ... مني وهل بعدهما من راحم
قلبي غمر في اتباع غيه ... يا ليتني بدلته بحازم
منها في المديح:
قد ختم الدهر به أجواده ... وإنما الأعمال بالخواتم
وقال يمدحه أيضاً:
أشكو إلى عثمان جود ابنه ... فقد رماني في الطويل العريض
قد صيد الباخل بحر الندى ... وعلم المفحم نظم القريض
والشيء لا يظهر تمييزه ... للناس إلا بوجود النقيض
له يد فياضة بالندى ... كالبحر إلا أنها لا تغيض
عجبت من حاسده كيف لا ... يقضي أسى وهو المعنى المريض(2/335)
قلت: البيتان الأولان من هذه القصيدة مأخوذان من قول الأول:
ما رأينا من جود فضل ابن يحيى ... ترك الناس كلهم شعراء
محمد بن عثمان بن أسعد
ابن المنجا بن بركات بن المؤمل، الرئيس الإمام، شيخ الجماعة من الحنابلة، وجيه الدين أبو المعالي بن المنجا التنوخي الدمشقي الحنبلي.
سمع من ابن اللتي حضوراً، ومن جعفر الهمداني، ومكرم، وسالم بن صصرى، وخضر بن المقير.
ودرس بالمسمارية، وكان صدراً مبجلا، وجواداً يذر الغمام مبخلا، ديناً محترما، صيناً لا يرى منه وقت من البر محترما، محباً للأخيار، مجانباً للأغيار، له تسرع في الخير، وهمة تسابق البرق فضلاً عن الطير.
ولم يزل على حاله إلى أن هلك ابن المنجا، وأصبح على فراشه مسجى.
وتوفي رحمه الله تعالى بدار القرآن في شهر شعبان سابعه سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
وكانت له أملاك ومتاجر، وله بر وأوقاف، أنشأ داراً للقرآن بدمشق ورباطاً بالقدس، وباشر نظر الجامع الأموي تبرعاً، وكان من أولي الاقتصاد في ملبسه مع سعة دائرته وسعادته.
محمد بن عثمان بن عبد الله
سراج الدين أبو بكر الدرندي، الفقيه الشافعي.
قرأ القراءات على نجم الدين عبد السلام بن حفاظ صهره، وتصدر للإقراء بقوص سنين كثيرة، وانتفع به جمع كثير.
وكان متقناً ثقة، وسمع من الحافظ ابن الكومي، وتقي الدين بن دقيق العيد، ومحمد بن أبي بكر النصيبي، وعبد النصير بن عامر بن مصلح الإسكندري وغيرهم، وحدث بقوص.
وقرأ الفقه على جلال الدين أحمد الدشناوي، وسراج الدين بن دقيق العيد ودرس، وناب في الحكم بقفط وقنا وقوص.
واستمر في النيابة إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وكان يستحضر متوناً كثيرة من الحديث والتفسير والإعراب، واختلط في آخر عمره.
محمد بن عثمان بن محمد
ابن علي بن وهب بن مطيع، جلال الدين ابن علم الدين بن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد.
سمع جده، والحافظ الدمياطي، والفقيه المقرئ تقي الدين محمد بن أحمد بن عبد الخالق الصائغ، ومن أحمد بن إسحاق الأبرقوهي، وغيرهم. واشتغل بالمذهبين المالكي والشافعي.
وقرأ " مختصر المحصول " لجد والده الشيخ مجد الدين وكان يذكر بخير وينسب إلى دين.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وكان قاضي القضاة ابن جماعة يؤثره ويبره، ودعه مرةً فأعطاه ذهباً وفضة من ماله، وكتب له بتدريس دار الحديث بقوص، فأقام بها مدة.
وتوفي بالقاهرة سنة ست أو سبع وعشرين وسبع مئة.
محمد بن عثمان بن أبي بكر
قاضي القضاة شرف الدين النهاوندي، قاضي صفد وغيرها.
كان من أعرف الناس بالمداراه، وأخلبهم في المحادثة والمجاراه، له دربة بسياسة الخصوم ومصالحهم، وقودهم إلى تراضيهم بعد تشاحيهم ومشاحتهم، وله قدرة على مداخلة النواب، والعبور إلى رضاهم من كل باب، وكان ممتع المحاضره، شهي المسامره، لطيف الأخلاق، ذا كرم دفاق، تنقل في البلاد كثيرا، وقاسى في آخر عمره قلةً وفقراً كبيرا.
ولم يزل على حاله إلى أن ضمه ترابه وفارقه أحبابه وأترابه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة أربعين وسبع مئة بالقاهرة.
كان أولاً قد تولى قضاء صفد بعد والده المقدم ذكره في مكانه من حرف العين، وأقام بها إلى أن طلب إلى مصر، وانحرف عليه قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة وعزله بالقاضي فتح الدين القليوني، ثم إن قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى حنا عليه وولاه قضاء عجلون، ثم قضاء نابلس، ثم ولاه قضاء القضاة بطرابلس، ثم إنه أعيد إلى صفد بعد القاضي حسام الدين القرمي، ثم إنه نقل إلى قضاء طرابلس، ثم أعيد إلى صفد بعد القاضي جمال الدين عبد القاهر التبريزي فيما أظن وأقام بها إلى أن تغير عليه الأمير سيف الدين تنكر، فعزله بالقاضي شمس الدين الخضري، فأقام في بيته بصفد بطالاً نحواً من أربع سنين، ثم إنه توجه إلى القاهرة ونزل عند الأمير سيف الدين أرقطاي لما بينهما من الصحبة، فمات هناك في التاريخ.
محمد بن عثمان بن حمدان
شمس الدين الثعلبي المعروف بابن البياعة.
كان شاعراً، مدح الأمير علم الدين الدوادار وغيره، وكان مشد الرقيق، يخدم في الجهات السلطانية.
توفي رحمه الله تعالى حادي عشر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.(2/336)
ومن شعره:
نعم غرامي بنجد فوق ما زعموا ... أفنى وأبقى وهذا بعض ما علموا
حدث فديتك عن ذاك الحمى وأعد ... ففي حديثك ما يشفى به الألم
ليس الحمى غير قلبي والذي به ... ففيه ثأرهم بالشوق يضطرم
بانوا فبان الغضى ذاو ومنهله ... غور وأنواره من بعدهم ظلم
خيمت يا وجد في قلبي لفقدهم ... فلا رأت وحشةً من أهلها الخيم
ولا تغير واديهم ولا أفلت ... بدوره وسقت أكنافه الديم
فالقلب في حرق والطرف في غرق ... والصبر منثلم والدمع منسجم
محمد بن عثمان بن أحمد
ابن عثمان بن هبة الله بن أحمد بن عقيل، الصدر الفاضل الحكيم فتح الدين أبو عبد الله الشيخ جمال الدين بن أبي الحوافر القيسي.
سمع من النجيب الحراني " مشيخة " ابن كليب، و " مجالس " ابن مسلمة، و " مجالس " الخلال، وحدث، وكان طبيباً معروفاً بالقاهرة.
توفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة، ودفن بالقرافة.
محمد بن عثمان بن محمد
الفقيه الإمام شمس الدين الأصبهاني المعروف بابن العجمي الحنفي.
كان مدرساً بالإقبالية للحنفية، وفيها توفي رحمه الله تعالى في نصف شوال سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ودرس أيضاً بالمدينة النبوية.
سمع من ابن البخاري " مشيخته " ، وكان فيه وسواس في الطهارة وديانة وانجماع عن الناس، وجمع منسكاً على مذهبه، وولي تدريس الإقبالية بعده قاضي القضاة نجم الدين إبراهيم ابن قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي، وأثنى الناس على درسه وفصاحته.
محمد بن عدنان بن حسن
الشيخ الإمام العابد الشريف السيد محيي الدين العلوي الحسيني الدمشقي الشيعي، شيخ الإمامية وكبيرهم.
ولي مرةً نظر السبع، مات ولداه زين الدين حسين وأمين الدين جعفر وهما من جلة رؤساء دمشق، باشر الأنظار ونقابة الأشراف، وتقدم ذكرهما في مكانهما، فاحتسبهما عند الله تعالى. وأخبرني غير واحد أنه لما مات كل منهما كان يسجيه قدامه وهو قاعد يتلو القرآن ولم تنزل له دمعة، وولي النقابة في حالة حياته ابن ابنه شرف الدين عدنان بن جعفر إكراماً لجده.
وكان محيي الدين ذا تعبد زائد وولاية وتلاوة دائمة وتأله، وانقطع بالمزة. وكان يترضى عن عثمان وعن غيره من الصحابة، ويتلو القرآن ليلاً ونهاراً، ويناظر منتصرا للاعتزال متظاهراً بذلك.
توفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة.
محمد بن أبي العز بن مشرف
ابن بيان الأنصاري الدمشقي، الشيخ الجليل، المسند المعمر شهاب الدين البزاز، شيخ الرواية بالدار الأشرفية.
روى الصحيح غير مرة عن ابن الزبيدي، وحدث أيضاً عن ابن صباح والناصح وابن المقير، ومكرم، وابن ماسويه، وتفرد في وقته.
وكان حسن الإصغاء جيد الخط. أخذوا عنه ببعلبك ودمشق وطرابلس وأماكن، وعاش سبعاً وثمانين سنة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة في سابع ذي الحجة.
وهو أخو نجم الدين أبي بكر بن العز بن مشرف الكاتب.
محمد بن عقيل بن أبي الحسن
ابن عقيل نجم الدين البالسي، أحد أعيان الشافعية وفضلائها بالديار المصرية.
سمع من الفخر بن البخاري وغيره بدمشق، وسمع ببلبيس من علي بن عبد الكريم، والفضل بن رواحة وغيرهما. وبالقاهرة من ابن دقيق العيد، وناب في الحكم بمصر عن ابن دقيق العيد، وولي قضاء بلبيس ودمياط عن قاضي القضاة ابن جماعة، وولي نيابة الحكم ظاهر القاهرة بالحسينية. ودرس بالمدرسة الطيبرسية بمصر وبالمدرسة المعزية، وبزاوية الدوري بالجامع العتيق وبالمسجد بالشارع خارج القاهرة.
وصنف في الفقه مختصراً حسنا لخص فيه كتاب " المعين " ، وشرح " التنبيه " شرحاً جيداً، ولم يكمله، واختصر " كتاب الترمذي في الحديث " .
وكان قوي النفس، حصل بينه وبين فخر الدين ناظر الجيش بسبب أنه ركب لرؤيا الهلال لشهر رمضان ورجع والمديرون أمامه يصيحون على العادة، فمروا على دار فخر الدين، فأهان المديرين، وشق ذلك عليه وانزعج، وتكلم في ذلك، وكتب محضراً، وجرى في ذلك كلام، ولوطف وسئل على أن يجتمع بفخر الدين فلم يفعل.(2/337)
وطلب منه قاضي القضاة جلال الدين القزويني قضية فتوقف فيها وصرف نفسه، وكان ينوب عنه بمصر، ثم استرضي وعاد.
قال كمال الدين الأدفوي: جئته مرة وهو راكب، وطلبت منه كتاباً من وقف المدرسة المعزية، فرجع إلى المعزية من دار النحاس بمصر فأخرج الكتاب وأرسله إلي، وكان يؤثر مع ضعف حاله، قانعاً باليسير، مقللاً من المأكل والملبس. دارت الفيتا عليه بمصر، واشتغل طلبة مصر عليه.
وتوفي رحمه الله تعالى رابع عشر المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ستين وست مئة.
قلت: وأجاز لي بالقاهرة بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
محمد بن علي بن محمد بن الملاق
بالتخفيف في اللام، القاضي بدر الدين الرقي، الفقيه الحنفي.
سمع من بكبرس الخليفتي " الأربعين الودعانية " وسمعها منه الدواداري، وأجز للدماشقة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة تسع عشرة وست مئة.
محمد بن علي
الأمير شهاب الدين العقيلي، نائب الدواداري في شد الدواوين بالشام.
قتل في أواخر سنة سبع وتسعين وست مئة، وكان قد شاخ وأسن وسمر قاتله.
محمد بن علي بن محمد بن علي
ابن منصور المؤمل بن محمود البالسي، المسند عماد الدين أبو المعالي.
كان يشهد على الحكام مدة طويلة، وأسمعه أبوه حضوراً وسماعاً واستجاز له من جماعة ببغداد ومصر ودمشق، وانتفع به الناس، وحدث بالقاهرة ودمشق.
ومن شيوخه حضوراً السخاوي، وابن الصلاح، وكريمة القرشية، وشيخ الشيوخ ابن حمويه، والضياء المقدسي الحافظ، وسالم خطيب عقربا، وعمر بن المنجا، وإبراهيم الخشوعي، وإسحاق بن طرخان الشاغوري، وعتيق السلماني، وعبد الحق بن خلف وعبد الملك بن الحنبلي، وعلي بن عبد الصمد الرازي، وعيسى الداركي، وخرج له شيخنا الذهبي جزءاً جمع فيه شيوخه بالسماع والحضور والإجازة على حروف المعجم، وحدث به.
وتوفي رحمه الله تعالى خامس عشر جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده في صفر سنة ثمان وثلاثين وست مئة بدمشق.
محمد بن علي بن وهب بن مطيع
الإمام العلامة شيخ الإسلام، أستاذ المتأخرين، قاضي القضاة، تقي الدين أبو الفتح ابن الشيخ الإمام مجد الدين المعروف بابن دقيق العيد القشيري المنفلوطي المصري المالكي الشافعي.
سمع من ابن المقير، وابن الجميزي، وابن رواج، والسبط، وعدة. وسمع من ابن عبد الدائم، والزين خالد بدمشق وخرج لنفسه " أربعين تساعيات " ولم يحدث عن ابن المقير وابن رواج، لأنه داخله شك في كيفية التحمل عنهما.
كان الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى إماماً في فنونه، غماماً فيما يرسله من الفوائد في كلامه وعيونه، مفسراً، محدثا، سبق في هذين من كان عجلاً أو متلبثاً، فقيهاً مدققا، قام بفروع المذهبين محققا، أصولياً أشعريا، حقيقاً بانفراده في ذلك حريا، نحوياً أديبا، ناظماً ناثراً عجيبا، لا يباريه في كل فنونه مبار، ولا يجاريه في مضمارها مجار، ولا تعلق له الريح إذا أم غايةً بغبار.
وإذا خطاب القوم في البحث اعتلى ... فصل القضية في ثلاثة أحرف
وكان ذكياً غواصاً على المعاني، قناصاً لشوارد ما يحاوله من العلوم ويعاني، وافر العقل، سافر الحجب عن وجوه النقل، كثير السكينه، لازم الوقار والأبهة الركينه، بخيلاً بالكلام، قل أن يسمع منه غير رد السلام، شديد الورع، مديد الباع إذا قام في أمر شرعي وشرع، ملازم السهر والسهاد، مداوم المطالعة في استخراج ما ينتفع به في العبادة العباد، وكانت كفه تتخرق، وتدع الغمام حسداً لجوده بنار البرق يتحرق، عديم الدعاوى، كثير الشكر قليل الشكاوى، بصيراً بعلل المنقول، خبيراً بغلل المعقول:
يروي فيرى كل ذي ظمأ له ... بحمى الحديث تعلق وهيام
ببديهة في العلم يقسم من رأى ... ذاك التسرع أنه السهام
وكيف لا يكون ذلك، وهو الذي بعثه الله على رأس المئة ليجدد للأمة أمر دينها، ويحدد لها ما اشتبه من قواعد شريعتها عند تبيينها. وهؤلاء الذين أشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " يبعث الله على رأس كل مئة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها " .(2/338)
كان الأول على رأس المئة الأولى عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس المئة الثانية الشافعي رضي الله عنه، وعلى رأس المئة الثالثة ابن سريج، وقيل: أبو الحسن الأشعري، ويمكن الجمع بينهما، فإن الأشعري جاء لأصول الدين، لأن المعتزلة كانوا قد طبقوا الأرض فحجزهم رضي الله عنه في قموع السمسم، وابن سريج جاء لتقرير الفروع.
وعلى رأس المئة الرابعة أبو حامد الإسفراييني، وقيل: سهل بن أبي سهل محمد المقول فيه النجيب بن النجيب، كان أحد عظماء الشافعية الراسخين في الفقه والأصول والحديث والتصوف.
وعلى رأس المئة الخامسة حجة الإسلام أبو حامد الغزالي. وعلى رأس المئة السادسة الإمام فخر الدين الرازي. وعلى رأس المئة السابعة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد.
ومن سعادة الشافعية أن الجميع شافعيون. فإن قلت: فكيف تعمل في عمر بن عبد العزيز؟ قلت: ما كانت المذاهب الأربعة ظهرت ذلك الزمان.
وقد أنشد شيخ من أهل العلم في مجلس ابن سريج:
اثنان قد مضيا فبورك فيهما ... عمر الخليفة ثم حلف السؤدد
الشافعي الألمعي محمد ... إرث النبوة وابن عم محمد
أبشر أبا العباس إنك ثالث ... من بعدهم سقياً لتربة أحمد
فصاح ابن سريج وبكى، وقال: لقد نعى إلي نفسي، ومات في تلك السنة رحمه الله تعالى.
وزاد على ذلك بعض الفقهاء فقال:
والرابع المشهور سهل محمد ... أضحى عظيماً عند كل موحد
يأوي إليه المسلمون بأسرهم ... في العلم إن جاؤوا بخطب مؤبد
لا زال فيما بيننا خير الورى ... للمذهب المختار خير مجدد
وأنشد من لفظه لنفسه مولانا قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب الأنصاري السبكي الشافعي مكملاً على الأبيات الأولى التي في ابن سريج:
ويقال إن الأشعري الثالث ال ... مبعوث للدين القويم الأملد
والحق ليس بمنكر هذا ولا ... هذا وعلمهما اقرأن فعدد
هذا لنصرة أصل دين محمد ... لنظير ذلك في فروع محمد
وضرورة الإسلام داعية إلى ... هذا وذاك ليهتدي من يهتدي
وقضى أناس أن أحمد الأسفرا ... ييني رابعهم فلا تستبعد
فكلاهما فرد الورى المعدود من ... حزب الإمام الشافعي محمد
والخامس الحبر الإمام محمد ... هو حجة الإسلام دون تردد
وابن الخطيب السادس المبعوث إذ ... هو في أصول الدين أي مؤيد
والسابع ابن دقيق عيد فاستمع ... فالقوم بين محمد أو أحمد
وانظر لسر الله أن الكل من ... أصحابنا فافهم وأنصف ترشد
هذا على أن المصيب إمامنا ... أجلى دليل واضح للمهتدي
يا أيها الرجل المريد نجاته ... دع ذا التعصب والمراء وقلد
هذا ابن عم المصطفى وسميه ... والعالم المبعوث خير مجدد
وضح الهدى بكلامه وبهديه ... يا أيها المسكين لم لا تقتدي
ولم يزل الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد إلى أن طفئ سراجه الوهاج، وأثار عليه لواعج الأحزان وهاج.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة حادي عشر صفر سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده في البحر الملح وكان والده رحمه الله تعالى متوجهاً إلى مكة في البحر، فولد له عند الينبع في يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وست مئة، ولذلك ربما كتب بخطه: " السجي " . ثم إن والده أخذه على يده فطاف به وجعل يدعو الله أن يجعله عالماً عاملاً.
وقلت أنا فيه:
ومن عند الطواف بخير بيت ... غدا يدعو أبوه له هنالك
بأن يمتاز في عمل وعلم ... فقل لي كيف لا يأتي كذلك
وكان الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى قد تفقه بأبيه الشيخ مجد الدين بقوص، وبالشيخ عز الدين بن عبد السلام بالقاهرة وبطائفة، واشتهر اسمه في حياته وحياة مشايخه، وتخرج به أئمة.(2/339)
وكان لا يسلك المراء في بحثه، بل يتكلم بسكينة كلمات يسيرة، فلا يراد ولا يراجع. وكان عارفاً بمذهبي مالك والشافعي، كان مالكياً أولاً، ثم صار شافعياً. قال: وافق اجتهادي اجتهاد الشافعي إلا في مسألتين أحدهما أن الابن لا يزوج أمه والأخرى...، وحسبك بمن يتنزل ذهنه على ذهن الشافعي.
قلت: أما مسألة الابن وعدم تزويجه لأمه فلأنه متفرع عن أصلين: أحدهما: أبوه، ولا ولاية له في تزويج أمه، والثاني: أمه، وما لها أن تزوج ابنها، فبطل أن يكون للابن ولاية في تزويج أمه.
وامتدحه شيخنا الإمام العلامة المحقق النظار ركن الدين محمد بن محمد بن القوبع بقصيدة طنانة جاء منها في مدحه:
صبا للعلم صباً في صباه ... فاعل بهمة الصب الصبي
وأتقن والشباب له لباس ... أدلة مالك والشافعي
وستأتي بقية الأبيات في ترجمة الشيخ ركن الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن.
وكانت ولايته قضاء القضاة بالديار المصرية في يوم السبت ثامن عشر جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وست مئة.
وكان الشيخ تقي الدين لا ينام الليل إلا قليلاً ولا يقطعه إلا بمطالعة وذكر وتهجد، أوقاته كلها معمورة.
وله التصانيف البديعة ك " الإلمام والإمام " شرحه ولم يكمله، ولو كمل لم يكن للإسلام مثله، وكان يجيء في خمس وعشرين مجلدة، وله " علوم الحديث " و " شرح العمدة " في الأحكام الذي أملاه على ابن الأثير فاضل العصر الذي تعرفه وهو إملاء، وشرح " مقدمة " المطرزي في أصول الفقه. وألف " الأربعين في الرواية عن رب العالمين " وشرح بعض " مختصر ابن الحاجب " ، و " شرح ابن الحاجب " في فروع المالكية، وشرح " مختصر التبريزي " في فروع الشافعية.
وكان رحمه الله تعالى قد قهره الوسواس في أمر المياه والنجاسات، وله في ذلك وقائع وحكايات عجيبة. وكان كثير التسري، وله عدة أولاد سماهم بأسماء الصحابة العشرة.
ولما طلع إلى السلطان حسام الدين لاجين قام له وخطا عن مرتبته.
وعزل نفسه عن القضاء مرات، ثم يسأل ويعاد. وكان شفوقاً على المشتغلين، كثير البر لهم.
قال قطب الدين عبد الكريم: أتيت إليه بجزء سمعه من ابن رواج والطبقة بخطه، فقال: حتى أنظر في هذا، ثم عاد إليه فقال: هو خطي، ولكن ما أحقق سماعي له ولا أذكره.
أخبرني شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي قال: حكى لي الشيخ قطب الدين السنباطي قال: بلغني أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قال: لكاتب الشمال عشرين سنة. أو قال: " سنين " ، الشك مني أنا في روايتي عن شيخنا تقي الدين - لم يكتب علي شيئاً، قال السنباطي: فاجتمعت به وقلت له: قال فلان عن مولانا كذا وكذا، فقال: أظن ذلك أو كذلك يكون المسلم، أو كما قال.
وكان يقول: ما تكلمت كلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله تعالى.
ولما جاءت التتار ورد مرسوم السلطان إلى مصر بجمع العلماء وقراءة البخاري، فقرؤوا البخاري إلى أن بقي ميعاد أخروه ليختم يوم الجمعة، فلما كان يوم الجمعة رئي الشيخ تقي الدين في الجامع فقال: ما فعلتم ببخاريكم؟ فقالوا: بقي ميعاد ليكمل اليوم، فقال: انفصل الحال من أمس العصر وبات المسلمون على كذا، فقالوا: نخبر عنك؟ قال: نعم، فجاء الخبر بعد أيام بذلك، وذلك في سنة ثمانين وست مئة على حمص، ومقدم التتار منكوتمر.
وقال عن بعض الأمراء وقد خرج من القاهرة إنه ما يرجع، فما رجع.
وأساء شخص عليه الأدب فقال الشيخ: نعيت لي في هذا المجلس ثلاث مرات، فمات بعد ثلاثة أيام.
واستمع له بعض أصحابه ليلةً وهو يقرأ، قال: فوصل إلى قوله تعالى: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " . قال: فما زال يكررها حتى طلع الفجر.
قلت: ويدل على ذلك تحريه في عدم الكلام، وأنه كان بخيلاً، وشعره فيه أيضاً ما يدل على ذلك.
أنشدني الشيخ شمس الدين بن نباته المصري من لفظه، قال: أنشدني الشيخ تقي الدين لنفسه:
الجسم تذيبه حقوق الخدمه ... والنفس هلاكها علو الهمة
والعمر بذاك ينقضي في تعب ... والراحة ماتت فعليها الرحمة(2/340)
ومن العجيب ما نقلته أنا من بعض التعاليق أن هذين البيتين حفظهما تاج الدين أحمد أخو الشيخ تقي الدين، وكان فارضاً عاقداً بالحسينية، فاتفق أنه قال في وقت في الهاجرة بمسجد الجوادي، فرأى في النوم والدهما الشيخ مجد الدين، رحمه الله تعالى، فسلم عليه، وسأله عن حاله، فقال: يا سيدي بخير. فقال: كيف محمد أخوك؟ قال: بخير، الساعة كنت عنده وأنشدني هذين البيتين. وأنشدهما، فقال: سلم عليه وقل له:
الروح إلى محلها قد تاقت ... والنفس لها مع جسمها قد عاقت
والقلب معذب على جمعهم ... والصبر قضى وحيلتي قد ضاقت
ونقلت أنا من خطه رحمه الله تعالى لنفسه:
أفكر في حالي وقرب منيتي ... وسيري حثيثا في مصيري إلى القبر
فينشئ لي فكري سحائب للأسى ... تسح دموعا دونها وابل القطر
إلى الله أشكو من وجودي فإنني ... تعبت به مذ كنت في مبدأ العمر
تروح وتغدو للمنايا فجائع ... تكدره والموت خاتمة الأمر
ونقلت من خطه له أيضاً:
سحاب فكري لا يزال هامياً ... وليل همي لا أراه راجلا
قد أتعبتني همتي وفطنتي ... فليتني كنت مهينا جاهلا
قلت: جاء في كلام أرسطو: تعبت بعرفاني فليتني خلقت لا أعرف.
وأنشدني الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن نباتة المصري قال: أنشدنا من لفظه لنفسه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:
أتعب نفسك بين ذلة كادح ... طلب الحياة وبين حرص مؤمل
وأضعت عمرك لا خلاعة ماجن ... حصلت فيه ولا وقار مبجل
وتركت حظ النفس في الدنيا وفي ال ... أخرى ورحت عن الجميع بمعزل
ولقد وقفت له على جواب طويل كتبه بخط يده في درج إلى الأمير سيف الدين منكوتمر نائب السلطان حسام الدين لاجين، وكان عند أستاذه الجزء الذي لا يتجزأ، وقد كتب فيه بعد البسملة.
" ورد على العبد الفقير محمد بن علي مخاطبة الأمير الكبير سيف الدين، ووقف عليها وعجب منها لأمرين، ثم إنه ذكر كل فصل ويجيبه عنه، إلى أن قال في آخر ذلك: فكتب الأمير إلي كتاباً يكتب إلى من ليس عنده من الدين شيء، ولو كان الأمير عرف مني ارتكاب الكبائر الموبقات ما زاد على ما فعل، وبالجملة فإن الله تعالى أمر نبيه بالمباهلة والملاعنة في الدين، فقال لأهل الكتاب: " فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبنائكم ونسائنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " فنتمثل أمر الله لرسوله ونقول: اللهم يا شديد البطش، يا جبار، يا قهار، يا حكيم، يا قوي يا عزيز يا قوي يا عزيز، يا قوي يا عزيز، نسب إلي أكل الحرام من المدارس الغائبة، وإلى أمور أنت أعلم بسرها، فإن كان ذلك في علمك صحيحاً فاجعل لعنتك ولعنة ملائكتك والناس أجمعين علي، وإن لم يكن صحيحاً فاجعلها على من افترى علي بها، وإن كان الولد قد فعل ما قيل من أخذ البراطيل فاجعلها عليه، وإن لم يكن فاجعلها على من افترى عليه، فهذا إنصاف وامتثال لما أمر الله به رسوله، وربك بالمرصاد، والشكوى إلى الله الحكم العدل " .
فلم يلبث إلا أسبوعاً أو أقل أو أكثر حتى قتل السلطان وحبس منكوتمر، ثم أخرج من محبسه وذبح.
وكان من شدة وسواسه ما يجلس على جوخ ولا يقربه.
وكان في بعض الأيام طلع إلى السلطان حسام الدين وهو جالس على طراحة جوخ، فجلس معه عليها وقضى شغله، وعاد إلى بيته، ونزع كل ما عليه وغسله. فقالوا له: يا سيدي لا كنت جلست عليها، فقال فكرت إن جلست دونه أكن قد أهنت منصب الشرع، وهو أمر ما يزول، فجلست معه وغسلت ما علي فزال.
وقيل: إنه امتنع من أكل الحلوى فقيل له في ذلك، فقال: لأني رأيت يوماً بعض الصناع يحرك دست حلوى ثم إنه أراق ماءً ولم يستنج. وقيل: كان يغسل الحلوى ويأكلها.
وكان قد عزل نفسه في شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وست مئة، ثم إنه أعيد إلى القضاء وخلع عليه، ورسم له أن لا يستنيب ولده محب الدين.
وعلى الجملة فكان امرأ غريباً قل أن ترى العيون مثله زهداً وورعاً وتصميماً وتحرياً واجتهاداً وعبادة وتوسعاً في العلوم.
فهو الذي بجح الزمان بذكره ... وتزينت بحديثه الأشعار(2/341)
وأما ما كان يقع في حقه من شيخنا العلامة أثير الدين فله سبب، أخبرني شيخنا الحافظ أبو الفتح اليعمري قال: كان الشيخ تقي الدين قد نزل عن تدريس مدرسة لولده، أنسيت أنا اسم المدرسة واسم ابنه، فلما حضر الشيخ أثير الدين درس قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز قرأ آيةً يدرس بها ذلك اليوم وهي " قد خسر الذين قتلوا أولادهم " الآية، فبرز أبو حيان من الحلقة وقال: يا مولانا قاضي القضاة " قدموا أولادهم " ، يكرر ذلك، فقال قاضي القضاة: ما معنى هذا؟ فقال: ابن دقيق العيد نزل لولده فلان عن تدريس المدرسة الفلانية، فنقل المجلس إلى الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فقال: أما أبو حيان ففيه دعابة من أهل الأندلس ومجونهم، وأما أنت يا قاضي القضاة يبدل القرآن في حضرتك وما تنكر هذا الأمر. فما كان إلا قليل حتى عزل ابن بنت الأعز عن القضاء بابن دقيق العيد. وكان إذا خلا شيء من الوظائف التي تليق بالشيخ أثير الدين يقول الناس: هذه لأبي حيان، فتخرج عنه لغيره. فهذا هو السبب الموجب لحطه عليه وشناعته.
والصحيح أن أهل العصر لا يرجع إلى جرح بعضهم بعضا بهذه الواقعة وأمثالها:
إن العرانين تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حسادا
وبعد هذا ما خلص ابن بنت الأعز من ضرب العنق إلا ابن دقيق العيد، لأن الوزير شمس الدين بن السلعوس لما عمل على ابن بنت الأعز وعزله، وعمل محاضر بكفره، وأخذ خط الجماعة على المحاضر، ولم يبق إلا خط ابن دقيق العيد، أرسل إليه المحاضر مع النقباء وقال: يا مولانا الساعة تضع خطك على هذه المحاضر، فأخذها وشرع يتأملها واحداً وحداً، والنقباء من القلعة يتواترون بالحث والطلب والإزعاج، وأن الوزير والسلطان في طلب ذلك، وهو لا ينزعج، وكلما فرغ محضراً دفعه إلى الآخر وقال: ما أكتب فيها شيئاً. قال الشيخ فتح الدين: فقلت أنا: يا سيدي لأجل السلطان والوزير، فقال: أنا ما أدخل في إراقة دم مسلم، قال: فقلت: فكيف كنت تكتب خطك بذلك، وبما يخلص فيه؟ فقال: يا فقيه ما عقلي عقلك، هم ما يدخلون إلى السلطان ويقولون: قد كتب فلان بما يخالف خطوط الباقين، وإنما يقولون: قد كتب الجماعة، وهذا خط ابن دقيق العيد، فأكون أنا السبب الأقوى في قتله، قال: فأبطل ذلك عملهم، وسكن سورتهم، وأطفأ شواظ نارهم.
قال شيخنا أبو الفتح: وما كان الشيخ تقي الدين يعجبه من يقول: قاضي القضاة الشافعي، فإذا قلنا: قاضي القضاة الشافعية قال: إيه هذا.
وأخبرني شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء قال: قال لي يوماً الشيخ تقي الدين: قول أبي الطيب:
أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركة لأعيا عيسى
في هذا شيء غير إساءة الأدب، ففكرت ساعة، ثم قلت: نعم، كون الموت ما يتفاوت إن كان بالسيف أو بغيره، فالإحياء من الموت سبيل واحدة، فقال: أحسنت يا فقيه. أو كما قال.
وهذه المؤاخذة دقيقة لا تصدر إلا من أديب كبير كالجاحظ أو غيره.
قال لي شيخنا شهاب الدين: ما رأيت في أهل الأدب مثله، وناهيك بمن يقول مثل الشهاب محمود في حقه مثل هذا، وقد كان شيخ الأدب في زمانه، ووقفت أنا له على كتاب كتبه إلى قاضي القضاة شهاب الدين الخويي شافعاً ومتشوقاً: " يخدم المجلس لا زال حافظاً لأحكام الجود، محفوظاً بضمان الله في ضمن السعود، محروس العزم من دواعي الهوى والعز من دعاوي الحسود، مقابل وجه الرأي بمرآة الحق، مولي جناب الباطل جانب الصدود، ولا برح على العفاة سحائب كرمه، ويروي الرواة من بحار علوم تمد من قلمه، ويجلو أبكار الأفكار مقلدة بما نظم السحر من حلي كلمه، ويبرز خفيات المعاني منقادةً بأيد ذهنه وأيدي حكمه، ويسمو إلى غايات المعالي حتى يقال: أين سمو النجم من هممه، ويسبغ من جمال فضله وجميله ما يبصره الجاهل على عماه، ويسمعه الحاسد على صممه، وينهي من ولائه ما يشهد به ضميره الكريم، ومن ثنائه ما هو أطيب من ودائع الروض في طي النسيم. ومن دعائه ما يقوم منه بوظيفة لا تهمل، ويشيعه برجاء يطمع معه(2/342)
بكرم الله أن يقبل ويقبل، ويجري منه على عادة إذا انقضى منها ماض تبعه الفعل في الحال والعزم في المستقبل، غير خاف أنه " لكل أجل كتاب " ، ولكل مقصود أسباب، ولم يزل يهم بالكتابة والأيام تدافع، ويعزم على المخاطبة فتدفع في صدر عزمه الموانع، حتى طلع بهذا الوقت فجر حظه، واستناب منافثة قلمه عن مشافهة لفظه، وقال لخدمته هذه: ردي مورداً غير آسن، وتهني بمحاسن لا تشبهها المحاسن، وتوطني المحلة المسعودة فكما يسعد الناس، فكذلك تسعد الأماكن، وشاهدي من ذلك السيد صدراً بشره بالنجح ضامن، وشهاباً ما زلنا نعد السيادة سبعاً حتى عززت لنا منه بثامن، وكان السبب في ذلك أن القاضي نجم الدين بمحلة منف لما قدم القاهرة أقام بحيث نقيم، وحاضرنا محاضرة الرجل الكريم، ونافث منافثةً " لا لغو فيها ولا تأثيم " ، ولازم الدروس ملازمةً لولا أنها محبوبة لقلنا ملازمة غريم، وتلك حقوق له مرعيه، ومعرفة أنسابها مراضعة العلوم الشرعيه، وقصد هذه الخدمة إلى المجلس، فكان ذلك من واجب حقه، وذكر ثناءً فقلنا: رأيت الحق لمستحقه وسيدنا حرسه الله تعالى أهل لتقليد المنن، ومحل لأن يظن به كل حسن، والعلم بمروءته لا يقبل تشكيك المشكك، وأبوة يقتضي أن يرتقي من بعروة وده يستمسك. والله تعالى يرفع شانه، ويعلي برهانه، ويكتب له يوم إحسانه، ويطوي على المعارف اليقينية جنايه، ويطلق بكل صالحة يده ولسانه بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى " .
قلت: ما أعرف من كتب الإنشاء بعد القاضي الفاضل رحمه الله تعالى مثل القاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر، وماله مثل هذه المكاتبة إذا لم تعتبر التورية علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
وأنشدني شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس قال: أنشدني من لفظه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد لنفسه:
أأحباب قلبي والذين بذكرهم ... وترداده طول الزمان تعلقي
لئن غاب عن عيني بديع جمالكم ... وجار على الأبدان حكم التفرق
فما ضرنا بعد المسافة بيننا ... سرائرنا تسري إليكم فنلتقي
وبالسند المذكور له أيضاً:
قالوا فلان عالم فاضل ... فأكرموه مثل ما يرتضي
فقلت لما لم يكن ذا تقى ... تعارض المانع والمقتضي
ومن شعر الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى:
كم ليلة فيك وصلنا السرى ... لا نعرف الغمض ولا نستريح
قد كلت العيس فجد الهوى ... واتسع الكرب فضاق الفسيح
وكادت الأنفس مما بها ... تزهق والأرواح منها تطيح
واختلف الأصحاب ماذا الذي ... يزيل من شكواهم أو يريح
فقيل تعريسهم ساعةً ... وقيل بل ذكراك وهو الصحيح
قلت: لا أعرف لأحد من المتقدمين ولا من المتأخرين حسن هذا المخلص ثم إنه نص على الصحيح بعد ذلك.
ومن شعره:
يا معرضاً عني ولست بمعرض ... بل ناقضاً عهدي ولست بناقض
أتعبتني فخلائق لك لم يفد ... فيها وقد جمحت رياضة رائض
أرضيت أن تختار رفضي مذهباً ... ويشنع الأعداء أنك رافضي
ومنه:
قد جرحتنا يد أيامنا ... وليس غير الله من آس
فلا ترج الخلق في حاجة ... ليسوا بأهل لسوى الياس
ولا تزد شكوى إليهم فلا ... معنى لشكواك إلى قاشي
وإن تخالط منهم معشرا ... هويت في الدين على الراس
يأكل بعض لحم بعض ولا ... يحسب في الغيبة من باس
لا ورع في الدين يحميهم ... عنها ولا حشمة جلاس
لا يعدم الآتي إلى بابهم ... من ذلة الكلب سوى الخاسي
فاهرب من الناس إلى ربهم ... لا خير في الخلطة بالناس
ومن شعره رحمه الله تعالى:
وقائلة مات الكرام فمن لنا ... إذ عضنا الدهر الشديد بنابه
فقلت لها: من كان غاية قصده ... سؤالاً لمخلوق فليس بنابه
لئن مات من يرجى فمعطيهم الذي ... يرجونه باق فلوذي ببابه
ومنه:
ومستعبد قلب المحب وطرفه ... بسلطان حكم لا ينازع في الحكم(2/343)
متين التقى عف الضمير عن الخنا ... رقيق حواشي الطرف والحسن والفهم
يناولني مسواكه فأظنه ... تحيل في رشفي الرضاب بلا إثم
ومنه:
إذا كنت في نجد وطيب نسيمها ... تذكرت أهلي باللوى فمحجر
وإن كنت فيهم ذبت شوقاً ولوعة ... إلى ساكني نجد وعيل تصبري
وقد طال ما بين الفريقين قصتي ... فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري
ومنه، وقيل إنه في ابن الجوزي:
دققت في الفطنة حتى لقد ... أبديت ما يسحر أو يسبي
وصرت في أعلى مقاماتها ... حيث يراك الناس كالشهب
وسار ما صيرت من جوهر ال ... حكمة في الشرق والغرب
ثم تنازلت إلى حيث لا ... ينزل ذو فهم وذو لب
تثبت ما تجحده فطرة ال ... عقل ولا تشعر بالخطب
أنت دليل لي على أنه ... يحال بين المرء والقلب
ومنه ما نظمه في بعض الوزراء:
مقبل مدبر بعيد قريب ... محسن مذنب عدو حبيب
عجب من عجائب البر والبح ... ر ونوع فرد وشكل غريب
ومن شعره:
يا هل أقضى حاجتي من منى ... وأنحر البزل المهاريا
وأرتوي من زمزم فهي لي ... ألذ من ريق المها ريا
يهيم قلبي طرباً كلما ... أستلمح البرق الحجازيا
ويستخف الوجد عقلي وقد ... لبست أثواب الحجى زيا
ومنه:
تمنيت أن الشيب عاجل لمتي ... وقرب مني في صباي مزاره
لآخذ من عصر الشباب نشاطه ... وآخذ من عصر المشيب وقاره
ومنه:
يا شبابي أفسدت صالح ديني ... يا مشيبي نغصت طيب عيشي
فعدوان أنتما لا صديقا ... ن تلعبتما بحلمي وطيشي
ومنه:
لم يبق لي أمل سواك فإن يفت ... ودعت أيام الحياة وداعا
لا أستلذ لغير وجهك منظراً ... وسوى حديثك لا أريد سماعا
وأنشدني الشيخ شمس الدين بن نباته قال: أنشدني له:
لعمري لقد قاسيت بالفقر شدةً ... وقعت بها في حيرة وشتات
فإن بحت بالشكوى هتكت مروءتي ... وإن لم أبح بالصبر خفت مماتي
فأعظم به من نازل بملمة ... يزيل حيائي أو يزيل حياتي
وأنشدني من لفظه شيخنا فتح الدين قال: أنشدني من لفظه له:
الحمد لله كم أسعى بعزمي في ... نيل العلا وقضاء الله ينكسه
كأنني البدر أبغي الشرق والفلك ال ... أعلى يعارض مسعاه فيعكسه
قلت: هذا مثل قول الأرجاني:
سعيي إليكم في الحقيقة والذي ... تجدون عنكم فهو سعي الدهر بي
أنحوكم ويرد وجهي القهقرى ... دهري فسيري مثل سير الكوكب
فالقصد نحو المشرق الأقصى له ... والسير رأي العين نحو المغرب
قلت: إلا أن هذا المعنى الذي أتى به الشيخ تقي الدين في بيتين فهو أخصر. وقد تكلمت في " شرح لامية العجم " على معنى الأرجاني وأوضحته.
وأخبرني شيخنا الحافظ فتح الدين، وكان خصيصاً بالشيخ تقي الدين قال: كان الشيخ مغرىً بالكيمياء، معتقداً صحتها، قال: لأنه اتفق لي في مدينة قوص من صنعها بحضوره وحكى لي الواقعة بطولها في ذلك.
وممن روى عنه الشيخ فتح الدين بن سيد الناس، وقطب الدين بن منير، وقاضي القضاة علاء الدين القونوي، وقاضي القضاة علم الدين الأخنائي، وآخرون، وحدث شيخنا الذهبي إملاءً.
وقال كمال الدين الأدفوي: حكى القاضي شهاب الدين بن الكويك التاجر الكارمي رحمه الله تعالى، قال: اجتمعت به مرةً واحدة، فرأيته في ضرورة، فقلت: يا سيدنا ما تكتب ورقة لصاحب اليمن؟ اكتبها وأنا أقضي فيها الشغل، فكتب ورقة لطيفة فيها:
تجادل أرباب الفضائل إذ رأوا ... بضاعتهم موكوسة الحظ في الثمن
وقالوا عرضناها فلم نلف طالباً ... ولا من له في مثلها نظر حسن
ولم يبق إلا رفضها واطراحها ... فقلت لهم لا تعجلوا السوق باليمن(2/344)
وأرسلها إليه فأرسل له مئتي دينار، واستمر يرسلها صاحب اليمن إلى أن مات. وقال كمال الدين أيضاً: قال لي عبد اللطيف بن القفصي: هجوته مرة فبلغه، فلقيته في الكاملية فقال: بلغني أنك هجوتني، أنشدني، فأنشدته بليقةً أولها:
قاضي القضاة أعزل نفسو ... لما ظهر للناس نحسو
إلى آخرها فقال: هجوت جيداً.
وقال قال لي صاحبنا الفقيه الفاضل الثقة مجير الدين عمر بن اللمطي، قال: كنت مرةً بمصر، وطلعت إلى القاهرة، فقالوا لي: الشيخ طلبك مرات، فجئت إليه، فقال أين كنت؟ قلت: بمصر في حاجة، قال: طلبتك في حاجة، سمعت إنساناً ينشد خارج الكاملية:
بكيت قالوا عاشق ... سكت قالوا قد سلا
صليت قالوا زوكر ... ما أكثر فضول الناس
وقال: حكى لي صاحبنا فتح الدين محمد بن كمال الدين أحمد بن عيسى القليوبي قال: دخلت مرةً عليه وفي يده ورقة ينظر فيها زماناً، ثم ناولني الورقة وقال: اكتب من هذه نسخة، فأخذتها فوجدت فيها " بليقة " أولها:
كيف أقدر أتوب ... وراس إيري مثقوب
وقال: قال لي شيخنا تاج الدين محمد بن أحمد الدشناوي: سمعته ينشد هذه " البليقة " أولها:
جلد عميرة بالزجاج ... ولا الزواج
ويقول: بالزجاج يا فقيه...! وقال: حكى لي القاضي سراج الدين يونس بن عبد المجيد الأرمنتي قاضي قوص قال: جئت إليه مرة، وأردت الدخول، فمنعني الحاجب وجاء الجلال العسلوجي فأدخله وغيره، فتألمت، وأخذت ورقة وكتبت فيها:
قل للتقي الذي رعيته ... راضون عن علمه وعن عمله
انظر إلى بابك... ... ...... يلوح من خلله
باطنه رحمة وظاهره ... يأتي إليك العذاب من قبله
ثم دخلت وجعلت الورقة في الدواة، وظننت أنه ما رآني، فقال: أجلس، ما في هذه الورقة؟ قلت: يقرأها سيدنا، فقال: أقرأها أنت، فكررت عليه، وهو يرد علي فقرأتها، فقال: ما حملك على هذا؟ فحكيت له، فقال: وقف عليها أحد؟ فقلت: لا، فقال قطعها.
قال: وأخبرني برهان الدين إبراهيم المصري الحنفي الطبيب، وكان قد استوطن قوص سنين، قال: كنت أباشر وقفاً، فأخذه مني شمس الدين محمد ابن أخي الشيخ، وولاه لآخر، فعز علي، فنظمت أبياتاً في الشيخ، فبلغته، فأنا أمشي خلفه مرة فإذا به قد التفت إلي وقال: يا فقيه، بلغني أنك قد هجوتني، فسكت فقال: أنشدني، فألح علي فأنشدته:
وليت فولى الزهد عنك بأسره ... وبان لنا غير الذي كنت تظهر
ركنت إلى الدنيا وعاشرت أهلها ... ولو كان عن جد لقد كنت تعذر
فسكت زمانا وقال: ما حملك على هذا؟ فقلت: أنا رجل فقير، وأنا أباشر وقفاً أخذه مني فلان، فقال: ما علمت هذا، أنت على حالك، فباشرت الوقف مدةً، وخطر لي الحج، فجئت إليه استأذنه، فدخلت خلفه، فالتفت إلي وقال: أمعك هجو آخر؟ فقلت: لا، ولكني قصدت الحج، وجئت أستأذن سيدي، فقال: مع السلامة ما نغير عليك.
وقال ناصر الدين شافع: من شعر الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قوله:
تجاوزت حد الأكثرين إلى العلا ... وسافرت واستبقيتهم في المعاوز
وخضت بحاراً ليس يعرف قدرها ... وألقيت نفسي في فسيح المفاوز
ولججت في الأفكار ثم تراجع اخ ... تياري إلى استحسان دين العجائز
وكتب إليه ناصر الدين حسن بن النقيب الفقيسي لما قدم الديار المصرية في سنة أربع وسبعين وست مئة:
أأنت كالشافعي إذ حل مصراً ... فهو فيها علماً وإن فات عصرا
قد رأيناه مذ قدمت علينا ... وسمعناه بعد ما حل قبرا
وارتضيناك مالكاً وإماماً ... فامض فينا الأحكام نهياً وأمرا
وهي ثلاثون بيتاً، فأجاب الشيخ عنها بأبيات أولها:
قد تأملت ما بعثت به لا ... زلت تهدي لمن يواليك برا
فرأيت الجمال كمل والإج ... مال فاستجمعا وسمي شعرا
وتنزهت في رياض بديع ... من صنيع اليبان أطلعن زهرا
يا أمير حتى على النظم والنث ... ر لقد زدت في الإمارة قدرا
وهي خمسة عشر بيتاً، وكتب الجواب ابن النقيب أيضاً وأوله:(2/345)
أرسلت أبياتاً إلي بنشرها ... غرف الجنان تزخرفت وقصورها
وبها عيون الشعر إلا أنها ... ولدان هاتيك الجنان وحورها
ورأيت ألفافا من الجنات إلا ... أنهن حروفها وسطورها
وهي أحد عشر بيتاً، وقد أثبت الجميع في الجزء التاسع والعشرين من " التذكرة " التي لي.
وكان الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى صحح حديث القلتين، واختار ترك العمل به لا لمعارض أرجح بل، لأنه لم يثبت عنده بطريق يجب الرجوع إليه شرعاً تعيين لمقدار القلتين.
وقال رحمه الله تعالى: ذكر بعضهم المسألة السريجية وقال: إذا انعكست انحلت وتقريره أن صورة المسألة: متى وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً، أو متى طلقتك، فوجه الدور أنه متى طلقها الآن وقع قبله ثلاثاً ومتى وقع قبله ثلاثاً لم يقع، فيؤدي إثباته إلى نفيه، فانتفى، وعكس هذا أن يقول: متى طلقتك، أو متى وقع عليك طلاقي فلم يقع فأنت طالق قبله ثلاثاً، فحينئذ متى طلقها وجب أن تقع الثلاث القبلية، لأنه حينئذ يكون الطلاق القبلي ثابتاً على النقيضين، أعني المنجز وعدم وقوعه، وما ثبت على النقيضين فهو ثابت في الواقع قطعاً، لأن أحدهما واقع قطعاً، فالمعلق به واقع قطعاً. وهذه مقدمة ضرورية عقلية لا تقبل المنع بوجه من الوجوه، وأصل المسألة الوكالة. وكان شيخنا العلامة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يقول: إن طلقتك فوقع عليك طلاقي أو لم يقع فأنت طالق قبله ثلاثاً، ثم يقول لها: أنت طالق، فحينئذ يحكم بأنها طلقت قبل ذلك التطليق ثلاثاً عملاً بالشرط الثاني، وهو عدم الوقوع، لأن الطلاق المعلق مشروط بأحد أمرين: إما الوقوع وإما عدمه في زمن واحد مستند إلى زمن واحد قبلي، ولا يمكن الحكم بالوقوع القبلي مستنداً إلى عدم الوقوع فلا مجال فيه، لأنه لا يمكن أن يقال: لو وقع فيه لوقع قبله، لأنه إما أن يحتمل القبلية على المتسعة التي أولها عقب التعليق، أو على القبلية التي تستعقب التطليق، فإن التعليق لا يسبقه، وهذا فائدة فرضنا التعليق على التطليق ونفيه بكلمة واحدة، وإن كان الثاني لم يتمكن القول أيضاً بالوقوع قبله استناداً إلى الشرط الأول، لأنه كما تتقيد القبلية القريبة بالنسبة إلى الشرط الثاني كذلك تتقيد بالنسبة إلى الشرط الأول، فلا يكون على تقدم الوقوع على ذلك الزمان دليل، ولا له موجب، هذا كله إذا كان التعليق بالنقيضين بكلمة واحدة، كما فرضناه، وبان لك بهذا أن الحكم بالوقوع ليس لكونه معلقاً بالنقيضين وأن ما تعلق بالنقيضين واقع، كما توهمه القائل لأن التعليق بالعدم، وأنه لا مانع منه ولا استحالة فيه حتى لو انفرد التعليق بالعدم، وكان كذلك فلا أثر للتعليق معه على الوجود وإن وقع في فرض المسألة.
محمد بن علي بن أحمد
ابن فضل، المسند المبارك شمس الدين أبو عبد الله، أخو الإمام القدوة تقي الدين الواسطي.
حضر على الشيخ الموفق، وموسى بن عبد القادر، وابن راجح، وسمع عن ابن أبي لقمة، والقزويني، وابن البن، وابن صصرى، والبهاء، وابن صباح الكاشغري، وابن غسان، والزبيدي، وعمر بن شافع، وطائفة.
خرج له شيخنا الذهبي عوالي في جزء ضخم، وخرج له ابن النابلسي " مشيخةً " في جزأين، وسمع منه شيخنا المزي، وشيخنا البرزالي، وشيخنا ابن سيد الناس، والمقاتلي، وابن المهندس، ونجم الدين القحفازي، وشمس الدين بن المهيني، وغيرهم.
وتوفي رحمه الله تعالى في منتصف شهر رجب الفرد سنة سبع مئة.
ومولده سنة خمس عشرة وست مئة تقريباً.
محمد بن علي
الوزير الكبير سعد الدين الساوجي العجمي.
كان من جملة وزراء خربندا، كان جباراً ظالماً، إلا أنه كان عمر ببغداد جامعاً أنفق عليه ألف ألف درهم، رافعوه، فقتله خربندا، وذبح ابناه قبله. صلى ركعتين قبل قتله وودع أهله وثبت للقتل، وخلع فرجيته على قاتله، فباس يده واستعجل منه في حل، ثم إنه أطار رأسه وقتل معه الوزير مبارك شاه، وصاحب الديوان المانشتري، وتاج الدين الآوي كبير الأشراف، والملك ناصر الدين يحيى بن إبراهيم صاحب سنجار، وذلك في سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
محمد بن علي بن يحيى بن علي
الشيخ العلامة الغرناطي المالكي المقرئ بالمدينة، أبو محمد.(2/346)
كان فقيهاً نحوياً مشاركا في عدة فنون، أديباً شاعراً، سمع بالمغرب " الموطأ " من أبي محمد بن هارون، وسمع بالحجاز من جماعة، وشرح " الجمل " في النحو وحدث.
سمع منه شيخنا البرزالي وجماعة، وجاور بمكة والمدينة مدة، وله نظم كثير في المديح النبوي أكثر من ألفي بيت.
وتوفي رحمه الله تعالى بالمدينة في يوم الاثنين سادس صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده بأجوار غرناظة سنة إحدى وسبعين وست مئة.
محمد بن علي بن عمر المازني الدهان
شمس الدين الدمشقي الشاعر المشهور.
كان يعرف " مقامات " الحريري، وربما يحفظها، ويدري الموسيقى، ويرى محاسنها ويلحظها، فينظم الشعر الرقيق ويلحنه، ويروجه بذلك على الأسماع ويملأه بهجة ويشجنه. وكان يلعب بالقانون، ويرى أنه يصلح لمنادمة المأمون.
وكان له مكان قد عمره في الربوه، واعتنى به، وجعله بالزخرفة حظوه، يجمع به أحبابه وأترابه وأصحابه، ويأخذ أرباب الملاهي عنه الألحان، ويرون أنهم أشواق إليها من بنت الحان.
ولم يزل على حاله إلى أن دهي الدهان، وأمسى تحت الأرض إلى أن تصير السماء وردة كالدهان.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس شهر رجب يوم السبت سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
أنشدني من لفظه لنفسه القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: كتبت إليه مضمنا:
رأيتك أيها الدهان تبغى ... مزيدا في التودد بالمساعي
فلو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
وذكرت أنا هنا ما نظمته في مليح دهان:
ودهان أقول له ونفسي ... من الوجد المبرح لم أجدها
ملكت جميع حسن في البرايا ... فلو صورت نفسك لم تزدها
وكان قد اشترى مملوكاً وأحبه ورباه وهذبه وخرجه، فمات، فحزن عليه حزناً عظيماً، وأسف عليه أسفاً كبيراً، ورثاه بأشعار كثيرة، ولحنها وغنى بها على قانونه، ونقلها المغنون عنه وتداولها الناس مدة مديدة.
وأنشدني من لفظه لنفسه جمال الدين يوسف الشاعر الصوفي في ذلك:
لئن مات يا دهان مملوكك الذي ... بلغت به في الفسق ما كنت ترتجي
فمثله بالأصباغ وجهاً وقامةً ... وخصراً وردفاً ثم عاينه واصلج
ومن شعر شمس الدين الدهان مما رثى به مملوكه:
مصيبة فقد أيقظت كل هاجع ... ووثبة حتف فاجأت بالفواجع
ولوعة حزن فاجأت لاعج الأسى ... فصدمتها الشنعاء بين الأضالع
ووقعة رزء لم تدع حين هدمت ... قوى الصبر قلباً وقعها غير واقع
إذا ما دعا داعي التذكر باسمها ... أجابت حنيناً هاطلات المدامع
لقد ضل من يبغي اجتماعاً وألفةً ... من الدهر والأيام ذات القوارع
وما الدهر إلا ظالم غير منصف ... وموجد تفريق لنا غير جامع
وما هذه الأجساد إلا منازل ... وأرواحنا فيهن غير ودائع
ومنها:
ألا سبيل الله شخص رزئته ... على غرة والدهر جم الفحائع
فجعت به كالبدر في السن والسنا ... وكالشمس في إشراقها والمنافع
سريع إلى داعي الجميل مبرأ ... من العيب عف طرفه في المجامع
جميل المحيا فيه تلمح صادقا ... رزانة كهل وهو في سن يافع
وهي طويلة تزيد على الخمسين بيتاً.
وقال فيه أيضاً:
سلو طول هذا الليل يخبركم عني ... بأني لم يغمض لفقدكم جفني
رحلتم بصبري واستمر مريركم ... وأسلمتم قلبي إلى لوعة الحزن
وعوضتموني عن سروري بالأسى ... وبالبعد عن قربي وبالخوف عن أمني
وقد كان ظني أن يدوم وصالكم ... فأخلفت الأيام في وصلكم ظني
ومن شعره فيه ما أنشدنيه عنه الصارم إبراهيم بن عبد الرحمن العواد:
ما سيج الورد في خديك ريحان ... إلا ووجهك في التحقيق بستان
ولا تعطف منك العطف من صلف ... إلا وريقك خمر وهو نشوان
لله فتنة ذاك الطرف منك لقد ... سبى المحبين لحظ منه فتان
لو لم يكن سلب العشاق نومهم ... ما راح من غير سهد وهو وسنان(2/347)
قلت: البيت الرابع أخذه من قول مهذب الدين بن القيسراني:
هذا الذي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينه ملأى من الوسن
وما أحسن ما أتى بهذا تضميناً شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود رحمه الله تعالى، أنشدنيه لنفسه إجازة:
قالوا وقد عاينوا عيني ساهرة ... من الكرى وأطالوا في لومهم
فقلت: عهدي به من يوم فارقني ... هذا الذي سلب العشاق نومهم
وبه قال: أنشدني له:
عند قلبي منك وجد لا يحد ... وغرام هزله في القول جد
واشتياق ناره لا تنطفي ... وله بين شغاف القلب وقد
أيها البدر الذي تيمني ... منه وجه يشبه البدر وخد
وسباني جوهر من ثغره ... فوقه من ريقه خمر وشهد
وبه قال: أنشدني له:
دلائل الوجد لا تخفى على الفطن ... والحب أقصاه ما أفضى إلى الفتن
كم ذا التستر والأشواق تعرب عن ... سر الهوى بلسان المدمع الهتن
دع التكتم فالكتمان نار جوى ... بين الجوانح تذكيها يد المحن
وبح فليس بعار أن تبوح فما ... في ساحة الحي إلا كل ذي شجن
قلت: الرابع أخذه من قول الأول.
لا تخف ما صنعت بك الأشواق ... واشرح هواك فكلنا عشاق
وبه قال: أنشدني له:
ألا حبذا الوادي وروض البنفسج ... وطيب شذى من عرفه المتأرج
وأغصان بان في نواحيه ميد ... وكل قويم القد غير معوج
وأنهار ماء في صفاء ورقة ... تسيل بها ما بين روض مدبج
فإن جعدته خطرة من نسيمه ... فيا حسن مرآى مائه المتموج
ومن شعره ملغزاً في الجوز:
ومجلود له جرم ... بلا جرم ولا ذنب
يعاقب وهو من كرم السجية طيب القلب
وكتب إليه المجير أحمد الخياط، نقلته من خطه:
بات بعيد الدار عن سكنه ... صب قريب المزار من شجنه
متيم يذرف الدموع دما ... في الربع بعد الدما على دمنه
لم يبق فيه بلى الرسوم سوى ... وسم خيال يلوح من بدنه
رام اكتتام الغرام مستتراً ... بالصبر والصبر ليس من جننه
وكيف يخفي الهوى وعبرته ... تنقل من سره إلى علنه
رق له الشامتون حين رأوا ... فرط اكتئاب علاه من حزنه
مد له لا يعي الملام ولا ... يدخل عذل العذول في أذنه
أقسمت بالبيت ذي الستور وبال ... حجيج والراقصات من بدنه
ويوم جمع والمشعرين ومن ... وفى فروض الميقات مع سننه
إن أبا عبد الله نادرة ... أحسن ما في الزمان من حسنه
ليس يوازى بمن يشاكله ... في سائر الناس من بني زمنه
لا في نهاه ولا فضائله ... ولا ذكاه كلا ولا فطنه
غذي لبان الآداب في حكم ال ... علوم قبل الفصال من لبنه
وفاق في الموسيقا ومعبد في ... دخوله والغريض في غننه
وفي القريض الجزل الرقيق شأى ... وفات نجل الحسين مع حسنه
هو الحبيب الذي يداهنني ... والدهن من فنه ومن فننه
واعدني ذورة وقد علقت ... ذاتي بحب الوعود في رهنه
فإن يبادر إنجازها عدةً ... عددتها ما حييت من مننه
وللمحب الداعي إليه هوىً ... يجذب من ضبعه ومن رسنه
سن له شوقه تباعده ... فلم يزل جارياً على سننه
وهو مقيم على ودادك ما عا ... ش إلى أن يلف في كفنه
قلت: قد حذفت منها كثيراً لما فيه من اللحن والزحاف وفساد التركيب.
وكتب شمس الدين الدهان إليه الجواب عن ذلك:
شف المعنى وزاد في شجنه ... هاتف أيك أوفى على فننه
دعا هديلاً شطت به غربة ال ... بين فأمسى يبكيه من شجنه(2/348)
فاهتجن من دائه الدوي عقا ... بيل غرام له إلى سكنه
أذكره طيب عيشة سلفت ... وانصرمت بالقيان مع فتنه
فبات يجري دمعاً يشاركه ال ... غيث إذ الغيث ارفض عن مزنه
واصطلم البين صبره ونفى ... عن جفنه المستلذ من وسنه
فياله من فتى أخي حرق ... حافظ عهد المغيب مؤتمنه
ما ترك الحب حين جد به ... سوى خيال يلوح من بدنه
فقال للاحيه في الغرام دع اللو ... م ودعه إن كنت لم تعنه
لا تبغ بالعدل أن تقاد فقد ... مكن كف الغرام من رسنه
وللهوى المستلذ مهجته ... قد خضعت فانضوت إلي محنه
كما لعبد المجير قد خضعت ... غر القوافي فاتضعن في قرنه
أي بليغ أعيت بلاغته ... مسا وفاقت إياس في لسنه
صريح ود من أن يشاب نقي ال ... عرض صافي الأديم من درنه
كاتبتني محسناً بمحكمة ... ذات بيان دلت على فطنه
رقت وراقت فراح سامعها ... يخال سحراً قد صب في أذنه
لم يجر سبقا لمثلها ابن أبي الصل ... ت بغمدانه ولا عدنه
أربى على جرول بها وشأى ... حسان وابن الحباب من حسنه
يفديك عبد المجير مضطغن ال ... ضغنة أمسى يطوي على ضغنه
فاسلم على رغمه تصرف في ال ... كلام منثوره ومتزنه
ما انعطف البان بالنسيم وما ... رجعت الساجعات في غصنه
قلت: قوله: " فقل للاحيه في الغرام " البيت قافيته ملحونه، لأنه قال: " إن كنت لم تعنه " لأن النون ساكنة ووقع له قبلها أخرى في بيت حذفته، وهو معذور لأن المجير وقع له مثل ذلك، وحذفته، فقلده الدهان، وكلاهما اغتر بقول النحاة: الساكن إذا تحرك كسر، ذاك إذا كان الساكن متطرفاً، أما وبعده ضمير أو غيره فلا.
ولشمس الدين الدهان رحمه الله تعالى:
يا بأبي غصن بانة حملابدر دجى بالجمال قد كملاأهيف
فريد حسن ما ماس أو سفرا
إلا أغار القضيب والقمرا
يبدي لنا بابتسامه دررا
وفي شهد لذ طعمه وحلاكأن أنفاسه نسيم طلاقرقف
مورد الخد فاتر المقل
يفوق ظبي الكناس بالحمل
وينثني كالقضيب في الميل
من حمل ردف مثل الكثيب علانيط بخصر كأضلعي نحلامخطف
ظبي من الترك يقنص الأسدا
مقرطق قد أذابني كمدا
حاز بديع الجمال فانفردا
واهاً له لو أجار أو عدلالمستهام بهجره نحلامدنف
غزال سرب جماله شرك
ستر اصطباري عليه منتهك
لكل قلب هواه منتهك
علم قلبي الولوع والغزالاطرف له بالفتور قد كحلاأوطف
لله يوم به الزمان وفى
إذ من بالوصل بعد طول جفا
حتى إذا ما اطمأن وانعطفا
أسفر عنه اللثام ثم جلاورداً بغير اللحاظ منه فلايقطف
فظلت من فرط شدة الترح
إذ زارني والرقيب لم يلح
ألثم أقدامه من الفرح
وقلت إذ عن صدوده عدلاأهلاً من بعد جفوة وقلىأسعف
قلت: والأصل في هذا التوشيخ أن بعضهم أخذ قول أبي نواس الحسن بن هانئ:
أما ترى الشمس حلت الحملا ... وطاب وقت الزمان واعتدلا
فجاء إلى آخره وزاده توشيحة فقال: " فاشرب " ، ولما فتح هذا الباب لأهل النظم طاروا إليه زرافات ووحدانا ودخلوا أرسالاً لخفته وعذوبته، وغالب من نظم فيه لزم الباء في التوشيخة، وبعضهم عملها دالاً، وبعضهم عملها فاء مثل الدهان. فأول من علمته نظم في هذا ولزم الباء إبراهيم بن سهل المغربي فقال:
روض نضير وشادن وطلافاجتن زهر الربيع والقبلاواشرب
يا ساقياً ما وقيت فتنته
حكت كؤوس الرحيق صورته
فمثلت ثغره ووجنته
هذا حباب كالسلك معتدلاوذا رحيق لذا الزجاج علاكوكب
أقمت حرب الهوى على ساق
وبعت عقلي بالخمر من ساق
أسهر جفني بنوم أحداق(2/349)
تمثل السحر وسطها كحلامعتلة وهي تبري العلافاعجب
قلبك صخر والجسم من ذهب
أيا سمي النبي يا ذهبي
جاورت من مهجتي أبا لهب
يا باخلاً لا أذم ما فعلاصيرت عندي محبة النجلامذهب
يا منيتي والمنى من الخدع
ما نلت سولي ولا الفؤاد معي
هل عنك صبر وفيك من طمع
أفنيت فيك الدموع والحيلافلا سلوي في الحب نلتولا مأرب
أتيت اشكوه لوعتي عجبا
فصد عني بوجهه غضبا
فعند هذا ناديت يا حربا
تصد عني يا منيتي مللاوأشتكي من صدودك العللاتغضب
قلت: ولما علقت هذه الموشحة راق لي وزنها فنظمت فيه مع علمي بأنني ما أوفيه، وهو:
لا تحسب القلب عن هواك سلاوإنما حاسدي الذي نقلاحرف
أسلو ولا صبر لي ولا جلد
ونار شوقي وسط الحشا تقد
وكل وجد دون الذي أجد
ما وصل القلب في هواك إلىهذا وإن شئت أن يرى بدلاسوف
لي بدر تم للعقل قد قمرا
وفاق شمس النهار والقمرا
وطرفه للأنام قد سحرا
والريق خمر قد حل لي وحلالأنه بالمنى إذا بخلايرشف
وجفنه صح سكره وصحا
كم بات حتف لصبه فتحا
وعذر ذاك العذار قد وضحا
سعى إلى فيه يرشف القبلا
والنمل سار إلى أن رأى العسلا
يا شادناً سل سيف مقلته
وهز قد القنا بخطرته
وأخجل البدر حسن صورته
وجهك يزداد بالجمال علا
والبدر في تمة إذا كملا
تبدو فترمي الغصون بالخجل
فلم يمس عطفها من الكسل
وأنت مغرى الأعطاف بالميل
وقدك اللدن كلما اعتدلا
أخشى عليه إن مال وانفتلا
شعرك ليل ووجهك القمر
والريق حلو وحشوه درر
والقد غصن ووجهك الزهر
خد زها الورد فيه واشتعلا
وعقرب الصدغ فيه قد نزلا
وأنشدني لنفسه إجازة صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى:
زار وصبغ الظلام قد نصلا
بدر جلا الشمس في الظلام ألا ... فاعجب
جاء وسجف الظلام قد فتقا
والصبح لم يبق في الدجا رمقا
وقد جلا نور وجهه الغسقا
وأدهم الليل منه قد جفلا
وقد أتى رائد الظلام على ... أشهب
أفديه بدراً في قالب البشر
قد جاء في حسنه على قدر
يرتع في روض خده نظري
خد بلطف النعيم قد صقلاكأنه من دمي إذا خجلايخضب
يا من غدا ظل حسنه حرما
لما حوى ما به الجمال حمى
فرعاً وصدغا مذ حكما ظلما
فأرقم الجعد يحرس الكفلاوحارس الخد منه قد جعلاعقرب
هلا تعلمت بذل ودك لي
من المليك المؤيد بن علي
سلطان عصر سما على الأول
لولا أياد بها الورى شملالأصبح الناس كالسماء بلاكوكب
وقال شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني:
بدر عن الوصل في الهوى عدلاما لي عنه إن جار أو عدلامذهب
مترك اللحظ لفظه خنث
إليه يصبو الحشا وينبعث
أشكو إليه وليس يكترث
دعا فؤادي لأن يذوب قلىوالموت والله من مقالي لاأقرب
لم يبق لي مقلة ولا كبد
والقلب فيه أودى به الكمد
وليس يلفى لهجره أمد
لا تعجبوا إن غدوت محتملالكن قلبي إن كان عنه سلاأعجب
بالحسن كل العقول قد نهبا
والحزن كل القلوب قد وهبا
شمس ولكنني لديه هبا
فانظر لذاك القوام كيف حلاغصتنا وكم منه بالجمال جلاغيهب
محمد بن علي بن عبد القوي
ابن عبد الباقي محيي الدين التنوخي المعري ثم الدمشقي، ابن المارستاني الحنفي، نزيل القاهرة.
سمع من عثمان بن علي، وإبراهيم بن خليل، وفرج الخادم، وعبد الله بن الخشوعي، وعدة. وخرج له الدمياطي " مشيخة " ، وسمعها منه قديماً.
وكان مديماً للاشتغال، ورعاً زاهداً متواضعاً مفسراً، من كبار الحنفية، أعاد بالمنصورية والناصرية والظاهرية والصالحية، وحمل عنه الطلبة من سماعاته " جزء " الذهلي على ابن خطيب القرافة سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وأربعين وست مئة.
محمد بن علي بن الحسين بن سالم(2/350)
الشيخ المقرئ الصالح الحاج، بقية المسندين، شمس الدين، أبو جعفر السلمي المرداسي بن الموازيني.
سماعه سنة اثنتين وعشرين وبعدها، إذ كان عند الملقن.
سمع أبا القاسم بن صصرى، والبهاء عبد الرحمن، وتفرد بالرواية عنهما، وسمع من إسماعيل بن ظفر، وأبي سليمان بن الحافظ، والشيخ الضياء.
وورث من أبيه ثروةً وعقاراً، وجاور مدة، وأنفق في البر والقرب، ثم أعطى ملكه لابنته، وبقى لنفسه كل يوم درهمين، ولبس العسلي وتزهد، وحدث بالحرم، وانحطم بالهرم، وثقل سمعه وضعف بصره.
وحدث عنه ابن الخباز وباقي الطلبة.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الاثنين منتصف ذي الحجة سنة ثمان وسبع مئة.
ومولده سنة خمس عشرة تقريباً.
محمد بن علي
الإمام الفاضل الفقيه النحوي الأصولي تاج الدين البارنباري الشافعي.
أخبرني شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، رحمه الله تعالى، قال: قرأ المذكور على الشيخ حسن الراشدي القراءات السبع بالفاضلية، وقرأ المعقول على الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وحفظ " التعجيز " ، وكان يستحضره إلى آخر وقت، ويعرفه جيداً، وحفظ " الجزولية " ، واستمر على حفظ القرآن إلى أن مات.
وكان جيد المناظرة، متوقد الذهن في الفقه والأصولين والعربية والمنطق، وكان عديم التكلف في ملبسه، ولم يكن بيده غير فقاهات بالمدارس، كان يلقب بطوير الليل.
توفي رحمه الله تعالى سنة سبع عشرة وسبع مئة.
وقال لي شيخنا قاضي القضاة تقي الدين، قال لي ابن الرفعة: من عندكم من الفضلاء في درس الظاهرية؟ فقلت له: قطب الدين السنباطي، وفلان، وفلان، وعددت حتى انتهيت إلى ذكر البارنباري، فقال: ما في من ذكرت مثله.
ومن مباحثه في السؤال الذي يورد في قوله تعالى: " لا تأخذه سنة ولا نوم " وتقديره أن السنة أعم من النوم، ويلزم من نفي العام نفي الخاص، فكيف قال " ولا نوم " بعد قوله " لا تأخذه سنة " ؟ وقد أجاب الناس على هذا بأجوبة كثيرة، ومن أحسنها ما قاله البارنباري هذا، قال: الأمر في الآية على خلاف ما فهم، والمنفي أولاً إنما هو الخاص وثانياً العام ويعرف ذلك من قوله " لا تأخذه " أي لا تغلبه، ولا يلزم من أخذ السنة التي هي قليل من النوم أو النعاس عدم أخذ النوم له، فقال " ولا نوم " فعلى هذا فالسؤال منتف، وإنما يصح إيراده أن لو قيل لا يحصل له سنة ولا نوم. وهو جواب بليغ، قال مولانا قاضي القضاة تاج الدين السبكي: إلا أن لك أن تقول: فلم لا اكتفي بنفي أخذ النوم على هذا التقدير الذي قررت، وما الفائدة في السنة.
ومن سؤالات تاج الدين طوير الليل: سوى الأصحاب بين المانع الحسي والمانع الشرعي فيما إذا باع جاريةً حاملاً بحر أو باع جارية إلا حملها، فإن الصحيح فيهما البطلان، ولم يفعلوا ذلك فيما إذا باع داراً مستأجرة، فإن الصحيح فيها الصحة، والبطلان فيما إذا باع داراً واستثنى منفعتها شهراً.
وأجاب، وقد سئل: كيف يقول الغزالي إن النية في الصلاة بالشروط أشبه وهي بشرط أن تكون مقارنة للتكبير، والتكبير ركن، فيتحد زمان الركن والشرط مع كون الركن لا بد أن يكون داخل النية والشرط خارجاً؟ بأن المراد بالداخل ما تتقوم به الماهية ولا تصدق بدونه وبالخارج ما ليس كذلك سواء أقارن الداخل في الزمان أم لا، فالترتيب ليس في الزمان، والنية لا تتقوم بها الصلاة، لجواز أن توجد بلا نية، وتكون صلاة فاسدة، وكذلك ترك الأفعال الكثيرة في الصلاة فإنه شرط مع أنه لا يوجد إلا داخل الصلاة.
قال مولانا قاضي القضاة تاج الدين السبكي: هذا جوابه، وهو على حسنه قد يقال عليه: هذا يتم إذا قلنا: إن الصلاة موضوعة لما هو أعم من الصحيح والفاسد لتصدق صلاة صحيحة وصلاة فاسدة، أما إذا قلنا: إنما هي موضوعة للصحيح فقط، فحيث انتقى شرطها لا تكون موجودة. وقد حكى الرافعي الخلاف في أن لفظ العبادات هل هو موضوع لما هو أعم من الصحيح والفاسد أو هو مختص بالصحيح حيث قال في كتاب الإيمان: وسيأتي خلاف أن لفظ العبادات هل هو موضوع لما هو أعم من الصحيح والفاسد، أو مختص بالصحيح؟ وإن كان لم يف بما وعد إذ لم يحكه بعد، على ما رأيناه.
محمد بن علي بن محمد بن غانم
الشيخ الفاضل القاضي بدر الدين ابن الشيخ علاء الدين بن غانم، تقدم ذكر أبيه وعمه وأخيه وابن عمه.(2/351)
كان من جملة كتاب الإنشاء، كان على الاشتغال مكباً وإلى التفهم منصباً لا يثنيه عن ذلك ثان، ولا له من بيته في هذا ثان، يكون في ديوان الإنشاء جالسا، وتراه في مختصر ابن الحاجب دارسا، كثير الصمت، عليه وقار وسمت، يفيض جماعة الإنشاء فيما يفيضون فيه، وهو مشغول بنفسه وصلاح حاله وتلافيه. يتشدد في الكتابة فلا يكتب إلا ما وافق الشريعه، وكان مضمونه إلى الحق ذريعه. وكتب كثيراً وعلق تراجم والتقط ذلك من التواريخ والمعاجم، وكان غاوياً باقتناء الكتب، رافعاً عن البذل فيها أذيال الحجب، على مسكة كانت في يده، وشح سكن في خلده.
وكان جميل الصورة في صباه، مصونا في مرباه. ثم إنه سأل الإعفاء من ديوان الإنشاء، فأجيب إلى ما قصده، وتناول ما رصده.
ولم يزل على ذلك إلى أن سلك سبيل من مضى من الأمم، وأصبح وقد عد في الرمم.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر جمادى الأولى سنة أربعين وسبع مئة.
وكان منجمعاً عن الناس لا يتكلم فيما لا يعنيه، يكرر على محافظه الليل والنهار. وكان قد حفظ القرآن و " المنهاج " و " مختصر " ابن الحاجب و " الحاجبية " و " الملحة " ، وعرض ذلك على الشيخ كمال الدين، وعلى الشيخ برهان وعليه تفقه.
ولما توجه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى قضاء حلب وصار بها كتب له إذناً بالإفتاء، وجهزه إليه إلى دمشق، وفي آخر أمره سأل الإعفاء من كتابه الإنشاء وأن يكون له نظير معلومه على الجامع الأموي، فأجيب إلى ذلك. وكان بيده تدريس القليجية الشافعية والشريفية عوضاً عن القاضي نجم الدين الدمشقي، وباشر العمادية والدماغية عوضاً عن الشيخ بدر الدين بن أبي اليسر ابن الصائغ لما توجه لخطابة القدس، وكان يحمل المعلوم إلى أقارب الشيخ بدر الدين، ولما عاد ابن الصائغ إلى دمشق استمر بدر الدين في تدريسهما، فوشى به الأمير حسام الدين بن النجيبي مشد الأوقاف إلى الأمير سيف الدين تنكز، فأمر بإعادة المدرستين المذكورتين إلى ابن الصائغ، وكان قد عين لخطابة القدس عوضاً عن ابن الصائغ فغض ذلك منه.
ولما توجه الشيخ برهان الدين إلى الحجاز ألقى عنه الدرس بالباذرائية، وكان معه عدة وظائف من قراءات على الكراسي وغير ذلك مما يقارب الألف درهم في كل شهر.
وكان جماعة للكتب، أبيع له لما مات قريب الألفي مجلدة، وعلق على " المنهاج " تعليقه، وكان يحب الصالحين.
محمد بن علي بن محمد بن سعيد
ابن حمزة الشيخ الصدر الرئيس شرف الدين بن الصدر علاء الدين التميمي، ابن القلانسي.
من بيت كبير، وكان صاحب ثروة، تزوج في شبابه بابنة قاضي القضاة صدر الدين بن سني الدولة، وهو صاحب حمام الزهور بالصالحية، وهو خال عز الدين بن القلانسي.
كان محباً للفقراء والصالحين، وسمع من السخاوي والقرطبي، والعز بن عساكر، وابن مسلمة، غيرهم.
وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري جمادى الأول سنة أربع وسبع مئة.
ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة بدمشق.
محمد بن علي بن عبد الواحد
الأنصاري السماكي الدمشقي الزملكاني، الشيخ، الإمام، العالم العلامة، ذو الفنون، الذكي النحرير، شيخ الشافعية في عصره، كمال الدين أبو المعالي قاضي القضاة بحلب.
سمع من أبي الغنائم بن علان، والفخر علي، وابن الواسطي، وابن القواس، ويوسف بن المجاور، وعدة، وطلب الحديث.
وكان فصيحاً في قراءته متسرعاً. قال شيخنا شمس الدين الذهبي: له خبرة بالمتون، تفقه على الشيخ تاج الدين الفزاري وأفتى وله نيف وعشرون سنة، وسمي بالشيخ وعمره عشرون سنة.
وقرأ العربية على الشيخ بدر الدين بن مالك، وقرأ على قاضي القضاة شهاب الدين الخوييي وشمس الدين الأيكي.
وقرأ الأصول على الشيخ صفي الدين الهندي أول قدومه البلاد، أما لما عاد لم يقرأ عليه، وقرأ على قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي.
وأخبرني شيخنا نجم الدين بن الكمال الصفدي، قال: قلت له: فرطت في المنطق، قال: كان في طلبي له تلك الأيام شخص يعرف بالإفسنجي، وكنت قد درست وتميزت، أو قال، فكنت أتردد إليه على كره مني، والعلم في نفسه صعب، وعبارة الأفسنجي فيها عجمة، فإذا أردت منه زيادة بيان، أو قلت له: ما ظهر لي، جثا وأدار وجهه عني، فأنفت من تلك الحالة، وبطلت الاشتغال، أو كما قال.(2/352)
قلت: أغناه فكره الصائب وذهنه الثاقب عن ذلك، لأن المنطق علم عقل لا نقل، على أنه كان يعرف منه ما يحتاج إليه في أصول الدين وأصول الفقه، فالمنطق نحو المعاني، كما أن النحو منطق الألفاظ، وابن الزملكاني كان يعرف المنطق على وجه كلي، كما أن امرأ القيس وغيره من فصحاء قريش يعرفون النحو على وجه كلي، وقال ابن سينا: واضع النحو والعروض في اللغة العربية يشبه واضع المنطق والموسيقا في اللغة اليونانية.
قلت: لعمري هذا تشبيه من عرف حقيقة هذه العلوم الأربعة، ولقد أورد بعض الأفاضل على تعلق المنطق: إن كانت هذه الآلات من الفطريات فليستغن عن تعلمها، وإلا افتقرت إلى آلة أخرى، ودار وتسلسل، وأجابه المنتصرون بأن بعضها فطري وبعضها كسبي، فاندفع الإشكال.
قلت: بل الإشكال باق على حاله، فنقول فيما هو فطري ما قلناه أولاً، وفيما هو كسبي ما قلناه أولاً، وما كان الشيخ في ذلك بحيث إنه يجهل معرفة التصور والتصديق، ودلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام، والضرب من الشكل المنتج والكاذب، ومواد البرهان، والمقدم والتالي، وقياس الخلف، وغير ذلك مما يدخل في الأصولين، بل كان يعرف ذلك معرفةً جيدة تامة يتسلط بها على باقي الفن، أما أنه كان يطلب منه أن يشغل في مختلطات كشف الأسرار للخونجي فلا، وقلت أنا في مقتضى حال الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى:
أغناه ثاقب ذهنه وذكاؤه ... عن أن يقلد في الأنام سواه
من كان كالشمس المنيرة ذهنه ... فجميع ما تحوي العلوم يراه
وقال: وكان الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى علامة الزمان وثلامة البهتان، قائماً بالفقه ودقائقه وغوامضه وحقائقه، لو رآه الروياني لأغرقه في بحره، أو المتولي لعزل عما أكسبه نهاية فخره، أو القفال لفتح له أبواب نصره، أو الرافعي لانحط إلى حفضه وجره. قاعداً بالأصول فقهاً وديناً، ناهداً كالأسد وقد جعلت له الأقلام عرينا، فلو رآه الحليمي لسفه رأيه، أو الباقلاني لكان باقلاً في الرواية والدراية، كأنما عناه الغزي بقوله، واقتصر به على طوله، حيث قال:
لم يبرح الفقه روضاً فاق فيك له ... سحابة ورده منها وعبهره
ذو الدرس سهل المعاني في عبارته ... يكاد يحفظه من لا يكرره
أما الجدال فميدان فوارسه ... تقر أنك دون الناس عنتره
لا يرى الناس أفصح من عبارته، ولا أملح من إشارته، لو سمعه الأصمعي لم ينقل عربيه عن أعرابه، أو يونس بن حبيب لما قلده سيبويه في إعرابه، كأن عبارته السكر المذاب، أو رشف الثنايا العذاب، تدخل الأذن بلا إذن لفصاحتها، ويرشفها الذهن لصناعتها ونصاعتها.
وكان شكله يرى وهو من أحسن الأشكال، ومثله لا يرى وليه معه إلا أن يذل له الأنذال، وعدوه سوى إن كال له الأنكال، بعمة لا يحسن أحد أن يديرها ولا يصدق تصويرها، وطلعة يستحيي القمر أن يقابلها، والشمس أن تشاكلها، وشيبة عليها نور الإيمان، ورفق الإيقان، وكرم نفس لا يذكر معه صوب الغوادي، ولا النيل ذو الأصابع ولا البحر ذو الأيادي.
وأما خطه فلم يكتب أحد في زمانه مثل تعليقه، ولا يصل معه كاتب إلى تغليقه، كأن طروسه رياض دبجها الغمام، سطوره حدائق ألفاتها غصون، والهمزات عليها حمام، كأنما:
تناول من لطافته نهاراً ... وفرق فوقه ليلاً بهيما
هذا إلى معارف حواها من سائر الفنون. وأخذ من كل منها محاسن النكت وفوائد العيون، فما باشر شيئاً إلا وزانه، ونفى عنه ما شابه وشانه، تنقل في مباشرات الدوله، ونال فيها الوجاهة والعز والصون والصوله، وولي في آخر عمره قضاء قضاة حلب غصبا، ولقي فيها نصبا، وإن كان قد وجد فيها رفعا ونصبا، ثم إنه عزل منها وطلب إلى باب السلطان فما وصل، ونزع خضاب سعده ونصل، ومرض في طريق الرمل. وانبت من حياته الشمل، فعدم الوجود كماله، وما وصل جرح حياته اندماله.
وأدركه أجله في بلبيس سادس عشر شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وله من العمر ستون سنة.
كان مولده في شوال سنة سبع وستين وست مئة.
وحمله ولده عبد الرحمن إلى القاهرة ودفنه بالقرافة عند الشافعي رضي الله عنه.(2/353)
وكان قد حفظ " التنبيه " فيما أظن و " المنتخب " في أصول الفقه، و " المحصل " في أصول الدين. وكتب المنسوب الفائق، كان يقال إنه ما كتب على نجم الدين بن البصيص أحسن منه ومن الشيخ بدر الدين حسن بن المحدث، وخطه هو أحسن، وقيل: إنه كان يكتب الكوفي طبقة.
وذكره شيخنا الذهبي في " معجمه " المختص فقال فيه: شيخنا عالم العصر، انتهى.
وكان الشيخ من بقايا المجتهدين ومن أذكياء أهل زمانه، تخرج به الأصحاب، وانتفع به الأئمة. لم ير مثل كرم نفسه وعلو همته وتجمله في ملبسه ومأكله، لم تزل تلاميذه الخواص على مائدته، يحب الطالب الذكي ويجذب بضبعه من ورطة الخمول ويكبره. ويعظمه ويزهزه له، ويسير إليه في البحوث ويصوب ما يقول ويحسنه ويعجب الحاضرين منه. فعل ذلك بجماعة، ونزل للقاضي فخر الدين المصري من تدريس العادلية الصغيرة، وما رأى أحد أسعد منه في علمه وقوله، كان إذا دوغ أحداً بكلمة سوء لبسته من فرقه إلى قدمه، وكذا في الخير غضب مرة على فخر الدين المصري فقال: من أرادني وأحبني فلا يكلمه، وكان المسكين يراه الناس في الجامع فما يجسر أحد يسلم عليه، وعمل خطبة افتتحها بقوله: الحمد لله الذي جعل " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " ، وكان لا يتعب التلميذ، بل إذا رأى الطالب في دروسه وذهنه جيد وقد تعب على نفسه اجتذبه إليه ونوه به وعرف بقدره، فيعرف به وينسب إليه، وإذا جاءه مبتدئ ليقرأ عليه يقل له: رح الآن إلى الشيخ كمال الدين بن قاضي شهبة وإلى الشيخ شمس الدين بن النقيب وإلى مجد الدين التونسي وإلى نجم الدين القحفازي، فإذا تنبهت عد إلي.
واشتهر في زمن أشياخه وتقدم عليهم إلى أن سادهم ورأس وساد في الدولة، وطار ذكره.
وصنف رسالة في الرد على الشيخ تقي الدين بن تيمية في الطلاق، ورسالة في الرد عليه في مسألة الزيارة، وصنف مصنفين في تفضيل البشر، أحدهما سماه " تحقيق الأولى في الرفيق الأعلى " ، وجوده ما شاء، وشرح من " منهاج " النووي قطعاً مفرقه، وكان يلقي الدروس من " نهاية المطلب " . وله رسالة سماها " رابع أربعة " نظماً ونثراً، وشرح في " عمدة الأحكام " قطعة.
ودرس بالشامية البرانية. والظاهرية الجوانية والرواحية، وباشر في وقت دار الحديث الأشرفية تحت القلعة عوضاً عن الشيخ صدر الدين بن الوكيل، تقدير نصف شهر، ثم أخذها منه كمال الدين بن الشريشي في شعبان سنة عشر وسبع مئة.
وولي نظر ديوان الأفرم، ثم بطله، وولي نظر الخزانة ووكالة بيت المال، وكتب في ديوان الإنشاء مدة ووقع في الدست قدام الأفرم وغيره، فكان لا يدع أحداً يتكلم لا من وزير ولا من قاض ولا من ناظر جيش ولا من حاجب ولا من كاتب سر، ولا من مشد أوقاف ولا من والي المدينة ولا أحد له وظيفة، وكلامه في جميع ذلك ساد واف بالمقاصد، وكل ذلك لمعارفه وسعة علمه وخبرته ودربته ومعرفته بتراجم أهل العصر.
وله الإنشاء الجيد، ونثره خير من نظمه. وله التواقيع الجيدة المليحة، وكتب عن الأفرم في فتح جبل كسروان بعد البسملة: " ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا " .
ولما كان في شهر شعبان سنة أربع وعشرين وسبع مئة رسم له السلطان بقضاء حلب، فامتنع، ودخل على الأمير سيف الدين تنكز وسأله الإعفاء، فكتب له إلى السلطان، فجاء الجواب بالتشديد في أمره وتجهيزه قولاً واحداً، فتوجه بعد ما قضى أشغاله من دمشق في رابع عشر شوال من السنة المذكورة، وتأسف الناس على فراقه.
ولما دخل إلى حلب يوم الثلاثاء سادس عشري شعبان قال له نائب حلب كانت قلوبنا قد انكسرت فجبرتها، وقال: يا حلبيين لقد سعدتم وأراد الله بكم الخير، والآن عظمت حلب بهذا الرجل. ولما وصل إلى حلب نزل بمكان يعرف بالفردوس، وكان قد توجه معه شمس الدين محمد الخياط الشاعر، فأنشده وأنشدنيه من لفظه غير مرة:
يا حاكم الحكام يا من به ... قد شرفت رتبته الفاخره
ومن سقى الشهباء إذ حلها ... بحار علم وندىً زاخره
نزلت في الفردوس فابشر به ... دارك في الدنيا وفي الآخره(2/354)
وتألم أهل دمشق لفراقه وتأسفوا على بعده، لأنه كان للشافعية واسطة قلادتهم وشمس سيادتهم، وأقام في حلب مدةً وما رزق فيها سعادة، وتعكس في أيام الأمير سيف الدين أرغون الدوادار وكان أصحب الناس إليه، وذلك لأنه عبث باليهود عبثاً عظيما وأخذ منهم كنيسة كانت لهم وفتحها مدرسةً، فتسلطوا عليه وبرطلوا وبذلوا، فنودي عليه في الجامع بعد صلاة الجمعة على رؤوس الأشهاد، وقاسى من ذلك شدة وتألم.
وطلبه السلطان بعد ذلك إلى الديار المصرية بعد ما وصل من حلب إلى دمشق في عشري شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فأقام بدمشق أربعة أيام، وتوجه على البريد إلى القاهرة ليوليه قضاء الشام أو كتابة السر بمصر، فقيل: إنه مات وهو مسموم، وعند الله تجتمع الخصوم.
على أن القاضي شهاب الدين بن فضل الله حكى لي عن ولده تقي الدين أن والده الشيخ كمال الدين قال له وقد بدا في المرض في الرمل: والله يا ولدي أنا ميت ولا أتولى لا مصر ولا دمشق وما بقي بعد حلب ولاية أخرى، لأنه في الوقت الفلاني حضر إلى الجامع الأموي فلان الصالح فترددت إليه وخدمته وطلبت منه التسليك، فأمرني بالصوم مدة، ثم أمرني بصيام ثلاثة أيام، أظنه، قال لي: أفطر فيها على الماء واللبان الذكر، وكان آخر ليلة في الثلاث ليلة النصف من شعبان، فقال لي: الليلة تجيء إلى الجامع تتفرج أو تخلو بنفسك فقلت: بل أخلو بنفسي، فقال: جيد، ولا تزال تصلي حتى أجيء إليك، قال: فخلوت بنفسي أصلي كما وقفني ساعة جيدة، فلما كنت في الصلاة إذا به قد أقبل، فلم أبطل، ثم إنني خيل لي قبة عظيمة بين السماء والأرض، وظاهرها معارج ومراقي، والناس يصعدون فيها من الأرض إلى السماء، فصعدت معهم، فكنت أرى على كل مرقاة مكتوباً: نظر الخزانة، وكالة بيت المال، نظر المارستان النووي، التوقيع، المدرسة الفلانية، المدرسة العلانية، قضاء حلب، هذا أعلى المراقي المفرقة، ولما وصلت إلى هذه المرقاة أشفقت من هذه الحالة ورجعت إلى حسي وبت ليلتي. فلما اجتمعت بالشيخ قال لي: كيف كانت ليلتك؟ جئت إليك وما قصرت، لأنك ما اشتغلت بي، والقبة التي رأيتها هي الدنيا، والمراقي هي المراتب والوظائف والأرزاق، وهذا الذي رأيته تناله كله. والله يا عبد الرحمن وكل شيء رأيته قد نلته، وكان آخر الكل قضاء حلب، وقد قرب الأجل. أو كما قال.
وكان الشيخ كمال الدين - رحمه الله تعالى - كثير التخيل، شديد الاحتراز، يتوهم أشياء بعيدة ويبني عليها، وتعب بذلك، وعادى أصحابه، وحسد، وعمل عليه مرات، ونجاه الله ببركات العلم. وطار ذكره، ورماه الناس أنه يؤذي أصحابه، حتى قال فيه صدر الدين بن الوكيل ما أنشدنيه من لفظه القاضي علم الدين إبراهيم بن سليمان المستوفي، قال: أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ صدر الدين بن الوكيل:
طباع الزملكي لها مثال ... كعقرب أخفيت في البيت معنا
فما مرت بشيء قط إلا ... وتضربيه سريعاً لا لمعنى
ولقد رأيته مرةً في الظاهرية وفي يده قائمة الحساب وهو يساوق المباشرين على المصروف فيسبقهم إلى الجمع وعقد الجملة، ويبقى ساعةً ينتظرهم إلى أن يفرغوا، فيقول: كم جاء معكم؟ فيقولون: كذ وكذا، فيقول: لا، فيعيدون الجمع، إلى أن يصح.
ومرض مرة بالماشرا، وكان يعوده لعلاجه من جملة الأطباء أمين الدين رئيس الأطباء، فخرج يوماً من عنده وقال: الله لا يعافي هذا الشيخ كمال الدين، قالوا له: لأي شيء؟ قال: حتى يطول علاجنا له واجتماعنا به، لأننا نسمع منه أسماء أعضاء ما كنا نحققها وأمراض ما نصححها، فاستفدنا منه تصحيح ألفاظ ذلك كله.
وخرج له الشيخ صلاح الدين العلائي عوالي وأربعين، وقرأها شيخنا الذهبي عليه.
ومن نظمه ما كتبه إلى قاضي القضاة شرف الدين بن البارزي يطلب منه " تيسير الفتاوي في توضيح الحاوي " :
يا واحد العصر ثاني البدر في شرف ... وثالث العمرين السالفين هدى
تيسيرك الشامل الحاوي الوجيز له ... نهاية لم تنلها غاية أبدا
محرر خص بالفتح العزيز ففي ... تهذيبه المقصد الأسنى لمن قصدا
وقد سمت همتي أن أصطفيه بها ... وأن أعلمه الأهلين والولدا
فانعم به نسخةً مقابلةً ... ولاح نورك في أثنائها أبدا(2/355)
لا زلت بحر علوم طاب مورده ... وكل ظمآن علم منه قد وردا
ومن نظمه رحمه الله تعالى:
أهواك يا ربة الأستار أهواك ... وإن تباعد عن مغناي مغناك
وأعمل العيس والأشواق ترشدني ... عسى يشاهد معناك معناك
تهوي بها البيد لا تخشى الضلال وقد ... هدت ببرق الثنايا الغر مضناك
تشوقها نسمات الصبح ساريةً ... تسوقها نحو رؤياك برياك
يا ربة الحرم العالي الأمين لمن ... وافاه من أين هذا الأمن لولاك
إن شبهوا الخال بالمسك الذكي فه ... ذا الخال من رؤية المحكي والحاكي
أفدي بأسود قلبي نور أسوده ... من لي بتقبيله من بعد يمناك
إني قصدتك لا ألوي على بشر ... ترمي النوى لي سريعاً نحو مرماك
وقد حططت رحالي في حماك عسى ... تحط أثقال أوزاري بلقياك
كما حططت بباب المصطفى أملي ... وقلت للنفس بالمأمول بشراك
محمد خير خلق الله كلهم ... وفاتح الخير ماحي كل إشراك
سما بأخمصه فوق السماء فكم ... أوطا أسافلها من علو أفلاك
ونال مرتبةً ما نالها أحد ... من أنبياء ذوي فضل وأملاك
يا صاحب الجاه عند الله خالقه ... ما ود جاهك إلا كل أفاك
أنت الوجيه على رغم العدا أبدا ... أنت الشفيع لفتاك ونساك
يا فرقة الزيغ لا لقيت صالحةً ... ولا شفى الله يوماً قلب مرضاك
ولا حظيت بجاه المصطفى أبداً ... ومن أعانك في الدنيا ووالاك
يا أفضل الرسل يا مولى الأنام ويا ... خير الخلائق من إنس وأملاك
ها قد قصدتك أشكو بعض ما صنعت ... في الذنوب وهذا ملجأ الشاكي
قد قيدتني ذنوبي عن بلوغ مدى ... قصدي إلى الفوز منها فهي أشراكي
فاستغفر الله لي واسأله عصمته ... فيما بقي وغنى من غير إمساك
عليك من ربك الله الصلاة كما ... منا عليك السلام الطيب الزاكي
قلت: ولم أقف للشيخ رحمه الله تعالى على نظم هو خير من هذه القصيدة لقصدها الصالح، وقد أشبع فيها الكاف كسرة في خطاب المؤنث في ثلاثة أماكن حتى نشأت ياءً، لكنه جائز. وعمل على هذه القصيدة، أو على قصيدة ميمية مديح في النبي صلى الله عليه وسلم أو عليهما، كراريس سماها " عجالة الراكب " .
ومن شعره:
يا سائق الظعن قف بي هذه الكثب ... عساي أقضي بها ما للهوى يجب
وارفق قليلاً لكي تروي الثرى سحب ... من ناظري بمزن منه تنسكب
فثم حي حياتي في خيامهم ... فالموت إن بعدوا والعيش إن قربوا
لي فيهم قمر والقلب منزله ... لكن طرفي له بالبعد يرتقب
لدن القوام رشيق القد ذو هيف ... تغار من لينه الأعطاف والقضب
حلو المقبل معسول مراشفه ... يجول فيها رضاب طعمه الضرب
لا غرو إن راح نشواناً ففي فمه ... خمر ودر ثناياه لها حبب
ولائم لا مني في البعد عنه وفي ... قلبي من الشوق نيران لها لهب
فقلت: إن صروف الدهر تصرفني ... عما أروم فما لي في النوى سبب
ومذ رماني زماني بالبعاد ولم ... يرحم خضوعي ولم يبق لي نشب
ولما توفي رحمه الله تعالى نظم فيه المولى جمال الدين محمد بن نباته قصيدة مليحة يرثيه بها، أولها:
بلغا القاصدين أن الليالي ... قبضت جملة العلا بالكمال
وقفا في مدارس العقل والنق ... ل ونوحا معي على الأطلال
سائلاها عسى يجيب صداها ... أين ولى مجيب أهل السؤال
أين ولى بحر العلوم وأبقى ... بين أجفاننا الدموع لآلي(2/356)
أين ذاك الذهن الذي قد ورثنا ... عنه ما في الحشا من الاشتعال
أين تلك الأقلام يوم انتصار ... كعوالي الرماح يوم النزال
ينقل الناس عن طريق هداها ... طرق العلم عن متون العوالي
وتفيد الجنا من اللفظ حلوا ... حين كانت نوعاً من العسال
وكنت قد اختلفت أنا والمولى شرف الدين حسين بن ريان في وقت بصفد في قول الحريري في بعض " مقاماته " :
فلم يزل يبتزه دهره ... ما فيه من بطش وعود صليب
فذهب هو في إعراب قوله: " ما فيه " إلى أن هذا في موضع نصب على أنه مفعول ثان، وذهبت أنا إلى أنه بدل اشتمال من الهاء في قوله: " يبتزه " ، فكتب شرف الدين فتوى من صفد وجهزها إلى الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى، ونقلتها من خطه وهي: ما تقول السادة علماء الدهر، وفضلاء هذا العصر، لا برحوا لطالبي هذا العلم الشريف قبلة، وموطن السؤال ومحله، في رجلين تجادلا في مسألة نحوية، وهي في بيت من " المقامات الحريرية " وهو:
فلم يزل يبتزه دهره ... ما فيه من بطش وعود صليب
وذهبا إلى أن معنى " يبتزه " يسلبه، وكل منهما وافق في هذا مذهب خصمه مذهبه، وأصل سؤالهما الغريب إعراب قوله: " ما فيه من بطش وعود صليب " . لم يختلفا في نصبه، بل خلفهما فيما انتصبت به، فذهب أحدهما إلى أنه بدل اشتمال من الهاء المنصوبة في " يبتزه " ، وله على ذلك استدلال، وذهب الآخر إلى أنه مفعول ثان " ليبتزه " وجعل المفعول الهاء، واختلفا في ذلك وقاصديكم جاءا وقد سألا الإجابة عن هذه المسألة.
فكتب الشيخ كمال الدين رحمه الله تعالى الجواب، ونقلته من خطه وهو: الله يهدي للحق، كل من المختلفين المذكورين قد نهج نهج الصواب، وأتى بحكمة وفصل خطاب، ولكل من القولين مساغ في النظر الصحيح، ولكن النظر إنما هو الترجيح، وجعل ذلك مفعولاً أقوى توجيها في الإعراب، وأدق بحثا عند ذوي الأدب. أما من جهة المعنى فإن المقام مقام تشك وأخذ بالقلوب، وتمكين، هذا المعنى أقوى إذا ذكر ما سلب، منه مع بيان المسلوب، فذكر المسلوب مقصود كذكر ما سلب، وفي ذلك من تمكين المعنى ما لا يخفى على ذوي الألباب، ووراء هذا بسط لا تحتمله هذه العجالة، والله أعلم. كتبه محمد بن علي.
قلت: لا أعلم في ذلك العصر أحداً يأتي بهذا الجواب غيره، لمعرفته بدقائق النحو وبغوامض علمي المعاني والبيان ودربته بصناعة الإنشاء.
وأما صورة الخط الذي نقلت منه هذه الفتوى فما كانت إلا قطعة روض تدبجت، أو هوامش عذار على طرس الخد تخرجت، رحمه الله وأكرم مثواه، وجعل الجنة منقلبه وعقباه.
ونقلت من كلامه تعليقاً على قوله تعالى: " التائبون العابدون " الآية: فإن قيل: كيف ترك العطف في جميع الصفات وعطف " النهي عن المنكر " على " الأمر بالمعروف " بالواو؟ قلت: للمفسرين والعلماء في الجواب عن هذا السؤال أقول، فمنها قولهم لأنها الصفة الثامنة، فهي واو الثمانية، وهذا في غاية السخافة، منها أن هذا من التفنن في الكلام، وهو جواب إقناعي، ومنها أن المراد التنبيه على أن الموصوفين بالصفات المتقدمة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهذا بعيد في الإعراب ومقصود الكلام، ومنها أن هاتين الصفتين متعلقتان بالغير فاحتاجت إلى مزية، وهو كالأجوبة التي قبله.(2/357)
قال: وعندي في هذا وجه حسن، وهو أن الصفات تارة تنسق بحرف العطف وتارة تذكر بغيره، لكل مقام معنى يناسبه، فإذا كان المقام مقام تعداد صفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسن إسقاط حرف العطف، فإن أريد الجمع بين الصفتين أو التنبيه على تغايرهما عطف بالحرف أيضاً، وفي القرآن أمثلة تبين ذلك، قال الله تعالى: " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن " الآية، فأتى بالواو بين الوصفين لأن المقصود بالصفات الأول ذكرها مجتمعة، والواو قد توهم التنويع، فحذف، وأما الأبكار فلا يكن ثيبات والثيبات لا يكن أبكارا، فأتي بالواو لتضاد النوعين، وقال تعالى: " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول " ، فأتى بالواو في الوصفين الأولين، وحذفهما في الوصفين الآخرين، لأن غفران الذنب قبل التوبة، وقبول التوب قد يظن أنهما يجريان مجرى الواحد لتلازمهما، فمن غفر الذنب قبل التوب، فبين الله تعالى بعطف أحدهما على الآخر أنهما مفهومان متغايران ووصفان مختلفان يجب أن يعطى كل واحد حكمه، وذلك مع العطف أبين وأرجح وأوضح، وأما شديد العقاب، وذو الطول فهما كالمتضادين، فإن شدة العقاب تقتضي اتصال الضرر، والاتصاف بالطول يقتضي اتصال النفع، فحذف ليعرف أنهما مجتمعان في ذاته المقدسة موصوفاً بهما على الاجتماع. فهو في حال اتصافه بشديد العقاب ذو الطول، فحسن ترك العطف لهذا المعنى. وفي هذه الآية التي نحن فيها يتضح معنى العطف وتركه مما ذكرناه، لأن كل صفة مما لم ينسق بالواو مغايرة للأخرى، والغرض أنهما في اجتماعهما كالوصف الواحد لموصوف واحد، فلم يحتج إلى عطف، فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما متلازمان أو كالمتلازمين مستمدان من مادة واحدة كغفران الذنب وقبول التوب، حسن العطف ليبين أن كل واحد معتد به على حدة، فإنه بذاته لا يكفي منه ما يحصل في ضمن الآخر، بل لا بد من أن يظهر أمره بالمعروف بصريح الأمر، ونهيه عن المنكر بصريح النهي، فاحتاج إلى العطف، وأيضاً فلما كان الأمر والنهي ضدين أحدهما طلب الاتحاد والآخر طلب الإعدام كالنوعين المتغايرين في قوله تعالى: " ثيبات وأبكاراً " فحسن العطف بالواو، فهذا ما ظهر من الجواب. والله أعلم.
قلت: وكنت أنا في زمن الصبا والإشغال قد جمعت في هذه الواو كراسة وفيها فوائد.
محمد بن علي بن أبي بكر الرقي
الشيخ الصالح الواعظ المحدث شهاب الدين بن تاج الدين المعروف ب ابن العديسة.
كان شيخ الخانقاه المجاهدية ظاهر دمشق، وله مواعيد حديث يقرأ فيها في الجامع الأموي والجامع السيفي وأماكن أخر، وكان يعاني شيئاً من المواعظ في كلامه، وكان فيه تعبد وانقطاع وكرم وسخاء، وحج مرات وجاور، سمع على عمر بن القواس، ويوسف الغسولي وغيرهما، وسمع ببعلبك من الشيخ تاج الدين عبد الخالق، وحدث.
وتوفي رحمه الله تعالى بوادي الأخضر في يوم الخميس عاشر ذي القعدة سنة ست وثلاثين.
ومولده...
وأظن المجير الخياط فيه يقول:
في الدهر شيء عجيب ... مرآه يقذي اللواحظ
ابن الرزير خطيب ... وابن العديسة واعظ
محمد بن علي بن سعيد الأنصاري
الشيخ الإمام الفاضل المفنن بهاء الدين أبو محمد المعروف بابن إمام المشهد.
قرأ القرآن العظيم وأتقنه بالروايات السبع على الكفري، واشتغل بالعربية على الشيخ محمد التونسي ولازم الشيخ نجم الدين القحفازي كثيراً، وقرأ الفقه على الشيخ برهان الدين بن تاج الدين. وسمع بمصر والإسكندرية وحلب، وبدمشق من أشياخ عصره.
وكان حسناً شكله بيناً فضله، كثير التبسم، غزير الارتياح للسيادة والتسنم. جاب البلاد وما هاب الجدال والجلاد، وقطع المفاوز بحظ هابط وعزم صاعد. وشام كل بارق، وانتجع كل راعد، إلى أن أقمر ليل حظه الدجوجي بعدما تطور في أطوار أبي زيد السروجي.
وكان قد جود الفقه والعربيه، وعلق التعاليق الأدبيه، وبلغ ما أراد من الوصول إلى الأصول، واستنفد الحاصل واستغرق المحصول. وكتب المنسوب الفائق، وقطع في حسنه الدرج والدقائق، ونظم جيداً ونثر. ورقا درج منبره، وكان كأنه في أعلاه حمام هدر:
ينمنم الخط لا يجتاب أحرفه ... والوشي مهما حكاها منه يجتاب(2/358)
إلى تصانيف في أكمامها ثمر ... تجنيه بالفهم دون الكف ألباب
ولم يزل على حاله إلى أن نزلت به دؤلول بنة الرقم، وأصبح كف الموت من شخصه ينتقم.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق في بكرة الأربعاء ثامن عشري شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
ومولده في ذي الحجة سنة ست وتسعين وست مئة.
وجمع كتاب " الأحكام " في ست مجلدات وجوده، وتناولته منه، وأجازني رواية ماله تسميعه بديوان الإنشاء في المحرم سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة بدمشق.
وكان قد أم بدار الحديث ثم بمسجد الكنيسة، ودرس بالقوصية، وأقام بحلب مدة، وتردد إليها مرات، ثم أقام بطرابلس مدة، وتوجه إلى صفد وأهلها على عطش، ومعه أشياء بخطه فأباعها بأوفر الأثمان، وتوجه إلى مصر مرات، وحضر سنة ست وثلاثين بين يدي السلطان الملك الناصر، وساعده القاضي شهاب الدين بن فضل الله، فولاه المدرسة الأمينية بدمشق عوضاً عن القاضي علاء الدين بن القلانسي، وحضر إلى دمشق على البريد، وذكر الدرس بها في رابع شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة، وحضره الأعيان. ثم إنه سعى وأخذ نظرها أيضاً من الخطيب بدر الدين، ومشت بذلك حاله قليلاً، وهو من وراء السعي والطلب.
ثم إنه سعى وتولى الحسبة بدمشق بعد موت القاضي عماد الدين الشيرازي في أيام سيف الدين أرغون شاه. وكتبت أنا توقيعاً له بذلك وهو " الحمد لله الذي زاد الدين بهاء بمحمده، وزان العلم الشريف بكل حبر جمل مغيبه حسن مشهده، وكمل الفضل بكل عالم يشهد من يومه مخائل الزيادة في غده.
فحمده على نعمه التي أعلت الرتب، ونفت الشبه وكشفت الريب، وكفت المؤونة في رفعة قدر من توكل على الله واحتسب.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً لا يدخل الشك إقرارها، ولا يمحو الإفك أنوارها، ولا يبهرج الحك دينارها.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ذو الخلق العظيم، والجود الذي اختص به وهو للخلق عميم، والفضل الذي أوتيه " من لدن حكيم عليم " صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اتبعوا أوامره، وسمعوا زواجره، ووضعوا على هامة الثريا مناقبه، ورفعوا على فرق الفرقد مفاخره. صلاة تشرف بحفظها كل جمع، وتشنف بلؤلؤ لفظها كل سمع، ما عم نظر في المصالح فأنعم، وملأ إناء الأنى قطر الإحسان فأفعم، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين وبعد: فإن النظر في مصالح الجمهور، والفكر في المنافع العامة الوافية الأجور من الأمور التي تتجمل بها الدول، وتفخر بها الأيام المختصة بمحاسنها على الليالي الأول، والنظر في أمر الحسبة الشريفة سلك ينخرط فيه هذا الجوهر الفاخر القيم، وملك تتنافس في ادخاره الأخلاق الطاهرة الشيم. كم باطل أقام به الحق منه الأود، وقوم الميل، وكم نجس أزاله به من الذراع والميزان والكيل، وكم غش أخرب الله به عشه في معايش النهار والليل، وكم زغل طهر به الكم فولى وقد شمر الذيل.
وكان الجناب العالي الشيخي البهائي ممن اشتهر فضله، ونزع في قوس الإحسان فأصاب الصواب نبله الذي أرسله نبله، وخدم العلم الشريف حتى عز في عصره أن يوجد في فنونه مثله، وتفرع عن أصل زكا فكان والده رحمه الله تعالى ليثاً وقد شب له منه شبله.
أما القراءات فباع صاحب القصيدة معه فيها قصير، ومسلك مصنف " التيسير " أصبح وهو عسير.
وأما العربية فأين صاحب " الجمل " من هذا التفصيل. وأين صاحب " الحجة " من هذا التعليل.
وأما الفقه فلو رآه الروياني علم أن بحره في حوضه قطره، ولو سمعه النووي لأطلع من كلامه بروضته في كل شطر سطر زهره.
وأما الأصول فالإمام يتأخر عن محراب فخره، والسيف لا يثبت له عند هزه.
وأما الخطابة فهو من فرسان منابرها، وأبطال محاربيها ومحابرها. كم أذاب حصاة قلب تحت منبره، وأذرى بها دمعاً إذا جرى تعثر في محجره.
وأما الكتابة فما فتح ابن البواب لغيره فيها بابا، ولا رفع ابن مقلة فيها لغيره أهدابا، فشهدة شهدت له بالحلاوة نصاً. وياقوت أصبح في خاتمه فصا، هذا إلى سياسة حلب بها أشطر الأمور، وعلم بها مصالح الجمهور، وملك بعرفانها أزمةً تسقط على حبها طير المصالح. ويصبح راجي العدل بها وميزانه راجح، وتصدق بتوخيها المنى والمناجح.(2/359)
فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني أن يرتب في الحسبة الشريفة بالشام المحروس، لأن هذا العقد بجيده لائق، وهذا التاج لا يعوقه عن مفرقه عائق، وهذا الميدان لا يجري معه فيه سابق ولا سائق.
فليباشر ذلك مباشرة من هذبته العلوم، وتدرب بالقواعد الشرعية فاستدل بالمنطوق على المفهوم، وساد بنفسه العصامية، فكان له من الرياسة سرب معلوم، وملك من السياسة ما يعرف به وجه الظالم من المظلوم، فقد وليناك هذه الوظيفة وأنت ملء قالبها، وعذقنا أمرها بك، وأنت أولى من قالبها وقال بها. فتمم نقصها بكمالك، ومش الناس فيها على أقوام المسالك. وأقم المهابة فإنها ترعى هؤلاء الرعاع، ومالك فيها إلا مذهب مالك، وافعل ما تقتضيه معرفتك من احتكار ومنع، وانخفاض سعر ورفع، وتحرير ما يخرج من دار الضرب من النقود وتصحيح العيار، فكم درهم ودينار هو في المعدوم معدوم، وقد يتغطى الزين بالرين ويشتبه الشيء الحسن بالشين، وضبط ما يمتد فيه باع الذراع، ويتحرك به لسان الميزان ويبتلعه فم الصاع، ومنع العطارين من بيع العقاقير الغريبة لمن هو مجهول، والأصناف التي لا يلتئم اجتماعها وريعها بالهلاك مأهول، وأهم ما عندك خبر الخبز فأمتع العيون ببدور رغفانه ووجوه لجين عجينه الذي تتلون في النار خدود عقيانه، وانظر في جليل أمره ودقيقه، وقف على مبتدأ حبه وخبز دقيقه. وانته إلى غاية أمره إذا خرج من النار المسعره، واقصد العدل كمن عمل معدلة وسعره، وغش البواطن فاستعن بالله على إزالته، وصلاح فساده وإحالته، لأن ما أمره مغيب يتوقف في أمره ويستراب، والداء القاتل أكثر ما يكون من الطعام والشراب. إلى غير ذلك مما يطول شرحه، ويضيق هذا المقام فلا يتوسع فيه سرحه. وأنت بتفصيل الوصايا جد بصير ولو قيل لك قليل كان عندك منه علم كثير.
وتقوى الله تعالى حلية لكل راع، وزينة لكل فاضل انعقد عليه الإجماع. فلتكن عين جمالك وحاجب جلالك، والله يوفق مسعاك. ويحفظك ويرعاك.
والخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه حجة في ثبوت العمل بمقتضاه. والله الموفق بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
ثم إنه أقام في الحسبة إلى أن وصل القاضي عماد الدين بن الفرفور على الوظيفة في أوائل سنة إحدى وخمسين، فتوجه ابن إمام المشهد إلى الديار المصرية، ومعه زوجته الحموية، وكان قد غرم عليها جملةً إلى أن مات ما يقارب المئتي ألف درهم.
وأنشد بدر الدين حسن بن علي الغزي فيه، واشتهر بذلك عنه في الشام ومصر:
قلت لما سار البهاء لمصر ... وسرى نحوها بعرس ظريفه
أنت لا شك أن تعود ولكن ... لا بها يا بها ولا بالوظيفه
فتوصل هناك إلى أن وصل للأمير سيف الدين شيخو، وسعى، وتولى الوظيفة ثانياً، ثم أخذت منه للقاضي جمال الدين الفاقوسي في أيام الأمير سيف الدين أيتمش، ثم إنه سعى وأخذها، ولما حضر الأمير سيف الدين أرغون الكاملي إلى دمشق أخذها منه وأعطاها للقاضي بدر الدين ابن وهيبة قاضي بعلبك، فأقام بها قليلاً، ولم تمض الولاية من مصر وأعيدت إليه.
ولم يزل فيها إلى أن مرض مرضة طويلة قريباً من سنة إلى أن مات في التاريخ. وكان بيده أيضاً خطابة جامع العقيبة.
وأنشدني له إجازة:
ولولا ما أخاف من الأعادي ... وأن حديثنا فيهم يسير
جننت بكم كما مجنون ليلى ... وإن طال المدى فكذا نصير
وأنشدني له في ناعورة:
كنت في دوحة الرياض مهنا ... أنهل الطل بين تلك الغصون
فلنوح الحمام فوقي طويلاً ... غرقتني كما تراني عيوني
قلت: تقدم لي في ترجمة القاضي شهاب الدين بن فضل الله، وله عدة مقاطيع في الناعورة، ومما قلته أنا فيما يشبه هذا...
وأنشدني ابن إمام المشهد له إجازة:
أنتم بلائي وأصل بلبالي ... وغيركم ما يمر في بالي
يا جيرة في الغوير قد نزلوا ... لله من جيرة ونزال
ما عطل الطرف بعد بعدكم ... عن دمعه واسألوا عن الحال
فلو زعمتم أني سلوتكم ... ويعلم الله أينا السالي
لا تتلفوا مهجة لكم خلقت ... فقد نهي عن إضاعة المال
قلت: أحسن ما رأيت في هذه المادة، أعني البيت الرابع قول السراج الوراق رحمه الله تعالى، ومن خطه نقلت:(2/360)
قال صديقي ولم يعدني ... وعارض السقم في أثر
لقد تغيرت يا صديقي ... ويعلم الله من تغير
محمد بن علي بن أيبك
الشيخ المحدث الإمام شمس الدين أبو عبد الله السروجي.
عرض القرآن وهو ابن تسع سنين، وارتحل إلى حلب ودمشق وغيرهما من البلاد الشامية مرات، وأخذ عن الشيخ فتح الدين بن سيد الناس ومن عاصره من أشياخ العلم، وصار من الحفاظ، أتقن المتون وأسماء الرجال وطبقات الناس والوقائع والحوادث، وضبط الوفيات والمواليد.
ومال إلى فن الأدب، وحفظ من الشعر القديم والمحدث جملة، وكتب الطباق والأجزاء، وحصل ما يرويه عن أهل عصره في البلاد التي ارتحل إليها. ولم أر بعد شيخنا الحافظ أبي الفتح من يقرأ أسرع منه ولا أفصح، وسألته عن أشياء من تراجم الناس ووفياتهم وأعصارهم وتصانيفهم، فوجدته حفظة لا يغيب عنه ما حصله، وهذا الذي رأيته منه في هذه السن القريبة كبير على من غلب سنه من كبار العلماء، ومع ذلك فله ذوق الأدباء وفهم الشعراء، وخفة روح الظرفاء. وكان قد خرج لنفسه تسعين حديثاً متباينة الإسناد. قال شيخنا الذهبي: سمعناها منه، ثم إنه كملها مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى بحلب ثامن شهر ربيع الأول سنة أربع وأربعين وسبع ومئة، ودفن ثاني يوم الجمعة بكرة.
وسألته عن مولده فقال: في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة.
محمد بن علي بن محمد
ابن علي بن عبد الله بن محمد بن يوسف بن محمد بن قطرال الأنصاري الخزرجي الحارثي، القرطبي الأصل، ثم المراكشي.
كان رجلاً فاضلاً صالحاً له نظم ونثر، وعنده صلاح وانقطاع وديانة. سمع كثيراً بالمغرب، ودخل مصر والشام، وسمع، وحج غير مرة، وجاور.
وتوفي رحمه الله تعالى بمكة برباط الجزري عند باب إبراهيم عليه السلام في رابع جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة، غسل ثوبه وطلع إلى سطح الرباط لينشره فوقع من أعلاه فمات، ودفن بباب المعلى.
ومولده سنة خمس وخمسين وست مئة.
محمد بن علي بن أبي طالب
ابن أبي عبد الله، الشريف شمس الدين بن الشريف علاء الدين الحسيني الموسوي العطار المعروف بالشريف عطوف.
كان يروي صحيح مسلم عن المشايخ الاثني عشر. وسمع من جده لأمه محمد بن أبي بكر النيسابوري، وسمع من ابن مسلمة، وسمع جزء الأنصاري من المشايخ الأربعة والأربعين مجتمعين، وحدث.
وله إجازات من بغداد سنة إحدى وثلاثين وست مئة. أجازه ابن القطيعي، ونصر بن عبد الرزاق، وابن اللتي، وابن روزبة، وزهره بنت حاضر وجماعة. وأجازه بمصر أبو الخطاب بن دحية، ومرتضى، وابن الصفراوي. ومن دمشق ابن الشيرازي، وابن ماسويه، والفخر الإربلي، وابن صباح، ومكرم.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في خامس جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة.
محمد بن علي بن عبد الكريم
الشيخ الإمام العلامة ذو الفنون أقضى القضاة، فخر الدين، أبو الفضائل وأبو عبد الله المصري الشافعي الأشعري المعروف بابن كاتب قطلوبك. تقدم ذكر والده في مكانه.
قرأ القرآن على جماعة منهم الشيخ موسى العجمي. وقرأ العربية والفقه أولاً على الشيخ كمال الدين بن قاضي شبهه، ثم قرأ الفقه على الشيخ برهان الدين ابن الشيخ تاج الدين، وقرأ بقية العلوم على الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وهو أكثرهم إفادة له، وكان معجباً به وبذهنه وبحافظته، يشير إليه في المحافل والدروس وينوه بقدره ويثني عليه، ونزل له عن تدريس العادلية الصغيرة. وقرأ على الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وبحث على الشيخ مجد الدين التونسي، وعلى الشيخ نجم الدين القحفازي. كتاب " المقرب " في النحو، وحفظ " الجزولية " ، وبحث منها جانباً على شيخنا نجم الدين الخطيب وقرأ الجست على النعمان، والمنطق على جماعة أشهرهم الشيخ رضي الدين المنطقي، وعلى الشيخ علاء الدين القونوي بمصر. وحفظ " التنبيه " و " المنتخب " في أصول الفقه، وحفظ " مختصر " ابن الحاجب في مدة تسعة عشر يوماً، وهذا أمر عجيب باهر إلى الغاية، فإن ألفاظ " المختصر " غلقة عقدة ما يرتسم معناها في الذهن ليساعد على الحفظ، وحفظ " المحصل " في أصول الدين وهو قريب من ألفاظ " المختصر " وحفظ " المنتقى " في الأحكام، وقال: أحفظ منه في كل يوم خمس مئة سطر. وشرع في حفظ أشياء لم تكمل مثل " مطلع النيرين " و " المنهاج " للنووي، و " تصريف " ابن الحاجب.(2/361)
وأذن له بالإفتاء وعمره ست وعشرون سنة، وولي تدريس العادلية الصغيرة في سنة خمس وعشرين وسبع مئة، وفيها أذن له بالإفتاء، ولما توفي شيخنا الشيخ برهان الدين ابن الشيخ تاج الدين جلس بعده بالجامع الأموي وحلقة الإشغال في المذهب عند الرخامة، وتأدب مع شيخه، فأخلى مكانه وجلس إلى جانب منها.
وأنشدني شيخنا العلامة مفتي الإسلام وشيخهم قاضي القضاء تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يذكر أول من جلس إلى هذه الرخامة إلى آخر وقت من المصدرين. للإشغال، ومن خطه نقلت وهو:
الجامع المعمور فيه رخامة ... يأوي لها من للفضائل يطلب
الشيخ فخر الدين ابن عساكر ... والشيخ عز الدين عنه ينسب
والشيخ تاج الدين نجل فزارة ... عنه تلقاها يفيد ويدأب
ثم ابنه أكرم به من سيد ... ورع له كل المنابر تخطب
وتلاه فخر الدين واحد مصره ... بذكائه كالنار حين تلهب
وابني يليهم زادهم رب السما ... علماً وفهماً ليس فيه ينصب
وأقدم من سمع عليه الحديث هدبة بنت عسكر، وأحمد بن مشرف.
وحج إلى أن مات تسع حجات فيما أظن أو ثمانية، وجاور في بعضها مرات بمكة والمدينة.
وكان رحمه الله تعالى في الذكاء والحفظ أعجوبه، لم يكن في زمانه من يلحق أسلوبه، قد صار الفقه والأصول له طباعا، ونقل فروع المذهب هوى مطاعا، متى دعاه لباه وجاءه مسرعاً ولا يأباه، فلو رآه أبو ثور لزم التسلسل في التعجب أو الدور، وما قال بتقديم الوصية على الدين، وهو في المذهب أغرب من بياض غراب البين، أو الزعفراني لخلق ثيابه بها فرحا، وفتح دربه ببغداد مرحا، أو عاصره المزني لغرق في قطره وتحقق أن الفخر لمصره، أو ابن سريج لعلم أنه لم يكن من خيل هذه الحلبة، ووصى للماوردي أن يكون صاحب الثناء عليه ونبه. وما أحقه بقول الأرجاني:
غبرت في غرر الذين تقدموا ... في الدهر من أهل الفضائل والعلا
وسبقتهم ولرب آخر حلبة ... بسط العنان له فصار الأولا
وكان يتجر ويقتني الأصناف ويدخر إلى أن ثور نعمة طائله، وحصل جملة هائله، إلا أنه كان يخرج الزكاه. أخبرني بذلك من صدقته لما حكاه.
ولم يزل على حاله إلى أن نزلت بشهاب حياته شعوب، ولبست الدنيا من الأصيل عليه ثوب شحوب.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وصلي عليه الظهر بالجامع الأموي، ودفن في مقابر الباب الصغير، وكانت جنازته حافلة. وتوفي بدمشق بداره بالعادلية الصغيرة بعد مرضة طويلة عوفي منها ثم انتكس.
وسألته عن مولده فقال: في سنة إحدى وتسعين وست مئة.
واجتمعت به غير مرة. وكان ظريفاً ولطيفا، وكان قد حج بعض حجاته وجاور، ولما حضر كتبت له توقيعاً بإعادة نظر الدولعية وتدريسها إليه، وهو: " رسم بالأمر العالي أعلاه تعالى، لا زال يرتفع به العلم الشريف إلى فخره، ويعيده إلى خير حبر تقبس الفوائد من نوره وتغترف من بحره ويجمل الزمان بمن هو علم عصره وفخر مصره أن يعاد المجلس العالي القضائي الشيخي الفخري إلى كذا وكذا، وضعاً للشيء في محله، ورفعاً للوبل على طله، ودفعاً لسيف النظر إلى يد هي مألف هزه وسله، ومنعاً لشعب مكة أن ينزله غير أهله، إذ هو لأصحاب الشافعي رضي الله عنه حجه، ولبحر مذهبه الزاخر لجه، ولأهل فضله الذين يقطعون مفاوزه بالسرى صبح وبالمسير محجه، طالما ناظر الأقران فعدلهم، وجادل الخصوم في حومة البحث فجد لهم وجدلهم. كم قطع الشبهات بحجج لا يعرفها السيف، وأتى بوجه ما رأى الروياني أحلى منه في أحلام الطيف، ودخل باب علم فتحه القفال لطالب " نهاية المطلب " التبري، وارتوى من معين ورد عين حياته الخضري. وتمسك بفروع صح سبكها فقال ابن الحداد: هذا هو الذهب المصري، وأوضح المغالط بما نسف به جبال النسفي، وروى أقوال أصحاب المذهب بحافظة يتمناها الحافظ السلفي.(2/362)
كما جاور بين زمزم والمقام، وألقى عصا سفره لما رحل الحجيج وأقام، وكم طاب له القرار بطيبه. وعطر بالإذخر والجليل ردنه وجيبه. وكم استروح بظل نخلها والسمرات. وتملى بمشاهد الحجرة الشريفة، وغيره يسفح على قرب تربها العبرات، وكم كتب له بالوصول وصول، وبث شكواه فلم يكن بينه وبين الرسول رسول، لا جرم إنه عاد وقد زاد وقارا، وآب بعد ما غاب ليلاً فتوضح شيبه نهارا.
فليباشر ما فوض إليه جرياً على ما ألف من إفادته، وعهد من رياسته لهذا العصابة وسيادته، وعرف من زيادة يومه على أمسه، فكانت كنيل بلاده، لا يتعجب من زيادته، حتى يحيي بدرسه ما درس، ويثمر عود الفروع، فهو الذي أنبته بهذه المدرسة وغرس، مجتهداً في نظر وقفها، معتمداً على تتبع ورقات حسابها وصحفها، عاملاً بشروط الواقف فيما شرط، قابضاً ما قبضه باسطاً ما بسط، وتقوى الله جنة يرتع فيها خاطره، ويسرح في رياضها الناضرة ناظره. ومثله لا ينبه عليها. ولا يومأ له بالإشارات إليها، فلا ينزع ما لبس من حلاها، ولا يسر في مهمه فهمإلا بسناها. والله يديم فوائده لأهل العلم الشريف، ويجدد له سعداً يشكر منه التالد والطريف.
والخط الكريم أعلاه حجة بثبوت مقتضاه، إن شاء الله تعالى " .
وكان قاضي القضاة جلال الدين القزويني قد استنابه واستناب جمال الدين يوسف بن جملة، واستمرا على ذلك، ولما جاء القاضي علاء الدين القونوي باشر النيابة في أيامه، ثم إن القاضي فخر الدين استعفى في شهر شوال سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وكان يعتكف في بعض السنين في شهر رمضان بمقصورة الخطابة رحمه الله تعالى.
محمد بن علي بن محمود
ابن الدقوقي البغدادي المعمر.
توفي رحمه الله تعالى ببغداد في سنة أربعين وسبع مئة عن خمس وسبعين سنة.
سمع من ابن أبي الدينة " مسند " الإمام أحمد، وحدث عن أبي محمد بن ورخز.
محمد بن علي بن حرمي
الشيخ الإمام الفاضل الفرضي المحدث عماد الدين أبو عبد الله الدمياطي.
سمع من الدمياطي، والأبرقوهي، وبنت الإسعردي وطائفة بمصر، وبدمشق من الموازيني، وابن مشرف. وسمع بقراءتي " المقامات الحريرية " وغيرها على شيخنا العلامة أثير الدين، وعلق عني أشياء.
وكان حلو المحادثة، كثير التودد، غزير المحاسن، وله خصوصية زائدة عن الحد بقاضي القضاة عز الدين بن جماعة، ولي مشيخة الكاملية.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة بطاعون مصر.
محمد بن علي بن أحمد
ابن عبد الواحد بن أحمد، الشيخ شمس الدين أبو عبد الله، ابن الشيخ الإمام المسند فخر الدين أبي الحسن الصالحي الحنبلي، المعروف بابن البخاري.
سمع من إبراهيم بن خليل، وعبد الله الخشوعي، وعلي بن إسماعيل بن إبراهيم بن طلحة المقدسي، وابن عبد الدائم، وغيرهم.
وأجاز له جماعة من بغداد منهم إبراهيم الرعيني، ومحمد بن الحصري وهما من أصحاب ابن شاتيل. وسافر إلى العراق بسبب الأسرى، وحدث بدمشق والقاهرة، وكان شيخ الحديث بالمدرسة الضيائية، وليها بعد موت سعد الدين سعد، وخرج له ابن المحب جزءاً من عواليه فيه خمسة عشر شيخاً بالسماع.
وكان فيه همة وشجاعة وقوة نفس وكرم، وعنده عبادة وقيام ليل.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
محمد بن علي بن أبي القاسم
المقرئ الإمام الكبير، بقية السلف، أبو عبد الله الموصلي الحنبلي ابن خروف، ويعرف بابن الوراق.
ارتحل إلى بغداد في طلب العلم سنة اثنتين وستين وست مئة، وتلا بعدة كتب على الشيخ عبد الصمد، وسمع من جماعة، وقرأ كتباً كباراً، وقرأ " تفسير الكواشي " على المصنف و " جامع أبي عيسى " على ابن العجمي.
قال شيخنا الذهبي: قدم علينا وسمعنا منه.
وتوفي رحمه الله تعالى بالموصل في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة أربعين وست مئة.
محمد بن علي بن مخلوف بن ناهض
قاضي القضاء محيي الدين ابن قاضي القضاة زين الدين المالكي.
كان مشكور السيرة عاقلاً ديناً كثير السكون، يفضله الناس على والده، وناب عن والده مدة في الحكم.
وتوفي رحمه الله تعالى حادي عشر ذي الحجة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وكان من أبناء الأربعين. وقد تقدم ذكر والده.
محمد بن علي(2/363)
الكاتب المجود البارع أمين الدين ابن المهتار الصفدي، كان يعرف عند بعض الناس بدرويش، بفتح الدال المهملة وسكون الراء وكسر الواو وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة، وشين معجمة.
كتب المنسوب الفائق، وأبرزه للعيون في المنظر اللائق الرائق، ووضع سطوره في طروسه فحكى نظرات الأحداث ونضارة الحدائق، وفاق كتاب العصر، إلا أن خطه كان لحظه من أكبر العوائق، لم أر ولا غيري مثل الصفاء الذي كان في خطه في سائر الأقلام، والقوة التي يشهد بها أرباب العلوم والأعلام، والتحرير الذي لم تشاهد العيون مثله في اليقظة والأحلام، فيا لها من كتابة:
ذهبت كما ذهبت بساطع نورها ... شمس النهار وأعقب الإظلام
مولده تقريباً في سنة سبع وسبع مئة.
وأظن وفاته كانت بالقاهرة في طاعون مصر، سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وكان والده ركابياً عند الأمير علاء الدين أقطوان أمير حاجب بصفد، ونشأ هو بصفد ويده قابلة يكتب خطاً قوياً إلى الغاية، لكن خطه غير منسوب، فنزل إلى دمشق، ونزل عند الشيخ العلامة كمال الدين بن الزملكاني بواباً في المدرسة الرواحية، فحنا عليه لحسن كتابته.
وكتب على الأشياخ المجودين، ومهر، ثم عاد إلى صفد، وأقام قليلاً، ثم توجه إلى بغداد، وكتب هناك على طريقة ياقوت المستعصي، وجود النسخ الفضاح، ثم إنه دخل إلى الهند ولبس زي الفقراء، وجاء إلى اليمن، ثم قدم إلى القاهرة، فرأيته بها في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ثم عدت رأيته بها في سنة ست وثلاثين إلى سنة تسع وثلاثين. وقد اتصل بالقاضي الرئيس ضياء الدين بن الخطيب، وقد أحبه وحنا عليه وجعله نائبه في الفروع من الحسبة، ثم إني رأيته بدمشق سنة ست وأربعين وسبع مئة، وعاد منها إلى الديار المصرية، وكان ذلك آخر عهدي به.
وكان ينظم متوسطاً، إلا أنه كان منحرف المزاج، في أخلاقه زعارة، وعنده طيش، وفيه سلس، فكان ذلك سبب تأخيره وعدم تقدمه.
كتب إلي في أول شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبع مئة وأنا بالقاهرة:
تصوم بخير في سرور وغبطة ... وضدك في عكس القضية خامل
وحكمك ماض في البرية نافذ ... وأمرك في أقصى الأقاليم واصل
لأنت صلاح الدين أفضل من وشى ... وأنشا إذا التفت عليه المحافل
وكنت قد كتبت إلى القاضي علاء الدين بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء الشريف قصيدة على وزن قصيدة ابن بابك التي أولها:
علقته أسود العينين والشعره
ولهج بها المصريون، ونظم جماعة كثيرة على وزنها، فكتب هو إلي في ذلك الوزن، والجميع هو في الجزء الرابع والعشرين من " التذكرة " :
سرت نسيم الصبار في روضة حبره ... فرنحتنا بأنفاس لها عطره
وغنت الورق في الأغصان من طرب ... على رياض ببانات الحمى عطره
وزمجر الرعد في أكناف سارية ... وأومض البرق عاينا إذاً مطره
وصفق الماء في الغدران من فرح ... والغصن أهدى لنا يا صاحبي ثمره
ونحن في مجلس اللذات نكرعها ... من كل صافية صفراء معتصره
ونغمة الشيزفي راحات غانية ... أغنت بمبسمها عن أن ترى قمره
وحسن ساق سقى صرفاً فأسكرني ... فما رأيت له عيناً ولا أثره
دع عنك ذلك وانظر في فضائله ... وافت وحقك في المنظوم منتثره
صلاح ديوان إنشاء الشام به ... فما على الحق ما محمود من غبره
قدمته وفق أبيات نظرت لها ... فما تلعثمت أن وافيت بالعشره
وكتب إلي كثيراً، وهذا القدر يكفي من أنموذجه.
محمد بن علي بن حسن
الأمير ناصر الدين ابن الأمير علاء الدين بن المرواني.
كان هذا الأمير ناصر الدين أحد أمراء العشرات، ولما كان والده والي القاهرة كان هو والي مصر، ولما توفي والده توفي السلطان الملك الناصر محمد حضر هو إلى الشام، وتعكس، وتوجه إلى حلب، ثم إنه عاد مع الأمير يلبغا اليحيوي لما حضر إلى دمشق نائباً، فولاه بر دمشق، وأقام به مدة، ثم انفصل وبقي بطالاً مدة.
ثم إنه تولى بيروت وأقام به مدة، ثم إنه حضر إلى دمشق وأقام مديدة.(2/364)
وتوفي رحمه الله تعالى، وكان فيه حشمة وخدمة للناس ورعاية وتودد، وتولى ولاية المدينة بدمشق أيضاً وكانت وفاته في ...
محمد بن علي بن محمد
الفاضل الأديب المنجم شمس الدين أبو عبد الله، المصري مولداً الغزي منشأ، المعروف بابن أبي طرطور.
أقام بغزة مدة، وكابد فيها من الإقلال شدة. وورد إلى دمشق وسكنها، وأزاح بآدابه لكنها. وكان يجتمع بالصاحب شمس الدين وبناصر الدين الدوادار. وكلف به ناصر الدين، لأنه على مثله طوف وسعى ودار. وامتزج برؤساء الشام، حصل على مراده لما انتجع برقهم وشام، ثم توجه إلى حماة أيام الملك الأفضل، فصانه وحماه.
وأنزله من جوده الغامر في ربعه العامر وحماه، فأجرى عليه راتباً يكفيه، ولم يدع نوعاً من البر إلا ويجزل قسمه منه ويوفيه. فتخيرها مقاما، وشفى من داء فقره سقاما. وغرد بمدائحه لما أصبح بإحسانه وهو مطوق، وناضل الفقر بسهامه فأصاب مقاتله لما سددها إليه وفوق. ولما مات الأفضل رحمه الله تعالى لم يتخذ غير حماة سكنا، وألفه أهلها وألفهم، فصرح بشكرهم وكنى.
وكان يعرف النجامة، ويقول لمن سأله منها النجامه؟ ويعرف ما يتعلق بالإسطرلاب، ويتكلم على ما فيه من بروج الاستواء والانقلاب، وكتب الخط الفائق ورقا فيه درجاً، يعز على غيره أن ينال ما فيها من الدقائق. ونظم فنوناً من الشعر وغيره. وأمال الأعطاف بأسجاع طيره.
ولم يزل على حاله بحماة إلى أن أصابه الحمام بسهم رماه، فأصبح الغزي مغزوا، ووجوده إلى العدم معزوا.
وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأواخر من ذي القعدة في سابع عشر سنة إحدى وستين وسبع مئة.
ومولده في سنة خمس وثمانين وست مئة.
ووجد في بيته بخان الخطيب بحماة، وهو سكنه، ميتاً بعد ثلاثة أيام وهو جالس، ووجد له خمسة وسبعون ديناراً مصرية هرجة، وثلاث مئة درهم، وقماش بدنه بيع بخمس مئة درهم، وكتبه مجلدات بيعت بست مئة درهم.
واجتمعت به غير مرة بالقاهرة ودمشق وصفد وحماة، وكان خفيفاً على القلوب حسن العشرة، كثير النادرة، حلو التنديب، قد برته الأيام في صحبة الناس ومخالطة الأكياس. وكان حسن الشكل ظريف الملبس يتأنق في مأكله ومشاربه، ولكنه ما كان يجلس في بيته إلا وحوله عفاش كثير من الزبادي والأواني، وكان يطبخ قدامه، فلهذا كان كثير العفاش. وأما محاضرته فلا تمل، وكانت له بديهة عظيمة وعنده جرأة وقوة عين زائدة، مع النظم الحلو والكتابة الحسنة. وما أحقه بقول الشريف الرضي في ابن حجاج رحمهم الله تعالى أجمعين وهي:
وما كنت أحسب أن الزما ... ن يغل مضارب ذاك اللسان
ليبك الزمان طويلاً علي ... ك فقد كنت خفة روح الزمان
أنشدته لنفسي بصفد سنة أربع وثلاثين وسبع مئة:
يا حسنه رشأ تخلى الليث عن ... وثباته وثباته في حربه
تروي السقام جفونه عن خصره ... عن عهده وعن الصبا عن صبه
فأنشدني هو رحمه الله تعالى لنفسه:
بأبي غزال غزل هدب جفونه ... يكسو الضنا صباً أذيب بصده
يروى حديث السقم جسم محبه ... عن جفنه عن خصره عن عهده
وأنشدني هو لنفسه رحمه الله تعالى في التاريخ:
مر في الفستقي يجلو علينا ... طلعة حلوة الرضاب شهيه
قلت: من للفقير لو ذاق في السط ... لة من ذي الحلاوة الفستقيه
فأنشدت أنا لنفسي:
في فستقي اللون لما بدا ... يميس مثل الغصن المورق
من وقد مر على صبه ... وما ألذ المن بالفستق
وأنشدته أيضاً لنفسي:
لما بدا في الفستقي معذبي ... ناديت من وجدي وفرط تحرقي
كانت لوجهك في الفؤاد حلاوة ... كملت لذتها بهذا الفستقي
وأنشدته أنا لنفسي أيضاً:
لا تقيسوا إلى الحمامة حزني ... إن فضلي تدري به العشاق
أنا أملي الغرام عن ظهر قلب ... وهي تملي وحولها الأوراق
فأنشدني هو لنفسه رحمه الله تعالى:
أتشكى مع البعاد إليكم ... برقيق العتاب فرط اشتياقي
وكأني الورقاء من فرقة الإل ... ف تلهت بالسجع في الأوراق
وكتب هو إلي وقد قدمت إلى حماة لتلقي النائب الجديد لحلب في المحرم سنة ستين وسبع مئة:(2/365)
مملكة الشهبا على الشهب علت ... فاستبشرت بالخير والفلاح
لما شكت سراً فساد حالها ... أعانها السلطان بالصلاح
يقبل الأرض التي ابتهلت أول أمرها بعلو قدرها، وابتهجت في سرها بمقدم كاتب سرها، فلله درها دولة اقتضت آراؤها الشريفة لمملكتها الحلبية بمن صانها وزانها، وارتضت آلاؤها المنيفة من أصلح شانها الذي شانها، فجانست أوامرها العالية بين مقام أعلم خليل، وبين مقام أكرم خليل، وآنسته رشدا بتقدم فاضل زمانه، وإن كان اللائق بالتقديم والتفضيل، فأقرت عيناً بآيات الفضائل السجية الصلاحية، وأقرت وألقت في ساحتها من ساعتها عصاها واستقرت، ومدت وارف ظلها عليها الرياسة والسيادة فما ساءت حين سرت. وينهي أن المملوك ممن سرته هذه البشرى التي ردت شوارد الأدب بعد مفرها إلى مقرها، وأسبغت ظلالها على سر الصناعتين بعد هجير هجرها، فلقد دلت على الهدى، وجلت صدأ الصدا بأنوارها وأنوائها، وجلت في حلبة المعالي على أبلقها وشقرائها بشهبائها، فلله الحمد على منة لا ترد إلا منه، وله الشكر على نعمة لا تصد إلا عنه.
زنتم رغم الحسود محلها ... كنتم أحق بها وكنتم أهلها
والقصد أن مولانا يعفي خطأها وخطلها، ويسامح بحلمه جهلها، ويسبل عليها ستر معروفه لأنه مالك الحل والعقد، وإليه مرجع النقل والنقد، لا زال جابراً بقبوله وإقباله، ساتراً بخلاله الكريمة ما خفي عن المملوك من إخلاله بمحمد وآله إن شاء الله تعالى.
محمد بن علي بن عبد الواحد
ابن يحيى بن عبد الرحيم، الشيخ الإمام العالم الفاضل المفسر المحدث شمس الدين أبو أمامة الدكالي، بالدال المهملة المضمومة وكاف بعدها ألف ولام وياء النسبة، ودكال: قلعة بالمغرب، المعروف بابن النقاش.
كان شكلاً حسنا، راق سناء وسنا، حلو الصورة والشكالة، يريح بمحاضرته ألم من شكا له، يستحضر من التفسير كثيراً، ويحل من غرائبه محلاً أثيراً. وكانت طريقه في التفسير غريبة، يأتي فيها بكل عجيبة، ما رأيت له في ذلك نظيراً، ولا توهمت أن غيره من أبناء جنسه يكون على ما يأتي به قديرا. حصل من الدنيا جانبا، وأكب على السعي فيها فما كل اجتهاده ولا نبا. وكان يدخل إلى الملك الناصر حسن، وقاده الله إليه بغير رسن، وعمل على شيخه قطب الدين الهرماس، فأبعده عنه حتى كأنه ما خطر بين يديه ولا ماس. وكان يصحب أمراء الدولة، حتى صار له في كل جو جولة. فنال مرامه وتعدى أقرانه، وتجاوز الغاية في علو المكانة.
يكاد من صحة العزيمة ما ... يفعل قبل الفعال ينفعل
ولم يزل على حاله إلى أن محيت من الحياة سكة ابن النقاش، وتلقاها الدهر بعد البشر بالتقطيب والإيحاش.
وجاء الخبر إلى دمشق بوفاته في القاهرة في أواخر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
وكنت سألته عن مولده فقال: في نصف شهر رجب سنة عشرين وسبع مئة.
أخبرني أنه قرأ القرآن على الشيخ برهان الدين الرشيدي كاملاً، وقرأ العربية عليه وعلى الشيخ محب الدين أبي عبد الله بن الصائع الأندلسي، وعلى العلامة أثير الدين، قال: وقرأت " ألفية ابن مالك " على ابن معاوية، وسمعت في شرح " التسهيل " وغيره على أثير الدين، قال: وحفظت " الحاوي " في الفقه، وأنا أول من حفظه بالقاهرة، و " منهاج الأصول " للبيضاوي على العلامة قاضي القضاء تقي الدين السبكي وعلى الشيخ شهاب الدين الأنصاري وعلى غيرهما، قال: وعلقت مثلاً على " التسهيل " ، وقرأت " العمدة في الأحكام " وألفت " شرحاً " لها يجيء في ثماني مجلدات، قال: وألفت كتاباً سميته " كاشف الغمة عن شافعية الأمة في أحاديث الرافعي " قال: وسميته " توضح الألفية وإلحاقها بالجرجانية " ، وكتاب " النظائر وفروق المذهب " و " تفسير آيات وسور " .(2/366)
وكان قد قدم إلى دمشق، واجتمعت به في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وسبع مئة، ونزل لما جاء إلى دمشق عند العلامة قاضي القضاء تقي الدين السبكي، وكانت بينه وبين النائب علاء الدين أمير علي المادريني نائب الشام معرفة من مصر، فأكرمه وأقبل عليه وأحسن رعايته، وتوجه إلى حماة لمعرفة بينه وبين الأمير سيف الدين طازيرق نائب حماة، وقامت له سوق بدمشق، ورزق منها الحظ والحظوة، وعمل مجلساً بالجامع الأموي في التفسير، وتكلم فيها كلاماً كثيراً، واستحضر أحكاماً وأقوالاً ومذاهب ورقائق وتصوفاً بجنان ثابت ولسان فصيح من غير توقف، ووسع فيه المجال، وأبدع فيه الجمال، ولما فرغ منه كتبت أنا إليه:
أتينا المجلس حبر الورى ... فسر القلوب بما فسرا
وحرك أعطافنا نشوة ... ولا تسأل عما جرى
فشبهتها بغصون سمت ... وشبهته بنسيم سرى
وأنشدني من لفظه لنفسه يمدح قاضي القضاة تقي الدين السبكي لما كان بالقاهرة:
طرقت وقد نامت عيون الحسد ... وتوارت الرقباء غير الغرقد
والعسكر الزنجي رمح سماكه ... قان وعضب الفجر لم يتجرد
والليل قد نشرت غلائل مسكه ... لما طوى الإمساء حلة عسجد
وسرى يجر على المجرة ذيله ... إذ طوقت من شهبها بمقلد
ربعية حلت بأكناف الحشا ... ودموعها بين النقا والأنجد
غراء يفضح خدها ولحاظها ... مرأى الغرالة والغزال الأغيد
خلصت إلي ودون ربعي حاجز ... من سيل أجفاني ونار توقدي
وأتت ولم تضرب لوصل موعدا ... أحلى المنى ما لم يكن عن موعد
تهفو بمعطفها الشمول كما هفت ... أيدي الشمائل بالقضيب الأملد
أرجت بقاع الرقمتين وشعبها ... وتشرفت أعلام ذاك المعهد
شرف المجالس شيخنا علم الفخا ... ر الأوحدي الألمعي الأمجدي
ياقوت سلك البحر أحكم نظمه ... فالدر بين مرصع ومنضد
عين السيادة حل منها رتبة ... كيوان يرصدها بعين الأرمد
وهي طويلة وقد أوردتها في ترجمته في " تاريخي الكبير " .
وكتبت أنا إليه ملغزاً في فيل، وهو:
يا إمام الأنام في كل علم ... وإليه الورى ترى منتهاه
وهو شمس التحقيق في كل فن ... وسواه يكون فيه سهاه
أيما اسم تركيبه من ثلاث ... وهو ذو أربع تعالى الإله
حيوان والقلب منه نبات ... لم يكن عند جوعه يرعاه
فيك تصحيفه ولكن إذا ما ... رمت عكساً يكون لي ثلثاه
فأبنه لا زلت في ظل سعد ... ما تملى طرف بطيب كراه
فكت هو الجواب عن ذلك:
يا إماماً قد حاز علماً وفضلاً ... وسمواً على الورى بنداه
وهو للدين والعلوم صلاح ... جل رب بكل حسن حباه
إن لغزاً أبدعت فيه لعمري ... يقصر الفهم عن بلوغ مداه
قلبه بالعراق في النخل باد ... وهو بالهند كل عين تراه
ما أحب الشطرنج إلا بدا لي ... منه خصم داع لحربي أخاه
هو عني باد فإنه راح منه ... آخر عدت جهراً أراه
دمت لي مهديا جواهر علم ... لك كل الورى ترى منتهاه
محمد بن علي بن عبد الرحيم
الشيخ علم الدين بن بهاء الدين بن الإمام محيي الدين، عرف بابن الدميري.
أجاز لي رحمه الله تعالى في سنة...
ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة بدار الزعفران بزقاق القناديل بمصر.
وتوفي رحمه الله تعالى...
محمد بن علي
الأمير ناصر الدين بن الأمير علاء الدين بن الفراء.
كان والده علاء الدين بن الفراء أمير طبلخاناه، وهو مقدم البريدية، وكان هذا ناصر الدين ولده أمير عشرة بدمشق، وكان صورة جميلة ظريفاً لطيفاً، فيه حياء وحشمة، وفيه كرم وهمة.
ولم يزل حاله يقوم في ديونه ويقع إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وسبع مئة، وقد تقدم ذكر والده في حرف العين مكانه.
محمد بن عمر بن أبي بكر البانياسي(2/367)
كان شاباً ذكياً متيقظاً، قرأ القراءات وبرع فيها، وقرأ الفقه والعربية والأصول، وأفاء في القراءات، وله نظم.
ومات سنة تسع وتسعين وست مئة.
محمد بن عمر بن عبد الله بن عمر
الخطيب الأمين الصالح الفاضل موفق الدين عبد الله ابن الخطيب الزاهد نجيب الدين الخطيب بقرية بيت الآبار وابن خطبائها، وهو أخو علاء الدين علي بن عمر المقدم ذكره في حرف العين مكانه، بينهما في الوفاة أربعة أيام.
سمع الخطيب موفق الدين من الضياء يوسف، والموفق محمد. وحدث وحج غير مرة. وروى بالعلا وبدر من منازل الحجيج. وأقام خطيباً بالقرية نحو أربعين سنة، وليها بعد والده.
كان اشتغل على تاج الدين، وكتب بخطه الحسن جملة من المجلدات، وكان له خلق حسن، وفيه تواضع.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء عاشر شعبان سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وست مئة.
محمد بن عمر بن محمد
ابن عمر بن إدريس بن سعيد بن مسعود بن حسن بن محمد بن محمد بن رشيد، أبو عبد الله الفهري السبتي.
أخذ العربي عن ابن أبي الربيع ونظرائه، واحتفل في صغره بالأدبيات وبرع فيها، وروى " البخاري " عن عبد العزيز الغافقي قراءة من لفظه.
وارتحل إلى فاس، واشتغل بالمذهب، ورحل إلى سبتة، وتصدر لإقراء الفقه خاصة، وتأدب مع أشياخه، فما أقرأ غير الفقه، وارتحل إلى تونس واشتغل بالأصلين على ابن زيتون، ثم رجل إلى الإسكندرية، وحج سنة ثمان وثمانين وست مئة، وجاور بمكة والمدينة ونزل بمصر.
وكان رحمه الله تعالى صاحب همة، وله عز في الطلب وعزمة، صنف تصانيف مفيدة، وألف تواليف في الإفادة عتيدة، وباشر الخطابة فصدحت على غصن المنبر حمامته، واستجن في حشا المحراب فجملته إمامته، وبث في غرناطة علومه وسفحت بها غمامته. ثم إنه أخرج منها وزحزح عنها، أحسن إليه ملك العدوة، ونوله إحسانه مساء وغدوة.
ولم يزل إلى أن توسد بطن اللحد واستوى منه الاعتراف والجحد.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
أخبرني من لفظه شيخنا العلامة أبو حيان قال: قدم المذكور علينا القاهرة حاجاً وسمع معنا الحديث، وعني به، وكان قد بحث " سيبويه " على أبي الحسين بن أبي الربيع، ولما توجه من الحج صحبة أبي عبد الله بن الحكيم اتفق أن السلطان أبا عبد الله ابن السلطان أبي عبد الله بن الأحمر، استوزر ابن الحكيم، فولى ابن رشيد الإمامة والخطابة بجامع غرناطة، ولما قتل الوزير أخرج أهل غرناطة ابن رشيد إلى العدوة، فأحسن إليه ملك العدوة أبو سعيد عثمان بن السلطان أبي يوسف بن عبد الحق المريني، وبقي في إيالته إلى أن توفي رحمه الله تعالى، وكان فاضلاً. انتهى.
قلت: وله من التصانيف " الرحلة المشرقية " أربع مجلدات، " فهرست مشايخه " ، " المقدمة المعرفة في علو المسافة والصفة " ، " الصراط السوي في اتصال سماع جامع الترمذي " ، " إفادة النصيح في مشهور رواه الصحيح " ، " جزء فيه مسألة العنعنة " ، و " المحاكمة بين الإمامين " ، " إيضاح المذاهب في تعيين من ينطلق عليه اسم الصاحب " ، " جزء فيه حكم رؤية هلال شهر رمضان وشوال " ، " تلخيص كتاب القوانين في النحو " ، " شرح جزء التجنيس " لحازم بن حازم الإشبيلي، و " حكم الاستعارة " ، وغير ذلك.
وله خطب وقصائد نبوية مطولة، ومقطعات بديعة.
قال شيخنا أثير الدين: كان سرياً حسن الأخلاق.
وسألته أن يكتب لي شيئاً من شعره، وكان ممن ينظم بالعروض إذ لم يكن الوزن في طبعه، فكتب لي بخطه:
يا من يفوق النجم موطنه ... كلفتني ما ليس أحسنه
ولتغض عما فيه من خلل ... خلدت في عز تزينه
وله أبيت كتبها على حذو نعل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الحديث الأشرفية:
هنيئاً لعيني أن رأت نعل أحمد ... فيا سعد جدي قد ظفرت بمقصدي
وقبلته أشفي الغليل فزادني ... فيا عجباً زاد الظما عند موردي
ولله ذاك اليوم عيداً ومعلماً ... بمطلعه أرخت مولد أسعد
عليه صلاة نشرها طيب كما ... يحب ويرض ربنا لمحمد
محمد بن عمر بن محمود
الشيخ الإمام بدر الدين البابي الحلبي، المعروف بابن جحفل الشافعي معيد الباذرائية.(2/368)
وكان رجلاً جيداً فاضلاً، عنده معرفة بالنحو، وفيه سكون كثير، وانقطاع وملازمة لبيته.
توفي بالباذرائية رحمه الله تعالى في حادي عشري جمادة الآخرة سنة خمس عشرة وسبع مئة، وكان قد بلغ السبعين أو قاربها.
محمد بن عمر بن أحمد بن المثنى
بدر الدين المنبجي الشافعي.
سمع من ابن عبد الدائم بدمشق، ومن النجيب بمصر، وتخرج في الأدب بمجد الدين بن الظهير الإربلي رحمه الله.
توفي رحمه الله تعالى بمصر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده بمنبج قبل الخمسين وست مئة.
أنشدني شيخنا العلامة أثير الدين إجازة، قال: أنشدني المنبجي لنفسه:
ومهفهف ناديته ومحاجري ... تذري دموعاً كالجمان مبددا
يا من أراه على الملاح مؤمراً ... بالله قل لي هل أراك مجردا
ومنه أيضاً:
وبدر دجى وافى إلي بوردة ... وما حان من ورد الربيع أوانه
فقال وقد أبديت منه تعجباًرويدك لا تعجب وعندي بيانه
هو الورد من روض بخدي جنيته ... وورد خدودي كل وقت أوانه
ومنه أيضاً:
ومن عجب سيف بلحظك ينتضى ... فيفتك في العشاق وهو كليل
وأعجب من ذا لحظ طرفك في الورى ... يداوي من الأسقام وهو عليل
ومنه أيضاً:
وكأن زهر اللوز صب عاشق ... قد هزه شوق إلى أحبابه
وأظنه من هول يوم فراقهم ... وبعادهم قد شاب قبل شبابه
وذكرت أنا هاهنا ما قلته في زهر اللوز:
عجباً لزهر اللوز حين يلوح في ال ... أوراق إذا تجلى على نظاره
عكس القضية في الورى، فمشيته ... يبيض من قبل اخضرار عذاره
وأورد له كمال الدين الأدفوي في " البدر السافر " قوله:
وبدر دجى زارنا موهناً ... فأمسى به الهم في معزل
الأبيات المشهورة: وأورد له أيضاً:
صل الراح بالراحات واقدح مسرة ... بأقداحها واعكف على لذة الشرب
ولا تخش أوزاراً فأوراق كرمها ... أكف غدت تستغفر الله للذنب
قلت: وهذان البيتان مشهوراً موجودان في المجاميع الأدبية، ورأيت بعضهم نسبها إلى ديك الجن، وهما من أنفاس المتأخرين. وقد ذكرت أنا لي هاهنا أبياتاً جاء فيها ذكر أوراق الكرم، وهي:
وكم روضة يحكي الزواهر زهرها ... فلا عجب إن قلت أفق مكوكب
تخال خيال النجم في زهرها إذا ... تموج إن الدر يطفو ويرسب
وتحسب أن النرجس الغض أعين ... لتدبير هذا الكون تسهو وتسهب
وطل على ورد حكى خد غادة ... به عرق من خجلة يتصبب
وأوراق كرم قد حكت كف سائل ... لمن كان في نعمائه يتقلب
محمد بن عمر بن أبي بكر
ابن قوام البالسي، الشيخ الإمام العالم الزاهد القدوة.
روى للجماعة من أصحاب ابن طبرزد. وكان يحب الحديث ويسمع أولاده.
كان فيه تواضع وعليه وقار، وعنده تمسك بأرباب السنة والآثار، وعليه مهابة، وعنده تفرس وإصابة، وفيه صدق وإخلاص وقبول عظيم من العامة والخاص، تحبه القلوب وتميل إليه، وتترامى بالتودد والموالاة عليه.
وكان فيه جود وكرم، وسماح له التهاب وضرم، وله تهجد في الليل وعبادة، ومعاملة وجد بها عند الله الحسنى وزيادة، قل أن ترى العيون مثله في بابه، أو تشاهد له عديلاً في أنواعه وأضرابه.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح في كفنه مدرجاً، ووجد له من ضيق الدنيا مخرجاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في ... سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وله من العمر ثمان وثمانون سنة، ودفن بزاويته بسفح قاسيون.
وعرض عليه أرباب الدولة راتباً يكون على زاويته، فامتنع ووقف عليها بعض التجار بعض قرية، وكان قد جمع " سيره " لجده رحمه الله تعالى.
محمد بن عمر بن الفضل
الفضلي، قاضي القضاة، قطب الدين البريزي الشافعي، قاضي بغداد، الملقب بأخوين، كان صاحب مشاركة في فنون، وقد أتقن علمي المعاني والبيان، ونسخ كتباً كثيراً، ولم يكن من قضاة العدل.
توفي ببغداد في سادس عشري شهر الله المحرم سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.(2/369)
وكان فيه تؤدة وحلم ومروءة وكرم، رحمه الله تعالى، وكان يكتب خطاً حسناً، وفيه شفقة وحنو على الفقراء والضعفاء وتواضع وحسن خلق. وقال الشيخ سراج الدين القزويني: كان فقيهاً أصولياً مفسراً نحوياً كاتباً بارعاً وحيداً فريداً من أعيان أفاضل الزمان.
محمد بن عمر بن حماد
شمس الدين الظفاري اليمني الواعظ المعروف بالأبلوج، لأنه كان يعتم بعمامة كأنه أبلوج السكر، فاشتهر بذلك.
وتوفي بالقاهرة في تاسع عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة، ودفن في يومه خارج باب النصر.
وكان قد أقام بدمشق مدة، ووعظ بمسجد أبي اليمن.
محمد بن عمر بن أبي بكر
ابن ظافر بن أبي سعيد، ناصر الدين أبو الفضل البصري الأصل، الحنبلي.
روى عن ابن الجميزي، وابن الجباب، وسبط السلفي، والساوي، والمرجى بن شقيرة.
وكان إمام مسجد، ويلقن القرآن ويحضر الختم، وهو فقيه بالمدرسة الصالحية. وحدث " بصحيح مسلم " عن ابن الحباب، سنة سبع وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى سابع صفر سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وست مئة.
قال شيخنا البرزالي: قرأت عليه المجلس الرابع من " أمالي أبي مطيع " بسماعه من ابن الجباب.
محمد بن عمر بن أبي القاسم
القاضي الصدر الرئيس نجم الدين ابن الشيخ نجم الدين بن أبي الطيب وكيل بيت المال بدمشق وابن وكيل بيت المال بها.
كان صدراً رئيساً وماجداً جعل الخلق الطلق عليه حبيساً، له معرفة تامة بتراجم أهل عصره ووقائعهم وما جرياتهم في وظائفهم وصنائعهم، إذا فتح له هذا الباب دخل عليه وحده، وسرد ما عنده.
وباشر وظائف كباراً جاداً له الدهر فيها بأمانه، وتقدم في آخر زمانه. وكان مع ذلك عديم الشر وادعاً، قائلاً بالحق صادعاً.
ولم يزل على حاله إلى أن غاب نجمه في الثرى، وسلك الطريق التي ما يتخلف عنها أحد من الورى.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع شعبان سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، توفي من جمرة ظهرت في وجهه، أقام معها يومين، ومات - رحمه الله تعالى - .
وكان شافعي المذهب. حسن الشكل، تام الخلق له تودد وملقى وملق.
وكان قد تزوج ابنة القاضي محيي الدين بن فضل الله، ولم يزل على حاله الناقص إلى أن توجه محيي الدين إلى مصر كاتب سر، فتولى بواسطته نظر الخزانة، ووكالة بيت المال، وكان بيده أولاً نظر الرباع وتدريس المدرسة الكروسية، وتولى الوكالة بعد القاضي شهاب الدين بن المجد لما صار قاضي القضاة في يوم عرفة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وكان ابن المجد قد وليها بعد القاضي علاء الدين بن القلانسي، وكان علاء الدين قد وليها بعد أخيه القاضي جمال الدين أحمد بن القلانسي، وكان قد وليها بعد كمال الدين بن الشريشي، وكان ابن الشريشي قد وليها بعد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وكان قد وليها بعد نجم الدين بن أبي الطيب والد صاحب هذه الترجمة. وقد تقدم الكلام في ترجمة والده لأي شيء سمي هذا البيت بابن أبي الطيب.(2/370)
الجزء الخامس
بسم الله الرحمن الرحيم
بقية حرف الميم
محمد بن عمر بن مكي
ابن عبد الصمد بن عطية بن أحمد، القرشي الأموي العثماني، الشيخ الإمام المفسر المحدث الأصولي النحوي الأديب الفاضل المفتن:
علامة العلماء واللّج الذي ... لا ينتهي ولكل بحر ساحلُ
صدر الدين أبو عبد الله الشافعي الأشعري المعروف بابن الوكيل وبابن المرحّل وبابن الخطيب.
أفتى وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، وتفقه بوالده وبالشيخ شرف الدين المقدسي، وبالشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري، وقرأ الأصولين على الشيخ صفي الدين الهندي، والنحو على بدر الدين بن مالك.
وكان له عدّة محافيظ، وحفظ المُفصّل في مئة يوم، وكتب له عليه الشيخ شرف الدين: قرأه في مئةٍ لا أراني الله له يوماً، وحفظ ديوان المتنبي في جمعة، والمقامات في خمسين يوماً، وكان لا يمر بشاهد من كلام العرب إلا حفظ القصيدة التي ذلك البيت منها.
وسمع الحديث من القاسم الإربلي، والمسلّم بن علان. وسمع الكتب الستة على أشياخ عصره.
ولما باشر مشيخة دار الحديث روى قطعة كبيرة من صحيح مسلم عن الأمين الإربلي والعامري والمزي.
وكان ذكياً نظّاراً حافظاً، يسرد في كل فن أسفاراً، لا يقوم أحد لجداله، ولا يُرى في عصره أحد من رجاله، مكثراً من جميع الفنون، يستحضر الأسانيد والمتون. ولم يكن يقوم بمناظرة العلامة تقي الدين بن تيمية سواه، ولا يعترض كالشجى في حلقه فيما أورده ورواه، ولما بلغته وفاته قال: أحسن الله عزاء المسلمين فيك يا صدر الدين. وتناظرا يوماً بالكلاّسة خلف العزيزية، فأخذ الشيخ تقي الدين يستشهد ببعض الحاضرين، فقال الشيخ صدر الدين:
إن انتصارك بالأجفان من عجب ... وهل رأى الناس منصوراً بمنكسر
ولم يقم أحد بمناظرته، ولا قام الى منافرته.
أما التفسير: فابن عطية عنده مُبخّل، والواحدي شارك العيّ لفظه فتميّل.
وأما الحديث: فلو رآه ابن عساكر لانهزم وانضم في زوايا تاريخه وانجزم، أو ابن الجوزي لبس من الغيرة غياراً، وانكسر قلبه لمّا خرج من قشوره ولم يجد لله عياراً.
وأما الفقه: فلو أبصره المحاملي محا ما تحمل من غرائب فاض النقلُ عنه وما نضب، ورجع عما قال به من استحباب الوضوء من الغيبة وعند الغضب، أو القفّال لما فُتح له من الفقه باب، ولرجع من أول الأمر الى الاعتدال عن الاعتزال وتاب، أو الروياني لما عبر له رؤيا، ورأى أن بحره قد صار وشلا واستحيا:
كم مُقْفَلٍ ضلّ فيه العَقلُ فانفرجتْ ... أرجاؤه لحجاه عن معانيهِ
يفتي فيروي غليل الدين من حصَرٍ ... أدناه نقلاً وقد شطت مراميه
ومونقٍ قد سقاه غيث فطنته ... مُزناً أيادي رياح الفكر تَمْريه
وأما الأصول: فلو رآه ابن فُوْرك لفرك عن طريقته، وقال بعدم المجاز الى حقيقته، وإمام الحرمين لتأخر عن مقامه، ورأى الرجوع عن الإرشاد من كلامه.
وأما النحو: فلو عاصره عنبسة الفيل لكان مثل ابن عصفور، أو أبو الأسود لكان ظالماً، وذنبه غير مغفور.
وأما الأدب: فلو رآه الجاحظ لأمسى لهذا الفن وهو جاحد، أو الثعالبي لراغ عن تصانيفه، وما اعترف منها بواحد.
وأما الطب: فلو شاهده ابن سينا لما أطرب قانونه، أو ابن النفيس لعاد نفيساً قد ذهب نونه.
وأما الحكمة: فالنّصير الطوسي عنه مخذول، والكاتبي دبيران أدبر عنه وحدّه مفلول.
وأما الشعر: فلو جاراه ابن سناء الملك فنيتْ ذخيرة مجاراته وحقائقه، أو ابن الساعاتي ما وصل الى درجه، وانتهى الى دقائقه.
وأما الموشحات: فلو وصل خبره الى الموصلي لأصبح مقطوع الذّنب، أو ابن زهر لما رأى له في السماء نجماً إلا هوى، ولا برجاً إلا انقلب.
وأما البلاليق: فابن كلفة عنده يتكلّف، وابن مُدَغليس يغلس للسعي في ركابه وما يتخلّف.
هذا الى غير ذلك من معارف وفنون كان لحواصلها عنده مصارف.
وكان رحمه الله تعالى محظوظاً، وبعين المحبة ملحوظاً، قلّ أن وقع بينه وبين أحد وما عاد له ولياً، وأصبح لمسامرته نجياً. وقع بينه وبين الأعسر، وكان إذا رآه ينسر، ووقع بينه وبين الأفرم، ثم أصبح عنده وهو الأعز الأكرم، وغضب السلطان الملك الناصر محمد عليه غضباً لا يقوم له غير سفك دمه، ثم أصبح عند رؤيته وهو لا يمشي إلا على قدمه.
ولم يزل على حاله الى أن رحل ابن المرَحّل الى دار القرار، وأصبح سيف لسانه وهو مفلول الغرار.
وتوفي رحمه الله تعالى في بكرة نهار الأربعاء رابع عشري ذي الحجة سنة ست عشرة وسبع مئة، ودفن بالقرب من الشيخ محمد بن أبي جمرة بتربة القاضي فخر الدين ناظر الجيش بالقرافة.
ومولده في شوال سنة خمس وستين وست مئة بدمياط، وقيل: بأشموم.
ورثاه جماعة من الأفاضل، وتأسف الناس عليه.
وأنشدني من لفظه لنفسه القاضي شمس الدين محمد بن داود ابن الحافظ ناظر جيش صفد يرثيه:
ما مات صدرُ الدين لكنه ... لما غدا جوهرةً فاخره
لم تعرفِ الدنيا له قيمةً ... فعجّل السير الى الآخره
قلت: وهو مأخوذ من قول الأول:
قد كان صاحبُ هذا القبر جوهرةً ... غرّاء قد صاغها الباري من النُطَف
عزّت فلم تعرف الأيامُ قيمتها ... فردّها غيرةً منه الى الصَّدف(2/371)
ونشأ الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى بدمشق، ونبغ وظهر واشتهرت فضائله ومناظراته، ودرّس بالمدارس الكبار، واشتهر صيته. ولما دخل الناس في الجفل أيام غازان وعلماء الشام كبارهم وصغارهم، فلم يقعد صدر الدين ثلاثة أيام حتى أعطي تدريس المشهد فيما أظن.
وكانت له وجاهة وتقدّم عند الدولة، ونادم الأفرم وغيره، وركب البريد الى مصر في أيام الجاشنكير، واجتمع هو وابن عدلان وأفتوا بأن الملك الناصر محمد لا يصلح للملك، ورُمي بأنه نظم قصيدة هجا بها السلطان، ومن جملتها:
ما للصبي وما للملك يطلبه ... إن المراد من الصبيان معلوم
وعمل أعداؤه الى أن أوصلوا القصيدة الى السلطان، فكانت في سولفه يخرجها كل يوم، ويقرؤها، وأراد الصاحب فخر الدين بن الخليلي القبض عليه تقرّباً الى الملك الناصر، فلما أحسّ بذلك هرب هو الى السلطان، وجاء إليه وهو على غزة، حكى قاضي القضاة جلال الدين القزويني، قال: بينما أنا جالس عند السلطان بغزة فإذا بالأمير سيف الدين بكتمر الحاجب قد دخل، وقال: يا خوند صدر الدين بن الوكيل فقال: يحضر فلما دخل به بكتمر الحاجب قال له: بُس الأرض، فقال: مثلي ما يبوس الأرض إلا لله تعالى. فقال: فجمعت ثيابي لئلا تلحقني طراطيش دمه، لما نعلمه من أنفاس السلطان فيه، فقال له: والك، أنت فقيه تركب على البريد، وتروح من دمشق الى مصر لتدخل بين الملوك وتغير الدول وتهجوني؟ فقال: حاشى لله يا خوند، وإنما أعدائي وحسّادي نظموا ما أرادوا على لساني، ولكن هذا الذي قلته أنا، وأخرج قصيدة تجيء مئة بيت، وأنشدها في وزن تلك ورويّها، فأعجب السلطان وعفا عنه.
قال جلال الدين: ولما أصبحنا وسارت العساكر والجيوش والسلطان رايح والى جانبه صدر الدين بن الوكيل، فتعجبنا من ذلك، ولما عاد الى مصر، وطلبه من حلب، عظّمه السلطان، كان إذا رآه وعليه الخلعة يقول: الله، إن هذا صدر الدين إلا شكل مليح مُجمّل التشاريف التي يلبسها.
وقد جرى له مع السلطان في قضية البكري ما جرى، وخلصه منه بعدما أمر بقطع لسانه. وقد ذكرت ذلك في ترجمة البكري.
وباشر بدمشق مدارسها الكبار، ودار الحديث الأشرفية والشامية البرّانية والجوانية والعذراوية، والخطابة بالجامع الأموي، ولكنه لم يصلّ في المحراب إلا يومين، حتى قام الشيخ تقي الدين بن تيمية وغيره من المتعصبين عليه حتى عزل، وأثبت قاضي القضاة شمس الدين الحريري محضراً بعدم أهليته للخطابة.
وكان الشيخ صدر الدين في القاهرة لما توفي زين الدين الفارقي خطيب الجامع الأموي في تاريخ وفاته على ما يأتي في ترجمته، وكان الأفرم غائباً في الصيد، فلما عاد عيّن الشامية ودار الحديث للشيخ كمال الدين بن الشريشي، وعيّن الناصرية للشيخ كمال الدين بن الزملكاني عوضاً عن ابن الشريشي، وعيّن الخطابة للشيخ شرف الدين الفزاري، وأمره بالإمامة والخطابة، فباشر وخطب جمعتين، ولازم الإمامة عشرة أيام، فوصل البريد يوم الإثنين منتصف شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبع مئة ومعه توقيع بجميع جهات الشيخ زين الدين للشيخ صدر الدين بن الوكيل مضافاً الى ما بيده من المدرستين، فشق على الناس خروج الشيخ شرف الدين من الخطابة بعد مباشرته وكماله وصلاحه وجودة قراءته وحُسن أدائه، ووصل الشيخ صدر الدين بعد ذلك على البريد، وسلّم على الأفرم بالقصر، وحضر الى الجامع، ودخل الى دار الخطابة، وهنأه الناس على العادة، وصلى بالناس العصر، وبقي يومين يباشر الإمامة، فأظهر جماعة التألم من خطابته، واجتمعوا بالأفرم، فمنعه من الخطابة، وأقرّه على المدارس الثلاث. ثم إنه وصل توقيع بالخطابة للشيخ شرف الدين من القاهرة. ثم إن الشامية البرانية انتُزعت منه أيضاً للشيخ كمال الدين ابن الزملكاني.
وفي أيام قراسنقر ونيابته على دمشق قام على صدر الدين جماعة من الفقهاء، ونازعوه في المدارس التي بيده، وحصل له من قراسنقر أذى كثير، وخاف على نفسه منه، فتوجه الى قاضي القضاة تقي الدين الحنبلي، وطلب منه الحكم بإسلامه، وحقن دمه، وإسقاط التعزيز عنه، والحكم بعدالته واستحقاقه المناصب فحكم له بذلك، ثم ورد المرسوم من مصر بعزله من سائر جهاته، وبقي بطالاً.(2/372)
ولما فرغ شهر رمضان سنة عشر توجّه الى حلب، وأقبل عليه أسندمر نائب حلب إقبالاً زائداً، وطلبه يوماً قبل صلاة الجمعة، وسأله عن تفسير قوله تعالى: " والنّجم إذا هَوى " فقال: الوقت يضيق عن هذا، لأن هذه الآية يحتمل تفسيرها ثلاثة أيام، فوهبه نسخة مليحة بأسد الغاب في ذكر الصحاب لابن الأثير، وأقام بحلب عشرة أشهر فقال: الذي حصل لي من مكارمات الحلبيين في هذه المدّة أربعون ألف درهم. ولما جاء أرغون الدوادار الى حلب كان عنده ربعة مليحة الى الغاية فقدّمها له، فقال أرغون: يا شيخ هذه ما تصلح إلا للسلطان، وإذا عدتُ الى مصر ذكرتُها للسلطان الملك الناصر، وطلبتك فوفي له بما وعده، ودرّس بمصر بالمشهد الحسيني وبالزاوية المعروفة بابن الجميزي، ولما قدم مصر في الجفل أفهم أمراء الدولة أنه ليس في مصر مثله، وادّعى علماً كبيراً، وطلب المناظرة، وحضر الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وكان صدر الدين قد رتب شيئاً، فلما شرع فيه قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: هذا كلامٌ معبّأ، وقال: يقرأ شخص آية فقرأ شخص آية، وذكر الشيخ سؤالاً، فشرع صدر الدين يتكلم، فانتدب له عز الدين النمراوي، فقال له الشيخ تقي الدين: التزم هذا يا غرّ، هذا جيد. وانفصل المجلس، والشيخ صدر الدين مغلوب.
ولما عاد الى القاهرة بعد مجيء الناصر من الكرك ولاه السلطان الملك الناصر تدريس الناصرية بين القصرين، وهو أول من درّس بها، وجهّزه السلطان الملك الناصر رسولاً الى مهنّا، فقال: حصل لي في هذه السفرة ثلاثون ألف درهم. وأظنه توجه إليه مرتين في سنة ثلاث عشرة، وجمع كتاب الأشباه والنظائر ومات ولم يحرره، فلذلك ربما وقعت فيه أغلاط. قال مولانا قاضي القضاة تاج الدين السبكي مثل حكايته عن بعض الأئمة وجهين فيما إذا كشف عورته في الخلاء زائداً على القدر المحتاج هل يأثم على كشف الجميع أو على القدر الزائد. وهذا لم نره في كتاب ويشبه أن تكون زلة قلم الى غير ذلك.
وكان شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي رحمه الله تعالى يثني عليه ويقول: فاضل عصره. قال: دخلت عليه في المرض الذي توفي فيه رحمه الله تعالى، فقلت له: كيف تجدك؟ وكيف حالك؟ فأنشدني:
ورجعت لا أدري الطريق من البكا ... رجعتْ عداك المبغضون كمرجعي
وكان ذلك آخر عهدي به.
وقال القاضي شهاب الدين بن فضل الله: كان ابن الوكيل عارفاً بالطب علماً لا علاجاً، فاتفق أن شكا إليه الأفرم سوء هضم، فركّب له سفوفاً، وأحضره، فلما استعمله أفرط به الإسهال جداً، فأمسكه مماليك الأفرم ليقتلوه، فأُحضر أمين الدين سليمان الحكم لمعالجة الأفرم، فعالجه باستفراغ بقية المواد التي اندفعت، وحركها الشيخ صدر الدين، وأعطاه أمراق الفراريج، ثم أعطاه المُقبّضات حتى صلحت حاله. ولما عاد الأفرم الى وعيه سأل عن الشيخ صدر الدين بن الوكيل، فأخبره المماليك ما فعلوه به، فأنكر ذلك عليهم، وقال: أحضروه، فلما حضر قال: يا شيخ صدر الدين جئت أروح معك غلطاً، وهو يضحك. فقال له سليمان الحكيم: يا صدر الدين اشتغل بفقهك، ودع الطب فغلط المفتي يُستدرك، وغلط الطبيب ما يستدرك، فقال الأفرم: صدقٌ لك لا تخاطر. ثم قال لمماليكه: مثلُ صدر الدين ما يُتهم: والله الذي جرى عليه منكم أصعب من الذي جرى عليّ، وما أراد والله إلا الخير. فقبّل يده، وبعث إليه الأفرم لما انصرف جملة من القماش والدراهم.
وأخبرني أيضاً قال: كان الشيخ تقي الدين بن تيمية يقول عنه: ابن الوكيل ما يرضى لنفسه أن يكون في شيء إلا غاية، ثم يُعدد أنواعاً من الخير والشر فيقول: كان في كذا غاية، وفي كذا غاية. انتهى.
قلت: وكان فيه لعب ولهو، ومع ذلك فحكى لي عنه جماعة ممن صحبه ونادمه في خلواته أنهم إذا فرغوا من حالهم قام وتوضأ ولبس قماشاً نظيفاً وصلى وبكى ومرّغ وجهه على الأرض والتراب، وبكى حتى بلّ لحيته بدموعه، واستغفر وسأل الله التوبة والمغرفة، حتى قال بعضهم: لقد رأيته قد قام من سجوده ولصق بجدار الدار كأنه أسطوانة ملصقة. وكان إذا مرض غسل ديوانه.
وكان قادراً على النظم من القريض والموشح والزجل والبلّيق والدوبيت والمواليّا والكان وكان، لا يفوته شيء ولا يعجزه، وهو في جميع هذه الأنواع مطبوع، له غوص على المعاني، ومع ذلك فكان ينتحل أشياء ويدّعيها.(2/373)
حكى لي شيخنا الحافظ ابن سيد الناس، أنشدني مرة قصيدةً عينية منها قوله:
يا ربّ جفني قد هجاه هجوعه
ومنها:
يا ربِّ بدرُ الدين غاب عن الحمى ... فمتى يكون على الخيام طلوعه
قال: ثم إني اجتمعت بالشهاب العزازي، وأنشدته إياها، فقال: هذه لي، وأنشدني إياها من أولها الى آخرها. انتهى.
قلت: ولما عمّر السلطان الملك الناصر محمد القصر الأبلق بقلعة الجبل دخل إليه الشيخ صدر الدين، وأنشده:
لولاك يا خير من يمشي على قدم ... خاب الرجاء وماتت سُنّةُ الكرم
منها:
بنيتَ قصراً قضى بالسعد طالعه ... فقامت لهيبته الدنيا على قدم
وهذه القصيدة بمجموعها لابن التعاويذي، وهي في ديوانه، وإنما ابن التعاويذي قال: بنيت داراً، فغيّره ابن الوكيل، وقال: بنيت قصراً.
وشاع عنه أنه كان ينظم الشاهد على ما يدّعيه في الوقت وينشده، من ذلك قال شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى عمّن أخبره قال: ادعى ابن الوكيل يوماً في الطائفة المنسوبة الى ابن كرّام أنهم الكرامية - بتخفيف الراء - فقال الحاضرون: المعروف فيهم بتشديد الراء، فقال: التخفيف، والدليل عليه قول الشاعر:
الفقه فقه أبي حنيفة وحده ... والدين دين محمد بن كرام
واستمرت هذه الحكاية في ذهني، وأنا لا أشك في أنه وضعه، فما كان بعد مدة ظفرت ببيتين من شعر المتقدمين وأولهما:
إن الذين بجهلهم لم يقتدوا ... في الدين بابن كرام غير كرام
فاستغفرت الله تعالى من ذلك الخاطر، وسألت الله تعالى له المغفرة والرحمة، وكان ظفري بهذين البيتين في سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وما يبعد أنه كان يجازف في النقل وأخذه.
قيل: إنه دخل الى الأفرم يوماً، وقال: يا خُوند أنا أنقل للأسد ثلاثة آلاف اسم.
قلت: وهذا مبالغة عظيمة، والذي وقفت عليه في مجموع للأسد خمس مئة اسم، ولولده الشبل ثلاث مئة اسم الجملة ثمان مئة اسم.
والجيّد من شعره طبقة عليا، على أن شعره يقع في اللحن الخفي، على أنه بلغني عن مجد الدين التونسي أنه قال يوماً: ما اجتمعت بالشيخ صدر الدين إلا واستفدت منه فائدة في العربية، ولما توجه الى حلب وجد شيخنا علم الدين طلحة مستحضراً للعربية جيداً، لكنه كان يعرف الحاجبية وشروحها، وهي دائرة ضيّقة، فأخذ الشيخ صدر الدين شرح السيرافي لكتاب سيبويه، وأخذ يطالعه وينقل منه ما طمّ طلحة، وغطاه. وسبب اللحن الخفي الذي كان يقع له إنما اشتغل بالنحو وهو كبير السن، والنحو علم صغر يحتاج الى أن يمتزج باللحم والدم، وأنشدني كثيراً من شعره الشيخ شهاب الدين العسجدي، وقال: كنت معه. وكانت ليلة عيد، فوقف له فقير، وقال: شيء لله؟ فالتفت إليّ وقال: إيش معك؟ فقلت: مئتا درهم. فقال ادفعها الى هذا الفقير. فقلت له: يا سيدي الليلة العيد، وما معنا ما ننفقه غداً. فقال لي: امض الى القاضي كريم الدين، وقل له: الشيخ يهنئك بهذا العيد. فدفع إليّ ألفي درهم، وقال: هذه للشيخ، وكأنه يعوز نفقة في هذا العيد، ولك أنت ثلاث مئة درهم، فلما حضرت بالدراهم من عند كريم الدين الى الشيخ، قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحسنة بعشرة، هذه مئتان بألفين.
وكان هذا شهاب الدين العسجدي والقاضي علم الدين سليمان بن ابراهيم المستوفي، وكانا به خصيصين، وحكيا لي عن مكارمه وعن صدقاته وبره للفقراء والصالحين أمراً عظيماً، وحكى لي عن أوائل عشرته أنها تكون في غاية اللطف والإقبال الزائد على صاحبه، ثم إذا طالت استحال، ولهذا قال فيه بعضهم:
وداد ابن الوكيل له مثال ... كلبا دين جُلّق في المسالك
فأوّله حلي ثم طيبٌ ... وآخره زجاج مع لوالك
وجميع موشحاته، وسماه طراز الدار، وهذه تسمية بديعة، قلب فيها تسمية موشحات ابن سناء الملك، لأنه سمي ديوانه دار الطراز: ومن شعره - وهي من غرر قصائده:
ليذهبوا في ملامي أيةً ذهبوا ... في الخمر لا فضةً تبقى ولا ذهب
والمال أجمل وجه فيه تصرفه ... وجهٌ جميل وراحٌ في الدجى لهب
لا تأسفن على مال تمزقه ... أيدي سقاةِ الطلا والخرَّد العرب(2/374)
فما كسَوا راحتي من راحها حللاً ... إلا وعرّوا فؤادي الهمَّ واستلبوا
راح بها راحتي في راحتي حصلت ... فتمّ عُجْبي لها وازداد لي العجب
أن ينبع الدر من حلوٍ مذاقته ... والتبر منسبك في الكأس ينسكب
وليست الكيميا في غيرها وُجدت ... وكل ما قيل في أوصافها كذب
قيراط خمرٍ على القنطار من حزن ... يعود في الحال أفراحاً وينقلب
عناصر أربع في الكأس قد جُليَت ... وفوقها الفلك السيّار والشهب
ماءٌ ونار هواء أرضها قدح ... وطوفها فلك والأنجم الحبَب
ما الكأس عندي بأطراف الأنامل بل ... بالخمس تقبض لا يحلو لها الهرب
شَجَجْتُ بالماء منها الرأس موضحةً ... فحين أعقلها بالخمس لا عجب
قلت: لو لم يقل الشيخ صدر الدين من الشعر إلا هذا البيت لكان قد أتى بشيء غريب نهاية في البديع، لقد غاص فيه على المعنى، ودق تخيّله فيه، وهذا شعرُ فقيه.
وما تركت بها الخمس التي وجبت ... وإن رأوا تركها من بعض ما يجب
وإن أقطب وجهي حين تبسم لي ... فعند بسط الموالي يحفظ الأدب
قلت: وهذا البيت أيضاً بديع المعنى دقيقه، وقد اعتذر عن تقطيبه بأحسن عذر، وأوضحه، وقد أشار الى ذلك الشعراء وقبحوا فعله قال ابن أبي الحديد:
بالراح رح فهي المنى ... وعلى جماع الكاس كسْ
لا تلْقَها إلا ببش ... رِكَ، فالقطوب من الدَّنس
ما أنصف الصهباء من ... ضحكت إليه وقد عبس
وإذا سكرت فغنّ لي ... ذهب الرّقاد فما يُحَسّ
وما أحسن قول ابن رشيق:
أحب أخي وإن أعرضت عنه ... وقلّ على مسامعه كلامي
ولي في وجهه تقطيب راضٍ ... كما قطبتُ في وجه المُدام
رجع القول الى تتمة أبيات ابن الوكيل:
عاطيتها من بنات الترك عاطية ... لحاظها للأسود الغُلب قد غلبوا
هيفاء جارية للراح ساقية ... من فوق ساقيةٍ تجري وتنسكب
من وجهها وتَثنيها وقامتها ... تُخشى الأهلّة والقضبان والكثب
يا قَلب أردافها مهما مررت بها ... قف لي عليها، وقل لي هذه الكثب
تريك وجنتها ما في زجاجتها ... لكنْ مذاقته للريق تنْتسب
تحكى الثنايا الذي أبدته من حَبَبٍ ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
قلت: في هذه الأبيات تضمين أعجاز أبيات من القصيدة البائية التي لابن الخيمي، وأولهما:
يا مَطلباً لي في غيره أرب ... إليك آل التقصّي، وانتهى الطلب
وقد ذكرت القصيدة وما قيل في وزنها، وواقعتها بين ابن الخيمي وابن إسرائيل في ترجمة ابن الخيمي في تاريخي الكبير.
ومن شعره صدر الدين رحمه الله تعالى:
سرى وسُتور الهمّ بالكاس تُهتكُ ... وساكن وجدي بالغِناء يحرك
فعاطيته كاساً، فحيّا بفضلها ... ومازج ذاك الفضل ريق مُمَسّك
أرقتُ دم الراووق حِلاً لأنني ... رأيت صليباً فوقه، فهو مشرك
وسالت دموع العين منه وكلما ... بكى بالدّما مما جرى منه أضحك
وزوّجت بنت الكرم بابن غَمامة ... فصحّ على التعليق والشرط أملك
وهذه القصيدة طويلة، ولكن هذا أحسن ما فيها.
وقال أيضاً:
يا ليلة فيها الأمان والمنى ... وكلما أطلبه تهيّا
لا تقصري فالصبح قد شربته ... مدامة عنقودها الثريّا
وقال أيضاً:
غازِلْ وخُذ من نرجسٍ من لحظه ... منشور دمع كلهنّ نظامُ
واحذرْ إذا بعث السلام إليك من ... نبت العِذار فإنه نمّامُ
قلت: أخذه من قول الأول:
لافتضاحي في عوارضه ... سببٌ والناس لُوّام
كيف يخفى ما أكابده ... والذي أهواه نمّام
وقال دوبيت:
كم قال معاطفي حكتها الأسلُ ... والبيض سرقن ما حوته المقل(2/375)
الآن أوامري عليها حكمت ... البيض تُحسد والقنا تُعتقل
وقال أيضاً:
عانقت وبالعناق يُشفى الوجد ... حتى شُفي الصبّ ومات الصّدُ
من أخمصه لثما الى وجنته ... حتى اشتكت القضب وضجّ الورد
وقال أيضاً:
بكفّ الثّريا وهي جَذْما تقاس لي ... شقاق دجًى مُدت من الشرق للغرب
ولو ذرعوها بالذراع لما انتهت ... فما تنقضي يا ليل أو ينقضي نحبي
قلت: أخذه من قول الأول:
كأن الثريا راحة تشبُر الدجي ... ليعلم طال الليل أم قد تعرّضا
فليلٌ تراه بين شرق ومغرب ... يُقاس بشبرٍ كيف يُرجى له انقضا
وقال:
راحٌ بها الأعمى يرى مع العمى ... وهاك بُرهاناً على هذي المنَح
الخمر للأقداح قلب دائماً ... والحدَق انظرها تجد قُلْبَ القدح
وقال:
كأنما البدر خلال السما ... من فوق غيم ليس بالكاب
طراز تِبْر في قبا أزرق ... من تحته فروة سنجاب
وقال:
وعارضٌ قد لام في عارض ... وطاعن يطعن في سنّه
وقائل قد كبرت ذقنه ... فقلت: لا أفكر في ذقنه
وقال:
شب وجدي بشائب ... من سنا البدر أوجَهُ
كلما شاب ينحني ... بيّض الله وجهه
وقال في مليح به يرقان:
رأيت في طَرفه اصفراراً ... سَبى فؤادي فقلت: مهلا
أيا مليك الملاح حسناً ... العفو من سيفك المحلا
قلت: هو مثل قول الوَداعي، وفيه زيادة:
قال قوم: قد شانه يرقان ... قلت: أخطأتم وحاشى وكلا
إنما الخدّ واللواحظ منه ... مصحف مُذهب، وسيف محلّى
ذكرت أنا هنا باليرقان ما قلته، وقد حصل لي يرقان، وطوّل في مدته في سنة خمس وخمسين وسبع مئة:
يا يرقاناً زاد في مكثه ... أمرضْتَ مني الجسم والنفسا
أبدلتني بالدال سيناً وما ... أقبح ورداً قد غدا ورسا
وقلت أيضاً:
صفّرني ذا اليرقان الذي ... بمثله الأسقام لم تظهر
ينفر من يبصرني مُقبلاً ... حتى كأني من بني الأصفر
وقلت:
تصدّق خلاني عليّ بصحة ... تسر وأعفاني زماناً وعافاني
ومرّ على غيري سقامٌ وصحة ... ولم يُر قان مثل ذا يرقاني
وقلت من أبيات:
ما ترى علّتي التي قد عرتني ... وبرتني بري المُدى القاطعات
فصفاري هذا وأبيض شيبي ... نرجس للنفوس غير موات
ثم عندي تشبيه شيبي بتمٍ ... قد غدا ناظراً بعين البُزاةِ
ومن شعر الشيخ صدر الدين - وهو عجيب:
وبي مَن قسا قلباً ولان معاطفاً ... إذا قلت أدناني يضاعف تبعيدي
أقرّ برقٍّ أقول أنا لهُ ... وكم قالها أيضاً ولكن لتهديدي
قلت: من أعجب ما مر بي أنا الباخرزي في دمية لقصر لما ذكر في ترجمة الفقير أبي نصر عبد الوهاب المالكي أورد فيها قول الشيخ أبي عامر الجرجاني:
عذيري من شادن أغضبوه ... فجرّد لي مُرهفاً فاتكا
وقال أنا لك يا بن الوكيل ... وهل لي رجاء سوى ذلكا(2/376)
أيها الواقف أنعم النظر فيما أوردته، وتعجب من هذا الاتفاق، كون صدر الدين بن الوكيل أخذ هذا المعنى الذي له من قول الجرجاني، والجرجاني أتى بالقول الموجب في بيتيه خفياً، لأنه قال: غضب، وجرّد المرهف، وقال: أنا لك يا بن الوكيل، وهذا بقرينة تجريد المرهف تهديد، فقلب الجرجاني، وقال بموجبه، ونقله الى التمليك، فأخذه صدر الدين، وأتى به واضحاً جلياً صريحاً ظاهراً، ومحل التعجّب قوله: أنا لك يا بن الوكيل، كأن هذا المعنى قال: أنا لك يا بن الوكيل تنظمني فتجيء أحسن وأبين، وتكون أنت أحق بي من الجرجاني، وهذا اتفاق غريب الى الغاية، ما مر بي مثله، والظاهر أن الشيخ صدر الدين لما وقف على هذا المعنى تنبّه له فكان له، وهو به أحق، وهذا المعنى قد ابتكره الجرجاني أبو عامر، وترك فيه فضلة، فجاء الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى، وأخذه وجوّده، ولم يبق لأحد معه مطمع الى زيادة، ولا مطمح في إفادة، وما بقي إلا الاختصار فقط، فلهذا قلت أنا فيه مختصراً:
قال حبي أنا له ... ولكم قلتُ سرمدا
أنا للملك قلتها ... وهو للغيظ هدّدا
وقال الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى:
معطّف على مهجة ظاميه ... وتقذفها عَبْرة هاميه
فقد طال سقمي، فقل لي متى ... تجيء الى عبدك العافيه
وأرخصتَ دمعي يوم النوى ... لأجل سوالفك الغاليه
فصبراً على ما قضى لم أقل ... فيا ليتها كانت القاضيه
ونحن عبيدك ذُبنا أسىً ... فرفقاً على رقة الحاشيه
فقال: بعيني أقيك الردى ... فقلت: على عينك الواقيه
فشنّف سمعي بهذا الحدي ... ث فما ذكرت قرطها ماريه
فيا عاذلي لو دعاك الهوى ... لقد كنت تسمع يا ساريه
واشتهر شعر الشيخ صدر الدين في حياته كثيراً، وتناقله الناس، وتداولوه، ومما اشتهر له من الموشحات قوله يعارض السرّاج المحّار، وهو:
ما أخجل قدّه غُصون البانْبين الورقإلا سلب المها مع الغزلانسود الحدق
قاسوا غلطاً من حاز حُسن البشر
بالبدر يلوح في دياجي الشَّعر
لا كيد ولا كرامة للقمر
الحبّ جمالُه مدى الأزمانمعناه بقيوازداد سناً وخُصّ بالنقصانبدر الأفق
الصحة والسقام من مقلته
والجنة والجحيم في وجنته
مَن شاهده يقول من دهشته:
هذا وأبيك فرّ من رضوانتحت الغسقللأرض يُعيذه من الشيطانربُّ الفلق
قد أنبته الله نباتاً حسنا
وازداد على المدى سناء وسنا
من جادلَه بروحه ما غُبِنا
قد زيّن حسنه مع الإحسانحسن الخلقلو رمت لحسنه مليحاً ثانيلم يتّفق
في نرجس لحظه وزهر الثغر
روض نضر قطافه بالنظر
قد دبّج خده نبات الشعر
فالورد حماه ناعم الريحانبالطل سُقيوالقد يميل ميلة الأغصانللمُعتَنق
أحيا وأموت في هواه كمدا
من مات جوىً في حبه قد سُعدا
يا عاذلُ لا أترك وجدي أبدا
لا تعذلي فكلما تلحانيزادت حُرقييستأهل من يهمّ بالسلوانضرب العنق
القدّ وطرفه قناة وحسام
والحاجب واللحاظ قسي وسهام
والثغر مع الرضاب كاس ومُدام
والدر منظّم مع المرجانفي فيه نقيقد رُصّع فوقه عقيق قانينظم النسق
قلت: لا يخفى على الفطن ما فيه من اللحن الخفي والألفاظ النازلة، وقد تكررت من لفظة ثان. ولمّا وقف الشيخ تقي الدين بن تيمية على هذا الموشح وانتهى الى قوله: يستأهل من يهم بالسلوان ضرب العنق قال: لا يا شيخ صدر الدين، يستأهل من يقول بالصبيان.
وأما موشحة السراج المحّار فهي:
مذ شِمت سنا البروق من نعمانباتت حدقيتذكي بمسيل دمعها الهتاننار الحرق
ما أومض بارق الحمى أو خفَقا
إلا وأهاج لي البُكا والأرقا
هذا سبب لمحنتي قد خُلقا
أمسي لوميضه بقلبي العانبادي القلقلا أعرف في الظلام ما يغشانغير الأرق
أضنى جسدي فراقُ إلفٍ نزحا
أفنى جلدي ودمع عيني نزَحا
كم صِحتُ وزند لوعتي قد قدحا
لم تُبق يد السقام من جثمانيغير الرمقما أصنع والسلوّ مني فانوالصبر بقي
أهوى قمراً حلو مذاق القُبل
لا يُكحل طرفه بغير الكحل(2/377)
تركيّ اللحظ بابلي المقل
زاهي الوجنات زائد الإحسانحلو الخُلقعذبُ الرشفات ساحرُ الأجفانساجي الحدق
ما حط لثامه وأرخى شعرَه
أو هز معاطفاً رشاقاً نضره
إلا ويقول كل راءٍ نظره
هذا قمر بدا بلا نقصانتحت الغَسقأو شمس ضحى في غُصنٍ فَيْنانغض الورق
ما أبدع معنىً لاحَ في صورته
إيناع عذاره على وجنته
لما سُقي الحياة من ريقته
فاعجب لبنات خدّه الرّيحانيمن حيث سُقييضحى ويبيت وهو في النيرانلم يحترق
قلت: لا يخفى على الناظم أن هذا أجزلُ ألفاظاً، وأحكم من موشحة صدر الدين.
والسرّاجُ المحّار عارض بموشحته موشحة أحمد بن حسن الموصلي صاحب الموشحات المشهورة، وهي:
مُذ غرّدت الوُرق على الأغصانبين الورقأجرت دمعي وفي فؤادي العانيأذكت حرقي
لما برزت في الدوح تشدو وتنوح
أضحى دمعي بساحة السفح سفوح
والفكر نديمي في غُبوق وصبوح
قد هيّجت الذي به أضنانيمنه قلقيوالقلب له من بعد صبري الفانيوالوجد بقي
ما لاح بريق رامةٍ أو لمعا
إلا وسحاب عبرتي قد هَمَعا
والجسم على المزمع هجري زَمَعا
بالنازح والنازح عن أوطانيضاقت طوقيما أصنع قد حملتُ من أحزانيما لم أطق
قلبي لهوى ساكنه قد خفقا
والوجد حبيسٌ واصطباري طلقا
والصامت من سري بدمعي نطقا
في عشق منعّم من الولدانأصبحت شقيمن جفوته ولم يَزُر أجفانيغيرُ الأرق
فالورد مع الشقيق من خدّيه
قد صانهما النرجس من عينيه
والآس هو السياج من صدغيه
واللفظ وريق الأغيد الروحانيعند الحدقحلوان على غصن من المرانغضٍّ رشِقِ
الصّاد من المقلة من حققه
والنون من الحاجب من عَرّقه
واللام من العارض من علقه
قد سطّره بالقلم الريحانيربّ الفلقبالمسك على الكافور كالعنوانفوق الورق
الملحة لمع الصلت بالإيضاح
والغُرّة بالتبيان كالمصباح
والمنطق نثر الدرّ بالإصلاح
والثغر هو الصحاح كالعقبانكالعقد بقيوالرّد مع الخلاف كالسلوانعنه خُلقي
ما أبدع وضع الخال في وجنته
خطّ الشكل الرفيع من نقطته
قد حيّر إقليدس في هيئته
كالعنبر في نار الأسيل الفانِللمنتشقفاعجب لعبير وهو في النيرانلم يحترق
قلت: في هذه الموشحة ألفاظ تحتاج معانيها الى مشاحّة، وموشحة الشيخ صدر الدين على كل حال خير منها، وموشحة المحّار خير من الاثنين.
وقد خطر لي أنا نظم موشحة في هذه المادة، وقد زدت الحشوات توشيحاً، وهي:
ما هزّ قضيب قدّه الريّانللمُعتَنِقإلا استترت معاطف الأغصانبين الورق
أفدي قمراً لم يُبق عندي رَمَقاً ... لما رَمَقا
قد زاد صبابتي به والحُرَقا ... شوقاً وشَقا
لو فوّق سهم جفنه أو رشقا ... في يوم لُقا
أبطال وغىً تميس في غُدْراننسج الحَلَقأبصرتهم في مَعرَك الفرسانصرعى الحدق
بدر منعتهُ قسوةُ الأتراك ... رُحمى الشاكي
من ناظره حبائل الأشراك ... والإشراك
كم ضلّ بها قبلي من النُسّاك ... والفتّاك
قاني الوجنات ينتمي للقانِصعب الخُلقإن قلت أموت في الهوى نادانيهذا يَسَقي
كم جا جبينه الدجا فاقترضا ... صُبحاً فأضا
كم جرّد جفنُه حساماً ونضى ... والصبّ قضى
كم أودع ريقه فؤاداً مَرِضاً ... من جمر غضا
فاعجب لرُضابه شفا الظمآنيذكي حرقيوالخدّ به الخال على النيرانلم يحترق
يا خجلةَ خدّ الورد في جنته ... من وجنته
يا كسرة غصن البان في حضرته ... من خطرته
يا حيرة بدر التمّ من عزّته ... في طُرّته
لا تعتقد الأقمار بالبهتانوسط الأفقأن تشبهه فليس في الإمكانما لم تُطِق
ما أسعد من أصابه بالحَوَر ... سهم النظر(2/378)
ما أنعم من يصليه نار الفكر ... طول العُمرِ
أو قيّده الحب بقيد الشَّعَر ... عند السَّحَر
أو طوقه بذلك الثعبانفوق العنقأو بات بقفل صُدغه الريحانيتحت الغَلق
قلت: والشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى قد عارض المحّار في أكثر موشحاته، فيندر له المطلع أو حشوه، ثم إنه يسقط من الثريا الى الثرى كقوله:
قالوا: سلا واستردّ مضناهقلباً أخذالا والذي لا إله إلا هوما كان كذا
عشقته كوكباً من الصّغر
أأترك الوجد وهو كالقمر
ديباج ديباجته بالشعر
زيدت طرازاً كالرقم الإبر
لا والذي زانه وأعطاهحسناً وشذىعلى البرايا وإنه اللهما كان كذا
ولو تقاس الكؤوس بالثغر
وبالثنايا الحباب كالدّرر
لفضّل الثغر صحة النظر
والصّرف في مطعم وفي عطر
لو قيس ما فاق من حُميّاهأو ما نُبذاالى رُضابٍ حوته عيناهما كان كذا
كل دمّ الناس فوق وجنته
قد سفكتها سهام مُقلته
العفو من نبلها وحدّته
لو صبّ بهرامُ كل جعبته
واختار من نبلها ونقّاهسهماً نفذافي الأرض من خرقه رَماياهما كان كذا
وسُودَها يا حكيم خذ بيدي
أمضى من البيض مع بني أسد
لو قيس ما فكّ مُحكم الزَرَد
من كل ماضي الغروب غير صَد
الى حسام نضته عيناهماضٍ شحذاعلى مسَنٍّ أبدته صدغاهما كان كذا
قد سلب الظبي حسن لفتته
كما سبى الغصن حسن خطرته
والشمس خجلى من نور طلعته
والبدر في حسنه وبهجته
لو قيس أيضاً الى محيّاهفي الحسن إذاحُفت به هالة عذاراهما كان كذا
محمد بن عمر بن إلياس
شمس الدين أبو العز الرّهاوي، ثم الدمشقي الكاتب.
سمع بمصر صحيح مسلم، بفَوْت من ابن البرهان، وسمع من النجيب، ومن ابن أبي اليسر، وابن الأوحد، وطائفة. ودار على الشيوخ، وكتب الطباق، وسمع الكتب وروى عنه شيخنا الذهبي في المعجم.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر رجب الفرد سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وحضر جنازته قاضي القضاة جلال الدين القزويني وغيره من الأعيان.
محمد بن عمر بن سالم
العدل الفاضل ناصر الدين بن المشهدي المصري.
سمع من غازي الحلاوي، وخلق، وعُني بذلك، وكتب الطباق، وبرع في كتابة السجلات، وحصّل منها جملة، وأقام بدمشق مدة.
قال شيخنا الذهبي: وقد تكلموا في عدالته.
وتوفي رحمه الله تعالى كهلاً سنة بضع وعشرين وسبع مئة.
محمد بن عمر بن محمد
الشيخ الإمام المفنن شمس الدين بن الخباز.
قرأ بدمشق قليلاً على الشيخ مجد الدين التونسي، ثم قرأ على القحفازي وعلى ابن قاضي شهبة. وعلى الشيخ برهان الدين، ثم توجه الى حلب، وقرأ على الشيخ فخر الدين قاضي القضاة بن خطيب جبرين شيخنا، وعلى شيخنا علم الدين طلحة، ثم على الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وحفظ التنبيه والمختصر وألفية ابن مالك والجرجانية، وباحث وناظر، وأذن له ابن خطيب جبرين في الإفتاء.
كان جيد المناظرة، فكه المحاضرة، يستحضر كثيراً من المعقول، ويورد جملة من المنقول، وبحوثه متقنة محررة، ونقوله بالأصول رياضها مزهرة.
وكان والده بدمشق خبازاً فسمت همته، وعلت عزمته الى أن دخل في عداد الفضلاء، وحشر في زمرة النبلاء، وكانت يده شلاّء، وعن البطش زلاّء. ولم يزل مصفّراً من أفواه العروق، ووجهه كأنه الأصيل عند الغروب لا الضحى عند الشروق، وكانت له قدرة على المحاكاة وقوة على التكيف بمن خاصمه أو شاكاه.
ولم يزل على حاله الى أن جاء سيل المنيّة على أفواه عروقه، وسدّ منه مجاري خروقه.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق في ثاني عشر ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وتسعين وست مئة.
وكان يُعرف في دمشق بالحلبي، وفي حلب بالدمشقي، اجتمعت به غير مرة بدمشق وحلب، وجرت بيني وبينه مباحث عديدة، وهو رفيقي في الاشتغال رحمه الله تعالى.
محمد بن عمر بن محمد بن عمر
ابن الحسن، الشيخ الجليل الفاضل الصدر العدل إمام الدين أبو عبد الله ابن الشيخ شرف الدين أبي حفص بن خواجا إمام، الفارسي الأصل، الدمشقي.(2/379)
سمع من جده وعمّ والده أبي بكر بن عمر، والرضي بن البرهان التاجر الواسطي، والشيخ جمال الدين بن مالك، وابن أبي اليسر، وشمس الدين بن أبي عمر، وجماعة.
وحدث بصحيح مسلم وموطأ مالك رواية أبي مصعب عن ابن البرهان.
وكان معروفاً بالكفاءة والخبرة، وخدم في عدة جهات، وكان كثير التلاوة.
توفي رحمه الله تعالى في سابع شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مائة.
ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة.
محمد بن عمر بن عبد العزيز
ابن...
الصدر النبيل الرئيس قاضي القضاة ناصر الدين ابن قاضي القضاة كمال الدين ابن قاضي القضاة عز الدين بن العديم الحنفي.
كان أولاً بحماة قاضي القضاة، ثم إنه نقل الى حلب، وتولى حماة في شعبان سنة إحدى عشرة وسبع مئة عوضاً عن جدّه.
وكان صدراً واسع الصدر، ورئيساً يجلس من سيادته في هالة البدر، قد وسع الناس بإحسانه، وملك قلوبهم بلسانه، يخدم الأكابر والأصاغر، ولا يزال فوه بالشكر لهم يُرى وهو فاغر، يكارم الزائرين بأنواع القماش والحلوى، ويغدق عليهم، فلا يرون لمنّه سلوى، وطالت مدّته في حلب، وساق إليه كل شاعر نفائس أمداحه وجلب.
ولم يزل على حاله الى أن دخل ابن العديم في العدم، وانهدّ طَوْد حياته وانهدم.
وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأول من شوال سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وثمانين وست مئة.
وكان قد طلب الى مصر ليجعل بها قاضي القضاة عندما أُخرج القاضي حسام الدين الغوري، فوصل الى دمشق، ثم إنه جاء المرسوم بعوده الى حلب على حاله.
وحدّث عن الأبرقوهي وغيره.
وكتب إليه شهاب الدين أحمد بن المهاجر الوادي آشي الحنفي، ومن خطه نقلت:
فذاك قاضي القضاة عبدُ ... قريضُه مثله رقيقُ
يكابدُ البرد في قماش ... أشبهه ببيته العتيقُ
له إذا ما الرياح هبّت ... عطف كغصن النقا رشيقُ
غزا ابن ماء السماء منه ... نضواً سوى السلم لا يطيق
ليس يرد الشتاء عنه ... بيتٌ مع القبح فيه ضيق
والصبر مع أنه بعيدُ ... قد سُدّ من دونه الطريق
فانظر إليه بعين مولّى ... من غُرّ أوصافه الشفيق
واعطف عليه فأنت فرع ... من دوحةِ غُصنُها وريق
لا زلت ما عشت في نعيم ... أنت بإنعامه حقيق
مجمّلاً مذهباً أتانا ... منك لنُعْمانه شقيق
محمد بن عمر
الأمير ناصر الدين ابن الأمير ركن الدين البُتْخاصي الصفدي.
كان أميراً بطبلخاناه في الديار المصرية، وله مكارم ومروءة، وفي طباعه حرية. يخدم أصحابه، ويعرف حق من لازم بابه، يخدم الوُرّاد، ويكرم الرّواد، ويتجمل بين الناس، ويُرضي من يُقدم عليه، ويبسط له الإيناس. تنقل في الممالك، وصرّفه الدهر بين صُبحه النيّر، ودُجاه الحالك، وقبض وسجن وامتلأ قلب الدهر عليه وشحن، وهو صابرٌ للأقدار فيما تنوبه، عالمٌ أن الزمان لا تدوم حروبه.
ولم يزل بالديار المصرية في آخر أمره، الى أن انصرمت مدّة عمره.
وتوفي رحمه الله تعالى بالديار المصرية، وجاء الخبر بوفاته الى دمشق في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبع مئة، وعمره ما يقارب الخمسين سنة.
كان الأمير ناصر الدين قد نشأ بصفد في حياة والده وكان والده ركن الدين يتصرف في المباشرات السلطانية من الولايات والشد وغير ذلك، وكان من أعيان أهل صفد، وفي آخر عمره ولي الحجبة الصغرى بصفد بإمرة عشرة، فلما خرج الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي نائب صفد هارباً منها طالباً دمشق تبعه عسكرها وركن الدين معهم، فناوشوهم القتال، فجاءته طعنة حمل منها الى صفد، ومات بها. وتقلّبت الأيام بولده هذا الأمير ناصر الدين، وترقى الى أن تولى الحجبة بصفد، ثم إنه أُمسك واعتقل بإسكندرية، في واقعة بيبغاروس لما كان صحبة الأمير علاء الدين الطنبغا برناق نائب صفد، ثم إنه أفرج عنه، وأخرج الى طرابلس، ثم طُلب الى مصر، وجُعل حاجباً صغيراً بحلب، وفوض إليه الأمير سيف الدين شيخو نيابة ديوانه بحلب، فاجتهد في خدمته، وعمّر الخان المليح والحمّام بجبّ السقّايين بين المعرة وحماة، ثم أضيف إليه شد الخاص وشد الأوقاف بحلب.(2/380)
ثم إنه رسم له بإمرة الحجبة الكبرى عوضاً عن الأمير ناصر الدين بن شهري، وأقام على ذلك الى أن طُلب الى مصر صحبة علاء الدين علي البشيري، فأعطاه السلطان بمصر إمرة طبلخاناه، وجعله مشدّاً في العمائر السلطانية بالقاهرة، ثم إنه جهّزه في سنة إحدى وستين وسبع مئة الى منفلوط لقبض مغلها، فقبضه وعاد الى القاهرة على شد العمائر.
ثم إنه مرض مرضة طويلة في ذلك الوباء العام، ووصل الخبر الى دمشق بموته رحمه الله تعالى.
وكان رحمه الله بارّاً بوالدته وإخوته وأخواته، عفيفاً أميناً في مباشراته، عارفاً درباً بما يتحدث فيه، فيه كرم ومروءة زائدة.
محمد بن عمران بن عامر القطناني
المقرئ الحرّاني البغدادي، الشيخ الصالح الملقّن عند البرادة بالجامع الأموي بدمشق.
كان مقرئاً فاضلاً عارفاً بالتجويد، حسن الأداء، حفظ التيسير والشاطبية وبعض المقنع.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة عشر وسبع مئة.
محمد بن عنبرجي
القان المغلي بن النوين عنبرجي المذكور.
كان صبياً من أبناء العشرين، من أهل توريز، لما قتل القان بوسعيد عنبرجي زعمت سريته أنها حبلى منه. فولدت محمداً هذا، فلما أقبل النوين الشيخ حسن الكبير من البلاد، وهزم جمع الملك موسى قان، وقتل موسى، عمد الشيخ حسن الى محمد هذا وأقامه في الملك، وناب له هو وابن جوبان وزوجة جوبان ساطي بك، وهي ابنة القان خربندا، وتماسك الأمر أشهراً. ثم أقبل من الروم ولدا تمرتاش، وأوهما أن أباهما حيّ معهما، وجعلاه في خركاة، فهرب الشيخ حسن الكبير الى خراسان، ثم أهلك هذا محمد. وماج الناس واشتد البلاء والظلم والنهب ببلاد أذربيجان وافتقر من الجَوْر جماعة، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن عيسى بن مهنّا
الأمير أخو مهنّا.
كان من أعيان أمراء آل فضل. وكان حسن الشكل، له معرفة ودُرْبة.
توفي رحمه الله تعالى بسلمية في يوم السبت سابع شهر رجب سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وصلى عليه قاضيها.
ولما كان قراسُنقر قد وصل الى بيوت أخيه مهنا، كان محمد هذا غائباً، فلما جاء وبصر به قال لمهنا: أبشر يا مهنا بالإنعامات والإقطاعات من السلطان، ففهم قراسُنقر الغدر منهم، فقام الى كاملة زوج مهنا وشال ذيلها ودخل تحته، فقالت: يا أبا محمد إن الله قد أجارك وجاءت الى مهنا. فقالت له: إيش يتحدث عنك العربان؟ إن هؤلاء الملوك جاؤوا إليك ونزلوا عليك، وإنك غدرت بهم لأجل الدنيا، فقال: الله الأحد إن الله قد أجارهم فقال محمد لأخيه مهنا: الله بيننا وبينك حرمتنا هواء الشام وطيبه.
محمد بن عيسى بن عيسى
ابن محمد بن عبد الوهاب بن ذؤيب بن مُشرّف الأسدي الغاضري الرياني، القاضي البليغ الناظم الناثر المفوّه شمس الدين ابن القاضي شرف الدين ابن قاضي شهبة.
رجل انقاد له الكلام، ونزل على حكم نثاره والنظام، له النظم المطبوع والنثر الغزير الينبوع، كتب الإنشاء وترسّل، وتوصل الى مآربه بذلك وتوسّل، إلا أن خطّه كان مرجوفاً، ولم يُعبه ذلك لأنه كان يودعه من إنشائه قلائد وشنوفاً. كتب للسرّ بحمص وغزّة، ونال فيهما شرفاً وعزة، وتولى الخطابة في غزة، فصدح على منبرها حمامة، وأقام بمواعظة المبكيات على الناس القيامة.
ولم يزل على حاله الى أن توارت شمسه بالحجاب، ودعا الحركة بعدما سكن فسكت وما أجاب.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شهر رمضان سنة أربع وستين وسبع مئة عن ثلاث وخمسين سنة في طاعون غزة.(2/381)
حرص عليه أهله، وشغّلوه بالعلم، فرأى أن رزق الفقهاء ضعيف، فرجع الى صناعة الكتابة، وقال لي: أخذت كتاب التنبيه والعمدة في الأحكام وكتاباً في النحو وألقيتهما في قدر والماء يغلي، وهجرت الاشتغال بالعلم، واشتغلت بصناعة الحساب، وكان موجب ذلك أني حضرت العزيزية سنةً فحصل لي منها خمسة دراهم في تلك السنة. وباشر في جهات، ثم إنه تعلّق بالإنشاء، وكان النظم والنثر فيه طباعاً، فتوجه الى مصر، وسعى في توقيع حمص، فتولاه من مصر، وباشره مع نيابة الأمير سيف الدين قلاوون في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، فأقام بها قليلاً، وانفصل منها، وعاد الى مباشرة الحساب، فتولى نظر نابلس، ولما توجه الأمير سيف الدين يلبغا نائب الشام الى القدس خدمه هناك، وبقي أمره على ذهنه، وحضر الى دمشق، وامتدحه وامتدح عز الدين طقطاي الدوادار، فقال يلبغا: ما تريد؟ فقال: يا خوند أكون كاتب إنشاء في دمشق بمعلومي الذي على نظر نابلس، وتوفر معلوم ناظر نابلس، فرسم له بذلك.
ولم يزل يكتب بديوان الإنشاء الى آخر وقت، ثم إنه جُهز في سنة إحدى وستين وسبع مئة الى غزة موقّعاً في أيام الأمير سيف الدين أسندمر الزيني، عيّنه لذلك القاضي أمين الدين بن القلانسي كاتب السر بالشام لما عزل الشريف كمال الدين موقّع غزة، ولما كتب الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي في معنى أولاد رزق الله وعُزلوا من صفد، رُسم بأن يكون كاتب سر بصفد في سنة اثنتين وستين وسبع مئة، فأقام قليلاً، وأعيد الى غزة. فأقام على كتابة سرها والخطابة بها الى أن توفي رحمه الله تعالى في طاعون غزة في التاريخ المذكور.
وكان قادراً على الهجو المقذع، وبيني وبينه مكاتبات كثيرة، وهي مُودعة في التذكرة التي لي في أماكنها، ومنها شيء في كتابي ألحان السواجع.
كتب إلي وهو بدمشق قرين جبن صرخدي أهداه لي:
يا شجاع الوجود في العلم والفض ... ل وشيخ الأنام في كل فن
قد تجاسرت في الهدية فاسمح ... بالتغاضي واستر بحلمك جُبني
فكتبت أنا الجواب إليه:
حاش لله أن يُرى منك جبن ... ومعاليك قد حَوَت كل حُسن
وكريم الأقوام فهو شجاع ... والبخيل الذي تردّى لجبن
وكتبت إلي قرين ماء وردٍ أهداه:
يا سيداً تجلو ثنايا لفظه ... لظامئ الأكباد برداً من بَرَدْ
ومَنْ إذا ما لمَست يمينُه ... جمر الغضا من الندى الغمر برد
كان لكم عندي فيما قد مضى ... وعدّ بماء الورد، لكن ما ورد
والآن قد وافى فقابل كسره ... بالجبر لا يخجل إن جاء ورد
وعش مدى الدهر صلاحاً في الورى ... تصلح من حال الأنام ما فسد
في نعمة وافرة مديدة ... تكتب فيها بالبقاء من حسد
يا خير روح للعلا طاهرةٍ ... كم أنعشت للمكرمات من جسد
وكتب إلي، وقد نظمت قصيدة في مديح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا إماماً قد أتى العزَّ الى ... بابه ينقاد في أرسانه
لو رآك المصطفى في عصره ... مثبتاً فُقتِ على حسّانه
بمديحٍ فيه قد جئت به ... بعد ما جاء فتى غسّانِه
إن دهراً سُدت فيه سيدي ... ناظر أنت ضِيا إنسانه
عبدك الشاكر وافى سائلاً ... كيف مولانا على إحسانه
وكتب إليّ ملغزاً:
أيها الفاضل الذي هو في الفض ... ل إمامٌ والناس جمعاً وراء
والبليغ الذي له لطف معنًى ... عجزت عن مثاله الفصحاء
والإمام الذي له لطف خطّ ... لم تطق وصف نوره الشعراء
ما اسم ثاوٍ في الأرض بين البرايا ... وله صاحبٌ حوته السماء
وهو عارٍ ومكتسٍ ثوب حُسن ... عنده الصيف والشتاء سواء
لم تحكْ ثوبَهُ يدٌ ولم تَحْ ... وِ نَظيراً لنسجه صنعاء
قام بالعُرفِ آمراً وعلى العا ... دة يجري وليس فيه رياء
فأبنه يا ذا الرئيس المفدّى ... لا نأتْ عن مقرك النعماء(2/382)
وابقَ ما غنّت الصوادح في الصب ... ح ولاح الضحى وولى المساء
فكتبت أنا الجواب عن ذلك، وهو في ديك:
يا فصيحاً عنت له البلغاء ... وبليغاً ونَت له الفصحاءُ
والبليغ الذي إذا ما بدا البَد ... رُ لديه اعتراه منه حياء
نظمك المستَلذّ في كل سمعٍ ... هو والدرّ والأغاني سواء
أنت ألغزْتَ في مسمى عجيبٍ ... طائر ما حواه قطّ الهواء
وهو يمشي مثل الملوك بتاجٍ ... وعلى رأسه يشالُ لواء
ليس تُحصى أشخاصه وهو يُحصى ... فعجيب لما يراه القضاء
وتحاشى من عِكسِهِ فهو أمر ... يتبرّا من فعله الكرماء
وإذا ما صحّفته يتبدّى ... حيواناً وقد حواه المساء
فابق واسْلم لكل لغز بديع ... فهو فنّ تحبه الأدباء
وكتب هو إلي من غزة:
ذكرتك والجوّ في حُلةٍ ... مكللةٍ بلآلي النجوم
وبرق الدجى خافقٌ ومضهُ ... كقلبٍ مُعنىً عديم الهجومِ
وعرفُ الصَّبا كزمان الصِّبا ... رقيق الحواشي نديّ النسيم
وللبحر أفواج موج حَكَت ... تزاحُمَ خيل الكفاح العقيم
ورمل الكثيب بتمويجه ... يحاكي البُرود حسان الرقوم
وكأس المدام مدام الصفا ... كودّك لو كنتَ فيها نديمي
فهاج لذكراك عندي هوًى ... رمى نار حرّ الأسى في صميمي
وأضعف من همتي قوةً ... لفقدك تُغزى بجيش الهموم
وبات حديثك لي مُؤنساً ... يعلّلني بالرحيق القديم
فجادَك صوبُ سلام امرئٍ ... مقيم على ودّه المُستقيم
سقيم إذا شافَ ريّاكم ... رجا بالعليل شفاء السقيم
يقبّل الأرض ويُنهي ما لم يَخفَ من العلوم الكريمة من مضاعفة شوقه، ومضاعفة أسفه الذي أحاط به من تحته وفوقه، وما يجده من التألم لانقطاع مراسيم مولانا التي تفُل حدّ الغربة بغَربها، وتحجب عن الأنفس المكروبة والمحزونة كرّب كربها:
وقد غضبت حتى كأني مذنب ... أروم الرضا منها ويا ليتها ترضى
أنهي ذلك إن شاء الله تعالى.
فكتبت أنا الجواب عن ذلك:
أتاني كتابُك والجو قد ... توشّع من بارقات الغُيوم
فهذا يجود بدُرّ الحيا ... وهذا يجود بدرّ العُلوم
وما الدّر كالدّر بين الورى ... ولا الزّهر فيهم كزهر النجومِ
ويا حُسنه وافداً قد غدا ... ينفّس عني خناق الهمومِ
ويوقفني اللفظ منه على ... نديم لكلّ سرور مُديم
بخطٍ ترفّع في وَضْعه ... أويْتَ الى كهفه والرقيم
وولّى الوليّ لإقباله ... كما ابنُ هلالٍ غدا في النجوم
وأنستْ حلاوتُه شُهدةً ... ورقّت حواشيه لابن العديم
أيا عربيّ القريض افتخرْ ... فكم في معانيك من ابن رومي
ومثلك ما دار في دارم ... ولا تمّ ما قلته في تميم
يهز نظامك أعطافنا ... كأن قوافيك بنت الكروم
وتحكي الرياض بأسطارها ... نسيبك فيها نسيب النسيم
وبعد فإني في وحشة ... سميري أذكاري وصبري حميم
يقبل الأرض وينهي ورود المشرّف الكريم، فوقف الملوك لوروده، وقبّل من سطره وطرسه عِذار آسِه ووجنة وروده، ومتع ناظره من جنته الناضرة بحدائق ذات بهجة، وفداه لما رآه بسواد العين وسُويداء المهجة، وتحقّق أن أبا ذر حديثه أصدق لهجة، فلم يرتب فيما ادّعاه من المحبة، وقال لا شُبهة في وداد ابن قاضي شهبة:
قلبي لديك أظنّهُ ... يُملي عليك وتكتب
فكتب هو الجواب عن ذلك:
ساق الحمامُ الى لقائك نائحاً ... صبّ تذكّر نازحاً أوطانَه(2/383)
فاهتزّ قلبي باهتزاز أراكه ... طرباً، وهيّج شجوه أشجانه
ودعا وقد بلّ الندى أذياله ... صُبحاً، ورصفت الصّبا أفنانه
وشكا كما أشكو الحمام وإنما ... لم يُجْرِ مثلي بالبكا أجفانه
لكنْ أعان على الجوى وأخو الهوى ... إن عاين العاني الكئيب أعانه
ومع الإعانة أذكر العيش الذي ... ما زلت أفدي بالحياة زمانه
حتى إذا حسر الصباحُ قناعه ... وجد النهار سوره وأبانه
غنى وصفّق طائراً بقوادم ... تدنيه إن أنأتْ نوىً جيرانه
فبكيت محزوناً، وقلت تعلُّلاً ... ليت الحمام أتم لي إحسانه
يقبّل الأرض وينهي ورود الجواب الجريم عما كان تهجّم الملوك من العبودية، والأبيات التي بان بتلك المراجعة قصورها، وتضعضع بتلاوة سور تلك العوذ الصلاحية سورها وصُورها، فقابل العبد ذلك الفضل الخليلي مسلماً إليه وعليه، ووقف سيف ذهنه الكالّ عنده، فإنه ينفق مستجدياً، ومولانا ينفق مما أفاه الله وأفاض من سعة فضله عليه، يا أُلْفَ مولاي قد تجاسر العبد، ولكن والله مقتبساً من أنوار فضائلك، وتهجّم ولكن ملتبساً من مبارّ شمائلك، ومع هذا فعين الله على ميم منطقك، وحاء حمايته على راء رونقك، فإنك، فداك الأعداء، حُر غمر بالجود، ومولى بمزيّه مزيدٌ شانه الحسود، ومازال الملوك من ورود ذلك المثال العالي يتحلى بألفاظ شهدته، ويتأنّس بمعاينة الوارد عن وحيد العصر. فما يشكو ألم وحدته، يا مخدومي، من أين للقائل سواك أن يقول:
وأنست حلاوته شهدةً ... ورقت حواشيه لابن العديم
وأن يقول:
أيا عربيّ القريض افتخر ... فكم من معانيك من ابن رومي
وإنما سبحان من جعل مفاتيح كنوز الأدب بيديك، وصرّفك فيما صرفك عن قبول ما أنعم به عليك، وسؤال المملوك من الصدقات إدامة الجبر الكريم، فإن المملوك إذا رأى كتاب سيد شاهد معانيه من مثاله، وتذكر مواصلة الخيرات الحِسان بين يديه بالنشر الفائح من طي أوصاله.
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
وافى قريضك فاستمال أخال الهوى ... وثنى الى ذكرى صباه عيانه
هاجت بلابلُه بلابل صبوتي ... قدْماً وذكّرني العقيق وبانَه
فكأن رقم سطوره روضٌ غدت ... تثني نسيمات الحمى أغصانه
أخملت منه خمائل الشعراء وال ... كتّاب لما عاينوا عنوانه
أما السّراج فما لشعلة نظمه ... نور وسود في الطروس دخانه
وابن النقيب عصت عصاه فلم تسق ... جُند القريض وعطّلت ميدانه
وكذلك الجزار ليس لشعره ... شعرٌ وأغلق في الورى دكانه
والفاضل المشهور أصبح خاملاً ... في نثره ورأى الورى نقصانه
وكذلك الجزري أنبت نثره ... روضاً فلم يرض الورى بستانه
وكذلك ابن الصيرفي لم ينتقد ... شيئاً، وعطل بعدها ميزانه
يا من قطعتُ به زماناً بالحمى ... سُقي الحمى ورعى الإله زمانه
عصرٌ متى أملى النسيم حديثه ... في الروض فتّح زهرُه آذانه
سجْعُ الحمام يلذ لي لا سيّما ... إن حركت أيدي الصبا عيدانه
فيجد لي ذكراك في تغريده ... وأروح ريان الحشا نشوانه
يا حسرتا ليت الحمام أعاد لي ... إحسانه فأعارني طيرانه(2/384)
يقبّل الأرض، وينهي ورود الجواب الكريم على من ورَد، الجسيم الفضل الذي دخل باب الأعجاز وردّ، العميم الإحسان الذي يروي صدى من صدر عنه أو ورَد، فتلقاه بكلتا يديه، وضمه وشمّ أنفاسه، ووضعه على رأسه لا بل أتحف بالتاج رأسه، وفضه عن فضل نظم رأى ملائكة البلاغة حرّاسه، واستجلى من طرسه ياسمينة ومن سطره آسه، وبهت لرقم طروسه، الى أن قاس بالمسك الأذفر أنفاسه، ونظره فإذا هو قد اختبا له في اختباله، وما احتمى له احتماله، وخلط جسده بجسده، وعقل لسانه بحبلٍ من مسده، وصرفني عن معارضته بالجواب، وقال: الاعتراف بالقصور أولى وأليق بالصواب، فما أنت ومكاثرة الغمائم ومكابرة هذه السمائم ومنافحة هذه الكمائم، ومناوحة هذه الحمائم، أُدخل تحت ذيل الاعتراف وقل تبختري يا ديباجة البحتري، وفُوقي النظّارة يا نضارة المشتري، واخلبي القلوب يا أقلامه التي نفثت السحر في العُقد، وصولي على كتّاب هذا الزمان فقد نبّهت من هذا الفن ما أغفى ورقَد. والمملوك فقد اعترف، ووقف على الشاطئ ولو أمكنه لاغترف، ولكنه يدعو ببقاء هذه الفضائل، ودوام هذه التحف التي أمسى بها فنّ الأقدمين وهو متضائل، إن شاء الله تعالى.
وفي التذكرة التي لي في أماكن متفرقة أشياء كثيرة مما دار بيني وبينه.
محمد بن غالب بن سعيد
الشيخ الإمام الزاهد الصالح البركة المحدث شمس الدين أبو عبد الله الأندلسي الجيّاني.
ارتحل في طلب الحديث، وسمع من الرضي بن البرهان، وابن عبد الدائم، وطبقتهما.
وجاور بمكة، الى أن توفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده بعد العشرين وست مئة.
محمد بن أبي الفتح
ابن أبي الفضل بن بركات، الإمام المفتي المحدث المتقن النحوي البارع شمس الدين أبو عبد الله شيخ العربية البعلبكي الحنبلي.
سمع من الفقيه محمد اليونيني، وابن عبد الدائم، والعز حسن بن المُهَير، وابن أبي اليسر، ومن بعدهم. وعني بالرواية، وحصّل الأصول. وجمع وخرّج، وأتقن الفقه، وبرع في العربية، وصنف شرحاً كبيراً للجرجانية، وجوّده، وأخذ عن ابن مالك ولازمه.
وحدث بدمشق وطرابلس وبعلبك، وتخرج به جماعة، وكان إماماً متواضعاً متزهداً، ريّض الأخلاق حسن الشمائل على الإطلاق، جيّد الخبرة بألفاظ الحديث، مشاركاً في رجاله أهل القديم والحديث.
ولم يزل على حاله الى أن توجه الى القاهرة، وانتقل منها الى الآخرة.
وتوفي رحمه الله تعالى بالمنصورية ليلة السبت ثامن عشر المحرم سنة تسع وسبع مئة، ودفن بمقبرة عبد الغني.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
وكان قد توجه من دمشق الى القدس، ومن هناك توجه الى الديار المصرية، فمرض أياماً يسيرة، ومات رحمه الله تعالى.
محمد بن فضل الله
القاضي بدر الدين الموقع، أحد الإخوة، شرف الدين عبد الوهاب ومحيي الدين بن يحيى.
كان قد أسره التتار في أيام غازان، ودخل معهم البلاد، ومنّ الله عليه بالخلاص من أسرهم، ووصل الى دمشق في يوم الأربعاء ثالث عشري جمادى الآخرة سنة أربع وسبع مئة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: وروى لنا الأربعين الثقفية عن العراقي بإجازته من السِّلفي، وسمع أيضاً من فرج الحبشي والشرف الإربلي. وكان ليّن الكلمة، لطيف الجانب، من أعيان الكُتّاب المتصرّفين.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع جمادى الأولى سنة ست وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وثلاثين وست مئة بطبرية.
محمد بن فضل الله
القاضي الكبير الرئيس الشهير فخر الدين ناظر الجيوش بالديار المصرية.
كان عند أستاذه وجيهاً الى الغاية، ومكيناً من خاطره الى النهاية، لا يمكّن السلطان في الغالب من فعل ما يريد، ولا يدع أحداً يجتمع به من أهل السّر السريد، ومن اجتمع به بغير علمه راحت روحه، وأثخنت جروحه، فكان للناس رحمة، وبه كانت كلُ بيضاء شحمة، والناس في أمان على أموالهم وأرواحهم، وسمات القبول والإقبال تهبّ عليهم في غُدوّهم ورواحهم، نصَل عنده خضاب ابن حنّا، والوزيرُ الفائزي ما فاز مثله بما تمنى، وابن السَلعوس ما بلغ وجاهته، ولا رأى طول مدته ولا حصّل تفرّجه ونزاهته:
جمال وزارة وشهاب دَسْتٍ ... وسائس دولةٍ وسعيد قال
تحمّل للممالك كلَّ عبءٍ ... فقام له قدَم الكمال(2/385)
فأخصَبَتِ الممالك بعد جدبٍ ... وأُنشطت الممالك من عقال
فإن يك آخر الوزراء عصراً ... فقد خُتمت به الرتبُ العوالي
وما برح الحيا قطراً ووبلاً ... أواخرُه تنيف على الأوالي
ولم يزل في نصرة مظلوم وإنالة محروم، الى أن حوّمت عليه المنية، وعَظُمت فيه الزريّة.
وتوفي رحمه الله تعالى في نصف شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة. وكان عمره ثلاثاً وسبعين سنة.
وكان قد سمع من الأبرقوهي، وانتفع به خلق كثير في الدولة الناصرية من الأمراء والنوّاب والعلماء والقضاة والفقراء والأجناد وغيرهم من أهل الشام ومصر لوجاهته عند مخدومه، وإقدامه عليه، لم يكن لأحد من الترك ولا من المتعمّمين مثل إقدامه عليه.
حكى لي القاضي عماد الدين بن القيسراني أنه قال له يوم خدمة ونحن جلوس في دار العدل: يا فخر الدين تلك القضية طلعت فاشوش. فقال: ما قلت لك إنها عجوز نحس وتكذب. قال عماد الدين: يريد بذلك بنت كوكاي زوج السلطان، لأنها كانت ادّعت أنها حُبلى.
وأما أنا فسمعت السلطان الملك الناصر يقول يوماً في خانقاه سرياقوس لجندي وقف بين يدي يطلب إقطاعاً: لا تطوّل، والله لو أنك ابن قلاوون ما أعطاك القاضي فخر الدين خبزاً يعمل أكثر من ثلاثة آلاف درهم.
وكان قد غضب عليه في وقت عندما حضر من الكرك في المرة الثانية، وطلب القاضي قطب الدين ابن شيخ السلامية من الشام، وولاه مكانه، وأخذ منه أربع مئة ألف درهم، وذلك في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، فأفرج عنه، وأعيد الى نظر الجيش شريكاً لقطب الدين في جمادى الأولى من السنة المذكورة. ولما رضي بعد قليل عليه أمر بإعادتها عليه، قال: يا خوند أنا خرجت عنها لك، فابنِ بها جامعاً، فبنى بها الجامع الذي في موردة الحَلفاء.
وكان في آخر عهده يباشر بلا معلوم، وأعرض عن الجميع، وترك الكُماجة الحمراء تحضر إليه من المخابز السلطانية، ويقول: أتبرّك بها.
وحكي عنه أنه من يوم إسلامه تسمّى بمحمد، وأعرض عن النصارى جملة كافية، فلا يقربه نصراني ولا تحوي داره نصرانياً.
وحكى لي شيخنا الحافظ فتح الدين قال: قال القاضي شرف الدين بن زنبور - وكان خال القاضي فخر الدين هذا: ابنُ أختي عمره متعبّد متألّه لأننا كنا نجتمع على الشراب في ذلك الدّين، فيتركنا وينصرف ونفتقده إذا طالت غيبته، فنجده واقفاً يصلّي، ولما ألزموه بالإسلام امتنع، وهمّ بقتل نفسه بالسيف، وتغيّب أياماً، ثم إنه أسلم وحَسُن إسلامه الى الغاية.
وحجّ غير مرة، وزار القدس غير مرة، وفي بعض المرات أحرم من القدس، وتوجّه الى مكة مُحرماً من هناك، وبنى مساجد كثيرة بالديار المصرية وعمّر أحواضاً كثيرة في الطرق، وبنى بنابلس مدرسة، وبنى بالرملة بيمارستاناً، وأكثر من أفعال البر.
وقال لي القاضي شهاب الدين: إنه كان حنفي المذهب.
وكان إذا خدَمه الإنسان في العُمر مرة واحدة كفاه مؤونة أمره، وصحبه الى آخر الدهر، وقضى أشغاله، ونقله الى وظائف أكبر مما في يده، فكانت فيه عصبية شديدة لأصحابه. وقيل: إنه كان يتصدق في كل شهر بثلاثة ألف درهم.
وكان في أول أمره كاتب المماليك الى أن توفي القاضي بهاء الدين بن الحلي، فولاه السلطان مكانه في نظر الجيوش، وكان الأمير سيف الدين أرغون النائب يكرهه كثيراً، وإذا قعد للحكم أعرض عنه، وأدار كتفه إليه، ولم يزل فخر الدين يعمل عليه الى أن توجّه الى الحجاز، فقيل: إنه أتى يوماً بذكره، وقال له: يا خُوند، ما يقتل الملوكَ إلا نوابهم، هذا بيْدَرا قتل أخاك الأشرف، ولاجين قُتل بسبب نائبه منكوتمر، فتخيّل السلطان من أرغون، ولما جاء من الحجاز جهزه الى حلب نائباً. وهو الذي حسّن للسلطان أن لا يكون له وزير بعد الجمالي، ولذلك بقيت أمور المملكة ترجع إليه، وهي متعلقة به من الجيش والأموال والعزل والولاية.
وسمعت أنا من قرمان شخص كان كاتباً بصفد، أنه جاء مرة الى القدس وكتب هناك وتوجه الى قمامة، وكنتُ خلفه، وهو لا يراني، وهو يمش وينظر الى تلك الآثار والمعابد، ويقول: " ربَّنا لا اُزِغ قلوبَنا بعد إذْ هدَيْتَنا " .(2/386)
وعلى الجملة فكان للزمان جمال ورونق، ولما قيل للسلطان إنه مات لعنه وسبّه، وقال: له خمس عشرة سنة ما يدعني أعمل ما أريد. ومن بعده تسلّط السلطان على الناس، وصادر وعاقب وتجرأ على كل شيء. وأوصى عند موته للسلطان بأربع مئة ألف درهم، فأخذ منه ما يزيد على الألف ألف درهم.
وكتب إليه شيخنا العلامة شهاب الدين محمود ما أنشدنيه إجازة:
في دعاء الإله في كل عام ... لك فخر تسمو به في الأنامِ
وحجيج البيت المُحرَّم أنّى ... شئته من أسنى المزايا الجسام
كل حول تعود عن كعبة الل ... ه نقياً من سائر الآثامِ
عارياً من ملابس الذنب قدما ... رافلاً في حُلى القبول الوشام
مع ما تبتنيه ثم من الطا ... عات ما بين زمزم والمقام
قد ألفْت السرى فلو رمت في اليق ... ظة مثوىً لسرت في الأحلام
هويتك المشاعر الزهر تختا ... ل بها في ملابس الإحرام
فهي تشتاقك اشتياقك إيّا ... ها فسيّان أنتما في الغَرامِ
لك وجدٌ بالبيت والعروة الوث ... قى ولا وجَد عُروة بن حزام
فجزاك الإله عن سعيك المب ... رور خيراً جمّاً عن الإسلام
فلكم قد سهرت في حرَم الها ... دي عليه السلام ليل التّمام
في حمى لو يُسعى إليه على الرا ... س لقدّمته على الأقدام
حيث تُغني عبارةُ العبرات الب ... كم في الشوق عن فصيح الكلام
وتُراح الشكوى ويستمطر البرْ ... ر ويعنى العانية ويُروى الظامي
وتجازى عن بذلك الرِّفدَ للوف ... د وإكرامهم جزاء الكرام
وإذا عدت عنه عدت خفيف ال ... حاد إلا من الأجور العظام
فلك الله حافظٌ ومثيب ... ومعين في رحلة ومقام
ومجازٍ بالعز في دار دنيا ... ك وعز الأخرى بدار السلام
محمد بن فضل الله بن أبي الخير
ابن غالي، الوزير الكبير غياث الدين خواجا ابن الوزير رشيد الدولة الهمذاني.
كان من أجمل الناس صورة، وصفاتُ الخير فيه محصورة، والمحاسن على ذاته مقصورة، لم ينَلْ أحد رتبته في الممالك القانية، ولا وصل الى محلّه من قلب مخدومه في تدبير الأمور السلطانية، وكان له عقلٌ وافر، وذهنٌ في تدبير الأمور متضافر، وفكرُ صُبح عقباه الى النجاة والنجاح سافر، داهية ذا غَور، يتطور في بلوغ مقاصده طوراً بعد طور، مع حسن إسلام وكرم يخجل منه الغمام، ويسجع بوصفه الحمام، أثّر الآثار الجميلة، وخرّب كنائس بغداد، وجعلها دِمنة، والعيون من أهلها كليلة. وهو كان السبب في صلح الإسلام مع التتار، وبه صارت سُنة باقية إن شاء الله الى يوم تُكشف فيه الأستار:
هو العارض الثجّاجُ أخضل جَودُه ... وطارت حواشي برقه فتلهّبا
إذا ما تلقّى في الوغى أصعق العدى ... وإن فاض في أكرومة غمر الرُبا
ولم يزل على حاله الى أن توفي بوسعيد رحمه الله تعالى، فأخذ سعده، وما طال بعده أمره الى أن سكن لحدَه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
وكان هذا الوزير غياث الدين قد ولد في الإسلام، ولما نُكب والده وقتل سلِم هو، وقد تقدم ذكر والده في حرف الفاء مكانه، واشتغل مدّة، وصحب أهل الخير. ولما توفي الوزير علي شاه طلبه السلطان بوسعيد، وفوّض إليه الوزارة، ومكّنه وردّ الأمور إليه، وألقى إليه مقاليد الممالك، وحصل له من الارتقاء والملك ما لم يبلغه وزير غيره في هذه الأزمان، وكانت رتبته من رتبة نظام الملك.
وكان جميل الصورة، وأمه تركية، وله عقل ودهاء وغَور، وكان خيراً من والده، خرّب كنائس بغداد، ورّد أمر المواريث الى مذهب أبي حنيفة، فورّث ذوي الأرحام، وكان إليه تولية نيابة الممالك وعزلهم لا يخالفه القان في ذلك. وخدم السلطان الملك الناصر محمداً صاحب مصر كثيراً، وراعى مصالحه وحقن دماء الإسلام، وقرر الصلح، ومشّى الأمور على أجمل ما يكون.(2/387)
ولما توفي القان بوسعيد رحمه الله تعالى نهض الوزير غياث الدين الى شابّ من بقايا النسل يقال له: أربكوون وقد تقدم ذكره في حرف الهمزة، فسلطنه، وأخذ له البيعة على الأمراء واستوسق له الأمر، فخرج عليهما علي باشا خال بوسعيد وابن بَيدو فانْفلّ الجمع، وقُتل أرباكوون والوزير في التاريخ المذكور.
محمد بن فضل الله بن أبي نصر
ابن أبي الرضا السديد المعروف بابن كاتب المرج.
قرأ النحو والأدب والأصول على نجم الدين بن الطوفي البغدادي الحنبلي بقوص، ثم قرأ التقريب على مؤلفه الشيخ العلامة أثير الدين، وتأدّب على تاج الدين أبي الفتح محمد بن الدّشناوي، والأمير مجير الدين عمر بن اللّمطي، وشرف الدين محمد النصيبي بقوص، وغيرهم.
أديب كامل، ولبيبٌ لأنواع اللطف شامل، كأنما خلق من نسمات السحر، أو تكوّن من شمائل أغيد إن نطق سلب، وإن رنا سحر. حسن الصورة، عليه ملامح الجمال مقصورة، مع فصاحة لسان وسماحة بنان، وحسن كتابة، وكثرة وقوع على الإصابة، وصدق لهجة، وسير سيرة سلك فيها أوضح محجة، ونظم ما للسراج معه إضاءة، ولا للجزار به لحاق، ولو قطع أعضاءه، ولا للبوصيري ولو صار في سكّر دانه صيرا، ولا للنصير الحمّامي ولو كان ابن النقيب له نصيراً، وهيهات، هذا في علوّ ورفعة، يضيء وأين النجم ممن يحاوله.
ولم يزل في بلاد الصعيد يتنقل، ويقرع هضبات الولايات ويتوقّل، الى أن فُتح سدّ المنايا على ابن السّديد، وأصبح في الصعيد من تحت الصعيد.
وتوفي رحمه الله تعالى في ...
وتقلب في الولايات السلطانية، وهو في كلها محمود السيرة. وتولى وكالة بيت المال بقوص، وجلس بالورّاقين بقوص.
وقال الفاضل كمال الدين الأفودي: كان والده قد أعطى في سعة العطاء ما يعزّ الآن وجوده، فجازاه الله بما أسلف من خير، إسلام أبنائه أجمعين، وهداهم الى اتّباع سيد المرسلين، وانتقلوا من شريعة عيسى الى شريعة محمد المختار " وربُّك يخلقُ ما يشاءُ ويختار " .
وله مشاركة في النحو والأصول والحكمة والطب وغير ذلك، وجرى على مذهب أهل الآداب في أنهم يستجلون محاسن الشباب، ويستحلّون التشبب في الشراب ووصف الحباب. انتهى.
أنشدني من لفظه القاضي صدر الدين سليمان بن داود بن عبد الحق قال: أنشدني من لفظه القاضي سديد الدين ابن كاتب المسرج:
تحاول عيني جهدَها أن تراكمُ ... وكيف وفيها للدموع تراكم؟
أيا جيرة الوادي ولم أدر طيبه ... أمِن شجرات فيه أم شذاكم
فبالمسك مالي حاجة إن أتيتكم ... ولا لكم إن طيبُ ذكري أتاكم
وما بي فقرٌ إن وقفت بأرضكم ... لأن ثرائي وقفة في ثراكم
أسير إليكم والسقام مسايري ... فإما حمامي دونكم أو حماكم
وإن فات تفديكم من السوء مهجتي ... وما مهجتي حتى تكون فداكم؟
هويتكم والناس طرّا فما الذي ... خُصصت به حتى ولاء هواكم
وفيم يعاديني الأنام عليكمُ ... وكلهم أحبابكم لا عداكم
كفاني إليكم أن مالي وسيلة ... ولو شئتم أن تحسنوا لكفاكم
وكان شبابي إن غضبتم تجنّباً ... شفيعاً الى ما أرتضي من رضاكم
وكنت أظن الشيب ينهى عن الهوى ... فلم ينهني عنكم، ولكن نهاكم
قلت: البيت الأول مأخوذ من قول شمس الدين محمد بن العفيف:
في دمع عيني تراكم ... لعلها أن تراكم
وبه قال: أنشدني لنفسه:
وقالوا: لم صحبت شرار قوم ... ولاموني ولومهم حماقهْ
وكيف أميّز الشرير منهم ... ولم أعرفه إلا بالصداقه
قلت: أبو الطيب كان أحكم بقوله:
أخالط نفسَ المرء من قبل جسمه ... وأعوفها من فعله والتكلم
وبه قال: أنشدني لنفسه:
ولي في الهوى العذريّ عذرٌ وإنما ... عذار الذي أهواه لي فيه أعذارُ
أيحسن أن أسلو وخدّاه جنة ... وقد كنت لا أسلوهما وهما نارُ
قلت: وقد لهج الناس بهذا المعنى كثيراً، ومن أحسن قوله وبه قال: أنشدني لنفسه:
أوصيكَ يا مُرتَحلاً ... بقَلب مَن قَد ودّعَك(2/388)
إن عاش أو ماتَ فلا ... تُفِض عليه أدمُعَك
وارْدُدْه ليَ مُصَبّراً ... فالقلبُ والصّبرُ معَك
ومن شعر ابن كاتب المَرج:
إذا حملتْ طيبَ الشّذا نسمةُ الصَّبا ... فذاكَ سلامي والنّسيمُ فمِنْ رُسْلي
وإن طلعت شمسُ النهار ذكرتُكم ... بصالحةٍ والشيُ يُذكرُ بالمثلِ
قلت يريد: طيب الشذا: سلامَه، والنسيم نفسه رسول، فلا يُتوهّم أن الاثنين واحد، والثاني والأول مأخوذ من قول:
إذا طلعت شمسُ النهار فسلّمي ... فآيةُ تَسليمي عليكِ طلوعُها
وقوله: والشيء يذكر بالمثل أصلُ المَثَل: والشيخ بالشيء يُذكرُ. ولو قال: والمثلُ يُذكر بالمثل لكان أحسن.
ومنه:
أقولُ لجُنح الليل لا تَحكِ شعر مَن ... هويت وهذا القولُ من جهتي نُصحُ
فقد رامَ ضوءُ الصّبحِ يَحكي جبينَه ... مِراراً فما حاكاهُ وافتضحَ الصّبحُ
ومنه:
برقٌ بَدا من دار عَلوهْ ... أو قلبُ صَبٍّ صار جذوه
فيها قلوبُ العاشقي ... نَ تضرّمتْ صدّاً وجَفوه
إني اجتهدتُ فصرتُ في العُش ... اقِ قُدوة كل قُدوه
لو أنّ قَيساً مُدركي ... لمشى على نهجي وعُروه
لا عيشَ من بعدِ الصّبا ... يَحلو سوى بجنون صَبوه
بمُهَفْهَف يسبي العقو ... لَ كأنّ في جَفْنَيه قهوه
أبداً قضيبُ القدّ من ... ه يميلُ من لينٍ ونَشوه
قد أسْكَرَتْ رشَفاتُه ... لكنها كالشّهدِ حُلوه
ومنه:
ورد الكاسَ فهي نارٌ إذا كا ... نَ ولابدّ من دخول النارِ
وتحدّ الذين لم يردوها ... بضُروبٍ من معجزاتِ الكبار
فاجْلُ في الليلِ من سَناها شموساً ... وأدِرْ في النّهارِ منها الدَّراري
وأرِ الدّرّ مَن يغوصُ عليه ... عائماً من حبابها في النّضارِ
إنما لذّةُ المُدامةِ مِلكٌ ... لكَ فاشْرَبْ وما سواها عَواري
قلت: قوله: وأدِرْ في النهار منها الدّراري استعمل هذا المعنى مجير الدين بن تميم أحسن من هذا، ومن خطه نقلت:
أمولاي أشكو إليكَ الخُمّار ... وما فعَلته كؤوسُ العُقار
وجَور السُّقاة التي لم تزل ... تريني الكواكبَ وسطَ النهار
ومن شعر ابن كاتب المَرج:
لمَن أشتكي البرغوثَ يا قومِ إنه ... أراق دمي ظُلماً وأرّق أجفاني
ومازال بي كالليث في وَثباته ... الى أن رَماني كالقتيل وعرّاني
إذا هو آذاني صبرتُ تجلّداً ... ويخرُج عقلي حين يدخلُ آذاني
قلت: ذكر أصحاب الخواص أن البرغوث إذا دخل في أذن أحد ووضع الإنسان يده على سرّته أو أصبعه في سرته وقال: سبقْتك فإن البرغوث يخرج منها.
وقال علاء الدين الوداعي في البَراغيث، ومن خطّه نقلتُ:
براغيثُنا فيهم جَراءَة ... فبالأسرِ والقتل لا يَرجِعونا
كَثيرو الأساةِ مع أنهم ... قليلاً من الليلِ ما يَهجَعونا
ونقلت من خطّه له مضمّناً:
براغيث تَسري في الظّلام كأنّها ... حراميّة من بيضها يُسفكُ الدّمُ
قوارضُ تأتيني فيحتقرونها ... وقد يملأ القَطرُ الإناءَ فيُفعَمُ
ونقلتُ منه أيضاً له:
براغيث فيها كثرة فكأنها ... علينا من الآكامِ يحتفرونها
تقولون لي صِفْها فقلتُ أُعينكم ... قوارض تأتيني فيحتقرونها
وما أحسن قول الصّاحب جمال الدين بن مطروح:
رُبّ برغوث ليلة بتُّ منه ... وفؤادي في قبضة التسعين
أمكنتْ قبضة الثّلاثين منه ... فسقتُه الحِمامَ في سبعين
وقال آخر:
للبراغيث صارَ جسمي مَقيلاً ... ففؤادي من شرّهم في عَذاب
طفَح السُّكر والشّراب عليهم ... فتقايَوا دَمي على أثوابي
ومن شعر ابن كاتب المرج:
أما وطيب عشيّات وأسحارِ ... من بعدِها أفَلَتْ شمسي وأقماري(2/389)
بها أذكّرُ دهري كي يَجودَ بها ... فلا يَجودُ ولا يأتي بأعذار
لو أن تلك من الأيّام عُدْتُ بها ... أو الليالي ولم تَحْتجْ لتِذْكارِ
لله ليلاتها البيض القِصار فكم ... سطَوتُ منها على دهري ببتّار
أنكرتُ إفْشاءَ سرٍّ كنتُ أكتُمُه ... فيها ولكنني أنكرتُ إنكاري
يا للعجائب ليل ما هجَعْتُ به ... لنوره كيفَ تُخفى فيه أسراري
إن الضنى عن جميعِ الناس ميّزني ... فكان علّة إخفائي وإظهاري
فلا تقولوا إذا اسْتبطأتُم خَبَري ... أما النّسيمُ عليه سائر ساري
فلو يمرُّ نسيمٌ بي لَسارَ الى ... مغناكُم بي كما يَسْري بإخباري
ومن نظم ابن كاتب المَرج موشح كتب به الى كما الدين الأدفوي:
لي مَربعٌ قد خلامن أهله في السَّبْسَبعمران
فإنْ يكُن أمَحَلافمَدْمَعي كالسّحبهتّانُ
سَرَوا فَطابَ النّسيمْ ... وكل وادٍ عاطرُ
ولي فؤادٌ يَهيمْ ... بالعِشْقِ وهو شاعِرُ
حكَوْ ظِباءَ الصّريمْ ... لو صِيد منهم نافرُ
حذِرتُ أن لا يريمْ ... فَرامَ ما أُحاذرُ
فإن سرى في بَهيمْ ... ليل فبدرٌ سافرُ
وإن يَسْرِ عَجِلافالظّبي عند الهربعجلان
أو حلّ وسط الفلافقومه من عَربٍغزلان
يقول خلِّ انطِلاقْ ... الدّمع قَصد السُمعةِ
فما لأهلِ النِّفاقْ ... ووجنةٍ كالجنّةِ
فقلتُ دمعٌ يُراقْ ... هل ردُّهُ في الحيلةِ
كُلِّفْتُ ما لا يُطاقْ ... في شرعةِ المحبّةِ
ولا وعدتُ العناق ... وقهوة الرّيق التي
من حاسديها الطّلاوحسن نظم الحَبَبِخَجْلان
لا لَغوَ فيها ولايحرسُها من شَنبرضوان
ليست كراحٍ يُطافْ ... بها حَراماً لا حلال
تدقّ عند اختِطافْ ... عُقولَ قومٍ كالجبالِ
كم أمّنتْ من يخاف ... إما بحقٍ أو مُحال
وهوّنتْ من تَلافِ ... عرضٍ ودينٍ بعدَ مالِ
فدَعْ كؤوسَ السُلاف ... واستَجْلِ أوصافَ الكمال
فإنما يُجتلىعلى الكِرام النُجُبِإحسان
مَن عنده بالغَلايُستعبَد الحرّ الأبيإيمان
أثنَت عليه العِدا ... وعدّدت مآثرَه
مَركز بذلِ الجدى ... ومَن سِواهُ الدائره
بلا حُروف النّدا ... لبّت لَهاهُ الغامره
أسلفَ كلاً يَدا ... حتى السّحابَ الهامرَه
وقد مَلا بالنّدا ... كلَّ بقاع القاهره
حتى رأينا المَلالفَضله والأدبقد دانوا
إذ هم رعايا العُلاوجعفَر بنُ تَغلبسلطان
منه يُفادُ الكلامْ ... فما يقولُ الناظمْ
في العلم حَبْر إمام ... وفي السّخاءِ حاتِمْ
فيا أبا الفضلِ دامْ ... لي ببقاكَ العالمْ
فأنت عينُ الأنامْ ... يَقْظى وكلٌ نائم
بك الجدودُ الكِرامْ ... تسرُّ حتى آدم
أنت لمن قَد تَلاعلى صميم النسبعنوان
يا آخِراً وأولاًكأنه في الكتبِقُرآن
وغادةٌ تنجلي ... فينجلي القلب الحزينْ
بها تُحلّى الحُلي ... ويُسحَر السحر المبينْ
قلت لها والخلي ... لم يَدرِ ما الدّاءُ الدّفينْ
بالله مَنْ ينطلي ... عليك أو تألَفينْ
ابنَ علي بَعلي ... قالت نعم يا مُسلمين
لولا عليَّ انطَلاتركتُ أمي وأبيمن شانو
كفاية الله البلايَبيت سوى ذا الصبيفي أحضانو
ومن موشحاته أيضاً:
أفتِكْ بنا في السّقم ... والهمّ كل فَتكِ
بخمرة كالعنْدَمِ ... أو مَرشَف بن تُركي
فلونُها لونُ الدّمِ ... والريح ريحُ المِسْكِ(2/390)
كم صيّرت ذا ألم ... من كَدَرٍ وضَنكِ
والعيش منه يَصفووالطّيش يُستخفُّوللسرور زَحْف
منه الهموم تهربُولو أتَتْفي ألْفِ
ومنه في الخرجة:
يا مَرحباً بالغائِبِ ... إذ جاء في العِذارِ
يَزري بكلِّ كاعِبِ ... تزورُ في الإزارِ
فلم أكُن بخائِبِ ... عليه في انتظارِ
ولم أقلْ كالعاتِبِ ... أبطأتَ في مَزاري
إلا التفتْ لَخَلْفووقال يُشير بكفّووحاجبُو لردفو
هذا الثقيل حقاً اعتبواعلى انقطاعوخلفي
محمد بن أبي القاسم بن جميل
الشيخ الإمام العالم الفاضل المفتي شمس الدين أبو عبد الله الربعي المالكي التونسي.
سمع بدمشق سنة ثلاث وسبعين وست مئة وبعدها من ابن جعوان، والحارثي، وغيرهما، وحدّث، وكان من الفضلاء المشهورين. وولي القَضاء بالإسكندرية مدة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشري صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة بالقاهرة.
ومولده سنة تسع وثلاثين وست مئة.
وكان فاضلاً في فنون النحو والأصول، واللغة، ودرّس وأفتى وصنّف واختصر تفسير ابن الخطيب، ودرّس بالمنكوتمرية، وناب في الحكم بالحُسينية، ولم تحمَد سيرته في الإسكندرية.
قال كمال الدين الأدفوي: ذكروا عنه أنه كان يأخذ الدراهم في قضاء الحاجات ويقول: أنا أعرف كيف آخذ. وتُكلِّم فيه وصُرِف، وكان قبل القضاء يظن به الخير، وكانت دروسه فصيحة في غاية الجودة، وكان إماماً بالمدرسة الصالحية في إيوان المالكية.
محمد بن أبي القاسم بن محمد
ابن يوسف بن محمد بن يوسف بن محمد، بهاء الدين أبو الفضل ابن شيخنا علم الدين البرزالي.
قال شيخنا والده: ختم القرآن العظيم في السنة الثامنة، وصلى به التراويح سنتين، وجوّد قراءته، وقرأ بالسّبع، وحفظ الشاطبية والرائية وكتاب التنبيه في الفقه والجرجانية ومختصر النووي في علوم الحديث. ولازم زكيّ الدين زكريا مدة سنتين، وقرأ الفقه عليه، ولازم كمال الدين بن قاضي شهبة مدة وقرأ عليه في النحو، وجوّد الخط مدة على الشهاب غازي، ثم بعده على النجم الكاتب. وجاد خطه ونسخ الشاطبية وقطعة من أول تفسير البغوي الى قوله تعالى: " فتقبّلَها ربُّها بقَبول حسنٍ " ، وعلوم الحديث للنووي. وسمع على خلق كثير عدّتهم تسع مئة شيخ وسبع من الرِّجال والنساء. وزار بيت المقدس، وحجّ مع والده سنة عشر وسبع مئة، وسمع بالحرمَيْن، وتزوّج بعد ذلك.
وتوفي - رحمه الله تعالى " ليلة السبت ثامن شهر الله المحرم سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، ودُفن بتربتهم بمقبرة الباب الشرقي.
ومولده العشرون من المحرّم سنة خمس وتسعين وست مئة، عاش ثماني عشرة سنة.
محمد بن قايماز بن عبد الله
الشيخ الصالح المسند شمسُ الدين ابن الصّارم.
شيخ مبارك قرأ القراءات السبعة على السخاوي، وسمع من ابن الزبيدي، وابن اللّتي، وابن صباح، والفخر الإربلي، وغيرهم. وتفرّد بالسّماع من ابن ماسويه المقرئ ومحمد بن نصر بن ناصر بن قوام الرصافي، وحدّث بصحيح البخاري كاملاً عن ابن الزبيدي بسنده، قال شيخنا البرزالي: قرأته عليه.
توفي - رحمه الله تعالى - في سابع عشري ذي الحجة في أوائل سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده سنة عشرين وست مئة بدمشق. وكان أبوه طحاناً بدمشق.
محمد بن قطلوبك بن قراسُنقر
الأمير الكبير بدر الدين ابن الأمير الكبير سيف الدين المعروف بابن الجاشنكير.
كان شاباً ظريفاً لطيفاً، تأمّر بعد والده وتقرّب بالخدمة الى الأمير سيف الدين تنكز، فولاه ولاية البر في ثامن عشر شوال سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ولبس تشريفة، وباشر الوظيفة وكان عنده مكرَّماً معظّماً.
ثم إنه في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا حصّل تقدمة، وتوجّه الى باب السلطان وكاتب بجملة، وسعى في الحجوبية، فرسم له بها، وكان في نفسه منها أمر عظيم، وحضر الى دمشق مريضاً.
توفي - رحمه الله تعالى - يوم الأضحى سنة إحدى وأربعين وسبع مئة ولم يُباشر الوظيفة، ولعله كان لم يصل الى الأربعين، وأظنه تولى نيابة جعبر في أيام الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى.
محمد بن قلاوون
السلطان الأعظم الملك الناصر ناصر الدين ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين الصالحي.(2/391)
من أعظم ملوك الأتراك، ومَن دانت له الأقدار ودارت بسعوده الأفلاك، لم يرَ الناس مثل أيامه، ولا أسعد من حركاته، في رحيله ومُقامه، تجرّع في مبادئ أمره كؤوس الصّبر، وتجلّد الى أن وارى أعاديه القبر.
ولي الملك ثلاث مرات، وخرج الى الكرك وعاد الى مصر كرّات، وفي الثالثة صفا له الوقت، واختصّ بالمِقة من رعاياه كما اختصّ عِداه بالمقْت، فحصد من كان حسده، وأراح قلبه وجسده، وخلت له الأرض من المُعارض، وأكلتهم القوارع والقوارض، وضمّن بعضهم لُحودَ السجون، ووقعوا في سطواته في الحدّ وكانوا يظنون أنه مجنون، ولما استوسق له الملك وفاز أولياؤه بالنجاة، وحاز أعداؤه الهلك، صفت له الأيام من الكدر وسابق السَّعد مرادَه وبَدرْ، وضاق بعدوه السهل والجبل، وحلّ به من الخذلان ما لم يكن له به قِبَل:
وقد سار في مَسراه قبل رسوله ... فما سار إلا فوقَ هامٍ مفلّقِ
ولما دنا أخفى عليه مكانهُ ... شُعاعُ الحديدِ البارِقِ المتألّق
وأقبل يمشي في البِساط فما دَرى ... الى البحر يمشي أم الى البدر يرتقي
واقتصّ بما اغتصّ، وانفرد بالملك فيما اختلّ عليه فما اختص، وقالت السعود المخبوءة: خُذ، وقالت الأقدار: تحصّن بألطاف الله وعُذْ. ودانت له ملوك الأرض، وأصبح كلٌ من مهابته يرمق العيش على برْض. وهادنه الفرنج والتتار، وساطَه حتى زنج الليل وروم النهار، وأصبح سيفه:
على عاتق الملك الأغرّ نِجادُهُ ... وفي يد جبّار السمواتِ قائمُهْ
تقبّل أفواه الملوكِ بساطَه ... ويكبُرُ عنها كمّه وبراجمه
تحولُ رماح الخطّ دون محلّه ... وتُسبى له من كل حيٍّ كرائمه
له عَسكرا خيل وطير إذا رمى ... بها عسكراً لم يبق إلا جماجمه
تحاربه الأعداء وهي عبادهُ ... وتدّخر الأموال وهي غنائمه
ويستكبرون الدّهر والدهرُ دونه ... ويستعظمون الموتَ والموتُ خادمه
وأصبح النيل على إثر النيل، والخصب يسير على إثر الخصبْ ويسيل، ورُخاء الرخاءِ تهبُّ نسيماً، ووجه الأمن قد أسفر وسيماً، ومحيا الدَّعة والسكون عليه من الإقبال طلاوة وسيما، والغنى أصبح للناس غناءً، ولكن زيد ياء وميماً، والإنعامات تُفاض فتخجل البحار الزّخّارة، وبدرها إذا فُضَّت استحيا منها البدر، ولم يخرج عن الدارة، أغرق خواصّه بالجوائز وعمهم بالهبات التي يتحدث بشأنها على المغازل الأبكار والعجائز. لم نسمع لملك بمثل عطاياه، ولا لجواد غيره بما وهب حتى أثقل جياده وكلّت مطاياه:
تمشي خزائنهُ من جودِ راحته ... بَيداءَ لا ذهبٌ فيها ولا ورقُ
وتحسبُ الوفْزَ غيماً والعُلا أفُقاً ... إذا انجلى الغيمُ أبدى حُليهُ الأفُقُ
ولم يزل في سعادة ملكه وريحُ السعود تجري بها مواخر فُلكه، الى أن هلك عنه سلطانه، وما أغنى عنه أنصاره ولا أعوانه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في يوم الأربعاء تاسع عشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ومولده في صفر أو في ربيع الأول سنة أربع وثمانين وست مئة.(2/392)
كان والده المنصور إذ ذاك على المرقب محاصراً، ودفن ليلة الخميس بالمنصورية. تولى دفنه بعد عشاء الآخرة الأمير علم الدين الجاولي، وكان لما قتل أخوه الأشرف خليل في عاشر المحرم سنة ثلاث وتسعين وست مئة وقُتِل من قُتل من قاتليه وقّع الاتفاق بعد قتلة بَيدرا على أن يكون الملك الناصر محمد أخو الأشرف هو السلطان، وأن يكون زين الدين كتبغا نائباً، وعلم الدين الشجاعي وزيره استادار، واستقر ذلك ووصل الى دمشق الأمير سيف الدين ساطلمش والأمير سيف الدين بهادر التتري على البريد في رابع عشري المحرم ومعهما كتابٌ عن الأشرف أننا قد استنبْنا أخانا الملك الناصر محمداً وجعلناه وليَّ عهدنا، حتى إذا توجّهنا للقاء العدو يكون لنا من يخلفنا، فحلف الناس على ذلك وخطب الخطيب به، ودعا للأشرف ثم لولي عهده الناصر، وكان ذلك تدبير الشجاعي. وفي ثاني يوم ورد مرسوم بالحَوطة على موجود بيدَرا ولاجين وقراسنقر وطُرُنطاي الساقي وسنقرشاه وبهادر رأس نوبه، وظهر الخبر بقتل الأشرف واتفاق الكلمة على أخيه الناصر محمد، واستقلّ كتبغا نائباً والشجاعي مدبّر الدولة، وقبض على جماعة من الذين اتفقوا على قتل الأشرف وهم الأمير سيف الدين نوغاي، وسيف الدين الناق، وألطنبغا الجمدار، وآقسنقر مملوك لاجين، وطرنطاي الساقي، وآروس، وذلك في خامس صفر. فأمر السلطان الناصر بقطع أيديهم وتسميرهم أجمع، وطِيفَ بهم مع رأس بيدَرا ثم ماتوا.
ولما كان في عشري صفر بلغ كتبعا أن الشجاعي قد عاملَ جماعة في الباطن على قتله، ولما كان في خامس عشري صفر ركب كتبغا في سوق الخيل وقتل في سوق الخيل أمير يقال له البندقداري لأنه جاء الى كتبغا وقال له: أين حسام الدين لاجين أحضِرْه؟ فقال ما هو عندي، فقال: بل هو عندك، ومدّ يده الى سيفه ليسلّه فضربه الأزرق مملوك كتبغا بالسيف حلّ كتفه، ونزل مماليك كتبغا فأنزلوه وذبحوه، ومال العسكر من الأمراء والمُقدّمين والتتار والأكراد الى كتبغا ومال البرجية وبعض الخاصكية الى الشجاعي، لأنه أنفق فيهم في يوم ثمانين ألف دينار، وقرر أن كلَّ من أحضر رأس أمير فإقطاعه له، وحاصر كتبغا القلعة وقطع عنها الماء، فنزل البرجية ثاني يوم من القلعة الى كتبغا على حميّة وقاتلوه وهزموه الى بئر البيضاء، فركب الأمير بدر الدين بيسَري والأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح وبقية العسكر نصرةً لكتبغا وردّوهم وكسروهم الى أن أدخلوهم القلعة، وجدّوا في حِصارها، فطلعت الستّ والدة السلطان الملك الناصر الى أعلى السور وقالت: إيش المراد؟ قالوا: ما لنا غرض غير الشجاعي، فاتّفقت مع الأمير حسام الدين لاجين الأستادار وأغلقوا باب القلّة، وبقي الشجاعي محصوراً في داره. وتسرّب الأمراء الذين معه واحداً بعد واحد ونزلوا الى كتبغا، فطلب الشجاعي الأمان، فطلبوه الى الستّ والى لاجين استادار ليستشيروه فيما يفعلونه، فلما توجّه إليهم ضربه الآقوش المنصوري بالسيف قطع يده، ثم ضربه أخرى بَرى رأسه، ونزلوا برأسه الى كتبغا، وجرتْ أمور، وغلِّقت أبواب القاهرة خمسة أيام.
ثم طلع كتبغا الى القلعة سابع عشري صفر ودُقَّت البشائر وفُتحت الأبواب وجُدِّدت الأيمان والعهود للسلطان الملك الناصر، وأُمسك جماعة من البرجية كانوا مع الشجاعي، وجاءت الحَوطة الى دمشق على ما يتعلّق به، وخطب الخطيب في يوم الجمعة حادي عشري شهر ربيع الأول للسلطان الملك الناصر استقلالاً، وترحّم على والده المنصور وأخيه الأشرف.
وفي عشري شهر رجب ورد البريد بالحَلْفِ للناصر وولي عهد كتبغا.
وفي سلخ رجب ورد البريد أن السلطان ركب في شعار الملك وأبّهة السلطنة وشقّ القاهرة، دخل من باب النصر وخرج من باب زويلة عائداً الى القلعة، والأمراء وكتبغا يمشون في ركابه، وفرح الناس بذلك ودُقّت البشائر.(2/393)
ولم يزل مستمراً في الملك الى حادي عشر المُحرّم سنة أربع وتسعين وست مئة، فتسلطن كتبغا وتسمّى بالعادل، وحلف له الأمراء بمصر والشام، ودُقت البشائر وزُينت البلاد، وجعل أتابكه الأمير حسام الدين لاجين، وتولى الوزارة الصاحب فخر الدين ابن الخليلي، وصرف تاج الدين بن حنّا، وحصل الغلاء الزائد المُفرط في أيامه حتى بلغ الإردب بمصر الى مئة وعشرين، ورطل اللحم بالدمشقي الى سبعة دراهم، ورطل اللبن بدرهمين، والبيض ستاً بدرهم، ورطل الزيت بثمانية، ولم يكن الشام مرخصاً، وتوقفت الأمطار، وفزع الناس، وذلك في سنة خمس وتسعين وست مئة. وتبع ذلك وباء عظيم، وفناء كثير، ثم إن الغلاء وقع بالشام وبلغت الغَرارة مئة وثمانين.
وقد كتبغا بالعساكر الى الشام في ذي القعدة سنة خمس وتسعين، ولما عاد الى مصر من نوبة حمص في سلخ المحرّم سنة ست وتسعين وست مئة ووصل الى اللّجون جرى له ما جرى مما تقدّم ذكره في ترجمة كتبغا، وهرب كتبغا الى دمشق، ودخل لاجين بالخزائن وتسلطن بالقاهرة وتسمّى بالمنصور، ولم يختلف عليه اثنان، كما تقدم في ترجمة لاجين.
واستناب قراسنقر بمصر مدة، ثم إنه قبض عليه واستناب منكوتمر مملوكه، على ما تقدم، وجعل قبجق نائب دمشق، وجهز الملك الناصر الى الكرك، وقال: لو علمت أنهم يخلون الملك لك والله تركته، ولكنهم ما يخلونه، وأنا مملوكك ومملوك والدك، أحفظ لك الملك، فأنت تروح الى الكرك الى أن تترعرع وترتجل وتتخرّج وتدرب الأمور وتعود الى ملكك، بشرط أنك تعطيني دمشق وأكون بها مثل صاحب حماة، فقال له السلطان: فاحلف لي إنك تبقي عليّ نفسي وأنا أروح، فحلف كلٌ منهما على ذلك، وتوجه السلطان وأقام بالكرك الى أن قُتل لاجين، على ما تقدم في ترجمته، في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وست مئة، فحلف للسلطان الملك الناصر جميع الأمراء وأحضروه من الكرك وملّكوه. وهذه سلطنته الثانية. وجعل سلاّر نائباً بمصر، وحسام الدين أستادار أتابكاً.
وفي جمادى الأولى من السنة المذكورة ركب السلطان بأبّهة الملك وشعار السلطنة والتقليد الحاكمي أمامه، وعمره يومئذ خمس عشرة، ورُتِّب الأفرم نائباً بدمشق.
وفي عَود السلطنة الى الملك الناصر قال علاء الدين الوداعي، ومن خطّه نقلت:
الملكُ الناصرُ قد أقبلتْ ... دولته مشرقةَ الشمسِ
عاد الى كرسيّه مثلما ... عاد سليمانُ الى الكرسي(2/394)
ولم يزل بمصر الى أن حضر غازان الى الشام، فخرج بالعساكر في أوائل سنة تسع وتسعين وست مئة، ودخل دمشق في ثامن شهر ربيع الأول بعدما طوّل الإقامة على غزة، وأقام في قلعة دمشق تسعة أيام، وعدّى التتار الفرات، فخرج السلطان وساق الى حمص، وركب بكرة الأربعاء سابع عشري الشهر المذكور، وساق الى وادي الخزندار، وكانت الوقعة، والتحم الحرب، واستحرّ القتل، ولاحت أمارات النصر للمسلمين، وثبتوا الى العصر، وثبت السلطان والخاصكية ثباتاً كلياً، فانكسرت ميمنة المسلمين، وجاءهم ما لا قبل لهم به، لأن الجيش لم يكن بكامل يومئذ، وكان جيش الإسلام بضعة وعشرين ألفاً، وكان جيشُ التتار يقارب المئة ألف، فيما قيل، وشرع المسلمون في الهزيمة، وأخذ الأمراء السلطان وتحيّزوا به، وحموا ظهورهم وساروا على درب بعلبك والبقاع، وبعض العسكر المكسور دخل الى دمشق، واستشهد جماعة من الأمراء، وخُطبَ بدمشق للملك المظفر غازان محمود، ورفع في ألقابه، وتولى قبجق النيابة عن التتار، وملك غازان دمشق خلا القلعة فإن قبجق في الباطن لاحظ أميرَها مع أرجواش وأبان أرجواش عن همة عظيمة في حفظها، على ما تقدّم ترجمته، وجبى التتار الأموال من الدماشقة، وقيل: إن الذي حُمل الى خزانة غازان ثلاثة آلاف ألف ألف وست مئة ألف درهم، والذي أطلقه لمقدّمي المغل نحو آلات على الناس بوصولات وأخذوا أكثر مما كُتب لهم فهو أكثر من ذلك. وأخذ شيخ الشيوخ لنفسه مبلغ ست مئة ألف درهم. وأخذ قبجق أكثر م نذلك، وأخذ يحيى وإسماعيل أكثر من ذلك، وعزم الناس أكثر من ذلك، وجبوا على الرؤوس أكثر من ذلك، وجبوا على البيوت أكثر من ذلك، وجبوا على الأوقاف أكثر من ذلك، وأخذوا جميع ما وجدوه من الخيل والبغال والجمال والدواب. وأحرقوا جامع التوبة بالعقيبة، وجميع ما حول البلد وخيار منتزهاتها، وأجود عماراتها مثل الدهشة، وصُفّة أبقراط، العافية، وناصرية الجبل، وبيمارستان الصالحية، وترب كثيرة، وغالب الجواسق التي بالبساتين، وغالب ما حول القلعة. وأما شبابيك الصالحية وما قدروا عليه من الرخام فإنهم أخذوه وأفسدوه. وقتلوا من أهل الصالحية أربعة آلاف نفس، وأسروا ما شاء الله. وأما الذي قتلوه من الضياع البرّانية وأسروه فشيء لا يعلمه إلا الله تعالى. وكانوا إذا قرروا على الإنسان عشرة آلاف درهم ينوبه ترسيم للمُغل ألفان. ولم يزل وجيه الدين ابن المنجّا يجبي من الناس الى أن كمّل المبلغ وحمله الى غازان، وجُملته ما تقدّم ذكره.
وأقام غازان بالغوطة نازلاً الى ثاني عشر جمادى الأولى، ورحل طالباً بلادَه وخلّف نائبه خطلو شاه بالقصير في فرقة من المُغل.
وفي شهر رجب جمع قبجق الأعيان والقضاة الى داره وحلّفهم للدولة الغازانية بالنُّصح وعدم المداجاة، ثم إن قبجق توجه هو والصاحب عز الدين ابن القلانسي الى مصر في نصف رجب، وقام بحفظ المدينة وأمر الناس أرجواش.
وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبة للسلطان الملك الناصر، وكان مدة إبطال ذلك مئة يوم.
وأما السلطان الملك الناصر فإنه دخل الى مصر بعد الكسرة وتلاحق به الجيش، وأنفق في العساكر، واشتُريت الخيلُ وآلات السلاح بالأثمان الغالية.
وفي يوم عاشر شعبان قدِم الأفرم نائب دمشق بعسكر دمشق، وقدم أمير سلاح بالميسرة المصرية، ثم دخلت الميمنة، ثم دخل القلب وفيه سلاّر بالجيوش الى القاهرة، وكثرت الأراجيف بمجيء التتار، وانجفل الناس الى مصر والى الحصون، وبلغ أجرة المحارة الى مصر خمس مئة درهم، ثم فترت أخبار التتار في شهر ربيع الأول سنة سبع مئة. ثم دخل التتار الى حلب وشرع الناس في قراءة البخاري، وقال الوداعي في ذلك، ومن خطّة نقلت:
بعثنا على جيش العدو كتائباً ... بُخاريةً فيها النبيّ مُقدّمُ
فرُدوا الى الأُردو وبغيظٍ وخيبةٍ ... وأُردُوا وجيشُ المسلمين مسلّمُ
فقولوا لهم: عودوا نَعُدْ، ووراءكم ... إذا ما أتيتُم أو أبيتُم جهنّمُ
ووصل السلطان الى العريش ووصل التتار الى حلب.(2/395)
ودخل شهر جمادى الأولى والناس في أمر مريج، ووصل بكتمر السلاح دار بألف فارس، وعاد السلطان الى مصر، فانجفل الناس غنيُّهم وفقيرهم، ونودي في الأسواق بالرحيل، وضجّ النساء والأطفال، وغُلّقت أبواب دمشق، واقتسم الناس قلعة دمشق بالشبر، ووقع على غيّارة التتار عسكرُ حمص فكسروهم وقتلوا منهم نحو مئة، وصحّت الأخبار برجوع غازان نحو حلب، فبلغ الناس ريقهم، وأطفأ السكون حريقهم، وهلك كثير من التتار تحت الثلج بحلب، وعمّ الغلاء، وعزّ اللحم بدمشق وبيع الرطل بتسعة دراهم، ثم دخل الأفرم والأمراء من المرج بعدما أقاموا به أربعة أشهر، واستقرّ حال الناس بعد ذلك.
وفي شهر شعبان أُلبس النّصارى الأزرق واليهود الأصفر والسامرة الأحمر، وسبب ذلك أن مغربياً كان جالساً بباب القلعة عند سُلاّر والجاشنكير، فحضر بعض الكتّاب النصارى بعمامة بيضاء، فقام له المغربي يتوهّم أنه مسلم، ثم ظهر له أنه نصراني، فدخل الى السلطان وفاوضه في تغيير زي أهل الذمّة ليمتاز المُسلمون عنهم. وفي ذلك يقول علاء الدين الوَداعي، ومن خطه نقلت:
لقد أُلزم الكُفّار شاشاتِ ذلّةٍ ... تَزيدُهم من لعنةِ الله تَشويشا
فقلت لهم: ما ألبَسوكُم عَمائماً ... ولكنهم قد ألبَسوكم بَراطيشا
ونقلت منه له:
غيَّروا زيّهُم بما غيّروه ... منْ صفاتِ النبيّ ربِّ المكارِمْ
فعليهم كما ترون براطي ... شُ ولكنها تُسمى عمائمْ
ونقلت منه له:
لقد ألبسوا أهل الكِتابين ذلّةً ... ليظهر منهم كلُّ من كان كامنا
فقلت لهم ما ألبسوكم عمائماً ... ولكنهم قد ألبسوكم لَعائنا
وفي ذلك يقول شمس الدين الطيبي:
تعجّبوا للنصارى واليهود معاً ... والسامريّين لما عُمّموا الخرَقا
كأنما باتَ بالأصباغِ مُنْسَهِلاً ... نسرُ السماء فأضحى فوقهم ذَرقا
وفي جمادى الأولى سنة إحدى وسبع مئة توفي أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد ودُفن عند السيدة نفيسة، كما تقدّم في ذكره، وتولى الخلافة ولده أمير المؤمنين المستكفي بالله أو بالربيع سليمان، وقرئ تقليده بولاية العهد بعد العزاء.
وفي سنة اثنتين وسبع مئة فتحت جزيرة أرواد وهي بقرب انطرسوس وقُتل بها عدة من الفرنج، ودخل الأسرى الى دمشق وهم قريبٌ من المئة وخمسين.
وفي شعبان من السنة عدّى التتار الفرات وانجفل الناس، وخرج السلطان بجيوشه من مصر. وفي عاشر شعبان كان المصاف بين المسلمين والتتار بعُرض، كان المسلمون ألفاً وخمس مئة، وعليهم أسندمر وأغرلو العادلي وبهادر آص، وكان التتار نحواً من أربعة آلاف، فانكسر التتار، وأسر مقدّمُهُم وقُتل منهم خلق كثير. ثم دخل دمشق من جيش مصر خمس تقدام وعليهم الجانكشير، والحسام أستاذ الدار، ثم دخل بعدهم ثلاثة آلاف مقدمهم أمير سلاح وبعقوبا وأيبك الخزاندار، ثم أتى عسكر حلب وحماة متقهقراً من التتار، وتجمّعت العساكر الى الجُسورة بدمشق، واختبط الناس، واختنق في أبواب دمشق من الزحام غيرُ واحد، وهرب الناس " وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ " ، ووصل السلطان الى الغَور، وغُلّقت أبواب دمشق، وضجّ الخلق الى الله تعالى، ويئس الناس من الحياة. ودخل شهر رمضان، وتعلّقت آمال الناس ببركاته، ووصل التتار الى المرج، وساروا الى جهة الكسوة، وبعَدوا عن دمشق بكرة السبت ثاني شهر رمضان المعظّم، وصعد النساء والأطفال الى الأسطحة وكشفوا رؤوسهم وضجّوا وجأروا الى الله تعالى، ووقع مطر عظيم، ووقّعت الظهر بطاقة بوصول الدعاء وحفظ أسوار البلد، وبعد الظهر وقع المصاف والتحم الحرب، فحمل التتار على الميمنة من المسلمين فكسروها، وقُتل مقدّمُها الحُسام أستادار ومعه جماعة من الأمراء المقدمين، وثبت السلطان ذلك اليوم ثباتاً زائداً عن الحد، واستمر القتال من العصر الى الليل، ورُدّ التتار من حملتهم على الميمنة بغلَس وقد كَلَّ حدّهم فتعلّقوا بالجبل المانع.(2/396)
وطلع الضوء بكرة يوم الأحد والمسلمون مُحدقون بالتتار، فلم يكن ضحوة من النهار إلا وقد ركن التتار الى الفرار وولّوا الأدبار، ونزل النصر، ودُقّت البشائر، وزُيّن البلد، وكان التتار نحواً من خمسين ألفاً وعليهم خطلوا شاه نائب غازان، ورجع غازان من حلب ضيّقَ الصدر من كسر أصحابه يوم عُرْض، وبهذه الكسرة سقطت قواه، لأنه لم يعد إليه من أصحابه غير الثلث، وتخطّفهم أهل الحصون، وساق سلار وقبجق وراء المنهزمين الى القريتين، ولم ينكسر التتار هذه المرة.
حكى لي جماعة من دير بشير أنهم كانوا يأتون إلينا عشرين عشرين وأكثر وأقل، ويطلبون أن نعدّي بهم الفرات في الزواريق الى ذلك البر، فما نعدّي بمركب إلا ونقتل كلَّ من كان فيه، حتى إن النساء كنّ يضربن بالفؤوس ونحن نذبحهم في إثر ذلك، فما تركنا أحداً منهم يعيش.
وهذه الواقعة الى الآن في قلوبهم، وكان قد جاء كتاب غازان يقول فيه: ما جئنا هذه المرة إلا للفُرجة في الشام، فقال علاء الدين الوداعي في ذلك، ومن خطه نقلت:
قولوا لغازان بأن جيوشَهُ ... جاؤوا ففرّجناهم بالشام
في سرحةِ المرجِ التي هاماتُهم ... منشورها وشقائق الأجسام
ما كان أشأمَها عليهم فُرجةً ... غمّت وأبركها على الإسلام
وقال لما انهزم:
أتى غازان عدواً في جُنودٍ ... على أخذ البلاد غَدَوا حِراصا
فما كسَبوا سِوى قتلٍ وأسرٍ ... وأعطوهُ بحصّته حُصاصا
وقد نظم الناس في هذه الواقعة كثيراً، ومن أحسن ما وقفتُ عليه قول شمس الدين الطيبي - رحمه الله تعالى - وهو يقارب المئة بيت، وهذا الذي وقع لي منها وهو:
برقُ الصوارم للأبصار يختطِفُ ... والنّقعُ يحكي سَحاباً بالدِّما يكفُ
أحلى وأعلى وأغلى قيمةً وسنا ... من ريقِ ثغر الغَواني حينَ يُرتَشَفُ
وفي قدود القنا معنىً شُغفت به ... لا بالقدود التي قد زانها الهيَفُ
ومن غدا بالخُدود الحُمر ذا كلف ... فإنني بخدود البيض لي كلَفُ
ولامةُ الحرب في عينيّ أحسن من ... لامِ العذارِ التي في الخد تنعطف
كلاهما زردٌ هذا يُفيد وذا ... يُردي فشأنهما في الفعل يختلف
والخيل في طلب الأوتار صاهلةً ... ألذُّ لحناً من الأوتار تأتلف
ما مجلس الشّرب والأرطال دائرةٌ ... كموقف الحرب والأبطال تزدلف
والرّزقُ من تحت ظل الرمحِ مقترنٌ ... بالعزّ، والذلّ يأباهُ الفتى الصَّلف
لا عيشَ إلا لفتيانٍ إذا انتُدبوا ... ثاروا وإن نهضوا في غمةٍ كشفوا
يَقي بهم ملةَ الإسلام ناصرُها ... كما يقي الدرّة المكنونة الصّدف
قاموا لقوة دين الله ما وهنوا ... لما أصابهم فيه ولا ضعُفوا
وجاهدوا في سبيل الله فانتصروا ... من بعد ظُلمٍ ومما ساءَهم أنِفوا
لما أتَتْهُم جيوشُ الكُفر يَقدُمهم ... رأسُ الضّلال الذي في عقله جنَفُ
جاؤوا وكل مقامٍ ظلّ مُضطَرباً ... منهم وكل مَقامٍ بات يرتجفُ
فشاهدوا علمَ الإسلام مرتفعاً ... بالعدلِ فاسْتَيقنوا أن ليسَ ينصرف
لاقاهُمُ الفيلقُ الجرّارُ فانكسروا ... خوفَ العوامل بالتأنيث فانصرفوا
يا مرجَ صُفّر بيّضْت الوجوه كما ... فعلت من قبلُ بالإسلام يُؤتنف
أزَهْرُ روضِكَ أزهى عند نفحته ... أم يانعاتُ رؤوس فيكَ تُقتطَف
غدرانُ أرضك قد أضحَتْ لوارِدِها ... ممزوجةً بدماءِ المغلِ تُرتشف
زلّت على كتف المصري أرجلُهم ... فليس يدرون أنّى تؤكل الكتف
أوَوْا الى جبلٍ لو كان يعصمُهم ... من موج فوج المَنايا حين يختطف
دارت عليهم من الشُجعان دائرة ... فما نجا سالمٌ منهم وقد زحفوا
ونكّسوا منهم الأعلام فانهزموا ... ونكصوهُم على الأعقاب فانقصَفوا(2/397)
ففي جماجمهم بيضُ الظّبي زُبَر ... وفي كلاكلهم سُمر القنا قِصَف
فرّوا من السيف ملعونينَ حيث سَرَوا ... وقُتّلوا في البَراري حيثما ثُقِفوا
فما استقامَ لهم في أعوجٍ نهَجٌ ... ولا أجار لهم من مانع كتف
وملّت الأرض قتلاهم بما قذَفَتْ ... منهم وقد ضاقَ منها المهمهْ القذف
والطير والوحش قد عافت لحومَهُم ... ففي مزاج الضواري منهم قرف
رُدّوا فكل طريق نحو أرضهِمُ ... تدلّ جاهلَها الأشلاءُ والجيف
وأدبَروا فتولّى قطعَ دابرهُم ... والحمد لله قومٌ للوغى ألِفوا
ساقوهم فسقَوا شطّ الفراتِ دماً ... وطمّهم بعُباب السّيل فانحرفوا
وأصبحوا بعدُ لا عينٌ ولا أثر ... غير القلاع عليها منهم شعف
يا برقُ بلّغ الى غازان قصّتهم ... وصِفْ فقصّتهم من فوق ما تصف
بشّر بهلكهم ملكَ العِراقِ لكي ... تُعطيكَ حلوانها حُلوانُ والنّجف
وإن تُسَل عنهم قُل قد تركتهم ... كالنّخل صرعى فلا تمرٌ ولا سعفُ
ما أنت كفؤ عروس الشام تخطبُها ... جهلاً وأنت إليها الهائمُ الدّنف
قد مات قبلك آباءٌ بحسرتها ... وكلهم مغرمٌ مُغزىً بها كلِفُ
إن الذي في جحيم النار مسكنهُ ... لا تُستباح له الجنات والغُرف
وإن تعودوا تُعد أسيافُنا لكم ... ضَرباً إذا قابلتَها رُضّت الحجَفُ
ذوقوا وبال تعدّيكُم وبغيكم ... في أمركم ولكأس الخُزي فارتشفوا
فالحمد لله مُعطي النّصر ناصره ... وكاشفُ الضُرّ حيث الحال ينكشفُ
وفي ذي الحجة من السنة المذكورة كانت الزلزلة العظمى، بمصر والشام، وكان تأثيرها بالإسكندرية أعظم، ذهب تحت الرّدم عدد كثير، وطلع البحر الى نصف البلد وأخذ الجمال والرجال وغرقت المراكب وسقطت بمصر دورٌ لا تحصى، وهُدمت جوامع ومآذن وانتدب سلار والجاسنكير وغيرهما من الأمراء، وأخذ كل واحد منهما جامعاً وعمّره وجدّد له وقوفاً.
وفي سنة ثلاث وسبع مئة توجّه أمير سلاح وعسكر من دمشق وقبجق في عسكر من حماة وأسندمُر في عسكر الساحل وقراسنقر في عسكر حلب، ونازلوا تل حدون وأخذوه، ودخل بعض العسكر الدربند وأغاروا ونهبوا وأسروا خلقاً، ودقت البشائر.
وفي هذه السنة توفي غازان ملك التتار، وملك بعده أخوه الملقب خربندا.
وفي سنة خمس وسبع مئة نازل الأفرم بعساكر دمشق جبل الجُرد، وكسر الكسروانيين لأنهم كانوا روافض، وكانوا قد آذوا المسلمين وقتلوا المنهزمين من العساكر المصرية في نوبة غازان الأولى الكائنة في سنة تسع وتسعين وست مئة.
وفي سة ثمان وسبع مئة في سادس عشري شهر رمضان توجّه السلطان الملك الناصر الى الحجاز وأقام بالكرك متبرّما من سلار والجاشنكير وحجرهما عليه ومنعهما له من التصرف، قيل: إنه طلب يوماً خروفاً رميساً فمنع منه، أو قيل: يجيء كريم الدين، لأنه كاتب الجاشنكير، وأمر نائب الكرك بالتحوّل الى مصر، وعند دخوله القلعة انكسر به الجسر فوقع نحو خمسين مملوكاً، ومات منهم أربعة وتهشّم منهم جماعة وأعرض السلطان عن أمر مصر، فوثب للسلطنة بعد أيام الجاشنكير وتسلطن، وخُطب له، وركب بخلعة الخلافة، وذلك عندما جاءتهم كتبُ السلطان من الكرك باجتماع الكلمة فإنه ترك لهم الملك.(2/398)
وفي سنة تسع وسبع مئة في شهر رجب خرج السلطان من الكرك قاصداً دمشق، وكان قد ساق إليه من مصر مئة وسبعون فارساً فيهم أمراء وأبطال، وجاء مملوك السلطان الى الأفرم يخبره بأن السلطان وصل الى الخان، فتوجه الى السلطان بيبرس المجنون وبيبرس العلائي، ثم ذهب بهادر آص لكشف القضية، فوجد السلطان قد رُدّ الى الكرك، ثم بعد أيام ركب السلطان وقصد دمشق بعدما ذهب إليه قطلوبك الكبير والحاج بهادر، وقفز سائر الأمراء إليه، فقلق الأفرم لذلك ونزح من دمشق بمماليكه مع الأمير علاء الدين بن صُبح الى الشقيف، فبادر بيبرس العلائي وآقجبا المُشد وأمير علم في إصلاح الجتر والعصائب وأبهة الملك، ودخل السلطان قبل الظهر الى دمشق يوم الثلاثاء ثامن عشر شعبان سنة تسع وسبع مئة، وفتح له باب القلعة باب السرّ، ونزل نائبها قبّل الأرض، فلوى هناك فرسه الى القصر ونزل به. ثم إن الأفرم حضر إليه بعد أربعة أيام واستمر به في نيابه الشام، وبعد يومين وصل قبجق نائب حماة وأستدمر نائب طرابلس وتلقاهما السلطان. وفي ثامن عشري الشهر وصل قراسُنقر نائب حلب.
ثم إن السلطان خرج لمصر في تاسع شهر رمضان ومعه العساكر والنواب والقضاة، ووصل غزة، وجاءه الخبر بنزول الجاشنكير عن الملك وأنه طلب مكاناً يأوي إليه وهرب من مصر مغرّباً وهرب معه سلار مشرّقاً، فلما كان بالرّيدانية ليلة العيد اتفق الأمراء عليه وهمّوا بقتله، فجاء إليه بهاء الدين أرسَلان دوادار سلار وقال: قُم الآن واخرج من جانب الدهليز واطلع الى القلعة، فرعاها له، ولم يشعر الناس بالسلطان إلا وقد خرج راكباً فتلاحقوا به وركبوا في خدمته وصعد القلعة، وكان الاتفاق قد حصل أن قراسنقر يكون نائباً بمصر وقطلوبك الكبير نائب دمشق، فلما استقر جلوس السلطان بقلعة الجبل، وهذه المرة الثالثة من عوده الى الملك قبض في يوم واحد على اثنين وثلاثين أميراً من السِّماط، ولم ينتطح فيها عنزان، ورسّم للأفرم بصرخد ولقراسنقر بالشام، وجعل قبجق نائب حلب والحاج بهادر نائب طرابلس وقطلوبك الكبير نائب صفد، وجعل بكتمر الجوكَندار نائب مصر.
وفي سنة عشر وسبع مئة وصل أسندمر الى دمشق متوجهاً الى حماة نائباً، ومنها عزل القاضي بدر الدين ابن جماعة، وولي القضاء جمال الدين الزرعي عوضه، وصرف السروجي عن قضاء الحنفية، وطلب شمس الدين بن الحريري وولاه مكانه. وبعد أيام قلائل توفي الحاج بهادر نائب طرابلس، ومات بحلب نائبها قبجق، فرسم للأفرم بنيابة طرابلس، وأمره أن لا يدخل بدمشق، على ما تقدم في ترجمته، ورسّم لأسندمر بنيابة حلب.
وفي هذه السنة أمر لعماد الدين إسماعيل بن الأفضل علي بحماة.
وفي سنة إحدى عشرة وسبع مئة نقل قراسُنقر من نيابة دمشق الى نيابة حلب بعدما أمسك أسندمر وتولّى كراي نيابة دمشق. وفي شهر ربيع الآخر أعاد ابن جماعة الى مكانه، وتقرر القاضي جمال الدين الزرعي في قضاء العسكر مع مدارس أُخَر.
وفي جمادى الأولى أُمسك كراي نائب دمشق وقيّد وجُهّز الى الباب بعدما أُمسك الجوكندار نائب مصر، وأُمسك قطلوبك الكبير بصفد وحُبس هو وكراي بالكرك وجاء الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك الى دمشق نائباً.
وفي سنة اثنتي عشرة وسبع مئة تسحّب الأمير عز الدين الزردكاش والأفرم وتوجّها الى قراسُنقر، وساق الجميع الى عند مهنا فأجارهم، وعدّوا الفرات وطلبوا خربندا، على ما تقدّم في تراجمهم.
وفي شهر ربيع الأول طُلب نائب دمشق الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك الى مصر، وفيها أمسك العلائي بيبرس نائب حمص، وبيبرس المجنون، وبيبرس التاجي، وكجلي، والبرواني، وحُبسوا في الكرك، وأمسك بمصر جماعة أيضاً.
وفي ربيع الأول قدم الأمير سيف الدين تنكز الى دمشق نائباً، على ما تقدم في ترجمته، وسودي الى حلب نائباً على ما تقدم. وفي أوائل شهر رمضان قويت الأراجيف بمجيء خربندا ومنازلته الرحبة، على ما تقدم، ثم إنه رحل عنها، على ما تقدم في ترجمته. وعيّد السلطان بمصر وخرج الى الشام، ووصل في ثالث عشري شوال وصلى بالجامع الأموي، وعمل دار عدل، وتوجه من دمشق الى الحجاز، وعاد الى دمشق، ثم توجه الى مصر.
وفي صفر سنة أربع عشرة توفي سودي نائب حلب وجاء عوضه نائباً الأمير علاء الدين ألطنبغا.(2/399)
وفي سنة خمس عشرة وسبع مئة توجه الأمير سيف الدين تنكز بعساكر الشام وستة آلاف من الجيش المصري الى ملطية ففتحها وسبى ونهب وألقى النار في جوانبها، وقتل جماعة من النصارى.
وفي سنة ست عشرة توفي خربندا ملك التتار، وتولى بعده ولده بوسعيد على ما تقدم.
وفي سنة إحدى وعشرين وسبع مئة وقع الحريق بمصر واحترق دور كثيرة للأمراء وغيرهم، ثم ظهر أن ذلك من كيد النصارى، لأنه وجد مع بعض آلات الإحراق من النفط وغيره، وقتل منهم جماعة وأسلم عدة، ورجم العامة والحرافيش كريم الدين الكبير، فأنكر السلطان ذلك وقطع أيدي أربعة وقيّد جماعة.
وفيها جرى الصلح بين السلطان وبين بوسعيد، سعى في ذلك مجد الدين السلامي مع النوين جوبان ومع الوزير غياث الدين محمد بن الشيد.
وفي جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبع مئة أمر السلطان بحفر الخليج من رأس الخور الى أن ينتهي الى سرياقوس، تولى ذلك الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، وفرغ في أقرب مدة، ودام العمل الى آخر شعبان من السنة المذكورة، وما يعلم ما أنفق فيه من الأموال إلا الله تعالى.
وفي سنة خمس وعشرين وسبع مئة جهز السلطان من عسكر مصر ألفي فارس نجدةً لصاحب اليمن، وقدّم عليهم الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب والأمير سيف الدين طينال، فدخلوا زبيد، وألبسوا الملك المجاهد خلع السّلطنة وعادوا. وبلغ السلطان أمور نقمها، فاعتقل بيبرس الحاجب. وفي هذه السنة فتحت الخانقاه التي أنشأها بسرياقوش، وكان يوماً عظيماً، وحضر القضاة والعلماء ووجوه الدولة، وخلع على القضاة وعلى المشايخ، وفرّق قريباً من ثلاثين ألف درهم.
وفي سنة ست وعشرين حج الأمير سيف الدين أرغون النائب، ولما حضر أمسكه وجهّزه الى حلب نائباً، على ما تقدّم.
وفي سنة سبع وعشرين وسبع مئة طُلب أمير حسين بن جندر من دمشق الى مصر ليقيم بها أميراً، وطلب قاضي القضاة جلال الدين القزويني، وجعله قاضي القضاة بمصر، على ما تقدّم، وفيها كان عرس ابنة السلطان على الأمير سيف الدين قوصون، وكان عرساً عظيماً على ما تقدم، وفيها كانت الكائنة بإسكندرية، وتوجه الجمالي الوزير إليها وصادر الكارم والحاكم، وضرب القاضي، ووضع الزنجير في رقبته، وجعل قاضيها شافعياً، وكانت واقعة فظيعة.
وفي سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة دخل ابن السلطان آنوك على بنت بكتمر الساقي وكان عرْساً عظيماً حضره تنكز وطينال، على ما تقدّم في ترجمته.
وفيها حجّ السلطان واحتفل بأمر الحجاز، وفي العَود مات سيف الدين بكتمر الساقي وولده أحمد قبله، على ما تقدّم. وفيها أمسك الصاحب شمس الدين غبريال وأخذ خطه بألفي ألف درهم، على ما تقدّم.
وفي سنة ثلاث وثلاثين عمّر الأمير سيف الدين تنكز ثغر جعبر وصارت من ثغور المسلمين.
وفي سنة خمس وثلاثين وسبع مئة جُهّز مهنا وداس بساط السلطان بعد عناء عظيم وتسويف كثير فأقبل عليه وأعطاه شيئاً كثيراً، على ما سيأتي في ترجمته. وفيها أخرج من السّجن ثلاثة عشر أميراً منهم تمر السّاقي وبيبرس الحاجب.
وفي سنة ست وثلاثين وسبع مئة توفي القان بوسعيد، على ما تقدم.
وفي سنة أربعين أمسك السلطان الأمير سيف الدين تنكز في ثالث عشري ذي الحجة، على ما تقدّم.
وفي سنة إحدى وأربعين وسبع مئة توفي ابن السلطان آنوك.
وفيها توفي الملك الناصر رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور. وقام في الملك بعده ولده المنصور أبو بكر على ما تقدّم في ترجمته.(2/400)
وكان الملك الناصر رحمه الله تعالى ملكاً عظيماً مُطاعاً محظوظاً مهيباً ذا بطش ودهاء، وأيْد وكيْد، وحزم وحلم، قلما حاول أمراً، فانجذم عليه فيه شيء يحاوله، لأنه كان يأخذ نفسه فيه بالحزم البعيد والاحتياط، أمسك الى أن مات مئة وخمسين أميراً، وكان يلبس الناس على علاتهم، ويصبر الدهر الطويل على الإنسان وهو يكرهه. تحدّث مع أرغون النائب في إمساك كريم الدين الكبير قبل إمساكه بأربع سنين، وهمّ بإمساك تنكز في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة بعد بكتمر الساقي ثم أمهله ثماني سنين. وكان الملوك الكبار يهادونه ويراسلونه، وكانت ترد إليه رسل ملك الهند، ورسل القان أزبك، وتزوّج ابنته، وملوك الحبشة، وملوك الفرنج، وملوك الغَرْب، وبلاد الأشكري، وصاحب اليمن، وأما بوسعيد ملك التتار فكانت الرسل لا تنقطع بينهما، وكل منهما يسمي الآخر أخاً، وصارت الكلمتان واحدة، والمملكتان واحدة، ومراسيم السلطان تنفّذ في بلاد بوسعيد، ورسله تدخل البلاد بالأطلاب والطبلخانات والأعلام المنشورة، وكلما بعد الإنسان عن مملكته وجد ذكره وعظمته ومهابته أعظم، ومكانته في القلوب أوقع.
وكان سمحاً جواداً على مَن يقرّبه ويؤثره، لا يبخل عليه بشيء كائناً ما كان. سألت أنا القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص قلت: هل أطلق السلطان يوماً ألف ألف درهم؟ قال: نعم. كثير. وفي يوم واحد، أنعم على الأمير سيف الدين بشتاك بألف ألف درهم في ثمن قرية يُبنى التي بها قبر أبي هريرة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنعم على موسى بن مهنا بألف ألف درهم في ثمن القريتين، وأراني القاضي شرف الدين أوراقاً فيها ما ابتاعه فيها من الرقيق، وكان ذلك لمدة أولها شعبان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة الى سنة سبع وثلاثين، وكان جملته أربع مئة ألف وسبعين ألف دينار. كذا قال.
وكان ينعم على الأمير سيف الدين تنكز في كل سنة يتوجه إليه بما يزيد على الألف ألف درهم، وأنعم يوماً على الأمير سيف الدين قوصون بزردخاه بكتمر الساقي، قال المهذب كاتب بكتمر: فيها شيء بمبلغ ست مئة ألف دينار، وأخذ السلطان من الجميع سرجاً واحداً، ولما تزوج قوصون بابنته حمل الأمراء إليه شيئاً كثيراً، ثم بعد ذلك زوّج ابنته الأخرى الأمير سيف الدين طغاي تمر، وقال السلطان ما نعمل له عرساً، لأن الأمراء يقولون: هذه مصادرة بحسن عبارة، ونظر الى طغاي تمر فرآه قد تغيّر، فقال للقاضي تاج الدين إسحاق ناظر الخاص: يا قاضي اعمل لي ورقة بمكارمة الأمراء في عرس قوصون، فعمل ورقة وأحضرها، فقال: كم الجُملة؟ فقال: خمسون ألف دينار، فقال: أعطِ نظيرها من الخزانة لطغاي تمر، وهذا خارجاً عمّا دخل مع الزوجة من الجهاز.
وحكي لي الحاج حسين أستادار الأمير سيف الدين يلبُغا اليحيوي قال: جرى يوماً بين يدي السلطان ذكر عشرين ألف دينار، فقال الأمير: والله يا خوند أنا عمري ما رأيت عشرين ألف دينار، فلما راح من عنده طلب النّشو وقال: احمل الساعة الى يلبغا خمسة وعشرين ألف دينار، وجهّزها مع الخزندارية، وجهّز خمسة تشاريف أطلس أحمر بكلوتات زركش، وطرز زركش، وحوائص ذهب، ليخلع ذلك عليهم.
وأما عطاؤه العُربان فأمر مشهور زائد عن الحد، وكان راتب مطبخه ورواتب الأمراء الكبار والكتاب الذين هم على مطبخه في كل يوم بالمصري ستة وثلاثين ألف رطل لحماً، وأما النفقات في العمائر فكان الرواتب لها في كل يوم شيئاً كثيراً، أظنه في كل يوم ألفي درهم، غير ما يطرأ مما يستدعي به. وبالغ في مشترى الخيول بالأثمان العظيمة، فاشترى بنت الكردا بمئتي ألف درهم، وبالغ أخيراً في مشترى الماليك فاشترى الأمير سيف الدين صرغتمش بخمسة وثمانين ألف درهم غير تشريف أستاذه، وغير ما كتب له من المسامحة. وأما العشرة والعشرون والثلاثون ألفاً فكثير، وغلا الجوهر في أيامه واللؤلؤ وما رأى الناس مثل سعادة ملكه ومسالمة الأيام له وسكون الأعادي من بعد شقحب والى أن مات لم يتحرك عليه عدو في البر ولا في البحر.(2/401)
وخلّف من الأولاد جماعة، منهم البنون والبنات، فأما البنون: فمات له ولده علاء الدين علي بعد حضوره من الكرك في المرة الأخيرة، ومنهم الناصر أحمد وقتل بالكرك، وابراهيم وتوفي أميراً في حياة أبيه، والمنصور أبو بكر وقُتل في قوص بعدما خلع، والأشرف كجك وقتله أخوه الكامل شعبان والله أعلم. وآنوك وهو ابن الخوندة طغاي، مات في حياة أبيه، ولم يكن في الأتراك أحسن شكلاً منه، والصالح إسماعيل وتوفي بعد ملكه مصر والشام ثلاثة أعوام، والكامل شعبان وخلع وقُتل، والمظفر حاجي وخلع وقتل، ويوسف ورمضان، وتوفيا في حياة أخيهما الصالح إسماعيل، والناصر حسن وخُلع أولاً ثم أعيد ثانياً ثم خُلع وقُتل في سنة اثنتين وستين وسبع مئة، والصالح صالح وخُلع، وحسين.
نوابه بمصر جماعة، وهم: زين الدين كتبغا العادل، والأمير سيف الدين سلار، الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار، الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار، الأمير سيف الدين أرغون الدوادار مملوكه، ولم يكن له بعده نائب.
نوابه بدمشق: الأمير عز الدين أيبك الحموي، الأمير جمال الدين آقوش الأفرم، الأمير شمس الدين قراسنقر، الأمير سيف الدين كراي، الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك الأشرفي، الأمير سيف الدين تنكز، الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب.
وزراؤه من أرباب السيوف والأقلام: الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، الصاحب تاج الدين بن حنا، الصاحب فخر الدين بن الخليلي مرتين، الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، الأمير سيف الدين البغدادي، الأمير ناصر الدين الشيخي، أيبك الأشقر وسمي المدبر، ابن عطايا، القاضي ضياء الدين بن النشّائي ابن التركماني وسمي مدبراً، الصاحب أمين الدين، أمين الملك ثلاث مرات، الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، ولم يكن له بعده وزير.
قضاة الشافعية بمصر: الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، القاضي بدر الدين بن جماعة ثلاث مرات، القاضي جلال الدين القزويني، القاضي عز الدين بن جماعة.
قضاة الشافعية بدمشق: القاضي إمام الدين القزويني، القاضي بدر الدين بن جماعة مرتين، القاضي ابن صصرى، القاضي جمال الدين الزرعي، القاضي جلال الدين القزويني مرتين، الشيخ علاء الدين القونوي، القاضي علم الدين الأخنائي، القاضي جمال الدين بن جملة، القاضي شهاب الدين بن المجد عبد الله، القاضي تقي الدين السّبكي.
كُتّاب سرّه بمصر: القاضي شرف الدين بن فضل الله، القاضي علاء الدين بن الأثير، القاضي محيي الدين بن فضل الله، القاضي شرف الدين بن الشهاب محمود، القاضي محيي الدين بن فضل الله، القاضي علاء الدين بن فضل الله.
كتّاب سره بدمشق: القاضي محيي الدين بن فضل الله، أخوه القاضي شرف الدين بن فضل الله، القاضي شهاب الدين محمود، ولده القاضي شمس الدين محمد، القاضي محيي الدين بن فضل الله، القاضي شرف الدين بن الشهاب محمود، القاضي جمال الدين بن الأثير، القاضي علم الدين بن القطب، القاضي شهاب الدّين يحيى بن القيسراني، القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله.
دواداريّته: الأمير عز الدين أيدمر مملوكه، الأمير بهاء الدين أرسلان، الأمير سيف الدين ألجاي مملوكه، الأمير صلاح الدين يوسف بن أسعد، الأمير سيف الدين بغا، ولم يؤمَّر طبلخاناه، الأمير سيف الدين طاجار الدوادار المارداني.
نُظّار جيشه بمصر: القاضي بهاء الدين بن الحلّي، القاضي فخر الدين، مرتين، القاضي قطب الدين بن شيخ السلاميّة، القاضي شمس الدين موسى بن التاج إسحاق، القاضي مَكين الدين بن قروينة، القاضي جمال الدين جمال الكفاة.
نظار خاصّه، هذه وظيفة أحدثها القاضي كريم الدين الكبير: القاضي تاج الدين إسحاق، القاضي شمس الدين ولده، القاضي شرف الدين النشو، القاضي جمال الدين جمال الكُفاة.
الذين درَجوا بالوفاة في أيامه من الخلفاء: الحاكم بالله أمير المؤمنين أبو العباس أحمد، ولده المستكفي بالله أبو الربيع سليمان.
ومن الملوك:(2/402)
كيختو بن هولاكو، المستنصر بالله محيي الدين بن عبد الواحد صاحب إفريقية، المظفّر يوسف صاحب اليمن، السعيد إيلغازي صاحب ماردين، المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة، المنصور حسام الدين لاجين، أبو عبد الله بن الأحمر محمد بن محمد بن يوسف صاحب الأندلس، أبو نميّ صاحب مكة، العادل زين الدين كتبغا المنصوري، غازان محمود بن أرغون ملك التتار، أبو يعقوب المريني صاحب الغرب، المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، أبو عصيدة صاحب تونس، المنصور غازي صاحب ماردين، طقطاي صاحب القبجاق، دوباج صاحب جيلان، علاء الدين محمود صاحب الهند، خربندا بن أرغون ملك التتار، دون بطرو الفرنجي، حميضة صاحب مكة، المؤيّد داود صاحب اليمن، ابن الأحمر أبو الجيوش نصر بن محمد اللحياني صاحب تونس، منصور بن جمّاز صاحب المدينة، الغالب بالله إسماعيل صاحب الأندلس، أبو سعيد عثمان صاحب فاس وغيرها، المؤيَّد صاحب حماة، ابن الأحمر محمّد بن أبي الوليد صاحب الأندلس، ترْمشين صاحب بلخ وسمرقند وبخارى ومرو، بوسعيد ملك التتار، أربكوون ملك التتار، صاحب تلمسان عبد الرحمن أبو تاشفين، موسى ملك التتار، مهنا بن عيسى.
ولما كنتُ بالقاهرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة قال لي الأمير شرف الدين حسين بن جندر بك رحمه الله تعالى: لو نظمت أبياتاً مديحاً في السلطان لقدمتُها أنا من يدي، وكان يحصل لك ما تريده، فنظمت أبياتاً، وكتبتها بالذهب وزمّكتها، وتوفي الأمير شرف الدين رحمه الله تعالى وما اتفق وصولها، وهي:
بعزّ نصرك أضحى الدهرُ يبتسمُ ... وعن رعاياكَ ولّى الظلم والظُلَمُ
يا ناصر الدين والدنيا ويا ملكاً ... ذلّت لعزته في أرضها الأمم
أصبحت سلطان أهل الأرض قاطبة ... سارت بأنبائك الوخّاذة الرُسُم
تخاف بأسَك أملاك الأنام فما ... تسعى لهم في سوى طاعاتك القدم
يبادرون الى ما كُنت تأمرهم ... كأنهم عندما تختاره خدم
متى يخف ملك منهم فليس له ... إلا ظلالك في هذا الورى حرم
فالأُسدُ تخشاكَ في سرٍ وفي علن ... فليس يعصمها غابٌ ولا أجم
تغزو سراياك أملاك البلاد فما ... يحمي العِدا منهم قاعٌ ولا أكم
ويبلغون الأماني من عدوّهم ... لأنهم باسمك المنصور قد قدموا
فإن تصُل في جيوش الكُفر وغًى ... وأبحُر الحرب بالأبطال تزدحم
تفرّج الضيقَ في يوم الكريهة إذ ... أضحت سيوفكَ من أغمادها القمم
وما هباتك في يوم النّوال ندًى ... لكنها سحبٌ تهمي وتنسجم
تجود بالصدقات الوافرات فكمْ ... أحيت عطاياك من أودى به العدم
وفضل حلمك مشهورٌ لطالبه ... ونفحةُ المِسك فينا كيف تنكتم
مناقبُ شرفتْ قدراً فقد رجعت ... درّاً على جهة الأيام تنتظم
فالله يجعل هذا الملك متّصلاً ... بالسّعد ما ابتسمت عن صُبحها الظلَمُ
ولا برحْتَ على الأعداء منتصراً ... مؤيّداً ما جرى في مهرَق قلمُ
محمد بن كجكن
الأمير شمس الدين ابن الأمير الكبير سيف الدين، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، تقدم ذكر والده في مكانه.
كان الأمير ناصر الدين أمير شكار السّلطنة بدمشق يربّي الغزلان وغيرها، وله حوش في بلاد حوران، وفي كل سنة يجهز من ذلك تقدمة الى باب السّلطان، ويُحضَر له من مصر تشريف يجهزه الأمير سيف الدين أيتمش نائب الشام الى ولاية الولاة بعد الأمير سيف الدين ساطلمش الجلالي، وذلك في أواخر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة أو أوائلها، فأقام بها مدة الى أن طلب الإقالة من الأمير علاء الدين أمير علي المارديني نائب الشام، فأعفاه منها في أوائل قدومه سة أربع وخمسين وسبع مئة، ثم إنه ولاّه نيابة حمص فتوجّه إليها بعد وفاة الأمير سيف الدين تلك في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وسبع مئة.(2/403)
ولم يزل بها مُقيماً الى أن توفي رحمه الله تعالى في العشرين من شهر رجب الفرد سنة خمس وخمسين وسبع مئة وهو من أبناء الستين، ونقل تابوته من حمص الى دمشق ودُفن بتربة والده بالصالحية.
وكان وقوراً محتشماً يخدم الناس ويرعاهم ويعرف حقوقهم.
محمد بن كشتغدي
الأمير ناصر الدين العزّي المصري الصّيرفي.
سمع من النجيب والمُعين الدمشقي.
أجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وستين وست مئة.
محمد بن كوندك
ناصر الدين دوادار الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام رحمه الله تعالى.
ما رأى الناس مثله دواداراً، ولا بلغ عظمته في أيامه كسرى ولا داراً. بلغ الغاية القصوى من الوجاهة، وتفرّد مع ذلك بالعفّة عن أموال الرّعايا والنزاهة، يتطفل نواب الشام على مكاتباته، ويفرحون إذا ظفروا بما يرد عليهم من جواباته، لأنه كان قد تمكن من أستاذه، وملك أمره باشتماله عليه واستحواذه، لا يقدر أحد من القضاة ولا الحاجب ولا أرباب المباشرات من المتولي والصاحب، ولا ناظر الجيوش ولا كاتب الأسرار، ولا مَن له حديث في هذه الدولة من الأخيار والأشرار أن ينفرد بأمر في عزل ولا ولاية ولا حكم ولا عناية دون أن يكون ذلك بأمره، أو موافقاً لما في باطنه وسرّه. فمشت الأمور وأصلح الجمهور، وساس فأحسن السياسة. وبالغ في العظمة والرياسة، وكأن الأمر مردود الى أمره، وأمره ليس له ردٌ.
وكان في وقت يوقّع على القصص ويتجرّع الموقعون وغيرهم من ذلك الغُصَص، ودام على ذلك مدة مديدة. ثم بطل ذلك ولا فُلَّ حدّه ولا نقص عديده، الى أن أولع به حمزة التركماني فخرّب دياره، ونقّص عياره، ونفض غباره، وكسف بدره التّمام، ونكّس قامة غصنه حتى ناح عليه الحمام، فتغيّر عليه أستاذه تغيّراً شديداً، وحوّل عنه رأياً كان فيه رشيداً، فضربه بين يديه بالسّياط، ولم يعمل فيه بالاحتياط، وأخذ منه جُملة من الدّنانير، ورُدّ بعد تلك المنعة والقوة يتجشّأ بين التنانير. فأصبح تحت الثّرى بعد أن كان على الثّريا، وولاه الزمان قفاه بعدما كان قابله بالمحيّا. فذلّ من بعد تلك العزة، وسلبه الدهر ما قلّده وبزّه، وراح بعد علو المرتبة، وهو من ذوي المرتبة:
وكم حالم سرّه حِلمُهُ ... وأدركه الروع لمّا انتبه
ولم يزل على الحال المذكور الى أن استجنّ ضريحه، وأسمعه الفناء صريخه، وعلّم منه ضريحه.
وتوفي رحمه الله تعالى في عشري شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وسبع مئة.
وكان قد ورد مع أستاذه من مصر هو وناصر الدين الخزندار، وضبطا بابه على أحسن ما يكون. أما هذا ناصر الدين فكان أمره خارجاً عن الحدّ، وكان عنده خبرة ومعرفة وتنفيذ للمهمات وما يتعلّق بالدولة والمباشرات والوظائف وغيرها.
عرف خُلُق أستاذه ومشى عليه، فلم يكن يجتمع على أحد في بيته إلا بأناس قلائل من الصوفية وغيرهم، ولا يعرف أحد بابه ولا يقربُه، فإن كان له شغل اجتمع به في دار السعادة، ولم يُشبع أحداً منه كلاماً، وأنشأ جماعة من الأمراء والقضاة والكتّاب والدواوين والأجناد وغيرهم من سائر الطوائف، ولم يأخذ على أحد من ذلك شيئاً. ولما غضب عليه أستاذه ضربه قدّامه بالمقارع، وأخذ منه للسلطان ثمانية عشر ألف دينار، وأخذ منه لنفسه مثلها وأكثر منها، وباع موجوده وغالب أملاكه، ومع ذلك لم يشكُ أحد عليه، ولا قال أحد إنه أخذ منه درهماً فما زاد عليه.
ولما أُُفرج عنه كان يُلزمه بالركوب والنزول في أيام المواكب، وكان يقول: قصدي بذلك حتى يرى مكانه وما كان فيه من العظمة أولاً وكيف أصبح الآن، ثم إنه جهّزه الى القدس فأقام هناك مدّة، ثم إنه أحضره الى دمشق. ولم يزل غضباناً عليه من سنة أربع وثلاثين الى أواخر سنة أربعين وسبع مئة، فأحضره ورضي عليه وخلع عليه، وكان يركب معه في غير المواكب ويُسايره ويحادثه. ولم نرَ هذا الحال حصل لغيره، لأنه ما غضب على أحد قطّ ورضي عنه، وكان هذا الحال في حق الدّوادار مضرّاً له، لأن السلطان لما أمسك الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى شمل غضبه كلَّ من كان من جهته، واستخدم كل من كان بطالاً، وقد غضب عليه فناله بهذا أذًى، وأراد السلطان أن يعطيه إمرة عشرة فلم يقبل خوفاً من أستاذه.(2/404)
وكان يتوجه في كل سنة مرتين أو ثلاثاً على قدر ما يتفق له الى باب السلطان في البريد، فيعامله السلطان بالإكرام الزائد والتعظيم.
وكان بيده في حلقة الشام إقطاع يعمل أربعين ألف درهم، وأربعة إقطاعات أو خمسة جياد بأيدي أولاده ومماليكه، وكان له على أستاذه مرتب خبز ولحم وعليق، ويعطيه وينعم عليه في كل قليل، فأقام على هذا الحال من سنة اثنتي عشرة وسبع مئة الى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وكل ماله في عظمة ووجاهة، وكان إذا توجّه الى مصر وعاد يتعذر على الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري وأمثاله السّلام عليه في بيته، بل يقفون له في الطريق إذا توجّه الى دار السعادة ويسلّمون عليه.
وعلى الجُملة ما رأيت أنا ولا غيري عظمةً نالها هذا ناصر الدين في دواداريته لا من قبله ولا من بعده، وبعد هذا كنت أراه يشتري اللحم ويربطه خلفه على الفرس ويتوجّه به الى بيته، فما كنت أقضّي العجب من أمره، سبحان من بيده تصاريف الأمور لا إله إلا هو، وكنتُ أرى ذلك لأنه غير بارٍ بأبيه، وكان يُؤثر إيحاش الأكابر ويشتهي إذلالَهم.
محمد بن ليث العِدى
الحاج شمس الدين ابن الحاج زين الدين التاجر بمدينة سيدنا الخليل عليه السلام.
توفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في الطاعون، ووصّى بأن يُصرف من تركته لعمارة مكة وحرم النبي صلى الله عليه وسلم وحرم القدس وحرم الخليل عليه السّلام، لكل مكان منها مبلغ ثماني مئة دينار، فقال له شهابُ الدين أبو العباس أحمد خطيب الحرم: إن هذه الوصية إنما تنفذ من الثلث. فقال: أعرف ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: الثّلث، والثلث كثير، وثلث مالي يزيد على ذلك، وكُتب محضر، وجهز الى دمشق في أيام أرغون شاه.
محمد بن مجاهد بن أبي الفوارس
القاضي الصدر الكبير بدر الدين النابلسي.
لبس خلعة نظر الدواوين شريكاً للشريف أمين الدين بن عدنان في جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وأقام على ذلك الى أن تولّى الصاحب شمس الدين غبريال نظر الدواوين عوضاً عن ابن أبي الفوارس وعن الشريف أمين الدين في سادس عشر المحرّم سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى ثاني عشر شوال سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ولما عزل من نظر الدواوين بدمشق بقي بطّالاً خاملاً الى أن مات رحمه الله تعالى.
محمد بن محمد بن أحمد بن علي
ابن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد بن الميمون.
الشيخ الإمام أمين الدين أبو المعالي ابن الشيخ قطب الدين أبي بكر بن القسطلاني المكي، شيخ الحديث بالحرم.
كان من بيت صلاح وله فضيلة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه أحاديث من الثقفيات عن ابن الجمّيزي وهو مريض بالإسهال، ولم يمكنه حضور الموقف، واستمرّ مرضه بعدما رحلنا أياماً.
ومات في مستهل المحرم سنة أربع وسبع مئة.
محمد بن محمد بن بهرام
العالم العلامة قاضي القضاة بحلب وخطيبها، شمس الدين أبو عبد الله الشافعي الدمشقي.
وليها مدة طويلة، وكان قد تفقّه بمصر على الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وبرع في المذهب وتصدّر، وتخرّج به الأصحاب.
وكان محمود الأحكام على ضيق خلقه، وكان يخالف قراسنقر نائب حلب كثيراً في أغراضه، وعُزل بالقاضي زين الدين ابن قاضي الخليل، وقد تقدم ذكره.
وتوفي القاضي شمس الدين في العشر الأول من جمادى الأولى سنة خمس وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة ظناً.
ولما عُزل عن قضاء حلب ولي الخطابة بها وبقي مدة مفتي البلد وشيخ الجماعة والناس يقرؤون عليه الفقه والأصول. وتولّى خطابة حلب بعده بدر الدين بن الحدّاد.
محمد بن محمد بن الحسين
ابن أحمد بن علي بن محمد الخطيب جمال الدين بن تقي الدين أبي الطاهر بن مجد الدين أبي علي ابن الشيخ تاج الدين أبي الحسن بن القسطلاني، إمام جامع مصر وخطيب القلعة.
سمع من ابن خطيب المزّة، وصحب الشيخ المرجاني وحجّ معه ولازمه وانتفع به، وخطب بجامع مصر مدة. ولما نُقل الى خطابة القلعة خطب مكانه أخوه تاج الدين بجامع مصر.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل ربيع الأول سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة تقريباً.(2/405)
قال شيخنا علم الدين البرزالي: ووالد جمال الدين المذكور سبط الشيخ مجد الدين الإخميمي خطيب مصر.
محمد بن محمد بن علي
ابن محمد بن سليم، الصاحب تاج الدين أبو عبد الله ابن الصاحب فخر الدين ابن الوزير بهاء الدين ابن حنا.
سمع من سبط السّلفي جزء الذهلي، ومن الشرف المُرسي. وبدمشق من ابن عبد الدايم وابن أبي اليسر، وحدّث بدمشق وبمصر.
رأى من العز والوجاهة ما لا رآه جدّه، وساعده على الرئاسة حظه وجدّه.
كان ذا تصوّن ورياسة وسيادة، وتفنن في المكارم بلغ من العلياء ما أراده، وانتهت إليه رياسة مصره في عصره، وسيادة دهره في سرّه وجهره.
وكان شكله حسناً، وبزّته إذا رآها الناظر لم يذق معها وسنا، لأنه تفنن في مطعمه وملبسه، ومركوبه ومجلسه، وراحة قلبه وبدنه، وسكنه ومسكنه، مع كثرة صدقاته على الفقراء. ومبراته للأمراء، وتواضعه الذي ملك به قلوب الأصاغر والعظماء.
وزاده زينة والبدر أحسن ما تراه في طرف السّماء، وعزم تلاه الحزم، ولم يدخل عليه من العوامل إذا ذوات الجزم.
مستبدّ بهمةٍ جعلته ... في علوّ المرمي شريك النّجومِ
وخلال لو استردّت إليها ... مثلُها ما وجدْتها في الغيوم
وكان ممدّحاً معظّماً، يختار الشعراء لأمداحه الدرّ الكبار منظّماً.
وولي الوزارة مرتين، وتجمّلت به كرّتين. ثم إن الوزراء بعده كانوا له غلماناً، ولأوامره كفلاء وضمّاناً.
ولم يزل على حاله الى أن سكن ابن حنّا زوايا ضريحه، وخرج فقده من معمّاه الى صريحه.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت خامس جمادى الآخرة سنة سبع وسبع مئة.
ومولده في يوم الخميس سابع شعبان سنة أربعين وستّ مئة.
وهو الذي اشترى الآثار النبوية على ما قيل بمبلغ ستين ألف درهم، وجعلها في مكانه بالمعشوق، وهو المكان المنسوب إليه بمصر، وقد زرت هذه الآثار ورأيتها مرتين، وهي قطعة من العنزة ومِرْوَد ومِخْصَف وملقط وقطعة من القصعة، وكحّلت ناظري برؤيتها، وقلت أنا:
أكرِم بآثار النبيّ محمدٍ ... من زارها استوفى السعودَ مزارُهُ
يا عين دونَكِ فالحظي وتمتّعي ... إن لم تَريه فهذه آثارُه
وحكى لي الإمام العلامة شيخنا شهاب الدين أبو الثّناء محمود وغير واحد أن الصاحب فخر الدين بن الخليلي لما لبس تشريف الوزارة وتوجّه الى القلعة بالخلعة الى عند الصاحب تاج الدين، وجلس بين يدين وقبّل يده، فأراد الصاحب تاج الدين أن يُجبره ويعظّم قدره، فالتفت الى بعض غلمانه الواقفين أو عبيده وطلب منه توقيعاً بمرتب يختص بذلك الشخص، فأخذه وقال: مولانا يعلّم على هذا التوقيع، فأخذه وقبّله وعلّم عليه قدّامه.
وكان شيخنا الحافظ فتح الدين إذا حكى ذلك يقول: هذه الحالة من الصاحب تاج الدين بمنزلة الإجازة والإمضاء لوزارة ابن الخليلي.
ومن أحسن حركة اعتمدها ما حكاه لي القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: اجتزت بتربة فرأيت في داخلها مكتباً للأيتام، وهم يكتبون القرآن في ألواحهم، فإذا أرادوا مسحَها غسلوا الألواح وقلبوا الماء على قبره، فسألتُ عن ذلك فقيل لي: هذا شرطٌ في هذا الوقف، وهذا مقصدٌ حسن وعقيدة صحيحة.
وكان جدّه الصاحب بهاء الدين يؤثره على أولاده لصُلبه ويعظّمه عليهم. أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: أخبرني قاضي القضاة جلال الدين القزويني رحمه الله تعالى، قال: وقفتُ على إقرار الصاحب بهاء الدين بأنه في ذمّته للصاحب تاج الدين ولأخيه مبلغ ستين ألف دينار مصرية.
ومن وجاهته وعظمته في النفوس أنه لما نُكب على يد الشجاعي جرّده من قماشه وضربه مقرعةً واحدةً من فوق قميصه، ولم يدعه الناس يصل الى أكثر من ذلك مع جبروت الشجاعي وعتوّه وتمكّنه من السلطان.
وكنان قد رُتّب في الوزارة بعد ابن السّلعوس وقتل الأشرف في أول دولة الناصر محمد بن المنصور وقتل الشجاعي، وذلك في صفر سنة ثلاث وتسعين وست مئة الى أن عُزل بابن الخليلي فخر الدين في جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وست مئة.
وكان الصاحب يتعاطى الفروسية ويحضر الغزوات ويتصيّد بالجوارح والجوامي، ولما قدم من غزوة حمص امتدحه الحكيم شمس الدين محمد بن دانيال وذلك في سنة ثمانين وست مئة، وأول القصيدة:(2/406)
تذكّرت سُعدى أم أتاك خيالُها ... أم الريحُ قد هبّت إليك شمالُها
منها:
لقد أقبل الصّدر الوزيرُ محمّد ... فأقبلَتِ الدنيا وسُرَّ وصالُها
منها:
بغى أبغا لما تصرّع أهله ... بدار هَوانٍ قد عراهُم نكالُها
وألقوا عن الأفراس حيثُ رؤوسهم ... أكاليلُها فوق التّراب نعالُها
وكان لها تلك الذوائبُ في الثّرى ... شكالاً وثيقاً حين حلّ وثالُها
فأمْسَوا فراشاً والأسنّة شُرّعٌ ... ذِبالٌ الى أن أحرقتهُم ذبالُها
وأنشدني إجازة لنفسه شيخنا العلامة أبو الثناء يمدحه بقصيدة تزيد على الثمانين بيتاً أولها:
أعليَّ في ذكر الدّيار مَلامُ ... أم هل تذكُّرُها عليَّ حرامُ
أم هل أُذَمّ إذا ذكرتُ منازلاً ... فارَقْتُها ولها عليّ ذِمامُ
دار الأحبة والهوى وشبيبة ... ذهبت وجيرانٌ عليّ كِرام
فارقتُهم فأرقْتُ من وجدي بهم ... أفَهَل لهم أو للكرى إلمام
كانوا حياتي وابتُليتُ بفقدهم ... فعلى الحياة تحيّةٌ وسلام
أشتاقُها شوقَ الغريب مزاره ... سَفهاً وإلا أين مني الشام
وتروقني خِدعُ المُنى منها وقد ... بعُدَ المدى وتمادت الأيام
وتلذّ لي سُنّة الكرى لا رغبةً ... في النوم بل لتعيدَها الأحلام
وتمثّل الأوهام لي أني بها ... ثاوٍ ولذّات الهوى أوهام
وكأن دمعَ تشوّفي وخيالَها ... دِمَنٌ ألمّ بها فقال سلام
منها:
وله بظلِّ محمد بن محمدٍ ... حرمٌ يُطاف بركنه ومقامُ
الصاحب المولى الوزيرُ ومن به ... بُعثتْ عِظام المجد وهي رمام
متفرّدٌ دون الورى بمناقبٍ ... أمسى لها بين النجوم مقامُ
خُلُق كنشر الروض حُلَّ لنوره ... بيد الصَّبا عند الصباح لثام
وبديهة أسرى وأسرعُ من سَنا ... برقٍ بَدا فكأنّها إلهامُ
من خاطر كالنار يجري ماؤه ... عذباً وهل تُجري المياهُ ضرام
من كل مغنى لو تمثّل جوهراً ... فرداً أقرّ له بها النظام
وشجاعة ما عامرٌ فيها له ... قدم ولا عمرٌو له إقدام
ثبْتَ الجِنان إذا الفوارسُ أحجمتْ ... خوفَ الرّدى لم يُثنه إحجام
وبكفّه في جحفلٍ أو محفل ... تُزجى الرِّماح السمرُ والأقلام
وهذه قصيدة غرّاء طنانة، وقد أثبتها بكمالها في الجزء التاسع عشر من التذكرة التي لي.
وحكى لي عنه سيادةً كثيرة شاهدها منه، من ذلك أنه قال: دخلت يوماً إليه، فلقيني إنسان من الشعراء - نسيت أنا اسمه - ومعه قصيدة قد امتدحه بها، فقال: يا مولانا لي مدّة ولم يتفق لي إلى الصاحب وصول، فأخذتها منه ودخلت بها إليه وقلت: بالباب شاعرٌ وقد مدح مولانا، فقال: يدخل. فأعطاه القصيدة، ولم يمتنع من إسماعها كما يفعله بعض الناس، فلما فرغت أخذها منه، ووضعها الى جانبه، ولم يتكلم ولا أشار. فحضر خادم ومعه مبلغ مئتي درهم وتفصيلة، فدفعها لذلك الشاعر.
قلت: وهذه غاية في السيادة والرئاسة من سماعها وعدم قوله: أعطوه كذا، أو إشارة الى من يحضر فيشير إليه.(2/407)
وقيل عنه: إنه كانت أحواله كلُّها كذا لا يشير بشيء ولا يتكلم به في بيته، وكل ما تدعو الحاجة إليه يقع على وفق المراد، وحكى لي أنه أضاف جدّه يوماً ووسّع فيه، فلما عاد الى بيته أخذ الناس يعجبون منه ومن همّته وكرم نفسه، فقال الصاحب بهاء الدين: ليس ما ذكرتموه بعجيب، لأن نفسه كريمة ومُكْنتُهُ متّسعة، والعجب العجب كونه طول هذا النهار وما حضر فيه من المأكول والمشروب والطعام والفاكهة والحلوى وغير ذلك على اختلاف أنواعه، ما قام من مكانه، ولا دعا خادماً فأسرّ إليه بشيء، ولا أشار بطرفه ولا بيده، ولم يجئ إليه أحد من خدمه ولا إشار إليه. وقيل: إن الناس تعجّبوا من كثرتهم وتشربهم الماء البارد في كيزان عامّة النهار، فسُئل عن ذلك فيما بعد، فقال: اشترينا خمس مئة كوز، وبعثنا الى الجيران قليلاً، برّدوا ذلك في الباذهنجات التي لهم.
ولا شكّ في أنه كان عالي الهمّة ممجَّداً مسوّداً، ولكن لم يكن له سعادة جدّه ولا دربته في تنفيذ الوزارة، فإنه وليها مرّتين وما أنجب فيها، وكان له إنسان مرتب معه حمام كحمام البطايق مدرَّب، إذا خرج من باب القرافة أطلق ما معه من الحمام، فيروح الى الدار التي له فيعلم أهله أنه قد خرج من القلعة، فيرمون الطُّطماح والملوخية وغير ذلك من أنواع الطعام ومن المطجَّن وما شابهه، حتى إذا جاء وجد الطعام حاصلاً والسماط ممدوداً.
وله ديوان شعر لطيف سمعه منه ابن شامه وابن الصابوني.
أخبرني شيخنا العلامة أثير الدين قال: اجتمعت به وسمعت عليه شيئاً من الحديث، وأنشدني من لفظه لنفسه:
ولقد أتيت على أغرّ أدهمٍ ... عبل الشّوى كالليل إذ هو مظلمُ
وبكفي اليُمنى قَناةٌ لدْنةٌ ... كالأُفعوان سنانها منه الفمُ
متقلّداً غضباً كأن متونه ... برقٌ تلألأ أو حريقٌ مضرم
وعليّ سابغةُ الذّيول كأنها ... سلخٌ كسانيه الشجاع الأرقم
وعلى المفارق بيضة عاديّةٌ ... كالنّجم لاح وأين منها الأنجم
فالرّعد من تِصهال خيلي والسّنا ... برقُ الأسنّة والرّذاذ هو الدّمُ
وكان قد اشترى فرساً من العرب، فأقامت عنده مدة في الحاضرة، ثم إنه عبر بها على بيوت العرب، فجفلت به، فقال:
نسيتِ بيوت الشّعرِ يا فرسي وقد ... ربيتِ بها والحُر للعهد ذاكرُ
ولكن رأيتيها بنجدٍ وأهلُها ... على صفةٍ أخرى فعُذرك ظاهرُ
قلت: أثبت الياء في قوله: رأيتها وإنما هي بكسر التاء، فأشبع، فنشأت ياء.
قال شيخنا أثير الدين: ونظمتُ أنا هذا المعنى فقلت:
عجبتُ لمهري إذ رأى العُرب نُكّبا ... كأنْ لم يكن بين الأعاريب قد رَبا
أجل ليس نكراً للفريق وإنما ... تخوّف عُتباً منهم فتجنّبا
وقد سمع منه شيخنا الذهبي وجالسه، وأنشده من شعره، واعتكف مرة في مئذنة عرفات بجامع مصر ثلاثة أيام، فقال السّراج الورّاق، ونقلت ذلك من خطه:
ثلاثة أيام قطعتَ كطولها ... ثلاث شديدات من السنوات
حجبْن مُحيّا الصاحب بن محمد ... ليجمع بين الحُسن والحَسناتِ
وما كاد قلبي أن يقرَّ قراره ... لأني بمصر وهو في عرفات
ولما عمّر الصاحب تاج الدين جامع دير الطين قال السرّاج الوراق، ومن خطه نقلت:
بنيتم على تقوى من الله مسجداً ... وخيرُ مباني العابدين مساجدُ
وأعلن داعيه الأذان فبادرت ... إجابته الصمُّ الجبالُ الجلامِدُ
ونالت نواقيسَ الدّيارات وجْمةٌ ... وخوفٌ فلم يمدد إليهنّ ساعد
تبكي عليهنّ البطاريق في الدجى ... وهنّ لديهم مُلقَياتٌ كواسد
بذا قضتِ الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
قلت: البيتان الأخيران لأبي الطيب المتنبي من قصيدة مشهورة.
وأهدى إليه الصاحب تاج الدين عسلاً مسعودياً فقال، ومن خطه نقلت:
من الظّرف ردّ الطّرف ممتلئاً حمدا ... كما جاء من نعماكَ ممتلئاً رَفدا
وكنتُ لَسيعاً من زماني وصرفِه ... فبدّلني من سمّه القاتل الشُّهَدا
منها:(2/408)
أتاني مسعودٌ به لون عِرضه ... بياضاً جَلا من حالِك الحال ما اسودّا
فأدْنيتُ مَن أبعدتُها لا قِلًى لها ... ولكن من الأشياء ما يوجب البُعدا
فإن رفع الدّاعي يديه فهذه ... بأربعها تدعو فتستفْرِغُ الجُهدا
وأرسل إليه الصاحب يوماً ديوكاً مخصية، فاستبقاهنّ، فأرسل إليه دجاجة كبيرة، ومن خطه نقلت ما قاله في ذلك:
فديتُ الدّيوكَ بذبحٍ عظيمٍ ... وأنقذتُها من عذاب أليمْ
فناري لهم مثلُ نار الخلي ... ل ونارُك لي مثل نار الكليمْ
وذو العرف بالله في جنة ... فكُن واثقاً بالأمان العظيم
لقد أنسَتْ لي دارٌ بهم ... ومن قبلها أصبحت كالصّريم
مشَوا كالطّواويس في ملبسٍ ... بهيِّ البرود بهيج الرّقوم
كأني أشاهدُهم كالقُضاة ... بسمتٍ عليهم كسمتِ الحليم
وإلا أزمّة دارٍ غدت ... بهم حرَماً آمناً كالحريم
ولا فرقَ بيني وبين الخَصيّ ... فلمَ لا أراهم بعين الحميمِ
ونعمَ الفِداُ لهم قد بعثت ... من الفاتنات ذوات الشّحوم
أعدتَ الشباب الى مطبخي ... وقد كان شابَ بحمل الهُموم
وعادت قُدوري زنجيةً ... فأعْجبْ بزنجية عند رومي
وطال لسانٌ لناري به ... خصمتُ خُطوباً غدت من خصومي
وأمسيتُ ضيفَك في منزلي ... ومن فيه ضيفٌ لضيف الكريمِ
قلت: قوله: زنجية عند رومي ظرّف فيه الى الغاية، لأن السّراج رحمه الله تعالى كان أشقر أزرق، ولذلك قال، ومن خطه نقلت:
ومن رآني والحمار مَركبي ... وزرقتي للروم عِرقٌ قد ضربْ
قال وقد أبصر وجهي مُقبلاً ... لا فارسَ الخيل ولا وجهَ العربْ
ونقلت من خطّ السراج الوراق قصدة مدح بها الصاحب تاج الدين أولها:
أترومُ صبري دون ذاك الرّيم ... هيهاتَ لمتُ عليه غير ملومِ
لو شاهدَت عيناكَ ما شاهدتُه ... لرجعتَ في أمري الى التّسليم
مُخضرُّ آسٍ واحْمِرارُ شقائقٍ ... أنا منهُما في جنة وجحيمِ
ومعاطفٌ من دونهنّ روادفٌ ... أنا منهما في مقعد ومُقيم
سَلْ طرفَه عن شعره الدّاجي فلن ... يُخبرك عن طول الدُجى كسقيم
يا غُصن قامته إليك تحيتي ... مع كل ماطرةٍ وكل نسيم
إن الجمال له بغير مُنازع ... والوجدُ لي فيه بغير قسيم
وكذا العُلا لمحمّد بن محمّد ب ... ن عليّ بن محمد بن سليم
نسبٌ كمطّرد الكُعوب فلا تَرى ... إلا كريماً ينتمي لكريم
منها:
وشبيبة حرس التُقى أطرافها ... فلها محلّ الشيب في التعظيمِ
وإذا تحرّمتِ المسائلُ باسْمه ... جلّى عن التحليل والتحريم
إن قال لا يخلو فما من علةٍ ... تبقى لصحةِ ذلك التقسيم
أما إذا جارى أخاهُ أحمداً ... شاهدتَ بحري نائلٍ وعُلومِ
بحرانِ إن شئتَ النّدى، نجمان إن ... شِئتَ الهُدى، غَوثانِ في الإقليم
وكتب الصاحب تاج الدين الى الورّاق يعزيه في حمار له سقط في بئر فنفق:
يَفديك جحشُك إذ مضى متردّياً ... وبتالدٍ يُفدى الأديبُ وطارفِ
عدم الشّعير فلا رآه ولا يرى ... تَبناً وراح من الظّمأ كالتّالف
ورأى البُويرةَ غير خافٍ ماؤها ... فرأى حُشاشةَ نفسه لمخاوف
فهو الشهيد لكم بوافرِ فضلُكُم ... هذي المكارم لا حمامة خاطِفِ
قومٌ يموت حمارُهُم عطشاً لقد ... أزرَوا بحاتم في الزّمان السّالف
قلت: قوله: لا حمامة خاطف يشير فيها الى أبيات ابن عنين التي مدح بها الإمام فخر الدين الرازي وهو على المنبر فجاءت إليه حمامة وراءها جارح، فقال ابن عنين أبياتاً منها:(2/409)
جاءت سليمان الزّمان حمامةٌ ... والموتُ يلمع من جناحَيْ خاطفِ
مَن أعلمَ الورقاءَ أن محلّكم ... حرمُ وأنك ملجأُ للخائفِ
وأجاب الوراق للصاحب تاج الدين بقصيدة طويلة، ومن خطّه نقلت:
أذنَتْ قُطوف ثمارها للقاطف ... وثنت بأنفاس النّسيم معاطفي
منها، فيما يتعلّق بالحمار:
ولكمْ بكيتُ عليه عهدِ مرابع ... ومراتع رُشّت بدمعي الذارفِ
يُمسي على يُسري وعُسري صابراً ... بمعارفٍ تلهيه دون معالفِ
وقد استمرّ على القناعة يقتدي ... بي وهي في ذا الوقت جلّ وظائفي
ودعاهُ للبئر الصّدى فأجابه ... واعتاقَهُ صرفُ الحمام الآزِفِ
وهو المُدلُّ بألْفةٍ طالت وما ... أنسى حقوق مرابعي ومآلفي
وموافقي في كل ما حاولته ... في الدهر غير مواقفي ومخالفي
دورانُ طاحونٍ لساقية لنق ... لِ الماء في شاتٍ ويوم صائفِ
لكنْ بماء البئر راح بنقلةٍ ... فثلاثُ شاماتٍ بموتٍ جارِفِ
ونظم الصاحب يوماً بيتا وهو:
توفي الجمال الفائزيّ وإنه ... لخَيرُ صديقٍ كان في زمنِ العُسرِ
وأمر الوراق بإجازته فقال:
فيا ربّ عاملْهُ بألطافك التي ... يكونُ بها في الفائزين لدى الحشرِ
ومما ينسب الى الصاحب تاج الدين:
توهّم واشينا بليلٍ مزارنا ... فجاء ليسعى بيننا بالتّباعد
فعانقته حتى اتّحدْنا تلازُماً ... فلم يرَ واشينا سوى فرد واحدِ
قلت: هو مأخوذ من قول الأول:
كأنني عانقْتُ ريحانَة ... تنفّستْ في ليلها الباردِ
فلو تَرانا في قميص الدُجى ... حسبتَنا في جسدٍ واحد
وقلت أنا وقد كنا بمرح الغسّولة في يوم من الربيع، فورد علينا برد شديد الى الغاية:
أتانا فجأة بردٌ شديد ... أنا للمدح فيه غير جاحدْ
لأني كنتُ عن إلفي بَعيداً ... فصيّرني ومَن أهواه واحِدْ
وكتب شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود الى الصاحب تاج الدين مع رأس فانوس أهداه وفيه صورة الفلك:
أيا مولى أعوذ مجْد ... ه بالروح والمُلكِ
ومَن بِسَنا مفاخره ... تُضيء غياهبُ الحلكِ
بعثتَ بما أبَوه إذا ... يصحّف من كُنى مَلك
يُريك الشّمس في جُنح الدجا ... في قبّة الفلكِ
فكتب الصاحب تاج الدين الجواب:
أتَتني من الحبر الكريم هديةٌ ... بها من أبي فانوسَ نسبةَ ناسِبْ
وما أبعدَ الفانوس إلا لريبةٍ ... مَطالبها مرجوة في الغباهِبْ
شياطينُها ترجو انقضاضَ شِهابها ... وتأمَلُ منه أن تفوزَ بثاقِبْ
وكان شيخنا العلامة شهاب الدين محمود رحمه الله تعالى في يوم عند الصاحب تاج الدين، فقام الى الصلاة، ورمى إليه بخاتم فضة فصّه زبرجد، ولما انفتل من الصلاة أنشده الشيخ شهاب الدين محمود لنفسه:
يا سيّد الوزراء يا مَن كفُّه ... أربى نَداهُ على سماح حاتمِ
أشبهتَ في الخلق الوصيّ وفعله ... لما تصدّق في الصلاة بخاتم
ومن شعر الصاحب تاج الدين مُلغزاً في الورد:
ومعركة أبطالُها قد تخضّبت ... أكفُهم من شدة الضّرب عندما
لهم عندها ثأرٌ وللنار عنبرٌ ... تأجج حتى يترك الوردَ أدهما
ومنه يمدح الشيخ خضر المكّاري:
وجُزت بميدان العبادة غاية ... تُذكرني يومَ السّباقِ ابنَ أدهَما
ونظم يوماً بيتاً وهو:
ألا قاتل الله الحمامة إنها ... أذابت فُؤاد الصّبّ لما تغّنَت
وقال للوراق: أجزه. فقال قصيدة أولها:
أطارحُها شكوى الغرام وبثّه ... فما صدحتْ إلا أجبتُ بأنّة
ومما ينسب الى الصاحب تاج الدين هذه الموشّحة وقد التزم فيها الحاء قبل اللام وهي:
قد أنحلالجسم أسمرْ أكحلْوأوحلْالقلبُ فيه مُذ حلْ
يميلُ ... وعنه لا أميلُ(2/410)
يحول ... وعنه لا أحول
أقول ... إذ زاد بين النُحولُ
أما حلّعِقدَ الصَّدود ينحلّويرحلْعن جسمي المُزَحّلْ
برَغمي ... كم يستبيحُ ظُلمي
ويرمي ... بحربه لسلمي
وجسمي ... مع التزام سُقمي
منحّلْوقد غدا مرحّلْفكم حلسفكَ دمي وما حلْ
متوّجْ ... بالحُسن هذا الأبهَجْ
مدبّجْ ... عِذاره بالبنفسجْ
مفلَّجْ ... يرنو بطَرفٍ أدعجْ
مكحّلْوريقه المنحّلْمُفحّلْبالعنبر المحَلحَل
كم أبعَدْ ... وكم أبيتُ مُكمَدْ
ويعمَد ... بهجرِهِ لا يفقَدْ
ويجهَدْ ... في ارتضاء مَن قَدْ
تمحّلْوالحاسدون وحّلْومحّلوالوعد منهُ أمْحَلْ
قَلاني ... واشتطّ هذا الجاني
رماني ... في عُشقه زماني
خلاني ... أشكو لمن يراني
قد أنحَلالجسمَ أسمرْ أكحلوأوحَلالقلب منه مُذ حَلْ
محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله
القاضي نجم الدين بن جمال الدين بن محب الدين الطبري الآمُلي الشافعي، قاضي مكة.
كان فقيهاً جيداً، كريماً سيّداً، سديداً في أحكامه أيّدا. فيه لُطف أخلاق، وحُسن صحبة وود في يوميّ الفراق والتلاق. له نظمٌ يتأرجح به الروض، ويتدرج به الماء العذب في الحوض.
لم يزل على حاله الى أن غاب نجمه في الثرى وعدمته أم القرى.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة، في أول جمعة من جمادى الآخرة بمكة شرّفها الله تعالى.
ومولده سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وكان قد سمع من عمّ جده يعقوب بن أبي بكر الطبري جامع الترمذي. وسمع من جده محب الدين، ومن الفاروثي - وله إجازة من الحافظ أبي بكر بن مُسْدىً، وأخذ عنه شيخنا البرزالي وجمال الدين الغانمي، والواني، وآخرون.
وما خلف بمكة مثله، وكان بارعاً في الفقه، وولي بعده ابنه الإمام شهاب الدين أحمد.
قال لي الشيخ تاج الدين اليمني قال: أنشدته قصيدة في سنة عشر وسبع مئة امتدحته بها عند منصرفي من دمشق قاصداً اليمن، ومنها:
جادَ عِهادُ المطر ... عهدَ منًى والمشعَرِ
ولا عدا ربوعها ... سحّ السحاب الممطر
منازلٌ كم لي بها ... من ليل وصل مُقمر
والبَينُ في بينونةٍ ... بوصلنا لم يشعُرِ
قال: فلما فرغتُ من إنشادها أنشدني بديها:
أقسمتُ حقاً بالصّفا ... يا ابن الكرام الغُررِ
شعرُك هذا فائق ... أشعار أهل الحضَر
ما ناله حبيبُه ... ولا الوليد البحتري
قال: وأنشدني القاضي نجم الدين المذكور قصيدة يمدح بها الملك المظفّر عند قدومه من اليمن أوّلها:
إن لم أروّ الرَّبع من أجفاني ... بعد البعاد دماً فما أجفاني
وأنشدني من لفظه بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة الشيخ محب الدين أبو عبد الله محمد بن الصائغ المغربي الأموي، قال: أنشدني القاضي نجم الدين الطبري لنفسه:
أشبيهة البدر المنير إذا بدا ... حُسناً وليس البدرُ من أشباهك
مأسور حُسنك إن يكن متشفِّعاً ... فإليك في الحسن البديع بجاهك
أشفى أسىً أعيا الأساة رواؤه ... وشفاهُ يحصل بارتشاف شفاهك
فصليه واغتنمي بقاء حياته ... لا تقطعيه جفاً بحق إلاهك
قال: فنظمت قصيدة في هذا الوزن واللزوم والرويّ، وقد ذكرتها في ترجمة محب الدين المذكور آنفاً.
محمد بن محمد بن أبي بكر
قاضي القضاة تاج الدين المالكي بالديار المصرية ابن قاضي القضاة علم الدين الأخنائي، تقدّم ذكر والده علم الدين في مكانه من هذا التاريخ.
كان من بيت كلهم قضاه، وبيت كله رياحين، إذا كان غيره عِضاه. باشر القضاء بمصر بعد عمه، وطلع في منصبه كالبدر ليلة تمّه.
ولم يزل الى أن أخنى عليه الذي أخنى على لبد ولم يترك له في الحياة من سبد ولا لبد.(2/411)
وتوفي رحمه الله تعالى في... ورد الخبر الى دمشق بوفاته في أواخر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
ومولده في...
وكان قد ولي القضاء بعد عمه قاضي القضاة تقي الدين الأخنائي في سنة تسع وأربعين وسبع مئة، وتولّى بعد تاج الدين المذكور قضاء المالكية بالديار المصرية أخوه قاضي القضاة بُرهان الدين ابراهيم، وسمع الحجّار ووزيرة، فيما أظن، بالديار المصرية، وأظنه حدّث بالبخاري عنه في مكة أو المدينة.
محمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن
الكنجي الدمشقي.
سمع كثيراً، ونسخ وكتب الطباق، وعلّق أشياء جيدة واقتنى كتباً مليحة وأصولاً.
قال شيخنا الذهبي: وله عمل قليل في هذا الفن، وهو قانع متعفف، لا بأس به إن شاء الله تعالى. سمع من ابن القوّاس وطبقته، وسمع قبلنا من الشيخ تاج الدين، قال: وسمعنا من أبيه.
وتوفي صاحب هذه الترجمة في ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة.
ونسبَه الذهبي الى خفّة وعدم رزانة.
محمد بن محمد
القاضي الإمام العالم الفاضي أقضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله بن الشيخ شرف الدين أبي البركات بن الشيخ عز الدين أبي العزّ صالح بن أبي العز بن وهيبة بن عطاء بن حسن بن جابر بن وهب الأذرعي الحنفي.
كان فاضلاً فقيهاً بصيراً بالأحكام، حكم بدمشق نيابةً عشرين سنة، وخطب بجامع الأفرم مدة، ودرّس بالظاهرية والقليجية مدة، وأفتى وأذن في الفتيا، وقام بكثير من المناصب الدينية، وكان ديّناً يتلو القرآن كثيراً، وحج ثلاث مرات، وكانت جنازته حافلة، وأصيب به أبوه وأولاده وأقاربه وأصحابه.
وتوفي رحمه الله تعالى سلخ المحرم سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده في شهر رمضان سنة ثلاث وستين وست مئة.
وكان قد سمع الغيلانيات بقراءة ابن جعوان، وحدّث في حجاته الثلاث، وباشر الظاهرية عوضاً عنه نجم الدين القحفازي، وباشر نيابة الحكم عوضاً عنه القاضي عماد الدين الطرسوسي.
محمد بن محمد بن الحسين
ابن عتيق بن رشيق، القاضي الإمام المفتي زين الدين أبو القاسم ابن الإمام علم الدين المصري المالكي، قاضي الإسكندرية.
بقي في القضاء بها اثنتي عشرة سنة ثم عُزل، وقد عيّنه قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة لقضاء دمشق.
وكان شيخاً وقوراً ديّناً فقيهاً معمراً، روى للجماعة عن أبي الحسن بن الجمَّيزي.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة حادي عشر المحرم سنة عشرين وسبع مئة. ومولده بمصر سنة ثمان وعشرين وست مئة.
قال كما الدين الأدفوي: نُقِلَت عنه أحكامٌ أخطأ فيها، وعزل عن القضاء، ثم لما صرف السلطان الملك الاصر محمد قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف عن القضاء استناب قاضي القضاة بدرُ الدين بن جماعة ابن رشيق هذا في القاهرة مدة الى أن أعيد ابن مخلوف الى القضاء، وكان يكتب في الإجازات، من نظمه:
أجَزْتُ لهم أبقاهم الله كل ما ... رويتُ عن الأشياخ في سالف الدهر
وما سمعت أذناي عن كل عالم ... وما جاد من نظمي وما راق من نثري
على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... بريء من التصحيف عار من النكر
وبالله توفيقي عليه توكّلي ... له الحمد في الحالين: في العسر واليسر
محمد بن محمد بن علي
الفقيه المحدّث مجد الدين الأنصاري الدمشقي الشافعي المعروف بابن الصيرفي، سبط المحتسب ابن الحبّوبي.
كان شاباً متواضعاً ساكناً، نسخ للناس ولنفسه وعمل المعجم، وجلس مع الشهود، وحدّث عن محمد بن النشبي، والتقي بن أبي اليُسر، وأحمد بن أبي الخير، وابن مالك، وابن البخاري، وحضر المدارس، وعاش أبوه بعد موته نحواً من عشر سنين وكان لمجد الدين نظمٌ.
وتوفي رحمه الله تعالى في... سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
محمد بن محمد بن أحمد أبي القاسم
المرتضى العلوي الشريف المعروف بالقُمّي بضم القاف وتشديد الميم.(2/412)
داخل التتار لما أتى غازان الى دمشق وتوجه إليهم وعاد الى دمشق ومعه أربعة من التتار، وكسر أقفال باب توما، ونزلوا بالباذرائية في يوم الخميس سادس شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وست مئة. وشرع يدلّ التتار على عورات المسلمين الى أن أمسك وحمل الى القلعة في يوم الأربعاء رابع عشري جمادى الأولى، وبعد ذلك كُحِّل الحاج مَنْدَوه وقطع لسانه. وفي ليلة الرابع من شوال سُمّر الشريف القُمي هو وابن العُوفي والبرددار وابن خُطليشي المزّي على الجمال، وشنق اثنان: كاتب مصطبة الوالي وآخر يهودي، وقُطع لسان ابن طاعن وقطعت يد الدّلدرمي ورجله وكُحل الشجاع همّام.
محمد بن محمد بن علي
ابن ابراهيم ابن حُريث القُرشي العبْدَري البلنْسي ثم السّبتي المالكي المقرئ.
حدّث بالموطأ عن أبي الحسين ابن أبي الربيع، عن ابن بقي. وتفنن في العلوم والقراءات والعربية، وولي خطابة سبتة مدة، وأقرأ الفقه مدة ثلاثين عاماً، ثم إنه تزهّد، ووقف كتباً بألف دينار، ووقف عقاره وحج وجاور بالحرمين، وحدّث بمكة.
وبها توفي رحمه الله تعالى في... سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
محمد بن محمد بن عبد القاهر
ابن هبة الله بن عبد القادر بن عبد الواحد بن هبة الله بن طاهر بن يوسف، الصدر ضياء الدين أبو المعالي النصيبي الحلبي.
كان رئيساً كبيراً فاضلاً، حسن الكتابة. وزر بحماة، وولي المناصب، ودرّس بعصرونية حلب، وحدّث بالكثير.
سمع من ابن شدّاد، والموفق عبد اللطيف، والكاشغري، وابن روزبة، وابن اللتي، وابن خليل، وقرأ بنفسه على المشايخ.
سمع منه شيخنا علم الدين البرزالي بحلب سبعة أجزاء منها المئة السريجيّة وثلاثيات البخاري، والأول من مسند عمار بن ياسر.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة ست وتسعين وست مئة بحلب.
ومولده بها في صفر سنة ثماني عشرة وست مئة.
محمد بن محمد بن محمود بن مكي
ابن عيسى بن دمرتاش، الدمشقي، العدل، شهاب الدين أبو عبد الله.
كان أديباً، فطناً، لبيباً، إذا دعا المعنى الغامض كان له مجيباً، وإذا نظمه كان عجيباً، له غوصٌ على المعاني، وألفاظه أطربُ من المثالث والمثاني، له مقاطيعُ أعذبُ من أيّام الوصال، وأشهى من حبيب كرُمت منه الخصال.
لم يزل بدمشق على حاله الى أن نعق غراب بينه، ونزل بحيّه وافد حَينه.
وتوفي رحمه الله تعالى بكرة السبت خامس صفر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده في...
كان أولاً في شبيبته جُندياً بحماة، وخدم بها صاحبها الملك المنصور، صحب بها مجير الدين محمد بن تميم الحموي الشاعر، وأقام معه بحماة، وبسببه دخل في الجندية، وكان يثني على مكارمه. وأقام بحماة مدة عشرين سنة، ولما أسنّ وكبر بطّل الجندية ودخل في زي العدول، وجلس بمركز الرواحية، ورأيته في سنة ثماني عشرة وسبع مئة وفيما بعد ذلك، وأظنه كان مخلاً بإحدى عينيه.
أنشدني من لفظه شيخنا العلامة أثير الدين قال: أنشدنا ظهير الدين البارزي قال: أنشدني المذكور لنفسه:
أقول لمسواكِ الحبيب لك الهنا ... برشْف فم ما ناله ثغرُ عاشق
فقال وفي أحشائه حُرقة الجوى ... مقالة صبّ للديار مُفارق
تذكرت أوطاني فقلبي كما ترى ... أعلِّله بين العُذَيبِ وبارق
قلت: وما أحلى قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر:
وعود أراكة يجلو الثنايا ... من البيض الدُمى جلْي المرايا
يقول مُساجل الأغصان فخْرا ... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
وقول محيي الدين بن قرناص:
سألتك يا عود الأراكة أن تعُدْ ... الى ثغر مَن أهوى فقبّلْه مُشفقا
ورِدْ من ثنيّات العُذيب مُنَيهلاً ... تسلسل ما بين الأبيرق والنقا
وقال: أنشدني المذكور لنفسه:
ولما التقينا بعد بين وفي الحشا ... لواعج شوقٍ في الفؤاد يُخيّمُ
أراد اختباري بالحديث فما أرى ... سوى نظرٍ فيه الجوى يتكلمُ
وأنشدني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: أنشدني لنفسه:
ومُهفهَف الأعطاف معسول اللّمى ... كالغصن يعطفه النسيم إذا سرى
قال اسقني فأتيته بزجاجة ... ملئت قراحاً وهو لاهٍ لا يرى(2/413)
وتأرجحت برضابه وأمدَّها ... من نار وجنته شعاعاً أحمرا
ثم انثنى ثملاً وقد أسكرتهُ ... برضابه وبوجنتيه وما درى
قلت: هو مولَّدٌ من قول الملك الأمجد، وفيه زيادة:
طلبتُ لماءٍ في إناء فجاءني ... غلام بها صرفاً فأوسعته زجرا
فقال هي الماء القراح وإنما ... تجلّى لها خدي فأوهمك الخمرا
ومن شعره، وهو مما نقلته من خطه:
حتام لا تصل المُدام فقد أتت ... لك في النسيم من الحبيب وعودُ
والنهر من طرب يصفّق فرحة ... والغُصنُ يرقُص والرياض تميدُ
وأنشدني الشيخ الإمام العالم نجم الدين القحفاري قال: أنشدني المذكور لنفسه:
قال لي ساحر اللواحظ صف لي ... هيَفي قلت: يا مليح القوام
لك قدٌ لولا جوارح عيني ... ك لغنت عليه وُرْق الحمام
قلت: قد اشتهر هذا المعنى بين شعراء العصر وأولعوا به، ومما نظمته أنا فيه:
ذو قامة من لينها ... بيد النسيم يكاد يُعقَدْ
لولا جوارح لحظه ... غنى الحمام بها وغرد
ونقلت له من خطه:
قد سنتُ سرَّ هواكم ضناً به ... إن المتيم بالهوى لضنين
فوشت به عيني ولم أك عالماً ... من قبلها أن الوشاة عيون
ونقلت منه له:
روى دمع عيني عن غرامي فأشكلا ... ولكنه ورّى الحديث فأشكلا
وأسنده عن واقديّ أضالعي ... فأضحى صحيحاً بالغرام مُعَلّلا
ونقلت منه له:
وافى النسيم وقد تحمل منكم ... لُطفاً يقصِّرُ فهْمهُ عن عِلمه
وشكا السقام وما درى ما قد جرى ... وأنا أحقّ من الرسول بسقمه
ونقلت منه له:
إن طال ليلي بعدكم فلطوله ... عُذرٌ وذاك لما أقاسي منكم
لم تَسْرِ فيه نجومُه لكنها ... وقفَت لتسمع ما أحدِّث عنكم
ونقلت منه له:
عجباً لمشغوف يَفوه بذكركم ... ماذا يقول وما عساه يمدحُ
والكون إما صامت فمعظمٌ ... حرماتكم أو ناطق فمسبِّحُ
ونقلت منه له:
مَن لأسير أمست قرينته ... في الدوح عن حاله تسائلهُ
فهو يغني مَبْدا الحزين لها ... وهي بأوراقها تراسلهُ
قلت: ما أعرف هذا العنى في أحسن من قول البدر يوسف بن لؤلؤ الذهبي:
قامت على ساقٍ تُطارحُني الهوى ... ما بين صَحبي في الدجى ورفاقي
ورْقاءُ قد أخذت فنونَ الحزن عن ... يعقوب والألحان عن إسحاق
أنّى تباريني أسىً وكآبة ... وصبابة وجوى وفيض مآقي
وأنا الذي أملي الهوى عن خاطري ... وهي التي تملي عن الأوراق
وقلت أنا في هذه المادة مع اعترافي بالتقصير عنهما:
لا تقيسوا الى الحمامة حزني ... أنا فضلي تَدري به العشاق
أنا أملي الغرام عن ظهر قلب ... وهي تملي وحولها الأوراق
ونقلت من خط ابن دمرتاش له:
حتى إذا رقّ جلبابُ الدجى وسرتْ ... من تحت أذياله مسكيّة النفس
تبسّم الصبح إعجاباً بخلوَتِنا ... ووصْلِنا الطاهر الخالي من الدنس
ونقلت منه له:
بالروح أفدي منطقياً علا ... برتبة النحو على نَشْوِه
منطقه العذب الشهي الذي ... قد جذب القلب الى نحوه
ونقلت منه له:
جيادك يا من طبّق الأرض عدْلُه ... وحاز بأعلى الجدّ أعلى المناصب
إذا سابقتها في المهامهِ غرّةً ... رياح الصّبا عادت لها كالجنائب
ولو لم تكن في ظهرها كعبة المنى ... لما شبهت آثارها بالمحارب
ونقلت منه له:
يا سيدي أوحشْتَ قوماً ما لهم ... عن حسن منظرك الجميل بديلُ
وتعللت شمس النهار فما لها ... من بعد بُعدك بكرةٌ وأصيلُ
وبكى السحابُ مُساعداً لتفجعي ... من طول هجرك والنسيم عليلُ
ومن شعره:
انظر الى الأزهار تلق رؤوسها ... شابت وطفل ثمارها ما أدركا(2/414)
وعبيرها قد ضاع من أكمامها ... وغدا بأذيال الصبا متمسكا
ومنه:
ولما أشارت بالبنانِ وودّعت ... وقد أظهرت للكاشحين تشهّدا
طفقْنا نبوسُ الأرض نوهم أننا ... نصلّي الضحى خوفاً عليها من العدا
ومما نقلته من خطه له:
يقولون شبهت الغزال بأهيفٍ ... وهذا دليل في المحبة واضحُ
ولو لم يكن لحظ الغزال كلحظه اح ... وراراً لما تاقت إليه الجوارحُ
قلت: يشبه قول ابن دانيال:
بي من أمير شكار ... وجدٌ يذيب الجوانح
لما حكى الظبي جيداً ... حنت إليه الجوارح
ونقلت منه له:
يقول لي الدولابُ راض حبيبك ال ... ملول بما يهوى من الخير والنفع
فإني من عود خُلقْتُ وها أنا ... إذا مال عني الغصن أسقيه من دمعي
ومن شعره دوبيت:
الصبُّ بك المتعوبُ والمعتوب ... والقلب بك الملسوب والمسلوب
يا من طلبت لحاظُه سَفك دمي ... مَهلاً ضعُفَ الطالب والمطلوب
قيل: إن الشيخ صدر الدين بن الوكيل رحمه الله تعالى كان يقول: وددتُ لو أنه كان يأخذ مني جميع شعري ويعطيني هذين( البيتين.
محمد بن محمد بن أحمد
ابن عبد الواحد، عماد الدين بن شرف الدين بن الزملكاني، وهو ابن عم الشيخ كمال الدين بن الزملكاني.
كان شكلاً حسناً طوالاً، وكان خطه حسناً، وكان ينظم إلا أنه قليل.
كان قد سعى بالقاهرة على أن يكون كاتب إنشاء بدمشق، وقام بأمره الأمير سيف الدين بغا الدوادار في أيام السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، فوقف القاضي شهاب الدين بن فضل الله في طريقه وأبطل ما كان قُرّر من أمره. وكان أخيراً ناظر السُّبع الكبير وغيره.
ومولده فيما أظن سنة إحدى وتسعين وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وستين وسبع مئة بدمشق.
محمد بن محمد بن سهل
الوزير العالم الزاهد الأزدي الغرناطي.
سمع من ابن الرضي الطبري، وقدِم دمشق، وقرأ الصحيح على الحجّار، وصحيح مسلم على ابن العسقلاني، وقرأ بالسبع في صغره على ابن بشر وابن أبي الأحوص.
وبرع في معرفة الاسطرلاب.
وكان في بلده وافر الجلالة، غامر الإنالة، سافر الإيالة، تزهّد وحضر الى الديار المصرية، وأعرض عن المناصب العصرية، فما كاد يلحقه ابن أدهم زُهداً، ولا أشهب علماً ورفداً. وكان يبرّ الناس ويتحيّلُ على كتمان أمره، ويفرّق الذهب وهو يتقّد في جمره، والشمس لا تخفى بكل مكان والحرف لا تُعدَم ماهيّته بين التحريك والإسكان:
سروا ونجوم الليل زُهرٌ طوالعٌ ... فنمّ عليهم في الظلام التنسم
ولم يزل على حاله الى أن نزلت شدة الموت بابن سهل، وبكاه حتى الحزن والسهل.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الأربعاء ثاني عُشري المحرم سنة ثلاثين وسبع مئة قافلاً من الحج.
ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة.
قال الشيخ تاج الدين أحمد بن مكتوم النحوي يرثيه:
مات ابن سهل فماتت ... من بعده المكرماتُ
ولم يخلّف مثيلاً ... أمثاله الصِيدُ ماتوا
وقلت: أنا فيه لما سمعتُ بموته:
مات ابن سهل ومنا قلّت الحيلُ ... وللعفاة فضاق السهل والجبلُ
مات الوزير الذي كان الملوك به ... في غبطة ولديه العلم والعمل
الزاهد العابد السامي الرفيع ذُرى ... العالم العامل المستأمن البطل
عليه مني سلام الله ما صدحت ... ورق لها في حواشي دَوْحها زجلُ
وقلت أرثيه:
موت ابن سهل قد كان صعباً ... لكل عاف وكل طالب
يحق والله أن يُرثى ... من قد حوى هذه المناقب
توفي أبوه سنة سبعين، وجده سنة سبع وثلاثين. وحج هو سنة سبع وثمانين وعاد، ثم إنه قدم مصر سنة عشرين وسبع مئة، وحجّ وجاور سنتين.
وكان في بلده يرجعون إليه والى رأيه وحُرمة عقله فيمن يولونه المملكة ويلقبونه الوزير، وكان فيه ورعٌ شديد، وتعفّف وصيانة وديانة وكرم ومروّة وحلم وعلم.(2/415)
وأخذ عنه الشيخ قطب الدين عبد الكريم، وكان شيخاً وقوراً حسن الهيئة مليح الشيبة لا يتعمم ويتطيلس على طاقية.
ورأيته عند شيخنا العلامة أثير الدين، وأخبرني هو وغيره عنه أنه يتصدق سراً من ماله الذي يحمل إليه من أملاكه في الغرب، وعرفه الناس، وصاروا يقصدونه، فإذا طلب منه أحد شيئاً أنكر ذلك، وقال: ليس ما قيل لك صحيحاً، ثم إنه يتركه بعد يوم أو أكثر ويأتي إليه وهو غافل ويلقي في حجره كاغداً فيه ذهب، ويمر ولا يقف له، ويتصدّق من الستين ديناراً فما دونها، واستنسخ البحر المحيط تفسير القرآن لشيخنا أثير الدين، وشرح التسهيل له وغير ذلك وجهزه الى الغرب.
محمد بن محمد بن المفضّل
ابن عبد المنعم بن حسين بن حمزة بن حسين بن أحمد بن علي بن طاهر بن حبيش، القاضي الإمام المفتي الخطيب موفّق الدين ابن القاضي عز الدين أبي اليسر ابن القاضي نجم الدين أبي المكارم ابن القاضي مهذب الدين أبي عدي ابن القاضي تاج الدين أبي سالم ابن القاضي أمين الدين أبي القاسم حسين بن حمزة، البهراني القضاعي الحموي الشافعي، المعروف بابن حبيش.
تفقّه بحماة، وحصّل وشارك في الفضائل، وسمع من ابن رواحة، والكمال بن طلحة، وجماعة. وروى لشيخنا الذهبي وغيره بالإجازة عن جده لأمه أبي المشكور مدرك بن أحمد بن مدرك بن حسين بن حمزة القضاعي.
وكان إماماً جليل القدر، وافر الحرمة، ظاهر الحشمة، ولي خطابة حماة، ثم خرج عنها لتهديد السلطان له لما أنكر وأراق الخمور. وقدم دمشق في... وولي خطابتها سنة ثلاث وتسعين وست مئة، وقيل: سنة إحدى وتسعين عوضاً عن الشيخ عز الدين الفاروثي، وعزّ عليه وعلى الناس ذلك، وحضر السلطان الملك الأشرف، فلما رآه السلاح دارية أخذوه وأجلسوه الى جانب الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب الشام، فسأل السلطان عنه، فأخبر أنه قد عُزل، وتوهم الشيخ أن الوزير ابن السلعوس هو الذي عزله، فاعتذر السلطان إليه وقال: بلغنا أنك ضعيف. فقال: من صلى مئة ركعة بألف " قل هو الله أحد " يعجز عن صلاة الفرض؟ يعني صلاة النصف، فلم يلتفتوا إليه وانكسر قلبُه.
ثم في هذه الجمعة هرب حسام الدين لاجين فاغتمّ السلطان لذلك، وتوجه هو والأمراء والعسكر يفتشون عليه، وكانوا قد أطلعوا المنبر الى الميدان الأخضر، فصلى موفق الدين بالعوام، والسلطان والعساكر مهجّجون في طلب حسام الدين لاجين، ثم إن السلطان عاد بالعساكر بعد العصر يوم العيد، فقال بعض الشعراء في ذلك:
خطب الموفق إذ تولى خطبة ... شق العصا بين الملوك وفرّقا
وأظنه إن قال ثانية غدا ... دينُ الأنام وشملُه متفرِّقا
وقال آخر:
إن الموفق لما ... في خطبة قد ترفّق
في جمعة العيد شمل ال ... ملوك كالخطب فرّق
وكان مع ذا وهذا ... في الحال غير موفّق
وكان هذا الخطيب موفق الدين رجلاً صالحاً ديّناً خيراً، ولكن لم يرزق سعادة في هذه الحركة.
ثم إن الموفق طلب الى حماة بكتاب من صاحبها في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وست مئة من بعد وفاة قاضي القضاة جمال الدين بن واصل رحمه الله تعالى، فتوجه من دمشق الى حماة، وولى بها القضاء مدة.
ثم إنه قدم من دمشق جافلاً من التتار. فتوفي رحمه الله تعالى بدرب القاضي الفاضل فييوم السبت سادس عشري جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وست مئة، ودفن برّاً بباب الفراديس ظاهر دمشق.
ومولده في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وست مئة.
وكان من أهل الدين والخير والصلاح، رحمه الله تعالى.
محمد بن محمد بن هبة الله
ابن يحيى بن بندار بن مميل، القاضي الرئيس الكبير الصدر تاج الدين أبو الفضل ابن القاضي شمس الدين بن نصر الشيرازي.
كان من أعيان الدماشقة، ولي وكالة بيت المال والحسبة ونظر الدواوين ونظر ديوان الخزندار، وتنقل في المناصب، وباشر الوظائف الكبار، ورأس.
قال شيخنا علم الدين البرزالي رحمه الله تعالى: روى لنا عن ابن عبد الدائم، وسمع من والده وعمه وجماعة.
وتوفي رحمه الله تعالى بالمزة في بستانه في رابع شهر رجب الفرد سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ست وخمسين وست مئة، رحمه الله.(2/416)
وجرى بينه وبين شمس الدين محمد ابن الشيخ عفيف الدين التلمساني منافسة بسبب شخص مشهور، وعمل شمس الدين مقامة بسبب ذلك. وكان هذا تاج الدين من الرؤساء الفضلاء النبلاء فلم يسمع عنه بسبب ذلك كلمة واحدة، ولا أعاد ولا أبدأ، لحشمته ورياسته وفضله ومروّته.
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن يوسف
الشيخ الإمام العلامة المفنّن المحقق المدقق جامع أشتات الفضائل ركن الدين أبو عبد الله بن القَوْبع، بالقاف والواو الساكنة وبعدها باء موحدة مفتوحة وعين مهملة، الجعفري التونسي المالكي.
فاضلٌ إذا قلت فاضل، ونظّار لم يثبت له مناظر ولا مناضل، قد جمع الفضائل وأتقن ما لمفرداتها من البراهين والدلائل.
إن فسّر القرآن العظيم خضع له وأذعن ابن مُقاتل وفتح على السُّديّ باباً لا يخاتر فيه ولا يخاتل.
وإن ذُكر الحديث فنهايةُ ابن الأثير له بداية، وصاحب الغريبين معروف بأنه لا يصل الى هذه الغاية.
وإن ذكر أسماء الرجال فما يذكر مع بحره الزاخر ابن نقطة ولا ابن عبد البرّ في استيعابه مما يوافق شرطه.
وإن ذكر الفقه فدونه صاحب المدوّنة، وابن أبي زيد نقص قدره عنه وهوّنه.
وإن ذكر الأصول فالغزالي ليس من هذا البزّ، والحُليمي سفِه رأيه واغتر بما اعتز.
وإن ذكر النحو فالشلوبين شلوٌ بين ماضغيه، وابن عصفور يطير وما يقع إلا بين يديه.
وإن ذكرت اللغة فصاحب المحكم تشابهت أقواله، والقزاز سَدى وألحم وما أفادته أحواله.
وإن ذكر العروض فالخليل ضاقت معه دائرته، والجوهري غام جو جواه وما أفادته مغامرته.
وإن ذكر التاريخ فالخطيب لا يرقى درجته، وابن عساكر يبذل في اعترافه له مهجته.
وإن ذكر الطب فجالينوس ما تجالس أنسه، وابن زُهر كسف نور هذا من ذاك شمسه. هذا الى غير هذه المعارف، وسوى هذه النقود التي لا تبهرجها الصيارف:
إليه انتمت فينا الفضائل كلها ... فدعوى سواه للفضائل زور
إليه كأن الفضل في كل ليلة ... بكف الثريا في السماء يشير
يقول كذا فليسمُ للعلم من سما ... ويفخر بإدراك العلا فخور
وكان يتودد الى الناس ويتعهد الأكابر بالبشر والإيناس من غير حاجة الى رب جاه أو صاحب وظيفة يترجاه، لأنه كان في غُنيةٍ من دنياه، ورفعة من ذاته في علياه.
وولي نيابة الحكم بالقاهرة مدةً فملأ المنصب عدلاً وإنصافاً، ومال على المظالم وإن صادق وإن صافى، ثم إنه سأل الإعفاء، ورجع الى العطلة وفاء.
ولم يزل في رياسة علمه وفضائله الباهرة وسيادته الباطنة والظاهرة الى أن تولى العلم بركنه، وطال من القبر على إنسانه إغماض جفنه.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الإثنين في سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة بالقاهرة.
ومولده بتونس سنة أربع وستين وست مئة.
وسمع الحديث من أبي إسحاق ابراهيم بن علي الواسطي، وأبي الفضل أحمد بن هبة الله بن عساكر، وأبي العسا أحمد بن محسن بن ملّي، وأبي القاسم الخضر بن عبد الرحمن الدمشقي، وأبي عبد الله محمد بن حمزة بن أبي عمر المقدسي، وجماعة كثيرة. وكتب على سورة " ق " مجلدة جيدة، وعلى آيات من القرآن تفاسير جيدة.
ولما تولى إعادة الناصرية علق على قوله تعالى: " إن أولَ بيتٍ وُضع للناس للذي ببكّة " الآية. وكتب على بعض ديوان المتنبي كلاماً جيداً، واختصر أفعال ابن الحاج. وتولى الإعادة في الفقه بالمدرسة الناصرية والجامع الطولوني. ودرس بالمدرسة المنكوتمرية، وكان طبيباً بالبيمارستان، ويلقي الدرس فيه نيابة عن رئيس الطب.
وكان قد تأدّب بابن حبيش، وقرأ المعقول على ابن الدارس.
وكان يستحضر جملة من شعر العرب والمولدين والمتأخرين، ويعرف خطوط الأشياخ، لاسيما أهل الغرب.
وكان نقده جيداً، وذهنه يتوقد ذكاءً، قد مهر في كل ذلك، إذا تحدث في شيء من هذه العلوم تكلم على دقائقه وغوامضه ونكته حتى يقول القائل: إنما أفنى عمره في هذا الفن.
وكان قد قرأ النحو على يحيى بن الفرج بن الزيتون، والأصول على محمد بن عبد الرحمن قاضي تونس، وقدم مصر عام تسعين وست مئة.
قال لي شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى وهو ما هو: أنا ما أعرف أحداً مثل الشيخ ركن الدين، وقد رأى من رآه من الفضلاء.(2/417)
وأخبرني شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس قال: قدم الى الديار المصرية وهو شاب فحضر سوق الكتب والشيخ بهاء الدين بن النحاس حاضر، ومع المنادي ديوان ابن هانئ، فأخذه الشيخ ركن الدين وأخذ يترنّم بقول ابن هانئ:
فتكاتِ لحظك أم سيوفَ أبيكِ ... وكؤوسَ خمرك أم مراشفَ فيك
وكسر التاء وفتح الفاء والسين والفاء، فالتفت إليه الشيخ بهاء الدين وقال: يا مولانا ذا نصب كثير. فقال له الشيخ ركن الدين بتلك الحدة المعروفة منه والنفرة: أنا ما أعرف الذي تريده أنت من رفع هذه الأشياء على أنها أخبار لمبتدآت مُقدّرة، أي: أهذه فتكات لحظك أم كذا أم كذا، وأنا الذي أريده أغزلُ وأمدحُ، وتقديره: أأقاسي فتكات لحظك أم أقاسي سيوف أبيك، وأرشف كؤوس خمرك أم مراشف فيك. فأخجل الشيخ بهاء الدين وقال له: يا مولانا فلأي شيء ما تتصدر وتشغل الناس. فقال استخفافاً بالنحو واحتقاراً له: وأيش النحو في الدنيا، النحو علم يذكر؟ أو كمال قال.
وأخبرني أيضاً قال: كنت أنا وشمس الدين بن الأكفاني نأخذ عليه في المباحث المشرقية فأبيت ليلتي أفكّر في الدرس الذي نصبح نأخذه عليه وأجهد قريحتي وأعمل تعقُّلي وفهمي الى أن يظهر لي شيء أجزم بأن المراد به هذا، فإذا تكلم الشيخ ركن الدين كنت أنا في واد في بارحتي وهو في واد. أو كما قال.
وأخبرني الشيخ تاج الدين المراكشي قال: قال لي الشيخ ركن الدين: لما أوقفني الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس على السيرة التي عملها علّمت فيها على مئة وأربعين موضعاً أو مئة وعشرين موضعاً - السهو مني - أو كما قال.
ولقد رأيته أنا مرات يواقف الشيخ فتح الدين في أسماء رجال ويكشف عليها فيظهر الصواب مع ركن الدين.
وكنت يوماً أنا وهو عند الشيخ فتح الدين فقال: قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: عمل ابن الخطيب أصولاً في الدين أصول الدين أعوذ بالله من الشيطان الرجيم - بسم الله الرحمن الرحيم - " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " فنفر الشيخ ركن الدين وقام وقال: قل له يا عُرّة، عمل الناس وصنفوا وما أفكروا فيك، ونفر مغضباً.
وأخبرني الشيخ فتح الدين قال: جاء إليه إنسان يصحح عليه في أمالي القالي، فأخذ الشيخ ركن الدين يُسابقه الى ألفاظ الكتاب، فبهت ذلك الرجل فقال له: لي عشرون سنة، ما كررت عليها.
وكان إذا أنشده شيئاً في أي معنى كان أنشد فيه جملة للمتقدمين والمتأخرين، كأن الجميع كان يكرر عليه البارحة.
وتولى نيابة الحكم بالقاهرة لقاضي القضاة المالكي مدة، ثم إنه تركها تديّناً منه وقال يتعذر فيها براءة الذمة، وكانت سيرته فيها حميدة، ولم يُسمع عنه أنه ارتشى في حكومة ولا حابى أحداً.
وكان كثير التلاوة وكان ينام أول الليل ثم يستفيق وقد أخذ راحة، وأخذ كتاب الشفاء لابن سينا ينظر فيه لا يكاد يخل بذلك.
قال لي الشيخ فتح الدين: قلتُ له يوماً: يا شيخ ركن الدين الى متى تنظر في هذا الكتاب؟ فقال: أريد أن أهتدي.
وكان فيه سأمٌ وضجر حتى في لعب الشطرنج، يكون في وسط الدست وقد نفضه وقطع لذة صاحبه ويقول: سئمت سئمت. وكذلك في بعض الأوقات يكون في بحث وقد حرر لك المسألة وكادت تنضج وتتضح فيترك الكلام ويمضي.
وكان حسن الودّ، جميلَ الصحبة، يتردد الى الناس ويُهنّيهم بالشهور والمواسم من غير حاجة لأحد، لأنه كان معه مالٌ له صورة ما يقارب الخمسين ألف درهم، وكان يتصدق سراً على أناس مخصوصين، وكان مع هذه العلوم لثغته بالراء قبيحة يجعلها همزة، وكنت أنا وهو قد طلعنا الى القلعة فجاء في الطريق ذكر الراء واللثغة بها، فأخذ يسرد عليّ ما يمكن من اللثغة بها وعدّ أنها تغير لغالب حروف المعجم، وأخذ يذكر أمثلة ذلك.
وكان إذا رأى أحداً يضرب كلباً أو يؤذيه يخاصمه وينهره ويقول له: ليس تقفل هذا أمَا هو شريكك في الحيوانية؟ وكان خطه مغربياً وليس بجيد، وكنت كثيراً ما أجتمع به وآخذ من فوائده الغامضة، وكتبت له استدعاء في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، ونسخته: المسؤول من إحسان سيدنا الشيخ الإمام العلامة جامع شتات الفضائل، وارث علوم الأوائل، حجة المناظرين سيف المتكلمين:
سبّاق غايات الورى في بحثه ... فالبرقُ يسري في السحاب بحثّه(2/418)
ويهبّ منه بالصواب صبا لها ... بردٌ على الأكباد ساعة نفثه
ويضوع من تلك المباحث ما يُرى ... أشهى من المسك السحيق وبثه
المتكلم الذي ذهلت بصائر أولي المنطق نحوه، وأنتجت مقدماته المطلوب عنوة ووقف السيف عند حدّه فما للآمدي في مداه خطوه، وحاز رتب النهاية فما لأبي المعالي بعدها خطوه، فهو الرازي على الرازي، لأن قطب علومه من مصره ومحصوله ذهب قبل دخول أوانه وعصره، والفقيه الذي رفع لصاحب الموطأ أعلام مذهبه مُذهبة، فمالكٌ عنه رضوان، وأسفر وجوه اختياره خالية من كلف التكلف حالية بالدليل والبرهان، وأبرزها في حلاوة عبارته فهو جلاّب الجُلاّب، وأظهر الأدلة من مكامن أماكنها، وطالما جمحت تلك الأوابد على الطُلاّب.
والنحوي الذي تركت لُمعهُ الخليل أخفش، وأعرت الكسائي ثوب فخره الذي بهر به سيبويه وأدهش، فأبعد ابن عصفور حتى ضار عن مُقرّبه، وأمات ابن يعيش لمّا أخلق مُذهب مَذهبه.
والأديب الذي هو روضٌ جمع زهر الآداب وحبْرٌ قلّد العقد أجياد فنّه الذي هو لبّ الألباب، وكامل أخذ عنه كتّاب الأدب أدب الكُتاب، فإذان نظم قلت: هذه الدّراري في أبراجها تتّسق، أو خِلْتَ الدُرر تتنضدّ في ازدواجها وتنتسق، أو نثر فالزهر يتطلع من كمامه غبَّ غمامه، والأَلفات غصون ترنّح معاطفها بحمائم همزه التي هي كهمز حمامه.
والطبيب الذي تحلى منه أبقراط وسقط عن درجته سُقراط، فالفارابي ألفاه رابياً، وابن مسكويه أمسك عنه مُحاشياً لا محابياً، وابن سينا انطبق قانونه على جميع جزئياته وكلياته، وطلب الشفاء والنجاة من إشاراته وتنبيهاته، فلو عالج نسيم الصبا لما اعتلّ في سحره، أو الجفن المريض لزانه وزاده من حوَره، ركن الدين أبي عبد الله محمد بن محمد عبد الرحمن الجعفري المالكي:
لا زال روض العلم من فضله ... في كل وقت طيّب النَشْر
وكل ما يبدعُه للورى ... تطويه في الأحشاء للنشر
وتزدهي الدنيا بما حازَهُ ... حتى تُرى دائمة البشر
إجازة كاتب هذه الأحرف ما له من مَقول منظوم أو منثور، وضع أو تأليف، جمع أو تصنيف، الى غير ذلك على اختلاف الأوضاع وتباين الأجناس والأنواع.
وذكرت أشياء مذكورة في الاستدعاء.
فأجاب بخطه رحمه الله تعالى: يقول العبد الفقير الى رحمه ربه وعفوه عما تعاظم من ذنبه محمد بن عبد الرحمن القُرشي الجعفري المعروف بابن القُوبع: بعد حمد الله ذي المجد والسّناء والعظمة والكبرياء، الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، خالق الأرض والسماء، وجاعل الإصباح والإمساء، والشكر له على ما مَنّ به من تضاعفِ الآلاء وترادفِ النعماء، نحمده ونذكره، ونعبده ونشكره لتفرده باستحقاق ذلك وتوفر ما يستغرق الحمد والشكر هنالك، مع ما خصّنا به من العلم وأضاء به بضيائها من نور الفهم.
ونصلي على نبيه محمد سيد العُرب والعُجم، وعلى آله وأصحابه الذين فازوا من كل فضل بعظم الحظ ووفور القُسم، أجزت لفلان وذكرني:
جمّاع أشتات الفضائل والذي ... سبق السّراع ببطئه وبمكثه
فكأنهم يتعثّرون بجدولٍ ... ويسير في سهل الطريق وبرثه
أزرى بسحب بيانهم في هطلها ... فيما يبين بطلّه وبدثّه
جميع ما يجوز لي أن أرويه مما رويته من أصناف المرويات أو قلته نظماً أو نثراً، أو اخترعته من مسألة علمية مُفتتحاً، أو اخترته من أقوال العلماء واستنبطت الدليل عليه مرجّحاً مما لم أضعه في تصنيف ولا أجمعه في تأليف على مشرط ذلك عند أهل الأثر:
وفّقه الله لما يرتضي ... في القول والفعل وما يدري
وزاده فضلاً الى فَضله ... بما به يأمن في الحشر
فهذه الدار بما تحتوي ... دارُ أذىً ملأى من الشرّ
ذلّت بينهم بغرور فهم ... في عمَهٍ عنه وفي سكر
قد خدعَتْهم بزخاريفها ... معقبة للغدر بالغدر
تريهم بشراً ويا وَيحهم ... كم تحت ذاك البشر من مَكر
بينا ترى مبتهجاً ناعماً ... ذا فرج بالنهي والأمر
آمن ما كان وأقصى مُنىً ... فاجأه قاصمة الظهر(2/419)
فعدِّ عنها واشتغل بالذي ... يوليك خيراً آخر الدهر
فإنما الخير خصيصٌ بما ... تلقاه بعد الموت والنشر
هذا إذا مَنّ الذي ترتجي ... رحماه بالصفح والغفر
وزاد رضواناً فهذا الذي ... يُدعى به لأطول العمر
ويؤيد هذا ما أخبرناه الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد الورع المُسند تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن الواسطي، قراءة عليه ونحن نسمع بدمشق في شوال سنة إحدى وتسعين وست مئة، قيل لي: أخبركم أبو البركات داود بن أحمد بن ملاعب البغدادي قراءة عليه بدمشق، وأبو الفرج الفتح بن عبد الله بن عبد السلام البغدادي قراءة عليه ببغداد قالا: أخبرنا الخطيب أبو منصور أنوشتكين بن عبد الله الرضواني، قراءة عليه: أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد البُسري. ح وأخبرنا ابن ملاعب وأبو عليّ الحسن بن إسحاق ابن الجواليقي، قالا: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبيد الله بن الزاغوني، أخبرنا الشريف أبو نصر محمد بن محمد بن علي الزينبي، قالا: أخبرنا أبو الطاهر محمد بن عبد الرحمن المخلّص الذهبي، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا خلف بن هشام البزاز سنة ست وعشرين ومئتين حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نحفر الخندق، وننقل التراب على أكتافنا: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة " مختصر.
وهذا الحديث من أعلى ما أرويه، نسأل الله حالاً يرضاها ونرضاها، إنه سميع الدعاء، فعّالٌ لما يشاء، وله الحمد والمنّة. كتبه محمد القوبع ليلة التاسع والعشرين من رجب سنة ذ ك ج.
وأنشدني لنفسه إجازة، ومن خطه نقلت:
جوى يتلظّى في الفؤاد استعارُهُ ... ودمعٌ هتونٌ لا يكفّ انهماره
يحاول هذا بَردَ ذاك بصوبه ... وليس بماء العين تطفأ ناره
وُلوعاً بمن حاز الجمال بأسره ... فحاز الفؤاد المستهام إسارُه
كلِفْتُ به بَدريّ ما فوق طوقه ... ودعصيّ ما يثني عليه إزاره
غزال له صدري كناسٌ ومرتع ... ومن حب قلبي شيحه وعراره
من السُمر عُدمي الصبر أحمر خده ... إذا ما بدا ياقوته ونضاره
جرى سابحاً ماء الشباب بروضه ... فأزهر فيه وردُه وبهارُه
يشبّ ضراماً في حشاي نعيمه ... فيبدو بأنفاس الصعاد شراره
وينثر دمعي منه نظم مؤشر ... كنور الأقاحي حفّه جُلّناره
يُعَلّ بعَذْبٍ من برود رضابه ... تفاوح منه مسكه وعقاره
وسهد أجفاني بوسنان أدعجٍ ... يحيّر فكري غنجه واحوراره
حكاني ضعفاً أو حكى منه موثقاً ... وخصراً نحيلاً عال صبري اختصاره
معنىً بردف لا ينوء بثقله ... فيا شدَّ ما يلقى من الجار جاره
على أنّ ذا مُثرٍ وذلك معسِرٌ ... ومن محنتي إعساره ويساره
تألّف من هذا وذا غُصنُ بانة ... توافت به أزهاره وثماره
تجمّع فيه كلُ حُسن مُفرّق ... فصار له قطباً عليه مداره
زلال ولكنْ أين مني وروده ... وكدْنٌ ولكن أين مني اهتصاره
وسَلسال راحٍ صدّعني كأسه ... وغودر عندي سكرُه وخماره
وبدر تمام مشرق الضوء باهرٌ ... لأفقي منه مَحْقُه وسراره
دنا ونأى فالدارُ غيرُ بعيدة ... ولكنّ بُعْداً صدُّه ونفاره
وحين درى إن شد أسري حبُّه ... أحلّ بي البلوى وساء اقتداره
ومنها:
حكت ليلتي من فقدي النوم يومها ... كما قد حكى ليلي ظلاماً نهاره
كتمت الهوى لكنْ بدمعي وزفرتي ... وسقمي تساوى سرُّه وجهاره
ثلاث سجلات عليّ بأنني ... أمام غرام قلّ فيك استتاره
أورّي بنظمي في العذار وتارةً ... بمن إن تفنّى القرط أصفى سواره(2/420)
وجلّ الذي أهوى عن الحلي زينة ... ولما يقارب أن يدب عذاره
أراحةَ نفسي كيف صرت عذابها ... وجنة قلبي كيف منك استعاره
ونقلت منه يمدح الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:
ولو غيرُ الزمان يكون قرني ... للاقى الحتف من ليثٍ جريّ
تحاماه الكماة إذا ادلهمّت ... دُجى الهبوات في ضنك حميّ
وطبّقتِ الفضاء فلا ضياء ... سوى لمعان أبيض مشرفيّ
وأرمدتِ العيون وكل طرف ... عمٍ إلا لأسمر سمهري
بحيثُ عبابُ بحر الموت يرمي ... بموج من بنات الأعوجي
عليها كل أروع هبرزيّ ... يغالب كل أغلب شمّري
تراه يرى الظُّبى ثغراً شنيباً ... من الإفرند في ظَلْم شهيّ
ويعتقد الرماح قدود هيفٍ ... فيمنحها معانقة الهديّ
هنالك ترى الفتى القرشي يحمي ... حماة المجد والحسب السنيّ
وتعلم أن أصلاً هاشمياً ... تفرع بالنضار الجعفريّ
ولو أن الجعافرة استبدّت ... به يمنى الهُمام القوبعي
منها في المديح:
الى صدر الأئمة باتّفاق ... وقدوةِ كل حَبْر ألمعيّ
ومَن بالاجتهاد غدا فريداً ... وحاز الفضل بالقدح العليّ
وما هو والقداح وذاك تخت ... وهذا نال بالسقي الرضيّ
صَبا للعلم صبّاً في صباه ... فأعْلِ بهمّة الصبّ الصبي
فأتقن والشبابُ له لباسٌ ... أدلة مالكٍ والشافعي
منها:
ونور جلالة يرتدّ عنه ... رسول الطرف بالحسن العيي
ومن كثرت صلاة الليل منه ... سيحسن وجهه قول النبي
منها:
بعدْلٍ عمّ أصناف البرايا ... تساوى فيه دان بالقصيّ
ضممتَ ندىً وجوداً حاتمياً ... الى رأي وحلم أحتفيّ
لديك دعائم المجد استقرت ... فحط بنو الرضى ملقى العصيّ
بحيث طوامح الآمال مهما ... رمت لم تُخطِ شاكلة الرميّ
أيا قمر الفهوم إذا ادْلهمّت ... دُجى الإشكال في غوص خفيّ
وسحبان المقالة حين يلفى ... بليغ القول كالفَهّ العييّ
لكم أبديت من معنىً بديع ... يروق بحلة اللفظ البهيّ
فأقسم ما الرياض حنا عليه ... ملثّ القطر هطّال الجيّ
فألبسها المزخرف والموشّى ... حيا الوسْميّ منه أو الوليّ
وأضحك نبتها ثغر الأقاحي ... فما نظم الجمان اللؤلؤي
وعطّر جوّها بشذى أريج ... من المسك الفتيق التُبتي
فلاحت كالخرائد يزدهيها ... حليّ الحسن أو حسن الحليّ
بأبهج من كلامك حين تفتي ... سؤالاً بالبديهِ أو الرويّ
وأنشدني لنفسه إجازة:
تأمّل صحيفات الوجود فإنها ... من الجانب السامي إليك رسائلُ
وقد خُط فيها إن تأملت خطها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ
محمد بن محمد بن علي
ابن وهب بن مطيع، كمال الدين بن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد القشيري، تقدّم ذكرُ والده وجماعةٌ من إخوته.
كان يحفظ القرآن ويتلوه كثيراً، وكرّر على مختصر مسلم للمنذري، وربما قيل: إنه حفظه. وسمع من المنذري، ومن النجيب عبد اللطيف والعز الحرانيين، وجماعة.
قال كمال الدين الأدفوي: أخبرت أنه كرر على الوجيز، وجلس بالوراقين بالقاهرة، ودرّس بالمدرسة النجيبية بقوص، إلا أنه خالط أهل السفه، والخلطة لها تأثير، فخرج عن حدّه، وترك طرائق أبيه وجده. ولما ولي أبوه القضاء أقامه من السوق وألحقه بأهل الفسوق، قال: هكذا أخبرني جماعة من أهله وغيرهم.(2/421)
وكان قوي النفس، بلغني أن وكيل بيت المال مجد الدين عيسى بن الخشاب رسم للشهود أن يكتبوا شيئاً يتعلق ببيت المال إلا بإذنه، فجاءته ورقة فيها خط كمال الدين ابن الشيخ، فطلبه، فقال له: ما سمعت ما رسمت به؟ فقال: نعم، فقال: كيف كتبت؟ قال: جاء مرسوم أقوى من مرسومك وأشدّ. قال: السلطان؟ قال: لا. قال: فمن رسم؟ قال: جاء مرسوم الفقراء، أصبحت فقيراً ما أملك شيئاً، وجاءتني ورقة أخذت فيها خمسة عشر درهماً فتبسم. وقال: لا تَعُد.
قال: وحكى لي بعض أصحابنا قال: حضرنا وهو معنا عند الشيخ عبد الغفار بن نوح، وكان الشيخ عبد الغفار كبير الصورة بقوص، يأتي إليه الولاة والقضاة والأعيان، وكان يمد رجليه في بعض الأوقات ويدّعي احتياجاً لذلك. فمد رجله ذلك اليوم فأخذ الكمال مروحة وضربه على رجله وقال: ضمّها بلا قلة أدب.
وكان كثير الصدقة مع الفاقة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثماني عشرة وسبع مئة بالقاهرة.
محمد بن محمد بن عبد الله بن مالك
الشيخ شمس الدين ابن العلامة الشيخ جمال الدين بن مالك الجيّاني.
كان شيخاً حسناً، بهيّ المنظر، أحمر الوجه، منوّر الشيبة، كثير التلاوة والتلقين، لازم الجامع الأموي أكثر من أربعين سنة، وله خزانة وبيت بالمئذنة الشرقية.
سمع جزء الأنصاري بقراءة ابن جعوان على بعض الشيوخ، ولم يحدث.
رأيته غير مرة بالجامع، وكان يسأل الطلبة، فإذا قال له أحدهم: قرأت ألفية ابن مالك، يقول: ألفية والدي، ويفرح.
وتوفي رحمه الله تعالى ثالث شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبع مئة.
محمد بن محمد بن عبد الله بن مالك
الشيخ جمال الدين ابن العلامة ابن مالك، أخو شمس الدين المذكور أولاً.
كان مقيماً بالقاهرة. سمع من ابن البخاري الجزء الذي كتبه له عمّه الحافظ ضياء الدين من المسند والغيلانيات ولم يحدث.
وله نظم. وكان حسن الأخلاق جميل الهيئة، باشر بعض الجهات ولما توفي خلّف جملة.
وتوفي بالقاهرة عاشر شعبان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
محمد بن محمد بن عبد الرحمن
البليغ الفصيح الصدر الرئيس بدر الدين أبو عبد الله الخطيب بالجامع الأموي بدمشق ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني.
كان وافر الحشمة، ظاهر النعمة، جميل البزة، نبيل الوجاهة والعزة، كثير التجمل، غزير التحمل، سافر الوضاءة، غامر الوجه بالإضاءة، إذا رقا منبره أو توقل صهوته وأظهر من وجهه مضمره قال الناس: أترى ضمّ خطيباً أم ترى ضمّخ طيباً، وكان يؤدي الخطبة فصيحاً، ويوردها إيراداً مليحاً.
وكان في كل عام يتوجه الى الديار المصرية يزور والده ويكيد بذلك ضده وحاسده، فيقيم هناك مدة، ويقضي له وللناس أشغالاً عدة، ويلبس هناك تشريفاً، وفي دمشق إذا عاد مثله، ويسرّ بذلك قبيلة وأهله:
وأسعدُ الناس من لاقى بلا تعبٍ ... مبدا السعادة في مبدا شبيبته
ولم يزل بدرُه في مطالع سعوده ومعارج صعوده الى أن خُسِف في تمامه، وتجرع كؤوس حِمامه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني جمادى الآخرة سنة اثنين وأربعين وسبع مئة، ودفن في مقابر الصوفية، وقد كمّل الأربعين أو تجاوزها قليلاً.
وكان قد خطب في حياة والده قبل أن يلي القضاء وفي حياة المشايخ الكبار مثل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني والشيخ برهان الدين بن تاج الدين والشيخ تقي الدين بن تيمية. ولما طُلب والده الى مصر وتولى قضاء القضاة بالشام استقل هو بالخطابة فيما أظن، ولما طُلب والده ثانياً لقضاء الديار المصرية بقي هو في الوظيفة. وكان في كل سنة يتوجه على البريد الى مصر ويحضر عند السلطان ويلبس تشريفاً ويقيم عند والده مدة ثم يعود الى دمشق على البريد، وكانت له بذلك وجاهة زائدة وصيت بعيد، وقضى سعادة وافرة.
ولما عاد والده الى قضاء الشام ناب والده في الحكم، وكان قد أتقن الخطابة وانصقلت عبارته وتلفظ بها فصيحاً، وقرأ في المحراب قراءة حسنة طيبة النغم.
ولما توفي والده توهّم أن يلي المنصب فما اتفق له ذلك وانعكست آماله ونقض حبل سعده وتعكّس، وكلما حاول أمراً أدبر ولم ينجب فيه.
وطُلب الى مصر بوساطة الفخري ونزل عنده في القلعة، وأقام تقدير أربعة أشهر وعاد وقد أكمده الحزن، فأقام أياماً قليلة، ومات رحمه الله تعالى.(2/422)
ولما توجه الى مصر بعد وفاة والده رحمهما الله تعالى كتبت أنا له توقيعاً بأن يستنيب في وظائفه من يراه الى أن يعود، ونسخته: أما بعد حمد الله الذي سيّر البدر في منازل سعوده، وأثمر رجاه الذي أنجب لصدق باطنه وظاهره عند غرس عوده، ورقاه الى درجات الكمال من إنجاز وعوده، وبلّغه أمانيه التي جاءت بها الأقدار على وفق غرضه واقتراح مقصوده. وصلاته على سيدنا محمد الذي أسرى به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، ونوّله من الكرامات ما لا يحصر لفضله ولا يحصى، وعلى آله وصحبه الذين لم يرَ عدوّ الدين في كمالهم نقصا، ولم يكن فيهم من يخالف له مفهوم أمر ولا نصّا، صلاة يتألق برقها في سماء الرحمة، ويترقرق ودقُها في نماء النعمة ما نسخت آية النور آية الظلمة، وأضرم الشفق جمرته من الغسق في فحمة، وسلامه الى يوم الدين.
فإنه لما كان الجناب الكريم العالي البدري له على الأبواب الشريفة في كل حين وفادة، وفاز من حسن النظر الشريف في كل أوان من الإنعام بإفاءة وإفادة، وخطر في برود الوقار بين أغصان السيادة، وتجمّل بملابس العلم الشريف مطرّزة برقوم السعادة، واتّصف بمكارم ارتجال معانيها لا يبادى ولا يباده، واقتفى سنن والده، وكان أفضل من سعى ومن برّ، ورقى بأهبة الخطابة درج منبره فكان بدراً بدا في سحابة عنبر، وأسال الدموع بمواعظه الصادقة الصادعة، وأذاب القلوب بحكمه النافذة النافعة، وناب في الأحكام وفصل القضايا المعضلة، وألقى الدروس، فجلا دياجي المسائل المشكلة، وجلس في المحافل فكانت تفاصيل الرياسة فيه مُجمَلة.
وتصدّر في المجالس فما شك أحدٌ في أن هذا البدر أولى بهذه المنزلة، وطُلب الآن الى الأبواب الشريفة خلّد الله سلطانها، فأعمل الى الأبواب الشريفة ركابه وأحمدَ غُدوَّه إليها وإيابه، وسيكون قدومه عليها مقروناً بالنجح المبين، ومقول سعادته " ادخُلوا مصر إن شاء الله آمنين " .وكان لابد لوظائفه المباركة من يسدّ فيها غيبته، ويقوم فيها إلى أن يقدر الله أوبته.
فلذلك رسم بالأمر العالي أن يستنيب عنه في الخطابة الشريفة وغيراها مما هو به معذوق ومنوط بمباشرته من يراه أهلاً لذلك، ويعتقد أنه في هذه الجادة خير سالك الى أن يعود بدراً منيراً وينقلب الى أهله مسروراً، والله تعالى يقدّر له السعود حيثما توجّه، ويجعل النجح قرينه في كل سبيل سلك فجّه، والخط الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه حجة بمقتضاه إن شاء الله تعالى.
محمد بن محمد
الأمير الفاضل سيف الدين أبو بكر بن صلاح الدين أبي الحسن ابن الملك الأمجد مجد الدين الحسن ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين داود ابن المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
كان فقيهاً فاضلاً، وله شعر، مدح الخليفة والسلطان وقاضي القضاة ابن صصرى والشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وأجابه عنها ابن الزملكاني، وأقام بحماة مدة، وحضر المدارس معيداً، ثم إنه عاد الى دمشق وأقام بها. وسمع على الفاروثي وغيره.
وتوفي رحمه الله تعالى عاشر جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبع مئة.
محمد بن محمد بن عبد المنعم
القاضي البليغ الكاتب الناظم الناثر تاج الدين أبو سعد السعدي المعروف بابن البرنباري.
كان كاتباً مطيعاً ومترسّلاً منطقياً، خطه أنهج من الروضة الغنّاء وأخلب للقلب من الحدقة الوسنا. كتب الرقاع والتوقيعات والثّلث من أحسن ما يكون، وكان لبقاً في كتابته وفي الحركات والسكون، وكان خبيراً بمصطلح الديوان وبما يكتبه الى الملوك من صاحب التخت والإيوان، وكان يكتب من رأس القلم، ويأتي في كتبه وتواقيعه بما ينسي نسمات الضال والسلم:
جرى معه الجارون حتى إذا انتهوا ... الى الغاية القصوى جرى وأقاموا
فليس لشمسٍ مذ أنار إنارة ... وليس لبدر حيث تمّ تمامُ
فهو كان أحد الكتاب الكلمة الذين رأيتهم وبعتهم في الاختيار وشريتهم، وخبرتهم وذخرتهم وقرأتهم، والى مآدب هذه الصناعة دعوتهم وقريتهم.
ولم يزل الى أن توجه الى القدس ليزور ويستنتج أم الحظ وهي مِقلاتٌ نزور. فهناك وافاه حمامه، وبكاه من الفضل غمامه، وناح عليه حمامُه.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة.(2/423)
وكتب الإنشاء في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون بالقاهرة في شهر رجب الفرد سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. ولم يزل من أعيان كتاب الإنشاء، وكان القاضي علاء الدين بن الأثير يستكتبه في البريد، ولم يزل في القاهرة في جملة كتاب الإنشاء الى أن توفي القاضي بهاء الدين أبو بكر بن غانم صاحب ديوان المكاتبات بطرابلس، فرسم له السلطان الملك الناصر محمد بأن يتوجه مكانه، فتوجه الى طرابلس ونائبها يومئذ الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، فرأس هناك، وعمل الوظيفة هناك على القالب الجائر، وداخل النوّاب، وصار هو عبارة عن الدولة.
وفي سنة خمس وأربعين وسبع مئة كان في الشتاء نائماً هو وأولاده، فجاء سيل عظيم، وكانت داره على النهر، وكان للسيل ضجة من الناس وضوضاء، فقام من فراشه ليعلم ما الخبر وعاد فلم يجد داراً ولا سكاناً، وراح البيت وولداه، وأحدهما موقع والآخر ناظر الجيش، وجميع ما في البيت الى البحر. وانتبه الناس لهذه المصيبة العظمى، وركب النائب وتوجهوا الى البحر الى أن طلع الضوء وقذف الموج ولديه وهما ميتان، فأخذوهما وعمّر لهما تربة عظيمة هناك. وصدعت واقعته قلوب الناس في الشام ومصر. وأما هو فإنه داخله هلعٌ عظيم واختلط عقله، وبعث الى مصر يسأل الإعفاء والإقالة، وكنت إذ ذاك بالديار المصرية، فكتبت لولده شرف الدين عبد الوهاب توقيعاً، ونسخته: رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الصالحي، لازال يجبر بفضله مَن أصيب، ويغمر بإحسانه من فقد الدار والحبيب، ويعمر برفده من مُني من خطب الأيام بأوفر نصيب أن يرتب المجلس السامي القاضي شرف الدين في كذا جبراً لأبيه المصاب في غُصنيه اليانعين، وحصنيه المانعين، وبدريه الطالعين ونسريه الطائرين بجناح حياته، فأصبحا في حبائل الردى واقعين، وسرّيه المخبوءين في سواد عينه، وإن كانا بالثناء ضائعين.
فليباشر ذلك مباشرة أُلفت من بيته، وأجرت فارسَ بلاغتهم من طرسه ونقسه على أشهبه وكميته، مقتدياً بطريق أبيه، فهي طريقة مثلى، وحقيقة تُدرس أماليها وتُملى، وحديقة غرائس بنانها تجلّى محاسنها وتجلى، وعريقة في فن الكتابة التي يُفرغ عليها كيس الثناء حين يُملى، لأنه درة تاجه، وقرّة تخلف على أبيه ماضي سروره وابتهاجه، وغرة يُزان بها الفجر عند انصداعه وانبلاجه، مجتهداً في تحرير ما يكتبه وتقرير ما يرْقمه ويهذّبه، حتى تكون روضات الطروس مدبّجة بأزهار كلماته وتسجيعه، وترى وجنات هوامش القصص مطرزة بغدار توقيعه، والوصايا كثيرة، وتقوى الله تعالى ملاك ما نأمره باتّباعه، وأسلاك الدرر التي يؤم غيثها في انتجاعه، فلا يألف إلا حماها، ولا يرشف إلا لماها، والخط الكريم أعلاه الله وشرّفه أعلاه حجةً في ثبوت العمل بما اقتضاه إن شاء الله تعالى.
وكان القاضي تاج الدين قد أقام بعد ذلك بطرابلس على حاله الى أن تولى نيابة طرابلس الأمير سيف الدين بيدمر البدري في أوائل سنة سبع وأربعين وسبع مئة، فعُزل من كتابة سرِّ طرابلس، وطالبه الناس بحقوق، فأقام هناك الى أن خرج منها وحضر الى دمشق في أواخر السنة المذكورة، وأقام بدمشق مدة، ثم توجه الى القاهرة وأقام بها مدة، الى أن رُتّب موقّعاً في الدست بدمشق، فحضر إليها في شهر رجب، فيما أظن سنة إحدى وخمسين وسبع مئة. ولم يزل على حاله الى أن توجه الى القدس، وتوفي في يومين في التاريخ.
وكنت أنا قد كتبت إليه بعد خروجي من مصر متوجهاً الى الرحبة كاتب الدّرج:
لما أتيت دِمشقاً بعد مصر وفي ... عطفيَّ منك بقايا الفضل للراجي
عُظِّمتُ من أجل مولانا وصحبته ... وقيل هذا بمصر صاحبُ التاج
وينهي بعد رفع الدعاء، وحمل لواء الولاء، وإشادة بناء الثناء، أن المملوك سطّرها وشوقُه قد ضاقت به الرحبة، وأغار على مثاقيل الصّبر فما ترك عند حبّة القلب حبة، وذكّره الأيام السالفة، حتى عاد نسيبه بها أعظم نسبه:
كأني لم أكن في مصرَ يوماً ... قطعْتُ به الوصال مع الأحبه
ونلتُ القرب من سادات دَسْتٍ ... محلّهم علا كيوانَ رُتبه
إذا عانيت في الإنشا حُلاهم ... تراهم بالنجوم الزهر أشبه
وإن سابقتهم علماً وفضلاً ... فأنت إذا نطقت سُكَيْتَ حلبه(2/424)
فما ابن الصيرفي إذا أتاهم ... يُساوي عندهم في الفضل حبّه
خصوصاً تاجهم سقي الغوادي ... محلٌّ ضمّه واخضلّ تُربه
إذا أخذ اليراع فليس بين ال ... طروس وبين زهر الروض نسبه
وإن نطق استبان المرءُ منه ... محاسن تستبي في الحال لُبَّه
وليس الملك محتاجاً الى أن ... يُعدّ كتائباً إن عدّ كتبه
له الفضلان في نظم ونثر ... إذا ما جال في شعر وخطبه
أيا مولاي عفواً عن محبّ ... تهجّم فالبعاد أذاب قلبه
بعثتُ بها إليك عسى تراها ... على بعد من المملوك قربه
فكتب هو الجواب:
شكراً لغرس بروض الفضل قد نبتا ... وودّه في صميم القلب قد ثبتا
أهدى إليّ كتاباً كنت أرقُبُه ... أزال عني من عيث النوى العَنَتا
مباركاً جاء بالحسنى فأحْسنَ لي ... وكيف لا وهو من عند الخليل أتى
لا زالت ألفاظه حلية الممالك، وودّه في النفوس ثابتاً وللقلوب خير مالك، ومنزله من فضل الله رحيب الساحات معموراً بالسماحات في رحبة مالك، وينهي ورود مشرّف سمح ببيانه، ونفح بعرفانه، وجنح الى عوائد إحسانه ولمح أشرف المعاني بإنسانه، وربح إذا بدا بفصل خطابه وفضل بنانه، أبى الله إلا أن يكون له الفضل في ابتدائه، والفوز بسبق تحيته وإنشائه، فقبّله المملوك تقبيلاً، وفضّه فإذا البيان جاء معه كان قَبيلا، ورأى أدباً غضاً، ونظماً ونثراً فاقا مَن سلفَ عصرَه وتقضّى. ولقد ذكر مولانا بأوقات قُربه، على أن المملوك ما زال يذكرها، وأقرّ عيناً ما برحت تشهد محاسنه وتنظرها:
أبلغ أخانا أدام الله نعمته ... أني وإن كنتُ لا ألقاه ألقاه
الله يعلم أني لست أذكره ... وكيف يذكره من ليس ينساه
ولقد تجمّلت بمولانا جهة تصدّر أخبارها بأقلامه، وتصْدر مهماتها بمتين كلامه، ويبدو صلاحُها بألفاظه التي هي كالزُلال في رقته والدُرّ في نظامه، فبسط الله ظلال مَن أمتع هذه المملكة بمولانا، وسيّر ركابه إليها، وطالما أولاه الخير وأولانا، قد شمل البعيد والقريب بفضله، وعمّر مصر بسؤدده، وغمر الشام بفضله:
كالبحر يقذف للقريب جواهراً ... كرماً ويبعث للبعيد سحائبا
ثم يعود المملوك الى وصف محاسن مولانا التي مكنت في القلب حُبّه، وأرضت بالود مملوكه وتِربه، وشيّدت له في الأفئدة أعظم رتبة:
أتتنا من ودادك خيرُ هبّه ... فنعّمَ طيبها عيش الأحبه
وزارتنا على نأيٍ فأهدت ... لنا أنساً به أنسي تنبّه
تذكّرني بزورتها ائتلافاً ... ووقتاً طالما مُتّعت قربه
نأى عن مصر من مولاي أُنسٌ ... فألْفى بعدها رحباً ورحْبَه
للفظك في الطروس عُقودُ معنى ... بها دُرُّ الترائب قد تشبّه
وخطك لم يزل درّاً ثميناً ... له بالجوهر الشفّاف نسبه
بنانكَ منبر يرقى عليه ... يراعٌ كم لها في الطرس خطبه
خطبت من المعاني كلَّ بكر ... فلبّت بالإجابة خير خطبه
كأنك قد رقيت الأفق عَفوا ... فأعطى طرسُك الميمون شُهبه
فدُمت معظّماً في كل أرضٍ ... تنال من السعود أجلَّ رُتْبه
وكتب هو إليّ ونحن بالمخيم السلطاني على طَنان ملغزاً:
يا مبدعاً في النظم والنثر ... وفاضلاً في علمه يُثْري
ومودعاً مُهرقه كل ما ... يُزري بحسن الدرّ والتبر
إن أُحكمت ألفاظُه أصبحت ... قواطعاً تربي على البُتْر
ما صامتٌ تنطق أفضالُه ... وكاتمٌ للسرّ في الصدر
تصلحُه الراحةُ لكنه ... يُتعب في الطيّ وفي النشر
قد أشبه البيض ولكنه ... يحتاج يا ذا الفضل للسمر
تفرّق الليل بأرجائه ... كأنه وصلٌ على هجر
يسير عن أوطانه دائماً ... للنفع في البر وفي البحر
إذا كان يوماً ضيف قومٍ غدا ... يقري وخير الناس من يقري(2/425)
فهات لي عنه جواباً كما ... عوّدتني يا عالي القدر
فحللته في كتاب وكتبت الجواب:
أروضةٌ تبسم عن زهر ... أم أكؤسٌ دارت من الخمر
أم نظم مولانا فإني الذي ... أعدّه من جُملة السِّحر
إذ كلُ حرف منك شمسٌ وإن ... سامَحتَ قلت الكوكبُ الدرّي
يا فاضلاً ما مُشتهى نظمه ... في الناس إلا قطعُ الزهر
وكاتباً أصبح من خطهِ ... يغني عن الخطيّة السُمر
حلَلْتُ ما ألغزته في الذي ... تجلوه لي في حبر الحِبْر
ما فاه بالنطق ولكنه ... له فنون النظم والنثر
يُخبرنا عما مضى وانقضى ... وما جرى في سالف الدهر
لا يكذب القول إذا ما ورى ... فقد حكى صدق أبي ذرّ
وعنده للحسن ديباجة ... سبيهة بالليل والفجر
ذُرَّتْ على كافوره مِسكةٌ ... ليس لها نشرٌ مع النشر
كم أقسم الباري به مرةً ... مرّت لنا في محكم الذكر
يا حسن ما قد قلت يقري وهل ... تعرف في الأيام من يقري
وما قراه غير سمع الذي ... يبُثُّه باللبّ والفكر
هذا جوابٌ إن تكن راضياً ... به فيا عزي ويا فخري
وإن أكن أخطأت في حله ... فابسط على ما اعتدته عُذري
لا زلتَ ترقى صاعداً في العُلا ... الى محلّ الأنجم الزهر
وكتبت أنا إليه عقيب ذلك:
بلّغك الله الأماني فقد ... أطربني لغزك لمّا أتى
يحلو إذا كرّرت إنشاده ... وكيف لا يحلو وفيه كتا
وكتب إليّ أيضاً ونحن بالمخيم على المنوفية:
طرُق الصواب بك استبان سبيلها ... وبك استقام على السواء دليلها
كم خلّةٍ محمودة أوتيتَها ... في المكرمات وأنت أنت خليلها
ما مُلغَزٌ الفاءُ منه كلامه ... وحروفه ما شانهن قليلها
لا شيء تحجبه وكم من دونه ... من حاجب فعُلاه ثم أثيلُها
إن طال مُلّ وخيره يا صاح ما ... قد طال والنعماء طاب طويلها
وإذا أهلَّ الوفد من ميقاتهم ... طُويت غمامته وزال طليلها
كم أوضحوا مزقاً فأخفاه ومع ... هذا إبانته دنا تعجيلها
ومحلّه كمحلّ مولانا غَدا ... يسمو فرفعته رسا تأصيلها
فاحلله لا برحت يراعك كالظبى ... فصريرها منه يمدّ صليلها
فحللته في شاش وكتبت الجواب:
جاءت تُدار على النفوس شمولها ... وتُجرُّ من فوق الرياض ذيولها
أبياتك الغُرّ التي أبدعتها ... تُطوى على جُمل الجمال فُصولها
ويسير في الآفاق ذكرك لي بها ... وتهبّ بالإقبال منك قبولها
قد ألغزت لي في مسمى واحد ... وله مقادير تفاوتَ طولها
كغمامة ترخى على ليل الشبا ... ب الغضّ أو صبح المشيب فضولها
لا يستحيل إذا قلَبْتَ حروفه ... بالعكس بل يبقى لها مدلولها
وحروفه بيتٌ وباقي لفظه ... آس على التصحيف رُحت أقولها
هذا الجواب وغاية الفضل التي ... قد نلتها في النظم لست أطولها
فلك النجوم تسير في فلك العلا ... ما شانها بعد الطلوع أفولها
وكتب هو إليّ عقيب ذلك:
المسك منك ختام ... وراحتاك غمام
الخطّ روض نديم ... واللفظ حلو مدام
والسحرُ قولك لكنْ ... السحر أمرٌ حرام
أجبتني عن معمّىً ... بسرعة لا تُرام
في القلب حُبُّك ثاو ... له أقام غرام
فأنت حقاً خليلٌ ... على الخليل السلام
فكتبت أنا الجواب إليه:
أجوهرٌ أم كلام ... وقهوة أم نظام
أم البدورُ تجلّت ... فانجاب عنها الظلام(2/426)
أم الحدائق وشّى ... منها البرود غمام
غُصونُها ألفاتٌ ... والهمز فيها حمام
أشبّه السطر كاساً ... فيها المعالي مُدام
أو أعيناً فاتنات ... يصبو لها المستهام
وحشوها السحر بادٍ ... ولا أقول السقام
أقلامك الحمر فيها ... للنائبات سهام
كم قد أصابت لمرمى ... ولم يفُتْها مرام
أثنت عليك المعاني ... والكاتبون الكرام
وقلّدتك المعالي ... إذ أنت فينا إمام
فأنت أشرف تاج ... في فضله لا يرام
له على كل رأسٍ ... فاءٌ وصادٌ ولام
فكتب هو الجواب أيضاً:
ألفاظك الغرّ أضحت ... بُروقهنّ تشام
لأجل ذلك سحّت ... من سحبهن ركام
فاحبس سيولك إن ال ... بيوت هذي الخيام
مصرٌ بها قد تحلّت ... كما تحلى الشآم
عنها يقصر قسٌ ... والسالفون الكرام
أمثالها سائرات ... وما لهن مقام
بدورها طالعاتٌ ... لها التمام لزام
وفي العشيّ أتتني ... منها وجوه وسام
تُعزى الى العُرْب لما ... يُرعى لديها الذمام
لها العيون عيونٌ ... والنون فيها لثام
فكنّ خير سمير ... حتى تجلّى الظلام
وكلما دار دورٌ ... من خمرها حاء جام
هذا جواب جوابٍ ... قد كلّ منه الكلام
فاستر له كل عاب ... إذ أنت فينا إمام
محمد بن محمد بن عبد الله بن صغير
ناصر الدين، الطبيب المصري.
قرأ الطب والحكمة على والده، والأدب على الشيخ علاء الدين القونوي.
كان فيه ظرف الأدباء، ولطف الحكماء، وخلاعة أهل مصر، وبضاعة تنفق عند أهل كل عصر، لا يطبّ إلا أصحابه، أو بيتَ السلطان وأربابه. وهو من بيت كلهم أطباء، وفضلاء ألبّاء.
وكان ظريف العشرة، دمث الأخلاق، ولا ينصبُّ إلا الى المجون وفيه يَشره، وكان يلعب بالعود لأناس يختص بهم، ويتوفر على قربهم.
ولم يزل على حاله الى أن لم تجد حيلة البرء فيه خيلة، وراح والأبصار على فقده كليلة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
وسألته عن مولده فقال لي: في سنة إحدى وتسعين وست مئة.
وكان من أطباء السلطان، وتوجه معه الى الحجاز في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
وحضر من القاهرة الى دمشق متوجهاً على البريد لمداواة الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني نائب حلب فما لحقه إلا وقد تمكّن منه المرض، فعاد ناصر الدين المذكور الى دمشق وقد تغيّر مزاجه من حماة. فأقام في دمشق يمرّض في مدرسة الدنيسري قريباً من خمسين يوماً.
وكان رحمه الله تعالى رزقه قليل، لمتُه يوماً وقلت له: يا مولى ناصر الدين، لو جلست في دكان عطار وعالجت الناس لدخلك كل يوم أربعون خمسون درهماً. فقال: يا مولانا هؤلاء نساء القاهرة إن لم يكن الطبيب يهودياً شيخاً مائل الرقبة، سائل اللعاب وإلا فما لهنّ إقبال عليه.
قلت: يريد بذلك السديد الدمياطي لأنه بهذه الصفة.
أخبرني من لفظه القاضي الفاضل فخر الدين عبد الوهاب كاتبُ الدرج، قال: دخل يوماً ناصر الدين بن صغير الى الطهارة، فعلم برجله شيء من القاذورات، فكتبت إليه والشيء بالشيء يذكر: توجه سيدي بالأمس مخضّب القدم من هَيولاه، ذا مّا من محله المعمور لما منه يولاه، وما كان في حقه في أمسه تكدير نفسه، ولكل شيء آفة من جنسه، هذه مسألة علكها أكبر لحيين، واشتغل بها اشتغال ذات النحيين، وأظنه قبل قدمه، فخرج على تلك الصورة أو بعض أجزائه، خلع صورة ولبس صورة:
فتى غير محجوب الندى عن صديقه ... ولا يُظهر الشكوى إذا النّعل زلّت
على أنه أكثر منه محافظة ووداً، وأرعى ذمة وعهداً. كم أحرقته نار وجد من أوطانه وأزعجته من مكانه، وهو لا يضمر إلا حباً، ولا يطلب منك إلا قرباً:
لا شك إذ لونكما واحد ... أنكما من طينةٍ واحده
وأخبرني قال: كتبت إليه ونحن بسرياقوس في أيام الطاعون بمصر:(2/427)
أظن الناس بالآثام باؤوا ... وكان جزاؤهم هذا الوباء
أسيّد من له قانون علم ... بحيلة برئه يرجى الشفاء
أآجال الورى متقاربات ... بهذا الفضل أم فسد الهواء
أم الأفلاك أوجبت اتصالاً ... به في الناس قد عاث الفناء
أم استعداد أمزجه جفاها ... جميل الطب واختلف الغذاء
أم اقتربت على ما تقتضيه ... عقيدتنا فللزمن انتهاء
أفِدنا ما حقيقة ما تراه ... فما الأذهان أحرفها سواء
وقلْ ما صحّ عندك من يقين ... بحقٍ لا يعارضُه رياء
فإني غير مفش سرَّ حَبْرٍ ... من المُتشرّعين به حياء
ولا تخلى الأحبة من دعاء ... فمنك اليوم يلتمسُ الدعاء
محمد بن محمد بن علي بن أبي طاهر
القاضي شمس الدين بن جلال الدين الموسوي الحسيني المعروف بقاضي ملطية.
كان خطيباً بملطية مدة، ثم جمع له بين القضاء والخطابة بملطيّة مدة أخرى. ولما حضر الى دمشق بعد فتح ملطية ولي تدريس الخاتونية ظاهر دمشق. واستمر بها الى أن مات في حادي عشري جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة، وعمره ستون سنة.
وحجّ من دمشق، وكان قاضي الركب.
وكان عنده حظّ من الأدب، وفيه مشاركة وله شعرٌ، وتولى مكانه القاضي بدر الدين محمد بن الفويرة.
محمد بن محمد بن عثمان
ابن عبد الخالق بن حسن، القاضي الفقيه الإمام العالم المقرئ المحدّث الأديب، فخر الدين أبو عبد الله القرشي المصري الشافعي المعروف بابن المعلم.
سمع من ابن علان، وابن عبد الهادي القيسي، وجماعة.
وحدّث، وقرأ القراءات، وحفظ المقامات.
وكان فاضلاً، له نظمٌ ونثر. كان يشهر بمصر على باب الجامع، ثم تولى قضاء بلد الخليل عليه السلام. ولي قضاء أذرعات، ثم صرف عنها.
وولي إعادة الباذرائية الى أن توفي رحمه الله تعالى في تاسع عشري جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ستين وست مئة.
وفيه سخاء وكرم، وله مصنفات.
محمد بن محمد بن عيسى بن نجّام
ابن نجدة بن معتوق الشيباني النصيبي ثم القوصي، الأديب الشاعر الفاضل المحدّث.
سمع العز الحرّاني، ومحمد بن الحسين الخليلي، وإسماعيل بن علي بن هبة الله بن علي بن المليجي وغيرهم.
وحدث بالبخاري بقص.
وكان له مشاركة في النحو واللغة والتاريخ والبديع والعروض والقوافي. كثير المروّة، ظاهر الفتوة، طريفاً لطيفاً خفيفاً، له قدرة على ارتجال الحكاية المطوّلة والشعر، سريع النادرة، قال كمال الدين جعفر الأدفوي: شعره في ثلاثة مجلدات، وكان رزق منه، يمدح القضاة والأمراء والأكابر والتجار. قال: لما جئت الى قوص وجدت بها الشيخ تقي الدين والشيخ جلال الدين الدشناوي فترددت إليهما، فقال لي كل منهما كلاماً انتفعت به، فأما الشيخ تقي الدين فقال لي: أنت رجلٌ فاضل، والسعيد من تموت سيئاته بموته، فلا تهج أحداً. وأما الشيخ جلال الدين فقال لي: أنت رجل فاضل، ومن أهل الحديث، ومع ذلك فأشاهد عليك شيئاً، ما هو ببعيد أن يكون في عقيدتك شيء. وكنتُ متشيّعاً، فتبتُ من ذلك.
وقال: كنتُ مرة عند ابن البصراوي الحاجب بقوص، فحضر الشيخ علي الحريري، وحكى أنه رأى درّة تقرأ سورة يس فقلت: وكان غرابٌ يقرأ سورة السجدة، فإذا جاء عند آية السجدة سجد، وقال: سجد لك سوادي واطمأن بك فؤادي.
وتوفي رحمه الله بقوص سنة سبع وسبع مئة. ومن شعره:
إذا ابتسمت من الغَور البروقُ ... تأوّه مغرم وبكى مشوقُ
تذكّرني العقيق وأي صبٍ ... له صبرٌ إذا ذكر العقيق
قلت: في هذا الثاني نظرٌ لا يخفى على مَن له ذوق.
ومنه:
تذكّر بالسّفح باناً وظلا ... فأجرى المدامع وبْلاً وطلا
يرجّي زماناً تولى يعود ... وليس يعود زمانٌ تولى
كئيبٌ تحمّل ما لا يطيقُ ... له الصخر من ألم البين حملا
يبيت يكابد آلامهُ ... وأسقامه وكما بات ظلا
وضيّع أوقاته في عسى ... وماذا تفيد عسى أو لعلا
ويشرب من ماء أجفانه ... على الظمأ البرْح نهلا وعلا
ومنه:(2/428)
نعم هي دار من نهوى يقينا ... وما نخشاه ساكنها يقينا
أنيخوا في معالمها المطايا ... فديتكم لنشكو ما لقينا
ذكرنا حُلوَ عيشٍ مرّ فيها ... وما كنا له يوماً نسينا
وكاسات المسرّة دائرات ... تحيينا شمالاً أو يمينا
محمد بن محمد بن أحمد
جلال الدين الكندي بن تاج الخطباء القوصي.
قال كمال الدين الأدفوّي: سمع من الشيخ تقي الدين القشيري. وكان فقيهاً فاضلاً أديباً، له نظمٌ ونثرٌ وخطبٌ، وكان أمين الحُكم بقوص، وعاقد الأنكحة وفارضاً بين الزوجين، وكان يكتب خطاً حسناً لا يماثله أحدٌ بقوص.
اجتمعت به كثيراً بقوص، ثم إنه أقام بغرب قُمولا، وتوفي بها سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
وأورد له من شعره:
يا غاية منيتي ويا مقصودي ... قد صرتُ من السقام كالمفقود
إنْ كان بدَتْ مني ذنوبٌ سلفت ... هبها لكريم عفوك المعهود
وأورد له أيضاً:
هل الى وصل عزّة من سبيل ... والى رشف ريقها السلسبيل
غادةٌ جرّدت حسام المنايا ... مُصْلتاً من جفون طرف كحيل
قد أصابت مقاتلي بسهام ... فوّقتها من جفنها المسبول
أبرزت مبدعاً من الحسن يفدى ... بنفوس الورى بوجهٍ جميل
وأورد له أيضاً:
دعوى سلامة قلبي في الهوى عجبٌ ... وكيف يسلم من أودى به الوصَبُ
أضحت سلامته منكم على خطر ... لا تسلموه ففي إسلامه نصَبُ
شربت حبّكم صرفاً على ظمأ ... وكنت غرّاً بما تأتي به النوبُ
لا يمنعنّكُم ما قال حاسدُنا ... عن الدنوّ فأقوال العِدا كذبُ
محمد بن محمد
المعروف بابن الجبَلي الفَرجوطي.
كان له مشاركة في الفقه والفرائض، وله معرفة بالقراءات، وله أدبٌ وشعرٌ ومعرفة. يحل الألغاز والأحاجي.
وكان ذكياً، جيّد الإدراك خفيف الروح، حسن الأخلاق، كفّ بصره في آخر عمره.
قال كمال الدين الأدفوي: اجتمعت به كثيراً، وأنشدني من شعره وألغازه.
وتوفي رحمه الله تعالى بفرجوط في المحرم سنة سبع وثلاثين وسبع مئة.
وأورد له:
وشاعر يزعم من غرةٍ ... وفرْط جهل أنه يشعر
يصنف الشعر ولكنه ... يحدّث من فيه ولا يشعر
وأورد له في النبق:
انظر الى النبق في الأغصان منتظماً ... والشمس قد أخذت تجلوه في القُضُب
كأن صفرته للناظرين غَدَت ... تحكي خلاخل قد صيغت من الذهب
محمد بن محمد
الصدر الأصيل العَدل الرضي شرف الدين أبو عبد الله ابن العدل الرضي شرف الدين أبي عبد الله بن أبي الفتح نصر الله بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي ابن القلانسي.
سمع صحيح مسلم من الرضي بن البرهان، وروى منه أربعين حديثاً، وله إجازة من عثمان ابن خطيب القرافة وعبد الله بن الخشوعي وجماعة.
وكان من أعيان دمشق وأكابرها، وباشر وكالة السلطان مدة. وكانت حرمته وافرة وأخلاقه حسنة، وشهد في القيم مدة مع الأكابر، ثم إنه تركها مدة.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت ثاني عشر صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده سابع عشري صفر سنة ست وأربعين وست مئة بدمشق.
وكتب شيخنا العلامة شهاب الدين محمود الى أولاده القاضي جمال الدين والقاضي علاء الدين ومحيي الدين يعزيهم بما أنشدنيه لنفسه إجازة:
لو سالم الدهر ذا مجدٍ لسؤدده ... ثنى عن الشرف العالي سُطا يده
ولو تحامى الردى ذا مفخر وتقى ... ونائل كفّ كفّاً عن محمّده
لكنه طالبٌ لا حصن منه فمن ... أرجاه في يومه فاجاه في غده
ومنهل ما لحيٍ في الورى صدرٌ ... إلا عن الريّ من إثناء مَورده
كم فضّ جمعاً وكم أخلى حمى شرف ... برغم أهليه من اثار سيّده
فلا علوّ أخي فضل بعاصمه ... منه ولا مجد ذي مجد بمخلده
فحقُّ من كان هذا الموت غايته ... بدء العزاء به من يوم مولده(2/429)
لله طودُ حجىً زانت خلائقه ... نجاده وأبانت طيب محتده
حرٌ تقيٌ نقي طاهر ورع ... قد آمن الناس من فيه ومن يده
عفّ السريرة لا يطوي على ذحل ... مَغيب من غاب عنه مثل مشهده
سيّان ظاهره صفوٌ وباطنه ... بل ودّه المحض أجلى من تودّده
مُغضٍ عن الناس لا يعنيه عيبهم ... مغرىً بمنزله فيهم ومسجده
لله عهد مضى أيام تجمعنا ... عصر الصبا نَسقاً في سلك معهده
وكلنا حافظٌ عهد الصفاء له ... شاء الوفاء يراعي حفظ موعده
ففرقّ الدهر سهم البُعد ثم بَدا ... بخَيرنا فرماه عن تعمّده
قضى ولم أقضِ من توديعه وطراً ... ولم أكن حاضراً ما بين عُوَّده
فبات يخذلني صبري وينجدني ... دمعي وما خاذلٌ صبّاً كمنجده
أخشى على ناظري دمعي فيكحلني ... تسهّدي من دجى ليلي بأثمده
مضى وها أنا أقْفو إثْره والى ... كم يبطئ المرء أمسى دون مقصده
وما مضى من رقَتْ أبناؤه رتَباً ... لم يرقَها وعلوا عن أفقِ مصعده
وساد منها عليّ ما وهى وعلا ... محمود في كل مجد فوقَ فرقده
ثلاثة نظموا عقد العُلا فغَدا ... يختال في مجدهم لا في زبرجده
أوصيتهم باصطبار لم أجده ففي ... حسن التبصّر تمهيد لمرقده
فجاده صَوب رِضوان يَسحُّ إذا ... سحّ العِهاد عليه في تغمّده
ولا خلا أفْقُ هذا البيت من شرفٍ ... تثني مفاخِره أبصارَ حُسّده
يقبّل اليد العالية المولوية القضائية الجمالية، لا زالت جزيلة الثواب، جميلة المآب، غنيّة بما منحها الله من العلم عن الدلالة على الصواب، آمنة بحلاوة التلقّي لأمر الله بالعدول عن مراجعة التجرّع لصاب المصاب، وينهي أنه اتصل به ما قدّره الله من وفاة المولى السيد الوالد تعمّده الله برضوانه وبوّأه فسيح جنانه، فأجرى دموعه، ونفى هجوعه، وصدع قلبه، وأطار لبّه، وأطال ألَمه، وأطابَ عدمَه، وألزم الحصر لسانه، وألقى قلمه، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، امتثالاً لأمره، وصبراً على حلو القضاء ومرّه، مات والله الصاحب الذي كان للمملوك يعقد على محبته الخناصر، ويستند من أخوّته الى نسبة صفاءٍ ثابتة الأواصر، ويأنس ببقائه، ويعلل نفسه بلقائه، فاجْتُثّ بوفاته أصلُ الوفا، وتكدّر بذهابه وِرد الصّفا، وذهب الودّ إلا باللسان، وتنكّرت بين المعارف وجوه الإحسان الحِسان، وعدمت الرّياسةُ راسَها وفي الرياسة أكثرها، وفقدت المعالي عينها فلم يبقَ إلا أثرُها، فلله تلك النفس ما كان لتقاها، وتلك الشيم ما كان أطهرها وأنقاها، وذلك اللسان ما كان أقدره على ملكه نطقه، وألهجه في المقال بحق صدقه، وذلك النظر ما كان أغضّه عن المحارم وأبصره بالمكارم، وأغضاه عن النقائص والمعايب، وأشبهه بسمعه عن الإصغاء الى المذامّ والمثالب، نضّر الله ذلك الوجه الكريم ولقّاه نُضرة النعيم وتقبّل أعماله، وبلّغه عند القدوم عليه من عَفوه سولَه، ومن رضاه آماله. والمملوك فقد تأهّب المحاب بإخوانه، ولم يخادع نفسه الحداد عند أوانه، وإذا تقدّم الرّفاق لم يبق إلا الرحيل على آثارهم، والاستقرار للنزول معهم في دارهم. فالله يجمعنا في مستقرّ رحمته، ويجعلنا ممّن جعل الثبات عند الممات من فواتح فضله عليه ونعمته، على أنه ما فُقد من جمال بيته باق ببنيه في الوجود، ولا عدم من علاوة راقٍ بأولاده الى رتب القعود، ولا ذهب مَن لم تخل معاليه من ذي مقام محمود، فعمله الصالح ببقائهم متصل المواد، وثناؤه السائر بدوام ارتقائهم آخذ في الازدياد، والمملوك يقبّل اليد العلائية واليد المحيوية، ويكتفي بهذه الخدمة عن تجديد تعزيتهما بما يهيج الأسى والأسف ويعتذر للدهر ببقاء الموالي، فعفا الله عما سلف، وعمّن سلف بمنّه وكرمه.
محمد بن محمد
الشيخ الإمام والعالم الفاضل شمس الدين السفاقسي.
تقدّم ذكر أخيه ابراهيم في الأباره، وكانا فقيهين مالكيين.(2/430)
حضر شمس الدين هذا الى دمشق وأنا بها رأيته، وكان شكلاً حسناً مليح الوجه أظنه لم يبلغ الأربعين. وأقام بدمشق بعض سنة أو أكثر، وأقرأ الناس بالجامع الأموي، ثم توجه الى حلب فحظي هناك، وتصدر وأفاد، وولي وظائف.
ولم تطل مدّته حتى توفي رحمه الله في حلب ليلة الإثنين ثاني شهر رمضان سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
سألت شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فأثنى عليه ثناء كثيراً، وقال: له على مختصر ابن الحاجب بعض شرح، وشرح قصيدة ابن الحاجب في العروض.
محمد بن محمد بن الحسن
ابن أبي الحسين بن صالح بن علي بن يحيى بن طاهر بن محمد بن الخطيب أبي يحيى عبد الرحيم بن نباته. الشيخ شمس الدين الفارقي الأصل، المصري المولد، والد الشاعر جمال الدين محمد بن نباته.
كان الشيخ شمس الدين هذا من أشياخ الحديث بدمشق، وكان ساكناً خيراً قليل الكلام، منجمعاً عن الناس. وكان يباشر شهادة الخاص بداريا ودومة. وكان كل ما يحصّله ينفقه على أحفاده أولاد ولده.
وتولى دار الحديث النورية بدمشق بعد الشيخ زين الدين بن المزي، وكان في الديار المصرية شاهداً بديوان الجاشنكير.
وسمع من العزّ الحرّاني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وأبي بكر بن إسماعيل الأنماطي وغيرهم، وكان له بدمشق سكن بالظاهرية، سمعت عليه بعض أجزاء بدمشق، وأجاز لي بخطه سنة ثلاثين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني صفر سنة خمسين وسبع مئة.
ومولده بمصر سنة ست وستين وست مئة.
محمد بن محمد بن مينا
بميم مكسورة وياء آخر الحروف ساكنة وبعدها نونٌ وألف ممدودة، الشيخ الإمام الفاضل العالم شمس الدين البعلبكي الشافعي.
سمع من القاسم بن عساكر، ومن عيسى المطعّم وغيرهما.
وكان فقيهاً فاضلاً، عارفاً بالجدال مناضلاً، قرأ الفقه وبرع، وبلغ غايةً قصّر عنها من شرد حظه لما شرع، وكان على ذهنه إشكالات في المذهب، وإيرادات من ناظره فيها سبقه ولو كان أشهب. وعنده شكوك في غير الفقه عَقِدة، ومؤاخذات يتعب بها منتقيه ومنتقده، إلا أنه ينحرف كثيراً، ويهدم بذلك له مجداً أثيراً.
ولم يزل على حاله الى أن حلّت المنايا بابن مينا، ولم ينفعه طبّ ابن سينا.
وتوفي رحمه الله في شهر رجب الفرد سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق وهو في حدود الخمسين.
اجتمعت به غير مرة، وكتب عني شيئاً، وكان يعجبني ذهنه وحديثه، وكان الشيخ كمال الدين بن الزملكاني يثني على ذهنه، وكان قد توجّه الى بغداد بعدما أفتى وناظر وأعاد بالنظامية وعاد الى دمشق، وسكن الرواحيّة. وما كان يخلو من تعبّد، وتولى قضاء الإقليم بدمشق، وخلّف لما مات دنيا صالحة، ووصّى بأن يصرف ثلث ماله على فقراء الفقهاء، كل إنسان عشرة دراهم.
محمد بن محمد بن يعقوب
القاضي عماد الدين الأنصاري المصري المعروف بابن النويري، بالنون والواو والياء آخر الحروف والراء.
كان من أجود الناس طباعاً، ويحفظ الكتاب العزيز ويتلوه كثيراً، ويصوم الخميس دائماً، وله عقيدة في الفقراء وخدم في الأنظام الكبار بمصر والشام. تولى نظر المرج والغوطة والإقليم، ونقل من ذلك الى صحابة الديوان بدمشق والى نظر صفد، باشره غير مرة، والى نظر الكرك مدة طويلة، وأعيد بعده الى صفد، وآخر وقت ولي ديوان طرابلس.
وتوفي رحمه الله تعالى في عشر الثمانين، ورأيته بصفد غير مرة، وكانت وفاته في طرابلس في حادي عشر شعبان سنة سبع عشرة وسبع مئة.
محمد بن محمد بن عطايا
الوزير سعد الدين.
كان أولاً ناظر البيوت بالقاهرة، ورسم له بالوزارة في ثاني عشر شهر رمضان سنة أربع وسبع مئة، وأقام في الوزارة الى أن عُزل عنها بضياء الدين النشائي في أوائل سنة ست وسبع مئة.
محمد بن محمد بن إبراهيم
ابن أبي القاسم، الشيخ الإمام المعمّر المسند صدر الدين أبو الفتح المَيْدومي، بفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف والدال المهملة والواو الساكنة وبعدها ميم، خاتم أصحاب النجيب عبد اللطيف.
توفي عن تسعين سنة في سنة أربع وخمسين وسبع مئة. انتخب عليه خلق من عواليه.
محمد بن محمد بن الحارث
ابن مسكين، القاضي الإمام فخر الدين القُرشي الزّهري نائب الحاكم بمصر والقاهرة.(2/431)
حدّث عن الشهاب القرافي ببعض تصانيفه، وعن عبد السلام الدميري وغيرهما، وأجاز له جماعة.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة إحدى وستين وسبع مئة.
وكان قد أجاز لي رحمه الله تعالى بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
محمد بن محمد بن محمد بن هبة الله
ابن محمد بن هبة الله بن محمد بن يحيى بن بندار بن مميل الفارسي الشيرازي الأصل، الدمشقي ثم المزّي، الرئيس شمس الدين أبو نصر بن عماد الدين الكاتب ابن أقضى القضاة شمس الدين أبي نصر.
سمع من جده حضوراً، ثم سماعاً، ومن عمّه تاج الدين، ومن علم الدين السّخاوي، والعَلم ابن الصابوني، والمؤتمن بن قميرة، وأبي إسحاق بن الخشوعي، وبهاء الدين بن الجُميزي، وجماعة. وأجاز له الشيخ شهاب الدين السهروردي، وبهاء الدين بن شداد، وإسماعيل بن باتكين، وابن روزبة، وخلق كثير. وتفرّد بأجزاء وعوالي، وازدحم الطلبة عليه، وألحق الصغار بالكبار. وانتقى له الشيخ صلاح الدين العلائي والبرزالي وشمس الدين الذهبي.
وكان ساكناً وقوراً متواضعاً، نزر الحديث منجمعاً عن الحديث الناس، له ملك يعيش منه. وكان بارعاً في تذهيب المصاحف، وظهرت فيه مبادئ اختلاط في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة.
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد
القاضي زين الدين أبو حامد بن تقي الدين العثماني الشريشي القنائي الشافعي.
اشتغل بالفقه على الشيخ جلال الدين أحمد الدشناوي وأجازه بالفتوى، وسمع منه.
وكانت له مشاركة في الأصول والنحو والأدب. وخطّه حسن، وله يد في الوراقة.
وتولى القضاء بأدفو وأسوان وتولى قفط، وقنا، وهُوْ، وعيذاب، وكان حسن السيرة، مرضيّ الطريقة، قائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة خمس وسبع مئة بقنا.
وأورد له كمال الدين الأدفوي أبياتاً من جملة صداق كتبه وهي:
أطِل نظراً فيه فلستَ بناظر ... نظيراً له كلاً ولست بواجِدِ
وفُزْ من مُحيّاه بلمحة ناظر ... تنَلْ ما تَرجي من سنيّ المقاصد
فكلُ سديد منهم ومُسدّدٍ ... وكل تقي عندهم ثم ماجدِ
إذا ما اغتدى سمعي بذكرِ صفاتهم ... تُخامر قلبي سَكرةُ المتواجد
محمد بن محمد بن محمد
ابن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلّد، الشيخ الإمام المفتي بركة والده بدر الدين أبو اليسر ابن قاضي القضاة عز الدين أبي المفاخر الدمشقي الشافعي المعروف ابن الصايغ مدرس الدماغية وأخو القاضي نور الدين قاضي قضاة حلب.
سمع كثيراً من أبيه، وابن شيبان، والفخر علي، وبنت مكّي، وعدة. وحضر ابن علان. وحدث بصحيح البخاري عن اليونيني، وسمع حضوراً من فاطمة بنت عساكر، وحفظ التنبيه، ولازم حلقة الشيخ برهان الدين.
وكان دينه متيناً، وتصوّنه مبيناً. طُلب لقضاء القضاة بدمشق فامتنع، وظهرت عليه أمارات الزَّمع، فعظم قدره، ولزم الناس حمده وشكره.
وكان مقتصداً في لباسه وفي أموره بين ناسه، ودرّس وهو أمرد، ولم يبال بمن يناظره أنقضّ عليه أم ردّ، وحجّ غير مرة، وفعل في طريقه كل مبرّة:
وكان غريباً في جميع أموره ... له بركاتٌ في الورى وصلاحُ
إذا ما ادْلهمّ الليل قام لربّه ... وناجى الى أن يستنير صباحُ
ولم يزل على حاله الى أن أصبح أبو اليسر من الحياة مُعسراً، ومكّن الحِمامُ منه مخلباً ومَنسِراً.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة، جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، ودفن عند قبر والده بسفح قاسيون، وشيعه الخلائق وحملوه على أكتافهم، وكانت وفاته بعد قاضي القضاة جلال الدين القزويني بليالٍ يسيرة.
ومولده سنة ست وسبعين وست مئة.(2/432)
وكان تنكز قد عظّمه واعتقد فيه لما امتنع من ولاية قضاء القضاة، فإنه حُمِل إليه تقليده وتشريفه بالقضاء بعد القاضي جلال الدين القزويني في نصف شهر شوال سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وحضر إليه الأمراء والناس، فامتنع وتغيّر مزاجه. ثم إن أرباب الدولة عادوا إليه ثانياً، وأدّيت إليه رسالة الأمير تنكز، فأصرّ على الامتناع، فأعيد التقليد الى مصر، وزادت عظمته عند نائب الشام، فولاه خطابة القدس مُديدة، ثم إنه تركها، ولما كان بالقدس طلبه المَقادسة، ودخلوا عليه بسماع الحديث وخرجوا من هذا الى طلب الشفاعات عند ناظر الحرمين، فشفع لهم وأكثر من ذلك، فثقل أمره على الناظر، وشكا في الباطن الى تنكز وقال: هذا يُدخل روحه في غير الخطابة، ويتكلم في الولاية والعزل، فنقص بذلك قدره عند تنكز ثم إنه فيما بعد زار القدس فتعلل هناك، ونُقل الى دمشق ضعيفاً، فأقام أياماً يسيرة، وتوفي رحمه الله في التاريخ المذكور.
محمد بن محمد بن محمد بن عبد القادر
قاضي القضاة نور الدين بن الصائغ، تقدّم تمام نسبه في ترجمة ابن عم أبي اليسر آنفاً.
كان خيّراً ساكناً وقوراً، سمع من أحمد بن هبة الله بن عساكر.
ولاه الفخري في نوبة الناصر أحمد قضاء العساكر بدمشق، وتوجه مع العسكر الى القاهرة، ثم إنه عُزل بعد ذلك، وبقي على تدريس الدماغية الى أن تولى قضاء القضاة بحلب بعد القاضي بدر الدين بن الخشّاب سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ولم يزل بحلب الى أن توفي رحمه الله في شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب.
ومولده سنة ست وسبعين وست مئة.
وباشر القضاء بحلب جيداً وأحبه أهلها لحسن سيرته.
محمد بن محمد بن محمد
الإمام المحدّث صدر الدين الورّاق البغدادي المصري.
قدم دمشق طالباً حديث سنة أربع عشرة وسبع مئة، وسمع من القاضي والصّدر ابن مكتوم وطائفة.
وكان ذا حظ حُلو وخُلُق حسن.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ومولده بعد التسعين وست مئة.
محمد بن محمد بن محمد بن محمود
المحدّث تقي الدين البخاري الدمشقي الحنفي ابن خطيب الزنجيلية جلال الدين.
حفظ القرآن واشتغل في النافع، وسمع كثيراً ونسخ أجزاءً وكتاب الكاشف. وكتب الطباق وسمع ابن سعد والبهاء بن عساكر وعدة، وأخذ عن شيخنا الذهبي.
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وسبع مئة.
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد
ابن عبد الله بن محمد بن يحيى، الشيخ سعد الدين أبو سعد، ابن الفقيه أبي عمرو بن الحافظ أبي بكر بن سيد الناس اليعمري أخو الحافظ فتح الدين.
سمع من ابن الأنماطي، ومن العزّ الحرّاني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وشامية بنت البكري، وجماعة.
وحدّث. وكان له نظم. وجلس مع الشهود.
توفي رحمه الله تعالى في مستهل شهر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة سبعين وست مئة.
محمد بن محمد بن محمد
ابن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس، الشيخ الإمام، العالم، العلامة، الحافظ، البارع، الأوحد، مجموع الفضائل، الكاتب، الناظم، الناثر، الأديب فتح الدين أبو الفتح ابن الإمام الفقيه أبي عمرو وابن الإمام الحافظ الخطيب أبي بكر اليعمري الأندلسي الإشبيلي ثم المصري.
أجاز له في سنة مولده النجيب عبد اللطيف الحراني، وحضر على الشيخ شمس الدين بن العماد الحنبلي، وطلب بنفسه في سنة خمس وثمانين، وقرأ على الشيوخ، فسمع من قطب الدين بن القسطلاني، وغازي الحلاوي، وابن الأنماطي، وابن خطيب المزة، وابن ترجم، وابن الخيمي، وابن الفارض، والعزّ الحراني، وشامية بنت البكري، والفخر المَليجي وغيرهم.
ورحل الى الاسكندرية وسمع من شيوخها، ورحل الى دمشق سنة تسعين وست مئة وسمع من بعض أصحاب الكندي وابن الحرستاني وابن ملاعب.(2/433)
نقلت من خط شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى: وتنزّل في الأخذ الى أصحاب سبط السلفي، ثم أصحاب الرشيد العطار قال: وكاد يدرك الفخر بن البخاري ففاته بليلتين، ولعل مشيخته يقاربون الألف ونسخ بخطه، واختار وانتقى شيئاً كثيراً، ولازم الشهادة مدة، قال: جالسته مرات وبت معه ليلة، وسمعت بقراءته على الرضى النحوي. وكان طيب الأخلاق بسّاماً، صاحب دعابة ولعب، وكان صدوقاً في الحديث، حجةً فيما ينقله، له بصرٌ نافذٌ في الفن، وخبرة بالرجال وطبقاتهم، ومعرفة في الاختلاف، ويدٌ طولى في علم اللسان ومحاسنة جمة. انتهى.
ونقلت من خط شيخنا البرزالي قال: كان أحد الأعيان معرفة وإتقاناً وحفظاً وضبطاً للحديث وتفهّماً في علله وأسانيده، عالماً بصحيحه وسقيمه، مستحضراً للسيرة النبوية، له حظ من العربية، جيّد الضبط حسن التصنيف، صحيح العقيدة، صحيح القراءة، مع الشُّرعة التامة، حسن الأخلاق، جميل الهيئة، كثير التواضع، طارحاً للتكلّف، طيب المجالسة، حلو المعاشرة، خفيف الروح، ظريفاً كيّساً متودداً الى الناس، له الشعر الرائق والنثر الفائق والترسّل البديع. وكان محباً لطلبة الحديث، وصنّف سيرة نبوية لخص فيها سيرة ابن هشام وشرع في شرح الترمذي، عمل منه الى الصلاة، جمع فيه فأوعى، وله القصائد النبوية الفائقة، ولم يخلف في مجموعه مثله، انتهى.
وقال كمال الدين الأدفوي في تاريخه البدر السّافر: ولازم الإمام أبا الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري، وتخرّج به، وقرأ عليه في أصول الفقه وحفظ التنبيه في مذهب الشافعي، وقرأ المفصّل في النحو على الشيخ بهاء الدين بن النحاس، وبرع في الحديث والأدب، وكتب الخط الحسن بالمغربي والمصري، وحدّث، وسمع منه جمع كثير من الشاميين والمصريين وغيرهم، وصنّف في السير كتابه المسمّى عيون الأثر وهو كتاب جيد في بابه، وشرع بشرح الترمذي ولو اقتصر فيه على فن الحديث من الكلام على الأسانيد لكمُل تصنيفه وتمّ ترصيفه وكان يفيد، ولكنهقصد أن يتّبع شيخه الإمام ابن دقيق العيد، فوقف دون ما يريد. انتهى.
قلت:
وعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
كان شيخنا المذكور حافظاً بارعاً، متوقّلاً هضبات الأدب فارعاً، متفنناً بليغاً في إنشائه، ناظماً ناثراً مترسّلاً، لم يضمّ الزمان مثله في أحشائه، خطه أبهج من حدائق الأزهار، وآنقُ من صفحات الخدود المطرّز وردها بآس العذار، حسن المحاورة مأمون المجاورة، لطيف العبارة، طريف الشارة والإشارة، فصيح الألفاظ، نسي الناس ذكر قسّ سوق عكاظ، كامل الأدوات، جيّد الفكرة في الغوص على درر المعاني والأدبيات، صحيح الذهن، يشرق نوره، مليح الفهم، كأنه الصبح إذا ملأ الأفق سفورُه، لا تُملُّ محاضرته، ولا تُذام معاشرته، أدبه غض، والإمتاع بأنسه نضّ، كريم الأخلاق، زكي الأعراق، كثير الحياء والاحتمال، قلما جُرح من إنسان إلا وكان سريع الاندمال.
إن كتب فما ابن مقلة عنده إنسان، ولا ابن البوّاب إلا واقف على بابه بعصا القلم يسأله الإحسان، ولا ابن العديم إلا له وزير، ولا الوليّ العجمي إلا وليّ له ونصير.
وإن نثر فالعماد مائل عن طريق، وابن الأثير لا يضرب المثل إلا في تحقيقه وتحريره.
وإن نظم فابنُ النبيه خامل، وابن الذّروي في الحضيض هامل، والجزار ما حلَت قيمه حلا قيمه، ولا جوّد تعاطي تقاطيفه، والسّراج ما نوّر بل نوّص في شعره وسوّد حائط تواليفه.
صحبته مدة فلم أرَ معه من الزمان شدة ونمت معه ليالي، وخالطته أياماً، ورعيت من حسن ودّه أراكاً وبريراً وبشاماً:
له هزّة من أريحيّة نفسه ... تكاد لها الأرض الجديبة تُعشِبُ
تجاوزَ غايات العقول مواهبا ... تكاد لها لولا العيان تكذّب
خلائق لو يلقى زيادٌ مثالَها ... إذاً لم يقل: أي الرجال المهذّب
عجبت له لم يزهُ تيهاً بنفسه ... ونحن به نختال تيهاً ونعجب
ولم يزل على حاله الى أن انضم على فتح الدين قبره وعُدم من كل أحد عليه صبره.(2/434)
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم السبت حادي عشر شهر شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن يوم الأحد بالقرافة جوار ابن أبي جمرة وابن عطا قبالة خانقاه بكتمر الساقي، وشيّعه خلقٌ كثير من القضاة والأمراء والفقهاء والجند والعوام، وتقدّم للصلاة عليه قاضي القضاة جلال الدين القزويني. وتعجّب السلطان الملك الناصر محمد من جنازته الحفلة، وسأل عنه فعُرِّف بحاله، فقال: هذا رجل جليل القدر ما نعطي وظائفه إلا لمن يكون مثله.
ومولده في العشر الأول من ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وست مئة.
وكان من بيت رئاسة وعلم، كان ابن عمه أخيراً في زمانه قائداً حاجباً بإشبيلية. وكان عند الشيخ فتح الدين رحمه الله تعالى كتبٌ كثيرة وأصول جيدة كمصنّف ابن أبي شيبة، ومسنده، وجامع عبد الرزاق، والمحلى، والتمهيد، والاستيعاب، والاستذكار، وتاريخ الخطيب، والتاريخ المظفّري، وتاريخ ابن أبي خيثمة ومسند البزار ومعاجم الطبراني. وكان قد تفرّد في وقته بالحديث في الديار المصرية.
أخبرني من لفظه القاضي الرئيس عماد الدين بن القيسَراني قال: كان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد إذا حضرنا درسه وجاء ذكر أحد من الصحابة أو أحد من رجال الحديث قال: أيش ترجمة هذا يا أبا الفتح، فيأخذ فتح الدين في الكلام ويسرد والناس سكوت، والشيخ مُصغ الى ما يقوله. انتهى.
وكان صحيح القراءة سريعها، لم أسمع أفصحَ منه ولا أسرع. وأما خطّه فكان يكتب المصحف في جمعة واحدة، ويكتب سيرته وهي مجلدان كبيران في عشرين يوماً، وأظنه قال لي: لم أكتب على أحد، ولم يرَ أحدٌ أحلى من خطه ولا أظرف. وقال لي: لم يكن لي في العروض شيخ، ونظرت فيه جمعة فوضعت فيه مصنّفاً، ورأيت أنا هذا المصنّف.
وصنّف عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير سمعت بعضه من لفظه، واختصر ذلك وسمّاه نور العيون وهو عندي بخطه، وسمعته من لفظه، وتحصيل الإصابة في تفضيل الصحابة وسمعته من لفظه وملكته بخطه، والنفح الشذي في شرح الترمذي، ولم يكمل، وكان قد سمّاه العَرف الشذي، فلما اجتمعت به قلت له: سمّه النفح الشذي ليقابل الشرح بالنفح، فسمّاه بذلك، وكتاب بشرى اللبيب بذكرى الحبيب وقرأته عليه بلفظه مشروحاً، ومنح المِدَح. وسمعته من لفظه الى ترجمة عبد الله بن الزّبعرى، والمقامات العلية في كرامات الصحابة، وسمعت قصيدتها الميمية من لفظه.
وكان بيده من الوظائف مشيخة الظاهرية ومدرسة أبي حليقة على بركة الفيل، ومسجد الرصد، وخطابة جامع الخندق، وكانت له رزق في الديار المصرية، وراتبه في صفد، وما رأيت أحداً محظوظاً مثله، ما رآه أحد إلا أحبه وعظّمه. كان الأمير علم الدين الدواداري يحبّه ويلازمه كثيراً ويقضي أشغال الناس عنده، ودخل به الى السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين وقد امتدحه بقصيدة، وقال: أحضرت لك هذا وهو كبير من أهل العلم، فلم يدعه السلطان يبوس الأرض، وأجلسه معه على الطراحة، وهل قام له أو لا، أنا في شك من ذلك، ولما رأى خطه وسمع لفظه قال: هذا ينبغي أن يكون في ديوان الإنشاء، فرتّبه في ديوان الموقّعين، فرأى الشيخ فتح الدين الملازمة ولُبس الخف والمهماز صعباً عليه، فسأل الإعفاء من ذلك، فقال السلطان: إذا كان لابد من ذلك فيكون هذا المعلوم يتناوله على سبيل الراتب، فرتّب له الى أن مات رحمه الله تعالى.
وكان الكمالي ينام معه في قرظيّة النوم، وكان كريم الدين الكبير يميل إليه كثيراً ويودّه، ويقضي أشغال الناس عنده، وهو الذي ساعده على عمل المحضر وإثباته بعداوة قاضي القضاة بدر الدين بن جَماعة.
سمع صحيح البخاري بقراءته على الحجّار، وتعصّب له الأمير سيف الدين أرغون النائب وخلّص له مشيخة الحديث بالظاهرية، ولم أعرف أحداً من أمراء الدولة إلا وهو يحبه ويصحبه ويميل إليه ويجتمع به، وإنما كان الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار والقاضي فخر الدين ناظر الجيش منحرفين عنه قليلاً، وكذلك القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله كان منحرفاً عنه.(2/435)
وأقمت عنده بالظاهرية قريباً من سنتين فكنت أراه في كثير من الأوقات يصلي في كل صلاة مرات كثيرة، وسألته يوماً عن ذلك فقال لي: إنه خطر لي يوماً أن أصلّي كل صلاة مرتين ففعلت ذلك زماناً فخف عليّ، فخطر لي أن أصلي كل صلاة ثلاث مرات ففعلت ذلك زماناً وخفّ عليّ، فخطر لي أن أصلي كل صلاة أربع مرات ففعلت ذلك زماناً وخفّ علي، وأنسيت هل قال لي: خمس مرات أو لا.
وكان صحيح العقيدة، جيّد الذهن، يفهم به النكت العقلية ويسارع إليها، ولكنه جمّد ذهنه لاقتصاره به على النّقل، ولو كان اشتغاله على قدر ذهنه بلغ الغاية القصوى، ولكن كان عنده لعب، على أنه ما خلّف مثله. وكان النّظم عليه بلا كلفة، يكاد لا يتكلم إلا بالوزن. وفيه قلت أنا:
لي صاحب يتمنى لي الرضا أبداً ... كأنما يختشي صدّي وهجراني
ويغلب النّظم ألفاظاً يَفوه بها ... فما يُكلّمني إلا بميزان
وكتبت له استدعاء بإجازته لي، ونسخته بعد الحمدلة والصلاة.
المسؤول من إحسان سيدنا الشيخ الإمام العالم العلامة المتقن الحافظ رحلة المحدثين، قبلة المتأدبين، جامع أشتات الفضائل، حاوي محاسن الأوائل والأواخر:
حافظ السنّة حفظاً لا ترى ... معه أن يُعمل الناس الأسنّه
مركزُ الدائر من أهل النُهى ... فإلى ما قد حوى تُثنى الأعنّه
بديع زمانه، نادرُة أوانه، ضابط الأنساب على اختلافها، فهو السيل المتحدّر لا ابنُ نقطة، ناقل العلم الشريف عن سلفه الذي وافق على المراد شرطه، ساحب ذيل الفخر الذي لو بلغ السمعاني جعله في الحُلية قِرطه، صاحب النقل الذي إذا أتى رأيت البحر بأمواجه منه يلتط، والعبارة تستبق في مضمار لهواته فتزداد وتزدحم، الذي إذا ترسّل نقصت عنده ألفاظ الفاضل، وعجز عن مفاوضته ومعارضته كل مناظر ومناضل، أو نظم ثبت الجوهر الفرد خلافاً للنّظام فيما زعم، وتخطى بما بيديه فرق الفرقدين، وترضى النجوم بما حكم، أو أورد مما قد سمع واقعة مات التاريخ في جلده، ووقف سيف حاكٍ عند حده، أو استمد قلماً كف بصره عنه ابن مقْله، ووقف ابن البواب بخدمته يطلب من فضله فُضلهُ، فهو الذي تطير أقلامه الى اقتناص شوارد المغاني فتكون من أنامله " أولي أجنحة مَثنى وثلاثٍ " ، وتنبعث فكرته في طلب السنة النبوية وما يكره الله هذا الانبعاث، وتبرز مخبّات المعاني بنظمه ومن السحر إظهار الخبايا، ويعقِد الألسنة عن معارضته، وعقْدُ اللسان لا يكون بغير السحر في البرايا، ويستنزل كواكب الفصاحة من سمائها بغير رصد، ويأتي بألفاظه العذبة، ونورها المشمس وفُحولتها للأسد، ويحل من بيت سيادته بيتاً عموده الصّبح وطُنُبه المجرّة، ويتوقّل هضبات المنابر، ويستجنّ حشا المحاريب ويطأ بطون الأسرّة، فتح الدين محمد بن سيد الناس:
لا زال روضُ العلم من فضله ... أنفاسُه طيّبةُ النفحِ
وكابدا نظما الى نظمه ... أبدى سحابا دائم السحِّ
وكيفما حاوله طالبٌ ... في العلم لا ينفكّ ذا نُجْحِ
وإن غدا النُهى مُقفلاً ... في الناس نادَوا يا أبا الفتْحِ
إجازة كاتب هذه الأحرف جميع ما رواه من أنواع العلوم، وما حمله من تفسير لكتاب الله أو سُنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أثر عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ومَن بعدهم الى عصرنا هذا بسماع من شيوخه أو بقراءة من لفظه، أو سماع بقراءة غيره، أو بطريق الإجازة خاصة كانت أو عامة أو بإذن أو مُناوَلة أو وصية كيفما تأدّى ذلك إليه، الى غير ذلك من كتب الأدب وغيرها، وإجازةُ ما له من مقولٍ نظماً ونثراً وتأليفاً وجمعاً في سائر العلوم، وإثبات ذلك بأجمعه الى هذا التاريخ بخطّه إجازة خاصة، وإجازة ما لعلّه يتّفق له بعد ذلك من هذه الأنواع، فإن الرياض لا ينقطعُ زهرُها والبحارَ لا تنفد دررها إجازة عامة على أحد الرأيين عند من يجوّزه.
وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
فكتب هو الجواب رحمه الله تعالى:(2/436)
بعد حمد الله المجيب مَن دعاه، القريب ممن نادى نَداه، الذي ابْتعثَ محمّداً بأنواره الساطعة وهداه، وأيّده بصحبه الذين حمَوْا حماه، ونصروه على مَن عاداه، وحزبه الذين روَوْ سنّته وروّوْا أسنتهم من عِداه، وشفَوا بإيراد مناهله مَن كان يشكو صداه، وأجابوه لما دعاهم لما يُحييهم إجابة الصارخ صداه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تُبلّغهم من الشرف الرفيع غاية مَداه، وسلّم عليه وعليهم تسليماً يسوّغهم مشرع الرضوان عذباً ريّه، سهلاً منتداه.
فلما كتبت أيها الصدر الذي يشرح الصدور شفاء، والبدر الذي يبهر العقول سناً وسناءً، والحبر الذي غدا في التماس أزهار الأدب راغباً، ولاقتباس أنوار العلم طالباً، فحصل على اقتناء فرائدها واقتناص شواردها، وأُلفي عقله عقال أوابدها، ومجال مصائدها، ومطار مطاردها، بما أودَعت الألمعية من المعاني المُبْتدعة ذهنه، واستعادته على لسان قلمه وقد ألبسته الفصاحة من حسن تلك الفطنة:
زهَرُ الآداب منه يُجْتَنى ... حسنُ الإبداع ما أبدعَ حُسْنه
بارعٌ في كل فنّ فمتى ... قال: قال الناس: ما أبدع فنّه
ومتى ما فاهَ فاض السحرُ عن ... غامضِ الأفكار منه المرجَحنّه
فالآداب، حرسه الله تعالى، رياضٌ هو مجتني غروسها وسماءً هو مجتلي أقمارها وشموسها، وبحر استقرت لديه جواهره وسحر حلال لم تنفث في عصره إلا عن قلمه سواحرُه، فله في فنّي النظم والنثر حمْلُ الرايتين وسبقُ الغابتين، وحوز البراعتين، وسرّ الصناعتين، وهو مجمع البحرين، فما طلُّ الغمامة؟، وله النظر الثاقب في دقائقهما، فمَن زرقاء اليمامة، إن سام نظماً فمَن شاعر تِهامَه؟، وإن شاء إنشاء فله التقدم على قُدامه، فإن وشّى طِرساً فما ابن هلال إلا كالقُلامة، أن أجيز لك ما عندي فكأنما أن أتجاوز حدّي، لولا أن الإقرار بأن الرواية عن الأقران نهج مَهْيَع، والاعتراف بأن للكبير من بحر الصغير الاغتراف وإن لم يكن مَشْرَعه ذلك المَشرع. فنعم قد أجزت لك ما رويتُه من أنواع العلوم وما حملته على الشرط المعروف والعُرف المَعلوم، وما تضمّنه الاستدعاء الرقيم بخطك الكريم مما اقتدحه زندي الشّحاح وجادت به لي السجايا الشحاح من فنون الأدب التي باعُك فيها من باعي أمدّ، وسهمك في مراميها من سهمي أسدّ. وأذنت لك في إصلاح ما تعثُر عليه من الزلل والوهم والخلل الصادر عن غفلة اعترت النقل، أو وَهلة اعترضت الفهم، فيما صدر عن قريحتي القريحة من النثر والنّظم، وفيما تراه من استبدال لفظ بغيره مما لعله أنجى من المرهوب، أو أنجع في نيل المطلوب، أو أجرى في سنن الفصاحة على الأسلوب، وقد أجزتُ لك إجازة خاصة، يرى جوازها بعضُ مَن لا يرى جواز الإجازة العامة، أن تروي عني ما لي من تصنيف أبقيته في أي معنىً انتقيته فمن ذلك... وذكر رحمه الله تعالى ههنا ما له من التصانيف، وقد ذكرتها آنفاً. وقد أجزت لك أيّدك الله جميع ذلك بشرط التحري فيما هنالك، تبركاً بالدخول في هذه الحلبة، وتمسّكاً باقتفاء السّلف في ارتقاء هذه الرُتبة، وإقبالاً من نشر السنّة على ما هو أمنية المتمني، وامتثالاً لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: " بلّغوا عني " فقد أخبرنا أبو العزّ عبد العزيز بن عبد المنعم بن علي الحراني رحمه الله تعالى بقراءة والدي عليه وأنا أسمع سنة ست وسبعين وست مئة، قال: أخبرنا أبو علي بن أبي القاسم البغدادي قراءةً عليه وأنا أسمع منه سنة ست مئة، وقبل ذلك سنة تسع وتسعين وخمس مئة، وأنا محضر في الخامسة، قال: أخبرنا القاضي أبو بكر الأنصاري قاضي المارستان سماعاً عليه سنة أربع وعشرين وخمس مئة: قال: أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في سنة ست وأربعين وأربع مئة، أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن أحمد بن يسار السابوري بالبصرة، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه العسكري حدثنا محمد بن ابراهيم بن كثير الصوري، حدثنا الفريابي، عن ابن ثوبان، عن حسّان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلّغوا عني ولو آية وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومَن كذب عليّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار " .
أبو كبشة تابعي ثقة، والصحيح أنه لا يُعرف اسمه.(2/437)
ومولدي في رابع عشر ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وست مئة بالقاهرة، وفي هذه السنة أجاز لي الشيخ المُسند نجيب الدين أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرّاني، وكان أبي رحمه الله يخبرني أنه كَناني، وأجلسني في حجره، وكان يسأله عني بعد ذلك. وأجاز لي بعده جماعة.
ثم في سنة خمس وسبعين حضرت مجلس سماع الحديث عند جماعة من الأعيان، منهم الحبر الإمام شيخ الإسلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي ابن أخي الحافظ عبد الغني المقدسي، وأثبت اسمي في الطباق حاضراً في الرابعة.
ثم في سنة خمس وثمانين كتبت الحديث عن شيخنا الإمام قطب الدين أبي بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني رحمه الله بخطي، وقرأت عليه بلفظي، وعلى الشيوخ من أصحاب المسند أبي حفص بن طبرزد والعلامة أبي اليُمن الكندي والقاضي أبي القاسم الحرستاني والصوفي أبي عبد الله بن البنّا وأبي الحسن بن البنا، وغيرهم بمصر والاسكندرية والشام والحجاز وغير ذلك.
وأجاز لي جماعة من الرواة بالحجاز والعراق والشام وإفريقية والأندلس وغيرهم يطول ذكرهم.
وحبّذا، أيدك الله، اختيارك من طلب الحديث الدرجة العالية، وإيثارك أن تكون مع الفرقة الناجية، لا الفرقة التاوية، فقد أخبرنا الشيخان أبو محمد عبد اللطيف وعبد العزيز ابنا الشيخ أبي محمد عبد المنعم بن علي بن نصر بن منصور بن الصّيْقل الحراني، الأول إجازة، والثاني سماعاً قالا: أخبرنا ضياء بن الخُرَيف، محمد بن عبد الباقي، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو نعيم الحافظ، أخبرنا أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد بن أيوف بن مُطير اللّخمي، حدّثنا محمد بن أحمد بن هاشم البعلبكي، حدثنا عبد الملك بن الإصبع البعلبكي: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثني قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كُلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة " .
وبالإسناد الى الخطيب: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن علي السوذرجاني بأصبهان قال: سمعت عبد الله بن القاسم يقول: سمعت أحمد بن محمد بن رُوّه يقول حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن قال: حُدّثت عن أحمد بن حنبل، وذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم " تفترق الأمة على نيّف وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة " فقال: إن لم يكونوا أصحابَ الحديث فلا أدري مَن هم.
وبه الى أبي بكر الخطيب قال: حدثني محمد بن أبي الحسن قال: أخبرني أبو القاسم بن سختويه قال: سمعت أبا العباس أحمد بن منصور الحافظ بصور يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن عبد الله بن بشر نفسا يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله: مَن الفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة؟ قال: أنتم يا أصحاب الحديث.
وبه الى الخطيب قال: أخبرني محمد بن علي الأصبهاني حدّثنا الحسين بن محمد بن الوليد التستري بها. حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف بن مسعدة إملاءً، قال: سمعت عبد الله بن محمد بن سلاّم يقول: أنشدني عبدة بن زياد الأصبهاني من قوله:
دينُ النبي محمد أخبارُ ... نِعمَ المطيّةُ للفتى الآثارُ
لا تُخدعنّ عن الحديث وأهله ... فالرأي ليلٌ والحديث نهارُ
ولربّما غلط الفتى سُبُل الهدى ... والشمس بازغةٌ لها أنوارُ
وأنشدني والدي أبو عمرو محمد، قال: أنشدني والدي أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس رحمهما الله تعالى قال: أنشدني الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج النباتي قال: أنشدني أبو الوليد سعد السعود بن أحمد بن هشام قال: أنشدني الحافظ أبو العباس أحمد بن عبد الملك قال: أنشدنا أبو أسامة يعقوب، قال: أنشدني والدي الفقيه الحافظ أبو محمد بن حزم لنفسه:
مَن عذيري من أناس جهلوا ... ثم ظنّوا أنهم أهلُ النظرْ
ركبوا الرأي عناداً فسروا ... في ظلام تاه فيه من غبَرْ
وطريقُ الرشد نهجٌ مهْيعٌ ... مثلما أبصرتُ في الأفق القمرْ
وهو الإجماع والنّص الذي ... ليس إلا في كتابٍ أو أثرْ(2/438)
والله المسؤول أن يلهمنا رشداً يدلّنا عليه، ودلالة تهدينا الى ما يُزلِفنا لديه، وهداية يسعى نورها بين أيدينا إذا وقفنا يوم العرض بين يديه بمنّه وكرمه إن شاء الله تعالى.
وكنت بصفد لما بلغتني وفاته رحمه الله تعالى:
فلقد ألمْتُ فما الحِمامُ بصادحٍ ... أسفاً ولا أغصانها بموائسِ
قلت أرثيه رحمه الله تعالى:
ما بعدَ فقدك لي أُنس أرجّيه ... ولا سرورٌ من الدنيا أقضيهِ
إن متُّ بعدَك من وجدٍ ومن حزَن ... فحقُّ فضلك عند من يوفيه
ومن يعلّم فيك الوُرق إن جهلت ... نُواحها أو تناسته فتُمليه
أما لَطافةُ أنفاس النّسيم فقدْ ... نسيتُها غيرَ لُطفٍ كنتَ تُبديه
وإن ترشّفتُ عذْب الماء أذْكرني ... زُلالُه خُلُقاً قد كنتَ تحويه
يا راحلاً فوقَ أعناقِ الرجال وأج ... فانُ الملائكِ تحت العَرشِ تبْكيهِ
وذاهباً سارَ لا يلوي على أحد ... والذّكْرُ ينشرهُ واللحْدُ يطويه
وماضياً غفر الله الكريم له ... باللُّطفِ حاضرهُ منه وباديه
وباتَ بالحُور والولدان مُشتغلاً ... إذا أقبلتْ تتهادى في تلقّيه
حتى غدا في جنان الخُلدِ مُبتهجاً ... والقلب بالحُزن يَفنى في تلظّيه
لهفي على ذلك الشخص الكريم وقد ... دعاه نحو البلى في التَّرب داعيه
وحيرتي فيه لا تقضي عليّ ولا ... تُقضى لواعِجُها حتى أوفّيه
أُجزى الأسى عبَراتي كالعَقيقِ وقد ... أصمّ سمعي وأصْمى القلبَ ناعيْه
يا وحشة الدّهر في عين الأنام فقد ... خلَتْ وجوهُ الليالي من معانيه
ووحشة الدرس إن تُنشر مُلاءتُهُ ... ولم تطرّز حواشيها أماليه
يا حافظاً ضاع نشرُ العِلم منه الى ... أن كاد يعرفْهُ مَن لا يسمّيه
صان الرّواية بالإسْنادِ فامْتنعَتْ ... ثُغورها حين خاطَتْها عواليه
واستضْعَفت بارقاتُ الجوّ أنفُسَها ... في فَهمِ مشكلةٍ عن أن تُجاريهِ
حفظْتَ سنّة خيرِ المرسلين فما ... أراكَ تُمسي مُضاعاً عند باريه
للهِ درّك من حَبر تبحّر في ... علمِ الحديث فما خابتْ مساعيه
وهل يخيبُ معاذَ الله سعيُ فتىً ... في سُنّة المصطفى أفنى لياليه
يكفيه ما خطّه في الصحف من مدح الن ... بي يكفيه هذا القدرُ يكفيه
عزّ البُخاري فيما قد أُصيب به ... مات الذي كان بين الناس يدريه
كأنه ما تحلّى سمعُ حاضره ... بلفظه عندما يروي لآليْهِ
رواية زانها منه بمعرفةٍ ... ما كلّ مَن قام بين الناس يرويه
يا رحمتاهُ لشرح التّرمذي فمَنْ ... يضمّ غُربتَهُ فينا ويُؤويهِ
لو كان أمهلهُ داعي المنون الى ... أن تنتهي في أماليه أمانيه
لكان أهداه روضاً كله زهرٌ ... أناملُ الفكر في معناهُ تَجنيه
مَن للقريض فلم أعرفْ له أحداً ... سواهُ رقّت به فينا حواشيه
ما كان ذاك الذي تلقاه يَنظمه ... شعراً ولكنه سحرٌ يعانيه
يهزّ سامعه حتى يخيّل لي ... كأس الحُميّا أدارتها قوافيه
ومَن يمرُّ على القِرطاس راحتهُ ... فينبتُ الزهرَ غضاً في نواحيه
ما كل من خطّ في طرس وسوّده ... بالحبر تغدو به بيضاً لياليه
ولا تخلْ كلّ من في كفّه قلمٌ ... إذا دعاه الى معنى يلبّيه
هيهات ما كان فتح الدين حين مضى ... والله إلا فريداً في معانيه(2/439)
كم حاز فضلاً يقول القائلون له ... لو جازك الليلُ لابيضّت لياليه
لا تسأل الناس سلني عن خلائقه ... لتأخذ الماء عني من مجاريه
ماذا أقول وما للناس من صفةٍ ... محمودة قطُّ إلا رُكّبتْ فيه
كالشمس كل الورى تدري محاسنها ... والكافُ زائدةٌ لا كافُ تشبيه
سقى الغمامُ ضريحاً قد تضمّنه ... صوْباً إذا انهلّ لا ترْقا غواديه
وباكرتْه تحياتٌ نوافِحُها ... من الجنان تحيّيه فتُحييه
وكتبت إليه لما قدمت الى دمشق من القاهرة:
كان سمعي في مصر بالشيخ فت ... ح الدين يَجني الآداب وهي شهيّهْ
يا لها غُربةً بأرض دمشقٍ ... أعوَزَتْني الفواكهَ الفتحيّهْ
وكتبت إليه:
يا حافظاً كم لرواياته ... من جنةٍ في بطنِ قِرطاسِ
كم شذىً من سُنّة المصطفى ... قد ضاع من حفظكِ للناس
وكتبت على كتابه بشرى اللبيب:
بُشرى اللبيب لباب النظم للبشر ... في مدح سيدنا المختار من مضَرِ
لما بدا الشيخُ فتح الدين ينظمه ... تأرّجتْ نسمةُ الآصال والبُكر
بحرٌ ولكنه أهدى الدراري وال ... بحور من شأنها الإتيان بالدُرر
تجلو عليكَ معانيه العرائسَ في ... بيتٍ من الشعر لا بيتٍ من الشَعَرِ
وبيني وبينه رحمه الله تعالى مكاتبات كثيرة. كتبت إليه من الرحبة وهو:
سلوا نسمة الوادي إذا هي هبّت ... سُحَيراً وهزّت في الربا كلَّ أيكةِ
فكم لي في أثنائها من رسالة ... أضمّنها شوقي إليكم ووحشتي
وما طابَ رياها الى أن تضمّنتْ ... ثنائي على عليائكم وتحيتي
إذا عانقتْ في الروض أغصان بانه ... حكت خطراتِ الغيد لما تثنّتِ
وإن نبهتْ ورقَ الحمائم أعلنت ... وأغنتْ عن الأوتار لما تغنّتِ
وإن سحبتْ ذيلاً بمنعرج اللوى ... تحلّ عُرى أزهاره حيث حلّتِ
وإن صافحتْ وجه الرياض فإنما ... تقبّل من أوطانكم كل تُربةِ
فمنّوا بإهداءِ السلام على فتىً ... تردّد منه الروحُ في جسم ميّت
يُقبّل من فرطِ الجوى عتباتِكُم ... وذلك فرضٌ عنده غيرُ سنّةِ
وينشر من طيب الثّناء عليكم ... محاسن ينسى نشرُها كل روضة
ويبكي إذا ما استخبرَ البرق عنكمُ ... وقد بسمتْ منه ثُغورُ الدجُنّةِ
وإن رتّل الذكرى تداعتْ صبابةً ... له الوُرقُ فارتاحت وناحتْ وحنّتِ
ولما رأت ريحُ الصّبا ما تكنّه ... أضالعه اعتلّت لذاك وأنّتِ
رعى الله أياماً تقضتْ بقُربكمْ ... وحيّا محلاً كنتم فيه جيرتي
ولا شكَرَ الرّحمنُ أيام بيننا ... فليستْ سواءً والتي قبلُ ولّتِ
ولو أنصفَ الدهرَ الخؤونُ الذي قضت ... صُروفُ لياليه ببيْني وفرقتي
لما سِرْتُ عن ذاكَ الجِناب الذي حوى ... من الفضلِ والعلياء كل عظيمةِ
ولو كان يُشرى القُربُ بالنفس ما غلا ... ومَن لي لو نِلتُ المُنى بالمنية
عسى الدهرُ أن يدني الى ظلّ قُربكم ... مُحباً رأى في البُعد كل مشقّة
ووالله ما حالتْ عن العهد مُهجتي ... وكم مُرهفاتٍ لو تسلّت لسُلّتِ
وما ضرّكم لو زار طيفُ خيالكم ... فخفّفَ من وجدي ونفّس كُربتي
وكيف يخوضُ الطّيفُ لُجَّ مدامعي ... ومن بعدكم تعرف النومَ مُقلتي
فكتب هو الجواب عن ذلك:
مننتَ بنُعمى بلّغت كل منيةٍ ... ونلتُ بها المأمولَ قبل منيّتي
وأهدتْ الى قلبي الجريح قرارَهُ ... وجادتْ على طرفي القريح بقُرّةِ(2/440)
مُشرَّفةٌ لم يأت عصرٌ بمثلها ... سقَتْ دارَ مُهديها سوافجُ عبرتي
وصلتَ بها عهدَ المسرّة مُحسناً ... وأنعمتَ لي منها بأحسن وُصلتي
وشرّفتَ من ذكري وشنّفتَ مَسمعي ... وأعليتَ من قدري وأغْليت قيمتي
فها أنا منها في صُعودٍ كأنما ... أحاول ما بين الكواكب ثُورَتي
وأهديتها عذراء بالحسن أفردتْ ... وما بينَ أغصانِ اليراع تثنّتِ
جلَتْ كل معنىً من بديعك باهرٍ ... وأبدت فُنوناً من علومكَ جلّتِ
ونادت فلبّتها المعاني مُجيبةً ... ولو غيرُها نادى المَعافي لندّتِ
حوتْ قصباتث السّبقِ كل غايةٍ ... فلم تكُ فيها كالتي قبلُ كلّتِ
فمن دُرّ نَظْمٍ لا يُسامُ لمفلسٍ ... ومن نَثر دُر لا يُسامى بنثرةِ
ومن وَشي خَطٍ فيه نُزّهت ناظري ... ومن سحر معنىً فيه أنشأتُ نشأتي
إليكَ صلاح الدين أشكو صبابتي ... وأرفع فيما رابني منك قصّتي
أقول بأن القلب مثواك دائماً ... وأشكو إليكَ الشوقَ في كل لحظةِ
وأشكر أياماً تقضّتْ بقربكم ... وقلّ لها شُكري وإن هي حلّتِ
وأشكر لكَ الأيام تلك بعينها ... فأعجبُ من شكري لها وشكيتي
تصدّت لنا بالوصلُ تُطعمُنا به ... فلما أجبناها تجنّت وصدّتِ
ولو أنها منّت بطول بقائها ... جنينا ثمارَ الوصل من حيثُ منّتِ
لعَمري أشواقي إليك شديدةٌ ... فهل تُفرج الأيام بالقُرب كُربتي
وإني لما سِرتَ عني ولم أكن ... بداري لبُعدي عنك في دار غُربتي
تناءَيتَ عن طرفي وأنت بمهجتي ... فها بصري يشكو إليك بصيرتي
يقبّل كذا وينهي ورود المشرف فأكرِم به وارداً، وأَعزز علي به وافداً، يجلو على الأبصار ما شاء من زَيْن، ويَجلي عن البصائر ما شاء من رين، حائزاً من نظمه ونثره ربح الصناعتين، فائزاً من سحر بيانه ودرّ بنانه بأمدِّ الشرفين، والسّبق في الطرفين، والاستيلاء على الأمدين، والاستعلاء على الصّدفين، فمدّ الملوك إليه راحته، واستمدّ منه راحته، وأدار منه راحه، وألفى لديه انشراحه، ونال به على الدهر اقتراحه، بعدما وجد من فراق من به وجد، وقد أضرم بقلبه من نار الخليل لفقد الخليل ما وقَد، فراح كليم اشتياق في أليم احتراق، ينادي بلسان الأشواق:
قد لسعت حيّة النّوى كبدي ... ولا طبيب لها ولا راقِ
فوافته وقد شطت الدار، وتنادى عنه المزار، تحية باهى بلطفه الصبا وباهر في حسنها شمس الضحى، وبعرفها زهر الرُبا، فقال يا بشراي بعهدها الوفيّ وجمالها اليوسفي، أصدرت عن بشر أم ملَكْ، أم عن ملك البلاغة الذي ملك من درّ القول ما ملك، وترك لغيره من مخشلبه ما ترك، وأما فقده، حرسه الله تعالى، وهو بدمشق الفواكه الفتحية، فقد وقف المملوك على ما تضمنته تلك التحية، وهزّت منه عطفاً لتلك الأريحية، وإنما يجتني كما قال المقرّ الشهابي حرسه الله تعالى من غرس بدا صلاحه، ورُوِّضُ فلاحُه، وتفتح زهره فراق اختتامه بالمسك وافتتاحه، المملوك يلتمس التشريف بخدمه ومراسيمه ومهمّاته، والله يحرسه في حركاته وسكناته، إن شاء الله تعالى.
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
أهلاً بها من تحية صدرتْ ... عن راحةٍ بالفضائل اشْتهرَتْ
يا حُسن ما سطرتْ أناملها ... ولطف ما نظمَتْ وما نثرَتْ
فضضْنَ عنها ختامَها فإذا ... بالشمس في حضرتي وقد سفرَتْ
فشرّفتْني وشنّفت أذني ... بدرّ ألفاظها التي بهرَتْ
أستغفر الله لو تُقابلها الن ... جومُ خرّت الأرض وانكدرَتْ
ولو درتْ نسمةٌ برقّتها ... جفّت غصون الرّبا إذا خطرَتْ
فليس للمُقلة الكحلية ما ... تفعلُ ألفاظُها التي سحرَتْ
ولا لكأس المُدام نشوتُها ... في أنفسٍ من سُلافها سكرَتْ
للأدب الغضّ في حديقتها ... أزاهر من نداك قد مُطرتْ(2/441)
بالغتَ في سحرك الحلال فكم ... نظمت زهرَ الدجى وما شعرتْ
وزدتُ لطفاً فهل بعثت بها ... نفحة روضٍ مع الصباح سَرتْ
سبحان مُعطيكَ فطرة غلبتْ ... على بديع الكلام واقتدرَتْ
وراحة ما انطوتْ على قلمٍ ... إلا ووشّتْ مطارِفاً نُشرتْ
من ذا الذي في العُلا يُطاولها ... وهي على ذي المحاسن اقتصرَتْ
لا مُتّعَتْ مُقلتي برؤيتها ... إن نظرت مثلها أو انتظرتْ
مذ برّدتْ حُرقتي تحيتُها ... تلتْ شفاهي الدُعا وما فترتْ
وأصبحت أدمعٌ أكفكِفُها ... يا جيرة الفرات جرتْ
والنفس لم تستعر محبّتكم ... لكنها بالصّبابة استعرتْ
يا سيّد الناس وابنَ سيدهم ... ديارُ مصرَ بفضلكَ افتخرتْ
إذ أنت في ربعها تقوم بحف ... ظ سنّة المُصطفى إذا ذُكرت
هُنّيتَها رتبة ظفرتَ بها ... خُطا بني العلم دونَها قصُرَتْ
يقبّل الأرض التي مجالس العلم بها مشهودة، وبركاتها مشهورة، وكتب السنّة الشريفة منصوصة، وكتائبها منصورة، ونفائس الآداب بها مسرودة، ونفوس أهلها مسرورة:
فهي أرضٌ تُطاول الأفقَ فخراً ... إذ عليها مَسعاك دون البِقاعِ
والقدم الذي إذا خطت يكاد يسعى إليها المنبر، ويوطئها قدرُها العلي خدّ من فسد ومن برّ، ويمسح أخمصها إذا سعت في المعالي عن برّ عنبر:
قدمٌ تستقلّ نعلَ الثريا ... مذ ترقّت في سامياتِ المساعي
واليد التي لو أرادت لنالت الكواكب، وأخجلت بجودها الغيوث الهوامع والسحب السواكب، وحملت رايات فخارها التي تزدحم تحت ظلها في السيادة مناكب الكواكب:
راحةٌ تشرف الشِّفاهُ إذا ما ... قبّلتْها للفضلِ بالإجماعِ
تقبيل محب ظفر بوصل حبيبه، وأمكنته الفرصة بغفلة كاشحهِ وغيبة رقيبه، فهو يصل القبلة بالقبلة، ويشفع النهلة بالعلة: ويستمر على ولائه الذي:
يراه على طول المدى خير صاحبِ
ويحافظ على دعائه الذي:
به تُعرف العشّاقُ عند الحبائبِ
ويبثّ من ثنائه الذي:
يضوع شَذاه في الصَّبا والجنائبِ
ويصف أشواقه التي لا يعلم قرارها إلا الذي أوجبَها وقررها، ولا يدري قدرها إلا الذي حكم بها وقدّرها، ولا يعرف ألمها إلا القلب الذي لمّها، ولا يجبر ضيمها إلا الفؤاد الذي ضمّها، فهي الأشواق التي استعارت الجحيمُ استعارَها، ونفتْ عن الجفون قرّتها وعن الجوانح قرارها، وأعدمت النفس في الصباح صلاحها وفي المساء مسارّها.
وحنيني إذا تصدّى لنفسي ... صدّ لهوي عن ارتياد ارتياحي
علّم الوُرقَ حُزنها في الأو ... راقِ تتلوهُ في نواحي النواحي
لا يردّ الجوى اغتباطُ الغتباقٍ ... من حنيني ولا اصطبارُ اصطباحي
يا لها هفوةً مسيري عنكمُ ... قذفَتْ بي الى اطّرادِ اطّراحي
ودرتْ أنني لي الذنبُ في البُع ... دِ فجارَت على اجتراءِ اجتراحي
فآهاً على الديار المصرية وأوقاتها، وسقياً لمعاهد أُنسها لنفسها ولذاتها لذاتها، ورعياً لتلك المنازل التي لا تخرج الأقمار عن هالاتها، وحفظاً لتلك الوجوه التي:
للشمس أضواءٌ على جبهاتها
وشكراً لتلك النفوس التي:
المجد يغلبُها على علاتها
ذُكر الأنام لنا فكن قصيدة ... أنت البديع الفرد من أبياتها
وما أقول بل ما أنتظر إلا نظرة شهابية، ولا أترقب إلا همة عدوية عمرية، تُنقذني من نار هذه الغربه، وتعيدني الى خير عالم وألطف تربه، وتتعطّف على من غدرت به أيامه ولياليه، وأتى كما حكمت عليه الأقدار بذنب عقابه فيه:
وكأنني بها كما عوّدَتْني ... عطفتْها عليّ تلك المعاطفْ
ثم قالت دعوهُ يحظى بوصلٍ ... إذ له مدةً على الباب واقفْ
فلله عزماتها التي لو شاءت جمعت بين الضبّ والنون، وأبدلت بالمنى موارد المنون، وما ذلك عليها بمشيئة الله تعالى بعزير ولا عتيد، وما هي إلا كلمة تدخل بالمملوك الى دار السعادة كما عوّدت من باب البريد.(2/442)
وأما المثال العالي أعلاه الله تعالى وجعل القلوب في عليّ قدره تتوالى، فأعود الى وصفه نثراً وأستعير من كلماته في تقريظه درّا، فأقول: إنه اشتمل على المحاسن وغدا أنموذج الجنة التي خمرها مغتال وماؤها غير آسن، تقطر البلاغة من كلمه، وتشفّ الفصاحة من وراء ما سطّر بقلمه، وتغني رياضه الناضرة عن أراك الحمى وعن سلمه، ويهز الواقف على معانيه بالطرف من قرنه الى قدمه، يتحيّر الناظر فيه لتردده بين روض وأفق، ويتخيّر الماهر من لفظه تاجاً لفرقٍ أو قلادة لعنق:
قُل فكمْ من جواهرٍ بنظامِ ... وُدُّها أنها بفيكَ كلامُ
وأما عبودية المملوك التي تقدّمت فوالله ما توهم المملوك أن سيدي، حرسه الله تعالى، يتكلّف لها جواباً، ولا يفتح من بيوت نظمه المَصون لهذه الطارقة باباً. ولو تحقق هذا الأمر لأعطاها حِيلَهُ وحَيلَه وشدّ على شنّ الإغارة على المعاني الجامحة خَيله، وأعمل فكرة في تهذيب ما يهديه حتى يقال: هذا كتاب ليلة وألف ليلة.
ولما كان هذا مقام افتراص، واقتناء لجواهر كلِمِ سيدي واقتناص بعث هذه العبودية طمعاً في الجواب الثاني، وعوّذها من الشآم بعطف مولانا الذي لا يثنيه عن الخير ولا الجبر ثانِ، ولله المعرّي حيث قال:
قد أجبْنا قولَ الشّريف بقولٍ ... فأنبْنا الحصى على المُرجانِ
والله يمتّع الأنام بحياته التي هي جملة الأماني، ويديم فضائله التي لا توجد إلا في العقد ولا تؤخذ إلا من الأغاني، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
فكتب هو الجواب عن ذلك:
حيّت فأحيتْ عندما حسرتْ ... خِمارَها كلَّ مهجٍ سحرَتْ
يا خجلةَ الشمس عندما سفرَتْ ... وغصّةَ الغُصنِ عندما خطرت
وفتنة الظبي عند لفتتها ... وحيرة الظبي كلما نظرت
ما كنت أسلو جمالَها أبداً ... لولا التي بالجَمال قد بهرَتْ
عقيلةٌ تسلب العقول فها ... ألبابُنا من بديعها سكِرت
جاءت فجادت بكل مطربةٍ ... يُطوى لها البيدُ كلما نشرت
سماء مجدٍ سمت ببهجتها ... عن صدر أهل الزمان قد صدرت
محمرة الحُسنِ في حُلى شفقٍ ... تخضرّ في حُسنها وقد خضرَتْ
أبياتها من عقودها نُظمت ... ونثرها للكواكب انتثرتْ
لابنِ جلا ما جَلتْهُ من دُرر ... وابن هلال بديعُ ما سطرتْ
يا حبّذا للصلاح نسبتُها ... خليلُها من به العُلا افتخرت
يا روض فضْل غُصونه زهرت ... وحبر علمٍ بحاره زخرَتْ
سرتْ فعين السرور ما نظرتْ ... في دوحها الأُنس أغصُناً نضرت
ولا نسيم الصبا سرت سِحراً ... إلا كدأب الهجير إذا هجرت
ولا تغنّت في الأيك ساجعةً ... فأطلقت مونعاً ولا أسرت
ولا تثنّى للراح غانية ... أوتارها واللحاظ كم وترت
ولا سمت مُقلةُ المَشوق الى ... لقياك نحو المقام مذ سمرت
يا عجباً من بحار عبرته ... ما أُخمدت ناره التي استعرت
كدّرتْ مذ غبت عنه عشيته ... فيا لأنس نجومه انكدرت
على هواك القلوب قد فُطرت ... لولا تمني لقائك انفطرت
يا مُقلةً مذ غبتم سخنتْ ... هل عشية إن حضرتمُ حضرت
ويا حياةً صفت بقربكم ... هل يُرتجي عودُها وما كدرتْ
يقبّل اليد العالية الصلاحية، لا زالت صالحة الشيم، سافحة الديم بل الباسطة الكريمة، لا برحت واسطة عقد الكرم، بل الأرض المنيفة بحلوله لا فتئت مواطن النعم، ومواطئ أولي الهمم:
تقبيل ملآن الجنا ... ن بحبه دون الأممْ
متندّم لفراقه ... لو كان ينفعه النّدمْ
لو كان يطرقُهُ الكرى ... لكنه لمّا ينمْ
لهفي على عصر به ... ولّى حميداً لم يُذَمْ
شوقي له شوق العلي ... ل لما شفاه من السّقمْ
شُكري له شُكرُ الريا ... ض السحبَ جادت بالدّيم(2/443)
ذكري لأيام به ... مرت كما مر الحلم
وحلتْ كما مرّت ليا ... لي الشريف بذي سلَمْ
وينهي ورود المشرّفة العالية قدراً، الحالية من البدائع الروائع دراً، المؤتقة في رياض الفصاحة زهراً، المطلعة في سماء البلاغة زهراً، وكلف بها كلف عمرو بعراره، والفرزدق بنواره، وأقسم من طرسها بحمرة الشّفق، ومن نِقْسها بالليل وما وسق، ومن غرر معانيها السامية على غير مُعانيها بالقمر إذا اتّسق لتليت أهل البلاغة، فظلت أعناقهم لها خاضعين، وجليت على أرباب اليراعة وألباب البراعة فقالتا: أتينا طائعين، انقياداً لطفيل أعنيتها، وبترياً من مطاعنة أبي براءٍ ملاعب أسنتها، كل يلمحها بطرف كليل وشخص ضئيل، ويرجع عن مجاراتها بأمل حسير وقلب كسير، فلا يُجري في ميدانها خيل طراده ولو قام مقام قسٍ في إياده، وأين حميمه من حمياها أم أين سهيله من ثرياها، لشد ما ارتفعت منها المطالع وانقطعت دونها المطامع، فما الظن بوحيد يحتاج الى الذمام وربيط في الرّغاب لا عهد له في السرايا ولا أنس له بالدخول في القتام أن يجول في حلبة الرهان أو يَطول الى مقاتل الفرسان أو يُسابق بسكّيته مجلي الميدان، أو يناطق بباقل من سحب ذيلاً على سحبان، وهل تستفاد تلك المواد من غير ذلك المواد، وهل استولى على أمد تلك الجواد غير ذلك الجواد، وأن يكاثر البحار الزواخر من ورده الثماد، وأن يطاول الأنجم الزواهر من قرارته الوهاد، فما تفوه السليم الصدق إلا بالتسليم لذلك السبق والتعظيم لذلك الحق اعترافاً بما قد حواه رافع ذلك المنار وجامع تلك المبار.
وأما أمره بالمسارعة الى المراجعة والمعاجلة الى المساجلة وما غادره لغيره من متردّم، ولو شنّ على الآداب إغارة ربيعة بن مكدم، فلم يرجع المملوك الى جواب ينجده وخطاب يسعفه بالمراد ويسعده إلا التمثل بقول القائل:
وأخذْتَ أطرافَ الكلام فلم تدعْ ... قولاً يُقالُ ولا بديعاً يُدّعى
وأما تمثيله ببيت أبي العلاء ما هو فيه من علو المكان لإنابته ابن عمه الحصى عن المرجان فما مكاثره بالأدب، وعيونه تنسل إليه من كل حدب إلا المكاثر بياءَي أنيسيان بل لعله حرسه الله تعالى عنّ له المرور ببلاد ابن عنين بلاد بها الحصباء درّ أو ثنى عنانه الى منزل ابن اللبّانة:
نزلنا بكافورٍ وتبرٍ وجوهرٍ ... يُقال له الحَصباءُ والرملُ والترْبُ
أو أجتاز بنهر أخي مناز وحصاهُ تروع حالية العذارى، فورده وأمواجه تطرد، إما يرد أو يبترد، لكنه عاكسهم في التشبيه، ونافسهم في التمويه، فاستعبد كلامهم كلامه الحُرّ، وكان ما جاء به من الحصى أنفس مما جاؤوا به من الدرّ، فتأخّروا وإن تقدّموا، وتقدّم وإن تأخر، وكانت بدائهه لبدائه سواه تسحر، وبدائعه من بديع سواه تسخر.
وأما تشبهه بالهمة الشهابية وتشوّفه الى الهمة العدوية فلابد بمشيئة الله تعالى أن تعدّى العدوية قربه على بعاده، وتعمر العُمرية أرجاء رجائه بعوده الى معاده، والقطر يسبق الدين السواجم، والزهر يعبق وما انشقّت عنه الكمائم:
وإن رجاءً كاملاً في جميلةٍ ... لكَالمالِ في الأكياس تحت الخواتمِ
والله يعمر ببقائه أنداءَه، ويسرّ بلقائه أوداءَه بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
وكتبت أنا إليه من دمشق في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة:
يا عذولاً في لومه قد تفصّح ... ويرى أنه بذاك تنصّحْ
ليس عندي من الجوى بي جوابٌ ... هذه أدمعي تقول وتشرح
قف على غير مسمعي واسأل الصّب ... رَ فما عنده سوى الله يفتحْ
كم ينادي السلو بالحرب أولى ... وينادي الغرام بالصلح أصلحْ
قِستُ بين السلو والوجد حتى ... صحّ أن الغرام أرجى وأرجح
كيف صبري عن أرض مصرٍ وفيها ... لي قوم أسمى الأنام وأسمح
لو تعاطي الجبالُ كأس حديث ... عنهم مال عطفُها وترنّح
هات قل لي من أين تلقى لفتح الد ... ين مثلاً إن كنت للحقّ تجنح
خادمٌ سنّة النبي وهذا ال ... فضل أنجى يوم الحساب وأنجحْ(2/444)
كلما خط باليراع حديثاً ... كبّر الله في الطّروس وسبّح
إن تقسْ خطه بروض نديّ ... صحّ هذا وجفّ ذاك وصوّح
كل عين كأنها طرفُ حبٍ ... ما توقّى الفؤاد لما توقحْ
أي قلب بالحزن والهم يصدا ... وحمام الأسجاع فيه يصدحْ
بنظامٍ كالدر لما تنقى ... ومعانٍ كالسحر لما تُنقّح
لو يجاري برقَ الدُجى ما تنحّى ... أو يباري قس النهى ما تنحنح
لا أكفر قولي إذ قلت دهري ... قد توشى من فضله وتوشح
ما رياضُ قضيبها قد تلوى ... فيه زهرٌ يُزهى بلونٍ تلوّح
جاد قطرُ الندى بها وتفتّى ... وغدا وردٌ نصبُها قد تفتّح
مثل أخلاقه التي قد حواها ... بل أراها بالحُسن أملى وأملحْ
قوبلت نسخةُ المعالي عليها ... وأجاز الجمال ذاك وصحّحْ
آه وا وحشَتا لذاك المُحيّا ... والسجايا التي أبرُّ وأوضحْ
لا أرى في الزمان أسعدَ ممّنْ ... قد تمسى بوجهه وتصبّحْ
فكتب الجواب عن ذلك:
صادحاتُ الحمام في الدوح تصدحْ ... بغرامي فالعين للبين تسفحْ
رجّعت شدوها فبرّح بي شو ... قٌ مقيم لظاعنٍ ليس يبرحْ
فرّقت بيننا صُروف الليالي ... فهل الدهرُ بالتواصلِ يسمح
فتنادي بك المنى من قريب ... بعد قفرٍ من التباعد أقبح
إن لي مطمعاً بقربك يأسو ... ما غدا الناس بالتباعد يجرح
كلما شام بارقُ الشام طرفي ... قلت شوقاً لوصلك: الله يفتحْ
ولقلبي منه خُفوقٌ ونارٌ ... ولطرفي منه سحائب سُيَّحْ
يا صلاح الدين الذي فاقَ أهل ال ... عصر حلما عنه الرواسي تزحزح
وبليغاً ما رام يأتيه عفواً ... وفصيحاً ما احتاجَ أن يتفصّح
لو رآه غيلانُ قصّر عن قص ... دِ بلالٍ وصدّ عن زجرِ صيدح
وفّر النفس عن منى كل وفر ... ورأى العِلمَ منه أرجى وأرجح
وغذاء الأرواح أشرف مما ... تغتذيه الأجسام قدراً وأصلح
سبّح الله من رآكَ إماماً ... كم له في بحار علمك مسبحْ
حائزاً من بدائع بني هلالٍ ... سحرَ نثرٍ بدُرِّ خطٍ موشّح
كعلي وضعاً ورقّة إبْرا ... هيم طبعاً بل أنت أسمى وأسمح
يا خليل الآداب ما اختلّ منها ... فالصحيح الذي عليك يصحَّح
كم على الدهر من حُلالها جمالٌ ... ما لمسرى مؤمِّلٍ فيه مسرح
سمطها فائزٌ بدُرِّ معانٍ ... سقطُها من زِناد فكركَ يقدح
كلّ عذراء تسبي كل لبٍ ... بسنا عن سناءِ علمك يُلمح
زارت الصبِّ في ليالٍ من البُع ... دِ فلما دنت رأى الصبح أصبحْ
قلدت بالعقيان سحر بيانٍ ... ليس فيه للفتح بعدك مطمحْ
ختم النّظمُ منك بحر قريضٍ ... ما أراهُ من بعدِ ختمك يُفتح
وكتب هو إلي رحمه الله تعالى وأنا بصفد في سنة أربع وثلاثين وسبع مئة:
سُررتم فإني بعدكم غير مسرور ... وكم لي على الأطلال وقفة مهجورِ
ولا حسَّ إلا حس صائحة الصّدى ... ولا أُنسَ إلا أنس عيسٍ ويعفور
فيا وحدةَ الداعي صداهُ جوابهُ ... ويا وحشةَ الساعي الى غير معمورِ
إذا قلت سيري قال سيري مُحاكياً ... وإن قلتُ زُوري قال لي مثلها زُوري
وما سرّني بالقُرب أني استزرتُها ... ولا ساءني بالبُعدي قولي لها سيري
فيا ويحَ قلبي كم يعلّله المُنى ... علالةَ دُنيا استعبدت كل مغرور(2/445)
تواصل وصل الطيف في سنة الكرى ... ولست إذا استيقظتَ منه بمحبور
وتدنو دنوّ الآلِ لا ينقعُ الصّدى ... وتخلبُ آمالاً بخُلّبها الزورِ
تُنيل المُنى من سالمَتْهُ خديعةً ... وتُعقب من نيل المنى كل محذور
فدعها وثق بالله فالله كافلٌ ... برزقك ما أبقاك وارضَ بمقدور
وكن شاكراً يسراً وبالعُسر راضياً ... فأجرُ الرضا والشكرِ أفضلَ مذخورِ
فكتبت أنا الجواب عن ذلك:
هل البرقُ قد وشّى مطارفَ ديجورِ ... أو الصبحُ قد غشّى دُجى الأفقِ بالنورِ
وهل نسمةُ الأسحار جُرّت ذيولُها ... على زهر روضٍ طيّب النشر ممطورِ
وهيهاتَ بل جاءتْ تحيةُ جيرةٍ ... الى مُغرمٍ في قبضة البعد مأسورِ
أتته وما فيه لعائد سُقمه ... سوى أنه تنبثّ من قلب مصدورِ
فلما تهادت في حُليّ فصاحة ... من النظم عن سحر البلاغة مأثور
أكبّ على تقبيلها بعد ضمها ... الى خاطرٍ من لوعة البين مكسور
وأجرى لها دمع المآقي ولم يكن ... يقابل منظوماً سواه بمنثور
فأرشفه كأسَ السُلاف خطابُها ... وغازله من لحظها أعينُ الحورِ
فكم حكمةٍ فيها لها الحكم في النهى ... وكم مثلٍ في غاية الحسن مشهورِ
يرى كل سطر في محاسن وضعه ... كمسكِ عذارٍ فوقَ وجنةِ كافورِ
فلا ألفٌ إلا حكت غُصنَ بانةٍ ... وهمزتُها من فوقها مثلُ شُحرور
فأصلح لا يثني الى الأرض جيدَهُ ... غراماً ولم يعدِل بها وردةَ الجوري
وقد كانت الأطماع نامت لياسها ... فلما أتت قال الغرامُ لها ثوري
وزادت جفون العين سُهداً كأنما ... حبَتْها بكحل منه في الجفن مذروري
وكان الدجى كالعام فاحتقرتْ به ... وقالت له ميعادُك النفخُ في الصور
ولا ترضَ من نار الحشا باتقادها ... فقد قذفتْ في كل عضو بتنور
وما شكرتْ عيني على سفحِ عبرتي ... على أن محصول البُكى غير محصور
وقالت أما نحيا الدموع لشدة ... فدعها تفِضْ من زاخرِ اللّج مسجور
ولو كنتُ ألقى في البُكا فرجاً لما ... مضى اليوم حتى كنتُ أولَ مغرور
ولو كنت ألقى الصبر هانت مصيبتي ... ولكنه للحظّ في غير مقدور
فإن تبعثوا لي من زكاة اصطباركم ... فإني لما تهدونه جدُّ مضرور
سلوا الليل هل آنستُ فيه برقدة ... فما هو ممن راح يشهدُ بالزورِ
فكم لي فيه صعقةٌ موسويةٌ ... وللقلب من تذكاركم دكةُ الطور
تشفعتُ للبين المشتِّ بكم عسى ... يعود هزيمُ القُرب عودةَ منصور
على أن جاه الحظّ أكرمُ شافع ... ولولاه لم يُحتج الى بنت منظور
وما هو إلا الحظ يعترضُ المُنى ... ولولاه كان الدهر أطوعَ مأمورِ
فكم في البرايا بين عانٍ ومطلَقٍ ... وسالٍ ومحزونٍ ودانٍ ومهجور
وليس سوى التسليم لله والرضا ... بقلب منيبٍ طائعٍ غير مقهور
وحاش لعلاّم الخفيات في الورى ... على ما ابتلاني أن أُرى غير مأجور
فكتب هو رحمه الله الجواب:(2/446)
وردت المشرّفة السامية بحُلاها، الزاهية بعلاها، المشتملة على الأبيات الأبيّات، الصادرة عن السجيات السخيّات، التي فاقت الكنديّيْن، وطوت ذكر الطائيين، ما شئت من بدائع إيداع وروائع إبداع، تقف الفصاحةُ عندها وتقْفو البلاغة حدّها، فالله ذلك الفضل الوافي، بل السحر الحلال الشافي، بل تلك القُوى في القوافي، بل تلك المقاصد التي أقصدت المنى في المنافي، بل تلك المعاني التي حيّرت المُعاني، وفعلت في الألباب ما تفعله الثالث والمثاني، بل تلك الأوضاع التي حاك الربيع وشيَها، وامتثل القلم أمرها ونهيها، فهو يصرفها كيف يشاء مرسوماً، ثقة أنها لا تخالف له مرسوماً. لقد آل فضل الكتاب إليها وآلى فصل الخطاب لا وقف إلا بين يديها، لقد صدرت عن رياض الأدب فجنَت زهره اليانع، لقد أخذت بآفاق سماء البلاغة فلها قمراها والنجوم الطوالع، لقد أفحمت قائلة:
مَن يُساجلُني يُساجل ماجداً ... يملأ من آدابه كلَّ ذَنوبِ
لقد حسُنَت حتى كأن محاسناً ... تقسّمها هذا الأنام عيوبُ
هي الشمس تدنو وهي ناءٍ محلّها ... وما كلُ دانٍ للأنام قريبُ
تخطّت الى الحُضْر الجيادَ نباهةً ... وهيهات من ذاك الجناب جنيبُ
وحيّت فأحيت بالأماني متيّماً ... حبيبٌ إليه أن يُلمّ حبيبُ
يذكّرني ذاك الجمال جمالها ... فليلي كما شاء الغرامُ رحيبُ
وما لي إلا أنةٌ بعد أنةٍ ... وما لي إلا زفرةٌ ونحيبُ
حنيناً لعهدٍ غادر القلب رهنه ... وعلّم دمعَ العين كيف يصوبُ
وذكرى خليلٍ لم يغبْ غيرُ شخصه ... وفي كل قلبٍ من هواهُ نصيب
ولولا حديثُ النفس عنه بعودِه ... وأن المنى تدعو به فيجيب
لما استعذب الماء الزلال لأنه ... إذا مازج الماء الزلال يَطيبُ
فبادرها المملوك لبنائها متعرفاً، وبأرحبها متعرفاً، وبولائها متمسكاً وبثنائها متمسكاً، شوقاً إليها لا يبيد ولو عمّر عمر لبيد، واقفاً على آمال اللقاء وقوفَ غيلان بدار ميّة، عاكفاً على أرجاء الرجاء عكوف توبة على حب ليلى الأخيلية، والله يتولاه في حالتيه ظاعناً ومقيماً، ويجعل السّعد له حيث حلّ خديناً والنُجْحَ خَديماً، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
تنوحُ حماماتُ اللوى فأَجيبُ ... ويحضُرُ عندي عائدي فأغيبُ
وقد ملّ فرشُ السّقْم طولَ تقلّقي ... عليه بجنبي إذ تهبُّ جَنوبُ
ولما بكتْ عيني نواكَ تعلّمتْ ... دموعُ السّحاب الغرّ كيف تصوبُ
أيا برقُ إن حاكيتُ قلبي فلم يكن ... لنارِكَ مع هذا الخفوقِ لهيبُ
ويا غيثُ إن ساجلْتَ دمعي فإنه ... يفوتك مع ذا أنةٌ ونحيبُ
ويا غصنَ إن هزّت معاطفك الصّبا ... فما لك قلبٌ بالغرام يذوبُ
إذا جفّ جفني ذاب قلبي أدمُعاً ... فلله قلبٌ عاد وهو قليبُ
أبيتُ بجفنٍ ليس يعرفُ ما الكرى ... وأيُ حياةٍ بالسهاد تطيب
وقلبٍ إذا ما قرّ عادتْهُ لوعةٌ ... فيعروه من بعد القرار وجيبُ
ألا إنّ دهراً قد رماني بصَرفِهِ ... لدَهْرٌ إذا فكرت فيه عجيب
ويكفي أني بين أهلي ومعشري ... وصحبي لبُعدي عن حِماك غريبُ(2/447)
يقبّل الأرض وينهي ورود المثال الذي تصدّق به مولانا منعماً، وأهده خميلةً فكم شفى زهرُها المنعّم من عمى، وبعثه قلادة فكم أزال درّها المنظّم من ظمأ وأقامه حجة، على أن مُرسله يكون في الإحسان والآداب مالكاً ومتمِّماً، فبلَلْتُ برؤيته غلة الظّمأ البَرْح، وعاينت ما شاده من بنيان البيان، فقلت لبلقيس عيني ادخلي الصّرح، وقمت من حقوقه الواجبة عليّ بما يطول فيه الشرح، وتلقّيته بالضمّ الى قلب لا يجبر منه الكسر غير الفتح، وأسمَت ناظري من طرسه في روضهِ الأُنُف، وقسمت حليّه على أعضائي فللجيد القلائد وللفرق التيجان وللأذن الشُنُف، ووردت منهله الصافي والتحفت بظله الضّافي، واجتليت من وجهه بشراً قابله الشُكر بالقلم الحافي، وعكفت منه على كعبة الفضل فلله ما نشر في استلامي وطوى في طوافي، وكلّفت قلبي الطائر جواباً فلم تقوَ القوادم وظهر الخواء في الخوافي، وقلت هذا الفنّ الذي ما له ضريب، وهذا وصل الحبيب البعيد، قد نلته برغم الرقيب القريب:
فيا عينيّ بِيتا في اعتناقٍ ... ويا نومي قدمْتَ على السّلامهْ
وأقسم أن البيان ما نكّب عما دبّجه مولانا ونكّت، ولا أجراه الله على لسانه إلا لما سكّت البلغاء وبكّت، ولا آتاه هذه النقود إلا وقد خلّصت القلوب من رقّ غيره وفكّر، ولا وهبه الله هذه الكلم الجوامع إلا أن الأوائل أحسوا بطول رسائلهم فقطّعوها من حيث رقّت، والصحيح من حيث ركّت، فما كل كاتب يده فم ولسانه فيه قلم، ولا كل متكلم حُش بيانه تأتّم الهداة به كأنه علَم، ولا كل بليغ إذا خاطب الوليّ كلاً أو كلّم العدوّ كلَمْ، لأن مولانا حرسه الله تعالى لا يتكلّف إذا أنشا، ولا يتخلّف إذا وشّى، والسّجع أهون عنده من النفس الذي يردده أو أخف، والدرّ الذي يقذفه من رأس قلمه أكبر من الدرّ الذي في قعر البحر وأشفّ، وإذا راضَ قلمه روّض الطّروس من وقته، وإذا أفاض كلمَهُ فوّض البيان أمر مقته ومِقته، وما كلمُه إلا بحر، والقوافي أمواج، وما قلمه إلا ملك البلاغة فإذا امتطى يده ركضت به من الطّروس على حلل الديباج، فلهذا أخملت رسائله الخمائل، وتعلّمت منها الصّبا لطف الشمائل، وأخذت بآفاق البلاغة فلها قمرها الطوالع ولغيرها نجومها الأوافل، وانتقت أعالي الفضائل، وتركت للناس فضالة الأسافل:
وهذا الحقّ ليس به خفاءٌ ... فدعني من بُنيّات الطريقِ
فأما درّه الذي خرطه الجناس في ذلك السلك فما أحقّه وأولاه بقول ابن سناء الملك:
فذا السّجعُ سجعٌ ليس في النثر مثله ... وهذا جناسٌ ليس يُحسنُهُ الشعر
فلو رأى الميكالي نمطه العالي وتنسّم شذى غاليته العزيز الغالي لقال عطّلت هذه المحاسن حالي الحالي وكنت من قبلها ما أظن اللآلئ إلا لي، ولو ظفر الحظيري بتلك الدّرر حلّى بها تصنيفه، ولو بلغ العماد الكاتب هذه النكت رفعها على عرشه وعوّذها بآية الكرسي، ودخل دار صمته وأغلق باب الفتح القُدسي، فعينُ الله على هذه الكلم التي نفثت في العُقَد، وأيقظت جدّ هذا الفن الذي كان قد رقد، فقد أصاب الناس بالسهام، وأصبْتَ أنت بالقرطاس، وجاؤوا في كلامهم بالذاوي الذابل وجئت أنت بالغضّ اليانع الغِراس، وأبعدت أنت في مَرمى هذا الفن فقاربوا، ولكن أين الناس من هذا الجناس، وسبقت الى الغاية، ولو وقفت ما في وقوفك ساعةً من باس، وقد قيل: بُدئ الشعر بأمير وخُتم بأمير، يريدون امرأ القيس وأبا فراس، وكذا أقول بدئ بالبُستي وخُتم بمولانا، وكلاكما أبو الفتح فصحّ القياس.
وقد أثنيت على تلك الروضة ولو وفّقت لانثنيت وما أثنيت، ووقفتُ عند قدري فما أجبت، ولكن اتّقحت وما استحيَيت، على أني لو وجدت لساناً قائلاً لقلت، فإني قد وجدت أول البيت وقد شغل وصف مثال مولانا عن شكوى حال المملوك الشاقة، وأرجو أنني أوصيها شفاها إما في الدنيا وإما في يوم الحاقة:
إن نعِشْ نلتقي وإلا فما ... أشْغل مَن مات عن جميع الأنامْ
قلت: كأن هذه الخاتمة كانت مني فألاً عليه، فإنا لم نلتق، وحالت المنية بينه وبين الجواب، والمرجو من الحلم الكريم أن يجمعنا في دار كرامته ورحمته.
وأنشدني رحمه الله تعالى من لفظه لنفسه ما كتبه الى ابن عمه:
تمنّاها وما عقدَ التّمائمْ ... وشابُ وحبُها في القلب دائمْ(2/448)
وحكّم لحظها فقضى عليه ... فأين مجيره من جور حاكمْ
وطارحها الغرام به فقالتْ ... علمتُ فقال ماذا فعلُ عالم
معلله المتيّم والغواني ... حبالُ وعودها أبداً رمائم
أما لي في وصالك من نصيب ... ولا لك في عذابي من مساهم
ولا لي ملجأ في الخطب إلا ... سليلُ الملك ذو المنن الجسائم
الى ابنِ أبي الحسين الحُسنُ يُعزى ... وثغر الجود عن جدواه باسم
هُمامٌ بالحروب له اهتمامٌ ... بفتكٍ في العِدا لا في الغنائم
فيُعمل رأيه الماضي شباه ... إذا نبت الأسنّة واللهاذم
ويثبت حيث مُشتجر الغوالي ... ويمضي حيثُ لا يمضي الصوارمْ
ويأمن عنده اللاجي إليه ... ولو حفّتْ بمهجته الضّراغم
ويقصده السليم فلا يُبالي ... بما أعياه من سمّ الأراقمْ
وهي طويلة، وهذا القدر منها كاف.
وأنشدني من لفظه لنفسه غير مرة:
فقري لمعروفك المعروفِ يغنيني ... يا مَن أرجّيه والتقصيرُ يرجيني
إن أوبَقَتْني الخطايا عن مدى شرفٍ ... نجا بإدراكه الناجون من دوني
أو غضّ من أملي ما شاءَ من عملي ... فإنّ لي حسنَ ظن فيك يكفيني
وأنشدني من لفظه لنفسه:
صرفت الناس عن بالي ... فحبلُ ودادهم بالي
وحبلُ الله معتصمي ... به علّقتُ آمالي
ومَن يسلِ الورى طُرّاً ... فإني عنهمُ سالي
فلا وجهي لذي جاهٍ ... ولا ميلي لذي مالِ
وأنشدني من لفظه لنفسه:
عذيري من دهرٍ تصدّى معاتباً ... لمستمنح العُتبى فأقصدَ من قصدْ
رجوتَ به وصلَ الحبيب فعندما ... تبدّى له المعشوقُ قابله الرصَدْ
وأنشدني من لفظه لنفسه ملغزاً في قراقوش:
ظبيٌ من التُرك هضيم الحشا ... مهفهفُ القدّ رشيقُ القوامْ
للطّرفِ من تذكاره عبرةٌ ... والقلب شوقٌ أرّق المُستهامْ
وأنشدني إجازة، ومن خطه نقلت:
إن غضّ من فقرنا قومٌ مُنحوا ... وكل حزبٍ بما أوتوهُ قد فرحوا
إن هم أضاعوا لحفظ المال دينهمُ ... فإنهم خسروا أضعاف ما ربحوا
وأنشدني في لفظه لنفسه:
يا بديع الجمال شُكرُ جمالُكْ ... أن توافي عشّاقه بوصالكْ
لِنتَ عطفاً لهم وقلبُك قاسٍ ... فهم يأخذون من ذا لذلكْ
غير أن الجمال أولى بذا الحُس ... نِ ومَن للبدور مثل كمالك
قابلتْ وجهك السماءُ فشكل ال ... بدر ما في مرآتها من مثالكْ
مثّلتُه لكن رسوم صداها ... كلّفته فقصّرتْ عن مثالِكْ
محمد بن محمد بن يوسف
ابن نصر، صاحب الأندلس أمير المسلمين أبو عبد الله بن الأحمر الخزرجي.
كان ملكاً جميلاً نبيهاً نبيلاً حسن السياسة ظاهر الرياسة، عاقلاً وقوراً، فاضلاً يرسل من ذهنه على صيد المعاني صقوراً، متظاهراً بالدين متجاهراً بقمع الملحدين، له نظم أرق من هبّة نسيم سحَرْ، وأخلب من لحظ غادة إذا رمق وسحر.
وكان قد قرأ العربية على الأستاذ أبي الحسن الأُبّذي وراح وهو على طريقه يحتذي.
ولم يزل على حاله الى أن خانه زمانه، وغدر به سلطانه، فخُلع ثم غُرِّق، ووزع سعده وفُرّق، وذلك في سنة تسع وتسعين وست مئة.
وكان قد بويع السلطان أبو عبد الله بعد والده سنة إحدى وسبعين وست مئة، فتملك ثمانية أعوام، ثم إنه وثب عليه أخوه أبو الجيوش نصر، وظفر به وسجنه مدة، ثم جهّزه الى بلده شلوبينيّة، فحبسه بها الى أن تحرّك على نصر ابنُ أخته الغالب بالله وطلب نصر أخاه المخلوع الى غرناطة فجعله عنده بالحمراء في بيت أخته، ومرض أبو الجيوش نصر، فأغمي عليه ثلاثة أيام، فأحضر الكبراء أخاه ليملّكوه، فلما عوفي أبو الجيوش تعجّب من مجيئه وأخبر فغرّقه خوفاً من شهامته، وكان خلعُهُ وتغريقه في السنة المذكورة.(2/449)
أخذرني من لفظه شيخنا الإمام العلامة أثير الدين قال: رأيته بغرناطة مراراً بالمصلى، وأنشدته قصيدة امتدحته بها، وحضرت عنده إنشاد الشعراء في بعض أعياده، ويُذكر أن له نظماً، وقد اشتهر عنه وهو قوله يخاطب وزيره أبا سلطان عزيز بن علي الداني:
تذكّر عزيز ليالينا ... وأُنسا نعاطي على الفرقدينْ
ونحن ندبّر في مُلكنا ... ونُعطى النُضار بكلتا اليدينْ
وقد طلب الصُلح منا اللعي ... ن فما فاز إلا بخفّي حُنين
إذا ما تُكاثر إرساله ... يكون الجوابُ شبا المرهفين
فلمْ لا تشمّر عن ساعدٍ ... وتضرب بالسيف في المغربين
وقد خدمتنا ملوك الزما ... ن وقد قصدتْنا من العدوتين
فنسأل من ربّنا عونَهُ ... على ما نوينا من الجانبين
ومما ذكر عنه قوله:
أيا ربة الحسن التذي أذهبت نُسكي ... على كل حال أنت لابدّ لي منكِ
فإما بذُلٍ وهو أليقُ بالهوى ... وإما بعزّ وهو أليقُ بالملكِ
انتهى.
قلت: وقد نظمت جوابه كأني حاضره في وزنه ورويّه:
متى لاق بالعُشاق عزٌ وسطوة ... كأنك من ذُل المحبة في شكِّ
تلقَ الهوى مع ما ملكتَ بذلّة ... لتُنظم مع أهل المحبة في سِلكِ
ولكنه ظرّف في كونه قدّم لفظ الذل على العز.
محمد بن محمد بن محمد
ابن محمد بن عبد القادر، الإمام المفتي المدرّس ناصر الدين بن الصايغ الدمشقي.
كان من أعيان الفقهاء وسمع كثيراً ونظر في الرجال، وعني بالمتون، وسمع من القاضي، والمطعّم، وعدة. وكتب عن شيخنا الذهبي. وقال شيخنا عنه: له عبادة وإنابة وتسنّن.
وتوفي رحمه الله تعالى في طاعون دمشق سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وسبع مئة.
كان مدرّس العمادية.
محمد بن محمد بن محمد
الشيخ الفقيه القاضي فخر الدين أبو عبد الله الشافعي المعروف بابن الصقلّي.
ناب في الحكم بالحكر ظاهر القاهرة الى حين وفاته، وصنّف كتاب التنجيز في تصحيح التعجيز وولي قضاء دمياط.
توفي رحمه الله تعالى في أواخر ذي القعدة سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وقد قارب السبعين.
محمد بن محمد بن محمد
ابن خليفة بن نصر الله القاضي الرئيس الفاضل الكاتب أمين الدين ابن القاضي نجيب الدين بن القاضي كمال الدين بن النحاس.
أتقن القلمين إنشاءً وحساباً، وتجاوز غاية الفنين، فإذا دعاهما أجابا، وكان فيه رئاسة تشرّبها قلبه قديماً، وصحب الناس على اختلاف حالتيه خادماً وخديماً.
ولما كان في ديوان الأمير سيف الدين تنكز رأى من العز والوجاهة والصدارة والنباهة ما فاق به أبناء جنسه، وجنى ثمر غرسه، ونفخ في ضرم الكرم، وأبقى من الثناء ما لا انصرف ذكره ولا انصرم. ثم إن الدهر قلب له المجنّ، وأسدف ليلُ خموله وجنّ، وانحرف عليه مخدومه، وغابت من إقباله نجومه، ثم إنه حنّ عليه بعض حنوّ وأسمى قدره بعض سمو.
ولم يزل في عمالة الخزانة معروفاً بالضبط والأمانة الى أن نحّى النحاس عن الحياة أجلُه، ولم ينفعه ريثه ولا عجله.
وتوفي رحمه الله تعالى فجأة يوم الخميس سابع شهر رجب الفرد سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
ومولده في غالب الظن في سنة إحدى وثمانين.
بات ليلة الخميس وأصبح بكرة نهاره، فحكى لبعض أصحابه، قال: رأيت في بارحتي كأني دخلت الحمام ومتّ، وفي البارحة الأولى رأيت مثل ذلك، ثم إنه اشترى لأهله حلوى، لأنه كان ليلة الرغائب، وجهّزها مع أهله الى تربة ولده بالمزة، وقال: أنا العصر عندكم، ثم إنه دخل الحمام وخرج منه، فمات فجأة، وما أذّن العصر إلا وهو عند أهله كما قال، ولكن على النعش.(2/450)
وكان أول أمره قد توجه مع الأمير سيف الدين طقطاي الجمدار الى نيابة الكرك، ثم إنه عاد واستخدمه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى صاحب ديوانه عوضاً عن القاضي محيي الدين، فصال وجال، وكان له ذكر في دمشق وصيت وسمعة الى أن تغيّر عليه بعد مدة فعزله، وأخذ منه بعض شيء، واستمر في إحدى وظيفتيه بديوان الإنشاء، ثم إنه بعد مُدَيدة لزم بيته، وأقام على ذلك مدة. ثم إنه حنّ عليه واستخدمه في نظر دار الطراز، فباشرها مدة، ثم إنه تناقل هو وابن السابق من عمالة الخزانة الى نظر دار الطراز، فاستمر أمين الدين في عمالة الخزانة بقلعة دمشق الى أن توفي رحمه الله تعالى.
ولما كان الأمير علاء الدين الطنبغا بدمشق تحدث له القاضي شهاب الدين بن فضل الله في أن يكون في جملة كتّاب الإنشاء، فرسم له بذلك، وكتب بذلك توقيعه، وعلّم عليه، وطُلب ليباشر فاستعفى من ذلك.
وكان له نظم ونثر لا بأس بهما، من ذلك ما نظمه وكتبه على حسن التوسّل وهو:
فأدركته منها بحسن التوسل
ونقلت من خطه صورة قصة كتبها على لسان قلعة الكرك تسأل أن يكون بها موقّعاً وهي: المملوكة المُملكة الكركية الشاكي على لسان حالها أكبر مصيبة وأعظم لية:
تقبل الأرض لدى مالك ... ساس الأقاليم برأي مصيب
وتشتكي جورَ الزمان الذي ... قد خصها دون الورى بالصليب
وتنهي أنها من أعز الممالك وأصعب المسالك، قلعتها منيعة، وهضبتها رفيعة، وبقعتها وسيعة، وذروتها باسقة وقُلتها شاهقة، وقد اتخذت لها الغمام لثاماً، وزرقة السماء وشاماً، يكاد ساكنها يردُ من المجرة نهرها ويجالس من النجوم زهرها، وهي دار السلطنة الشريفة، ومحلّ الأرمن من الخيفة، قد جمعت بين قرب الأرض المقدسة والشام ومجاورة الأنبياء والبلد الحرام، ومع ذلك كله لسان إنشائها أقلف، وقلم توقيعها من الحجارة أجلف، ووليّه نصراني الدين، وفي ذلك إجحاف بالإسلام والمسلمين، وكانت صابرة على البلوى ومحتسبة عند الله ما تقاسيه من هذه الشكوى، لعدم من تنهي إليه حالها وتبث مقالها، الى أن أعزها الله بعز الدين، ومنحها منه بالرأي الصائب والفتح المبين:
أمير له حزم وعزم وفطنة ... ورأي يجيد العقد والحل صائبه
تردّى بثوب العدل والباس والندى ... كما قال من قد أحكمته تجاربه:
بصير بأعقاب الأمور كأنما ... تغازله من كل أمر عواقبه
فلما حل ساحتها، وأعاد لها بعد التعب راحتها، وأزال عنها كل بوس وأضحك وجوه أملها العبوس، حضر لديه منشئ هذه القصة ومزيل - إن شاء الله - هذه الغصة عبد الأبواب الشريفة محمد بن محمد بن خليفة ممن غذي بالإسلام، ونسب الى أنصار النبي عليه السلام، وهي تسأل توليته ديوان إنشائها، وإن لم يكن لذلك أهلاً، لكنه أحق من هذا الأقلف وأولى، لتكون المملوكة في ذلك كمن اتخذ سداداً من عوز أو تقلّد لعدم الدرّ الخرز:
فإن اقتضت آراءُ مولى قد سما ... بمفاخر ومآثر وبسؤدد
أن يسعف الشاكي إليه برأفه ... تدنيه من آماله والمقصد
فليصرفن هذا اللعين ويغتنم ... إبدالَه لي بطْرُساً بمحمد
ويشرف هذا القلم الذي لا يبارى، وليعمل بقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى " ويسلك هذه الصناعة أحسن مسلك، معتمداً على قوله عز وجل: " ولَعَبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشرك " وينزهها من ذلك كأمثالها من الحصون، آخذاً بقوله حلّ اسمه: " لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّونِ " .
وقد أرسلت المملوكة هذه القصة والسيل بالغ الزبا وخفيف بلله قد عمّ أعالي الربا، فإن أُجيبت فاللوم عداكم، وإلا أنشدت: فعلى علاكم أنهت ذلك إن شاء الله تعالى.
وكنت قد كتبت له توقيعاً بنظر دار الطراز ثالث عشري صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وهو:(2/451)
رسم بالأمر العالي - لا زال يصطفي من كان أميناً ويكتفي بمن تتقلد الأيام من محاسنه عقداً ثميناً، ويحتفي بمن يصبح نور كفايته على مرّ الليالي مُبيناً - أن يرتب المجلس السامي القضائي في كذا.. ركوناً الى كفايته التي يزيد جمالها ويزين، ويعيد جلالها ويعين، ويبيد كل فضل سواها ويبين، ويستحق بمكانتها أن يقال له " إنك اليوم لدينا مكينٌ أمين " إذ هو الخبير الذي إذا قام في أمر سدّه، وتمنى بدرُ التمام لو نال بعض كماله ووده، والفاضل الذي مر الزمان على محاسنه وهي لا تزيد إلا جدّة وجدة، وأعيا تعدادُ فضله أنامل الحُسّاب فما أمسكوا إلا على عدة وعدة، والكاتب الذي وشّى المهارق، عوّذ قلمه وطرسه بالقضيب والبُردة، ورقم ابن مقلة تحت رقم خطه، وشهدت له بالحلاوة شهده، والبليغ الذي إذا قال قال الذي عنده، وأعجلت رويّته القلم فلم تدعه يبلغ ريقه ولا يستريح في مدة مدّه.
فليباشر ذلك مباشرة هي في كفالة معرفته وكفاية خبرته ناظراً فيما يوشي ويوشع، ويلم شمل الحسن في رقمه ويُلمع، متطلباً أعمال الصناعة بإتقانها، وإقامة الحجة في النظر على صحة رقمهم بأدلتها وبرهانها، متطلعاً الى ضبط ما يصرف، وعرفان ما يمكن أن يتوصل الى كيفية إحسانه وكمية أوزانه ويعرف، حتى تكون هذه المباشرة حقيقةً في صحة النظر دون مجازه، وينسى ابن سناء الملك لمحاسنها طراز داره ودار طرازه، فإنه من هذه الوظيفة المباركة قد تسوّغ العذب النّمير، وفُوّض إليه النظر في جمال المأمور والأمير وزينة الكبير، ولا حظّ فيها للصغير، فيقال: والصغير، ينعم نظره منها في نعيم وملك كبير، ويتفاءل منها بسعادة الآخرة فإنه بها في الدنيا في جنة وحرير.
وتقوى الله ملاكُ الأمور فليكن طراز بروده وواسطة عقوده المتحلي بها في صعود سعوده، وليقابل هذه النعمة بشكر يوجب مزيد الخير المستمر والحمد لله الذي يستقل بالأيادي الجزيلة ويستقر، والله يزيده فضلاً من عنده ويوفقه الى ما يرشده الى مظان سعده، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
محمد بن محمود
ابن شمس الدين بن الكويك، التاجر التكريتي.
أقام بدمشق مدة طويلة، ورحل وأقام بالإسكندرية، وصار من تجار الكارم، وكانت له في الإسكندرية صورة مشهورة ومعروف وبرّ.
توفي رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وسبع مئة.
محمد بن محمود بن محمد
ابن بندار، الشيخ بدر الدين التبريزي الشافعي.
كان رجلاً مباركاً معروفاً بالصلاح، ولي القضاء في أماكن متعددة، منها القدس وبعلبك، ثم إنه نُقل من القدس الى بلد الخليل عليه السلام خطيباً، فأقام أشهراً يسيرة.
ومات رحمه الله تعالى في عاشر شوال سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
محمد بن محمود بن ناصر
ابن ابراهيم، الشيخ الفقيه المقرئ المجوّد شمس الدين ابن الشيخ نجم الدين الزّرعي الدمشقي المعروف بابن البصال.
كان مُقرئاً جيداً عارفاً بالقراءات، حسن الصوت، مليح الأداء، أمّ بدار الحديث الأشرفية مدة، وكان الناس يقصدون الصلاة خلفه في التراويح فيمتلئ المكان ويزدحم.
وكان صيّناً ديّناً متواضعاً ظاهر الخير، وتصدّر للإقراء مدة.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة وقد تجاوز الأربعين من عمره.
محمد بن محمود بن سلمان
ابن فهد، القاضي شمس الدين صاحب ديوان الإنشاء بدمشق، وابن شيخنا العلامة شهاب الدين محمود صاحب ديوان الإنشاء بدمشق.
كان ساكناً وادعاً، رادّاً عن الظلم رادعاً، ليس من الشر في شيء وإن هان، ولا عنده كبرٌ ولا له في الملق وجهان. وكان خطه كالقلائد على اللباب، والأزهار إذا كان للنسيم فيها هبات. جمع من إنشاء والده مجاميع، وعلّق أشياء مطابيع:
كأنها من حسنها روضةٌ ... تسرح فيها مُقلةُ الناظر
ولم يزل على حاله الى أن صرعته المنايا، وصدعت شمل حياته الرزايا.
وتوفي رحمه الله تعالى في عاشر شوال سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده ثامن شوال سنة تسع وستين وست مئة.(2/452)
وكان يكتب خطاً نقشاً نغشاً مليحاً الى الغاية، وكان كثير التواضع لم يغيره المنصب، وكان الأمير سيف الذي يحبه ويعزه ويكره، ولما جاء والده رحمه الله تعالى الى دمشق صاحب ديوان الإنشاء كان هو حول والده يكتب المطالعة، هو والقاضي شرف الدين أبو بكر ولده، وقد تقدم ذكره، وكان إذا سافر الأمير سيف الدين تنكز الى الصيود يسافر القاضي شمس الدين معه، وتوجه معه الى الحجاز لعجز الشيخ شهاب الدين والده عن حركة السفر. ولما توفي والده رحمه الله في شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة كتب فيه تنكز الى السلطان فولاه صحابة ديوان الإنشاء بدمشق على عادة والده، ووصل توقيعه...
ولم يزل على حاله الى أن توفي في التاريخ المذكور، فما طالت المدة.
ولما مات رحمه الله تعالى رثاه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة بقصيدة أولها:
أطلق دموعك إن القلب معذورُ ... وإنه بيد الأحزان مأسورُ
وخلّ عينيك يهمي من مدامعها ... درٌ على كاتب الإنشاء منشورُ
يسوءني ويسوء الناس أجمع يا ... بيت البلاغة أن البيت مكسور
في كل يوم برغمي من منازلكم ... ينأى ويذهب محمود ومشكور
خبا الشهاب فقلنا الشمس فاعترضت ... أيدي الردى فزمان الأنس ديجور
آهاً لمنظر شمسٍ لا يُذمّ لها ... بالسعي في فلك العلياء تسيير
منها:
لهفي عليه لأخلاق مهذبة ... سعى الثناء بها والأجر مبرور
تواضعٌ لاسمه منه ازدياد عُلا ... وفي التكبّر للأسماء تصغير
وهمّة بين خُدّام العلا نشأت ... فاللفظ والعرض ريحان وكافور
لا عيب فيه سوى فكر عوائده ... للحمد رقّ وللألفاظ تحرير
حتى إذا لاح مرفوع مدائده ... وراح ذيلُ علاه وهو مجرور
تخيّرته أكفُّ الموت عارفةً ... بنقده وتنقّته المقادير
منها:
والمرء في الأصل فخّار ولا عجب ... أن راح وهو بكف الدهر مكسور
جادت ضريحك شمس الدين سارية ... يمسي صداك لديها وهو مسرور
محمد بن محمود بن معبد
الأمير بدر الدين، أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، وهو أخو الأمير علاء الدين، وقد تقدم ذكره في حرف العين، وأصلهما من بعلبك.
أخذ الأمير بدر الدين هذا العشرة، ثم الطبلخاناه، وكان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى قد تغير عليه لما تغير على ناصر الدين دواداره، ثم رضي عنه بعد ذلك وولاه الصفقة القبلية، وكانت له نعمة طائلة، وأملاك وسعادة.
وكان يحبّ الفضلاء ويكرمهم، وعلى ذهنه تواريخ الناس ووقائعهم، وعنده مجلدات في الأدب وغيره، ولم يكن يقدر أحد يحجّه ولا يخصمه إذا سارعه أو حاكمه، وكان شكلاً طويلاً بطيناً دون أخيه علاء الدين.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع وأربعين وسبع مئة، ودفن الى جانب بيته داخل دمشق.
محمد بن مختار
الفقيه الفاضل شرف الدين الحنفي.
كان جيد الذهن، يعرف الهندسة جيداً، وله يد طولى في الهيئة والحساب، وكان في الأصل صائغاً، فتسلط بالصياغة على معرفة كتاب الحيل لبني موسى وكان يصنع بيده أشياء غريبة ويقدّمها للأمير سيف الدين قجليس الناصري، فراج عنده بذلك، وأخذ له فقاهات في المدارس الحنفية. وكانت له يد في المنطق، وكان يجب الأدب، ولم يكن له فيه يد بل ولا ذوق.
اجتمعت به بقلعة الجبل غير مرة وجرت بيني وبينه مباحث أصولية، وكان يميل الى رأي الفلاسفة، وفيه يقول الشيخ شهاب الدين أحمد العسجدي أبياتاً أنشد فيها، منها أولها:
ليس ابنُ مختار في كفر بمختار ... وإنما كُفره تقليدُ كفّار
محمد بن مسعود
ابن أيوب بن التوزي، بالتاء ثالثة الحروف وبعد الواو زاي، القاضي بدر الدين الحلبي، محدث حمص.
طلب الحديث واجتهد، وخرّج لنفسه أربعين حديثاً عن أربعين شيخاً.
توفي رحمه الله تعالى حادي عشري شهر رمضان سنة خمس وسبع مئة.
ومولده بقلعة حلب سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.(2/453)