كان له مال وثروه، وشيخاً قد بقي على رأي العوام بروه، وفيه خير وإحسان، وفضل أربى به على رب السيف والطيلسان.
عمر الخان بين غباغب والكسوه، وجبر به كل من يمر في الطريق من الرجال والنسوه، وعمر حماماً بحكر السماق معروفاً، وجعله بألسنة الشكر موصوفاً.
وكان فيه معروف وبر، وخير في الظاهر وفي السر.
ولم يزل على حاله إلى أن نزل الخطب بخطاب، وبدل أهله بنكد العيش بعدما طاب.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
خطاب
الصاحب الكبير المحترم، ركن الدين بن الصاحب كمال الدين أحمد بن خطاب الرومي السيواسي.
شيخ كبير له حرمه، وعليه أثار سعادة ونعمه، وله غلمان وأتباع وحفده، وحاله تقتضي التوسع في الحشمة والحفده.
وقف خانقاه ببلد سيواس، ووقف عليها وقوفاً كثيرة من أنواع البر التي تعم الناس.
قدم إلى دمشق، وتوجه إلى الحجاز، فمات رحمه الله تعالى بالكرك، وراح إلى الله تعالى، وترك ما ترك، وذلك في ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبعمئة، وصلي عليه بالجامع الأموي، ودفن عند جعفر الطيار رضي الله عنه.
خطلو شاه
نائب التتار.
كان كافياً كافرا، داهية ماكرا، رفيع المرتبه، لا يبالي بالمعيبة ولا المعتبه.
نزل بالقصر الأبلق في واقعة غازان، وفعل كل ماشان ومازان، وتوجه إليه الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكلمه في الرعية، فتنمر عليه، وأعرض عنه، ولم يلتفت إليه.
وكان مقدم التتار يوم شقحب، فعاد بلا أهل، ولا أهل ولا مرحب. وانهزم خاسئاً، وأصبح مكلوءاً معكوماً بعد أن كان كالماً كالئاً.
وجهزه غازان في جيش كبير من المغل لمحاربة صاحب جبال كيلان، فبيته الملك دوباخ، وبثقوا عليهم الماء في الليل فغرقوا، وأظهروا لهم النيران من كل جانب، وأزعجوهم بالصياح إلى الصباح، فغرق أكثرهم، ورماه دوباج بسهم ما أخطأ حبة قلبه، ودخل عليه الموت بهمزة سلبه. وفي هذه الواقعة قتل الشيخ براق كما تقدم في ترجمته.
وكان هلاك خطلوشاه في سنة سبع وسبع مئة، وفرح غازان بموته، لأنه كان يخافه.
الألقاب والأنساب
الخطيري: الأمير عز الدين أيدمر.
وابن خطير: الأمير بدر الدين أمير مسعود. وأخوه الأمير شرف الدين محمود. وناصر الدين محمد بن مسعود.
خطيب الفيوم: معين الدين أحمد بن أبي بكر.
خطيب مردا: عبد الرحمن بن محمد.
وخطيب القدس: عماد الدين عمر بن عبد الرحيم.
الخطيب بدر الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن.
ابن خطيب بعلبك: محمود بن محمد.
ابن خطيب بيت الآبار: نجيب الدين أحمد بن عمر. وعلاء الدين علي بن عمر. وموفق الدين عمر بن أبي بكر. وموفق الدين محمد بن عمر. وشرف الدين محمد بن داود. والقاضي ضياء الدين يوسف بن أبي بكر.
خلف ابن عبد العزيز
بن محمد بن خلف بن خلف بن عبد العزيز بن محمد، أبو القاسم الكاتب الغافقي القبتوري، بفتح القاف، وسكون الباء الموحدة، وفتح التاء ثالثة الحروف، وسكون الواو، وبعدها راء، الإشبيلي المولد والمنشأ.
قرأ على الأستاذ أبي الحسن الدباج كتاب سيبويه، وقرأ عليه بالسبع، وقرأ الشفاء بسبته على عبد الله بن القاسم الأنصاري. وله إجازة من الرضي بن البرهان، والنجيب بن الصيقل.
وكتب لأمير سبتة، وحدث بتونس عن الغرافي، وحج مرتين.
وكان كاتباً مترسلا، ينثر وينظم، ويكبر الفضلاء، ويعظم، مع الخير والتقوى، وملكة نفسه التي تصبر على المضض وتقوى. جاور بمكة زمانا، وأعطاه الله بالسعادة من ذلك ضمانا.
ولم يزل على حاله إلى أن عد خلف في السلف، وورد موارد التلف.
وتوفي رحمه الله تعالى بالمدينة الشريفة في أوائل سنة أربع وسبع مئة.
أنشدني من لفظه العلامة أثير الدين أبو حيان، قال: أنشدني المذكور لنفسه:
أسيلي الدّمع يا عيني ولكن ... دماً ويقلّ ذلك لي، أسيلي
فكم في الترب من طرفٍ كحيل ... لتربٍ لي ومن خدّ أسيل
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه:
ماذا جنيت على نفسي بما كتبت ... كفي فيا ويح نفسي من أذكى كفّي
ولو يشاء الذي أجرى عليّ بذا ... قضاءه الكفّ عنه كنت ذا كفّ
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه:
واحسرتا لأمور ليس يبلغها ... ما لي وهنّ منى نفسي وآمالي(1/318)
أصبحت كالآل لا جدوى لديّ وما ... آلوت جهداً ولكن جدّي الآل
وأنشدني من لفظه الحافظ فتح الدين بن سيد الناس اليعمري، قال: أنشدني لنفسه بالمدينة:
رجوتك يا رحمن إنّك خير من ... رجاه لغفران الجرائم مرتجي
فرحمتك العظمى التي ليس بابها ... وحاشاك في وجه المسيء بمرتج
قلت: شعر جيد، لكنه متكلف.
خليفة بن علي شاه
الأمير ناصر الدين ابن وزير البلاد القانية.
كان من جملة أمراء الطبلخاناه بدمشق، وممن للأقلام في ذكره مد ومشق. لما قدم الشام أحبه تنكز. وحصل له من خاطره مركز، فكتب إلى السلطان في أمره، وجعله دون الناس الواردين في حجره.
وكان ذا شكالة حسنه، وطلعة يجفو الطرف لأجلها وسنه، جهزه فيما بعد أرغون شاه إلى صفد محل إقطاعه، وحكم على وصوله إلى دمشق بامتناعه، فحضر إليها طلباً لمداواة مرض حصل له في صفد، فأقام بها قليلاً، وسهم المنية قد أصاب شاكلته ونفد، وما حمل ولا رفد.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وكان الأمير ناصر الدين قد وفد إلى الشام صحبة الأمير نجم الدين محمود بن شروين الوزير، فرآه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى فأعجبه شكله، فسأل السلطان أن يكون عنده بدمشق أميراً، فرسم له بذلك، واختص بتنكز ولازمه كثيراً، ولما أمسك تنكز لحق كل من كانت له به خصوصية شواظ من ناره، خلا الأمير ناصر الدين فإن السلطان راعى فيه خاطر أخيه؛ لأنه كان في تلك البلاد مقيماً، وتزوج بابنة الأمير سيف الدين كجكن، وكان يلبسها لبس الخواتين في تلك البلاد، ولما عمر الأمير سيف يلبغا جامعه بدمشق تولى هو شد العمارة، وقصد أن تكون عمارته على زي عمارة تلك البلاد الشرقية، فلما أمسك يلبغا خاف ناصر الدين خليفة أن يؤخذ بجريرته فسلمه الله تعالى.
وكان إقطاعه بصفد، فلما جاء أرغون شاه إلى دمشق جهزه إلى صفد، ورسم له بالإقامة هناك، فحصل له ضعف، وحضر للمداواة بدمشق فتوفي بها، وعمر داراً على نهر بردى، تحت دار الجالق، ووضعها وضع تلك البلاد، وما أظنه كان يخلو من تشيع، والله أعلم.
خليل بن إسماعيل بن نابت
بالنون أولاً: الفقيه المحدث فخر الدين الأنصاري القدسي.
رحل إلى مصر، ولقي المشايخ وكتب، وحصل في الحديث محصولاً جيداً ودأب.
وكان محدث القدس ومفيده، ومبدي فضله ومعيده.
روى عن العز الحراني، وروى عنه ابن الخباز، وكان ينقض في بحثه على الخصم كما ينقض الباز. وكان ذكياً يقظاً نبيهاً، ويزيد على الحديث بأنه كان فقيهاً.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح فما أمسى، وسكن بعد بيته رمساً.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة في شهر ربيع الأول.
درس بالأمجدية وغيرها بالقدس، وكان مفيد القدس.
خليل بن محمد بن سليمان
الشيخ الإمام العدل جمال الدين السملوطي - بالسين المهملة، وبعدها ميم ولام مشددة وواو وطاء مهملة - الشافعي النحوي.
أقرأ النحو بمصر مدة، وكابد في تعليم الطلبة شدة، وكان عدلاً مقبولاً، ولم يكن بالرياسة متبولاً.
ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى من دعاه، وقام به الصارخ ونعاه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، وقد بلغ السبعين، ودفن بباب النصر خارج القاهرة.
خليل ابن الأمير حسام الدين بن البرجمي
بالباء الموحدة، والراء والجيم والميم.
كان له دربة بالأمور والمباشرات، وتغاض عن الشرور والمكاشرات، فتحدث في أيام الملك الناصر في ديوان بشتاك، وعظم في تلك المدة فما نال بسوء ولا يشاك، ولما انفصل بشتاك، تحدث في ديوان الكامل، وخدمه قبل الملك، فحصل له به السرور الشامل.
ثم لما ولي الملك، رسم له بإمرة طبلخاناه، وولاه شد الدواوين، وأركبه رقاب من كانوا له مناوين. ولما خلع الكامل أخذ منه ذلك، وانصرم عنه ما هنالك.
ثم أعطي إمرة عشرة، فما وصلت إلا وقد انفصل أجله، ولم ينفعه تلبثه ولا عجله.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رجب الفرد سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق، بصق دماً يوماً، ومات في الثاني.(1/319)
وكان الملك الكامل قد طلبه وهو سلطان فأعطاه طبلخاناه وشد الدواوين، وأعاد الصاحب علاء الدين بن الحراني إلى نظر الدواوين بدمشق، وجهزه معه، فوصلا إليها في أول ذي الحجة سنة ست وأربعين وسبع مئة.
ولما خلع الكامل انفصل من الإمرة ومن الشد، وبقي بطالاً إلى أن كتب له أرغون شاه بعشرة الأمير بدر الدين صدقة بن الحاج بيدمر فما وصل منشوره حتى مات رحمه الله تعالى.
وكان ممن يتوالى محبة أصحاب الشيخ تقي لدين بن تيميه.
خليل بن كيكلدي العلائي
الشيخ الإمام العلامة الفريد الكامل، جامع شتات الفضائل، المفسر المحدث الفقيه النحوي الأديب المؤرخ الإخباري صلاح الدين الدمشقي الشافعي الأشعري.
كان أعجوبة في علومه الجمه، وفضائله التي لم يكن أمرها على الناس غمه. أتقن التفسير، وعلم من الحديث ما يشهد به له الجم الغفير. وبرع في الفروع والأصول، وأحاط بما في المحصل والمحصول، واستخرج لباب الإعراب، واطلع على أسرار لغة الأعراب، وعلم تراجم أعيان العالم، وعرف وقائع من داهى أو سالم.
وأما نقد الصحيح من الحديث فذاك فن تفرد بخاصته، وشهد له أهل زمانه في أفراده وعامته، وتصانيفه تؤيد هذه الدعاوي، وتعاليقه تحقق له المحاسن، وتنفي عنه المساوي.
أقام بالقدس زماناً، وأنفق فيه من العمر أعواما، واتخذ فيه من الطلبة أعوانا، فهبت له النفخات القدسيه، وصبت له اللمحات الأنسيه.
ولم يزل على حاله بتلك الأرض المقدسه، والرحل التي هي ظلال البركات معرسه، إلى أن فسد من الصلاح تركيبه، ورحل على الرقاب وعلم الحديث جنيبه.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الاثنين ثالث شهر الله المحرم سنة إحدى وستين وسبع مئة.
ومولده في أحد الربيعين سنة أربع وتسعين وست مئة.
سمع صحيح مسلم سنة ثلاث وسبع مئة على الشيخ شرف الدين الفزاري، وكمل عليه ختم القرآن. وسمع البخاري على ابن مشرف سنة أربع. وقرأ العربية وغيرها على الشيخ نجم الدين القحفازي، والفقه والفرائض على الشيخ زكي الدين زكري. وجد في طلب الحديث سنة عشر وسبع مئة. وقرأ بنفسه على القاضي تقي الدين سليمان الحنبلي، وعلى أبي بكر بن عبد الدائم، وعيسى المطعم، وإسماعيل بن مكتوم، وعبد الأحد بن تيمية، والقاسم بن عساكر، وابن عمه إسماعيل، وهذه الطبقة، ومن بعدها. وشيوخه بالسماع نحو سبع مئة شيخ. ومن مسموعاته: الكتب الستة، وغالب دواوين الحديث، وقد علق في مجلد سماه: الفوائد المجموعة في الفرائد المسموعه.(1/320)
ومن تصانيفه: النفحات القدسية، يشتمل على تفسير آيات وأحاديث، مواعيد، وكتاب الأربعين في أعمال المتقين، وكتاب تحفة الرائض بعلوم آيات الفرائض، وبرهان التيسير في عنوان التفسير، وإحكام العنوان لأحكام القرآن، ونزهة السفرة في تفسير خواتم سورة البقرة، والمباحث المختارة في تفسير آية الدية والكفارة، ونظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد، وتحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد، وتفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال، وتحقيق الكلام في نية الصيام، وشفاء المسترشدين في اختلاف المجتهدين، ورفع الاشتباه عن أحكام الإكراه، ونهاية الإحكام لدراية الأحكام، وكتاب الأربعين الكبرى. وله التعاليق الأربعة: الكبرى والوسطى والصغرى والمصرية في اثني عشر مجلداً. وكتاب الأربعين المغنية بعيون فنونها عن المعين في اثني عشر أجزاءاً. والأربعين الآلهية ثلاثة جزءاً، وعوالي مالك بن أنس السباعيات ستة أجزاء، وسداسيات أصحاب سفيان بن عيينة في سبعة أجزاء، والمحاسن المبتكرة، عشرة أجزاء، والمسلسلات ثلاثة أجزاء، وعنبر السحر في آية السحر، وتقرير غاية المدة في تفسير آية العدة، وتفسير مجابي الهصر في تفسير آيتي الخوف والقصر، والفوائد المحققة في تفسير آيتي المحاربة والحرام، وكتاب إيضاح وجوب الإجمال والإحسان في شرح حديث الخصال الواجبة للغير على الإنسان، وشرح القول الحسن في الوصية لمعاذ عند بعثته لليمن، وروض الإيقان في شرح حديث: الطهور شطر الإيمان، جامع التحصيل لأحكام المراسيل، تحقيق ثبوت الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة، كشف النقاب عما روى الشيخان للأصحاب، تفسير حصول السعادة في تقرير شمول الإرادة، تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم، فصل القضاء في أحكام الأداء والقضاء، إبانة الخطوة في قاعدة مد عجوة، رفع الالتباس عن مسائل البناء والغراس، إتمام الفوائد المحصولة في الأدوات الموصولة، الفضول المفيدة في الواو المزيدة، المعاني العارضة لمن الخافضة.
وكان أولاً بزي الأجناد، ثم ترك ذلك، وأقبل على الطالب والاشتغال. وحفظ التنبيه، ومختصر ابن الجاجب، ومقدمتيه في النحو والتصريف، ولباب الأربعين في أصول الدين لسراج الدين الأرموي، وكتاب الإلمام في الأحكام، وعلق عليه حواشي.
ورحل صحبة الشيخ كمال الدين الزملكاني إلى القدس سنة سبع عشرة وسبع مئة.
وسمع من زينب بنت شكر وغيرها. ولازم الشيخ كمال الدين سفراً وحضرا، وعلق عنه كثيراً، وحج معه في سنة عشرين وسبع مئة.
وسمع بمكة من الشيخ رضي الدين الطبري، ولازم القراءة على الشيخ برهان الدين الفزاري في الفقه والأصول مدة سنين، وخرج له مشيخة، وللشيخ تقي الدين قاضي القضة السبكي، وغيره من الأشياخ مشيخات، وولي تدريس الحديث بالناصرية سنة ثماني عشرة وسبع مئة.
ثم إنه درس بالأسدية سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وأذن له الشيخ كمال الدين الزملكاني بالإفتاء سنة أربع وعشرين وسبع مئة. ثم درس بحلقة صاحب حمص سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ثم تولى تدريس المدرسة الصلاحية بالقدس سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وأقام به إلى آخر وقت.
وتولى تدريس مشيخة الحديث بالسيفية تنكز بالقدس.
وحج سنة أربع وأربعين وسبع مئة. وجاور بمكة وعاد في سنة ست وخمسين. وعدت أنا وهو إلى الشام، ورافقته في الطريق، واجتمعت به غير مرة في دمشق والقاهرة والقدس. وأخذت من فوائده في كل علم، وقل أن رأيت مثله في تحقيق ما يقوله في كل فن وتدقيقه.
وكان ممتعاً في أي باب فتح، يحفظ تراجم أهل العصر، ومن قبلهم، وتراجم الناس من المتقدمين، وهو عارف بكل شيء يقوله أو يتكلم فيه.
وأنشدني لنفسه إجازة، ونقلته من خطه:
يا ربّ كم من نعمةٍ ... لك لا أُؤدّي شكرها
أو ليتني فيها الجمي ... ل وذدت عني شرّها
وكفيتني يا ربّ في ... كلّ الأمور أمرّها
ووقيتني عند الشدا ... ئد والحوادث ضرّها
فاغفر ذنوبي كلّها ... إنّي لأرهب وزرها
فهي التي فارقتها ... وأجدت حلماً سترها
وعصيت جهلاً حين لم ... أقدر جحيمك قدرها
والطف بعبدك دائماً ... وقه الخطوب ومكرها
وكان له ذوق كبير في الأدب ونكتة، وعمل كثيراً نظماً ونثراً.(1/321)
وكان فيه كرم زائد، ووجه طلق في تلقي الأصحاب ومن يرد القدس، وترك عليه جملة من الديون بسبب ذلك.
وكتبت إليه وقد ورد إلى دمشق المحروسة في بعض السنين، أظنها سنة تسع وثلاثين وسبع مئة:
أتيت إلى دمشق وقد تشكّت ... إليك لطول بعد وانتزاح
وكانت بعد بعدك في فساد ... وجئت لها ففازت بالصّلاح
وقد أجاز لي بخطه كل ما يجوز له تسميعه. وكان يكتب في الإجازات بيتاً مفرداً، وهو:
أجازهم المسؤول فيه بشرطه ... خليل بن كيكلدي العلائي كاتبه
وهذا مثل ما أكتبه أنا أيضاً في الإجازات، وهو:
أجاز للسائلين ما سألوا ... فيه خليل بن أيبك الصفدي
وكتبت له أنا عدة تواقيع بتدريس المدرسة الصلاحية بالقدس بالشام والقاهرة.
فأول ما كتبت له بذلك بدمشق في سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ونسخته: رسم بالأمر العالي، لا زالت أوامره المطاعة تهدي إلى الأماكن الشريفة صلاحا، وترفع قدر من إذا خطا في طلب العلم الشريف تضع له الملائكة جناحا، أن يرتب المجلس السامي الصلاحي مدرسا بالمدرسة الصلاحية بالقدس الشريف لما اتصف به من العلوم التي أتقنها حفظا، وطرز بإيرادها المحافل، فراقت في القلوب معنىً، وفي الأسماع لفظا، فهو الحبر الذي يفوق البحر بغزارة مواده، والعالم الذي أصبح دم الشهداء بإزاء مداده، إن نقل حكماً فما المزني إلا قطرة من هتانه، أو رجح قولاً فما ابن سريج إذا جاراه من خيل ميدانه، أو ناظر خصماً فما ابن الخطيب ممن يعد في أقرانه، أو استدل محتجاً فما يقطع السيف إلا بدليله وبرهانه، فالماوردي حاوي مناقبه وذكره، وأبو إسحاق صاحب التنبيه على رفعة محله وقدره، قد أضحت به وجوه الأصحاب سافرةً عن الحسن البارع والمنظر الجميل، وأمست طرق المذهب بدروسه واضحة الأمارة، راجحة الدليل، ولذلك ندب لنشر العلم الشريف لذلك القطر الجليل، واستحق لفضله الأقصى أن تكون حضرة القدس مقام الخليل، فليورد من فضله الباهر هناك ما يحيي مذهب ابن إدريس بدرسه، وينشر ميت العلم حتى يكون روحاً في قدسه، وليتعهد الطلبة بالحفظ والبحث، فإنها للعلم كالجناحين، وليقف عندما شرطه الواقف أثابه الله الجنة، فما يفسد أمر وقع بين صلاحين، وتقوى الله تعالى زينة العلم، فليجعلها طراز لبسه، وجمال العلم، فليدخرها لغده الذي يربى في الخير على أمسه، والله تعالى يزيده فضلاً على فضله، وينشر به أعلام العلم الذي يخفق على رؤوس أهله، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وبيني وبينه رحمه الله مجارات ومكابتات وألغاز وغير ذلك، وقد سقت منها جانباً في كتابي ألحان السواجع.
ولما بلغتني وفاته رحمه الله تعالى قلت أرثيه:
يا صاح دعني من حديثك إنّ قلبي في البلاء
أو ما ترى أهل الحديث تسافلوا بعد العلائي
وقلت فيه أيضاً:
العلم بعد صلاح الدين قد فسدا ... والفضل نقصانه قد راح مطّردا
مات الذي كان في علم الحديث إذا ... ما أظلم الشكّ فيه راح متّقدا
ومن يحررّ أسماء الرجال ويد ... ري النقد والنقل والتعليل والسندا
قد شارك الناس في أشياء يفضلهم ... فيها من العلم لا نحصي لها عددا
أما إذا كان في نقد الصحيح من ال ... حديث فهو لهذا الشأن قد قعدا
والفقه ألقاه تدريساً يحرّره ... حتى تجاوز في غاياته الأمدا
وفي الأُصولين أستاذٌ فما أحدٌ ... أراه يقوى لديه لو حكى أُحدا
ستّ وستون عاماً مرّ أكثرها ... في نصرة السنة الغراء مجتهدا
إن أظلمت شبهة من إفك مبتدعٍ ... وقام في دفعها قلت الصباح بدا
أهل الضلالات أرداهم فلم يجدوا ... من دونه في جميع الناس ملتحدا
جاؤوا إليه وكادوا الحقّ فيه وقد ... كادوا يكونون من شرّ له لبدا
فشتت الله من لطف عزائهم ... وحلّ إذ فيهم كلّ ما عقدا
مباحثٌ كلّما التفّ الجلاد من ال ... جدال أو ضاق حربٌ فكّت الزردا(1/322)
سرى إلى غاية ما نالها أحد ... كانت طرائقه نحو العلى قددا
نحوٌ وفقهٌ وتفسير إلى أدب ... قد راح مجموعه المختار منفردا
وفي تراجم أهل العصر حاز يداً ... طولى وكم قد أفاد الناس منه يدا
فليس أدري له مثلاً أنظّره ... ومن يدانيه في شأوٍ فقد بعدا
علمٌ وحلمٌ ومعروفٌ وطيب ثناً ... وحسن سمت ونسك زائد وهدى
تمرّ أوقاته في حفظ سؤدده ... فما رأيت له وقتاً يضيع سدى
يقري الورى جفنات ثم يقرئهم ... مجلداتٍ لمن وافى ومن وفدا
وحين جاور من جور الزمان وقد ... أنضى إلى مكة العيرانة الأُجدا
وكان خير فتى أدّى فرائضه ... في عصره وتردّى الصّبر والجلدا
وكل يوم يزيد البّر في عمل ... منه على أمسه حتى يسرّ غدا
مضى إلى الله محفوفاً برحمته ... حتى يلاقي غدا في الحشر ما وعدا
أكاد من حسن ظني في طريقته ... أني أشاهده في جملة الشهدا
يا بن العلائيّ إني قد قضيتك من ... حق الرثاء الذي أبصرته رشدا
فاذكر أخاك إذا حيّتك نافحةٌ ... من روح ربك أو بلّت لديك صدى
فأنت ضيف عظيم الجود وهو إذا ... ما جاد لم ينس من معروفه أحدا
وقم إلى الله يوم الحشر في دعةٍ ... فأنت عندي معدودٌ من السّعدا
خليل بن أيتمش
الأمير صلاح الدين بن الأمير أيتمش المحمدي، والده تقدم ذكره في مكانه من حرف الهمزة.
وكان هذا صلاح الدين له صورة سبحان من أبدعها، ولو شاء لذهب بالشمس وأطلعها، بديع الجمال، وافر الحسن، يشهد له البدر بالكمال قد تأنى الحسن فيه وتألق، وتملأ القمر بنظره لما رآه فتملق، بقد من أين للغصن تخطره، ونشر من أين لزهر الروض في السحر تعطره، ووجه حلا نظره، وتمنى الأفق لو أنه شمسه أو قمره، وعيون من نفاثات السحر في عقد القلوب، وجفون كم وقع أسد منها في أقلوب، وفم تبسم مرجان شفته عن لآلئ منظومه، ووجنات كأنها بأزاهر الحدائق مرقومه، وشعر يخط في الأرض إذا خطا، ويحسده الغزال إذا عطا، زان بجماله المواكب، وزاحمته الكواكب على حسنه بالمناكب.
فلو قدر البدر كان الذي ... تطلّع ما بين أطواقه
وما أطمع الظبي إن رام أن ... يحاكيه يوماً بأحداقه
بينا هو في أمر صعوده، ومنازل سعوده، إذ أنزله الحمام من حصنه، وبكى الحمام على غصنه وتجرع أبوه كأس فقده المر، وود لو كان بدله في تلك الحفر، فتأسف الناس على شبابه، وبلوا بوبل دموعهم ما جف من ترابه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الأربعاء تاسع شهر رمضان، سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وكان ممن يحبه ويهواه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، ولكنه كان يحب من غير إتيان محرم أو معصية غير النظر.
اللقب والنسب
ابن الخليلي الصاحب فخر الدين عمر بن عبد العزيز، وولده شرف الدين عبد الرحمن.
خوبي
بضم الخاء المعجمة، وسكون الواو، وبعدها باء موحدة وياء آخر الحروف.
كانت جارية الأمير سيفا الدين بكتمر الساقي، اشتراها بعشرة آلاف دينار مصرية، كانت مغنية عواده، بادية الحسن والطرب عواده، لم يكن دخل مصر لها نظير، ولا غنى الحمام على مثل قدها النضير، اشتراها وهام في هواها، وسكنها في داره على بركة الفيل التي ما اقتنى أحد مثلها ولا حواها، إذا جست أوتارها أخذت من القلوب أوتارها، وجرى من لطف أناملها الماء في العود، وقيل: هذا البدر في السعود. فإذا غنت أغنت عن الأطيار، وإذا عنت عنت قلوب البررة الأخيار.
ثم إنها نقلت بعده إلى ملك بشتاك، وزن فيها ستة آلاف دينار، ودخل معها قماش وحلي، وغير ذلك بعشرة آلاف دينار، ثم إنه وهبها لمملوكه ألطنبغا فيمن أظن، وهنا آخر علمي بأمرها.(1/323)
ولما اشتراها بكتمر الساقي بلغ أمرها امرأته أم أمير أحمد، فقالت له: أريد أنزل إلى دارك التي على البركة لأتفرج هناك، فعلم المقصود، فنزل إلى خوبي وقال لها: الست إذا جاءت إلى هنا اجلسي على يديها والعود في حجرك، واضربي قدامها، وغني لها نوبة مطربة، فلما نزلت ودخلت الدار أول ما توجهت إلى الشباك المطل على البركة، واشتغلت ساعة، ثم التفتت بعد ذلك إلى جهة جواريها، فرأت جارية تركية بيضاء، وجميع ما عليها أبيض مصقول من غير زركش ولا حلي ولا مصاغ فأنكرت ذلك، وقالت: من هي هذه ؟ فباست الأرض وقعدت، ووضعت العود في حجرها، وقالت: دستور، وغنت نوبة كاملة مطربة، فقالت الست: من هي هذه ؟ فقالوا: هذه جارية الأمير. فقالت: هذه خوشداشتي، ثم أخذت بيدها، وأجلستها إلى جانبها وأحضرت لها بدلة كاملة بطرز زركش وباولي وزركش، وحلياً ومصاغاً مما هو يجمله، وقالت لمن يثق إليها: والله لما قالوا اشترى الأمير جارية بعشرة آلاف دينار وسكنها في داره على البركة، ظننت أنها تكون مثلي في الحشم والخدم والجواري والملبوس. ثم إنها طلعت بعد ذلك إلى القلعة ولم تنكر من أمرها شيئاً، واطمأنت نفسها إلى ذلك.
قلت: ضعيفان يغلبان قوياً، لأن بكتمر الساقي رحمه الله تعالى تداهى فيما قاله لخوبي، وزادت هي في الدهاء عليه، فما حصل لهما بذلك إلا خير.
ولما توفي بكتمر الساقي رحمه الله تعالى في طريق الحجاز قال السلطان: والكم أول ما تصلون القاهرة احترزوا على عود خوبي، فإنها أول ما تسمع خبر بكتمر تكسر عودها. وكان الأمر كما قال، فقيل: إنها أول ما بلغها ذلك قبل وصول السلطان كسرت عودها. وغضب السلطان عليها، وأباعها لبشتاك بستة آلاف دينار، ولكنها لم تقع من قلب بشتاك بموقع.
اللقب والنسب
ابن خواجا إمام محمد بن عمر ابن أبي الخوف أحمد بن محمد ابن الخيمي مجد الدين إبراهيم بن علي ابن الخلاطي الكاتب محمد بن نجيب
حرف الدال
الألقاب والأنساب
الداراني القاضي صدر الدين
سليمان بن هلال.
دانيال بن منكلي بن صرفا
القاضي ضياء الدين أبو الفضل التركماني، القاضي بالشوبك.
سمع بالكرك من ابن اللتي. وقرأ القراءات على السخاوي بدمشق، وسمع من كريمة، ومن جماعة. وسمع ببغداد من ابن الخازن وعبد الله بن عمر بن النخال، وهبة الله بن الدوامي وإبراهيم بن الخير. وبحلب من ابن خليل. وبمصر من يوسف الساوي وابن الجميزي.
وولي قضاء الشوبك مدة. وولي القضاء بأماكن. وخرج له علاء الدين علي بن بلبان مشيخةً قرأها عليه شرف الدين الفزاري. وخرج له ابن جعوان أربعين حديثاً.
وسمع منه المزي والبرزالي.
وكان شيخاً متميزا، سكن من الوقار حيزا، شكله تام، وفضله في العلم عام، قد تنقل في الولايات، وحكم في عدة جهات.
ولم يزل على حاله إلى أن أمسى الموت في دانيال دانيا، وطرف الحمام إليه رانيا.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ست وتسعين وست مئة بالشوبك.
ومولده سنة سبع عشرة وست مئة.
داود بن إبراهيم بن داود الشافعي
سمع من الشيخ شمس الدين بن أبي عمر وابن البخاري وغيرهما.
وأجاز لي بخطه في سنة ثلاثين وسبع مئة.
داود بن أسد
الأمير بهاء الدين القيمري.
كان من رجال الدهر في السعي والتقدم، وأهل الزمان في التوصل إلى خراب بيوت أعاديه والتهدم، إلا أنه لا يدوم له حال، ولا تثبت له قدم، حتى يرميه الدهر بالانتقاد والانتقال.
ولم يزل بين هبوط وصعود، ونحوس وسعود، ومباشرة أملاك وعمائر، ونصب دلالات وأمائر، حتى قمر الدهر من القيمري عمره، وأنفذ الحمام فيه أمره.
وورد الخبر إلى دمشق بوفاته في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وسبع مئة.(1/324)
أول ما عرفت من حاله أنه تعلق على الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب الشام لما كان بغزة، وخدمه. ولما نقل إلى نيابة الشام حضر معه إلى دمشق، ولم يزل يسعى إلى أن حصل إمره عشرة بغزة، ثم صار يتعلق على واحد بعد واحد ممن يظهر في كل دولة بالديار المصرية واحداً بعد واحد، إلى أن أعطي في وقت إمرة طبلخاناه، وهو يجتهد في التقرب إلى خواطر الأمراء بالضمانات والزراعات والتجارات، إلى أن تعلق أخيراً على الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي، كل هذا وهو في غزة.
ولما حضر السلطان الملك المنصور محمد في واقعة بيدمر حضر في ركاب الأمير سيف الدين يلبغا فأعطي إمرة طبلخاناه بالشام، فأقام بدمشق قليلاً، وتوجه إلى بلاده بغزة، فأقام هناك، وفي الساحل وفي نابلس فوق الشهرين إلى أن وصل الخبر بوفاته رحمه الله تعالى.
وكان قد ولي في وقت نظر القدس الشريف، وبلد سيدنا الخليل عليه السلام. وكان قد تعلل في نابلس وأمر أن يحمل إلى القدس، فحمل على باب، وأظنه مات هناك.
وقيل: إنه خلف ثماني مئة ألف درهم.
داود بن أبي بكر بن محمد
الأمير نجم الدين بن الزيبق، بالزاي والياء آخر الحروف، والباء الموحدة وبعدها قاف.
كان من رجال المباشرات وأولي الدربة في الولايات. إذا تولى جهة أصلحها بالسياسه، وصال على أهلها بالصرامة والنفاسه، وله في دسته العبسه، والمهابة الزائدة في الجلسه، يطرق ولا يطرف، ويعرف أشياء، ويري أنه ما يعرف.
اشتهرت حرمته في البلاد، وعلم أنه صاحب جدال وجلاد، وإذا ذكر اسمه للمفسد ود أنه لم يخلق، ورأى أنه يموت ولا يرى ابن الزيبق، هذا إلى لطف وحسن أدب، إذا خلا بأصحابه، ومن يأنس إليه من إخوانه وأترابه. وكان يرعى صاحبه ولا ينساه، ويخدم الناس، ولو دب على المنساه.
تنقل في ولايات الشام ومصر سنين، وقمع الله به جماعةً من المفسدين.
ولم يزل على حاله إلى أن غرب من عمره نجمه، ومحي في رمسه رسمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس شهر رجب الفرد سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ودفن بالصالحية عند تربة الشياح.
أخذ العشرة، وباشر في أيام سلار خاص الساحل والجبل، ثم باشر خاص القبلية، وبعد ذلك باشر الخاص بدمشق عوضاً عن الأمير سيف الدين بكتمر، ثم باشر شد الديوان بحمص، ثم باشر شد الأوقاف بدمشق، ثم تولى جبل نابلس، ثم إنه نقل إلى شد الدواوين بدمشق عوضاً عن الأمير بدر الدين بن الخشاب في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ثم باشر شد غزة والساحل والجبل. وشكر للسلطان الملك الناصر فطلبه إلى مصر وولاه ولاية مصر وشد الجهات والصناعة والأهراء، وأعطاه طلبخاناه، ولم يداخل القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص، وراج عليه الأمير علاء الدين علي بن المرواني، وداخل النشو، فكانا إذا حضرا عنده ينبسط ابن المرواني مع من يكون حاضرا، ويندب وينشرح ونجم الدين الزيبق في تصميم وإطراق، أو يري أنه ناعس، إلى أن رأى النشو أنه ما يدخل معه في دائرته، فاتفق مع الأمير سيف الدين مكلتمر الحجازي، وأحضر من شكا منه في يوم دار عدل، فعزله السلطان، وأمر بإخراجه إلى دمشق إكراماً للأمير سيف الدين تنكز في يومه ذاك، فعاد إلى دمشق، فولاه تنكز شد الأوقاف والخاص، إلى أن جرت واقعة النصارى في نوبة الحريق بالجامع الأموي، فسلمهم الأمير تنكز إليه، فتولى عقابهم وتقريرهم، واستخرج أموالهم وتسميرهم على الجمال وتوسيطهم وحريقهم.
وجرت عقيب هذه الواقعة كائنة تنكز وإمساكه، فأمسك الأمير نجم الدين في جملة من أمسك لأجله، ثم أفرج عنه. وتولى نابلس في أيام الأمير علاء الدين أيدغمش، ثم عزل وتولى بر دمشق في أيام الأمير سيف الدين طقزتمر.
ثم طلب إلى مصر في أيام الصالح إسماعيل، وتولى شد الخاص المرتجع عن العربان بالشام وصفد وحمص وحماة وطرابلس. وأقام كذلك ولده شجاع الدين أبو بكر نائبه في ولاية البر بدمشق إلى أوائل أيام الأمير سيفي الدين يلبغا، فتوجه على الخاص إلى مصر، وتولى بمصر شد الجيزية، وكان بها كاشفاً ومشدا.(1/325)
ولما أمسك يلبغا وأقاربه ومن كان تسحب معه حضر الأمير نجم الدين هو والصاحب علاء الدين بن الحراني والأمير عز الدين أيدمر الزراق للحوطة على موجود المذكورين وإقطاعاتهم، وجعل الأمير شمس الدين آقسنقر أمير جاندار يتحدث معهم. وكان قد عين للأمير نجم الدين إقطاع طبلخاناه لتجهز إليه إلى الشام، فاعتل قريباً من جمعة، ومات رحمه الله تعالى.
ومن حسن سياسته أنه تولى نابلس في أيام تنكز فقتل فيهم، وأراق دماءهم، وبعد ذلك نقل عنهم وولي شد دواوين دمشق. وغضب عليه تنكز وأمسكه، وطلب منه مئة ألف درهم، فحضر أكابر أهل نابلس، فقالوا: نحن نزنها عنه، ويعاد إلينا والياً، فكان ذلك من أسباب الرضى عنه.
وكنت قد كتبت له توقيعاً بشد الخاص بدمشق في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وكان ذلك عقيب قدومه من مصر إلى الشام، وهو: الحمد لله الذي جعل نجم الدين في آفاق السعادة طالعا، وسيره في منازل السيادة حتى كان الحكم بشرفه قاطعا، وقدر له الخير في حركاته وسكناته مستقيماً وراجعا، وأبرزه في هذه الدولة القاهرة لشمل مسراتها جامعا، نحمده على نعمه التي قربت من نأى بعد انتزاحه، وأعادته إلى وطنه الذي طالما شام التماع برقه في الدجى بالتماحه، وجبلته على إشارة دون كل قطر تبسم روضه بثغر أقاحين وما قلنا أقاحه، وخصته بمباشرة خاص تأتى له وتأتي البركات فيه على اقتراحه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نزل إثبات التوحيد في أبياتها، ووجدت النفوس لذاتها بإدمانها لذاتها، ومد الإيمان أيدي جناتها إلى ثمار جناتها، وأوصل الإيقان راحات قاطفيها إلى راحاتها.
ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بعثه الله إلى الخاص والعام، وأورثه من خزائن جوده فريد الإفضال ومزايا الإنعام، وحببه إلى قوم هم أنس الإنس، وجنبه قوماً " إنْ هُم إلاّ كالأنعامِ " وأيده بالكرامة، وأمده بالكرم ونصره بالملائكة الكرام. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سدوا ما ولاهم، وسادوا من والاهم، وشادوا مجد هذه الأمة فهم أولادهم فيه وبه أولاهم، ووعدوا على ما اتبعوا جنةً دعواهم فيها: سبحانك اللهم، صلاةً يتضوع من نشرها شذاهم، وتكفي من اتبعهم شر أهل البدع وتقيه إذا هم أذاهم، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد: فلما كانت وظيفة شد الخاص الشريف بدومة وداريا من أجل الوظائف، وأنفس المناصب التي كم أمها عاف وراقها عائف، وأشرف المباشرات التي من دونها بيض الصفائح لا سود الصحائف، يحتاج من باشرها إلى أن يكون ممن علت هممه، وغلت قيمه، وشكرت شيمه، حتى تفيض على العام من الخاص نعمه، وتدر بداريا دروه، وتدوم على دومة ديمه.
وكان المجلس السامي الأميري النجمي داود بن الزيبق الناصري ممن تهادته الممالك الإسلامية شاماً ومصرا، وحاز نوعي الثنا مداً وقصرا، وفات البلغاء من الحصر وصفه حصرا، وطرف عيناً ترون العين، ووضع عن الغلال أغلالاً وإصرا. طلع في كل أفق، ولا غرو، فهو النجم، وأقام على من خطف الخطفة من رصد حفظه كوكب رجم، وصلب عوده على من أراد امتحان بأسه بغمز أو اختبار لينه بعجم، وانتقل من جنة دمشق إلى مجاورة النيل وهو نهر الجنه، وعاد إلى وطنه ومصر مصرة على محبته، فأشواقها في سموم هوائها مستجنه، وحسنت مباشرته في كل قطر محدود، وباتت مخازيم سؤدده وسدادها مسدود، وأضحى وعمل عمله ليس لناظر فيه مخرج، ولا دون فضله باب مردود، وأطربت مناقبه حتى قال الناس: هذه مزامير داود.
فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أن يفوض إليه كذا، فليباشر ذلك مباشرةً تشخص لها عيون الأعيان، ويتعلم الكتاب منها تثمير أقلام الديوان، والأبطال تدبير عوالي المران، مجتهداً فيما يدبره، معتمداً على حسن النظر فيما ينبه عليه أو يثمره، فما ندب لذلك إلا لحسن الظن بسياسته، ولا عين لهذه الوظيفة إلا لجميل المعرفة بما جرب بين سؤدده ورياسته، ومثله لا ينبه على مصلحة يبديها، أو منفعة يعلنها أو يعليها، أو فائدة يهديها أو يهديها، أو كلمة اجتهاد لا يملها من يأخذها عنه أو يستمليها.(1/326)
وهو بحمد الله تعالى غني عن إطراء من يمدحه من الغاوين، أو يزهره له بشد هذا الديوان، فقد باشر قبله شد الدواوين، فلا يبذل للناس غير ما ألفوه من سجاياه الحسان في الإحسان، ولا يطو بشره عنهم، فمن رآه لم يكن معه محتاجاً إلى بستان، ولا يعامل الرفاق إلا بالرفق، فإن " كلّ مَنْ عليها فان " ، والتقوى ملاك الوصايا فليجعلها له نجيا، وقوام الأمور فلا يتخذها ظهريا، وسداد كل عوز فمن رامها " تمثّل لها بشراً سويّاً " ، والله تعالى يتولاه فيما ولاه، ويزيده من فضله الأوفى على ما أولاه، والخط الكريم أعلاه الله تعال أعلاه، حجة على ثبوت العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى.
؟داود بن الحسن بن منصور
علم الدين بن سواق.
قرأ الفقه على بهاء الدين هبة الله القفطي، وتأدب على أبيه، وقد مر ذكره في حرف الحاء.
كان شاعراً مطبوعا، محمولاً على اللطف موضوعا، خفيف الروح، لا تندمل له من اللهو قروح.
ولم يزل على حاله إلى أن نزل الأمر الذي هو لقبض النفوس تواق، وساق ابن سواق إلى القبر سواق.
وتوفي في حياة والده رحمه الله تعالى سنة ست وسبع مئة. وأورث أباه داءً عظيما، وقال من حزنه: يا ليت الفتى أضحى عقيما.
ومما قال أبوه في رثائه:
مصابك يا داود ليس يهون ... فقد أنبعت فيك العيون عيون
ورثاه محمد بن الحكم بقصيدة منها:
قصدت ربع بني سوّاق مبتغيا ... حجّاً فخبت لأنّي لم أر العلما
ومن شعره علم الدين يمدح طقصبا والي قوص:
لاح برق من الخبا ... إنّ هذا له نبا
وتنشّقت نسمة ... طرقتني مع الصّبا
همت لمّا شممتها ... وفؤادي لها صبا
وسرى النشر في الورى ... عمّ شرقاً ومغربا
هذه دولة الرضا ... وبلها جاء صيّبا
جئت بالحق ناطقاً ... لست يا برق خلّبا
إنما أنت بارقٌ ... لاح من وجه طقصبا
سيف دين مجرّدٌ ... ضيغمٌ ضمّه قبا
عفوه وانتقامه ... قرن الذيب والظّبا
وغدا طوع أمره ... أسمر الخطّ والظبى
قلت: شعر عذب منسجم.
داود بن محمد
ابن أبي القاسم بن أحمد بن محمد: الأمير الرئيس الجليل عماد الدين ابن الأمير بدر الدين الهكاري.
سمع من ابن اللتي، وحامد بن أبي العميد القزويني، والزكي البرزالي، وابن رواحة، وابن خليل، وابن قميرة بحلب، والتاج بن أبي جعفر بدمشق، وعمار بن منيع بحران، وعبد الغني بن بنين بمصر.
كان فاضلاً نبيلا، عاقلاً جليلا، تولى نيابة قلعة جعبر في أيام الناصر، وكان في تلك الدولة ممن تعقد عليه الخناصر.
ولم يزل يركب ويتصيد، ويتصدى للحركات ولا يتقيد، إلى أن حان مقدوره، وآن نزوله في القبر وحدوره.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة.
ومولده سنة تسع وست مئة.
وحدث بدمشق والقدس.
داود بن مروان بن داود
الفقيه الإمام القاضي نجم الدين أبو سليمان الملطي الحنفي.
كان شيخاً كبيراً من أعيان الحنفية، درس بعدة مدارس، وتولى قضاء العسكر. وكان يقدم إلى دمشق، ويحكم فيها نيابةً عن قاضي القضاة حسام الدين أيام إقامته.
وكان فيه مروءة وتعصب.
توفي رحمه الله تعالى ثالث شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة وسبع مئة.
داود بن يوسف بن عمر
رسول الملك المؤيد هزبر الدين بن الملك المظفر التركماني صاحب اليمن.
بحث التنبيه، وحفظ كفاية المتحفظ، ومقدمة ابن بابشاذ، وسمع من المحب الطبري وغيره.
كان قد تفنن في العلوم، وأخذ بكل طرف من الفضائل والفهوم.
وسمع الناس بميله إلى الأفاضل، فجاؤوه من كل قطر بعيد، واعتدوا للدهر يوم لقائه بعيد، وانثالوا عليه من كل فج، وأموا كعبة جوده بالحج. وأحسن إلى الواردين، وأجمل إلى القاصدين، وهاجر إليه أرباب الصنائع، وأودع عندهم الأيادي والصنائع، وجلب إليه نفائس الأصناف، وأنصف أربابها في العوض عنها غاية الإنصاف، جهزت إليه نسخة بالأغاني الكبير في مجلدة واحدة بخط ياقوت، فوزن فيها مبلغ خمسة آلاف درهم، واشتملت خزائنه على مئة ألف مجلد.
وكان يحب أهل الخير، ويزور الصالحين، وكانت أيامه كثيرة الخير.(1/327)
قيل: إن عز الدين الكولمي ورد عليه، ومعه من الحرير والمسك والصيني ما أدى عنه ثلاث مئة ألف درهم. وأنشأ قصراً عديم المثل بديع الحسن.
ولما مات رحمه الله تعالى اضطرب أمر اليمن مدة، وتمكن الملك الظاهر بن الملك المنصور، وقبضوا على المجاهد بن المؤيد، ثم مات المنصور، وكان دينا رحيما.
ثم ثار أمراء مع المجاهد، فاستولى على قلعة تعز، ثم قوي أمره، وجرى على الرعايا من النهب وافتضاض الأبكار كل سوء، ودام الحرب بين الظاهر والمجاهد، وآل الأمر إلى أن استقل الظاهر، وبقيت تعز بيد المجاهد، فحوصر مدة، وخربت لذلك تعز خراباً لا يستدرك، ثم إن المجاهد تمكن وأباد أضداده.
ولم يزل المؤيد هزبر الدين في أرغد عيش مدة نيف وعشرين سنة، لأنه ملك بعد أخيه الأشرف سنة ست وتسعين، وبقي في ملك اليمن إلى أن خذل بالموت المؤيد، وأنزله من قصره إلى قبر تشيد.
ووفاته رحمه الله تعالى في ثاني ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، ودفن عند قبر أخيه بالمدرسة.
وقال تاج الدين عبد الباقي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى يمدحه، وقد ركب فيلاً، ونقلته من خطه:
الله أولاك يا داود مكرمةً ... ورتبةً ما أتاها قبل سلطان
ركبت فيلاً وظل الفيل ذا رهجٍ ... مستبشراً وهو بالسلطان فرحان
لك الإله أذلّ الوحش أجمعه ... هل أنت داود فينا أم سليمان
وقال يمدحه وقد بنى القصر، ومن خطه نقلت:
يا ناظم الشّعر في نعم ونعمان ... وذاكر العهد من لبنى ولبنان
ومعمل الفكر في ليلى وليلتها ... بالسفح من عقدات الضال والبان
قصرٌ فبالعلو من وادي زبيد علا ... عالي المنار عظيم القدر والشان
به التغزّل أحلى ما يرى بهجاً ... فدع حديث لييلات بعسفان
قصرٌ بناه هزبر الدّين مفتخرا ... وشاد ذلك بانٍ أيّما بان
هذا الخورنق بل هذا السدير أتى ... في عصر داود لا في عصر نعمان
فقف براحته تنظر لها عجباً ... كم راحة هطلت منه بإحسان
أنسى بإيوانه كسرى فلا خبرٌ ... من بعد ذلك عن كسرى لإيوان
سامى النجوم علاءً فهي راجعةٌ ... عن السّموّ لإيوان ابن حسّان
تودّ فيه الثريا لو بدت سرجاً ... مثل الثريا به في بعض أركان
يحفّه دوح زهر كلّه عجبٌ ... كم فيه من فنن زاهٍ وأفنان
الألقاب والأنساب
ابن الدباهي الحنبلي: محمد بن أحمد.
الدبابيسي: مسند القاهرة يونس بن إبراهيم.
درباس بن يوسف بن درباس
الأمير الكبير حسام الدين الحميدي.
كان بدمشق حاجبا، وشكره واجبا، لأنه باشر الحجوبية، وشد الأوقاف، فأثنى عليه حتى الحمائم على فروع الأراك فوق الأحقاف.
وكان ذا هيئة وشكاله، ورئاسة وحشمة وجلاله، فصيح اللسان، مليح البيان، شعره والدر سواء في القيمه، وكلامه لانسجامه كأنه صوب الديمه.
لم يزل بدمشق على حاله إلى أن أثارت له المنون حربا، وسدت على ابن درباس من الحياة دربا.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر الله المحرم سنة عشر وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة.
وكان أولاً بصفد فهام بحبها، وألف بها، ثم إنه نقل إلى دمشق، وأعطي إمرة الطبلخاناه والتقدم والوجاهة، وهو يتشوق إلى صفد، ويتذكر أوقات أنسه، وإذا رأى أحداً من أهلها مال إليه وصبا، وشم فيه أرج ما قطعه هناك في زمن الصبا. ونظم في حنينه إليها أشعاراً، وغنى بها الناس.
من ذلك:
يا صاحبي إن شئت توليني منن
عرّج على صفدٍ فلي فيها شجن
وبها أحبائي وأهلي والوطن
وهم أعزّ من روحي ومن ... أهواهم في السرّ والإعلان
كم ليلة قد بتّ في ساحاتها
أجني ثمار اللهو من وجناتها
وأجرّ ذيل صباي في عرصاتها
هل راجعٌ ما فات من لذاتها ... أترى يعود لنا زمانٌ ثان
الألقاب والألقاب(1/328)
ابن دقيق العيد: تاج الدين أحمد بن علي. وعز الدين عامر بن محمد بن علي. وطلحة بن محمد بن علي. ومحب الدين علي بن محمد. وجلال الدين محمد بن عثمان. والشيخ تقي الدين محمد بن علي. وكمال الدين محمد بن محمد بن علي.
الدقوقي: المحدث محمود بن علي.
الدكالي الصوفي: اسمه عثمان.
الدشتي: شهاب الدين أحمد بن محمد.
الدشناوي: بدر الدين زكري بن يحيى. وتاج الدين محمد بن أحمد.
ابن درباس: فخر الدين عثمان بن محمد.
ابن الدريهم: علي بن محمد بن عبد العزيز.
دلشاذ
بالدال المهملة واللام الساكنة وبعدها شين معجمة، وألف وذال معجمة: بنت دمشق خواجا بن جوبان، الخاتون زوج النوين، الشيخ حسن الكبير حاكم بغداد، تزوجها بعد عمتها الخاتون بغداد.
كانت ذا حظوة عند بعلها، وكان لها أطوع من نعلها، لجمالها الذي فتنه، وحكم على قلبه بشجنه لما شحنه غراما وسجنه، فكانت هي الحاكمة في مملكة العراق، والآمرة في كل شيء من القطع والوصل والدنو والفراق، لا يخالفها أحد، ولا يحالفها من يكون له من دونها ملتحد، تكتب إلى نواب الشام بما تريد، وتجهز الأولاق في أشغالها وتعود رسلها على البريد، ويطلب نواب الشام منها ما يحاولونه من المهمات، ويدفعون لها ما يخشونه من الملمات. ورأيت اسمها في الكتب التي ترد عنها بالمغرة العراقية، وهو كتابة عظيمة، والظاهر أنه كتب عنها بأمرها، بخلاف خط الكتاب بنفسه، وهذا إن كان بيدها فهو أمر عظيم، وإن كان بأمرها فهو أيضاً كبر همة، كونه يكون بخط قوي جيداً، وكانت تميل إلى الغرباء وتحسن إليهم.
ولم تزل على حالها إلى أن كسفت من وجهها الشمس، وانطبقت عليها سحابة الرمس.
وتوفيت رحمها الله تعالى في ثاني القعدة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، ونقلت من بغداد إلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ودفنت هناك.
وقيل: إن زوجها سقاها سماً؛ لأنه اتهمها بالميل إلى ابن عمها الأشرف بن تمرتاش، وذلك لأنه صادر جميع نوابها بعد موتها ومن كان من جهتها.
دلنجي
بكسر الدال المهملة وفتح اللام وسكون النون، وبعدها جيم وياء آخر الحروف: الأمير سيف الدين ابن أخت الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا.
وكان قد أقام بمصر أميراً مده، ولسيف عزمه مضاء وحده، وأخرج لنيابة غزه، وصار لها به شرف باذخ وعزه، لأنه كتب له بها عن السلطان: نائب السلطنة بغزة، ولم يكتب لأحد غيره بعد الجاولي حتى ولا للأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب ودمشق، وأضيف له الحديث في نابلس، وهذه ميزة أخرى، ولم يكن لأحد من دمشق في غزة ولا في نابلس ولا في الساحل حديث البتة.
ولم يزل على حاله إلى أن دلي دلنجي في قبره، وراح إلى عالم نجواه وسره.
ولما جرى للأمير سيف الدين بلجك الناصري في غزة مع العربان ما جرى، ورد بعده الأمير سيف الدين دلنجي، وكان وصوله إليها في أوائل شهر جمادى الآخرة سنة خمسين وسبع مئة، وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة رابع عشر جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
وقاسى في نيابته شدائد من عرب جرم وموقع، وجرت بينهم حروب وجراح، وقتل عدة من أمراء غزة، وتولى النيابة بعده الأمير فارس الدين ألبكي.
دمرخان بن قرمان
الأمير نجم الدين.
كان في مصر أمير مئة مقدم ألف، وحضر إلى دمشق كذلك.
أقام بدمشق إلى أن توفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
الألقاب والألقاب
الدهلي: نجم الدين سعيد بن عبد الله.
دوباج بن قطلي شاه
ابن رستم بن عبد الله، الملك شمس الدين أبو العز بن الملك بن الملك صاحب كيلان.
كان فارساً بطلا، لا يقبل في الإقدام عدلا، ولا يريد إلا الممات عن الحياة بدلا، وكان مع ذلك عاقلا، ولم يكن عن تدبير مملكته غافلا، له في القلوب مهابة مهابه، وعنده في مقالبة الأيام والليالي إصابه. لمح الدنيا بعين الصدق فعرفها، وتحقق غدرها وسرفها، فترك الملك، ونزل عنه لابنه، ونفض ما في يده منه، وما في ضبنه.
وقدم إلى الشام ليحج فأدركه أجله بقباقب، كأنه كان له هناك يراصد أو يراقب.
ووفاته في سادس عشري شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة.
وقباقب منزلة عن الرحبة إلى جهة دمشق، فحمله جماعته إلى دمشق، وأنشئت له تربة مليحة بشرقي سوق الصالحية، ورتب له فيها المقرئون.(1/329)
وهو الذي رمى قطلي شاه الملك بسهم فقتله لما جهزه غازان إلى قتالهم في سنة ست وسبع مئة، وبقي في ملك كيلان خمسة وعشرين عاماً، ومات وعمره أربع وخمسون سنة، ووصى للحج عنه فحج عنه جماعة، وأنفق على تربته أموال كثيرة.
الألقاب والأنساب
ابن دمرتاش: محمد بن محمد.
ابن الدويك: محمد بن عبد الجبار.
الدمياطي: شهاب الدين أحمد بن أيبك. والشيخ الحافظ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف.
الدمياطي: عماد الدين محمد بن علي.
الدميثري: الأمير علم الدين سنجر.
الدواداري: الأمير علم الدين سنجر.
الدلاصي: عبد الله بن عبد الحق.
ابن دلغادر: زين الدين قراجا.
الدهان: محمد بن علي.
ابن الدميري: محمد بن علي.
ابن الدواليبي الحنبلي: محمد بن عبد المحسن.
حرف الذال
ذبيان
هو الأمير ناصر الدين الشيخي والي القاهرة.
كان داهيه، نفسه بالجد لاهيه، رجلاً رجله في الثرى، وهامة همته في الثريا ترى، نطر من أسف البير، وتسنم ذروة الفلك الأثير. وتقدم بالقاهرة في الدولة، ورأى نفسه في سماء المجد كالبدر، وخدمه كالنجوم حوله، لكنه كسف قريبا، وما نفعه أن كان أريبا.
كان هذا الأمير ناصر الدين قد ورد من الشرق صحبة الشيخ عبد الرحمن الكواشي رسول الملك أحمد إلى السلطان الملك المنصور قلاوون، وحبس الشيخ عبد الرحمن وجماعته في قلعة دمشق، ولما مات أفرج عنهم، وبقي هذا ناصر الدين يخيط الكوافي بدمشق.
ثم إنه توجه إلى مصر، وتوصل إلى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وتحيل إلى أن تولى ولاية القاهرة، والتزم بمستظهر، وعضده الجاشنكير إلى أن ولي الوزارة، ثم إنه قبض عليه وصودر.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وسبع مئة بالقاهرة، بعد العقوبة والضرب، وذلك في أوائل ذي القعدة من السنة.
ذبيان بن أبي الحسن بن عثمان
الحاج العفيف البعلبكي التاجر.
وكان يروي عن الشيخ الفقيه محمد اليويني وابن عبد الدائم، وغيرهما. وحدث بجزء ابن جوصا، وكان من أهل القرآن.
وتوفي في رابع جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة.
الألقاب والألقاب
ابن أبي الذر: نجم الدين الصوفي عبد العزيز بن عبد القادر.
الذهبي: محمد بن أحمد.
ذون بطرو
بالذال المعجمة والواو الساكنة، وبعدها نون وباء موحدة وطاء مهملة وراء وواو، وقيل فيه: ذون بترو، بالتاء ثالثة الحروف بدلاً من الطاء: الملك الكبير الطاغية الفرنجي الأندلسي.
كان جباراً عنيدا، وشيطاناً مريدا، ملئ قلبه من المسلمين حقدا، وتضرم عليهم بالغضب وقدا، وبالغ في القسوه، وود من كلبه لو شرب دمهم في حسوه، تمرداً من منه وكفورا، وعتواً وعدواناً وفجورا.
اجتهد وبالغ ليستأصل ما بقي من المسلمين بالأندلس، وحشد من قدر عليه من الفرنج الحمس، ولكن الله رد كيده في نحره، وأغرقه لما طغى في بحره، وما نفعه جيشه الذي لا يحصى، ولا أمره الذي كان لا يرد ولا يعصى، وقتل هو وجنده، ومن اعتقد أنه بيده يشد بنده، وسلخ بعد ذلك الصبر والجلد جلده، وحشني قطنا، وعلق على باب غرناطة، وطال في العذاب خلده.
وكان هلاكه في سنة تسع عشر وسبع مئة.
وكان من خبر هذا الطاغية أن الفرنج حشدوا ونفروا من البلاد، وذهب سلطانهم ذون بطرو إلى طليطلة ودخل على الباب، وسجد له وتضرع، وطلب منه استئصال ما بقي بالأندلس من المسلمين، وأكد عزمه، فقلق المسلمون، وعزموا على الاستنجاد بالمريني، ونفذوا إليه فلم ينجع، فلجأ أهل غرناطة إلى الله تعالى. وأقبل الفرنج إلى المسلمين في جيش لا يحصى، فيه خمسة وعشرون ملكاً، فقتل الجميع عن بكرة أبيهم، وأقل ما قيل أنه قتل في هذه الملحمة خمسون ألفاً، وأكثر ما قيل ثمانون ألفاً، وكان نصراً عزيزاً ويوماً مشهوداً، والعجب أنه لم يقتل من المسلمين سوى ثلاثة عشر فارساً، وكان عسكر الإسلام ألف وخمس مئة فارس، والرجالة نحواً من أربعة آلاف. وقيل: دون ذلك.
وكانت الغنيمة ذهباً وفضة سبعين قنطاراً، وأما الدواب والقماش والعدد فشيء لا يحصى كثرةً، وبقي المسلمون يحتاجون إلى ما ينفقونه على الأسرى لقوتهم وقوت من يحرسهم ويحرس الدواب، فكان في كل يوم خمسة آلاف درهم، وبقي المبيع في الدواب والأسرى والغنائم ستة أشهر متوالية، ومل الناس من طول البيع وداخلهم العجز والكسل.(1/330)
وكانت الواقعة في صبيحة يوم الاثنين خامس عشر شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة وسبع مئة وهو رابع عشر حزيران يوم عيد العنصرة للنصارى، وكان ذلك يوم عيد للإسلام، ويوم وبال على الكفار.
وكان نزول الكفار على مكان يقال له منظرة بينوس بالقرب من جبل إلبيرة، وهو عشرة أميال من غرناطة.
ومن جملة الملوك الذين للكفار: صاحب إشبونة وقشتالة والقرنيرة، وأرغون وطلبيرة، والذي تولى القتال نائب صاحب غرناطة الشيخ الصالح المجاهد أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء، وابنا أخيه الشقيقان أبو يحيى وأبو معروف، أمير جيش مالقة، ابنا عبد الله بن أبي العلاء وأخوهم لأبيهم أبو عامر خالد، أمير جيش رندة، وأبو مسعود محمد بن علي، وأمير جيش الخضراء أبو عطية مناف وغيرهم.
وعلى الجملة فكانت واقعةً عظيمة لطف الله فيها بالمسلمين، ولم يتفق لها نظير، ولله الحمد والمنة على ما عود هذه الأمة من النعمة.
حرف الراء
رافع بن هجرس
الإمام المقرئ المحدث الفقيه الزاهد أبو محمد الصميدي - بضم الصاد المهملة وفتح الميم، وبعدها ياء آخر الحروف، ودال مهملة - جمال الدين الصوفي نزيل القاهرة.
سمع بدمشق من أصحاب ابن طبرزد، وبمصر من طائفة.
وكان حيزً زاهدا، مأموناً عابدا، عني بالروايه، وصار له بها أتم عنايه، وكتب وحصل بعض الأصول، وعلق وأفاد، ولم يكن له إلى سن الرواية وصول.
واشتغل بالقراءات حينا، وجعل له الطلب والدأب دينا، إلى أن جر رافع إلى قبره، وقطع إلى الآخرة مخاضة عمره.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر الحجة سنة ثماني عشرة وسبع مئة بمصر عن خمسين سنة إلا سنة.
رجب بن قراجا بن عبد الله
زين الدين الأرزني، بهمزة وراء ساكنة وبعدها زاي ونون.
أخبرني العلامة أبو حيان قال: زين الدين رفيقنا على الشيخ بهاء الدين رحمه الله تعالى. كان له اعتناء بشيء من الأدب واللغة. وكان يكتب خطاً ليس بالجيد، لكنه في غاية الضبط والصحة، يشكل الحروف كلها ما أشكل منها، وما لم يشكل.
وأنشدنا لنفسه:
شاهدت في طرسك سحرا غدا ... يخامر الألباب بالأكؤس
وكان كالروض غدا ناضرا ... يلذّ للأعين والأنفس
رجب بن أشبرك التركماني
الشيخ تقي الدين العجمي شيخ الزاوية التي تحت قلعة الجبل بالقاهرة.
كان شيخاً مسنا، قد اتخذ بالأجل من سهام الدهر، مجنا، له وجاهة عند الدوله، وفي قلوب الناس له صوله، وعنده فقراء وأتباع، وله مريدون من الخواص والرعاع.
لم يزل على حاله إلى أن أصابه سهم المنية فما أخطاه ولا تعداه، وكأن ميتته أمانة مؤداه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر رجب الفرد سنة أربع عشرة وسبع مئة. وعمره إحدى وثمانون سنة.
وكان في الديار المصرية شيخ طائفة العجم.
الألقاب والألقاب
الرجيحي: شيخ التونسية، اسمه سيف الدين.
الرجبي والي مدينة دمشق، اسمه آقوش.
رزق الله بن فضل الله
الرئيس مجد الدين بن تاج أخو القاضي شرف الدين النشو.
كان أولاً نصرانياً، فاستخدمه أخوه في استيفاء الخزانة والخاص، وكان ينوب أخاه النشو إذا غاب، ويدخل إلى السلطان الملك الناصر محمد، ويخرج، فلما كان في سنة ست وثلاثين وسبع مئة في يوم الجمعة استسلمه السلطان قبل الصلاة على يده، وأبى عليه فلكمه بيده، وعرض عليه السيف، فأسلم، وخلع عليه، وقال له: لا تكن إلا شافعي المذهب مثلي، واستخدمه عند الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي، فظهر وساد، وجلس في صدر الرياسة واتكا على وساد، وعظم شانه، وشاع ذكره، وعلا مكانه، وتوسع في الوجاهة قدره وإمكانه، وتبيدق وسط رقعة القلعة فرزانه، وكان قد بلغ السها راقيا، وطاف بكؤوس الجود ساقيا، ووهب فما أبقى على المال باقيا.
وكان أولاً فيه ميل إلى المسلمين، وحنو زائد على المؤمنين، رتب سبعاً يقرأ في الجامع الأزهر، وقرر نصيباً من الصدقات تخفى وعند الله تظهر، وكان يجهز في كل سنة إلى الحرمين ستين قميصا، ولا يجد كفه عن الجود محيصا.
وكان يحرص على أن يسلم من عبيده ممن يميل إليه سرا، يفعل ذلك خفيةً خيفةً من أمه حتى لا ينال شرا، فعل ذلك مع جماعة من غلمانه النصارى، وأرقائه الذين هم في سكرة الجهل حيارى.(1/331)
ولم يزل في مراقي سعادة، ومعارج سيادة إلى أن أمسك هو وأخوه - على ما سيأتي ذكره في ترجمة أخيه - وسلمه السلطان إلى الأمير سيف الدين قوصون فأصبح مذبوحاً، ذبح نفسه بيده، ولم يمكن أحداً يتمكن من عقابه ولا فساد جسده، وذلك في ثالث شهر صفر سنة أربعين وسبع مئة.
وكان رحمه الله تعالى ربعة، حلو الوجه، مليح العينين، أقطف الجفون.
وكان نظيف الملبس، طيب الرائحة، يغير قماشه في غالب الأيام مرتين. وكان يفصل قماشه ويقول للخياط: طوله عن تفصيلي، وكف الفضل إلى داخل، فسألته عن ذلك فقال: أنا قصير، وأهب قماشي لمن يكون أطول مني، فإذا فتق ذلك الفضل جاء طوله. وكان كثيراً ما يهب قماشه، وقلما غسل له قماشاً إلا إن كان أبيض.
وعمر داراً مليحة إلى الغاية على الخليج الناصري.
وكتبت أنا إليه لما اهتدى:
أنت أهدى للخير من أن تهدّى ... يا عزيزاً بكلّ غال يفدّى
هذه للسعود والفضل أولى ... حزتها من مليك عصرك نقدا
هكذا الهمّة النّفيسة في النّا ... س إذا حاولت من الله رشدا
لك سرٌّ أبدى وأعاد ال ... فضل لله ما أعاد وأبدى
كيفما كنت لم تزل في الأيادي ... والمعالي والفضل والبرّ فردا
أينما سرت في طريق المعالي ... تتلقّى في كلّ أمرك سعدا
سوف ترقى مراتب السّعد حتى ... يفتدي الدّهر طائعاً لك عبدا
ولعمري قد قلّد الله هذا ال ... عصر من سعيك الموفّق عقدا
وإذا سدت في الشّباب فماذا ... لك من بعد أن بلغت الأشدّا
أنت ذو فطنةٍ من النّار أذكى ... وبنانٍ من السّحائب أندى
ومحلٍّ كالنّجم لمّا تعلّى ... ومحيّا كالبدر لمّا تبدّى
إنّ منكم للملك لمّا ظهرتم ... شرفاً زاده علّوك مجدا
شرفٌ قد علا على الشّمس قدرا ... ما تعدّى لمّا عليها تعدّى
لك منه أخٌ تراه شقيقا ... في رياض السّعود قد فاق وردا
يخجل الشّمس في السّماء جمالاً ... ويفوق البحار في الجود رفدا
قد أنام الأنام في كهف أمنٍ ... ولقد كان كحلهم قبل سهدا
وأقرّ القلوب وهي التي كا ... نت من الرّوع في الدّجى ليس تهدا
فلهذا قد سرّ أهلاً وصحبا ... ولهذا أفنى عدوّاً وضدّا
فإلى جوده الرّغائب تسري ... وإلى بابه الرّكائب تحدى
صانه الله من صروف الليالي ... وكساه من فاخر الحمد بردا
وأرانا فيك الذي نتمنّى ... من علوٍّ يجاوز الشّمس حدّا
رزق الله بن تاج الدين
كان شكلاً لطيفا، ووجها حسناً ظريفاً، أنيق البزه، رشيق الحركة والهزه، إلا انه كان في بطانه مؤوفا، وربما كان داء مخوفا، وكان لذلك يعلوه اصفرار، ويرى له عن الصحة فرار.
دخل ديوان الإنشاء، وصار من الخاصة الساكنين في الأحشاء. وكانت كتابته متوسطه، وعبارته في الفصاحة غير مؤرطه، ونظمه ما به من باس، ولا في جودته إلباس، وكان له فضل على رفاقه، وإحسان يبكون معه على فراقه.
ولم يزل على حاله إلى أن رزق رزق الله الحمام، ومحق بدره بعد التمام. وتوفي - رحمه الله تعالى - ... وأربعين وسبع مئة.
وكان قد كتب إلي وأنا بدمشق أبياتا في هذا الوزن والروي، إلا أنني طلبتها عند هذا التعليق، فلم تر عيني لها أثرا، ولا وجدت لمبتدئها خبرا.
والجواب الذي كتبته أنا عن الأبيات المعدومة والقطعة التي جعلت يد الضياع بيوتها مهدومة هو هذا:
سطورك أم راحٌ بدت في زجاجها ... وكان سرور القلب بعض نتاجها
أتتني من مصرٍ إلى أرض جلّقٍ ... فأهدت إلى نفسي عظيم ابتهاجها
فيا نفس الأسحار في كلّ روضةٍ ... تيمّم ربا مصر ولطّف مزاجها
وقف لي على ديوان الانشاء وقفةً ... وحيّ الكرام الكاتبين مواجها
فثمّ وجوهٌ كالبدور تكاملت ... ولاق بها في الفضل رونق تاجها(1/332)
أئّمة كتّابٍ إذا ما ترسّلوا ... فأقلامهم ترمي العدى بانزعاجها
وإن نظموا قلت الذّراري تنسّقت ... ولاق على الأيام حسن ازدواجها
هنالك رزق الله بين ظهورهم ... فلا نفسٌ الاّ تمّ إبلاغ حاجها
فيا ليت شعري هل أفوز بقربهم ... ويهدأُ من عيني اضطراب اختلاجها
وكنت أنا كتبت إلى القاضي ناصر الدين بن النشائي لغزا في عيد:
يا كاتبا بفضله ... كلّ أديبٍ يشهد
ما اسمّ عليك قلبه ... وفضله لا يجحد
ليس بذي جسمٍ يرى ... وفيه عينٌ ويد
فكتب القاضي ناصر الدين الجواب:
يا عالماً لنحوه ... حسن المعاني يسند
ومن له فضائلٌ ... بين الورى لا تجحد
أهديت لغزاً لفظه ... كالدّرّ إذ ينضّد
فابق إلى أمثاله ... عليك إلفاً يرد
وكتب إلي أيضاً القاضي كمال الدين محمد بن القاضي جمال الدين إبراهيم بن شيخنا أبي الثناء شهاب الدين محمود:
يا من زكا ولادةً ... وطاب منه المحتد
ومن أياديه بها ... كلّ البرايا تشهد
ومن غدا نواله ... كالبحر فيه مدد
ألغزت في شيءٍ غدا ... يأتي وفيه غيد
وال عبد قد صحّفه ... فاقنع به يا سيّد
واقبله من مقصّرٍ ... لطولكم لا يجحد
ودم معافى أبداً ... ما صحب الزّند يد
وكتب تاج الدين رزق الله المذكور أيضاً:
يا فاضلاً آدابه ... بها الورى تسترشد
ومن على علومه ... أهل النّهى تعتمد
ألغزت في عيدٍ إلى ... عبدٍ إليكم يسند
ولم يؤخّر نظمه ... إلاّ حياءً يحمد
ولم يماثل من له ... في سائر الفضل اليد
فدم سعيداً تنتقي ال ... آداب أو تنتقد
؟اللقب والنسب
ابن الرزيز الخطيب
عبد الأحد بن يوسف.
الرستمي والي الولاة، اسمه آقوش.
ابن رزين
بدر الدين عبد اللطيف بن محمد. وعلاء الدين عبد المحسن بن عبد اللطيف.
ابن الرسام علي بن محمد.
رشيد بن كامل
الإمام العلامة القاضي رشيد الدين الحرشي - بالحاء المهملة والراء والشين المعجمة - الرقي، وكيل بيت المال بحلب.
سمع من ابن مسلمة، وابن علان، والقوصي، وعدة.
له تفنن وأعمال، وترسلات من ديوان الإنشاء ينفق فيها الأموال. وكان يكتب بدمشق الإنشاء، ويحضر مجالس الناصر الحلبي في البكرة والعشاء.
وولي نظر الجيش بدمشق أيضا، ودرس بعصرونية حلب فأفاض الفوائد فيها فيضا. وولي وكالة بيت المال بحلب، وما قصر في أخذ ولا طلب.
وكان ذا صيانة وعقل، وفضل صح به عن النقل، وله قريض أبرز رياضه، وطرز بالسواد بياضه.
ولكن ما حماه الأجل بحماه، ولا اتقى الحتف لما رماه.
وتوفي بحماة غريباً - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة.
ومن شعره:
الألقاب والأنساب
الرشيدي: الشيخ برهان الدين إبراهيم بن لاجين.
رشيد الدولة: الوزير فضل الله بن أبي الخير.
ابن رشيد: محمد بن عمر.
ابن رشيق: محمد بن الحسين.
ابن الرضي المسند: أبو بكر بن محمد.
الرضي المنطيقي: إبراهيم بن سليمان.
ابن الرفعة: أحمد بن عبد المحسن. الشيخ نجم الدين فقيه العصر أحمد بن محمد.
الرفا المسند: علي بن محمد.
ابن الرعاد: محمد بن رضوان.
رقية بنت محمد بن دقيق العيد
بن وهب القشيرية
هي ابنة الشيخ العلامة شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد.
سمعت من العز الحراني بقراءة والدها، ومن أبي بكر بن الأنماطي، وابن خطيب المزة. وحدثت بالقاهرة، وسمع منها جماعة.
قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: سمعنا عليها جزءاً من سنن الكشي، وأجازت لنا.
وهي امرأة متعبدة ملازمة للخير، من بيت العلم والصلاح.
توفيت - رحمها الله تعالى - يوم الجمعة رابع عشر شعبان سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
الألقاب والأنساب
ابن الرقاقي أمين الدين(1/333)
أبو بكر بن عبد العظيم.
الرقي الشيخ إبراهيم بن أحمد بن محمد.
ابن رمتاش الأمير زين الدين أغلبك.
رميثة
بضم الراء وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وبعدها ثاء مثلثة وهاء: الأمير أسد الدين أبو عراده بن أبي نمي، أمير مكة، نجم الدين بن الأمير بهاء الدين أبي سعد الحسن بن علي الحسيني.
كان قد وصل إلى القاهرة، وجهز السلطان معه جماعةً من الجند والعرب نحو ثلاث مئة نفر، وجماعةً من الحجاج إلى مكة في ثاني شعبان سنة خمس عشرة وسبع مئة.
وكان قد قبض عليه أمير الركب المصري رابع عشر الحجة سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وتوجه به إلى مصر، ولما وصل أكرمه السلطان وأجرى عليه في كل شهر ألف درهم، فبقي كذلك مكرما أربعة أشهر، وهرب من القاهرة إلى الحجاز، فلما علم السلطان بهروبه في اليوم الثاني كتب إلى شيخ آل الحريث، وقال: هذا هرب على بلادك، وما أعرفه إلا منك. فركب الهجن وسار خلفه مجدا، فأدركه نائما تحت عقبة أيلة، فجلس عند رأسه وقال له: اجلس يا أسود الوجه. فانتبه رميثة وقال: صدقت، لو لم أكن أسود الوجه ما نمت هذه النومة المشؤومة حتى أدركتني. وقبض عليه، وأحضره إلى السلطان، فألقاه في السجن وضيق عليه. فقيل: إنه حصل له رمي دم، ثم أفرج عنه وعن حاجبه علي بن صبح في المحرم سنة عشرين وسبع مئة.
وفي سنة إحدى وعشرين حلف له بنو حسن، وأظهر بمكة مذهب الزيدية، وكتب بذلك عطيفة إلى السلطان، فتأذى لذلك ...
وفي يوم الثلاثاء حضر الأمير رميثة إلى مكة، وقرئ تقليده، ولبس خلعة السلطان الملك الناصر بعد وصول أمان السلطان إليه، وذلك في مستهل جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
؟اللقب والنسب
الرهاوي أمين الدين عبد الله بن عبد الله. وعز الدين محمد بن عمر.
ابن رواحة نور الدين أحمد بن عبد الرحمن. وزين الدين عبد الرحمن بن رواحة.
الرومي الشيخ شهاب الدين
أحمد بن محمد بن إبراهيم.
بنو ريان جماعة منهم القاضي عماد الدين سعيد بن ريان. وولده تاج الدين محمد. والقاضي جمال الدين سليمان بن أبي الحسن. وولده كمال الدين إبراهيم.
رنكال
بالراء والنون الساكنة والكاف وبعدها ألف ولام: الأمير سيف الدين بن أشبغا، أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق.
كان أبوه من كبار بيوت المغول، وهو إذا رأيته يغتال عقلك منه غول، شكلاً تاما ضخما، وممن لم توجد له في المعرفة عزما، سليم الباطن والطباع، يرغب في العزلة عن الناس والانجماع.
جرد إلى بيروت فكأنما جرد منها إلى تابوت، لأنه ما حمل رنكال منها رنكا، وجد البلى في جسده وأنكى.
وتوفي في بيروت - رحمه الله تعالى - في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
حرف الزاي
الألقاب والأنساب
الزارزاري: شرف الدين موسى بن علي.
الزريزاني: تقي الدين عبد الله بن محمد.
ابن الزريزير: الكاتب الحاسب علي بن معالي.
ابن الزراد: محمد بن أحمد.
ابن الزمر: الإمام النحوي أحمد بن إبراهيم.
الزراق: الأمير عز الدين أيدمر. والأمير علم الدين سنجر.
ابن الزبطر: عيسى بن موسى.
الزرندي: جلال الدين عبد الله بن أحمد.
الزرعي: جماعة: شهاب الدين أحمد بن عمر. وبدر الدين محمد بن سليمان. والقاضي ناصر الدين الزرعي ناصر بن منصور.
أبو زرعة: محمد بن يونس.
زكرياء بن أحمد
ابن محمد بن يحيى بن عبد الواحد ابن الشيخ عمر الملك أبو يحيى صاحب تونس وطرابلس والمهدية وقابس وتوزر وسوسة، البربري المغربي الهنتاني المالكي اللحياني.
كان فقيها، فاضلا نبيها. قد أتقن العربية، واطلع على غوامض المعاني الأدبية، ونظم الشعر، وأتى فيه بالسحر. وكانت له فضائل، وعنده من العلم خمائر كأنها خمائل. إلا أنه كان مبخلا، فلذلك لم يستمر مبجلا.
ملك هذه النواحي، وحكم على مدنها والضواحي، وابتسمت بملكه الثغور البسامة من الأقاحي. ثم إنه رفض ملكه، وقطع من ذلك سلكه. وجاء إلى الإسكندرية وأقام بها واتخذها وطنا، ولم يضق بذلك عطنا.
ولم يزل على حاله إلى أن أغمض طرفه، ومال عليه من الموت جرفه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في المحرم سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده بتونس سنة نيف وأربعين وست مئة.(1/334)
كان اللحياني قد وزر لابن عمه المستنصر مدة، ثم إنه ملك سنة ثمانين وست مئة، ثم خلع، ثم إنه حج سنة تسع وسبع مئة، واجتمع بالشيخ تقي الدين بن تيمية.
ورد إلى تونس وقد مات صاحبها، فملكوه سنة ثماني عشرة وسبع مئة، فوثب على تونس قرابته أبو بكر، فسار اللحياني إلى ثغر إسكندرية إحدى وعشرين وسبع مئة، وقد رفض الملك، وأقام بها إلى أن مات.
وكان جدهم من أكبر أصحاب ابن تومرت، وكان اللحياني قد أسقط من الخطبة ذكر المهدي المعصوم، وكان جد أبيه قد ملك الغرب بضعاً وعشرين سنة، ثم ابنه المستنص الملقب بأمير المؤمنين، وذلك في الدولة الظاهرية، ودامت دولته إلى سنة ست وسبعين وست مئة. وكان شهماً ذا جبروت، وتسلطن بعده ابنه الواثق بالله يحيى، ثم خلع بعد سنتين وأشهر، وتملك المجاهد إبراهيم، فبقي أربعة أعوام، ثم توثب عليه الدعي أحمد بن مرزوق البجائي الذي زعم أنه ولد الواثق، وتم ذلك له، لأن المجاهد قتل الفضل بن الواثق سرا، فقال: هذا: أنا هو الفضل، وملك عامين. وقام عليه أبو حفص أخو المجاهد، فهرب الدعي، ثم أسر وهلك تحت السياط بعد اعترافه أنه دعي. فتملك أبو حفص ثلاثة عشر عاما، وأحسن السيرة، ثم مات سنة أربع وتسعين وست مئة، وقام أبو عصيدة محمد بن الواثق، فملك خمسة عشر سنة. وكان صالحا مشكورا، وكان اللحياني قد لقب القائم بأمر الله.
ومن شعره ...
زكري بن يحيى
ابن هارون بن يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن عبد الله، بدر الدين الدشناوي، بالدال المهملة والشين المعجمة والنون ومن بعدها ألف وواو: التونسي.
كان فقيها أديبا، نبيها أريبا، له نظر كأن قوافيه كؤوس، أو أزاهر روضة زاكية الغروس. حدث بشيء منه، ورواه الأكابر عنه.
ولم يزل بالقاهرة إلى أن كمل مدته، وسكن الموت شرته وحدته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ... وسبع مئة.
وروى عنه من شعر زين الدين عمر بن الحسن بن حبيب وغيره.
أنشدني من لفظه الحافظ فتح الدين أبو الفتح اليعمري قال: أنشدني من لفظه ملغزاً في طيبرس:
وما اسمٌ له بعضٌ هو اسم قبيلةٍ ... وتصحيف باقيه تلاقي به العدى
وإن قلته عكساً فتصحيف بعضه ... غياثٌ لظمآنٍ تألّم بالصّدى
وباقيه بالتّصحيف طيرٌ وعكسه ... لكلّ الورى علمٌ معينٌ على الرّدى
ومن شعره في راقص:
يا من غدا الحسن إذ غنّى وماس لنا ... مقسّما بين أبصارٍ وأسماع
قاسوك بالغصن رقصا والهزار غنا ... وما يقاس بمّياسٍ وسجّاع
قد تسجع الورق لكن غير داخلةٍ ... ويرقص الغصن بل في غير إيقاع
ومنه:
لا تسلني عن السّلوّ وسل ما ... صنعت بي لطفاً محاسن سلمى
أوقعت بين مقلتي ورقادي ... وسقامي والجسم حرباً وسلما
ومنه في مليح خطائي:
فقال لي العذول أراك تبكي ... فقلت له بكيت على خطائي
وقلت: أراد التورية بالخطأ مهموزاً مقصوراً ضد الصواب، عن الخطائي وهو المليح التركي الخطائي، وهو ممدود مهموز، فما قعدت معه التورية، وكذلك استعمله جمال الدين بن نباتة فقال: ....
وهو من المادة الأولى في الخطأ وسوء الاستعمال. هذا الكلام على الفصيح الذي هو المشهور عند أهل العلم. وأما اللغة المرذولة المرجوحة الضعيفة التي هي غير فصحى فذاك بمعزل عن الانتقاد.
ومما قلت أنا في مليح خطائي:
أحببت من ترك الخطا ذا قامة ... فضحت غصون البان لمّا أن خطا
إيّاكم وجفونه فأنا الذي ... سهمٌ أصاب حشاه من عين الخطا
وقلت أيضاً:
يا قلب لا تقدم على ... سحر الجفون إذا سطا
ومن العجائب أنّه ... أضحى يصحّ مع الخطا
ومن نظم بدر الدين الدشناوي - موشح:
أيا من عليّ تجنّى ... وقد حاز لطف المعنّى
اجعل من صدودك أمنا
وارحمني وهب لي وصلا ... به أتملاّ
وكن للمكارم أهلاً ... هذا أحلى
زكري بن محمود بن زكري(1/335)
الشيخ الفقيه الإمام زكي الدين البصروي الحنفي، مدرس الشبلية، وكان قد درس أولاً بالمدرسة الفرخشاهيه، ثم إنه درس أياماً يسيرة في آخر عمره بالشبلية عوضاً عن فصيح الدين المارديني، وأخذت منه الفرخشاهية، وكان ذلك في بعض جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وست مئة.
وتوفي زكي الدين المذكور في سادس عشر رجب من السنة المذكورة، وكانت مدة الولاية أربعين يوماً.
زكري بن يوسف
ابن سليمان بن حامد البجلي: الشيخ الإمام البارع زكي الدين الشافعي.
كان شيخ تعليم وحبر تفهيم. قرأ عليه جماعة من الطلاب، وانتفع به زمرة من ذوي القرائح والألباب، وكان له قدرة على الإفاده، ورد الدرس والإعاده، يجلس في الحائط القبلي، ويظن من يراه لحسن سمته أنه الجنيد أو الشبلي.
ولم يزل على حاله إلى أن عز لحاقه، وأوحش الطلبة فراقه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشري جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمسين وست مئة.
وأول ما خطب نيابةً عن الشيخ جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني بجامع دمشق في يوم الجمعة ثاني عشر شهر رجب سنة خمس عشرة وسبع مئة.
وكان ملازماً للإشغال والإفادة والصلاة في الجامع الأموي، وكانت حلقته في الحائط القبلي من الجامع الأموي.
ودرس بالطيبة والأسدية، وأعاد بالعذراوية والعصرونية.
وسمع من جمال الدين الصيرفي، ومن علي بن البالسي، ومن الشيخ شمس الدين، ومن ابن البخاري، ومن محمد بن القواس، وعمر بن عصرون، والرشيد العامري وغيرهم، وحدث.
الألقاب والنسب
بنو الزكي: عبد العزيز عماد الدين بن يحيى. والقاضي تقي الدين عبد الكريم بن يحيى بن محمد.
زمرد بنت أيرق
بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وراء بعدها قاف: الخطوية زوج شيخنا أثير الدين، والدة نضار الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى في حرف النون.
سمعت من جماعة وحدثت.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليها بمكة جزءاً خرجه لها زوجها أثير الدين، وكان لها في صحبته نحو من أربعين سنة.
روت عن الأبرقوهي والدمياطي وابن الصواف وابن السقطي والعجوي وعبد القادر بن الصعبي وزينب الإسعردية.
توفيت رحمها الله تعالى سادس عشر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفنت عند ابنتها في البرقية داخل القاهرة، ورثاها الشيخ بأبيات، وجاوزت الخمسين.
الألقاب والأنساب
الزملكاني: فتح الدين أحمد بن عبد الواحد. والشيخ كمال الدين قاضي القضاة محمد بن علي. وعماد الدين محمد بن أحمد.
الزنكلوني: الشيخ مجد الدين إسماعيل بن أبي بكر.
ابن الزيبق: الأمير نجم الدين داود بن أبي بكر. وولده الأمير ناصر الدين محمد بن داود.
الزيرباج: الأمير حسام الدين لاجين.
زهراء: بنت عبد الله بن محمد بن عطا: هي ابنة قاضي القضاة شمس الدين الحنفي، وهي أم علاء الدين علي بن ناصر الدين داود بن بدر الدين يوسف بن أحمد بن مقلد الأذرعي الحنفي.
ابن زهرة: السيد نور الدين حسن بن محمد بن علي. وشمس الدين الحسين بن علي.
ابن زنبور: الوزير علم الدين عبد الله بن أحمد.
الزواوي: شرف الدين عيسى بن مسعود.
زيد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز
الشيخ الفقيه زين الدين أبو كبير المغربي الشافعي.
كان عنده مشاركة في فقه وأدب، وتواريخ ووقائع وأيام العرب، حسن المحاضره حلو المذاكره، إلا أنه كان لتأخره عن المناصب يمنى من حسده بالعذاب الواصب، فينطوي على إحن وترات، وينبض القسي الواترات.
ووقف مرات بين يدي النواب، وكاد يمتهن بأيدي الحجاب، وجرت له في ذلك وقائع، واتفقت له بدائه فيها بدائع، وما أنجح له فيها عناء، ولا رشح له إناء:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
وكان لا يزال مصفرا، معلولاً معفرا.
ولم يزل على حاله إلى أن ضرب زيد، وأصبح يرسف من العدم في قيد.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر الله المحرم سنة اثنتين وستين وسبع مئة. ولعله قد قارب الستين أو تعداها بقليل.
وكان قد باشر في صفد قضاء بعض النواحي، وعاد إلى دمشق وبقي فقيهاً بالمدارس، وكان مقيماً بالمدرسة الأكزية على باب الخواصين، وتوجه إلى مصر مرات، وأحضر تواقيع بولايات، ولم تمض، وكان لا يزال خاملاً. وتوفي رحمه الله تعالى بعلة الاستسقاء.(1/336)
كتب هو إلي ملغزا: يا مولانا أثقل الله بفواضلك الكواهل، وأخمل بفضائلك الأوائل من الأفاضل، إن أمكن أن تلمح هذا اللغز اللطيف، وتعطيه حظا من سيال فكرك الشريف، تقلد المملوك به مأنة الفضل العميم، وتحلي بورود لفظه كما يتحلى بوجود شخصه بين يدي سيد كريم، وهو: ما اسم يعتني الصائمون غالباً بتحصيله، ويتنافس الأكابر منهم في جملته وتفصيله، خماسي الحروف في الترصيف والترتيب، مسطح الشكالة في البساطة، كري عند التركيب، إن حذفت خمساً رأيته طائراً وسيما قص الأثر فاهتدي به، وغالب في طرق اللؤم تميما، وإن اختلس في أوله كان في الثغور الحصينة لآلئاً في الليل البهيم، وفي سورة القلم ناراً أحرقت الجنة التي أصبحت كالصريم.
عزمت على إهدائه غير مرّة ... إلى بابك العالي فأمسكت عن قصدي
فقد قيل عادات الأكابر أنّهم ... بإهدائه أولى فما جزت عن حدّي
فأوضحه لي معنىً وإن شئت صورةً ... وإن شئت فارسم لي فإني به أبدي
فكتبت إليه الجواب عن ذلك، وهو في قطائف وجهزت إليه منه صحناً:
أمولاي بدر الدين مثلك من يهدي ... نداه وإن كان الضلال غدا يهدي
بعثت بلغزٍ قد حلا منك لفظه ... فأخمل ذكر القطر فضلاً عن الشّهد
فسامح فقد أوضحته لك صورةً ... على أنّه لا بدّ من شرح ما عندي
يا مولانا هذا لغزك بديع المعنى، بعيد المبنى، يترشفه السمع سلافه، ويتلقفه البصر ورداً جنيا متى أراد اقتطافه، قد أغربت في قصده وأحكمت عقد بنده، دلني على معناه حسن مبناه، وقرب البيان من مغناه، فلك الفضل في حله وسح وابله وطله. ومن غرائب خواصه أنه أخذ من اللبن والحلاوة حظا، ومتى صحفت ثلاثة أخماسه عاد فظا، قد راقت العيون ملاحته، وحشيت بالقلوب حلاوته، يختص بشهر رمضان، لأن في قلبه حلاوة كحلاوة الإيمان، بعضه يقلى وكله محبوب، وآخره تحت القطر وأوله فوق الجمر المشبوب، يروقك إذا نثرت عقده، وفصلت زوجه وفرده، وأشبه شيء بالكواعب إذا اشتملت بالمناشف المخمل، وأحسن ما ترى ثرياه إذا اجتمع شملها وتكمل، وأليق ما ينشد إذا جف ثراها وانفصمت عراها:
ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى ... ولا زال منهلاًّ بجرعائك القطر
زين العرب بنت تاج الدين
عبد الرحمن بن عمر بن الحسن بن عبد الله السلمي الدمشقي المعروفة ببنت الجوبراني.
حجت وجاورت بمكة، وكانت شيخة رباط الحرمين، وأقامت برباط درب النقاشة، وتزوجت بالكمال بن العماد الأشتر، وفارقها سنة ثمان وخمسين وست مئة، ولم تتزوج بعده. وهي بنت أخي النجيب محاسن العدل.
وسمعت من الشيخ تاج الدين القرطبي الأربعين السباعيات لعبد المنعم الفراوي، وحدثت بها غير مرة، وسمعت من العز عبد العزيز بن عثمان الإربلي.
وأجازها في سنة ست وثلاثين وست مئة السخاوي، وأبو طالب بن صابر، وإبراهيم الخشوعي، وكريمة، وجماعة من أصحاب ابن عساكر.
وأقعدت في آخر عمرها. وكانت تحفظ أشياء حسنة.
وتوفيت رحمها الله تعالى في أوائل سنة أربع وسبع مئة.
ومولدها تقريباً سنة ثمان وعشرين وست مئة.
الألقاب والألقاب
زين الدار وجيهية: بنت المؤدب علي بن يحيى، يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في مكانه من حرف الواو.
زينب بنت عمر
ابن كندي بن سعيد بن علي، أم محمد، ابنة الحاج زكي الدين الدمشقي، زوجها ناصر الدين بن قرقيسن معتمد قلعة بعلبك.
كانت امرأة صالحة خيرة دينة لها بر وصدقة، بنت رباطاً، ووقفت أوقافاً، وعاشت في خير ونعمة، وحجت وروت الكثير، وتفردت في الوقت.
أجاز لها المؤيد الطوسي وأبو روح الهروي وزينب الشعرية وابن الصفار وأبو البقاء العكبري وعبد العظيم بن عبد اللطيف الشرابي وأحمد بن ظفر بن هبيرة.
حدثت بدمشق وبعلبك.
وسمع منها أبو الحسين اليونيني وأولاده وأقاربه، وابن أبي الفتح، وابناه، والمزي، وابنه الكبير، وابن النابلسي والبرزالي وأبو بكر الرحبي وابن المهندس. وقرأ عليها شيخنا الذهبي من أول الصحيح إلى أول النكاح، وسمع منها عدة أجزاء.
وتوفيت رحمها الله تعالى بقلعة بعلبك سنة تسع وتسعين وست مئة.
زينب بنت أحمد(1/337)
ابن عمر بن أبي بكر بن شكر الشيخة الصالحة المعمرة الرحلة أم محمد المقدسية الصالحية.
سمعت من ابن اللتي، وجعفر الهمداني. وتفردت في وقتها.
وحدثت بدمشق ومصر والمدينة والقدس.
كانت تقيم مع ولدها، وكان مهندساً. وهي والدة الشيخ محمد بن أحمد القصاص.
توفيت رحمها الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
زينب بنت سليمان
ابن إبراهيم بن رحمة الإسعردي المسندة المعمرة الدمشقية، نزيلة القاهرة.
سمعت الصحيح من الزبيدي، ومن شمس الدين أحمد بن عبد الواحد البخاري، وابن الصباح، وعلي بن حجاج، وكريمة. وأجاز لها خلق.
وسمع منها شيخنا الذهبي.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة خمس وسبع مئة، وهي في عشر التسعين.
زينب بنت أحمد كمال الدين
ابن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد المقدسية.
شيخة مشيخة مسندة.
سمعت من محمد بن عبد الهادي، وإبراهيم بن خليل، وابن عبد الدايم، وخطيب مردا، وعبد الحميد بن عبد الهادي، وعبد الرحمن بن أبي الفهم اليلداني، وأجاز لها إبراهيم بن الخير وخلق من بغداد.
أجازت لي سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة أربعين وسبع مئة، في تاسع عشر جمادى الأولى عن أربع وتسعين سنة.
زينب بنت يحيى
ابن الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الشيخة الصالحة الأصيلة المسندة أم محمد.
حضرت في الخامسة على عثمان بن علي المعروف بابن خطيب القرافة، وعلى عمر بن أبي نصر بن عوة، وعلى إبراهيم بن خليل.
أجازت لي سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق.
وكتب عنها عبد الله بن المحب.
وتوفيت رحمها الله تعالى في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
زينب بنت إسماعيل بن إبراهيم
الشيخة مسندة الشام، أمة العزيز، بنت المحدث نجم الدين.
حدثت عن ابن عبد الدائم، وخلق.
وتوفيت رحمها الله تعالى عن أكثر من تسعين سنة في المحرم سنة خمسين وسبع مئة، أو في أواخر ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
زينب بنت عبد الرحمن
ابن محمد بن أحمد بن قدامة، الشيخة الصالحة أم عبد الله بنت الشيخ شمس الدين أبي الفرج بن أبي عمر.
سمعت من ابن عبد الدايم، ووالدها.
وأجازت لي. وكتب عنها عبد الله بن المحب.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
حرف السين
سارة بنت عبد الرحمن
ابن أحمد بن عبد الملك بن عثمان بن عبد الله بن سعد بن مفلح بن هبة الله بن نمير المقدسية، أم محمد الشيخ المسند شمس الدين أبي الفرج.
سمعت من إبراهيم بن خليل، وروت عنه.
قرأ عليها شيخنا علم الدين البرزالي بطريق الحجاز باللجون من عمل الكرك، وفي الحجر.
وتوفيت رحمها الله تعالى رابع عشري شوال سنة ست عشرة وسبع مئة.
سالم
الأمير سيف الدين السلاح دار.
كان أميراً كبيراً مقدماً في الديار المصرية، صاهر الأمير سيف الدين سلار أيام نيابته، وأخرجه السلطان الملك الناصر محمد إلى دمشق.
وكان إقطاعه بمصر إقطاعاً كبيراً إلى الغاية، وكانت له بدمشق حرمة وافرة، وفيه ديانة وخير.
وتوفي رحمه الله تعالى في الحادي والعشرين من شعبان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ودفن بسفح جبل قاسيون.
سالم بن محمد بن سالم
ابن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن محمد الرئيس، أمين الدين أبو الغنائم ابن الحافظ أبي المواهب بن صصرى التغلبي الدمشقي الشافعي.
حدث عن مكي بن علان. وسمع من خطيب مردا، والرشيد العطار، والرضي بن البرهان، وإبراهيم بن خليل، وجماعة.
وكان على وجهه شامة كبيرة حمراء.
كان عدلا لا يقبل في المروءة عذلا، ظاهر المروءه، طاهر السريرة المخبوءه.
باشر الوظائف الكبار بأمانة خشنه، ولم ير الناس منه إلا حسنه، صحب الناس وتأدب، وانفصل عنهم فما ندر أحد عليه ولا ندب.
ولم يزل على حاله إلى أن أدرك العطب سالم، وسلك من اندرج من العوالم.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة.
كان قد ولي نظر الخزانة، وولي نظر الدواوين بدمشق، وغير ذلك، ثم إنه حج وجاور، ثم عاد إلى دمشق، وتنظف من ذلك جميعه، وأقبل على شأنه، ولازم منزله حتى لقي الله تعالى.
سالم بن أبي الدر(1/338)
الشيخ الإمام مدرس الشامية الجوانية، أمين الدين الشافعي.
قرأ على الكراسي مدة، ونسخ من مسموعاته عدة، ورتب صحيح ابن حبان، وروى عن ابن عبد الدائم للشبان.
وكان ذا دهاء، ومكر بأمور الادعاء.
ولم يزل على حاله إلى أن دعاه مولاه، وراح إلى الله وتولاه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع شعبان سنة ست وعشرين وسبع مئة.
وكان إمام مسجد الفسقار، وعنده خبرة بالدعاوي ونقضها.
وسمع منه شيخنا الذهبي مشيخة ابن عبد الدائم، وعاش اثنتين وثمانين سنة.
وهو سالم بن عبد الرحمن بن عبد الله، الشيخ أمين الدين، أبو الغنائم بن أبي الدر الدمشقي الشافعي.
كان فقيهاً فاضلاً، اشتغل وحفظ وحصل، ولازم الشيوخ وأثنى عليه مشايخ عصره، مثل الشيخ محيي الدين النواوي، وشرف الدين بن المقدسي، وغيرهما.
وكان قد اشتغل أولاً على قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ، وبعد ذلك على الشيخ محيي الدين النواوي. وكان إمام مسجد ابن هشام، ومعيداً بالمدارس، ثم إنه ولي تدريس المدرسة الجوانية، وكان مشهوراً بمعرفة الحكومات، والكتب الحكمية، وكان ذا مروءة وعصبية. وكان له ثبت بمسموعاته.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
سالم بن ناصر الدين
الفقيه شرف الدين.
كان قاضي قارا وخطيبها ورئيسها، ونجي مكارمها ونجيبها، شاعراً مفوهاً، أديباً لم يكن وجه فضله مشوهاً، أقام بقارا مدة من الزمان، ومد فيها للأضياف كبار الجفان.
ولم يزل على حاله إلى أن درج من عش حياته، وغاض الوفاء عند الوفادة بوفاته.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومن شعره ....
سالم بن أبي الهيجاء
ابن حميد بن صالح بن حماد، الإمام الفقيه القاضي مجد الدين أبو الغنائم الأذرعي الشافعي.
كان فقيهاً فاضلا، سؤوساً عاقلا، كثير التلاوه، وعنده بعد ذلك من الأدب علاوه، يحفظ كثيراً من الأشعار، ويتلقفها ويأخذها ليلقنها بأغلى الأسعار. حسن الهيئه، كريم الرجعة والفيئه، خبيراً بالأحكام، قوي النفس على من تعلى من الأنام، وكانت له حرمه، ولم تحفظ عنه جرمه.
توجه إلى مصر بعد ما انفصل من قضاء نابلس، فأدركه أجله هناك، وقال له عمله المبارك: بلغت مناك.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة ثامن عشر شهر رجب الفرد سنة خمس وسبع مئة. وعاش ثلاثاً وسبعين سنة.
ومولده بقرية جمحا، قرية بالقرب من أذرعات.
وهو والد شمس الدين محمد محتسب نابلس، وشهاب الدين أحمد وكيل الحاج أرقطاي.
وروى عن الحافظ ضياء الدين المقدسي.
سالم الأمين الموصلي المنجم
كان شيخاً في النجامة قد تميز، ومال إلى معرفة هذا العلم وتحيز، يحل الأزياج ويكتب التقاويم، ويعرف عروض البلدان ومواقعها من الأقاليم، وله دربة في تلك الأوضاع، وتلك الأمور التي لا يعرفها إلا من امتد منه الباع.
لم يزل على حاله إلى أن لم يبق عمره دقيقه، واستوفى جليل أجله ودقيقه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
اللقب والنسب
السامري: سيف الدين أحمد بن محمد.
سبط زيادة: الحسن بن عبد الكريم.
ابن السابق: علي بن عثمان عبد الواحد.
ابن سامة: محمد بن عبد الرحمن.
السبكي: جماعة منهم: قاضي القضاة تقي الدين علي بن عبد الكافي. وولده القاضي جمال الدين الحسين. وتقي الدين محمد بن عبد اللطيف. والقاضي زين الدين عبد الكافي بن علي. وصدر الدين بن علي.
ابن السباك: الشيخ تاج الدين الحنفي، علي بن سنجر.
ست الوزراء
الشيخة الصالحة المعمرة مسندة الوقت أم عبد الله ابنة القاضي شمس الدين عمر بن العلامة شيخ الحنابلة، وجيه الدين أسعد بن المنجا بن أبي البركات التنوخية الدمشقية الحنبلية.
سمعت الصحيح ومسند الشافعي من أبي عبد الله بن الزبيدي، وسمعت من والدها جزأين.
كانت مسندة العصر، وخريدة الرواية في القصر، رزقت الحظوة الباهره، وطالت بذاك النجوم الزاهره، فحدثت بالصحيح مرات، وفازت من ذاك بالصلات والمبرات، وكانت ثابتة على طول التسميع، مديدة الروح على الشروط وما يطرأ عليها من التفريع؛ إلا أنها انثالت عليها الجوائز، ولم تكن كمن عداها من العجائز.
وطلبت إلى مصر، وسمع منها الأمير سيف الدين أرغون النائب، والقاضي كريم الدين الكبير.(1/339)
ولم تزل على حالها إلى أن لم تجد ست الوزراء من الموت وزرا، وصال الدهر على أهلها بفقدها وزرى.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة سبع عشرة وسبع مئة.
ومولدها سنة أربع وعشرين وست مئة.
وحجت مرتين، وتزوجت بأربعة رجال رابعهم نجم الدين عبد الرحمن بن الشيرازي. وكان لها ثلاث بنات.
قرأ عليها شيخنا الذهبي مسند الشافعي، وهي آخر من حدث بالكتاب. وسمع منها الوافي، وابن المحب، والقاضي فخر الدين المصري، والشيخ صلاح الدين العلائي، والشيخ جمال الدين بن قاضي الزبداني، وخلق كثير.
؟ست الفقهاء
ابنة إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل، الشيخة الصالحة المعمرة المسندة بنت الإمام تقي الدين بن الواسطي الصالحية الحنبلية.
سمعت حضوراً جزء ابن عرفة في سنة خمس من عبد الحق بن خلف. وسمعت من إبراهيم بن خليل وغيره. وسماعها قليل، لكن لها إجازات عالية من جعفر الهمداني، وأحمد بن المعز الحراني، وعبد الرحمن بن بنيمان، وعبد اللطيف بن القبيطي، وروت الكثير، وسمعوا منها سنن ابن ماجة وأشياء.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة ست وعشرين وسبع مئة. ولها اثنتان وتسعون سنة.
ست العرب
ابنة سيف الدين علي بن الشيخ رضي الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار المقدسي. الشيخة الصالحة أم محمد.
حضرت على ابن عبد الدائم جزء ابن عرفة، وحدثت وسمع منها شيخنا علم الدين البرزالي، وأجازت لي.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وإجازتي منها كانت في سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ست القضاة
أم محمد بنت القاضي محيي الدين بن القاضي تاج الدين أحمد الشيرازي.
قاربت التسعين سنة.
روت عن كريمة بنت عبد الوهاب مشيختها ثمانية أجزاء، والزهاد والعباد لابن الأزهر البلخي، ولم يوجد لها سوى ذلك.
وتزوجت بالشيخ مجد الدين الروذراوري، ثم بالبدر بن الخرقي، ثم بغيره.
وتوفيت رحمها الله تعالى في ثامن عشري القعدة سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ست الأمناء
بنت الشيخ صدر الدين أسعد بن عثمان بن أسعد بن المنجا، وهي أخت والدة الخطيب معين الدين بن المغيزل وإخوته. وكانت تدعى أم عز الدين، وهو ولدها الأول.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روت الحديث، وسمعنا عليها من جدها، وكانت أكبر من عمها وجيه الدين بسنتين.
توفيت رحمها الله تعالى بالسعيدية قبل دخول القاهرة في أواخر شهر ربيع الأول سنة سبع مئة في الجفل.
ست الوزراء
أم محمد ابنة الشيخ العدل الرئيس تاج الدين أبي الفضل يحيى بن مجد الدين أبي المعالي محمد بن شمس الدين أبي العباس أحمد بن الشيخ المسند أبي يعلى حمزة بن علي بن هبة الله بن الحبوبي التغلبي الشيخة.
حجت وأعتقت ولازمت الخير، وغلبت السوداء عليها آخر عمرها، فتغير ذهنها نحو سنة.
لها إجازة من الشيخ علم الدين السخاوي والحافظ ضياء الدين المقدسي وعز الدين بن عساكر النسابة، والضياء عتيق السلماني وتاج الدين القرطبي، وسالم ابن عبد الرزاق خطيب عقربا، وأخيه الجمال يحيى والعز أحمد بن إدريس المزة، والصفي عمر بن البراذعي، والرشيد بن مسلمة وغيرهم. وحدثت قديماً.
توفيت رحمها الله تعالى يوم الخميس رابع شوال سنة خمس عشرة وسبع مئة ومولدها سنة تسع وثلاثين وست مئة.
ست العلماء
المعروفة بالبلبل. شيخة رباط درب المهراني بدمشق.
كانت قوامة بالليل لأدوارها، ملازمة للصلاة على سجادها، مشهورة بحسن الوعظ والتذكير، والمبادرة إلى المواعيد والتبكير.
ولم تزل على حالها إلى أن خرس البلبل منها، وقام الناعي بالذكرى عنها.
وتوفيت رحمها الله تعالى ثالث عشري شهر رجب الفرد سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وكانت جنازتها حافلة بالنساء.
ست الأهل
بنت علوان بن سعيد بن علوان بن كامل. الشيخة الصالحة المسندة البعلبكية الحنبلية.
روت الكثير عن الشيخ بهاء الدين عبد الرحمن المقدسي، وتفردت عنه بقطعة من المسموعات.
قال شيخنا البرازلي: قرأت عليها بدمشق الزهد للإمام أحمد في أربع مجلدات وأجزاء كثيرة. وقرأت عليها ببعلبك عوالي البهاء عبد الرحمن، ومحاسبة النفس لابن أبي الدنيا.
وكانت من أهل الدين والصلاح والقناعة، لا تبالي بنفسها في مأكل ولا غيره.
وتوفيت رحمها الله تعالى في تاسع عشر المحرم سنة ثلاث وسبع مئة.(1/340)
وكان أبوها من الصالحين الكبار.
ستيتة
الخاتون بنت الأمير سيف الدين كوكائي، زوج الأمير سيف الدين تنكز رحمهم الله تعالى.
كانت خيرة صينة دينة. ترد زوجها عن أشياء كثيرة. وهي والدة الخوندة أم السلطان الملك الصالح صلاح الدين صالح، وأم فاطمة زوج الأمير سيف الدين بلجك ابن أخت الأمير سيف الدين قوصون.
توفيت رحمها الله تعالى في ليلة الاثنين ثالث شهر رجب الفرد سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفنت في التربة التي لها على باب الخواصين بجانب المدرسة الطيبة، وعمل إلى جانب التربة رباط للنساء.
وكانت قد حجت في العام الماضي، وتصدقت بشيء كثير.
اللقب والنسب
ابن سحاب: أحمد بن سليمان.
السخاوي: نور الدين قاضي القضاة المالكي، علي بن عبد النصير.
السديد الدمياطي، الطبيب اليهودي
كان من أطباء السلطان الملك الناصر محمد، لا يدخل الرئيس جمال الدين بن المغربي إلى دور السلطان في الغالب إلا وهو معه.
وكان شيخاً قد أسن، وأشبه الشن، نحيفاً مائل الرقبه، قليل البشر كما يقال، كأن وجهه عقبه، إلا أنه فاضل في صناعته، ماهر في إنفاق ما معه من بضاعته، على ذهنه شيء كثير من إقليدس، ومسائل مما يحتاج إليه المهندس، وعلى ذهنه جزء كبير من الطبيعي وغيره، ويستحضر كثيراً من كلام الأطباء الذين يحتاج إلى أن يكونوا سبب خيره. وكان سعيد العلاج، يكاد يبري الاستسقاء والانفلاج، لم يكن في عصره من له سعادة علاجه، ولا من يدخل إلى المريض بواسطة مزاجه. حضرت علاجه في جراحة القاضي شرف الدين ناظر الخاص، وكان إذا تكلم يسمع له والمجلس بالأفاضل غاص، وسمعت منه فوائد، وجمعت عنه فرائد.
ولم يزل السديد إلى أن حصل به الخطب الشديد، ولم ينفعه علاج قديم ولا جديد.
وهلك في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة فيما أظن.
وكان قد قرأ على الشيخ علاء الدين بن النفيس، وحضر مباحثه مع قاضي القضاة جمال الدين بن واصل.
وذكر لي أشياء من فوائد الشيخ علاء الدين المذكور.
الألقاب والأنساب
ابن السديد: شمس الدين أحمد بن علي. وجمال الدين محمد بن عبد الوهاب. ومجد الدين هبة الله بن علي.
السروجي: قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم.
السروجي: المحدث محمد بن علي.
سعد الله بن غنائم
ابن علي بن ثابت، أبو سعيد الحموي النحوي المقرئ الضرير.
كان ذا دين متين، وفضل مبين، ضرير النظر، غزير البحث والنظر. أقرأ الناس وأفاد، وفاز منهم بشكر ماله من نفاد.
ولم يزل على حاله إلى أن طوحت به الطوائح، واجتاحته الجوائح.
وتوفي رحمه الله تعالى ستة عشر وسبع مئة.
الألقاب والألقاب
ابن بنت أبي سعد: فخر الدين عثمان بن علي.
والمسند ابن سعد: يحيى بن محمد.
أبو السعود
ابن أبي العشائر بن شعبان الباذبيني، ثم المصري. الشيخ الصالح الزاهد، شيخ الفقراء السعودية.
كان صاحب عباره، ورب مجاز وعباره، وفيه انجماع وزهاده، وأذكار وعباده، وله أتباع، ومريدون يرون أن طريقه تشترى وما تباع، وسوقه بمصر قائمه، وقلوب أصحابه فيه هائمه.
ولم يزل على حاله إلى أن فرغ الأجل منه، وانصرف وجه الحياة عنه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
الألقاب والألقاب
السعودي: جماعة منهم: سيف الدين عبد اللطيف.
السعودي: الشيخ أيوب.
سعيد بن ريان بن يوسف بن ريان
الصدر الكبير الرئيس القاضي عماد الدين الطائي ناظر حلب.
كان من أحسن الناس وجهاً وقدا، وشكالة من ألف بالنظر إليها ما تعدى، بزته فاخره، وسعادته ظاهره، واسع الصدر، نبيه القدر، كريم البنان، صحيح البيان، فصيح المقاله، سريع الإقاله، سماطه ممدود، واحتياطه غير مردود، سعيد المباشره، حميد المعاشره، جيد التنفيذ والتصرف، خبيراً بالتودد والتعرف، قوي النفس لا يعبأ بمن ناواه، ولا يبالي بمن يزعم أنه ساواه.
ولم يزل على حاله في تقلب الدهر به إلى أن جاءه الأمر المقضي، وتصبح من موته بما لا يرضي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر رجب سنة ثمان وسبع مئة.
باشر نظر الديوان بحلب مرات، وطلب إلى مصر وصودر، وأخذ منه على ما قيل: أربع مئة ألف درهم.(1/341)
وكان شرف الدين بن مزهر في تلك الأيام بمصر، وكان يحضر في دار الوزارة بقلعة الجبل، ويشكو عطلته وبطالته وضيق ذات يده، ويقول: والله ما تعشيت البارحة إلا على سماط عماد الدين بن ريان، يا قوم ما هذا إلا رجل كريم النفس، كان البارحة على سماطه من الحلاوة أربعة صحون، وكان .. وكان ..، ويعدد أشياء، يقصد بذلك أذاه في الباطن، وهو في الظاهر يثني عليه ويتغمم له لأنه كان تلك المدة يحمل في المصادرة، وحط عليه الجاشنكير، وقال: ما بقيت أستخدمه في ديوان السلطان أبداً. فقال الأمير سيف الدين سلار: أنا أستخدمه في ديواني، فجعله ناظر ديوانه في دمشق، فحضر إليها، ورأى فيها من السعادة والوجاهة والتقدم أمراً زائداً عن الحد، وصحب الناس فيها، وعاشر أهلها ورؤساءها من أرباب السيوف والأعلام، وظهر بمكارم أخجلت صوب الغمام.
ولما كان في رابع شوال وصل شرف الدين عبد الرحمن بن الصاحب فخر الدين بن الخليلي مباشراً ديوان سلار عوضاً عن عماد الدين بن ريان، وذلك سنة سبع وسبع مئة. ولم يزل إلى أن حج وعاد مع الركب المصري، ورسم له بنظر حلب على عادته، وأخذ توقيعه بذلك، وحضر إلى دمشق فمرض بها، ومات رحمه الله تعالى.
وكان يكتب جيداً إلى الغاية، ويقول الشعر طباعاً. كتب إلى الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وهو بدمشق مشد الدواوين:
يا من إذا استنخي ليوم كريهةٍ ... هزّت شمائله المروءة فانتخى
أنت الذي يخشى ويرجى دائماً ... وإليك يلجأ في الشدائد والرّخا
وإذا الحروب توقّدت نيرانها ... أطفأتها بعزيمة تجلو الطخا
وإذا تميل إلى الكسير جبرته ... وعلى العليّ من الجبال تفسّخا
حزت المكارم والشجاعة والفت ... وّة والمروّة والنباهة والسّخا
وأتت لك الأقدار فهي كما تشا ... بمحلّك العالي غدت تجري رخا
؟سعيد بن عبد الله
الإمام الفاضل العالم الحافظ نجم الدين أبو الخير الدهلي، بالدال المهملة المكسورة وبعدها هاء ساكنة ولام، الحنبلي الهلالي الحريري صنعةً.
رحل من بغداد، وحضر إلى الشام، وتوجه إلى مصر، وثغر الإسكندرية.
أكثر عن بنت الكمال، وابن الرضي، وتعب وحصل الأجزاء.
وكان له عمل جيد وهمه، ورحلة للأقاليم وعزمه، لم يكن آخر وقت مثله في هذا الشان، ولا من يدانيه في علو المكان؛ لأنه يعرف التراجم والوفيات، وما فيها من اختلاف الروايات، وهذا أمر قل من رأيته يعتني به، أو يرعى اختلاف ترتيبه، وكان بعد شيخنا الذهبي قائماً بهذا الشأن في الشام، وبعده لم يبق في هذا الفن بشاشة تشتام.
وله تواليف كتبت عليها أنا وغيري من فضلاء العصر تقريضا، ومدحناه فيها تصريحاً لا تعريضا.
ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن تعثر سعيد في طريق أجله، وراح إلى الله تعالى في عجله، لأنه بصق دماً يومين، ومات في الثالث رحمه الله تعالى وذلك في خامس عشري القعدة سنة تسع وأربعين في طاعون دمشق.
ومولده سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
وكان قد سمع علي بعض تواليفي.
قال شيخنا الذهبي: سمع المزي من السروجي عنه. ومن تصانيفه كتاب تفتت الأكباد في واقعة بغداد، وكتبت له عليه تقريضاً. والرحلة الثانية إلى مصر، وكتبت له عليها ما نسخته: وقفت على هذا السلك الذي جمع در القريض، والروض الذي تنظر النجوم الزهر إلى زهره استحياءً بطرف غضيض، والسحر الذي ما نفث مثله في أحشاء العشاق كل طرف فاتر ولا جفن مريض، والأدب الذي لو حاوله شاعر لوقع منه في الطويل العريض، لأنه اختيار الشيخ الإمام الرحال الجوال نجم الدين سعيد الدهلي الحريري الحنبلي أدام الله به الانتفاع، وشنف بأقواله الأسماع:
إمام إذا ناداه في الفضل حاسد ... تعثّر علما إنّ ذاك سعيد
كذلك لو جاراه في أمد العلا ... لقلنا اقتصر فالنجم منك بعيد
ولم يسمه بالفوائد سدى، ولا وسمه بهذه السمة إلا وهي واضحة الهدى، علماً منه بأن الفاضل لن يجهله، وأن الفوائد جمع لا نظير له، فالله تعالى يمتع الفضلاء بفوائده المدونة، ومحاسنه التي هي كفواكه الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
كتب في شهر ربيع الآخر سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
سعيد بن أحمد بن عيسى(1/342)
الشيخ الإمام الفاضل العدل نجم الدين، القاضي أبي العباس الغماري المالكي.
كان معيداً بالمدرسة الناصرية والمنكوتمرية. كان فيه مخالطه، وإبهام للناس بالناس ومغالطه، مع كيس ولطف ذوق، وتقلبات لا يجيء فيها إلا من فوق، وعنده فقه، وله نظم ما به من باس، ومحاضرة مخرق بها فستر ذلك الإلباس، وحصل من الدنيا جملة وافرة، ولم يكن له من يرثها بعده، ولم يتزود منها غير الكفن لما نزل لحده.
ولم يزل على حاله إلى أن طمس نجمه، ورمس فوقه رجمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ودفن في مقابر باب النصر بالقاهرة.
كانت فيه مداخلة للناس ومزاحمة، وكان يصحب أولاد ابن الأثير، وأوهم بذلك حتى قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى، فكان لا يجهز إلى مصر شيئاً حتى يجهز إلى النجم سعيد نصيبه.
وخلف جملة صالحة، ولم يكن له وارث.
سعيد بن محمد بن سعيد
القاضي الرئيس الأصيل الكاتب، شمس الدين بن الأثير الموقع.
كان رجلاً عاقلاً ملازماً لوظيفته، لا يدخل نفسه فيما لا يعنيه. وله اشتغال، وولي كتابة الإنشاء بدمشق.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر القعدة سنة إحدى وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون بتربة اشتريت له.
سعيد بن محمد بن سعيد بن محمد بن سعيد
القاضي شمس الدين بن الصدر شرف الدين بن الأثير، سبط القاضي محيي الدين بن فضل الله.
توفي رحمه الله تعالى شاباً ابن ثماني عشرة سنة، وفجعت والدته فيه.
وكان من جملة كتاب الإنشاء. وكتب صداقه، ولم يدخل بزوجته.
ومات في جمادى الأولى سنة عشرين وسبع مئة.
سفرىبنت يعقوب
بن إسماعيل بن عمر، عرف بقاضي اليمن، الشيخة الصالحية المعمرة أم محمد.
سمعت من جدها إسماعيل، وأخيه إسحاق جزء أبي القاسم الكوفي. أجازت لي في سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق، وأذنت في ذلك لعبد الله بن المحب.
وتوفيت رحمها الله تعالى سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
الألقاب والألقاب
السفاقسي
الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد. وأخوه شمس الدين محمد بن محمد.
ابن السفاح
كاتب سر حلب زين الدين عمر بن يوسف. وعمه قاضي قضاة حلب نجم الدين عبد القاهر.
ابن السقطي
جمال الدين محمد بن عبد العظيم.
ابن السكاكري
بدر الدين علي بن محمد.
ابن سكرة
ناظر دمشق بهاء الدين أبو بكر.
ابن السكري
علي بن عبد العزيز.
ابن السكري
علي بن قيران.
السكندري
قاضي طرابلس شمس الدين أحمد بن أبي بكر بن منصور.
السكاكيني
محمد بن أبي بكر.
ابن السلعوس
شهاب الدين أحمد بن عثمان. وتقي الدين عمر بن محمد بن عثمان.
ابن سلامة
بهاء الدين موسى بن عبد الرحمن.
سليمان بن إبراهيم بن سليمان
القاضي علم الدين أبو الربيع، المعروف بابن كاتب قرا سنقر، في الديار المصرية.
وكان في الشام يعرف بالمستوفي، وورد من الديار المصرية أولاً مستوفي النظر بدمشق، ثم عزل في أيام الصاحب أمين الدين، وصودر، وذلك في سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، فيما أظن، ثم إنه باشر نظر البيوت والخاص.
ثم إنه في أيام قطلوبغا باشر صحابة الديوان، وكان في مصر أولاً في زكاة الكارم، ثم إنه باشر عند الأمير سيف الدين منكلي بغا الناصري السلاح دار. وكان أولاً مع والده عند قرا سنقر، وهو خصيص به، وتوجه معه إلى البرية، وعاد منها.
وكان من ذوي المروءات، وأولي الرغبة في الفتوات، يخدم الناس بجاهه وماله، ويولي الإحسان قبل سؤاله.
وكان النظم عنده أهون من التنفس، وأسرع من القطر عند التبجس، فكنت أتعجب من أمره، ويحصل لي نشوة من كؤوس خمره، مع أنه نظم عذب أمضى من عضب، قد خلا من التعقيد والتعاظل المكروه، وانسجم فلا يظهر عليه كلف تكلف، ولا يعروه.
وكان فصيحاً في اللغة التركيه، وما يورده من عباراتها المحكيه، وكان للكتب جماعه، ونفسه في الاستكثار منها طماعه، حصل منها شيئاً كثيرا، واقتنى منها أمراً كبيرا.
وكان خطه أبهى من الرياض، وأبهج من ترقرق المياه في الحياض. وكتب بخطه كثيراً من المجلدات، وجمع مجاميع هي بين الأدباء مخلدات.
وكان في صناعة الحساب بارعا، وفي عقد الجمل للبرق مسارعا.(1/343)
وصحب الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وجمع شعره ودونه ورواه عنه. وروى من شعر ابن سيد الناس وأكثر منه.
ولم يزل على حاله إلى أن زال من الحياة ملك سليمان، وراح ولم ينفعه مما جمع غير التوحيد والإيمان.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد سابع عشري جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ومولده ثامن عشر المحرم سنة سبع وسبعين وست مئة.
كتب هو إلي وأنا بالقاهرة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة:
يا غائباً غاب عن عيني فلم تنم ... وذاهباً فضله قد شاع في الأُمم
سافرت عنا فطال الليل في سهدٍ ... فنحن بعدك في ظلم وفي ظلم
آنست مصر وأوحشت الشآم فيا ... خلوّه من حلى الآداب والكرم
ليهن مصر صلاح الدين كونك في ... أرجائها كاتباً في أشرف الخدم
جمّلت ديوان إنشاءٍ حللت به ... يا خير حبر يوشّي الطّرس بالقلم
فما محيّاك إلا بدر داجيةٍ ... وما يمينك إلاّ ركن مستلم
سقياً لأيام أنسٍ كان رونقها ... بفضل أنسك فينا وافر القسم
نجني فضائلك الغرّ الحسان ولا ... نعبا بروضٍ سقاه وابل الدّيم
أقسمت لا فرق ما بين الجواهر في ... عقدٍ وبين الذي تبدي من الكلم
فالله يبقيك ما ناحت مطوّقةٌ ... فيما نرجّيه من سعد ومن نعم
فكتبت أنا الجواب إليه:
بالغت في الجود والإحسان والكرم ... وزدت في شرف الأخلاق والشيم
وما رضيت بغايات الأولى سبقوا ... إلى المعالي ولا ترضى بعزمهم
حتى تحوز على الجوزاء مرتقياً ... إلى معاني لم تخطر بفكرهم
وتدرك المجد سبّاقا وشغلهم ... في عثرة القول أو في عثرة الكلم
كم اجتهدت لعليّ أن أفوز فلم ... أفز سوى مرةٍ في الدهر بالخدم
وأبعدتني الليالي بعد ذاك وفي ... قلبي حلاوة ذاك اللطف والشيم
فكنت كالمتمنّي أن يرى فلقا ... من الصباح فلما أن رآه عمي
فليت دهري يسخو لي بثانيةٍ ... حتى أعود إليها عود مغتنم
وأجتلي أوجه اللذات سافرةً ... عن كل مغنىً حوى صنفاً من النّعم
فما خلائقك الحسنى التي بهرت ... عقلي سوى زهرٍ في الروض مبتسم
أو نسمةٍ خطرت بالبان نفحتها ... ولا أقول سرت بالضّال والسّلم
وما عبارتك المثلى سوى دررٍ ... والناس تحسبها ضرباً من الكلم
كم التقطت ومولانا يسامرني ... جواهر الفضل والآداب والحكم
وكم معانٍ كأنّ السحر نضّدّها ... لم تبق عندي عقابيلا من السقم
نعم وأبيات شعرٍ راق موردها ... لم أنسهنّ وما بالعهد من قدم
آها لأيّامنا بالخيف لو بقيت ... عشراً وواهاً عليها كيف لم تدم
يا سيداً بندى يمناه صحّ لنا ... أنّ الغمام بخيلٌ غير منسجم
وماجداً جدّ في كسب العلى فغدا ... تخشى الصوارم منه صولة القلم
شوقي إلى لثم ذاك زاد على ... شوق الرياض إذا جفّت إلى الديم
ووحشتي لمحياك الجميل هل اس ... توحشت قطّ لبدر التم في الظلم
ووحشتي لفوات القرب منك كما ... تجسّر الساهد المضنى إلى الحلم
فهذه بعض أشواقٍ أكابدها ... في وصفها قلمي ساوى لنطق فمي
أظهرت وجدي ولم أكتم لواعجه ... ومن يطيق خفا نار على علم
وأنشدني غالب نظمه من لفظه لنفسه، فمما أنشدني لنفسه قوله ينحو فيه ما نحاه الشيخ تقي الدين السروجي في أبياته المشهورة:
قصّة الشوق سر بها يا رسولي ... نحو من قربه مناي وسولي
عند باب الفتوح حارةٌ بها الد ... ين تحت الساباط قف يا رسولي
وإذا ما حللت تلك المغاني ... قف بتلك الطلول غير مطيل
وتأمّل هناك تلق غرير الط ... رف أحوى يرنو بطرفٍ كحيل(1/344)
من بني الترك فاتر الطرف يرمي ... بنبال الجفون كل نبيل
ألفيّ القوام قد ألف الهج ... ر دلالاً على المحبّ الذليل
فإذا قال أُوزي نجك در سلام بر ... كيف حال المضنى الكئيب العليل
قبّل الأرض ثم قدّم إليه ... قصةً قدّمت بشرح طويل
فإذا قال أُوزي نجك در سلام بر ... كيف حال المضنى الكئيب العليل
قل قلن خش دا كل تلاماس دن ... ادن إلاّ سني بلا تطويل
كال سني كرمسكين كشي شفّه الوج ... د فأضحى حلف الضنى والنحول
وأما أبيات الشيخ تقي الدين عبد الله بن علي السروجي فأنشدني شيخنا الحافظ فتح الدين أبو الفتح اليعمري والقاضي الرئيس عماد الدين إسماعيل بن القيسراني، كلاهما قال: أنشدنا من لفظه لنفسه الشيخ تقي الدين السروجي، وأكثر الأبيات أنشدنيها القاضي عماد الدين:
يا ساعي الشوق الذي مذ جرى ... جرت دموعي فهي أعوانه
خذ لي جواباً عن كتابي الذي ... إلى الحسينيّة عنوانه
فهي كما قد قيل وادي الحمى ... وأهلها في الحسن غزلانه
امش قليلاً وانعطف يسرةً ... يلقاك درب طال بنيانه
واقصد بصدر الدرب دار الذي ... بحسنه يحسن جيرانه
سلّم وقل يخس من كي من ... اشت حديثاً طال كتمانه
كنكم كرم ساوم اشي أط كبي ... فحبّه أنت وأشجانه
واسأل لي الوصل فإن قال يق ... فقل أُوت قد طال هجرانه
وكن صديقي واقض لي حاجة ... فشكر ذا عندي وشكرانه
وأنشدني من لفظه لنفسه:
غرامي فيك قد أضحى غريمي ... وهجرك والتجني مستطاب
وبلواي ملالك لا لذنب ... وقولك ساعة التسليم طابو
وأنشدني من لفظه لنفسه:
أيا من قد رمى بسهم ... من الأجفان فهو أشدّ أقجي
أيحسن منك أن أشكو غرامي ... فتعرض نافراً وتقول يقجي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
قلت له كم تشتكي ... وتشتهي خذ واتكي
فقال: لا قلت: له ... لا تشتهي وتشتكي
وأنشدني من لفظه لنفسه، وقد توفيت زوجته:
إنّي لأعجب لاصطباري بعدما ... قد غيّبت بعد التنعّم في الثرى
هذا وكنت أغار حال حياتها ... من مرّ عاطفة النسيم إذا سرى
وأنشدني من لفظه لنفسه:
أقول لقلبي حين غيّبها الثرى ... تسلّ فكلٌّ للمنية صائر
وفي كل شيء للفتى ألف حيلة ... ولا حيلةٌ فيمن حوته المقابر
وأنشدني من لفظه لنفسه:
تقول بحقّ ودّك عدّ عنّي ... ودعني ما الكؤوس وما العقار
وهاريقي وكاسات الحمّيا ... وذق هذا وذا ولك الخيار
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لا تقل قد قبلت عقد نكاحٍ ... وبصدق الصّداق لا تك راضي
وإذا ما عجزت قل بالتسرّي ... لم، وإلاّ بغير علم القاضي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
قالت وقد راودتها عن حالة ... يا جارتي لا تسألي عمّا جرى
إني بليت بعاشق في أيره ... كبرٌ فلا فلسٌ ويطلب من ورا
سليمان بن إبراهيم
بن إسماعيل الملطي الحنفي
القاضي الفقيه شمس الدين أبو محمد.
ناب في الحكم مدة طويلة بدمشق، ودرس بالظاهرية وغيرها، وناب بالقاهرة في الحكم لما توجه إليها في الجفل.
وكان رجلاً صالحاً مباركاً متواضعاً.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت نصف ذي القعدة سنة ثلاث وسبع مئة.
سليمان بن إبراهيم بن سليمان
ابن داود بن عتيق بن عبد الجبار، القاضي صدر الدين المالكي.
تولى قضاء الشرقية والغربية من الديار المصرية، وسافر رسولاً من جهة السلطان إلى بغداد.
توفي رحمه الله تعالى حادي عشري شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.
سليمان بن أحمد(1/345)
ابن الحسن بن أبي بكر بن علي، تقدم تمام النسب في ترجمة ولده الحاكم أحمد بن سليمان، هو أمير المؤمنين أبو الربيع المستكفي بالله بن الحاكم بأمر الله الهاشمي العباسي البغدادي الأصل، المصري المولد.
قرأ واشتغل قليلاً، وخطب له عند وفاة والده سنة إحدى وسبع مئة، وفوض جميع ما إليه من الحل والعقد إلى السلطان الملك الناصر محمد، وسارا معاً إلى غزو التتار، وشهدا مصاف شقحب في شهر رمضان سنة اثنين وسبع مئة، وهو مع السلطان راكب، وجميع كبار أمراء الجيش مشاة، وعليه فرجية سوداء مطرزة وعمامة كبيرة بيضاء بعذبة طويلة، وقد تقلد سيفاً عربياً محلى.
ولما فوض الأمر إلى الجاشنكير، وقلده السلطنة بعد توجه السلطان الملك الناصر، ولقب المظفر، عقد له اللواء، وألبسه خلعة السلطنة: فرجية سوداء وعمامة مدورة، وركب بذلك والوزير حامل التقليد على رأسه، وهو من إنشاء القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر وأوله: " إنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " هذا عهد لا عهد لمليك بمثله.
رأيته أنا بالقاهرة مرات، وكان تام الشكل حسنا، يملأ برونقه العين مهابة وسنا، تعلوه الهيبة والوقار وعليه من أبهة الخلافة والأمانة أنوار، يجود لو كان المال طوع حكمه، وينصف المظلوم ولكن هو يشكو مثل ظلمه.
ولم يزل بمصر إلى أن تنكر السلطان عليه، وكاد من الحنق يحضره بين يديه، فأطلعه وأهله إلى القلعة، وأسكنه برجاً مطلاً على الباب، وحير في أمره ذوي العقول والألباب، فلم يركب ولم ينزل، ولم يدخل ولم يخرج وهو في المنزل، وبقي مدة تقارب الخمسة أشهر، ثم أفرج عنه، وأنزله إلى داره، وهو لم يشتف منه. ثم إنه تنكر عليه بعد نصف سنة أخرى، وجرعه في هذه المرة كأساً مزاجها مراً، وجهز وأولاده إلى قوص في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، فراح إليها والعيون من الناس عليه عبرى، والنفوس لم تملك على مصابه صبرا، وأقام بها يكابد هواحر هواجرها، ويجري دمعاً لما نزل من عينه محا محاجرها، إلى أن توفي ولده صدقه، وكان يحل منه محل قلبه لا الحدقه، فوجد عليه وجداً شديدا، وأذاب قلبه ولو كان حديدا.
ولم يزل بعد ذلك في حزن يذوي، ودمع يكوي، إلى أن فجع المؤمنون بأميرهم، وباح الحزن عليه بما في ضميرهم.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل شعبان سنة أربعين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وثمانين وست مئة.
وكان له ولد كبير اسمه خضر كان قد جعله ولي عهده، فتوفي في جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، وعهد بالأمر إلى ولده الحاكم أحمد، فلم يمضه السلطان وبويع ابن أخيه أبو إسحاق إبراهيم بيعة خفية لم تظهر إلى أن تولى السلطان الملك المنصور أبو بكر، فأحضر ولده أبا القاسم أحمد، وبايعه ظاهراً، وكني أبا العباس، على ما تقدم في ترجمته في الأحمدين.
وأخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: إن المرتب الذي كان له لم يكن يبلغ خمسين ألف درهم في السنة، فلما خرج إلى قوص قوم غالياً وحسب زائداً، ليكثر ذلك في عين السلطان، وجعل ستة وتسعين ألفاً، فرسم بأن يصرف ذلك إليه بكماله من مستخرج الكارم، فأرادوا نقصه فازداد.
سليمان بن أبي بكر
الأمير علم الدين ابن الأمير سيف الدين بن البابيري، تقدم ذكر والده في حرف الباء.
وكان هذا الأمير علم الدين شاباً حسن الوجه، مبرأ من عدم الحياء وقبح النجه، حلو الصوره، كأن وجهه للملاحة جامع، والمحاسن عليه مقصوره. تنقل في الولايات وتوقل هضبات النيابات.
ولم يزل على حاله حتى أدرج في كفنه، واستحال بعد صحة تركيبه إلى عفنه.
وتوفي رحمه الله تعالى بحماة، ورد الخبر إلى دمشق بموته في أول شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وسبع مئة، وعمره يقارب الثلاثين أو يزيد عليها قليلاً.
وكان والده الأمير سيف الدين البابيري يحبه محبة زائدة وإذا قيل له: يا أبا سليمان، يترنح ويتريح، وأخذ له إمرة عشرة في حياته، ثم أخذ إمرة الطبلخاناه بدمشق في سنة سبع وخمسين أو سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. وتولى ولاية الولاة القبلية، ووقع في أيامه ذاك العشير، إلى أن حضر الأمير شهاب الدين شنكل من الديار المصرية.(1/346)
ثم إن الأمير علم الدين سليمان أعطي نيابة ألبيرة في أوائل سنة ستين وسبع مئة، ثم عزل عنها، وحضر مع الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي من حلب إلى دمشق، فولاه ولاية الولاة بالقبلية، وعزل عنها، ورسم له بنيابة ألبيرة، فتوجه إليها، وأقام بها إلى أن عزل منها بالأمير سيف الدين قراكز أخي الأمير سيف الدين يلبغا، ونقل إلى حماة أمير طبلخاناه، فأقام بها قليلاً، وتوفي رحمه الله تعالى.
وكان يحصل له في بعض الأوقات صرع، حصل له في وقت بحلب وقد حضر ليتوجه إلى نيابة ألبيرة، فتحامل وأمسك نفسه إلى أن حصل له رعاف كثير، وهو بباب دار النيابة بحلب رحمه الله تعالى.
عمل شد الدواوين بدمشق أيضاً.
سليمان بن أبي حرب
علم الدين الكفري الفارقي النحوي الحنفي.
أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين قال: تصاحبت أنا والمذكور بالقاهرة، وكان من تلاميذ ابن مالك، أخبرني أنه عرض عليه أرجوزته الكبرى المعروفة بالكافية الشافية وأنه بحث أكثرها عليه، وأنه قرأ القراءات السبع بدمشق، وأشغل الناس عليه، وكان حنفي المذهب. قال: وأنشدني كثيراً يذكر أنه له، ولما قدم الأديب شهاب الدين العزازي إلى القاهرة، ذكر لنا أنه كان ينشد لنفسه كثيراً مما كان ينشده العلم سليمان لنفسه.
وأنشدني قال: أنشدني الفقير يعيش الفارقي قال: مما كتب به العلم سليمان إلى الكاتب شرف الدين بن الوحيد رحم الله جميعهم، وعفا عنهم:
أما ومجد أثيل أعجز الفصحا ... ونائل كلّما استمطرته سمحا
لو وازن ابن الوحيد الناس كلّهم ... ببعض ما ناله من سؤددٍ رجحا
سليمان بن حسن
ابن أحمد بن عمرون البعلبكي الصدر شرف الدين.
ولد بحماة، وحدث عن الحافظ شرف الدين اليونيني وغيره، واختلط في سنة أربع وخمسين وسبع مئة.
باشر عدة ولايات بطرابلس وغزة وبعلبك ودمشق، وولي الأقطار الكبار في دمشق مثل الربوة وغيرها.
وكان لين العريكه، لا يذم صاحبه ولا يخون شريكه، رافق في طرابلس لأسندمر النائب، وكان يحكي عنه الغرائب والعجائب، إلا أنه نزل به الوقت، وآل أمره بعد المحبة إلى المقت، وبطل من المباشره، وتخلى عن الاختلاط بالناس والمعاشره، وعبس الدهر في وجهه بعد المكاشره، وانكمش عن الصحبة بعدما كان عنده فيها شره، وجلس مع الشهود في الساعات، وخلع وقاره على الخلاعات، إلى أن أصبح الشرف في الحضيض، وغمض الموت طرفه وكان غير غضيض.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وخمسين وسبع مئة، عن نيف وثمانين سنة.
وتولى نظر غزة والساحل ونابلس في وقت، وحضر من غزة إلى نابلس ليكشف أمرها، فحصل له مباشروها خمسة آلاف درهم على عادة الكتاب، فلما طلعوا وتلقوه، انفرد بالناظر خلوةً وقال: يا مولانا: عندكم فرد كناب من هذا النابلسي وقليل صابون وزيت ؟ فقال له: نعم، فقال: دبره لنا وجهزه إلى غزة، وكان جميع ما طلبه ما يقارب الثلاث مئة، وراحت تلك الخمسة آلاف، وتوفرت على المباشرين، وكذا كان يفعل في نظر الزكاة، يطلع إلى القابون ويتلقى القفول، فيحصل له كبار القفول التفاصيل الحرير والتحف والذهب والدراهم، فيقول لهم: الوقت مضرور إلى منيشفات بغدادية، فيعرف التجار أن ذلك رضاه، فيوفرون ما حصلوه لأنفسهم، ويعطونه ذلك القدر النزر.
وكنت قد كتبت له توقيعاً بنظر غزة والساحل ونابلس في ثالث عشري صفر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة وهو:(1/347)
رسم بالأمر العالي، لا زالت شموس سعوده تحل بالشرف، وعروس وعوده تثمر بالتحف، لمن ارتدى بظلها والتحف، أن يرتب المجلس السامي القضائي الشرفي في كذا وكذا، ثقة بكفايته التي شهرت، ونامت عيون من دونه عنها وسهرت، وملأت القلوب إعجاباً بها وبهرت، لأنه الرئيس الذي كبت الجياد عن بلوغ مداه، وكبت الحساد بما حازه من الفضل الذي تقمص برده وارتداه، والماجد الذي جاذب في السيادة لما امتطاها أعنةً وأرسانا، والماهر الذي يملأ المعاملات حسناً وإحسانا، والكاتب الذي طالما جادل فجدل من العمال أبطالاً وفرسانا، والناظر الذي أصبح لناظر الزمان على الحقيقة إنسانا. فليباشر ما فوض إليه مباشرةً، يظهر بها عزه، في وجه غرة غزه، ويغرق بحره الساحل بالعين والغله، حتى يكون كل ذرة في لجه درة، ويفيض على نواحي بره بره، وليضبط ما تحصل منها بأقلام الفكر في دفاتر الجنان، ويضع على متحصلاتها ختم مراعاته حتى لا يصل إليها ولا الجان، وكيف وعليها خاتم سليمان ؟! على أن هذه النواحي عش دب منه ودرج، وعرين دخل غابه فغاب وخرج، وأفق طالما ترقى في مطالعه وعرج، وبر وبحر خلط علمه معرفتيهما ومرج، وبلاد تحقق مقاصد أهلها فما يبدون ولا يعيدون، ومباشرات لما دبرها قصرت عن أوصاف ابن عمرون فيها بلاغة ابن زيدون، والتقوى ملاك الأمور، فلينزلها ربوع فكره، وليجعلها نجي سره وجهره، والله تعالى يوفق مساعيه، ويجمل بمحاسنه أيامه ولياليه، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
سليمان بن أبي الحسن بن ريان
القاضي جمال الدين بن ريان الطائي، هو ابن عمر القاضي عماد الدين سعيد بن ريان المقدم ذكره.
كان رجل زمانه ونظير أقرانه.
يحب الخط المنسوب ويبالغ فيه، ويود لو ملك كل شيء ليذهبه في تلافيه، ويلزم أولاده بالتجويد، ويحرضهم على تحصيله وبياض وجههم بكثرة التسويد، ويجتهد على نسخ المصاحف الكبار، وينفق عليها جملة من اللجين والنضار، ماله في غير ذلك أرب، ولا يثنيه عن ذلك أحد في العجم ولا في العرب، وبقية وصفه يأتي في مرثيته نظماً، ومن هناك يعلم قدر ما كان فيه حقيقةً لا وهما.
نزل عن وظيفته لولده القاضي بهاء الدين الحسن في آخر عمره، وانقطع هو في بيته، وأقبل هو على ما يعينه في آخرته من أمره، إلى أن ابتلعه فم لحده، وأصبح عبرةً لمن تركه من بعده.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب.
ومولده في حادي عشري شهر رمضان سنة ثلاث وستين وست مئة.
وكان والده رجلاً صالحاً من أهل القرآن، حرص على ولده هذا القاضي جمال الدين سليمان، وأقرأه القرآن الكريم، وكان يمنعه من عشرة أقاربه، وإذا رآه يكتب القبطي المعرب يضربه وينكر ذلك عليه، فأبى الله تعالى إلا أن يجعل رزقه في صناعة الحساب.
ولم يزل مع ابن عمه القاضي عماد الدين سعيد بن ريان، فلما حج عماد الدين وتوجه إلى مصر وأخذ توقيعاً بنظر حلب، ووصل إلى دمشق توفي رحمه الله تعالى، فأخذ القاضي جمال الدين توقيعه، وتوجه به إلى حلب، وكان قراسنقر بها نائباً، ولعماد الدين عليه حقوق خدم، فاستقر القاضي جمال الدين ناظر جيش، ولم يزل بها إلى سنة ثماني عشرة وسبع مئة، فرسم له بنظر صفد في المال، فحضر إليها وأقام بها إلى أوائل سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، فطلب إلى مصر وولاه السلطان نظر الكرك ووكالة بيت المال، ثم إنه ولاه نظر حلب، ولم يخرج من مصر ولم يتوجه إلى الكرك، فحضر إلى حلب ناظر المال، فأقام بحلب مدة يسية، وتوجه إلى مصر وتولاها ثانياً.
ثم إنه عزل من نظر بيت المال وحضر إلى نظر المال بصفد ثانياً، فأقام قريباً من شهر، ثم طلب إلى مصر، وتولى نظر الجيش بحلب، ولم يزل إلى أن عزل في واقعة لؤلؤ، وأقام بطالاً مدة يسيرة، ثم إنه جهز إلى نظر طرابلس فأقام بها. ثم إنه حضر إلى صفد ثالثاً ناظر المال، وولده القاضي شرف الدين ناظر الجيش، فأقام بها مدة. ثم توجه إلى حلب ناظر الجيش.
ثم إنه استعفى وطلب الوظيفة لولده القاضي بهاء الدين الحسن ولزم بيته مدة.
ثم إن السلطان ولاه نظر الجيش بدمشق عوضاً عن القاضي فخر الدين بن الحلي لما توفي رحمه الله تعالى، وأقام به إلى أن عزل في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، فتوجه إلى حلب وأقام بها ملازماً بيته، لا يخرج منه إلا إلى صلاة الجمعة.(1/348)
ولما كان في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، حضر إلى دمشق وتوجه منها إلى الحجاز وقضى حجة الإسلام وعاد فيها وقد ضعف، فركب محفةً وتوجه إلى حلب، ولم يزل في حلب على حاله إلى أن توفي.
ولقد رأيته يقوم في الليل ويركع قبل الفجر قريباً من عشرين ركعة، وله في كل اسبوع ختمة يقرؤها هو وأولاده، ويصوم في غير شهر رمضان. وكان ذهنه جيداً في العربية والأصول.
وسمع ابن مشرف وست الوزراء، وقرأ العربية على الشيخ شرف الدين أخي الشيخ تاج الدين، ويعرب جيداً، ويعرف الفرائض جيداً، والحساب وطرفاً صالحاً من الفقه، وعلى ذهنه نكت من المعاني والبيان والعروض، وينقل كثيراً من القراءات ومرسوم المصحف.
ولي معه مباحث كثيرة رحمه الله تعالى.
ولما توفي كتبت إلى ولده القاضي شرف الدين حسين قصيدة رثيته بها وه:
أظمأت نفس المعالي يا ابن ريّانا ... حتّى توقّدت الأحشاء نيرانا
وانهلّ دمع الغوادي فيك من حزنٍ ... وشقّق البرق في الآفاق أردانا
ومزّق الصبح أثواب الدّجى ورمى ... حلي النجوم وأضحى فيك عريانا
وكلّ ساجعة في الأيك نائحةٌ ... تملي من الوجد في الأشجار أشجانا
أتت دمشق بك الأخبار من حلب ... يا بئس ما خبّر النّاعي وناجانا
وددت من حرقتي لو كنت ذا شجن ... لو أنّ للصخر قبل اليوم آذانا
تكاد تبكي المعالي فيك من جزعٍ ... بالدمع لو وجدت للدمع أجفانا
من للظلام إذا نام الأنام غدا ... يقطّع الليل تسبيحاً وقرآنا
ومن لمحرابك الزاكي فليس يرى ... من بعد فقدك فيه قطّ إنسانا
كم قد ختمت كتاب الله متّعظاً ... وفي تدبّره كم رحت ولهانا
وكم حثثت الخطا نحو الصلاة لأج ... ل الصفّ الأوّل في الأسحار عجلانا
تواظب الصّوم في يوم الخميس وفي ال ... إثنين حتى لقد أمسيت خمصانا
وكم ممالك قد دبّرت حوزتها ... فكنت خير وزير قطّ ما خانا
وتستقيم بك الأحوال ماشيةً ... حتى تفيض بك الأموال طوفانا
لله درّك كم جمّلت مدرسةً ... وبالكتابة كم شرّفت ديوانا
فكنت في الجود غيثاً والهدى علماً ... وفي الحجى حجة والعلم نهلانا
ثم اعتزلت الورى من غير ما سبب ... إلا لتطلب من ذي العرش رضوانا
ومن أراد من الأُخرى جواهرها ... أباع أعراض هذي المال مجانا
وكان أربح مالاً عند خالقه ... وراج أرجح يوم الحشر ميزانا
فاذهب فأيّ ضريح أنت ساكنه ... ترى التراب به روحاً وريحاناً
ولم يمت من بنوه سادةٌ نجبٌ ... لما بنى مجدهم شادوه إتقانا
وجمّلوا الملك إذ زانوا مناصبه ... وألبسوها من العلياء تيجانا
إن كوتبوا أو لقوا أو خوطبوا وجدوا ... في الخط واللفظ في الهيجاء فرسانا
بهاؤهم ما يباهي عزمه أحدٌ ... وفيهم شرفٌ باقٍ لهم زانا
وما شهابهم خافٍ بمطلعه ... كما كمالهم قد حاز إحسانا
تعزّ يا شرف الدين الذي قبضت ... يمنى علاه من العيّوق أرسانا
بيانه ظاهرٌ لو أنّ رونقه ... للبدر لم يخش عند السّير نقصان
تالله ما دار كأسٌ من بلاغته ... عليّ إلا أهزّ العطف نشوانا
له عبارات نظمٍ كلّما سحبت ... ذيولها أعثرت في الحال سحبانا
مثل العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فالناس في حلب حلّت بهم بهمٌ ... وأصبح القوم خرساً في خراسانا(1/349)
فلا يرع لكم سربٌ بحادثة ... ولا رأى شأنكم خطبٌ ولا شانا
ولا يكدّر لكم شربٌ بنازلة ... ولا حدت لكم الأحداث أضغانا
تحفّكم بركاتٌ من تقاه فقد ... أخذتم منه حرزاً من سليمانا
يقبل الأرض وينهي ما عنده من الألم لهذه النازله، والقلق لهذه الرزية التي جعلت الدموع هاميةً هامله، والجزع لهذه الحادثة التي تركت الجوانح حاميه، فليت القوى لو كانت حاملة ف " إنا لله وإنا إليه راجعون " قول من فقد جماله، وعدم صبره واحتماله، وفجعه الدهر بواحده الذي ما رأت عينه مثاله، فرحم الله ذلك الوجه الجميل، وقدس تلك السريرة التي كان الصفاء لها ألزم زميل، وما بقي غير الأخذ فيما وقع بالسنه، والصبر على فقد من أثار النار في الفؤاد وسكن الجنه، وقد جهز المملوك هذه القصيدة التي يسبح نونها من الهم في يم، ويشرح في هذا المأتم ما تم، إن شاء الله تعالى.
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك: يقبل الأرض وينهي ورود المثال الشريف يتضمن تعزي حسن لفظها، وأثر في القلوب وعظها، وتعين تسطيرها في صحائف الأفكار وحفظها، فوقف المملوك على محاسنها وأحاسنها، وشملته من مكامنها بميامنها، وتسلى بما حوت من مفصل الرثاء ومجموعه، وأسال من أجفانه دماً بدل دموعه، فيالها من رزية عظمت فيها المآتم، ومصاب كشفت حجبه السليمانية عن حزن له خاتم، وتحقق المملوك من أثناء أبيات القصيدة النونية بركات ذي النون، ونظر إلى نونها وقد غاص في بحر الفضائل فاستخرج دره المكنون، ولقد كتب المملوك جواب مولانا معترفاً فيه بالتقصير، مغترفاً من منهل فضله الغزير، وهو:
جدّدت في القلب آلاماً وأحزانا ... أسالت الدّمع من جفنيّ طوفانا
فاعجب لجفنٍ يفيض الماء مدمعه ... ومهجةٍ تلتظي بالحزن نيرانا
عزّيتنا في أبينا فاكتسبت به ... أجراً وأوليتنا فضلاً وإحساناً
أكرم به من أبٍ شاعت مناقبه ... في الناس واشتهرت بالجود إعلانا
كم بات في ظلمات الليل منتصباً ... في خدمة اللّه يقضي الليل يقظانا
كم ختمةٍ قد تلاها في النهار وكم ... أفنى الحنادس تسبيحاً وقرآنا
ولازم الصّوم أوقات الهواجر لا ... يرتدّ عن صومه ديناً وإيماناً
وكان يخشن في دين الإله تقىً ... عند الحفيظة إن ذو لوثةٍ لانا
وكان يخشى ويرجى في ندىً وردىً ... والصّعب من رأيه تلقاه قد هانا
شبنا وأذهلنا عظم المصاب به ... وكلّ صبّ به ذهل بن شيبانا
سارت جنازته والخلق تتبعها ... والحزن عمّهم فينا وغشّانا
حتى ملائكة الرّحمن مذ علموا ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
نعى النّعاة وضجّوا بالنعيّ له ... فأورثوا القلب أشجاناً وأحزانا
جار الزمان ولم يقصد بمصرعه ... إلا ليهدم للمعروف أركانا
إن الخطوب التي ساقت منيّته ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
من ذا يوفّي علاه بالرثاء ولو ... كان المرثّي له قسّاً وسحبانا
لم أقض بالشعر حقاً من علاه ولو ... نظمت في كلّ يوم فيه ديوانا
لو قيل: من فاق أرباب الصّلاح تقىً ... كان الجواب: سليمان بن ريّانا
إني لأعلم أنّ اللّه يجعله ... أوفى البريّة عند اللّه ميزانا
حيّرتنا بمثال فيه تعزيٌ ... به اتّعظنا وعزّانا وسلاّنا
فيه قريضٌ بديع النّظم مشتملٌ ... على معانٍ حسانٍ فقن حسّانا
إن رمت تشبيهه بالرّوض كان له ... فضلٌ على الرّوض لا يحتاج برهانا
الرّوض يذبل في وقتٍ ونظمك قد ... وقاه فكرك طول الدّهر ماشانا
أو قلت ألفاظه مثل الكواكب لم ... أكن موفّيه بالأوصاف تبيانا(1/350)
إذ الكواكب في ضوء النهار أرى ... أنوارها تختفي في الجو أحيانا
لكن أقول هذا العقد الثّمين وقد ... نظمت ألفاظه درّاً وعقيانا
في أحمر الطرس قد سطّرت أحرفه ... كالدّرّ خالط ياقوتاً ومرجانا
حفظت عهدك في حال الحياة ومن ... بعد الممات فحيّا اللّه مولانا
كذا تكون صفات الحرّ يحفط من ... عهد المودّة أصحاباً وإخوانا
لا ذقت فقد حميم بعدها وحمت ... وقاية اللّه مولانا وإيانا
سليمان بن حسن
الشيخ حسام الدين بن بدر الدين، ابن الشيخ الكبير القدوة العارف غانم المقدسي.
كان حسام الدين شيخ الحرم بالقدس، له همة وفيه مكارم، وعنده خدمة للناس.
حدث عن الشيخ تقي الدين الواسطي.
وسمع منه أمين الدين بن الواني.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشري شعبان سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده في شهر رجب سنة أربع وخمسين وست مئة.
سليمان بن حمزة
ابن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة: الشيخ الإمام المفتي شيخ المذهب، مسند الشام قاضي القضاة تقي الدين أبو الفضل المقدسي الجماعيلي الدمشقي الصالحي الحنبلي.
سمع الصحيح حضوراً في الثالثة من ابن الزبيدي، وسمع صحيح مسلم وما لا يوصف كثرةً من الحافظ ضياء الدين، وربما عنده عنه ست مئة جزء. وسمع حضوراً من جده الجمال أبي حمزة، وابن المقير، وأبي عبد الله الإربلي، وسمع من ابن اللتي، وجعفر الهمداني، وابن الجميزي، وكريمة الميطورية وعدة.
وأجاز له محمد بن عماد، وابن باقا، والمسلم المازني، ومحمود بن مندة، ومحمد بن عبد الواحد المديني، ومحمد بن زهير شعرانة، وأبو حفص السهروردي، والمعافى بن أبي السنان، والمقرئ ابن عيسى وخلق كثير.
وخرج له ابن المهندس مئة حديث، وخرج له شيخنا الذهبي جزءاً فيه مصافحات وموافقات، وخرج له ابن الفخر معجماً ضخماً.
وروى الكثير بقراءة شيخنا علم الدين البرزالي، وتفقه بالشيخ شمس الدين وصحبه مدة.
ودرس بالجوزيرة وغيرها. ولي الجوزية والقضاء عشرين سنة. ومن تلاميذه ولده قاضي القضاة عز الدين، وقاضي القضاة ابن مسلم، والإمام محمد بن العز، والإمام شرف الدين أحمد ابن القاضي، وطائفة.
وسمع منه المزي، وابن تيمية، وابن المحب، والواني، والشيخ صلاح الدين العلائي، وابن رافع، وابن خليل، وعدد كثير.
وقرأ طرفاً من العربية، وتعلم الفرائض والحساب، وحفظ الأحكام لعبد الغني، والمقنع.
وكان حاكماً عادلا، لا يقبل في الحق عاذلا، وكان جيد الإيراد للدروس، خبيراً باجتناء ثمار العلم من الغروس، يحفظ درسه من ثلاث مرات أو أكثر، ويسرده كأنه عقد تنضد إذا كان عند غيره قد تبعثر. وبرع في مذهبه وجوده، وأجرى جواد ذهنه فيه على ما عوده. وكانت له معرفة تامة بتواليف الموفق، وإذا تكلم فيها رأيت الغصن رقص والطير غنى والنهر صفق. وتخرج به الأصحاب، وجر السحاب خلفه ذيله السحاب.
وكان إذا أراد أن يحكم قال: صلوا على رسول الله، فإذا صلوا، حكم، وذل الخصم له ولو كان مروان بن الحكم.
ولم يزل على حاله إلى أن قطع الله من الحياة أمله، والتقى التقي عمله.
وتوفي رحمه الله تعالى حادي عشري العقدة سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة.
وكان الجاشنكير قد عزله سنة تسع وسبع مئة بالقاضي شهاب الدين بن الحافظ، ولما حضر السلطان من الكرك اجتمع به وولاه.
سليمان ابن داود
ابن سليمان بن محمد بن عبد الحق، الشيخ الإمام الفاضل الأديب الفقيه الرئيس القاضي صدر الدين أبو الربيع ابن الشيخ ناصر الدين الحنفي.
فقيه تأدب فبرع، وبلغ إلى الغاية من أول ما شرع، نظم سائر الفنون، وصدح في أيك الأدب والغصون. وقعدت معه التورية فأطربت، وزادت محاسن نظمه على الروض وربت.(1/351)
وكان مطرحاً عديم الوقفه، لا يكلف بالكلفه، ولا يأنس إلى وطن المناصب، ولا يفرق بين الشيعة والنواصب. قد أصبح في عالم الإطلاق، وتمسك بما يؤدي إلى مكارم الأخلاق. جاب البلاد، وجال بين العباد، ولم يدع شاماً إلا شام برقه، ولا عراقاً إلا ونبش عرقه، ولا حجازاً إلا كشف حجابه، ولا يمناً إلا وأم ملوكه وأربابه. وولي مناصب القضاء وغير ذلك، وانسلخ من الجميع يقول:
وما الناس إلاّ هالكٌ وابن هالك
طالما تمزر الفقر وتمزق، وأنف من ذلك فتزود للرتبة العالية وتزوق:
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدّياً فعدناني
ولم يزل ينجد ويغير، ويقطع الآفاق بالمسير، حتى ابتزه الدهر ثوب حياته، والتقطه طائر الموت فيما التقط من حباته.
وتوفي رحمه الله تعالى في أول سنة إحدى وستين وسبع مئة بالمهجم من بلاد اليمن.
ومولده سنة سبع وتسعين وست مئة.
قرأ القرآن على الشيخ مبشر الضرير، وسمع على أشياخ عصره مثل الحجار، وابن تيمية، والمزي، وغيرهم.
وقرأ المنظومة على عمه القاضي برهان الدين بن عبد الحق وحفظها، وقرأ ألفية ابن معطي، وحفظ النكت الحسان في النحو، وعرضها على مصنفها شيخنا أبي حيان، وكتب له عليها، وأثنى عليه، وعلق عليها حواشي من أولها إلى آخرها بخطه من كلام الشيخ، وبحث الأصلين على الشيخ صفي الدين الهندي بدمشق، وعلى تاج الدين بن السباك ببغداد، وقرأ تلخيص المفتاح على الخيلخاني.
ودخل بغداد سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، واجتمع بفضلائها. وسافر إلى خراسان والري، وعاد إلى مادرين. ثم رد إلى القاهرة ثانياً، وكان قد دخلها أولاً مع عمه قاضي القضاة برهان الدين، وكان يقرأ له الدرس في مدارسه بالقاهرة، وأذن له في الإفتاء.
ودرس بالديلمية، وحضر درسه أول يوم قاضي القضاة جلال الدين القزويني وبقية القضاة.
ودخل اليمن سنة خمس وأربعين وسبع مئة بعدما حج، واجتمع بصاحبه، فأقبل عليه وأنس به، ورأيت خطه إليه في عدة أوراق بآداب كثيرة ولطف زائد وخوله نعماً أثيلة. وباشر عندهم، ثم إنه تزوج بابنة الوزير، وحد صحبة الملك المجاهد صاحب اليمن في سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، فجرت لهم تلك الأحوال ونهبوهم.
أخبرني صدر الدين من لفظه قال: عدم لي في البر والبحر ما قيمته خمسة وعشرون ألف دينار.
وحضر إلى دمشق ومعه جملة من الجواهر الثمينة. ثم إنه توجه إلى القاهرة، وسعى في أيام الأمير سيف الدين شيخو، فباشر توقيع الدست بالقاهرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة - فيما أظن - وبعد قليل رسم له بنظر الأحباس مع توقيع الدست.
وجرت له حركة بسبب جاري تزوجها من جواري السلطان تخلخل أمره فيها ثم سكن، فلما أمسك الأمير سيف الدين صرغتمش أخرجوه إلى دمشق موقعاً في سنة ستين أوائلها، فجاء إليها ولم يباشر شيئاً، وأقام في دمشق لا يظهر، إلى أن سافر منها واختفى خبره، ثم ظهر أنه مقيم بنابلس لا يظهر، ومعه مملوك له مليح الصورة يدعى طشتمر، ثم توجه إلى الحجاز سنة ستين وسبع مئة، ثم إنه دخل اليمن ومملوكه معه، فلما وصل إلى المهجم توفي رحمه الله تعالى. قيل: إنه قتل لأنه كان معه قطعة بلخش عظيمة، كان يدعي أنها لصاحب اليمن.
وكان قد تولى القضاء ببغداد وبماردين أيضاً.
وكان رحمه الله تعالى عديم الكلفة، مطرحاً للرئاسة، يمشي في باب اللوق، ويمشي تحت قلعة دمشق، وكان هشاً بشاً، رضي الأخلاق. اجتمعت به غير مرة، وأنشدني كثيراً من شعره، وكان جيد النظم، تقعد معه التورية والاستخدام وصناعة البديع، وجود فنون الشعر من الموشح والزجل والمواليا والقريض وغير ذلك.
أنشد لنفسه بالقاهرة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة:
أيري كبيرٌ والصّغير يقول لي: ... اطعن حشاي به وكن صنديدا
ناديت هذا لا يجوز، فقال لي: ... عندي يجوز، فنكته تقليدا
وأنشدني لنفسه سنة اثنين وخمسين وسبع مئة:
عشقت يحيى، فقال لي رجلٌ: ... لم يبق فيك من الغرام بقيّا
تعشق يحيى تموت، قلت له: ... طوبى لصبّ يموت في يحيى
وأنشدني لنفسه:
قال حبيبي: زرني ولكن ... يكون في آخر النهار
قلت أُداري الورى وآتي ... لأيّ دارٍ فقال: داري
وأنشدني لنفسه:(1/352)
طال حكّي وعندما ... قلت: خذه لوقته
ضرط العلق ضرطةً ... دخل الأير في استه
وأنشدني لنفسه:
سموت إذ كلمتني ... سلمى بغير رساله
وقال صحبي: تنبّا ... وكلمته الغزاله
وأنشدني لنفسه:
من يكن أعمى أصما ... يدخل الحان جهارا
يسمع الألحان تتلى ... ويرى الناس سكارى
وأنشدني لنفسه:
بدا الشّعر في الخدّ الذي كان مشتهى ... فأخفى عن المعشوق حالي وما تخفى
لقد كانت الأرداف بالأمس روضةً ... من الورد وهي اليوم موردة الحلفا
وأنشدني لنفسه:
يا رسول الحبيب غث مستهاماً ... مغرماً يعشق الملاح ديانه
حدّث الخائف الكئيب من الهج ... ر فهو ممن الحديث أمانه
وأنشدني لنفسه:
وقائلةٍ يوم الوداع أرى دماً ... تفيض به عيناك، ناديت لا أدري
ألم تعلمي أنّ الفؤاد لبيننا ... يذوب وأنّ العين لا بدّ أن تجري
وأنشدني لنفسه:
وإلام أمنحك الوداد سجيّةً ... وأبوء بالحرمان منك وبالأذى
ويولمني فيك العذول وليس لي ... سمعٌ يعي وإلى متى نبقى كذا
وأنشدني لنفسه:
يقول نديمي عن نضوحٍ بكفّه ... لقد فضح الصّهبا وجلّ عن الخبث
فقلت: هو المطبوخ من حسدٍ لها ... ألم تره قد صار منه إلى الثّلث
وأنشدني لنفسه:
ضيّعت أموالي في سائبٍ ... يظهر لي بالودّ كالصّاحب
لمّا انتهى ما لي انتهى ودّه ... واضعية الأموال في السّائب
وأنشدني لنفسه:
وساحر طرفٍ عقربٌ فوق صدغه ... تدبّ إلى قلبي ولم أملك النفعا
وحيّة شعرٍ خلفها نحو مهجتي ... يخيّل لي من سحرها أنّها تسعى
وأنشدني لنفسه:
لمّا حكى برق النّقا ... لمعان ثغرك إذ سرى
نقل الغمام إليك عن ... دمعي الحديث كما جرى
وأنشدني لنفسه:
حظّ عينيّ من الدّنيا القذى ... وفؤادي حظّه منها الأذى
ولكم حاولت فيها راحةً ... ما أراد اللّه إلا هكذا
وبيني وبينه مكاتبات ذكرتها في كتابي ألحان السواجع، وعلقت من شعره كثيراً مما أنشدنيه من لفظه لنفسه من الموشحات والمواليا وغير ذلك وجميعه في التذكرة التي لي.
سليمان بن داود بن سليمان
أمين الدين رئيس الأطباء بدمشق.
كان سعيد العلاج، عديد السعد برأيه والابتهاج، أول ما ظهر به من المعرفة واشتهر، وشاع عنه أنه قد جاد وقهر، لما طلب إلى طرابلس لمعالجة أسندمر نائب طرابلس، فإنه وجده في الصيف في مثل ساحل طرابلس، وهم قد أدخلوه في خركاة وألبسوه فروة للمنام ثقيلة ومرضه حاد، فأمر بإخراجه من الخركاة، ونزع الفروة وحلق رأسه، وأخذ في علاجه بما يصلح به مزاجه، فصح وعوفي، وأعطاه شيئاً كثيراً، فاشتهر حينئذ أمر الأمين سليمان.
وأنا اجتمعت به بدمشق والديار المصرية غير مرة، وبحثت معه، فوجدته رجلاً خبيراً بالعلاج لا على القواعد، بل أخذ ذلك بسعد يرشده له، وفطنة تؤديه إليه، ولم أجده يعرف شيئاً من الحكمة. وزرت أنا وهو الآثار النبوية التي برباط الصاحب تاج الدين محمد بن حنا في المعشوق.
ولما توجه قاضي القضاة القزويني إلى الديار المصرية وجد عند السلطان تطلعا إلى عافية القاضي علاء الدين بن الأثير لفالج أصابه، فقال القاضي للسلطان: يا خوند: أمين الدين سليمان الطيب بدمشق داوى ولدي عبد الله من هذا المرض وبرئ منه. فطلبه السلطان إلى القاهرة، ولازم ابن الأثير، فما أنجب فيه علاج، لأنه كان قد تحكم فيه المرض، وعاد إلى دمشق في سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وكان يسمر عند الصاحب شمس الدين بن غبريال، ويلعب الشطرنج بين يديه كل ليلة، ويلازمه في النزهة وغيرها، وكان قد حصل أموالاً عديدة وكتباً عظيمة.
ولم يزل على حاله إلى أن أعيي العلاد داؤه، وفقده صحبه وأوداؤه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبع مئة في يوم السبت سادس عشري شعبان.
وكان قد سمع على شيخه كمال الدين الدنيسري شيئاً من الحديث بقراءة شيخنا علم الدين البرزالي.
ودفن بالقبيبات قبلي دمشق.(1/353)
سليمان بن عبد الحليم بن عبد الحكيم
الشيخ الإمام العالم الفاضل صدر الدين الباردي، بالباء الموحدة وبعد الألف راء ودال مهملة، المالكي الأشعري.
كان فقيهاً في مذهب مالك، سديد الطرق في علمه والمسالك، أفتى على مذهب إمامه مالك رضي الله عنه زمانا، والتقط الناس من فتاويه دراً وجمانا، وكان من بقايا العلماء وسلف الفضلاء، أشعري العقيدة، لا يقدر أحد على أن يكيده، وكان يصحب أكابر الشافعية ومن فيه ذكاء أو ألمعية.
ولم يزل على حاله إلى أن فترت من الباردي حركاته، واستولت عليه سكناته.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد خامس جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
وكان يدرس بالشرابيشية.
وقلت أنا فيه:
من بعد صدر الدّين صدري ضاق بل ... قد ذاق فرط جوىً وحزن زائد
ومن العجائب أن قلبي يلتظي ... بالنار من حزني لأجل الباردي
سليمان بن عبد الرحمن
ابن علي بن عبد الرحمن الشيخ الإمام العالم نجم الدين أبو المحامد النهرماوي - بالنون والهاء والراء والميم والألف والواو - الحنبلي قاضي القضاة ببغداد.
قال الحافظ نجم الدين الدهلي: سمع ببغداد جميع الأربعين الطائية على المسند أبي البركات إسماعيل بن علي بن أحمد بن الطبال الأزجي بسماعه ممن جمعها الإمام أبي الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي، وحدث بها ببغداد، وسمعها جماعة، منهم نجم الدين الدهلي.
وكان المذكور شيخ الحنابلة ببغداد وفقيههم ومدرسهم، تفقه على شيخ الإسلام تقي الدين أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي بكر الزريراني، وكان يثنى عليه بمعرفة الفقه. ودرس للحنابلة بالمستنصرية، وباشر القضاء مع التعفف والصيانة والتقشف، ولم يحكم بين الناس قبل موته بمده. ثم إن ولده استقل بالقضاء في حياته فسده، وولي التدريس أيضا، وأفاض الخير فيضا.
ولم يزل نجم الدين المذكور على حاله إلى أن فغر القبر له فمه، وحلم إليه فالتقمه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة ببغداد.
ومولده تقريباً سنة سبع وأربعين وست مئة.
سليمان بن عبد القوي
ابن عبد الكريم بن سعيد الطوفي، بالطاء المهملة والواو.
كان فقيهاً حنبليا، عارفاً بفروع مذهبه مليا، شاعراً أديبا، فاضلاً لبيبا، له مشاركة في الأصول، وهو منها كثير المحصول، قيماً بالنحو والفقه والتاريخ ونحو ذلك، وله في كل ذلك مقامات ومبارك.
ولم يزل إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة عشر وسبع مئة.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: كان شيعياً يتظاهر بذلك، ووجد بخطه هجو في الشيخين رضي الله عنهما.
وكان قاضي القضاة الحاري يكرمه ويبجله ورتبه في مواضع من دروس الحنابلة، وأحسن إليه. ثم وقع بينهما، وكلمه في الدرس كلاماً لا يناسب الأدب، فقام عليه ابنه شمس الدين، وفوضوا أمره إلى بدر الدين بن الحبال، وشهدوا عليه بالرفض، فضرب، وتوجه من القاهرة إلى قوص، وأقام بها سنين.
وفي أول قدومه نزل عند بعض النضارى وصنف تصنيفاً أنكرت عليه ألفاظ فغيرها. قال: ولم نر منه بعد ولا سمعنا شيئاً يشين.
ولم يزل ملازماً للاشتغال وقراءة الحديث والمطالعة والتصنيف وحضور الدروس معنا إلى أن سافر من قوص إلى الحجاز. وكان كثير المطالعة، أظنه طالع أكثر كتب خزائن قوص، وكانت قوته في الحفظ أكثر منها في الفهم.
وصنف تصانيف منها: مختصر الترمذي، واختصر الروضة في أصول الفقه تصنيف الشيخ الموفق، وشرحها، وشرح الأربعين النووية، وشرح التبريزي في مذهب الشافعي وكتب على المقامات شرحاً رأيته يكتب فيه من حفظه، وما أظنه أكمله، وصنف في مسألة كاد، وسماه إزالة الإنكاد، وتكلم على آيات من الكتاب العزيز.
ومن شعره:
إن ساعدتك سوابق الأقدار ... فأنخ مطيّك في حمى المختار
هذا ربيع الشهر مولده الذي ... أضحى به زند النبوّة وار
هو في الشهور يهشّ في أنواره ... مثل الربيع يهشّ بالأنوار
ومن قصيدة يهجو فيها بلاد الشام:
قوم إذا حلّ الغريب بأرضهم ... أضحى يفكّر في بلاد مقام
بثقالة الأخلاق منهم والهوى ... والماء وهي عناصر الأجسام(1/354)
ووعورة الأرضين فامش وقع وقم ... كتعّثر المستعجل التّمتام
لا غرو إن قست القلوب قلوبهم ... واستثقلوا خلقاً لدى الأقوام
فجوار قاسيّون هم وكأنهم ... من جرمه خلقوا بغير خصام
قالوا: لها في المسندات مناقبٌ ... كتبت بها شرفاً حليف دوام
أهل الرواية أثبتوا إسنادها ... من كل حبر فاضل وإمام
قلت: الأماكن شرّفت لا أهلها ... لخصوصة فيها من العلاّم
أرض مشرّفة وقوم جيفةٌ ... فالكلب حل بموطن الأجرام
سليمان بن عثمان
الصدر الرئيس فخر الدين بن فخر الدين، ابن الشيخ الإمام صفي الدين أبي القاسم محمد بن عثمان البصروي.
ولي حسبة دمشق وأقام فيها إلى أن عزل منها بابن الحداد في سابع ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة، فأقام بدمشق مدة يسيرة أياماً قلائل.
وتوفي في سابع عشري السهر المذكور، وحمل إلى بصرى ودفن بها. وكان قد توجه إلى الديار المصرية فتوفي بالبرية.
وكان شاباً كريماً حسن الأخلاق.
سليمان بن عبد الكافي
الصدر الرئيس القاضي جمال الدين.
كان فيه عقل وسكون، وحياء وحشمة. ولاه الأمير سيف الدين تنكز نظر ديوانه ونظر البيمارستان النووي بعدما عزل القاضي جمال الدين يوسف شقير وصادره وأخذ ماله في شهر رجب سنة أربع وثلاثين وسبع مئة. واستمر ابن عبد الكافي في نظر ديوان تنكز إلى أن أمسك، ولما حضر الأمير سيف الدين بشتاك إلى دمشق أمسك عبد الكافي في جملة مباشري تنكز، وأخذ منه مبلغ خمسين ألف درهم باليد القوية، ثم إنه فيما بعد ولي استيفاء معاملة فيما أظن إلى أن توفي رحمه الله تعالى.
سليمان بن عسكر بن عساكر
علم الدين أبو الربيع المنشد الحوراني نقيب المتعممين بدمشق.
كان يحفظ أكثر ديوان الصرصري في مدائح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يحضر الأفراح والولائم، والختم والمآتم، وكل جمع يكون، وكل مكان يعلم أنه له فيه زبون، لا يكاد يفوته موضع، لا ينجو من خفه موقع، ومهما جرى في ذلك المجلس، أنشد هو من المدائح ما يوافق ذلك ويؤنس، ويحضر دروس الغزاليه، ويقوم عقيب الفراغ وينشد قصيدة حاليه، ويحج كل سنة، ويكون في الركب مؤذنا، ويقوم على كل من يموت موبنا، وينشد ما يحفظه جيداً من غير لحن ولا تحريف، ولا خروج عن قواعد التصريف، إلا أن الناس كانوا يستثقلونه، ويبخسون حظه ويهملونه.
ولما مات ما قام مقامه أحد، ولا خلفه من اعترف بفضله أو جحد.
ولم يزل على حاله إلى أن نشد فما وجد ضائعه، وكسدت بعده بضائعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر شهر رجب الفرد سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
وكان قد سمع وروى عن عمر بن القواس.
وكتبت له مرسوماً على ظاهر قصة، وقد توجه مؤذناً بالركب، ونسخة ذلك: لأنه المنشد الذي أضحت قصادئه غاية المقصود، والمطرب الذي يقال فيه: هذا سليمان: وقد أوتي مزماراً من مزامير داود، والحافظ الذي يعرب إنشاده، والفصيح الذي يعلو به النظم إن شاده. لو سمعه الصرصري لعلم أنه فيما يورده متبصر، ويحقق أن السامعين له إذا بكوا وخضعوا عرانيق ماء تحت باز مصرصر كم حرك ساكن القلوب بلفظه البديع، وأجرت عبارته العبرات من بحره السريع، وجعل المحافل رياضاً لأنه أبو الربيع، فليؤذن آذاناً إذا سمعه الركب أقام، وقالوا: هذا المؤذن الذي للناس كلهم إمام، والله يرزقنا شفاعة من يجلو علينا مدائحه، ويفيض علينا في الدنيا والآخرة منائحه، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وكان قد حضر بعض أفاضل العصر من مصر ورأى ما يفعله علم الدين المذكور من الإنشاد في المجامع، فأنكر ذلك، وأنشدني:
أهل دمشق منهم ... قد ضاع مالا يوجد
فكلّما تجمّعوا ... يقوم فيهم منشد
قلت: هذا خطأ فاحش في التصريف، فإنه يقال: نشد الضالة فهو ناشد، وأنشد قصيدة فهو منشد، وأنت هنا تريد من نشدان الضالة فهو حينئذ ناشد.
سليمان بن عمر بن سالم
ابن عمرو بن عثمان الشيخ الإمام قاضي القضاة جمال الدين الزرعي الشافعي، عرف بذلك لأنه حكم بزرع مدة.
سمع من ابن عبد الدايم، والكمال أحمد بن نعمة، والجمال بن الصيرفي، وجماعة.(1/355)
وولي قضاء شيزر مدة، وناب عن القاضي بدر الدين بن جماعة بدمشق ومصر، ولما قدم السلطان من الكرك في سنة تسع وسبع مئة عزل قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وولى القاضي جمال الدين قاضي القضاة بالديار المصرية عوضه، فحكم فيها سنة، ثم إن السلطان أعاد ابن جماعة وبقي القاضي جمال الدين على قضاء العسكر ومدارس بيده. ثم إنه جهزه إلى الشام قاضي القضاة بعد نجم الدين بن صصرى، ثم إنه صرف بعد سنة بقاضي القضاة جلال الدين القزويني، وبقي بيد القاضي جمال الدين بدمشق مشيخة الشيوخ وتدريس الأتابكية، وباشرهما في شهر رجب الفرد سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وكان البريد قد جاء بعزله في خامس عشري شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة.
وبقي في العادلية خمسة عشر يوماً انتقل إلى الصالحية. ولم يزل على وظائفه إلى أن توجه إلى الديار المصرية في خامس عشري القعدة سنة ست وعشرين وسبع مئة، وولي الأتابكية بعده الشيخ محي الدين بن جهبل، وكان في ولايته بدمشق فيه صرامة وعفة وقلة مخالطة للناس، وعليه سكينة ووقار.
وسمع الحديث من النجم محمد بن النشبي، وخرج له شيخنا البرزالي جزءاً من اثنين وعشرين شيخاً، حدث به بدمشق والقاهرة.
وأصله مغربي. وصلي عليه بدمشق صلاة الغائب في يوم الجمعة ثامن عشر صفر.
وكانت وفاته بالقاهرة رحمه الله تعالى يوم الأحد سادس صفر سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
سليمان بن قايماز بن عبد الله
الشيخ الصالح أبو الربيع عتيق كافور النوري.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: كان رجلاً جيداً، سمعنا عليه بحلب ودمشق، وروى لنا عن ابن رواحة جزء ابن ملابس، وكان مقيماً بالمدرسة الأتابكية ظاهر حلب.
توفي رحمه الله تعالى رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى وعشرين وست مئة بحلب.
سليمان بن محمد بن عبد الوهاب
الرئيس الصاحب فخر الدين أبو الفضل الشيرجي الأنصاري الدمشقي.
سمع من الشيخ تقي الدين بن الصلاح، وشرف الدين المرسي، ولم يحدث. وتعانى الكتابه، وكان من أعيان الرؤساء بل رأساً لتلك العصابه. فيه كرم، ولنار جوده ضرم، وعنده سؤدد وحشمه، وله رونق وطلاوة في النعمه، وولي نظر الدواوين، وجلس في صدور الدواوين.
ولما جاء التتار إلى دمشق في واقعة غازان، وبدا منهم في حق أهل دمشق ماشان لا مازان، ألزموه بوزارتهم، وأدخلوه في جزارتهم، فدخل في ذلك مكرهاً كالذي حاذى، وتجنب الظلم وما آذى. ولما رحلوا نزل به حتفه، ورغم بالدخول في القبر أنفه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة في شهر رجب، ومشى الأعيان في جنازته إلى باب البريد، فورد مرسوم أرجواش نائب قلعة دمشق ورد الناس ومنعهم من المشي مع الجنازة، وضربوهم، ولما وصلت الجنازة إلى باب القلعة أُذن لولده شرف الدين في اتباعها.
سليمان بن محمد
بن موسى بن سليمان
فخر الدين، ابن القاضي عماد الدين محمد ابن القاضي.
كان فخر الدين هذا يخدم في الجهات الديوانية، ثم إنه بطل بعد ذلك وخدم في ديوان الإنشاء، وكتب به مدة، ثم إنه توجه مع والده إلى الديار المصرية، وأقاما هناك، ثم دخل ديوان الإنشاء وكتب بالقاهرة، ثم إنه كتب الدرج مع الوزير، وحضر مع الوزير لما حضر السلطان في واقعة الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي، وعاد معهم، ثم إن نائب الشام كتب فيه يسأل أن يكون ناظر الحسبة بدمشق عوضاً عن أبيه، فرسم له بذلك، وخلع عليه، وكتب توقيعه بذلك ولم يبق إلا سفره، فانقطع ثلاثة أيام.
وتوفي رحمه الله تعالى في أول شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وسبع مئة.
وكان شكلاً حسناً عاقلا، ذاكراً للرئاسة ناقلا، يكتب خطأ جيدا ويعتني بما يكتبه متأيدا، إلا أنه ما سمعت له إنشاء، ولا ارتدى منه ظهارة ولا غشاء، وتجرع والده فقده، وعدم به من الحياة نقده، وتألم له أصحابه، وتربت يدا أترابه لما طمه ترابه، رحمه الله تعالى.
سليمان بن مهنا
ابن عيسى الأمير علم الدين أمير العرب، قد تقدم ذكر أخيه أحمد، وسيأتي ذكر أخيه موسى ووالده مهنا إن شاء الله تعالى كل منهما في مكانه، وهو شقيق أحمد.(1/356)
كان علم الدين هذا سليمان من الشجعان، والأبطال الفرسان، زائد الكرم والجود، ليس لنسمات مكارمه ركود، وكان المسلمون والمغل يخشونه ويهابونه، ويدارونه ويخافونه، يأكل إقطاع صاحب مصر ويأخذ أنعامه، وإقطاع ملك التتار وإنعامه، ولا يزال له بالبلاد الفراتية نواب وشحاني، وغلمان يستخرجون له الأموال من القفول وسكان المغاني.
وكان قد توجه مع قراسنقر إلى بلاد التتار، وأقام هناك سبع عشرة سنة، وله فيها ظهور واستتار، وجاء مع خربندا إلى الرحبة وكان مع المغل، وله مع حربهم على الإسلام عمل وشغل، ثم إنه عاد إلى بلاد الإسلام في سنة ثلاثين وسبع مئة أو ما قبلها، وعاد ودخل في الطاعة وأنعم السلطان عليه بإقطاع ولم يؤاخذه، ثم إنه ولي إمرة آل فضل بعد أخيه موسى.
ولم يزل على ذلك إلى أن قر جن سليمان وسكن فما نبس، وصح موته وما التبس.
وتوفي رحمه الله تعالى ظهر يوم الاثنين خامس عشري شهر ربيع الأول سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ورسم الصالح إسماعيل لسيف بن فضل بالإمرة، واعتقل أخاه أحمد بن مهنا، على ما مر في ترجمته.
ولما عاد سليمان إلى بلاد المسلمين أقام ببلاد الرحبة وما حولها، وكان أبوه وعمه فضل وإخوته يرفدونه بالذهب وغيره، ويخوفونه من السلطان ويحذرونه من الوقوع في يده، وأخذوا يتعيشون به على السلطان ويمنونه بإحضاره، فلما فهم سليمان ذلك ركب بغير علمهم وما طلع خبره إلا من مصر، فقيل له في ذلك، فقال: هؤلاء يأخذون الإقطاعات والإنعامات من السلطان بسببي، وخير من فيهم يسير إلي مئتي دينار، فإذا رحت أنا إلى السلطان زال هذا كله، ولما وصل أقبل عليه السلطان وأمر له بإقطاع يعمل أربع مئة ألف درهم وأنعم عليه بمئتي ألف، ولم يزل كذلك إلى أن توفي أخوه بالقعرة، وكان في أيام الفخري وهو مع ألطنبغا في حلب فقال: أنا أتوجه إلى الفخري، فجاء إلى الفخري وهو نازل على خان لاجين، وتحيز له وأعرض عن ألطنبغا، وتوجه من دمشق إلى الناصر أحمد بالكرك، ورسم له بالإمرة عوض أخيه موسى، فاستقل بإمرة آل فضل إلى أن توفي سليمان بظاهر سلمية.
وكان مفرط الكرم، حكى الأمير حسام الدين لاجين الغتمي النائب بالرحبة قال: كنت والي البر بالرحبة، وكان سليمان بن مهنا قد أغار على قفل فأخذه في البرية، وجاء إلى الرحبة فجهزت إليه رأس غنم، وأحضرت له من سنجار حمل شراب، فلما أكل وشرب وانتشى قليلاً قال لي: يا حسام خذلك هذه الفردة، فأختها، فوجدتها ملأى من القماش الإسكندري، قال: فبعت ما فيها بتسعين ألف درهم.
وكان مقداماً شجاعاً، ومن إقدامه أنه عارض بريدياً وهو متوجه من بغداد ومعه جارية للسلطان الملك الناصر فأمسكها وافتضها وما انتطح فيها عنزان.
وكان معاقراً للشراب ليلاً ونهاراً لا يفارقه.
سليمان بن موسى بن بهرام
تقي الدين السمهودي بن الهمام.
كان فاضلاً عالما، فقيهاً فاضلاً من الشر سالما، نحوياً شاعرا، عروضياً ماهرا، لا يعرف له أستاذ، وله مع ذلك بصر في هذه العلوم ونفاذ، جيد الحفظ حسن الفهم، ينفذ في الفرائض نفوذ السهم، ويدري من الأصول مسائل بأدلتها، وفوائد بجملتها، وأما تعبده وتقشفه وصبره على الفقر وتعسفه، فأمر عجيب، وشيء يصبح القلب منه وبه وجيب.
ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى من أماته ويحييه، ويسكنه الجنان ويحييه.
وتوفي رحمه الله تعالى بسمهود في سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في سنة ثمان وخمسين وست مئة.
قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي رحمه الله: وأنشدني لنفسه:
لما في كلام العرب تسعة أوجه ... تعجّب وصف منكورةً وانف واشرط
وصلها، وزد، واستعملت مصدريّةً ... وجاءت للاستفهام والكفّ فاضبط
قلت: قد جمع بعض الأفاضل هذه التسعة في بيت وهو:
تعجّب بما اشرط زد صل انكره واصفاً ... وتستفهم انف المصدريّة واكففا
ومن شعر تقي الدين يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أضاء النور وانقشع الظلام ... بمولد من له الشرف والتّمام
ربيعٌ في الشهور له فخارٌ ... عظيم لا يحدّ ولا يرام
به كانت ولادة من تسامت ... به الدنيا وطاب بها المقام
نبيٌّ كان قبل الخلق طرّاً ... تقدّم سابقاً وهو الختام(1/357)
وله في العروض أرجوزة.
سليمان بن موسى بن أبي العلاء
الشيخ الصالح صفي الدين أبو العلاء الصوفي الكاتب.
كان سامرياً، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، ثم إنه أقام عند الصوفية سنين، وكان يباشر شيئاً من وقفهم، ويعمل الحساب مع العامل لأنه كان فيه ماهراً وعارفاً خبيراً إلى الغاية، وله مقدمة في صناعة الحساب والديوان وما يحتاج، وباشر عدة جهات وحصل أموالاً، وكان قد أسلم في الدولة الأشرفية.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشري شوال سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
سليمان بن هلال بن شبل بن فلاح
الشيخ الإمام الفقيه المفتي القدوة الزاهد العابد القاضي الخطيب صدر الدين أبو الفضل القرشي الجعفري الحوراني الشافعي صاحب النووي.
قدم دمشق مراهقاً، وحفظ القرآن بمدرسة أبي عمر على الشيخ نصر بن عبيد، ورجع إلى البلاد، ثم قدم بعد سبع سنين، وتفقه بالشيخ تاج الدين، وبالشيخ محيي الدين، وأتقن الفقه وأعاد بالناصرية وناب في القضاء لابن صصرى مدة، ولاه ابن صصرى نيابته في ثالث ذي القعدة سنة ست وسبع مئة عوضاً عن القاضي جلال الدين القزويني لما ولي خطابة الجامع الأموي، وولي خطابة العقيبة واكتفى بها.
وكان أولاً خطيباً بداريا، يدخل دمشق على بهيم ضعيف. وحدث عن أبي اليسر والمقداد القيسي، وناب عن ابن الشريشي في دار الحديث. وكان مفرطاً في اتضاعه، على سمو قدره في العلم وارتفاعه، لم يغير ثوبه القطني ولا عمامته الصغيره، ولا رأى أحد في الحكم نظيره، إذا رأى أن الغريم ضعيف لا يقدر على أجرة رسول القاضي سعى هو بنفسه إليه وسمع جوابه، فأين يجد الناس هذا العلم أو هذا التقاضي، وربما توجه بنفسه إلى الشاهد وسمع شهادته وآثر بذلك فائدته وإفادته.
وعينه الأمير سيف الدين تنكز للاستسقاء بالناس فاستسقى بهم، ورحم به العالم في ساعة الإبلاس.
ولم يزل على حاله إلى أن نزلت على الداراني الدائره، ولحق بالأمم الخالية السائره.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده بقرية بسرى من السواد سنة اثنتين وأربعين وست مئة، وكانت جنازته حفلة إلى الغاية.
وكان يذكر نسبه إلى جعفر الطيار يعد بينه وبينه ثلاثة عشرة اسماً.
وكان لا يدخل الحمام ولا يتنعم في مأكل ولا ملبس، وأظنه كان يجيد اللعب بالشطرنج، والله أعلم.
سليمان القاضي
علم الدين التركماني الحنفي قاضي حماة.
أقام بحمص مدة مدرساً، ثم إنه نقل إلى قضاء حماة بعد وفاة القاضي نجم الدين بن العديم.
وكان يعرف القراءات، وله مشاركة في العلم.
توفي رحمه الله تعالى في مستهل شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
اللقب والنسب
ابن سلامة قاضي القضاة المالكي أحمد بن سلامة.
السنباطي قطب الدين محمد بن عبد الصمد.
سنجر
الأمير الكبير العالم المحدث أبو موسى الأمير علم الدين التركي البرلي بالباء الموحدة والراء واللام، الدواداري.
قدم من الترك في حدود الأربعين وست مئة. وكان شكله مليحا ووجهه صبيحا، خفيف اللحيه، ربعة من الرجال في البنيه، صغير العين، صناع اليدين، حسن الخلق، سهل الخلق، شجاعاً فارساً، مجادلاً لأهل العلم ممارسا، خيرا دينا، كاملاً صينا، مليح الكتابه، سريع الإقبال والإجابه، يحفظ الكتاب العزيز، ويؤثر تلاوته على الإبريز، فيه اصطناع للفضلاء، وتقديم للنبلاء، أنشأ جماعة من الأفاضل وقدم زمرة ممن يناظر أو يناضل.
ولم يزل على حاله إلى أن انجر الموت إلى سنجر، وأصبح من تحت التراب والمحجر.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة في شهر رجب بحصن الأكراد، ودفن هناك.
وكان قد التجأ في الكسرة أيام غازان إليها.
ومولده سنة نيف وعشرين وست مئة.
قرأ القرآن على الشيخ جبريل الدلاصي وغيره. وحفظ الإشارة في الفقه لسليم الرازي، وحصل له عناية بالحديث وسماعه سنة بضع وخمسين، وسمع الكثير، وكتب بخطه وحصل الأصول.
وخرج له المزي جزأين عوالي. وخرج له البرزالي معجماً ضخماً في أربعة عشر جزءاً، وخرج له ابن الظاهري قبل ذلك شئياً.(1/358)
وحج مرات. وكان يعرف عند المكيين بالستوري، لأنه أول من سار بكسوة للبيت بعد أخذ بغداد من الديار المصرية، وقبل ذلك كانت تأتيها الستور من الخليفة. وحج مرة هو واثنان على الهجن من مصر.
وكان أميراً في الأيام الظاهرية، ثم أعطي أمرية بحلب، ثم قدم دمشق، وتولى شد الدواوين مدة، ثم كان من أصحاب سنقر الأشقر، ثم أمسك، ثم أعيد إلى رتبته وأكثر، وأعطي خبزاً وتقدمةً على ألف في أيام الأشرف، وجعل مشد الدواوين بالقاهرة في ذي القعدة سنة أحدى وتسعين وست مئة، وتنقلت به الأحوال وعلت رتبته في دولة الملك المنصور حسام الدين لاجين، وقدمه على الجيوش في غزوة سيس.
وكان لطيفاً مع أهل الصلاح والحديث، يتواضع لهم ويؤانسهم ويحادثهم ويصلهم، وله معروف كثير وأوقاف بالقدس ودمشق، وكان مجلسه عامراً بالعلماء والشعراء والأعيان.
وسمع الكثر بمصر والشام والحجاز، وروى عن الزكي عبد العظيم، والرشيد العطار، والكمال الضرير، وابن عبد السلام، والشرف المرسي، وعبد الغني بن بنين، وإبراهيم بن بشارة، وأحمد بن حامد الأرتاحي، وإسماعيل بن عزون، وسعد الله بن أبي الفضل التنوخي، وعبد الله بن يوسف بن اللمط، وعبد الرحمن بن يوسف المنبجي، ولاحق الأرتاحي، وأبي بكر بن مكارم، وفاطمة بنت الملثم بالقاهرة، وفاطمة بنت الحزام الحميرية بمكة، وابن عبد الدايم، وطائفة بدمشق. وهبة الله بن زوين، وأحمد بن النحاس بالإسكندرية، وعبد الله بن علي بن معزوز، وبمنية بني خصيب، وبأنطاكية، وحلب، وبعلبك، والقدس، وقوص، والكرك، وصفد، وحماة، وحمص، وينبع، وطيبة، والفيوم، وجدة، وقل من أنجب من الترك مثله وسمع من خلق.
وشهد الوقعة وهو ضعيف، ثم التجأ بأصحابه إلى حصن الأكراد فتوفي به هناك، هذا ما أخبرني به شيخنا الذهبي عنه.
وأما ما أخبرني به شيخنا أبو الفتح من لفظه، وكان به خصيصاً ينام عنده ويسامره، قال: كان الأمير علم الدين قد لبس بالفقيري وتجرد وجاور بمكة، وكتب الطباق بخطه، وكانت في وجهه آثار الضروب من الحروب، وكان إذا خرج إلى غزوة خرج طلبه وهو فيه إلى جانبه شخص يقرأ عليه جزءاً من أحاديث الجهاد، وقال: إن السلطان حسام الدين لاجين رتبه في شد عمارة جامع ابن طولون، وفوض أمره إليه، فعمره وعمر وقوفه، وقرر فيه دروس الفقه والحديث والطب، وجعل من جملة ذلك وقفاً يختص بالديكة التي تكون في وسط سطح الجامع في مكان مخصوص بها، وزعم أن الديكة تعين الموقتين وتوقظ المؤذنين في السحر، وضمن ذلك كتاب الوقف، فلما قرئ على السلطان أعجبه ما اعتمده في ذلك، ولما انتهى إلى ذكر الديكة أنكر ذلك، وقال: أبطلوا هذا، لا يضحك الناس علينا.
وكان سبب اختصاصه بفتح الدين أنه سأل الشيخ شرف الدين الدمياطي عن وفاة البخاري فما استحضر تاريخها، ثم إنه سأل أبا الفتح عن ذلك فأجابه، فحظي عنده وقربه، فقيل له: إن هذا تلميذ الشيخ شرف الدين فقال: وليكن.
قلت: وغالب رؤساء دمشق وكبارها وعلمائها نشؤه.
وجمع الشيخ كمال الدين الزملكاني مدائحه في مجلدتين بخطه أو واحدة.
وكتب إليه علاء الدين الوداعي يعزيه في ولد اسمه عمر، ومن خطه نقلت:
قل للأمير وعزه في نجله ... عمر الذي أجرى الدموع أجاجا
حاشاك يظلم ربع صبرك بعد من ... أمسى لسكان الجنان سراجا
وقال فيه، ومن خطه نقلت:
علم الدين لم يزل في طلاب العل ... م والزهد سائحاً رحّالاً
فترى الناس بين راوٍ وراءٍ ... عنده الأربعين والأبدالا
وقال لما أخذ له في دويرة السميساطي بيتاً:
لدويرة الشيخ السميساطيّ من ... دون البقاع فضيلة لا تجهل
هي موطنٌ للأولياء ونزهةٌ ... في الدين والدنيا لمن يتأمّل
كملت معاني فضلها مذ حلّها ال ... علم الفريد القانت المتبتّل
أني لأُنشد كلّما شاهدتها ... ما مثل منزلة الدويرة منزل
وأنشدني إجازةً الحافظ شيخنا الفريد فتح الدين قال: أنشدني علم الدين الدواداري لنفسه:
سلوا عن موقفي يوم الخميس ... وعن كرّات خيلي في الخميس
شربت دم العدى ورويت منه ... فشربي منه لا خمر الكؤوس(1/359)
وجاورت الحجاز وساكنيه ... وكان البيت في ليلي أنيسي
وأتقنت الحديث بكلّ قطرٍ ... سماعاً عالياً ملء الطّروس
أُباحث في الوسيط لكلّ حبرٍ ... وألقى القرم في حرّ الوطيس
فكم لي من جلادٍ في الأعادي ... وكم لي من جدالٍ في الطّروس
سنجر الجمقدار
الأمير علم الدين سنجر.
كان أحد مقدمي الألوف أمراء المئين. وكان من جملة المشايخ أمراء المشور الذين يجلسون بحضرة السلطان.
شيخ قد أنقى، وقارب ورود ما هو أبقى، عظيم الجثة طوالا، أعجمي اللسان لا يجيب سؤالا، سليم الصدر، كبير المنزلة في الدولة عالي القدر.
نقله السلطان من مصر إلى الشام، وأتى به فجمل دمشق لما دخلها منشورة الأعلام. وكان هو أتابك العسكر، وصاحب الرخت الذي لا ينكر.
وكان له برك هائل، وعزم في المواكب والحروب جائل.
ولم يزل بدمشق على حاله إلى أن انتهى أمده، ومال من الحياة عمده.
وتوفي رحمه الله تعالى ... .
وكان قد أخرجه السلطان، من مصر في سابع شعبان، سنة ثلاثين وسبع مئة على خبز الأمير سيف الدين بهادرآص.
سنجر الأمير علم الدين الدميثري
بضم الدال المهملة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وبعدها ثاء مثلثة وراء.
توفي - رحمه الله تعالى - يوم الخميس سابع المحرم سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
سنجر الأمير علم الدين
نائب قلعة دمشق المعروف بأرجواش، بهمزة مفتوحة وراء ساكنة وجيم مضمومة أو مفتوحة وواء بعدها ألف وشين معجمة.
له مآنة على أهل دمشق لا بل على أهل الشام، ونعمة لا ينكرها إلا من انتجع برق المكابرة أو شام، فإنه ضبط القلعة في أيام غازان، وأخذ بما صان أمرها وزان، وتثبت في عدم تسليمها، ومد أظافير المناوشة لهم ولم يخش من تقليمها، وصبر على المحاصرة، ولم يجنح إلى المكاشرة والمكاسرة، وأقام قياماً يشكره الله له يوم القيامه، وحقن دماء المسلمين بما عنده من العزيمة القوية والصرامه. وقيل: إن ذلك كان بمعاونة قبجق له في الباطن، وملاحظته لذلك في الحال الساكن. وأياً ما كان فله فيه الفضل الأوفى، والثناء المستوفى.
ولم يزل على حاله إلى أن أسلمه حصنه للمنايا، وتحكمت فيه يد الرزايا.
توفي - رحمه الله تعالى - ليلة السبت ثاني عشري الحجة سنة إحدى وسبع مئة، وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء والأعيان. ودفن في جبل قاسيون.
كان نائب القلعة في أيام أستاذه الملك المنصور، ولم يخرج مدة ولايته من القلعة، ولا سير. وقيده الأشرف وألبسه عباءةً ليقتله، ثم عفا عنه وخلع عليه، وذلك في سنة تسعين وست مئة، وأعاده إلى النيابة، وكان ذلك بعد عود الأشرف من عكا.
ولما اعتمد ما اعتمده في أمر القلعة أيام غازان عظم في النفوس، وكان التتار قد طلعوا فوق سطوح دار السعادة، وتسلطوا على القلعة ورموها بالنشاب، فرمى عليهم قوارير النفط، فاحترقت الأخشاب، وسقطت بهم السقوف بهم السقوف في النار، وفعل ذلك بالعادلية ودار الحديث الأشرفية.
وكان عبد الغني بن عروة الفقير يحكي عنه حكايات تدل على سلامة الباطن، وقد أوردت منها جانباً في ترجمة عبد الغني المذكور في حرف العين مكانه.
سنجر الأمير علم الدين الجاولي
بالجيم: كان أميراً كبيراً من أمراء المشور الذين يجلسون في حضرة السلطان، سمع وروى، وبزغ نجمه في الفضل وما هوى.
وكان خبيراً بالأمور، مرت به تجارب الأيام والدهور، عارفاً بسياسة الملك وتدبيره، وفصل حاله وتحريره. ولي عدة ولايات من نيابات وغيرها، وكان فيها كافياً عارفاً بسبرها. وهو الذي مدن غزة ومصرها، وفتح عينها وبصرها، لأن الجاولي جاء ولياً في حماها، فعظم شأنها بولاية وحماها، وعمر بها قصراً للنيابة، فسيح الأرجاء، شاهق البناء، عالي الثناء، وعمر بها حماماً اتسع فضاؤه، وارتفع سماؤه، وتأرج هواؤه، وتموج ماؤه، وتفنن في الحسن بناؤه، وزهرت نجوم جاماته، وبهرت من رخامه زهرات خاماته. ثم إنه في النيابة الثانية عمر بها جامعا، لأنواع المحاسن جامعا، وبرقه يرى في سماء الإتقان لامعا، تسفل الثريا عن أهلة مئذنته المترفعه، وتبهت عيون النجوم في محاسن محرابه المتنوعه.(1/360)
وكان - رحمه الله تعالى - يذكر أصحابه في مغيبهم، ويوفر من إحسانه قدر نصيبهم، ويكرمهم إذا حضروا، ويتمناهم إذا سافروا، ويستجليهم إذا سفروا. انتفع به جماعة من الكتاب والعلماء، وزمرة من الكبراء والأمراء.
ولم يزل على حاله إلى أن جاء ولي الموت إلى الجاولي فتلقاه بالكرامه، وراح إلى الله على طريق السلامه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في تاسع شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبع مئة، ودفن بتربته التي على الكبش ظاهر القاهرة، وأسند وصيته إلى الأمير سيف الدين العلائي. وكانت جنازته حفلةً إلى الغاية.
وفي أول أمره كان نائباً في الشوبك، ثم إنه نقل منها، وجعل أميراً في أيام سلار والجاشنكير. وكان يعمل الأستاذ دارية للسلطان الملك الناصر محمد، وكان يدخل إليه مع الطعام ويخرج على العادة.
وكان يراعي مصالح السلطان ويتقرب إليه، فلما حضر من الكرك جهزه إلى غزة نائباً في جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبع مئة عوضاً عن سيف الدين قطلقتمر صهر الجالق بعد إمساكه، وأضاف إليه الحديث في الساحل والقدس وبلد سيدنا الخليل - عليه السلام - وأقطعه إقطاعاً هائلاً، كانت إقطاعات مماليكه تعمل عشرين ألفاً وخمسة وعشرين ألفاً وأكثر. وعمل نيابة غزة على القالب الجائر، وكان القاضي كريم الدين الكبير يرعاه، وكذلك القاضي فخر الدين ناظر الجيش. وكانت مكاتباتهم ما تنقطع عنه في كل جمعة، بل مع كل بريد.
وكان له إدلال على الكبار، فوقع بينه وبينه الأمير سيف الدين تنكز، فتراسل عليه هو والقاضي كريم الدين الكبير، فأمسكه السلطان في ثامن عشري شعبان سنة عشرين وسبع مئة، فاعتقل قريباً من ثماني سنين، ثم أفرج عنه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة أو في سنة تسع وعشرين، وأمره أربعين فارساً مديدة، ثم أمره مئة، وقدمه على ألف، وجعله من أمراء المشور.
ولم يزل على ذلك إلى أن توفي السلطان الملك الناصر محمد، وكان هو الذي تولى غسله ودفنه.
ولما تولى الملك الصالح إسماعيل جهزه إلى حماة نائباً، فأقام بها مدة تقارب ثلاثة أشهر، ثم رسم له بنيابة غزة، فحضر إليها وأقام بها مدةً تقارب مدة نيابة حماة، ثم طلب إلى مصر على ما كان عليه. وفي هذه النيابة لغزة شرع في عمارة الجامع بغزة وكمله لما كان في مصر، ولما كان في النيابة الأولى عمر ببلد سيدنا الخليل عليه الصلاة والسلام جامعاً، سقفه منه حجر نقر، وعمر بغزة حماماً هائلاً ومدرسة للشافعية، وعمر خاناً للسبيل بغزة، وعمر الخان العظيم الذي في قاقون. وهو الذي مدن غزة، وبنى بها بيمارستاناً، ووقف عليه عن الملك الناصر أوقافاً جليلة، وجعل النظر فيها لنواب غزة، وعمر بغزة الميدان والقصر، وبنى الخان بقرية الكتيبة، وبنى القناطر بغابة أرسوف. وهو الذي بنى خان سلار الذي في حمراء بيسان، وله التربة المليحة الأنيقة التي بالكبش، وجدد إلى جانبها عمارة هائلة، وكل عمائره طريفة أنيقة مليحة متقنة محكمة.
ولما خرج نائب الكرك من مصر لنيابة طرابلس فوض إليه السلطان النظر على البيمارستان المنصوري.
وآخر من توجه إلى الكرك لحصار الناصر أحمد الأمير علم الدين الجاولي، وجلس في الحصار على عادة من تقدمه، فلما كان في بعض الأيام طلع الناصر أحمد من القلعة وشيخه وسبه وأساء عليه الأدب، فقال الجاولي: نعم أنا شيخ نحس، ولكن الساعة ترى حالك مع الشيخ النحس، ونقل المنجنيق من مكانه إلى مكان يعرفه، ورمى به، فلم يخطئ القلعة، وهدم منها جانباً، وطلع العسكر منه إليها، وأمسك أحمد قبضاً باليد، وذبح صبراً، وجهز رأسه إلى الصالح.
ولما خرج الأمير علم الدين الجاولي إلى دمشق في أيام سلار والجاشنكير لم يقدر سلار على رده لأجل البرجية، وكان الجاولي ينتمي إلى سلار ويحمل رنكه، وفي هذه المرة اشترى داره بدمشق التي هي الآن قبالة الجامع التنكزي من جهة الشمال، ووقع بينه وبين تنكز بسببها، فإنه أراد مشتراها منه، فما سمح له بذلك.
وقد وضع الأمير علم الدين شرحاً على مسند الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ، وكان آخر وقت يفتي ويخرج خطه بالإفتاء على مذهب الشافعي.
وأجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة أو في سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
سنجر الخازن
الأمير علم الدين الأشرفي.(1/361)
كان الأمير علم الدين هذا فيه حشمه، وله ثروة زائدة ونعمه. يصحب الأفاضل، ويحب كل مناظر ومناضل، تنقل في المباشرة من الشد إلى ولاية القاهره، وربوع الثناء عليه في كل عامره. له ذوق وفهم، وعنده صدق حدس لا يخطئ العرض له سهم.
ولم يزل على حاله إلى أن طويت صحيفة عمره، وفرغ الأجل من أمره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ليلة السبت ثامن جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
وكان السلطان قد ولاه شد الدواوين مع الصاحب أمين الدين، وكان يغري بينهما، ويوقع فيما بينهما، ويقول لهذا: أنا ما أعرف إلا أنت. ويقول لهذا كذلك، ولكن كان هذا علم الدين رجلاً عاقلاً، وفيه سياسة، وعزله من الشد، وولاه القاهرة، فتولاها وأحسن إلى الناس، ثم عزله في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وولى الأمير سيف الدين قديدار مكانه، فوجد الناس في أول ولايته شدةً، ثم لان جانبه.
وأظن أن الخازن كان قد أمسك هو وبكتمر الحاجب وأيدغدي شقير وبهادر المعزي في سنة خمس عشرة وسبع مئة، والله أعلم.
سنجر الألفي
الأمير علم الدين، أحد الأمراء بدمشق.
كان قد ولي نابلس.
وتوفي فجأة بالحسينية من وادي بردى في أوائل جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
سنجر مجد الدين
الطبيب ببغداد، غلام ابن الصباغ.
كان طبيباً فاضلاً، مهر في الطب وتقدم فيها وفي كتابة الدواوين ونظرها. ولي نظر المدرسة النظامية وغيرها، وحصل أموالاً جمة، وكان لا يمشي إلى المريض إلا بأجرة وافرة نحو ستة دراهم وأكثر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل شعبان سنة خمس عشرة وسبع مئة.
سنجر الأمير علم الدين المصري
أحد أمراء دمشق.
توفي - رحمه الله تعالى - في يوم الأربعاء سابع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وست مئة.
قيل: إنه غص بشربة من المسكر - عفا الله عنه وسامحه - .
سنجر بن عبد الله الناصري
الأمير علم الدين، أحد أمراء الشام.
كان أميراً مهيباً مشهوراً بالعقل والسكون، شجاعاً مقداماً معروفاً بكثرة الجهاد، ملازماً لما هو بصدده، قليل الدخول فيما لا يعنيه.
أصابه زيار في حصار بلاد سيس في ركبته، فكسر العظم، فحمل إلى حلب، فمات في الطريق، وحمل ميتاً، ودفن بالمقام ظاهر حلب.
وذلك في شهر رمضان سنة سبع وتسعين وست مئة.
وكان قد روى الحديث عن سبط السلفي. قال شيخنا علم الدين: سمعنا منه جزء موافقات الدهلي.
سنجر الأمير علم الدين المنصوري
أحد أمراء دمشق.
توفي - رحمه الله تعالى - في المحرم سنة سبع وسبع مئة، ودفن بالصالحية.
وكان من أمراء طرابلس، فنقل إلى دمشق، وسكن بالديماس، وأقام بها شهرين وتوفي رحمه الله تعالى.
سنجر الأمير علم الدين الحمصي
تنقل في الولايات، وتوقل في ذرا النيابات، وباشر في مصر والشام، وتجملت به الليالي والأيام. وكان ذا عفة وأمانه، وحرمة وصرامة وصيانه، تخلص الحقوق في أيامه، ويخشى المباشرون من نقضه وإبرامه.
ولم يزل على حاله إلى أن عزل من الحياه، ونودي عليه بالصلاه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
وكان قد نقل من دمشق إلى طرابلس، فتوفي - رحمه الله تعالى - ولم يدخلها.
وكان قد باشر نيابة الرحبة، فأحسن إلى أهلها، وأنفق فيهم مستحقاتهم كاملة، وحمل منها إلى دمشق مئة ألف درهم في عام واحد، وهذا أمر لم نعهده في غير أيامه، بل دائماً يحمل من دمشق المال إلى الرحبة.
ثم إنه جهز لشد الدواوين بحلب. ثم إنه طلب إلى مصر، وجعل مشداً مع الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي الوزير، ثم خرج إلى طرابلس مشداً، ثم توجه إلى حلب، ثم طلب لشد الدواوين بمصر، فأقام بها مدة، وسلم السلطان إليه الأمير بدر الدين لؤلؤ، فعاقبه، ثم أخرج إلى دمشق، وأقام بها مدة.
ثم إنه استعفى من شد الدواوين بدمشق، وخرج إقطاعه لابن أيدغمش نائب دمشق، فتوجه منها إلى طرابلس، فمات قبل الدخول إليها.
سنجر الأمير علم الدين البرواني
أحد أمراء الطبلخاناه بالديار المصرية.
وكان شجاعاً شهماً.
توفي فجأة في الحمام في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن في القرافة.
سنجر الأمير الكبير علم الدين الزراق(1/362)
كان من جملة أمراء دمشق، وكان يسكن بدار فلوس التي اشتراها الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - وبناها وسماها بدار الذهب.
كان الأمير علم الدين قد توجه إلى الرحبة مجرداً، فتوجه وعاد ومرض ومات - رحمه الله تعالى - في رابع عشري شعبان سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
سنجر الطرقجي
الأمير علم الدين، أحد الأمراء بدمشق.
كان ممن قدمه الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - وأطنب في شكره وغالى، وكان ينتقل من الشد إلى غيره، ويعرض عنه، ثم يعود به إلى مدارج طيره.
ولم يزل معه إلى أن غضب عليه غضبة مضريه، هتك فيها الحجب الشمسية والقمريه، وأبعده إلى طرابلس فكان فيها حتفه، ورغم بالموت بها أنفه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - حادي عشري جمادى الآخرة، سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ونقله ولده الأمير علي في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبع مئة إلى دمشق، ودفنه في تربته بالقبيبات.
كان قد نقل من ولاية البلد إلى شد الدواوين في خامس شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبع مئة، وعوض عنه في الولاية بصارم الدين إبراهيم الجوكنداري. ثم جهزه الأمير سيف الدين تنكز إلى ولاية الولاة بالصفقة القبلية في خامس عشري شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وأعيد إلى الحجوبية الأمير علاء الدين أوران، وخلت دمشق مدة أشهر من شد الدواوين.
الألقاب والنسب
السنجري: الأمير سيف الدين بهادر.
السنجاري: شهاب الدين الخطيب أحمد بن إبراهيم.
سنقر بن عبد الله الزيني
الشيخ الإمام المسند الخير المعمر علاء الدين أبو سعيد الأرمني القضائي الحلبي.
اشتراه قاضي حلب زين الدين ابن الأستاذ، وسمع مع أولاده كثيراً، وكتبوا له في صغر وأنه لا يفهم بالعربي.
ثم سمع في سنة خمس، وما بعدها سمع من الموفق عبد اللطيف وعز الدين بن الأثير، والقاضي بهاء الدين بن شداد، وابن روزبة. وسمع الثلاثيات من ابن الزبيدي بدمشق، وسمع ببغداد من الأنجب الحمامي، وعبد اللطيف بن القبيطي، وجماعة، وسمع بمصر من عبد الرحيم بن الطفيل، وأكثر عن ابن خليل، وسمع منه المعجم الكبير بكماله.
وخرج له الشيخ شمس الدين مشيخة، وخرج له أبو عمرو المقاتلي، وأكثر عنه ابن حبيب وولداه.
وعمر وتفرد في الدنيا، وسمع الناس منه أشياء، وروى الكثير، وسمع منه ما هو عزيز من غيره، ومنه غزير. وما حدث ببعض مروياته، ولا حمل الكل من كلياته ولا جزئياته.
ولم يزل على حاله إلى أن استقر سنقر في قعر لحده، ولم يكن في ذلك نسيج وحده.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الخميس تاسع شوال سنة ست وسبع مئة.
وحدث أكثر من ثلاثين سنة، وتفرد بأشياء.
سنقر الأمير شمس الدين الجمالي
مملوك الأمير جمال الدين آقوش الأفرم.
أعرفه وهو في جملة البريدية، يسافر معنا في خدمة الأمير سيف الدين تنكز. ولما جاء الفخري، وجرى له ما جرى، جعل أخوه سيف الدين بهادر نائباً في بعلبك، ثم إنه أخذ طبلخاناة بعد موت الفخري فيما أظن.
ولما توفي بهادر المذكور تعصب الجراكسة مع أخيه سنقر هذا، وخلصوا له الإمرة ونيابة بعلبك، فتوجه إليها. ثم إنه حضر في أيام الكامل من استخرج من شمس الدين قراسنقر المذكور ميراث سيف الدين بهادر الجمالي منه، فقام في القضية الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي والأمير فخر الدين أياز، وشهد له جماعة من أمراء دمشق بأنه أخوه، وخمدت القضية بعد أن عزل من النيابة ببعلبك، ثم إنه عاد إليها وباشرها جيداً إلى أن كتب الأمير سيف الدين أرغون شاه إلى باب السلطان في ولاية الأمير بدر الدين بكتاش المنكورسي نيابة بعلبك، ونقل شمس الدين سنقر إلى طرابلس، فورد المرسوم بذلك، فتوجه الأمير شمس الدين سنقر إلى طرابلس، فأقام بها ضعيفاً تقدير شهرين أو أكثر. ثم إنه قضى، ومر شخصه وانقضى.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أول شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
سنقر الأمير شمس الدين
المنصوري الأعسر
كان من كبار الأمراء في مصر والشام، وممن تجمل به الدول والأيام، عارفاً بما يتحدث فيه، خبيراً بالكلام الذي يخرج من فيه. وكانت له في الشام صورة كبيره، وعزمة شهيره، ومباشرة للأموال مثيره.(1/363)
ركب الأهوال ونكب، وسلب ماله وبين يديه سكب، ثم إنه انتصر، وشره في المباشرات وما اقتصر. وندب في المهمات مرات، وتولى الشد كرات.
ولم يزل إلى أن ثبت إعسار الأعسر من حياته، وأصبح ثمر روحه في يدي جناته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع وسبع مئة.
كان مملوك الأمير عز الدين أيدمر الظاهري النائب بالشام، ودواداره، وكانت نفسه تكبر عن الدواداريه. ولما عزل مخدومه، وأرسل إلى مصر في الدولة المنصوريه، عرضت مماليكه على السلطان، فاختار منهم جماعة، منها سنقر هذا، فاشتراه وولاه نيابة الأستاذ درايه.
وفي سنة ثلاث وثمانين وست مئة أمره بالشام، ورتبه في شد الديوان والأستاذ دارية. وأقام بالشام، وله سمعة زائدة وعظمة إلى أن توفي الملك المنصور، وتولى الأشرف، فكان في خاطر الوزير شمس الدين بن السلعوس منه، فطلب إلى مصر، وعوقب وصودر، فتوصل بتزويج ابنة الوزير، وكتب صداقها بألف وخمس مئة دينار، فأعاده إلى الحالة الأولى.
ولم يزل إلى دولة الملك العادل كتبغا ووزارة الصاحب فخر الدين بن الخليلي، فقبض على الأمير شمس الدين المذكور وعلى الأمير سيف الدين أسندمر، وصودرا وأخذ من الأعسر قريباً من خمس مئة ألف درهم، وأهانه الوزير غير مرة، وعزله عن الشد بفتح الدين بن صبرة، وتوجه الأعسر صحبتهم إلى مصر.
ولما وثب حسام الدين لاجين على كتبغا في ذي الحجة سنة ست وتسعين وست مئة، ورسم للأمير سيف الدين قبجق بنيابة الشام، ولي الأعسر الوزارة وشد الدواوين في شهر رجب سنة ست وتسعين وست مئة، ثم إنه قبض عليه، ثم ولي الوزارة بعد ذلك، وعامل الناس بالجميل، وتوجه لكشف الحصون في سنة سبع مئة أو في آخرها، ورتب عوضه في مصر عز الدين أيبك البغدادي. فاستمر الأعسر أمير مئة وعشرة مقدم ألف. وحج صحبة الأمير سيف الدين سلار.
وتوفي بمصر بعد أمراض اعترته.
وغالب مماليكه تأمروا بعده.
وفيه يقول علاء الدين الوداعي لما سبق الناس والأمراء أجمعين في عمارة الميدان، ومن خطه نقلت:
لقد جاد شمس الدين بالمال والقرى ... فليس له في حلبة الفضّل لاحق
وأعجز في هذا البناء بسبقه ... وكلّ جواد في الميادين سابق
وفيه يقول لما أمره السلطان بقطع الأخشاب من وادي مربين للمجانيق، ومن خطه نقلت:
مربّين شكراً لإحسانها ... فقد أطربتنا بعيدانها
ولولا الولاء لما واصلت ... ولا طاوعت بعد عصيانها
أتانا بها وهي مأسورةٌ ... وآسرةٌ أسد غيطانها
ولم نر من قبله غائراً ... أتى بالدّيار وسكّانها
ولا عدمت عدله ملّةٌ ... يدبّر دولة سلطانها
وفيه يقول الشيخ صدر الدين بن الوكيل موشحاً، وهو:
دمعي روى مسلسلا بالسّ ... ند عن بصري أحزاني
لما جفا من قد بلا بالرّم ... د والسّهر أجفاني
غزال أُنسٍ نافر ... سطت به التّمائم
وغصن بانٍ ناضر ... أزهاره المباسم
قلبي عليه طائر ... تبكي له الحمائم
إن غاب فهو حاضر ... بالفكر لي ملازم
كم قد لوى على الولا من موع ... د لم يفكر في عان
وقد كفا ما قد بلى بالكم ... د والفكر ذا الجاني
أزرى بغزلان النّقا ... وبانه وحقفه
كم حلّ من عقد تقىً ... بطرفه وظرفه
لم أنسه لمّا سقى ... من ثغره لإلفه
سلاف ريقٍ روّقا ... في ثغره لرشفه
قد احتوى على طلا وشه ... د ودرر مرجاني
قد رصّفا وكلّلا ب ... البرد والزّهر للجاني
أماله سكر الصّبا ... ميل الصّبا لقدّه
وفكّ أزرار القبا ... وحلّ عقد بنده
وسّدته زهر الرّبا ... وساعدي لسعده(1/364)
وبتّ أرعى زغبا ... من فوق ورد خدّه
مثل الهوى هبّ على روضٍ ... ندي من طررٍ ريحاني
قد لطفا حتى غلا م ... ورّد مزهّر نعماني
خدٌّ به خدّ البكا ... في صحن خدّي غدرا
وردّ لمّا أن شكا ... سائل دمعي نهرا
كم مغرمٍ قد تركا ... بين البرايا عبرا
يا من إليه المشتكى ... الحال تغني النّظرا
زاد الهوى فانهملا دمع ... الصّدي كالمطر هتّان
وما انطفا واشتعلا في ... كبدي كالشّرر نيراني
يا فرحة المحزون ... وفرحةً لمن يرى
إن صلت بالجفون ... وصدت من جفني الكرى
فليس لي يحميني ... سوى الذي فاق الورى
شمس العلا والدين ... أبي سعيدٍ سنقرا
مولىً هوى كلّ علا وس ... ؤدد من معشر فرسان
وقد صفا ثمّ حلا في الم ... ورد للمعسر والعان
سنقر شاه الأمير شمس
الدين المنصوري
كان أميراً كبيرا، قد حوى مالاً غزيراً، وجوهراً نظيماً ومالاً نثيرا، واقتنى من السلاح والخيل ما يزيد في وصفه، ويكل اللسان وما وصل إلى نصفه. إلا أنه كان مبخلا، وإن كان مبجلا، ومذمما، وإن كان بالخز معمما.
وكان به مرض مزمن، وتعلل مدمن، لا يزال به مصفرا، ونكد عيشه موفرا.
ولم يزل به إلى أن أنزله في بطن جدثه، وأقام عدمه الدليل على حدثه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة سبع وسبع مئة.
جاء إلى صفد نائباً في سنة أربع تقريباً، بعد الأمير سيف الدين بتخاص، وأقام بها نائباً إلى سنة سبع وسبع مئة، ورسم بعزله، وأن يجيء الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار الكبير من الصبيبة إلى صفد نائباً، فما لحق المرسوم يجيء إلى صفد إلى أن توفي سنقرشاه - رحمه الله تعالى - .
وكان يلبس زميطية حمراء، قيمتها نصف وربع درهم، فقيل له في ذلك، فلبس قبعاً مزركشاً، وقال: من أنا ؟ فقالوا: الأمير سنقرشاه المنصوري، فخلعه، ولبس تلك الزميطية، وقال: من أنا؟ فقالوا كما قالوا أولاً، فقال: أنا هو ذاك إن لبست هذه أو ذاك.
وكان عنده جماعة من الأويراتية، وكان كثير الصيد، اصطاد مرة من غابة أرسوف خمسة عشر أسداً وضبوحين، وكان في الجملة أسد أسود كبير. وكان قليل المقام في المدينة، بل غالب أيامه يكون في الصيد. وكان قد أفنى الأسود من الغابات.
ولما توفي دفن بعين الزيتون في زاوية الشيخ قليبك. وابنته زوج الأمير سيف الدين أرقطاي نائب مصر.
سنقرشاه الأمير شمس الدين الظاهري
كان أحد أمراء دمشق. وسكن بالعقيبة عند حمام الجلال.
توفي - رحمه الله تعالى - في يوم الاثنين ثاني ذي الحجة سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ودفن بكرة الثلاثاء بمقابر الصوفية، وحضر جنازته قاضي القضاة ونائب السلطنة وغيرهما من أعيان الأمراء والكتاب.
سنقر الأمير شمس الدين
الكمالي الحاجب
كان أحد الأكابر، والأمراء الذين تثني عليهم ألسنة الأقلام في ثغور أفواه المحابر.
وكان في طبقة سلار والجاشنكير والجوكندار أمير جاندار، والكمال رابعهم، وقادمهم في كل أمر وتابعهم، حتى اشتهر أمرهم وتأزر نصرهم، ولذلك قال بعض عوام المصريين المطابيع:
لاكتبنّ القصص وقف فيك لسلاّر ... واقصد الجاشنكير ورح للكمالي
واقول لو يا مير في أيام عدلك ... كيف يكون لي معشوقٌ يا خد بدالي
ولما جرد العسكر من مصر صحبة كراي الذين توجهوا لإمساك أسندمر من حلب، كان الأمير الكمالي من جملتهم صحبة كراي، ودخلوا إلى دمشق في ذي القعدة سنة عشر وسبع مئة، ولما كان في تاسع عشر شهر ربيع الآخر أمسك السلطان أربعة أمراء: نائب الكرك آقوش، وبيبرس الدوادار، ونائب السلطنة، وسنقر الكمالي، وغيرهم، وأودعوا برجاً في القلعة معتقلين، وذلك في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
سنقر الأمير شمس الدين(1/365)
أستاذ الدار
أخرجه السلطان الملك الناصر حسن إلى الشام للحوطة على خيل الأمير سيف الدين طاز وغير ذلك في أوائل سنة تسع وخمسين وسبع مئة. فتوجه إلى حلب، وحضر بعد ذلك إلى دمشق، وبذل الجهد في موجود الأمير طاز، وكان إذ ذاك أمير طبلخاناه، فانحلت بالديار المصرية وهو في الشام تقدمة ألف وإمرة مئة، فعينها السلطان باسمه، وعظمت منزلته عند السلطان، وعاد إلى مصر بعد مدة على تسعة أشهر، ونفع جماعةً ممن خدمه بدمشق وحلب وغيرهما.
وزادت وجاهته عند السلطان، وكان يقال: إنه أخو الأمير سيف الدين بكتمر المومني نائب حلب.
ولما جهز أخوه المذكور إلى حلب أقام بعد ذلك قريباً من نصف سنة، ثم إن السلطان تغير عليهما، وأمسك أخاه نائب حلب، وأخرجه إلى دمشق أمير طبلخاناه، فورد إليها في سنة ستين، وأقام بها قليلاً، ثم رسم بتوجهه من دمشق إلى صهيون بطالاً بغير إقطاع. فأقام بها مدة إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - بصهيون، وورد الخبر بوفاته إلى دمشق في ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبع مئة.
وكان فيه مروءة وعصبية مع من يعرفه.
الألقاب والأنساب
السنهوري المادح أحمد بن مسعود.
السهروردي شهاب الدين
عبد المحمود بن عبد الرحمن.
ابن أبي سوادة
القاضي بهاء الدين كاتب السر بحلب، اسمه علي بن علي بن محمد.
توفي - رحمه الله تعالى - في ضحى نهار السبت، منتصف شهر رجب الفرد سنة أربع عشرة وسبع مئة.
ومن شعره، وقد توفي القاضي عز الدين عبد العزيز بن القيسراني، مما كتبه إلى أخيه:
وحقّك ما تركت الكتب عمداً ... بتعزيةٍ على هذا المصاب
ولكن كلّما أثبتّ سطراً ... محته دموع عيني من كتابي
وكتب إليه أيضاً:
ولمّا قضى واستهدم الصّبر بعده ... وكنّا نرجّيه لإعدامنا كنزا
بكينا وأجرينا الدّموع تأسّفاً ... ولم يجدنا فيض الدّموع ولا أجزى
ولا تسألوا عن حالتي في رزيّتي ... وما حال مضنىً فارق الجاه والعزّا
السواملي: جمال الدين إبراهيم بن محمد.
سوتاي
بالسين المهملة، والواو الساكنة، والتاء ثالثة الحروف، وألف ممدودة وياء آخر الحروف: النوين الكبير الحاكم على ديار بكر بمجموعها.
كان رئيساً في نفسه، فريداً في أبناء جنسه، ذا عزم وجلد وحزم، وإثارة للحروب وهزم. عنده رئاسه، وحسن تدبير وسياسه، تحبه رعيته، لما صفت لهم طويته. ويدعون له على الدوام، ويختارون أيامه لو دامت أو عادت ولو في المنام.
ولم يزل على حاله إلى أن أتى السوء سوتاي فدمره، ولم ينفعه ما أتقنه من أمره ودبره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
وكان قد عمر حتى تجاوز المئة، لأنه حكى عن نفسه أنه كان قد حضر واقعة بغداد، وهو بالغ، ورأى أربعة بطون من ولده وولد ولده وولد ولد ولده وأولادهم حتى إنهم أنافوا على الأربعين ذكوراً وإناثاً. وأكبر ولده بارنباي ثم طغاي.
وكان سوتاي أقطجيا لأبغا، والأقطجي بمنزلة أمير آخور. ولم يزل معظماً عند ملوك المغل. وهو جاء إلى ديار بكر، ونزل بها بتومانة بعد وفاة النوين آبك تاصميش، واستمر حاكماً من أوائل دولة أولجايتو سلطان إلى أواخر دولة السلطان بوسعيد ووفاته في بلد، وهي مدينة خراب بالقرب من الموصل، لأنه كان يشتو بها في كل سنة، ثم إنه نقل من بلد إلى الموصل ودفن في تربة كان بناها لنفسه من الموصل على دجلة.
وكان مرضه ثلاثة أشهر، وكان قد أضر قبل موته بسنوات، ولما مات حكم بعده على ديار بكر علي باشا خال بوسعيد، وجرت له حروب مع أولاده.
سودي
الأمير سيف الدين، رأس نوبة الناصري.
كان من خواص أستاذه المقربين، وأعيانهم المدربين. له معرفة وفهم، وله نفوذ في الأحكام كما ينفد السهم.
اجتهد على سياقة نهر الساجور إلى حلب، وبذل فيه لكل صانع ما طلب. وأخذ أمره بكلتا يديه، وأنفق في سياقته غالب ما لديه. ثم إنه من فرحه عجل وطالع السلطان بوصوله، فجهز المطالعة في البريد على يد رسوله بناء على أنه في غد يدخل البلد، فتقطع في تلك الليلة، وساح في الجلد. فكانت منه هفوة، وخطأ ندم على ما مد فيه من الخطوة.
ولم يزل إلى أن لم يبق لسودي سؤدد، وذاب شحمه في القبر وتقدد.(1/366)
وتوفي - رحمه الله تعالى - منتصف شهر رجب سنة أربع عشرة وسبع مئة يوم السبت، ودفن يوم الأحد بالقرب من تربة قراسنقر.
وكان السلطان قد جهزه لنيابة حلب بعدما توجه الأمير شمس الدين قراسنقر من البلاد، وراح إلى بلاد خربندا، فوصل إلى حلب في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
وقيل: إن طول النهر الذي حفره من الساجور إلى أن يصل قويق أربعون ألف ذراع، وعرضه ذراعان، وعمقه ذراعان تقريباً، وإن الذي أنفق عليه ثلاث مئة ألف درهم، النصف من مال السلطان، والنصف من مال سودي. ولم يظلم فيه أحد، بل حفر بالعدل والإنصاف.
الألقاب والأنساب
السوسي فخر الدين أحمد بن علي.
ابن سويد تاج الدين طالوت.
سلارسيف الدين
بالسين المهملة وبعدها لام مشددة وبعد الألف راء: الأمير سيف الدين التتري المنصوري الصالحي.
كان أولاً من مماليك الصالح علي بن المنصور، فلما مات الصالح صار من خواص أبيه المنصور، ثم إنه اتصل بخدمة الأشرف، وحظي عنده، وأمره، وكان صديق السلطان حسام الدين لاجين ونائبه منكوتمر.
ندبوه لإحضار السلطان الملك الناصر محمد من الكرك فأحضره. وركن إلى عقله فاستنابه وقدمه على الجميع. وخضع له الناس.
وكان عاقلا، عارفاً بالأمور كاملا. ينطوي على دهاء، ويظهر قربك وهو ذو جفاء، سعيد الحركات في أموره، موفق الآراء في غيبته عن الملك وحضوره. اقترح أشياء ظريفة في لبس الفارس والفرس، ونسب إليه تقوم القيامة وذكرها ما اندرس. ونال من سعادة الدنيا ما لا يوصف كثره، ولا ينهض قدم تحمله عثره. وحصل من الذهب والفضة ما هو قناطير مقنطره، ومن اللآلي والجواهر ما تعجز عن مكاثرته السحائب المثعنجره.
وكان ساكناً وادعاً لا شر فيه ولا باطن سوء لمخالفيه ولا محالفيه. وساس الملك تلك المده، وداهن أعاديه وهم حوله على انفراد عده. وكان محباً لمن يخدمه، مكباً على من يصطنعه أو يقدمه.
ولما توجه الناصر إلى الكرك، تداها على الجاشنكير ولم يشركه في الوقوع في الشرك، فسلطنه بل سرطنه، وحببه للملك بل جننه، ودربه لذلك بل درنه. ومشى قدامه، إلا أن ذاك عير غير فطن وذاك خب خبعثنة. وما كان بأسرع من أن استحالت الدولة عليه، وفرت بأجمعها من بين يديه. وكان هو فيمن خامر، وقام مع الحزب الناصري وقامر. إلا أنه حاق به مكره، وأتعبه خماره وسكره، ومات في السجن جوعا، ولم يجد إلى الدنيا رجوعا. يقال إنه أكل من مداسه الكعاب، وتحقق أن الدنيا مومس بالية، وكان يظن أنها كعاب.
وتوفي - رحمه الله تعالى - معتقلاً بالقلعة في الديار المصرية في شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبع مئة.
وكان يتحدث أن إقطاعه بضع وثلاثون طبلخاناه، واشتهر على ألسنة العوام وغيرهم أنه يدخله في كل يوم مئة ألف درهم. واستمر في النيابة إحدى عشرة سنة.
ولما ملك الجاشنكير استمر به في النيابه، وازداد عظمةً وسعاده، وأقام على ذلك تسعة أشهر. ولما عاد السلطان من الكرك تلقاه سلار إلى أثناء الرمل. ولما جلس على كرسي الملك أعطاه الشوبك، فتوجه إليها في جماعته، وتشاغل السلطان عنه، ونزح سلار عن الشوبك وطلب البرية، ثم إنه خذل، وسير يطلب من السلطان أماناً على أنه يقيم بالقدس لعبادة الله تعالى، فأجابه إلى ذلك، ودخل إلى القاهرة بعد أن بقي أياماً مشرداً في البرية مردداً بين العرب، ينوبه في كل يوم لهم ألف درهم وأربعون غرارة شعير.
ولما جاء عاتبه السلطان واعتقله، ومنع من الزاد إلى أن مات جوعاً، وأكل كعاب سرموزته، وقيل: أكل خفه، وقيل: إنهم دخلوا إليه وقالوا له: قد عفا السلطان عنك، فقام من الفرح ومشى خطوات يسيرة وسقط ميتاً.
وكان أمسر آدم، لطيف القد، أسيل الخد، لحيته في حنكه سوداء، وهو من التتار الأويراتية.
مات في أوائل الكهولة، ولعله ما بلغها - رحمه الله تعالى - وأذن السلطان للأمير علم الدين سنجر الجاولي أن يتولى دفنه وجنازته، فدفنه بتربته عند الكبش.
وكان - رحمه الله تعالى - ظريفاً في لبسه، اقترح أشياء في اللبس، وهي إليه منسوبة، منها المناديل السلارية والأقبية السلارية، وفي قماش الخيل وآلات الحرب.
قال شمس الدين الجزري: إنه أخذ له ثلاث مئة ألف ألف دينار، وشيء كثير من الحلي والجواهر والخيل والسلاح والغلال مما لا يكاد ينحصر.(1/367)
قال شيخنا الذهبي، رحمه الله تعالى: وهذا شيء كالمستحيل، لأن ذلك يجيء وقر عشرة آلاف بغل، الوقر ثلاثون ألف دينار، وما علمت أن أحداً من السلاطين الكبار ملك هذا ولا ربعه. ثم تدبر - رحمك الله - إذا فرضنا صحة قولهم، دخله في كل يوم مئة ألف درهم، أما كان عليه فيها خرج ؟ فلو أمكنه أن يكنز في كل يوم ثلاثة آلاف دينار أكان يكون في السنة غير ألف ألف دينار ومئتي ألف دينار ؟ فتصير الجملة في عشرة أعوام عشرة ألف ألف دينار، وهذا لعله غاية أمواله، فلاح لك فرط ما حكاه الجزري واستحالته.
قال الجزري: نقلت من ورقة بخط علم الدين البرزالي قال: دفع إلي المولى جمال الدين بن الفويرة ورقةً بتفصيل بعض أموال سلار وقت الحوطة على داره في أيام متعددة: يوم الأحد: تسعة عشر رطلاً بالمصري زمرداً.
ياقوت: رطلان.
بلخش: رطلان ونصف.
صناديق ستة ضمنها جواهر فصوص ماس وغيره: ثلاث مئة قطعة.
لؤلؤ كبار مدرر من زنة درهم إلى مثقال: ألف ومئة وخمسون حبة.
ذهب: مئتا ألف وأربعون ألف دينار.
دراهم: أربع مئة ألف درهم وسبعون ألف درهم.
يوم الاثنين: ذهب: خمسة وخمسون ألف دينار.
دراهم: ألف ألف درهم وأحد وعشرون ألفاً.
فصوص بذهب: رطلان ونصف.
مصاغ عقود وأساور وزنود وحلق وغير ذلك: أربعة قناطير بالمصري.
فضيات أواني وهواوين وصدوره: ستة قناطير.
يوم الثلاثاء: ذهب: خمسة وأربعون ألف دينار.
ودراهم: ثمانية آلاف درهم.
براجم فضة وأهلة وصناديق: ثلاثة قناطير فضة.
ذهب: ألف ألف دينار وثمان مئة ألف درهم.
أقبية ملونة بفرو قاقم: ثلاث مئة قباء.
أقبية بسنجاب: أربع مئة قباء.
سروج مزركشة: مئة سرج.
ووجد عند صهره الأمير موسى ثمانية صناديق، فأخذت، كان من جملة ما فيها عشر حوائص مجوهرة سلطانية وتركاش ماله قيمة، ومئة ثوب طرد وحش.
وقدم صحبته من الشوبك خمسون ألف دينار وأربع مئة وسبعون ألف درهم، وثلاث مئة خلعة ملونة وخركاه أطلس معدني مبطنة بأزرق بابها زركش، وثلاث مئة فرس، ومئة وعشرون قطاراً بغال، ومثلها جمال. كل هذا سوى الغلال والأنعام والجواري والمماليك والأملاك والعدد والقماش. وذكر أنه عوقب كاتبه، فأقر أنه كان يحمل إليه كل يوم ألف دينار، وما يعلم بها غيره.
وقيل: إن مملوكاً دلهم على كنز له مبني في داره، ووجدوا فيه أكياساً، وفتحوا بركة فوجدوها ملأى أكياس ذهب.
قال شيخنا الذهبي: وحدثني شيخنا فخر الدين أن إنساناً حكى له، قال: دخل العام شونة سلار من أصناف الغلال ست مئة ألف إردب. وقال شيخنا الذهبي: ثم إنه مات البائس، يتحسر على الخبز اليابس.
وقلت أنا فيه:
في أمر سلاّر للألباب موعظةٌ ... لم يحتج العقل إذ يحتجّ برهانا
حوى كنوزاً إذا قارون قارنها ... طافت عليه من الأموال طوفانا
وبعد ذلك لم تقدر يداه على ... لبابة وقضى في الحبس جوعانا
فألف أفٍّ لدنيانا وزخرفها ... فما سمعناه عن سلاّر سلاّنا
الألقاب والأنساب
ابن السلار ناصر الدين أبو بكر بن عمر.
السلاري نائب مصر الأمير شمس الدين آقسنقر.
ابن سلام الشيخ شرف الدين الحسين بن علي.
سلامش
الأمير سيف الدين الظاهري.
قارب التسعين.
كان من أمراء الديار المصرية. وكان صالحاً ديناً.
توفي - رحمه الله تعالى - في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ودفن برا باب النصر.
وكان أمير خمسين فارساً.
الألقاب والأنساب
السلامي الخواجة: مجد الدين إسماعيل بن محمد.
سيف الدين
الشيخ الجليل الكبير الرجيحي بن سابق بن هلال بن يونس شيخ اليونسية.
كان له حرمة وافرة في الدولة، وعند أتباع جده وطائفتهم.
توفي - رحمه الله تعالى - يوم السبت خامس عشر شهر رجب سنة ست وسبع مئة، وصلي عليه بالجامع الأموي، وأعيد إلى الدار التي كان يسكنها داخل باب توما، وتعرف بدار أمين الدولة، فدفن بها، وحضره خلق من الأعيان والقضاة والأمراء.
وأجلس مكانه ولده فضل.
كان الشيخ سيف الدين مليح السيرة، ضخم الهامة جداً، هائل المنظر، محلول الشعر. ناهز السبعين سنة.
سيف بن سليمان(1/368)
ابن كامل بن منصور بن علوان بن ربيعة الموازيني السلمي الزرعي، القاضي شرف الدين.
كان فقيهاً فاضلاً عفيفاً محترزاً، وله نظم، وعنده فوائد.
وولي عدة ولايات من أعمال دمشق نحواً من أربعين سنة. وكان فيها مشكوراً.
وولي بعلبك والقدس، وأقام به إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في ثالث عشري جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وأربعين وست مئة.
وروي الحديث عن ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، ويوسف بن مكتوم، وغيرهم بدمشق والقدس.
سيف بن فضل بن عيسى
الأمير سيف الدين من آل فضل الزواهر، ومن قوم عدادهم في الجماهر.
ولي إمرة آل فضل بعد ابن عمه أحمد بن مهنا، فما صفا له عيش ولا تهنا. وعزل عن الإمره، وخمدت منه الجمره، وما شرب من عزها كأس خمره، إلا أنه كان مطاعاً في الدوله، مشاراً إليه في الجوله، مقدماً في الدول القاهره، معنياً بأمور الباطنة والظاهره.
وكان قد أسره عمر بن موسى، ثم من عليه وأطلقه وجراحه لا تندمل منه ولا توسى.
ولم يزل على حاله إلى أن غص من الحسام بريقه، وشخص بصره من بريقه.
وقتل - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة ستين وسبع مئة، قتله عمر بن موسى.
كان الأمير سيف الدين له وجاهة في الدولة من أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان كل قليل يتوجه إلى باب السلطان، ويعوده بما يختاره من الزيادات والإنعامات. وكان هو وإخوته وآل فضل أبيةً لا يدخلون في حكم أمير النقرة من أولاد مهنا، بل مرجع حوطاتهم وإفراجاتهم مختص به.
وكان قد ولي الإمرة بعد الأمير شهاب الدين أحمد بن مهنا في أيام الملك المظفر حاجي، فما مشى له حال، وضايقه أولاد مهنا، وقطعوا الطرقات على الناس وعجزوه، فأعيدت الإمرة إلى أحمد بن مهنا. وكان يرمى بعدم الصدق إلا أنه له الوجاهة في الدولة. ولقد رأيته وهو عند الأمير سيف الدين منجك نائب الشام بدار العدل، وقد جاء الأمير سيف الدين حيار بن مهنا من باب السلطان، وهو أمير النقرة، فجلس تحت الأمير سيف.
وقلت أنا فيه لما قتل - رحمه الله تعالى - :
سيف بن فضل كان في الدّهر لا ... يخاف من حينٍ ولا حيف
حتّى إذا ما خانه دهره ... أُنفذ حكم السّيف في سيف
سيفاه الأمير سيف الدين
أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق.
توفي - رحمه الله تعالى - في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبع مئة.
الألقاب والأنساب
السيف الحريري
اسمه أبو بكر.
السيف البغدادي
اسمه عيسى بن داود
السيف الناسخ
يوسف بن محمد.
بنو سيد الناس: شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد. الشيخ فتح الدين محمد بن محمد بن محمد. وسعد الدين محمد بن محمد بن محمد.
وسعد الدين محمد بن محمد بن محمد.
السيد: ركن الدين النحوي، الحسن بن شرفشاه.
ابن سيد الأهل: الحسين بن علي.
ابن السيوفي: نجم الدين عيسى.
الألقاب والأنساب
السهروردي الشيخ شمس الدين
الكاتب أحمد بن يحيى.
حرف الشين
شاذي
الملك الأوحد تقي الدين بن الملك الزاهر مجير الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شاذي بن مروان بن يعقوب.
كان أحد الأمراء بدمشق.
توجه مجرداً إلى جبال الجرد، فتوفي هناك في ثاني صفر سنة خمس وسبع مئة، وحمل إلى دمشق، ودفن بتربة الدار الأشرفية بسفح قاسيون.
وكان معظماً في الدولة أثيل المكارم عند الأفرم. وله اشتغال، وكان يحفظ القرآن العظيم، وسمع الحديث من الفقيه محمد اليونيني.
قال شيخنا البرزالي: وروي لنا عنه.
ومولده في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وست مئة بدمشق.
وكان له بالأمور دربة وخبرة تامة.
شاذي بن بدليك
الأمير سيف الدين أخو الأمير شهاب الدين أحمد الساقي، المقدم ذكره.
كان أولاً من جملة البريدية بمصر، ثم إنه أعطي طبلخاناه بحلب، وأقام بها. وخرج على الصالح صالح، وحضر مع بيبغاروس إلى دمشق، وهرب معه. وكان في جملة من أمسك على حلب، وأحضروه إلى دمشق.
وكان في جملة من وسط بسوق الخيل بدمشق في شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
الألقاب والأنساب
الشارعي
المحدث إسماعيل بن إبراهيم.
الشارمساحي الشاعر(1/369)
أحمد بن عبد الدائم.
ابن الشاطبي
علاء الدين علي بن يحيى.
الشاطبي يوسف بن أحمد.
شافع بن علي
ابن عباس بن إسماعيل بن عساكر الكناني العسقلاني ثم المصري: الشيخ الإمام الأديب ناصر الدين سبط الشيخ عبد الظاهر بن نشوان.
روى عن الشيخ جمال الدين محمد بن مالك، وغيره.
وروى عنه الشيخ أثير الدين، وعلم الدين البرزالي، وجمال الدين إبراهيم الغانمي وغيره من الطلبة.
كتب المنسوب فأحسنه، وجود طريقه وأتقنه، فإذا خط غض الزهر عينه، وطلب من العقود دينه، وإذا نظم القريض نظرت النجوم بطرف غضيض، وإذا نثر فضح الدرر، ملأ الدنيا إنشاءً، وأبرزها كالنجوم زهرت عشاء.
وكثر من التصانيف وما ارتابت فيها العقول، وقال فسمع الناس ما يقول.
كتب الإنشاء بمصر زمانا، ونظم قلائده على جيد الزمان عقيانا. إلا أنه أضر بأخرة، فعدم الناس طروسه الموشاه، ورقاعه التي هي بالزاهر مفشاه، ولكن فوائد نظمه ونثره تسيل ملء الحقائب، وصوب قريحته إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب.
ولم يزل على حاله إلى أن شافه شافعاً حينه، وحل على وجوده من العدم دينه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة ثلاثين وسبع مئة في سابع عشري شعبان، ودفن بالقرافة.
ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة.
كان قد أصابه سهم في نوبة حمص الكبرى سنة ثمانين وست مئة في صدغه، فعمي بعد ذلك، ولازم منه بيته.
وكان جماعةً للكتب؛ أخبرني من لفظه شهاب الدين البوتيجي الكتبي بالقاهرة، قال: خلف ثماني عشرة خزانة كتباً نفائس أدبية، وكانت زوجته تعرف ثمن كل كتاب، وبقيت تبيع منها إلى أن خرجت من القاهرة سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
وأخبرني البوتيجي أيضاً، قال: كان إذا لمس الكتاب وجسه، قال: هذا الكتاب الفلاني، وهو لي ملكته في الوقت الفلاني، وإذا أراد أي مجلد كان، قام إلى خزانته وتناوله منها كأنه الآن وضعه بيده.
اجتمعت به أنا في القاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، واستنشدني شيئاً من نظمي، فأنشدته لنفسي:
إن وردي من الحمام قريب ... فلهذا أمست دموعي مفاضه
ولكم جهد ما يكون بعيداً ... ومشيبي رشاش تلك المخاضه
فأنشدني من لفظه لنفسه:
قال لي من رأى صباح مشيبي ... عن شمالٍ من لمّتي ويمين
أيّ شيء هذا ؟ فقلت مجيباً ... ليل شكٍّ محاه صبح يقين
وأنشدني هو من لفظه لنفسه:
تعجّبت من أمر القرافة إذ غدت ... على وحشة الموتى بها قلبنا يصبو
فألفيتها مأوى الأحبّة كلّهم ... ومستوطن الأصحاب يصبو له القلب
فأنشدته أنا لنفسي:
ألا إنّ القرافة إن غدونا ... تميل لها القلوب ولا عجيبا
فما فينا مصابٌ قطّ إلاّ ... تضمّ له قريباً أو حبيبا
وأنشدني هو أيضاً لنفسه:
وبي قامةٌ كالغصن حين تمايلت ... وكالرّمح في طعن يقدّ وفي قدّ
جرى من دمي بحرٌ بسهم فراقه ... فخضّب منه ما على الخصر من بند
وأنشدته أنا لنفسي:
قد شدّ حبّي بندا ... في حمرةٍ مثل خدّه
كخاتمٍ من عقيقٍ ... قد زان خنصر قدّه
فقال: لو اتفق لك خنصر خصره لكان أحسن، فقلت:
في حمرة البند معنى ... ممن سباني بهجره
كخاتمٍ من عقيقٍ ... قد زان خنصر خصره
وكتبت له أستدعي إجازته، ونسخة ذلك: المسؤول من إحسان سيدنا الشيخ الإمام المفيد القدوة جامع شمل الأدب، قبلة أهل السعي في تحصيله والدأب:
أخي المعجزات اللائي أحرزن طرسه ... كأُفقٍ به للنيّرات ظهور
وما ثمّ إلا الشّمس والبدر في السّما ... وهذا شموسٌ كلّه وبدور
البليغ الذي أثار أوابد الكلم من مظان البلاغه، وأبرز عقائل المعاني تتهادى في تيجان ألفاظه، فجمع بين صناعة السحر والصياغه، وأبدع في طريقته المثلى فجلت عن المثل، وأنبت في رياض الأدب غروس فضل لا تقاس بدوحات البان ولا الأثل، وأظهر نظامه عقوداً حلت من الزمان كل ما عطل، وقال لسان الحال ممن يتعاطاه: مكره أخاك لا بطل، وجلا عند نثاره كلمات مقصورات في خيامه، وذر على كافور قرطاسه من أنفاسه مسك ختامه، ناصر الدين شافع بن علي(1/370)
لا زال في هذا الورى فضله ... يسير سير القمر الطّالع
حتّى يقول النّاس إذ أجمعوا ... ما مالك الإنشا سوى شافع
إجازة كاتب هذه الأحرف ما يجوز له روايته من كتب الحديث وأصنافها، ومصنفات العلوم على اختلافها، إلى غير ذلك كيفما تأدى إليه من مشايخه الذين أخذ عنهم من قراءة أو سماع أو إجازة أو مناولة أو وصية. وإجازة ماله - فسح الله في مدته - من تأليف ووضع، وتصنيف وجمع، ونظم ونثر. والنص على ذكر مصنفاته وتعيينا في هذه الإجازة إجازةً عامة على أحد القولين في مثل ذلك. والله يمتّع بفوائده، وينظم على جيد الزّمن عنه بيد غيره من إنشائه.
أما بعد، فالحمد لله الذي أمتع من الفضلاء بكل مجيز ومستجيز، وأشهد من معاصري ذوي الدراية والرواية من جمع بين البسيط من علو الإسناد والوجيز. نحمده على نعمه التي يجب له عليها الإحماد، ونشكره على تهيئة فضلها المخول شرف الإسعاف والإسعاد، ونصلي على سيدنا محمد المعظمة رواة حديثه، وحق لهم التعظيم، العالية قدراً وسندا، من شأنه التبجيل والتفخيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وما أحقهم بالصلاة والتسليم.
وبعد، فإني وقفت على ما التمسه الإمام الفاضل، الصدر الكامل، المحدث الصادق، العلي الإسناد، الراقي درجات علم الحديث النبوي بعلو روايته السائرة على رؤوس الأشهاد، وهو غرس الدين خليل بن أيبك:
وحسبي به غرساً تسامى أصالةً ... إلى أن سما نحو السماء علاؤها
حوى من بديع النّظم والنّثر ما رقى ... إلى درجاتٍ لا يرام انتهاؤها
استجاز - أعزه الله - فأتى ببديع النظم والنثر في استجازته، وقال فأبدع في إبدائه وإعادته، وتنوع في مقالهما فأسمع ما شنف الأسماع، وأبان عما انعقد على إبداعه الإجماع، وقال فما استقال، ورتل آي محكم كتابه فتميز وحق له التميز على كل حال.
وقد أجبته إلى ما به رسم جملةً وتفصيلا، وأصلاً وفرعا، وأبديت به وجهاً من وجوه الإجابة جميلا، ما يجوز لي روايته من كتب الحديث وأصنافها، ومصنفات العلوم حسب إجازة ألافها، حسبما أجزت به من المشايخ الذين أخذت عنهم، وسألت الإجازة منهم، بقراءة أو سماع أو مناولة أو وصية، ومالي من تأليف ووضع، ونظم ونثر وجمع، كشعري المتضمنة الديوان المثبت فيه، ومناظرة الفتح بن خاقان المسمى شنف الآذان في مماثلة تراجم قلائد العقيان، وسيرة مولانا السلطان الملك الناصر المتضمنة أجزاء متعددة، وسيرة والده السلطان الشهيد الملك المنصور المتضمنها جزء واحد التي حسنتها على ألسنة الرعايا متعددة، وسيرة ولده الملك الأشرف، ونظم الجواهر في سيرة مولانا السلطان الملك الناصر، أيضاً نظماً، وما يشرح الصدور من أخبار عكا وصور، والإعراب عما اشتمل عليه البناء الملكي الناصري بسرياقوس من الإغراب، وإفاضة أبهى الحلل على جامع قلعة الجبل، وقلائد الفرائد وفرائد القلائد فيما لشعراء العصريين من الأماجد، ومناظرة ابن زيدون في رسالته، وقراضات الذهب المصرية في تقريظات الحماسة البصرية، والمقامات الناصرية، ومماثلة رسائل ما حل من الشعر، وتضمين الآي الشريفة والأحاديث النبوية في المثل السائر، والمساعي المرضية في الغزوة الحمصية، وما ظهر من الدلائل في الحوادث والزلازل، والمناقب السرية المنتزعة من السيرة الظاهرية، والدر المنظم في مفاخرة السيف والقلم، والحكام العادلة فيما جرى بين المنظوم والمنثور من المفاضلة، والرأي الصائب في إثبات ما لا بد منه للكاتب، والإشعار بما للمتنبي من الأشعار، وتجرية الخاطر المخاطر في مماثلة فصوص الفصول وعقود العقول مما كتب به القاضي الفاضل في معنى السعيد بن سناء الملك، وعدة الكاتب وعمدة المخاطب، وشوارد المصائد فيما لحل الشعر من الفوائد، ومخالفة المرسوم في الوشي المرقوم، ومالي غير ذلك من حل نظم ونظم حل، ورسائل فيما قل أو جل. وما يتفق لي بعد ذلك من نظم ونثر وتأليف وجمع حسبما التمسه مني بمقتضى إجازته، وإيدائه وإعادته. وكتب في يوم الأحد خامس عشر صفر سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وكتب بخط يده بعد ذلك: أجزت له جميع ذلك بشرطه، وكتب: شافع بن علي بن عباس.
وأنشدنا إجازة له:
أرى الخال من وجه الحبيب بأنفه ... وموضعه الأولى به صفحة الخدّ(1/371)
وما ذاك إلا أنّه من توقّدٍ ... تسامى يروم البعد من شدّة الوقد
وأنشدني له إجازة، وقد احترقت الكتب أيام الأشرف:
لا تحسبوا كتب الخزانة عن سدى ... هذا الذي قد تمّ من إحراقها
لمّا تشتّت شملها وتفرّقت ... أسفت فتلك النار من زفراتها
وأنشدني إجازة له:
شكا لي صديقٌ حبّ سوداء أُغريت ... بمصّ لسانٍ لا تملّ له وردا
فقلت له: دعها تلازم مصّه ... فماء لسان الثّور ينفع للسّودا
وأنشدني له إجازة:
قل لمن أطرى أبا دلفٍ ... بمديحٍ زاد في غرره
كم رأينا من أبي دلفٍ ... خبره يربي على خبره
ثمّ ولّى بالممات وما ... ولّت الدّنيا على أثره
وأنشدني له إجازة في انكفاف بصره:
أضحى وجودي برغمي في الورى عدماً ... إذ ليس لي فيهم وردٌ ولا صدر
عدمت عيني ومالي فيهم أثرٌ ... فهل وجودٌ ولا عينٌ ولا أثر ؟
وأنشدني له إجازة:
لقد فاز بالأموال قومٌ تحكّموا ... ودان لهم مأمورها وأميرها
نقاسمهم أكياسها شرّ قسمةٍ ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها
وأنشدني له إجازة في سجادة خضراء:
عجبوا إذا رأوا بديع اخضرارٍ ... ضمن سجّادةٍ بظلٍّ مديد
ثمّ قالوا: من أيّ ماءٍ تروّى ؟ ... قلت: ماء الوجوه عند السّجود
وأنشدني له إجازة في ممسحة القلم:
وممسحةٍ تناهى الحسن فيها ... فأضحت في الملاحة لا تبارى
ولا نكر على القلم الموافي ... إذا في ضمنها خلع العذارا
وأنشدني له إجازةً في شبابة:
سلبتنا شبّابةٌ بهواها ... كلّ ما ينسب اللّبيب إليه
كيف لا والمحسن القول فيها ... آخذٌ أمرها بكلتا يديه
وأنشدني له إجازة:
ومن عجبٍ أنّ السّيوف لديهم ... تكلّم من تأتمّه وهي صامته
وأعجب من ذا أنّها في أكفّهم ... تحيد عن الكفّ المدى وهي ثابته
وكتب إليه السراج الوراق، ومن خطه نقلت:
أيا ناصر الدين انتصر لي فطالما ... ظفرت بنصرٍ منك بالجاه والمال
وكن شافعاً فالله سمّاك شافعا ... وطابقت أسماءً بأحسن أفعال
وقدرك لم نجهله عند محمّدٍ ... لأن ابن عبّاسٍ من الصّحب والآل
قلت: يريد بمحمد هنا القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر.
وكتب إليه أيضاً، ومن خطه نقلت:
سيّدي اليوم أنت ضيفٌ كريمٌ ... فاق معنىً في جوده بمعان
لو رأى الفتح سؤدد الفتح هذا ... ما انتمى بعده إلى خاقان
أو رآه فتح المغارب صلّى ... بعلاه قلائد العقيان
وكأنّي أراكما في مجارا ... ة المعاني بحرين يلتقيان
وتطارحتما مذاكرةً تفتن ... ن منها أزاهر الأفنان
فإذا مرّ للصنائع ذكرٌ ... فاجعلاني في بعض من تذكران
ومن نثر الشيخ ناصر الدين شافع - رحمه الله تعالى - في شمعة، قوله:(1/372)
شمعة ما استتم نبتها بروضة الأنس حتى نورن ولا نما بدوحة المفاكهة حتى أثمر. أومأ بنان تبلجها إلى طرق الهداية وأشار، ودل على نهج التبصر وكيف لا وهي علم في رأسه نار. كأنما هي قلم امتد بما أليق من ذهب، أو صعدة إلا أن سنانها من لهب، وحسبها كرماً أن جادت بنفسها، وأعلنت بإمتاعها على همود حسها، سائلها في الجود بامثالها مسؤول، ودمه بالعفو للصفو من سماحتها مطلول. تحيتها: عموا صباحاً بتألف فجرها، وتمام بدرها في أوائل شهرها. قد جمعت من ماء دمعها ونار توقدها بين نقيضين، ومن حسن تأثيرها وعين تبصرها بين الأثر والعين. كم شوهد منها في مدلهم الليل للشمس وضحاها، ومن تمام نورها للنجم إذا تلاها، وكم طوى باع أنملتها المضيئة رداء الليل إذا يغشاها. قد غيرت ببياض ساطع نورها على الليل من أثواب الحداد، وتنزلت منه منزلة النور الباصر ولا شبهة أن النور في السواد. إن تمايل لسان نورها فالإضاءة ذات اليمين وذات الشمال، وإن استقام على طريقة الإنارة فلما يلزم إنارتها من الإكمال. نارها إنما هو من تلاعب الهوى بحشاها، ونحولها بمكابدة تعذيبها بما من الاصفرار يغشاها. كم عقدت على سفك دمها مع البراءة من العقوق من محافل، وكم قتلت على إطفاء نائرها، ولا ثائرة من قاتل، فهي السليمة التي كم بات من زبان صرفها بليله السليم، وكم أجدى نفسها على نفسها بنفح روح ربها من عذاب أليم.
وأنشدني لنفسه إجازة:
ولمّا أتانا ابن تيميةٍ ... وحقّق بالخبر منه الخبر
أذبنا عقيدة تجسيمه ... بريق بريق سيوف النّظر
وأنشدني أيضاً:
قالوا: ألا تنظر ما قد جرى ... من حنبليٍّ زاد في لغوه
فقلت: هذا خشكنان، أنا ... والله ما أدخل في حشوه
الألقاب والأنساب
ابن الشحام: نجم الدين عبد الرحيم بن عبد الرحمن.
ابن شراقي: علم الدين عبيد الله.
شرف بن أسد المصري
شيخ ماجن، ماجن كما جن، ولا غسل ما حمل في ردنه من السخف ماء النيل ولا الأردن، خليع أربى على الجديد والخليع، وأنسى الناس ذكر صريع الدلاء بما له من الصنيع، ومتهتك ليس بعار من العار، ولا بمبال أي ثوبيه لبس أنقي من التقوى أو إزار من الأوزار ؟، ظريف يصحب الكتاب، ويعاشر الشعراء وأهل الآداب، ويشبب في المجالس على القينات، ويسبب الفتيان للفتيات، لو رآه ابن حجاج ما حجه، أو ابن الهبارية لكان هباءً في تلك المحجه. وكان يمدح الأكابر والأصاغر، ولا يزال ذا كيس فارغ وفم فاغر. وله عدة مصنفات مملوءة بالخرافات والترهات، من مشاشاة الخليج وزوائد المصريين التي كالروض البهيج، وهي موجودة بالديار المصرية بين عوامهم وخواصهم، وفي رفوف ذخائرهم ومناصهم.
ولم يزل على حاله إلى أن مجه المجون وابتلعته الحفره، ولقي من الله تعالى عفوه وغفره.
وتوفي رحمه الله تعالى بعد مرض مزمن في سنة ثمان وثلاثين أو سبع وثلاثين وسبع مئة، وكان في عشر السبعين.
ورأيته غير مرة، وأنشدني شيئاً كثيراً من أشعاره ومن بلاليقه وأزجاله وموشحاته.
ووضع كتاباً في مادة كتاب ابن مولاهم في الصنائع، إلا أن الذي لابن مولاهم في خمسين صنعة، والذي لابن أسد في ألف ومئتي صنعة، ومنها مئتا صنعة تختص بالنساء، وهذا عمل كثير واستقراء عتيد.
وكان عامي العلم، فاضلي الطباع، يقع في شعره الجناس والتورية والاستخدام وسائر أنواع البديع، وإن لم يكن ذلك في بعض المواضع قاعداً من حيث العلم.
وأنشدني من لفظه لنفسه قطعةً من تغزل شذت عني، ولم أحفظ منها إلا قوله:
الظبي يسلح في أرجاء لحيته ... والغصن يصفعه إن ماس بالقدم
وأنشدني من لفظه لنفسه بالقاهرة في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بليقة، وهي:
رمضان كلّك فتوّه ... وصحيح دينك عليّه
وأنا في ذا الوقت معسر ... واشتهي الإرفاق بيّه
حتّى تروى الأرض بالنيل ... ويباع القرط بدري
واعطك الدرهم ثلاثه ... وأصوم شهرين وما أدري
وإن طلبتني في ذا الوقت ... فأنا أثبتّ عسري
فامتهل واربح ثوابي ... لا تربحني خطيّه(1/373)
وتخلّيني أسقّف ... طول نهاري لا عشيّه
لك ثلاثين يوم عندي ... اصبر اعطي المثل مثلين
ون عسّفتني ذا الأيام ... ما اعترف لك قطّ بالدّين
وانكرك واحلف وقل لك ... أنت من اين وانا من اين
واهرب اقعد في قمامه ... أو قلالي بولشيّه
وآجي في عيد شوّال ... واستريح من ذي القضيّه
ولاّ خذ منّي نقيده ... في المعجّل نصف رحلك
صومي من بكره إلى الظهر ... وأقاسي الموت لآجلك
واصوم لك شهر طوبه ... ويكون من بعض فضلك
إيش أنا في رحمة الله ... من أنا بين البريّه
أنا إلاّ عبد مقهور ... تحت أحكام المشيّه
من زبونٍ نحس مثلي ... رمضان خذ ما تيسّر
أنت جيت في وقت لو كان ... الجنيد في مثلو أفطر
هوّن الأمور ومشّي ... بعلي ولا تعسّر
وخذ ايش ما سهّل الله ... ما الزبونات بالسويّه
الملي خذ منّو عاجل ... وامهل المعسر شويّه
ذي حرور تذوّب القلب ... ونهار أطول من العام
وانا عندي أيّ من صام ... رمضان في هذي الأيام
ذا يكون الله في عونو ... ويكفّر عنّو الآثام
وجميع كلامي هذا ... بطريق المضحكيّة
والله يعلم ما بقلبي ... والذي لي في الطويّه
ووضع فيما وضع حكايةً حكاها لي، وهي: اجتاز بعض النحاة ببعض الأساكفة فقال له: أبيت اللعن، واللعن يأباك، ورحم الله أمك وأباك، وهذه تحية العرب في الجاهلية قبل الإسلام، لكن عليك أفضل السلام، والسلم والسلام، ومثلك من يعز ويحترم ويكرم ويحتشم. قرأت القرآن، والتيسير والعنوان والمقامات الحريريه، والدرة الألفية، وكشفا الزمخشري، وتاريخ الطبري، وشرحت اللغة مع العربية على سيبويه ونفطويه، والحسين بن خالويه، والقاسم بن كميل، والنضر بن شميل، وقد دعتني الضرورة إليك، وتمثلت بين يديك، لعلك تتحفني من بعض صنعتك، وحسن حكمتك بنعل يقيني الحر، ويدفع عني الشر، وأعرب لك عن اسمه حقيقا، لأتخذك بذلك رفيقا، ففيه لغات مؤتلفه، على لسان الجمهور مختلفه؛ ففي الناس من كناه بالمداس، وفي عامة المم من لقبه بالقدم، وأهل شهرنوزه سموه بالسارموزة، وإني أخاطبك بلغات هؤلاء القوم، ولا إثم علي في ذلك ولا لوم. والثالثة بك أولى، وأسألك أيها المولى أن تتحفني بسارموزة، أنعم من الموزة، أقوى من الصوان، وأطول عمراً من الزمان، خالية البواشي، مطبقة الحواشي، لا يتغير علي وشيها، ولا يروعني مشيها، لا تنقلب إن وطئت بها جروفا، ولا تنفلت إن طحت بها مكاناً مخسوفا، لا تلتوق من أجلي، ولا يؤلمها ثقلي، ولا تمترق من رجلي، ولا تتعوج ولا تتلقوج، ولا تنبعج ولا تنفلج، ولا تقب تحت الرجل، ولا تلصق بخبز الفجل. ظاهرها كالزعفران، وباطنها كشقائق النعمان، أخف من ريش الطير، شديدة البأس على السير، طويلة الكعاب، عالية الأجناب، لا يلحق بها التراب، ولا يغرقها ماء السحاب، تصر صرير الباب، وتلمع كالسراب، وأديمها من غير جراب، جلدها من خالص جلود المعز، ما لبسها ذليل إلا افتخر بها وعز، مخروزة كخرز الخردفوش، وهي أخف من المنفوش، مسمرة بالحديد ممنطقه، ثابتة في الأرض الزلقه، نعلها من جلد الأفيلة الخمير لا الفطير. وتكون بالنزر الحقير.(1/374)
فلما أمسك النحوي من كلامه وثب الإسكافي على أقدامه، وتمشى وتبختر، وأطرق ساعةً وتفكر، وتشدد وتشمر وتحرج وتنمر ودخل حانوته وخرج، وقد داخله الحنق والحرج، فقال له النحوي: جئت بما طلبته ؟ قال: بل بجواب ما قلته، فقال: قل وأوجز، وسجع ورجز. فقال: أخبرك أيها النحوي أن الشرسا بجزوى شطبطاب المتقرقل والمتقبعقب لما قرب من قرى قرق القرنقنقف طرق زرنات شراسيف قصر القشتنبع من جانب الشرسنكل، والديوك تصهل كنهيق زقازقيق الصولجانات والحرفرف الفرتاح ببيض القرقنطق والزعر برجوا حلبنبوا يا حيز من الطيز بحيح بحمندل بشمرد نوخاط الركبنبو شاع الخبربر بجفر الترتاح بن بسوشاخ على لؤي بن شمندح بلسان القرواق، ماز كلوخ أنك أكيت إرس برام المستنطح بالشمرلند مخلوط، والزيبق بجبال الشمس مربوط، علعل بشعلعل مات الكركندوس، أدعوك في الوليمة يا تيس تش يا حمار بهيمة، أعيذك بالزحواح، وأبخرك بحصى لبان المستراح، وأوقيك وأرقيك، وأرقيك برقوات مرقات قرقران البطون، لتخلص من داء السرسام والجنون.
ونزل من دكانه مستغيثاً بجيرانه، وقبض لحية النحوي بكفيه، وخنقه بإصبعيه حتى خر مغشياً عليه، وبربر في وجهه وزمجر، وناء بجانبه واستكبر، وشخر ونخر، وتقدم وتأخر، فقال النحوي: الله أكبر، الله أكبر، ويحك أأنت تجننت !؟ فقال له: بل أنت تخرفت، والسلام.
قلت: في غالب ألفاظ كلامه الذي عزاه إلى النحوي نظر وأغلاط كثيرة، والمقطع الذي ختم به الحكاية بارد ما ملح فيه ولا ظرف، وكان ينبغي أن يكون حاراً هزازاً نادراً حلواً حالياً خاليا، كما المعهود في مثل هذه الحكايات الموضوعة، كما لو قال له النحوي: ويلك ما هذا العفان، قال: من ذلك الهذيان، أو ما أشبه ذلك.
اللقب والنسب
ابن الشريشي: الشيخ كمال الدين أحمد بن محمد.
شطي بن عبية
الأمير بدر الدين أمير آل عقبة عرب البلقاء وحسبان والكرك إلى تخوم الحجاز.
كان شكلاً حسناً تام الخلق، محبوباً إلى القلوب بوجهه الطلق، يقربه السلطان ويدنيه، ويضمه إلى كنفه ويؤويه. يطلع إليه كل عام بقوده، ويفوز من إنعامه بجوده، ويجلسه في أعلى ذروة من طوده، ويحمده في وفادته عليه عقبى عوده.
وهو زعيم قومه، والمتغالي في سومه، إذا شط شطي عن دراهم نزلوا به عن أقدارهم، فكم على لبني عقبة من عقبه، وكم فك بجاهه لرقبائهم من رقبه.
ولم يزل على حاله إلى أن شط من شطي مزاره، وبعد عن الرؤية وإن قربت داره.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة عيد الأضحى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، لأنه كان قد توجه إلى قرب المدينة الشريفة النبوية، صلوات الله وسلامه على ساكنيها، ونزل على بني لام، ولما كان ليلة العيد شكا وقال: كتفي كتفي، فأحضر بعض جواريه ناراً وأحمت حديداً وكوته يسيرا، ثم إنها توجهت لتعيد الحديدة إلى النار، ولما جاءت وجدته قد قضى نحبه رحمه الله.
وأعطى مكانه لولديه أحمد ونصير.
وهو في هؤلاء العربان المذكورين نظير مهنا بن عيسى في آل فضل، إلا أن مهنا وأولاده أكبر عند الملوك، وأوجه عند سلاطين مصر، لكن كان الملك الناصر محمد يخلع على شطي الأطلس الأحمر والطرز الزركش أيضاً.
الشطنوفي: نور الدين علي بن يوسف.
شعبان بن أبي بكر بن شعبان
الشيخ الصالح أبو البركات الإربلي الفقير القادري، صاحب الشيخ الحافظ جمال الدين بن الظاهري، لازمه مدة، وطاف معه يسمع على الأشياخ بمصر والإسكندرية ودمشق، وكان عنده أجزاء من عواليه، وخرج له ابن الظاهري مشيخةً وسمعها منه العلامة تاج الدين الفزاري والكبار.
سمع من عثمان الشارعي، وعلي بن شجاع، ومحمد بن أنجب النعال، وعبد الغني بن بنين، وكان يعرف شيوخه، ويحكي حكايات حسنة.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة إحدى عشرة وسبع مئة، عن سبع وثمانين سنة. وكانت جنازته من الجنائز التي يقل نظيرها، حضرها القضاة والعلماء والأمراء والصدور والكتاب والمشايخ وعامة الناس.
وكان قد خرج من إربل صبيا، ونشأ بحلب، ودخل القاهرة وأقام بها مدة، وعاد إلى دمشق، وأقام إلى أن مات في التاريخ.
شعبان(1/375)
الأمير شهاب الدين ابن أخي الأمير سيف الدين ألماس أمير حاجب الناصري، أو لزمه. لما توفي الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر تزوج هذا شعبان ابنته مغل بجاه ألماس لأنه كان خالها، ولما غضب السلطان على ألماس وقتله أخرج هذا شعبان إلى غزة، فأقام بها مدة، ثم لما مات السلطان رجع إلى مصر لأنه كان بينه وبين الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي قرابة أيضاً، وخرج معه إلى حماة وحلب وحضر معه إلى دمشق، وهو أمير طبلخاناه، وأقام بها إلى أن جرى ليلبغا ما جرى، فأمسك هو وأخوه يلبغا وجهزوا إلى مصر، ثم أفرج عنه.
وبقي في مصر مدة، ثم جهز إلى حلب فأقام بها أميراً مدة، ثم حضر إلى دمشق أميراً في أوائل سنة أربع وخمسين وسبع مئة، وأقام بها إلى أن مرض.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشر شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وسبع مئة، وترك عليه ديوناً كثيرة، ولم يخلف شيئا.
وكان الأمير سيف الدين طقطاي الدوادار قد زوج ابنته من بنت أمير حسين، ثم إنه طلقها بعد مدة.
كان الأمير شهاب الدين شكلاً ظريفا، قريباً على القلوب خفيفا، تقلبت به الأحوال، ومرت عليه في الأنكاد أعوام وأحوال، وكان إذا حكاها أشجى القلوب وأنكاها، وأقذى العيون وأبكاها.
ولم يزل في سعده خاملا، ولثقل الديون حاملا، إلى أن راح إلى الله بحملته وذهب بجملته، رحمه الله تعالى.
شعبان بن محمد بن قلاوون
السلطان الملك الكامل سيف الدين، ابن السلطان الملك الناصر محمد، ابن السلطان الملك المنصور.
كان ملكاً مهيبا، وسلطاناً لو ترك أضرم الدهر لهيبا، يتوقد ذكاءً وفطنه، وينفذ نظره في المصالح نفوذ النار في القطنه، متطلعاً إلى الملك وسياسة الرعايا، ويعجز بذهنه من ناظر أو عايا، لم يخل بالجلوس للخدمة طرفي النهار مع لعبه ولهوه، ولا رمي أمر من مهمات الملك بذهوله عنه وسهوه.
وكان مستبداً برأيه جازما، آخذاً بالاحتياط حازما، وكان متطلعاً إلى جمع المال وإحرازه، وادخاره واكتنازه. وأقام ديواناً يرأسه للبذل، ولم يقبل في ذلك برهان لوم ولا حجة عذل.
وحليته دون إخوته أنه أشقر أزرق العين، محدد الأنف ليس بالشين.
ولم يزل على حاله إلى أن استراح له التعبان، وفتح من خلعه فك ثعبان لشعبان، وذلك يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
وكانت مدة ملكه سنةً واحدة وسبعة عشر يوماً، لأنه لما مات أخوه الصالح إسماعيل، على ما تقدم في ترجمته قيل: إنه أوصى له بالملك بعده، لأنه كان شقيقه، فاختلفت الخاصكية عليه، ومالت فرقة إلى أخيه حاجي المقدم ذكره، وفرقة إلى شعبان، فذكره الأمير سيف الدين أرغون العلائي للأمير سيف الدين ألملك النائب بمصر، فقال له: بشرط ألا يلعب بالحمام، فبلغه ذلك، فنقم هذا الأمر عليه.
ولما جلس على كرسي الملك أخرجه إلى الشام نائبا، ثم إنه من الطريق جهزه إلى صفد نائبا، وطلب الأمير طقزتمر نائب الشام ليبقى في نيابة مصر.
وكان جلوسه على تخت الملك يوم الخميس بعد دفن أخيه، وحلفوا له يوم الجمعة ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبع مئة. وحضر الأمير سيف الدين بيغرا إلى الشام، وحلف له أمراء دمشق، ثم إنه أخرج الأمير سيف الدين قماري أخا بكتمر إلى طرابلس، وأخرج الأمير حسام الدين طرنطاي البشمقدار إلى الشام.
وهابه الناس وأعظموه وخافوه، وفتح باب قبول البذل في الإقطاعات والوظائف، وجعل لذلك ديواناً قائم الذات. وكان يعين البذل في المناشير، وهو مبلغ ثلاث مئة درهم فما فوقها، فما استحسن الناس منه ذلك، وكانت نفسه في هذا الباب ساقطة.
وأنشدني من لفظه لنفسه الأديب جمال الدين محمد بن نباتة:
جبين سلطاننا المرجّى ... مبارك الطالع البديع
يا بهجة الدهر إذ تبدّى ... هلال شعبان في ربيع
ولم يزل على حاله إلى أن برز الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي إلى ظاهر دمشق، على ما سيأتي في ترجمته، وجرى من الأمير سيف الدين ملكتمر والأمير شمس الدين آقسنقر ما تقدم في ترجمته وترجمة المظفر حاجي، فخلع من الملك، ودخلوا به إلى السجن، وأخرجوا أخاه المظفر حاجي وأجلسوه على تخت الملك.(1/376)
أخبرني من لفظه سيف الدين أسنبغا دوادار الأمير سيف الدين أرغون شاه، وكان أرغون شاه يومئذ أستاذ دار السلطنة، قال: مددنا السماط على أن يأكله الكامل، وجهزنا طعام حاجي إليه ليأكله في سجنه، لأن الكامل أخاه كان قد أمسكه واعتقله، فخرج حاجي أكل طعام السلطان، ودخل الكامل فأكل طعام حاجي في سجنه مكانه، وهذا أمر غريب، وكائن عجيب، فسبحان من بيده أزمة الأمور يصرفها كيف يشاء.
وقلت أنا في واقعته:
بيت قلاوون سعاداته ... في عاجلٍ كانت بلا آجل
حلّ على أملاكه للردى ... دين قد استوفاه بالكامل
شعيب بن محمد بن محمد
ابن محمد بن ميمون المري المغربي الأصل.
أخبرني العلامة شيخنا أثير الدين من لفظه، قال: أنشدنا المذكور من لفظه لنفسه، ومولده بساحل بر الحجاز بموضع يسمى قبر عنتر، ثاني عشر القعدة سنة ستين وست مئة، هكذا ذكر، وأنشدنا ما ذكر أنه نظمه:
هزّوا الغصون معاطفاً وورودا ... وجلوا من الورد الجنيّ خدودا
وتقلّدوا فترى النجوم مباسماً ... وتبسّموا فترى الثغور عقودا
وغدا الجمال بأسره في أسرهم ... فتقاسموه طارفاً وتليدا
فإذا ولدن أهلّة وإذا سرح ... ن جاذراً وإذا حملن أسودا
وإذا لووا زرد العذار على النّقا ... جعلوا اللّوى فوق العقيق زرودا
رحلوا عن الوادي فما لنسيمه ... أرجٌ ولم أر في رباه الغيدا
وذوت غصون البان فيه فلم تمس ... طرباً ولم أسمع به تغريدا
فكأنما هم بانه وغصونه ... وظبا رباه وظلّه ممدودا
نصبوا على ماء العذيب خيامهم ... فلأجلهم عذب العذيب ورودا
وتحمّلت ريح الصّبا من عرفهم ... مسكاً يضوع به النسيم وعودا
قلت: شعر جيد، له ديباجة ورونق، وكأنه وقف على أبيات لابن قلاقس الإسكندري رحمه الله ورأى منزعها، فراعى ذلك المنزع، وأبيات ابن قلاقس هي:
عقدوا الشعور معاقد التيجان ... وتقلّدوا بصوارم الأجفان
وتوشحوا زرداً فقلت أراقمٌ ... خلعت ملابسها على الغزلان
ومشوا وقد هزّ الشباب قدودهم ... هزّ الكماة عوالي المرّات
جرّوا الذوائل والذوابل وانثنوا ... فثنوا عناني محصنٍ وحصان
ولربّما عطفوا الكعوب فواصلوا ... ما بين ليث الغاب والثعبان
في حيث أذكى السمهريّ شراره ... رفع الغبار لها مثار دخان
وعلا خطيب السيف منبر راحةٍ ... تتلو عليه مقاتل الفرسان
وأبيات ابن قلاقس أمتن وأجزل، إلا أن في أبيات شعيب بيتاً نادراً جيدا ليس لابن قلاقس مثله، وهو قوله:
وإذا لووا زرد العذار على النقا ...... البيت
لما فيه من حسن الصناعة ودقة التخيل، وتطبيق مفاصل النصف الثاني على النصف الأول.
ومثل هذه الأبيات قطعة لأبي محمد عبد الله بن البين، وهي:
غصبوا الصّباح فقسّموه خدودا ... واسترهفوا قضب الأراك قدودا
ورأوا حصى الياقوت دون محلّهم ... فاستبدلوا منه النجوم عقودا
واستودعوا حدق المها أجفانهم ... فسبوا بهنّ ضراغماً وأسودا
لم يكف أن جلبوا الأسنّة والقنا ... حتى استعانوا أعيناً ونهودا
وتظافروا بظفائرٍ أبدوا لنا ... ضوء النهار بليلها معقودا
صاغوا الثغور من الأقاحي بينها ... ماء الحياة لو اغتدى مورودا
وكانت وفاة شعيب المذكور، رحمه الله، بالقاهرة سنة تسع عشرة وسبع مئة.
شعيب بن يوسف بن محمد
القاضي الفاضل شرف الدين أبو مدين، السيوطي المحتد، الأسنائي المولد.
قرأ الفقه على أبيه، وعلى أبي الحسن علي بن محمد الفوي. وقرأ النحو على تقي الدين بن الهمام السمهودي، والفرائض على عطا الله بن علي الأسنائي، وبحث المنهاج في الأصول على ابن غرة. وقرأ بعض عروض على الخطيب عبد الرحيم السمهودي.(1/377)
واستنابه والده عنه في الحكم بأسوان، ثم إنه حضر بعد وفاة أبيه، رحمه الله، إلى القاهرة، فولاه قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة مكان أبيه، واستمر إلى سنة تسع وعشرين وسبع مئة، ثم ولي قضاء إسنا وأدفو، ودرس بالمدرستين بأسوان وبالعزيه بإسنا.
وكان مع فضيلته خيراً في ذاته، منجمعاً عن لداته، حسن الصفات، مشغول الأوقات، قل من تعرض له بأذىً فسلم، أو أراده بسوء إلا وقابله الله بما علم، يعامل الله بسلامة صدره، فيقي الله عرضه كسوف بدره.
ولم يزل على حاله إلى أن اغتالت شعيباً شعوب، وقصفت قناة عمره ذات الكعوب.
توفي رحمه الله تعالى في ..... .
ومولده بإسنا سنة تسع وتسعين وست مئة.
قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: شوش عليه بعض القضاة فلم يقم إلا أربعة أشهر، ثم عزل، ثم أرسل أبو العباس أحمد بن حرمي يذكر عنه قضية فلم يقم إلا شهراً واحداً وشنع عليه بأشنع منها.
وكان في عمل قوص ثلاثة قضاة، فصار الاثنان يقصدان أن يضما جهته إلى جهتيهما، فصرفا عن العمل، وأضيف إليه من كل جهة من جهات المذكورين جهة إلى جهته. ونظم بعضهم في ذلك:
إنّ القضاة ثلاثةٌ بصعيدنا ... قد حقّقوا ما جاء في الأخبار
قاضٍ بإسنا قد ثوى جنّة ... والقاضيان كلاهما في النار
هذا بحسن صفاته وفعاله ... وهما بما اكتسبا من الأوزار
وذكر كمال الدين له من هذا النوع وقائع عدة.
قلت: وكأن هذه الأبيات لكمال الدين جعفر رحمه الله تعالى. وهكذا نظم بعض أهل العصر، أظنه جمال الدين يوسف الصوفي رحمه الله تعالى في قاضي القضاة جلال الدين القزويني لما استناب القاضيين جمال الدين بن جملة، وفخر الدين المصري، رحمهم الله أجمعين وعفى عنهم، فقال:
قاضي القضاة ونائباه ثلاثة ... ............................
الألقاب والأنساب
الشقراوي
نجم الدين موسى بن إبراهيم.
الشقاري عماد الدين يوسف
بن أبي نصير.
القاضي شقير أحمد بن عبد الله.
أمين الدين بن شقير
عبد الله بن عبد الأحد. وتقي الدين عمر بن عبد الله.
ابن الشماع: محمد بن عبد الكريم.
ابن شكر الناسخ: محمد بن شكر. ونجم الدين يوسف بن أحمد.
شهاب بن علي بن عبد الله
الشيخ المبارك أبو علي المحسني.
شيخ أمي مقيم بتربة الفارس أقطاي بظاهر قلعة الجبل.
روى الكثير عن ابن المقير، وابن رواج، وتفرد بأجزاء.
وأخذ عنه شيخنا الذهبي، وقاضي القضاة العلامة تقي الدين السبكي، والوافي، وابن الفخر، وابن سامة، وطائفة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وسبع مئة.
شهدة بنت عمر
ابن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن جرادة العقيلي الحلبي: السيدة الجليلة أم محمد بنت الصاحب كمال الدين أبي القاسم بن العديم.
سمعت بحلب من الكاشغري حضوراً سنة إحدى وعشرين وست مئة، وأجازها ثابت بن مشرف وغيره.
قال شيخنا البرزالي: وروت لنا عن الشيخ الحافظ ضياء الدين عمر بن بدر بن سعيد الموصلي حضوراً، ولم يرو لنا عنه سواها. وتزهدت وتركت اللباس الفاخر من حين توفى أخوها القاضي مجد الدين بن العديم.
توفيت رحمها الله تعالى بحلب في سنة تسع وسبع مئة.
ابن شواق: جلال الدين حسن بن منصور.
ابن شواق: علم الدين داود بن الحسن.
ابن شواق: علي بن منصور.
ابن الشياح: عبد العزيز بن محمد.
شيخو
الأمير سيف الدين الساقي الناصري القازاني، من مماليك السلطان الملك الناصر.
كان أميراً بالقاهرة، ثم إنه خرج إلى دمشق في الأيام المظفريه بعد إمساك الأمير سيف الدين يلبغا، وصل إليها في شعبان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
وكان من أحسن الأشكال وجهاً وقامه، ولبساً وعمامه. يتلو القرآن ويكتبه دائما، ويرى بعمل ما فيه قائما. وخطه روضة أينعت أزهارها، أو سماء تعاقبت فيها شموسها وأقمارها، لو رآه ابن هلال فتنه بدر وجهه، وعلم أنه ليس من طرزه ولا شبهه، ولو عاينه ابن مقلة قال: كذا يكون الإنسان، ومقل ما بيديه في حسن الخط من الإحسان. كتب بخطه المليح ربعة في ربع البغدادي الكبير، بقلم المحقق الذي يتعذر فيه التحرير، ووقفها بالجامع الأموي. وعنده مغالاة في الكتب النفيسة من كل فن.(1/378)
وكان قد فوض إليه الأمير سيف الدين أيتمش النظر في أمر الجامع الأموي، فاسترفع حساب المباشرين، وتعب في أمره، وتولى أمره بنفسه، وفي ضمن هذا ورد المرسوم بطلبه إلى مصر في يوم الخميس ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، فتوجه إلى القاهرة وأقام بها قريباً من عشرة أيام، ونزل به الأمر الذي وجب، وحل به القضاء المكنى أبا العجب.
وتوفي رحمه الله تعالى في إحدى الجماديين من السنة المذكورة، وكان قد أشيع أنه طلب للوزارة.
؟شيخو
الأمير الكبير الأتابك سيف الدين الناصري.
هو غير الأول، ومن صرح سعده وما تأول، وثبت سؤدده وما تحول، وكاد يكاثر أمواج البحار الزاخرة بما ملك وما تخول، وصدق الملك في أمره وما تقول، وكان قارون عصره، وعزيز مصره، وصاحب العقد والحل، والنقض والإبرام فيما حرم وما حل، وكانت الأمور به ماشيه، والخيرات فاشيه، وعيون حساده بأنوار سعوده عاشيه:
تعود على الدنيا عوائد فضله ... فأقبل منها كلّ ما كان أدبرا
بحلمٍ كأنّ الأرض منه توقّرت ... وجودٍ كأن البجر منه تفجّرا
فقوي بذلك حزبه، وأضاءت في الآفاق شهبه، وأنشأ خلقا كثيرا، وجعل في كل مملكة غير واحد أميرا، وأراهم من إحسانه وخلعه جنةً وحريرا، فكبر نوابه في البلاد وكثروا، وجروا طلقا في ميادين سعودهم وما عثروا.
ولم يزل على حاله إلى أن جرعه الدهر بغدره الأمرين، ونكد عيش جماعة كانوا على ملازمته مصرين، فجرح جراحة لم تندمل، وجعلت كل عين عليه بالدموع تنهمل.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الجمعة سادس عشري ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة.
كان قد حظي عند الملك المظفر، وزادت وجاهته حتى شفع في الأمراء إخوة يلبغا وفي الأمير عز الدين طقطاي الدوادار، وأخرجهم من سجن الإسكندرية، ثم إنه استمر في دولة الملك الناصر حسن أحد أمراء المشور، في اخر الأمر كانت القصص تقرأ عليه بحضرة السلطان في أيام الخدم، وصار زمام الدولة بيده، وساسها أحسن سياسة بسكون وعدم شر، وكان يمنع كل حزب من الوثوب على الآخر، وعظم شأنه.
ولم يزل على حاله إلى أن رسم السلطان بإمساك الوزير وأخيه الأمير سيف الدين بيبغاروس في طريق الحجاز، وكان شيخو قد خرج متصيداً إلى ناحية طنان، فلما كان يوم السبت رابع عشري شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة رسم السلطان الملك الناصر حسن بإمساك الأمير سيف الدين منجك الوزير، وحلف الأمراء لنفسه، وكتب تقليد بنيابة طرابلس باسم الأمير سيف الدين شيخو، وجهز إليه مع الأمير سيف الدين طينال الجاشنكير، فتوجه إليه وأخذه من برا، وحضر به إلى دمشق، فوصل إليها ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة إحدى وخمسين، وعلى يده مرسوم السلطان بإقامته في دمشق أميراً على إقطاع الأمير سيف الدين تلك السلامي.
وتجهز تلك إلى القاهرة، فما وصل إلا وقد جاء على عقبه الأمير سيف الدين أرغون التاجي وعلى يده مرسوم بإمساكه وتجهيزه إلى باب السلطان، وتقييد مماليكه واعتقالهم بقلعة دمشق. ولما أمسك قرأ: " والفتنة أشدّ من القتل " ، وقال: أين الأيمان التي حلفناها ؟، وجهز سيفه صحبة الأمير سيف الدين طقتمر الشريفي، ثم جهز الأمير شيخو صحبة الأميرين مقيدا ومعهما الأمير سيف الدين جوبان وثلاثون جندياً يوصلونه إلى غزة، ولما وصلوا إلى قطيا توجهوا به إلى الإسكندرية، ولم يزل بها معتقلاً إلى أن خلع الملك الناصر حسن، وتولى الملك الملك الصالح صالح، فرسم بالإفراج عنه وعن بقية الأمراء الذين اعتقلوا مع الوزير منجك.
ووصل الأمير سيف الدين شيخو إلى القاهرة في رابع شهر رجب الفرد سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، ونزل الأشرفية، واستقر على عادته أولاً، وخرج مع السلطان الملك الصالح إلى الشام في واقعة بيبغاروس وتوجه إلى حلب هو والأمير طاز وأرغون الكاملي خلف بيبغاروس - على ما تقدم في ترجمة أرغون الكاملي - وعاد مع السلطان إلى القاهرة، ولما أقام بها صمم على العمل على إمساك بيبغاروس وأحمد الساقي وبكلمش بعد ما هربوا إلى الروم، فأمسكوا وحزت رؤوسهم، على ما تقدم في تراجمهم.
وصمم أيضاً على إمساك ابن دلغادر، فأمسك، ولم يزل به إلى أن أحضر إلى القاهرة ووسط وعلق على باب زويلة.(1/379)
ثم إنه خرج بنفسه في طلب الأحدب الخارج بالصعيد، وأبعد في طلبه، وعدى مدينة قوص، فهرب أمامه وأمسك من جماعته جماعة كثيرة إلى الغاية، ووسطهم من مكان الظفر بهم إلى القاهرة، وأبلى في أمرهم بلاءً حسناً، وطهر الأرض منهم. وكان ذلك في أواخر سنة أربع وخمسين وسبع مئة وأوائل سنة خمس وخمسين. ولم يزل مظفراً منصوراً فيما يحاوله.
وقلت أنا فيه:
شيخو أمير الجيوش سار ... لأحدبٍ باسه لطيخ
أهمل أمر العقاب لمّا ... ريّش في ضعفه الفريخ
قولوا له أنت في ضلالٍ ... ما فيه خير وفيه ريخ
مالك قدّامه مطارٌ ... أنت صبيٌّ وذاك شيخو
ولم يزل على حاله إلى أن قيل له: إن الأمير سيف الدين جردمر أخا الأمير سيف الدين طاز والأمير ركن الدين عمر بن أحمد بن بكتمر الساقي قد أوقعا بينك وبين السلطان، وقد عزموا على الإيقاع بك، فتيقظ هو لهذا الأمر، وخلع السلطان الملك الصالح في يوم الاثنين ثاني شوال سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وأخرج السلطان الملك الناصر حسن وأجلسه على التخت، وحلف له هو والعساكر، وأخرج الأمير سيف الدين طاز إلى حلب نائبا ومعه إخوته، واستقر هو بالقاهرة على حاله، كل الأمور راجعة إلى أمره، وزادت عظمته بعد ذلك، وزادت أملاكه وإقطاعه ومستأجراته بالشام وبالديار المصرية، وصار نوابه بالشام في كل مدينة أمراء كباراً، وخدموه وبالغوا، إلى أن قيل: إنه كان يدخل ديوانه من إقطاعه وأملاكه ومستأجراته في كل يوم مبلغ مئتي ألف درهم وأكثر، وهذا شيء لم نسمع به في هذه الدولة التركية.
وعمر المدرسة العظيمة، والخانقاه المليحة، والتربة الحسنة في الصليبة، وقرر في المدرسة الأربعة مذاهب، ووقف عليها الوقوف العظيمة.
ولم يزل على حاله إلى أن كان يوم الخميس ثامن شعبان سنة ثمان وخمسين وسبع مئة، فخرج شخص من مماليك السلطان المرتجعية عن الأمير سيف الدين منجك يدعى باي قجا، لما جلس السلطان في دار العدل وأذن للخاصكية بالدخول، فوثب عليه وضربه بالسيف في وجهه وفي يده. وكانت واقعةً صعبة، ومات من الزحمة على ما قيل يوم ذاك جماعة، وكان يوماً عظيماً. وركب عشرة من مقدمي الألوف ملبسين وتوجهوا إلى قبة النصر، وأمسك باي قجا المذكور، وقرر فلم يقر على أحد، وقال: أنا قدمت إليه قصة لينقلني من الخاصكية إلى الإقطاع فما قضى شغلي، فبقي هذا الأمر في نفسي. ثم إنه بعد مدة سمر باي قجا وطيف به في الشوارع.
واستمر الأمير سيف الدين عليلاً من تلك الجراحة، ولم يصعد منها إلى القلعة إلى أن خرج السلطان إلى سرياقوس، ولم ينزل بها، ثم إنه دخل المدينة قبله.
وتوفي في ليلة الجمعة في التاريخ المذكور رحمه الله تعالى.
وما أحقه أن ينشد يوم موته:
ألا رحم الله الأمير فإنّه ... أصمّ به الناعي وإن كان أسمعا
وما كان إلاّ السيف لاقى ضريبة ... فقطّعها ثم انثنى فتقطّعا
الألقاب والنسب
ابن شيخ السلامية: فخر الدين عبد العزيز بن أحمد. والقاضي قطب الدين ناظر الجيش موسى بن أحمد. وولده صلاح الدين يوسف. وجمال الدين إبراهيم بن علي.
بنو الشيرازي: جماعة، منهم: كمال الدين أحمد بن محمد. وعماد الدين المحتسب محمد بن أحمد. وشمس الدين محمد بن محمد بن محمد.
الشيرازي: قطب الدين محمود بن مسعود. ونجم الدين إبراهيم بن عبد الرحمن.
حرف الصاد
الصابوني: أمين الدين عبد المحسن بن أحمد. وعلاء الدين علي بن يعقوب. ومجد الدين عيسى بن محمد. وجمال الدين أحمد بن يعقوب.
صاروجا
بفتح الصاد المهملة، وبعدها ألف وراء وواو وجيم وألف: الأمير صارم الدين المظفري، نسبة إلى مظفر الدين بن جندر.
أخبرني الأمير شرف الدين حسين بن جندر قال: قلت للسلطان يوماً وقد أجري ذكره وهو في الاعتقال: يا خوند، هذا ما هو مظفري نسبة إلى المظفر الجاشنكير، وإنما هذا هو مملوك أخي مظفر الدين، فقال: هكذا ؟! قلت: نعم، فما كان بعد ذلك إلا أيام حتى أفرج عنه.
وكان أولاً بالديار المصرية، ولما أعطى السلطان الأمير سيف الدين تنكز إمرة عشرة قبل توجهه إلى الكرك سلم الإقطاع إليه، وقال: هذا آغا متاعك، على رأي الترك، فأحسن صاروجا إلى تنكز وخدمه وثمر له إقطاعه.(1/380)
ولما حضر السلطان من الكرك قيل له عنه إنه يميل إلى أمير موسى بن الصالح علي، فأمسكه في واقعة أمير موسى، ثم أفرج عنه بعد مدة تقارب العشرين سنة، وجهزه أميراً إلى صفد، فأقام بها مدة تزيد على السنة والنصف. ثم إنه نقل إلى دمشق على طبلخاناه، وكان الأمير سيف الدين يرعى له خدمته الأولى، وكان إذا خاطبه قال له: يا صارم.
ولم يزل مقيماً بدمشق إلى أن أمسك الأمير سيف الدين تنكز، فأمسك الأمير سيف الدين بشتاك لما حضر إلى دمشق الأمير صارم الدين صاروجا، واعتقل في قلعة دمشق في جملة من أمسك في تلك الواقعة، ثم إنه ورد المرسوم على الأمير علاء الدين ألطنبغا بأن يكحله، فدافع الأمير علاء الدين عنه يويمات يسيرة، ثم إنه خاف، فأمر بكحله، فعمي باصره، وكان ذلك عشية نهار، وفي صبيحة ذلك اليوم ورد المرسوم بالعفو عنه، ثم إنه رتب له ما يكفيه، وجهز إلى القدس، فأقام به مدة.
ثم إنه عاد إلى دمشق وأقام بها إلى أخريات سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وتوفي رحمه الله تعالى.
وكان رجلاً خير الطباع، سليم الصدر، كثير المؤانسة والإمتاع، قل أن يكون في خزانته شيء، بل الجميع يفرقه على مماليكه الخواص، والذين هم على خدمته وملازمته غواص. وكان كتابه ومن يتحدث في بابه يشكون من ذلك، ويرون أن أيامهم بهذا مثل الليالي الحوالك.
وكان الأمير سيف الدين قد ولاه الحكم في البندق، ثم عزله منه وتغير عليه قليلاً، ثم عاد إلى الحنو عليه.
صاروجا
الأمير صارم الدين، نقيب النقباء بالديار المصرية.
كان فيه دهاء وخدع، وصد عن الحق وصدع، لا يهاب أميراً ولا وزيرا، ولا يخاف كبيرا ولا صغيرا، له إقدام على السلطان، وعنده تختل ما يهتدي إليه الشيطان. قدمه السلطان وقربه، وأدناه لما عرفه وجر به كثيراً من مراده لما جربه. إلى أن خافه الأمراء، وهابه الكبراء.
ولم يزل على ذلك إلى أن فارق الحياة، فجاءه الموت فجاءه، وقطع من الحياة أصله ورجاءه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
كان نقيباً صغيراً، فلما توفي الأمير عز الدين دقماق نقيب النقباء أمره السلطان وجعله مكانه، وقدمه وعظمه، وصار يدخل إليه على ضوء الشمع، ويتحدث معه في كل ما يريد، حتى خافه الأمراء الكبار وخافه النشو ناظر الخاص، على ما فيه.
ثم إنه توجه مع السلطان في السنة المذكورة، لما وصل في تلك السفرة إلى خانق دندرا وعاد، فلما قارب القاهرة وقف صاروجا على بعض المعادي ليعدي الأطلاب، فوقف على بعض الجسور ومد يده بالعصا ليضرب شخصاً تعدى مكانه، فرفع يده بالعصا، فوقع من أعلى الفرس إلى الأرض ميتا.
الألقاب والنسب
ابن صارو شهاب الدين أحمد بن إبراهيم.
ابن صابر المقدم إبراهيم.
ابن الصباغ الكوفي صالح بن عبد الله.
ابن الصائغ المقرئ محمد بن أحمد.
صالح بن أحمد بن عثمان
صلاح الدين القواس، الشاعر البعلبكي.
كان رجلاً خيرا، مضيء القلب نيرا، يعبر الرؤيا ويتكلم عليها مناسبا، ويجيد فهمها حاسبا. وينظم القريض، ويأتي به مثل زهر الروض الأريض. وكان كثير الاتضاع، غزير مادة الإمتاع. قد صحب الفقراء زمانا، وحفظ من كلامهم لؤلؤاً وجمانا. وسافر البلاد، وعلم منها ومن أهلها الطارف والتلاد.
ولم يزل على حاله إلى أن انفسد مزاج صالح، وتلقاه العيش بعد بشره بوجهه الكالح.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة في سادس عشر شهر ربيع الأول.
ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة.
أنشدني شيخنا الذهبي، قال: أنشد المذكور قصيدته السائرة ذات الأوزان، وهي:
دائي ثوى بفؤادٍ شفّه سقم ... لمحنتي من دواعي الهمّ والكمد
بأضلعي لهبٌ تذكو شرارته ... من الضنى في محلّ الروح من جسدي
يوم النوى ظلّ في قلبي له ألمٌ ... وحرقتي وبلائي فيه بالرّصد
توجّعي من جوىً شبّت حرارته ... مع العنا قد رثى لي فيه ذو الحسد
أصل الهوى ملبسي وجداً به عدمٌ ... لمهجتي من رشا بالحسن منفرد
تتبّعي وجه من تزهو نضارته ... لمّا جنى مورثي وجداً مدى الأمد(1/381)
هدّ القوى حسنٌ كالبدر مبتسم ... لفتننتي موهنٌ عند النوى جلدي
مودّعي قمرٌ تسبي إشارته ... إذا رنا ساطع الأنوار في البلد
مهدي الجوى مولعٌ بالهجر منتقمٌ ... ما حيلتي قد كوى قلبي مع الكبد
لمصرعي معتدٍ تحلو مرارته ... يا قومنا آخذٌ نحو الردى بيدي
قلبي كوى مالكٌ في النفس محتكمٌ ... لقصّتي وهو سولي وهو معتمدي
مروّعي سار لا شطّت زيارته ... لمّا انثنى قاتلي عمداً بلا قود
قلت: يقال إن هذه القصيدة تقرأ على ثلاث مئة وستين وجها.
وقد نظم الناس في هذا النوع قديما وحديثا، وأكثروا، وأحسن هذا النوع ما لم تظهر الكلفة عليه ويكون عذباً منسجما، وأقدم ما يوجد من هذا النوع قول أبي الحسن أحمد بن سعد الكاتب الأصبهاني، وكان بعد العشرين والثلاث مئة، وهو:
وبلدةٍ قطعتها بضامر ... خفيددٍ عيرانة ركوب
وليلة سهرتها لزائر ... ومسعدٍ مواصلٍ حبيب
وقينةٍ وصلتها بظاهرٍ ... مسوّدٍ ترب العلا نجيب
إذا غوت أرشدتها بخاطرٍ ... مسدّدٍ وهاجسٍ مصيب
وقهوة باكرتها لتاجرٍ ... ذي عندٍ في دينه وحوب
سورتها كسرتها بماطرٍ ... مبرّدٍ من جمّة القليب
وحرب خصم هجتها مكاثر ... ذي عدد في قومه مهيب
معرّد إبلٍ سقتها بباترٍ ... مهنّدٍ يغري الطلارسوب
وكم حظوظٍ نلتها من قادر ... ممجّدٍ بصنعة القريب
كافيت إذ شكرتها في سامرٍ ... ومشهد للملك الرقيب
والأبيات المشهورة، وبعض الناس نسبها لأبي العلاء المعري، وما أظن أنا ذلك، وهي:
جودي على المستنظر الصبّ الجوي ... وتعطّفي بوصاله لا تظلمي
ذا المبتلى المتفكّر القلب الدوي ... واستكشفي عن حاله وترحّمي
وصلي ولا تستنكري ذنبي البري ... وترأفي بالواله المستسلم
تبدي القلا بتغيّري الحب الأبي ... المتلفي بخباله المتحكّم
هذه الأبيات على كاملها من الكامل المسدس على أتم أنواعه، إلا أنه لحق الإضمار بعض أجزائها، فإذا حذفت الجزء الآخر من كل بيت، وجعلت القوافي عند قوله: بوصاله كانت الأبيات من شاذ الكامل المخمس. وأنشد العروضيون في مثله:
لمن الصبيّ بجانب الصحراء ... ملقى غير ذي مهد
فإذا حذفت من آخر كل بيت جزءين وجعلت القافية عند قوله وتعطفي كانت الأبيات من مربع الكامل، ومثله:
وإذا افتقرت فلا تكن ... متخشّعاً وتجمّل
فإذا اقتصرت على الشطر الأول من كل بيت، وجعلت القافية عند قوله الجوي كان من الضرب الرابع من الرجز، وصار البيت بيتين من مصرع الكامل المسدس، وإن حذفت من الشطر الأول جزءاً، وجعلت القافية عند قوله: الصب بقي معك بيتان مصرعان من أحذ الكامل المضمر، كقول زهير:
لمن الديار بقنّة الحجر ... أقوين من حجٍ ومن دهر
فإذا نقصت من الشطر الأول جزءين، وجعلت القافية عند قوله: المستنظر بقي بيتان من مربع الكامل المعرى، وإن شئت من الضرب الخامس من الرجز، وإن اقتصرت على الأجزاء الأول من الأبيات بقي مجموعها الأربعة الأجزاء بيتاً واحداً من مربع الكامل، وإن شئت من أقل أنواع الرجز المحدث، مثل قوله:
طيفٌ ألم ... بذي سلم
وهذه الأبيات الأربعة تقرأ على عدة وجوه.
صالح بن ثامر بن حامد
الإمام القاضي الفرضي تاج الدين أبو الفضل الجعبري الشافعي.
سمع من ابن خليل، وعبد الحق المنبجي، والضياء صقر، والنظام البلخي، ومجد الدين بن تيمية، وعبد الله بن الخشوعي، والعماد عبد الحميد بن عبد الهاد.
وخرج له أمين الدين بن الواني مشيخة. وولي قضاء أماكن.
وروى عنه شيخنا علم الدين البرزالي، والواني، والطلبة.(1/382)
كان حاكماً عاقلا، لا يقبل في الحق لائماً ولا عاذلا، خيراً عفيفا، سليم القلب من الشر نظيفا. طريقه طريق السلف، يرى وهو بريء من الكبر والتيه والصلف. وكانت يده في الفرائض طولى، وذهنه فيه قد بلغ مراماً ونال سولا. وكان طويلاً مليح الشكل حسن الأخلاق.
ولم يزل على حاله إلى أن أراد الله فناءه، وعمر به ربع الخير وفناءه.
وتوفي رحمه الله تعالى في صفر سنة ست وسبع مئة.
ومولده سنة بضع وعشرين وست مئة.
وولي قضاء بعلبك، وناب في الحكم بدمشق، وولي الخطابة، واستسقى بالناس. وكان جيد الأحكام. وله قصيدة طويلة في الفرائض.
وتولى نيابة الحكم بعده القاضي نجم الدين أحمد بن عبد المحسن الدمشقي.
ولما طلع ليستسقي بالناس في خامس جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وست مئة قعد الأمير علم الدين الدواداري أمام درج المنبر، ولما جاء القاضي تاج الدين الجعبري ليصعد المنبر، ويخطب قال له الدواداري: ما تستسقي بنا وأنت حاكم ! فما رأى القاضي في مثل ذلك الجمع أن يرجع ويصعد المنبر غيره، فقال: اشهدوا علي أنني قد عزلت نفسي من الحكم، فقال له الدواداري: اصعد الآن.
صالح بن عبد العظيم
ابن يونس بن عبد القوي بن ياسين بن سوار المسند تقي الدين العسقلاني.
سمع من النجيب عبد اللطيف الحراني وغيره، وأجاز لي سنة ثمان وعشرين بالقاهرة.
وتوفي رحمه الله تعالى ...
صالح بن عبد الله
شرف الدين أبو محمد الصصري ابن بواب المدرسة القيمرية بدمشق.
سمع بدمشق ومصر وحلب، وكتب وحصل، وتخرج، وسمع من خلق بعد سنة ثلاثين وسبع مئة، ثم إنه فتر واشتغل بالإسكندرية على ابن النصفي، وتلا بالسبع على أبي حيان.
وكان في القاهرة في خدمة القاضي جمال الدين إبراهيم ابن العلامة شهاب الدين محمود، يدور بأولاده ويسمعهم على الأشياخ، فلما توجه جمال الدين إلى كتاب السر في حلب استمر في خدمة القاضي علاء الدين بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء، فأثرى وحسنت حاله، وجاء إلى دمشق في قالب غير الأول، وأقام قليلاً، وخدمة الناس، وتوجه إلى القاهرة فأقام بها قليلاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع شوال سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
صالح بن عبد الله بن جعفر
ابن علي بن صالح بن الصباغ، الشيخ الإمام العالم الزاهد محيي الدين أبو عبد الله الأسدي الكوفي الحنفي.
كان فقيه بلده وإمامها في أنواع العلوم والتصوف والزهد والأدب، طلب لتدريس المستنصرية مراراً وامتنع. أجاز له الصغاني في سنة خمسين وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري صفر سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وثلاثين وست مئة بالكوفة.
مات هو يوم الجمعة، ومات قبله ليلة الجمعة الإمام السيد الشريف جمال الدين يوسف بن حماد الحسيني المشهدي، وكان شيخ الشيعة ومفتيها. وله قصائد نبوية، وشعره رقيق، وكان معظما بالمدينة النبوية وبالعراق.
صالح بن عبد الوهاب
ابن أحمد بن أبي الفتح بن سحنون الخطيب الفقيه العدل تقي الدين أبو البقاء ابن الشيخ الإمام مجد الدين الحنفي.
كان خطيب الجامع بالنيرب بدمشق.
سمع من ابن عبد الدايم.
وكان ذا هيئة مليحه وخطابة فصيحه، وفيه تودد للأنام، وسماحة يدخل بها في زمرة الكرام. وكان يجلس في حانوت الشهود تحت القلعه، وينفق من رفاقه بحسن خلقه كل سلعه.
ولم يزل إلى أن حل الخطب بالخطيب، وحنى الموت غصنه الرطيب.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشري شهر رجب الفرد سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده يوم الأربعاء عاشر صفر سنة سبع وخمسين وست مئة.
وتولى الخطابة مكانه ولده مجد الدين إبراهيم على عادة والده وجده، ونظم أبوه اسمه عند ولادته فقال:
تيّمنت فيه غبطة باسم صالحٍ ... فسمّيته مستهدياً برشاده
عسى اللّه فينا أن يمنّ بفضله ... فيحييه عبداً صالحاً في عباده
صالح بن محمد بن قلاوون
السلطان الملك الصالح ابن السلطان الملك الناصر من ابنة الأمير سيف الدين تنكز رحمهم الله أجمعين.(1/383)
لما كان في يوم الاثنين ثامن عشري جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة أخذ الأمير سيف الدين طاز والأمير علاء الدين مغلطاي أمير آخور ومن معهما من أرباب الحل والعقد، وخلعوا الملك الناصر حسن، وأجلسوا أخاه الملك الصالح على كرسي الملك بحضور أمير المؤمنين المعتضد أبي الفتح أبي بكر وحضور القضاة، وحلفوا له العساكر، وجهز الأمير سيف الدين بزلار إلى دمشق ليحلف العساكر الشامية.
ولما كان في يوم الجمعة آخر النهار ركب أمير آخور المذكور ومنكلي بغا الفخري إلى قبة النصر، وهو رابع شهر رجب الفرد، فركب الأمير طاز والسلطان الملك الصالح، فكانت النصرة للسلطان الملك الصالح عليهما، وعاد إلى القلعة منصوراً، ورسم بالإفراج عن الأمير شيخو وبيبغاروس والوزير منجك وغيرهم ممن كان معتقلاً. واستقرت الأحوال.
ولما خرج بيبغاروس وأحمد الساقي وبكلمش بالشام، على ما تقدم في ترجمة المذكورين، خرج الملك الصالح إلى الشام وجرد العساكر إلى دمشق، وجهز نائب الشام الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، والأمير شيخو، والأمير طاز إلى حلب خلف ببيغاروس ومن معه، وأقام في دمشق إلى أن عاد شيخو وطاز، وصام شهر رمضان في دمشق، وصلى الجمعة في الجامع الأموي ثاني شوال، وخرج من الجامع وركب وتوجه بالعساكر إلى الديار المصرية.
ولم يزل على حاله إلى أن قيل للأمير سيف الدين شيخو إن السلطان قد اتفق مع الأمير طاز وأخيه جردمر على أنهم يمسكونك، فلما بلغه ذلك خلع الملك الصالح صالحاً، وأجلس السلطان الملك الناصر حسن في ثاني شوال سنة خمس وخمسين وسبع مئة على كرسي الملك، فسبحان من لا يحول ولا يزول.
وحضر الأمير عز الدين أيدمر الشمسي وحلف عساكر الشام للملك الناصر حسن، وأخرج الأمير طاز لنيابة حلب.
ولم يزل الملك الصالح على حاله عند والدته ابنة الأمير سيف الدين تنكز لا يركب ولا ينزل إلى أن ورد الخبر إلى الشام بوفاته رحمه الله تعالى في صفر سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
وكان مولده في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة.
؟صالح بن مختار
ابن صالح بن أبي الفوارس تقي الدين أبو التقي الشيخ الإمام، إمام قبة الشافعي رضي الله عنه الأسنوي.
سمع الكثير، وأجاز لي في سنة ثمان وعشرين آذنا في ذلك لعمر بن علي بن شعيب القرشي.
مولده في شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى ..
اللقب والنسب
الصالح بن المنصور علي بن قلاوون.
والصالح بن الناصر إسماعيل بن محمد.
والصالح أخوه صالح بن محمد.
ابن صغير الطبيب ناصر الدين محمد بن محمد.
صالحة خاتون
بنت الملك مجير الدين يعقوب ابن السلطان الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب.
لم يكن في وقتها أعلى نسباً منها.
توفيت رحمها الله تعالى في عشري شهر رجب الفرد سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولدها سنة خمسين وست مئة تقريبا.
الألقاب والأنساب
ابن صبرة الأمير
عز الدين الحسين بن عمر
ابن الصباغ النحوي الكوفي
محيي الدين عبد الله بن جعفر.
ابن صبح الأمير
علاء الدين علي بن حسن.
الصائغ شمس الدين
محمد بن الحسن.
ابن الصائغ محب الدين
محمد بن عبد الله.
ابن الصائغ أبو اليسر
محمد بن محمد بن محمد. وأخوه: محمد بن محمد بن محمد. وأخوه: ناصر الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمد.
صدقة بن بيدمر
الأمير بدر الدين ابن الأمير سيف الدين، تقدم ذكر والده.
كان هذا الأمير صدقة لو قال: أنا شقيق البدر، كل الناس صدقه، شاباً أجمع الناس على ظرفه وحلاوة تلوين طرفه، أسمر يهزأ قده إذا اهتز بالأسمر، وإذا افتر ثغره الأبيض رأى محبه الموت الأحمر، قد زانه الميل والهيف، وود الحمام لو غنى على قده أو هتف، لطيف الأخلاق، يفوق الناس بجماله على الإطلاق، لم يبقل خده، ولا انكف من سيف ناظره حده.
لم يزل في ميدان شبابه الغض، وعنفوان صباه الذي ما انفرط ولا انفض حتى صار القبر لجوهرة صدقة صدفه، ولقيه الموت في وسط شوطه وصدفه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - عبطة في أوائل شهر رجب سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
وكان أمير عشرة في طرابلس، وهو مضاف إلى دمشق.
اللقب والنسب(1/384)
بنو صصرى، جماعة: قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن محمد. وأمين الدين سالم بن محمد. وشرف الدين محمد بن عبد الرحمن.
الصفدي، جماعة، منهم: زين الدين عمر بن داود. وولده شهاب الدين أحمد. ونور الدين علي بن إسماعيل. وأمين الدين درويش محمد بن علي. والشيخ نجم الدين الصفدي حسن بن محمد. وولده الخطيب كمال الدين محمد بن حسن.
صفنجي
الأمير سيف الدين الركني، مملوك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير.
كانت له مكانة عند أستاذه، ونقل إلى دمشق. وكان ديناً مشكور السيرة.
توفي رحمه الله تعالى في رابع عشري صفر سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بتربته بجبل قاسيون بالقرب من زاوية السيوفي.
صفية
بنت الشيخ الإمام العالم المحدث مجد الدين أحمد بن عبد الله بن المسلم بن حماد بن ميسرة الأزدي، أم محمد، وتدعى ست الشام.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روت لنا عن أصحاب ابن عساكر، ويحيى الثقفي وغيرهما.
وكانت امرأة صالحة مباركة. قصدت الحج فماتت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصلي عليها بالحرم الشريف، ودفنت بالبقيع ثاني عشري ذي القعدة سنة أربع وسبع مئة.
ومولدها سنة سبع وأربعين وست مئة.
صفية بنت الإمام شرف الدين
أحمد بن أحمد المعمرة، أم أحمد المقدسية، زوج الشيخ بهاء الدين بن العز عمر.
في الحجة يوم الأربعاء عشري الحجة سنة أربعين وسبع مئة، توفيت رحمها الله تعالى.
حدثت بصحيح مسلم عن ابن عبد الدايم.
صلغاي
الأمير سيف الدين الناصري، من أمراء الأربعين بدمشق.
كان يسكن جوار المدرسة القيمرية، وهو صهر الأمير زين الدين كتبغا الحاجب.
وكان أميراً ديناً خيراً، يسلم على من يلقاه في الطريق. وكان الأمير سيف الدين تنكز يحبه ولا يفارقه في صيوده.
وتوفي رحمه الله تعالى في عشري صفر سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن في مقبرة القبيبات.
اللقب والنسب
الصفي الهندي محمد بن عبد الرحيم.
ابن صف عذاره نجم الدين محمد بن يحيى.
ابن الصيرفي المحدث شرف الدين
حسن بن علي. ومجد الدين محمد بن محمد.
الصياح إبراهيم بن منير.
الصفدي الشيخ نجم الدين
الخطيب حسن بن محمد. وزين الدين الموقع عمر بن داود. ونور الدين علي بن إسماعيل.
والصفدي: الطبيب.
وشهاب الدين الطبيب: أحمد بن يوسف.
والصفدي: سراج عمر شيخ سعيد السعداء.
صرغتمش
الأمير سيف الدين الناصري رأس نوبة.
كان جميل الصوره، وصفات الحسن فيه محصولة محصوره، محياه كالبدر السافر في الظلام، أو الشمس إذا برزت من خلف الغمام. كتب وقرا، وأضاف أهل العلم وقرى، وعمر المدرسة المعروفة به بالقاهره، وجعل نجوم محاسنها في الإبداع زاهره، وكان يتلو القرآن على المشايخ، ويحب أن يكون في التجويد ذا قدم راسخ، إلا أن أخلاقه كان فيها شراسه، ونفسه فيها على احتمال الأذى نفاسه، فأقدم على عزل القضاه، واتبع السلطان في ذلك رضاه؛ لأنه كان قد انفرد بالتدبير، وثقلت وطأته على الدولة حتى خف عندها ثبير، وسالمته الأيام، وتيقظ سعده والناس عنه نيام، فكان مع جماله وبطشه يغلو عند من يعتبره بأرشه:
كالبدر حسناً وقد يعاوده ... عبوس ليث العرين في عبده
كأنّما مبرم القضاء به ... من رسله والحمام من رصده
ولم يزل عالي الكعب، مالي القلوب بالرعب في حتى أخذ " أخذةً رابيه " ، ولم تكن أنياب النوب عنه نابيه، فأمسكه الناصر حسن في العشرين من شهر رمضان سنة تسع وخمسين وسبع مئة. وكان ذلك آخر العهد به.(1/385)
أول ما ورد إلى القاهرة في جلبة الخواجة المعروف بالصواف في سنة سبع وثلاثين أو ثمان وثلاثين وسبع مئة، فاشتراه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بثمانين ألف درهم، وخلع عليه تشريفاً كاملاً بحياصة ذهب، وكتب له توقيعاً بمسامحة كثيرة في متاجره، فقارب الثمن عنه مئة ألف درهم وهذا ما بلغنا ولا سمعنا به في هذه الدولة التركية، وأكثر ما بلغنا عن السلطان الملك المنصور قلاوون الألفي، وكان أقباش مملوك الإمام الناصر قد اشتراه الإمام الناصر بخمسة آلاف دينار أظنها كانت رائجا، وهو الدينار بستة دراهم، أو دينار الجيش: اثنا عشر درهما، ومع ذلك فلم تكن لصرغتمش صورة عند أستاذه ولا مكانة، ومات وهو في الطباق من جملة آحاد الجمدارية.
وقد كنت يوماً عند القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص وقد أنعم عليه السلطان بعشر طاقات أديم طائفي، فجاء إلى النشو يطلبها، وما احتفل به، وتردد مرات حتى أخذها، ثم إنه بقي بعد ذلك خامل الذكر إلى أيام المظفر حاجي، فخرج مع الأمير فخر الدين أياز السلاح دار لما جاء نائباً إلى حلب وهو معه مسفر حتى يقره في النيابة وعاد، ثم إنه جعل بعد ذلك يتقدم رتبة بعد رتبة إلى أن ورد مع السلطان الملك الصالح صالح إلى دمشق في واقعة بيبغاروس، وتوجه الأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين طاز إلى حلب خلف بيبغاروس، وبقي هو عند السلطان في دمشق يدبر أمره، إلى أن عاد السلطان إلى مصر، ولما وصلوا إليها عمل على الوزير علم الدين بن زنبور، وقام في أمره قياماً عظيماً، وبالغ في أمره إلى أن أمسكه وصادره، وأخذت منه أموال عظيمة، وقوى نفسه في أمره، وأعاره الأميران شيخو وطاز سكتةً في أمره لأنه توجع، وصمم عليهما، ومنها عظم، ولم يزل إلى أن أعيد الملك الناصر حسن إلى الملك وأخرج الأمير سيف الدين طاز إلى حلب، وبقي هو والأمير شيخو.
ولما جرح شيخو تلك الجراحة ومات منها انفرد الأمير صرغتمش بتدبير الملك، وعظم أمره وزاد مكانة، وعزل القضاة بمصر والشام، وغير النواب الكبار، وخضع السلطان له وصبر عليه وأرخى به طول الإمهال إلى أن أمسكه في التاريخ المذكور ومعه حاجب الحجاب الأمير سيف الدين طشتمر القاسمي وملكتمر المحمدي وابن تنكز وطرغاي وأولاد آراي، وجهز إلى ثغر الإسكندرية، وقضى الله أمره فيه دون الجماعة.
وعمر تلك المدرسة، وكان يتعصب لمذهبه كثيراً، وبالغ في عمارتها وزخرفها، وكان يؤثر الفضلاء ويقربهم، ويسأل عن مسائل في اللغة والفقه، ويعظم العجم ويؤثرهم.
وكان قد انفرد بالحديث في أمر الأوقاف، وأمر البريد في مصر والشام. وضاق الناس منه، فما كان يركب البريد بمصر أحد إلا بعلمه، ومنع أحداً من البريدية أن يحمل معه دراهم وذهباً أو قماشاً على ظهر خيل البريد، وأمر بأن يعتبروا في قطيا، وزاد في هذا وأمثاله. وبالغ في أمر الأوقاف، وعمرت الأوقاف في أيامه.
ووجدت بخطه في حائط المدرسة السلطانية بحلب مكتوبا:
أبداً تستردّ ما تهب الدنيا ... فيا ليت جودها كان بخلا
وكتب: صرغتمش الناصري. فلما رأيت ذلك عجبت من هذا الاتفاق، فكأنه كاشف نفسه بما وقع له، واستردت الدنيا ما وهبته، وأخذ السلطان من أمواله وحواصله شيئاً يعجز الوصف عنه.
وكنت أنا قد كتبت قصيدة أمدحه بها، لكني ما جهزتها إليه، وهي:
يا همّ لا تدخل إلى خاطري ... فإنّ لي صرغتمش الناصري
قد زيّن الله الليالي به ... لأنّه كالقمر الزاهر
وكّمل الله المعالي به ... فأصبحت في رونق باهر
والملك قد أضحى به في حمىً ... لأنّه كالأسد الخادر
غلّ يد الظلم وعدوانه ... وكفّ كفّ الخائن الجائر
مسدّد الآراء في فعله ... لأنّه ذو باطن طاهر
ما أبصر الناس ولم يسمعوا ... بمثله في الزمن الغابر
سيوفه إن سلّها في الوغى ... كبارقٍ تحت الدجى طائر
يغمدها في مهجات العدا ... فتكتسي قرب الدم المائر
يمينه للجود معتادة ... قد أخجلت صوب الحيا الماطر
فعن عطاءٍ جوده حدّثنا ... واللطف يرويه لنا عن جابر(1/386)
كواكب السعد له قد غدت ... تخدمه في الفلك الدائر
ومذهب النعمان زاد فضله ... فشاع في البادي وفي الحاضر
وزاده حسناً إلى جماله ... فراق في الباطن والظاهر
أنشا له مدرسةً حسنها ... بين الورى كما لمثل السائر
فسيحة الأرجاء قد زخرفت ... بكلّ لونٍ راق للناظر
رخامها مختلفٌ لونه ... كمثل روض يانعٍ زاهر
وذهنه متّقدٌ بالذكا ... لأنّه ذو خاطرٍ حاضر
وعلمه زاد على غيره ... كلج بحرٍ طافحٍ زاخر
يسبق برق الجوّ إدراكه ... لا كامرئٍ في جهله عاثر
يقول من يسمع ألفاظه ... كم ترك الأوّل للآخر
فوصفه أعجز كلّ الورى ... من ناظم القول ومن ناثر
إنّ الثنا في وصفه قد غدا ... غنيمة الوارد والصادر
تلهو به الركبان في سيرهم ... لأنّه أعجوبة السامر
يلقى الذي يسعى إلى بابه ... بنائلٍ من جوده الغامر
فالله يرعاه ولم ينسه ... عند خطوب الزمن الغادر
لأنّه فوّض ما في نفسه ... منه إلى المقتدر القاهر
حرف الضاد
الضفدع الخياط: محمد بن يوسف.
؟ضياء الدين المعبدي
الشيخ المشهور بالديار المصرية.
كان حسن الشكل، ظريفاً، فيه عفة وديانه، وتنديبه ظريف، وتنديره حلو، وكانت له مكارم ووجاهه.
قال يوماً - وقد رأى الشيخ محمد القصار وهو في سماع يرقص - فقال له: يا قصار، أنجست الخرقة. فقال له القصار سريعاً: من دقك الخارج.
وأضافهم يوماً إنسان؛ وأحضر لهم توتاً، فلما أكلوه، فرغت الضيافة، فقال الشيخ ضياء الدين: يا جماعة، توته، توته، فرغت الحدوته.
قال لي شيخنا العلامة تقي الدين قاضي القضاة السبكي: هو الذي كان السبب في ولاية الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قضاء الديار المصرية، وحلف عليه بالطلاق من زوجته ابنة ... وأخذه، وطلع به إلى السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين؛ وقال له جئتك بسفيان بن عيينة، أو الثوري، كما قال.
وتوفي الشيخ ضياء الدين - رحمه الله تعالى - في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة بالقاهرة بزاويته بالقرب من جامع السلطان.
ضياء الدين بن خطيب بيت الآبار: محتسب القاهرة، وناظر البيمارستان المنصوري، اسمه يوسف بن أبي بكر.
حرف الطاء
طابطا
بالطاء المهملة وبعدها ألف وباء موحدة وطاء ثانية مهملة وألف، الأمير سيف الدين، والد الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي، أحد أمراء المئين مقدمي الألوف بحلب وبدمشق.
كان رجلاً أميا، غراً غتميا، لا يعرف ما الناس فيه، ولا يدري الفرق بين الحليم والسفيه، ذاق فقد مثل ذلك الولد، وعدم الصبر عليه والجلد، فالعجب كل العجب حياته بعده، وكونه ما سكن فيه لحده.
لم يزل على حاله إلى أن غص بالموت، ونص عليه الفوت.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بحلب في صفر سنة خمسين وسبع مئة.
وفد على البلاد لما حظي ولده عند الملك الناصر محمد، هو وولداه، الأمير سيف الدين أسندمر والأمير سيف الدين قراكز.
ولم يزل إلى أن خرج ولده يلبغا إلى حماة نائباً، فخرج هو وأولاده، ولما توجه يلبغا إلى حلب نائباً، توجهوا معه، وصار هو أمير مئة مقدم ألف، وأولاده أمراء. ولما جاء يلبغا نائباً إلى دمشق، حضروا معه، ولما جرى له ما جرى وهرب هربوا معه، ولما أمسك بحماة أمسكوا، وقيد هو وولده يلبغا، وجهزا إلى مصر، فلما وصلا إلى قاقون، تلقاهما الأمير سيف الدين منجك، وأطلعهما إلى قلعة قاقون، وأفرد كل منهم عن الآخر، ثم إنه أركب الأمير سيف الدين على البريد، وجهز إلى مصر، وأما ولده يلبغا فخنق، وحز رأسه، وجهز بعده.
ثم إن طابطا جهز إلى الإسكندرية، ولما تولى الملك الناصر حسن بعده؛ أفرج عنه، وأطلقه، وكان مدة مقامه في الحبس ثلاثة أشهر تقريباً، وأفرج عنه في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. ثم إنه جهز أميراً إلى حلب، فأقام بها إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المتقدم.
طاجار(1/387)
بالطاء المهملة وبعد الألف جيم وألف بعدها راء، الأمير سيف الدين الدوادار المارداني الناصري.
كان شكله مليحا، ووجهه صبيحا، مسترسل شعر الذقن في سواد، خفيف الحركة، لا يلحقه جواد، وكان يغلب عليه اللعب واللهو، والانشراح والزهو، لا يؤثر على الرقص شيئا، ولا يتخذ غير ظله فيئا، على أنه مكنه أستاذه تمكيناً كثيرا، وأحله من الدولة محلاً أثيرا، ركبه في البريد إلى الشام مرات، وتلقاه الناس بالخدم والمبرات، وحصل مالاً جزيلاً في مدة قريبه، واقتنى أشياء من كل صنف عجيبه.
ولم يزل في لهوه ومجونه، وعدم تثبته وسكونه، إلى أن راح فيمن راح، ونفضت من أمره الراح، في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
وكان الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني الذي تقدم ذكره هو في خوشداشه الذي نبه عليه، وأشار بإصبعه إليه، فقربه السلطان، وولاه الدوادارية بعد إنفصال الأمير سيف الدين بغا الدودار، على ما تقدم في ترجمة بغا، بعناية القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص وعناية القاضي شهاب الدين بن فضل الله، لأنه كان صغيراً وكرها سيف الدين بغا، وتوهما أنه يكون طوع ما يختارانه، ويحاولانه منه، فما كان إلا أن تقدم، وذاق طعم الوظيفة، فعاملها بضد ما توهماه فيه، وأملاه منه، وأمره السلطان طبلخاناه، وقال له: والك يا طاجار، ما كان دودار أمير مئة قط، وأنا أعطيك إمرة مئة، فاجعل بالك مني، واقض أشغالك في ضمن أشغالي ولا تقض أشغالي في ضمن أشغالك، وإذا دفع إليك أحد شيئاً من الذهب برطيلاً، احمله إلى كاتبي النشو.
وجهزه السلطان مع الأمير سيف الدين طشتمر الساقي إلى صفد، ليقره في النيابة، فأعطاه، على ما قيل، مئة ألف درهم، وجاء من صفد إلى عند الأمير سيف الدين تنكز، فأعطاه جملة، وكان تنكز في مرج الغسولة، فلما رأى خام الأمير سيف الدين تنكز، قال: والله هذا الخام ما هو للسلطان. فبلغ ذلك تنكز، وكان سبب الوحشة بينهما.
وكان تنكز إذا طلع إلى المرج، يأخذ حريمه معه، وهن تسع جوار موطوءات، كل واحدة ببيتها وخدمها وجواريها، ويضرب عليهن شقة كبيرة يحشر خامهن فيها، ثم إنه بعد ذلك حضر إلى الشام خمس ست مرات، وقد ذكرت في ترجمة تنكز ما اتفق له، عندما جاء إليه قبل إمساكه، وما دار بينهما، ثم إنه جهزه للسلطان صحبة الأمير سيف الدين بشتاك، لما حضر للحوطة على موجود تنكز، وعاد إلى مصر، فلما توفي السلطان الملك الناصر، تمكن من ولده الملك المنصور أبي بكر، فيقال: إنه هو الذي حسن له الفتك بقوصون، ولما شعر قوصون بذلك، خلع المنصور، ورتب أخاه الأشرف كجك، وأمسك طاجار وجماعة، وجهزهم إلى إسكندرية، فقتل طاجار مع بشتاك.
وكان كثير اللعب يخرج من قدام السلطان، وينزل إلى القاهرة، ويعمل سماعاً، ويرقص، إلى أن يجيء وقت الخدمة، فيطلع إلى القلعة.
وكان عليه في الرقص خفة وحركة وروح، وما تقرب إليه عماد الدين بن الرومي بشيء غير الرقص.
وكان إذا ساق في البريد في مهم السلطان ينام طول ليله، ويقوم بكرةً، فيركب خيل البريد الجياد، ويسوق مشواراً واحداً من المركز إلى المركز، فإذا وصل المركز، ونزل، قال لمماليكه: صفقوا. فيصفقون له، ويرقص إلى أن يشدوا له الخيل فيركب، ويفعل ذلك من باب مصر إلى باب دمشق، وكذا إذا عاد.
وكان بشتاك يحط عليه، ويكرهه، ويندب عليه قدام السلطان، ولما أمسك حمل من بيته إلى القلعة ستة صناديق مملوءة ذهباً، وكان السلطان قد زوجه ابنة الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي الوزير، وكانت أولاً زوج الأمير خضر ابن الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب حلب والشام.
وطاجار هو الذي عمر الخان الذي في جينين الذي ليس على درب مصر مثله بشد نجم الدين بن الزيبق، وعمر الحوض السبيل الذي في طريق غزة.
طاز
بعد الطاء المهملة والألف زاي، ابن قطغاج، بضم القاف وسكون الطاء المهملة وبعدها غين معجمة وألف وجيم. الأمير سيف الدين أمير مجلس.
أول ما اشتهر ذكره في أيام الصالح إسماعيل.
وهو شكل تام طويل، نبيه نبيل، شجاع بطل، إذا أعمل فكره خمل معه الكيد من عدوه وبطل، حر النفس والطباع، ما لازم شيمته التي هو عليها من الرضاع، أبي الهمه، قوي العزمه، بريء من التهمه، حمل عسكر مصر بعدده وآلاته، وخيوله التي تربط في اصطبلاته.(1/388)
ولم يزل أميراً إلى أن خلع الكامل شعبان، وأقيم المظفر حاجي، فكان هو أحد الأمراء الستة أرباب الحل والعقد.
ولما خلع المظفر، وأقيم السلطان الملك الناصر حسن زادت وجاهته وحرمته.
وهو الذي أمسك الأمير سيف الدين بيبغاروس في طريق الحجاز.
وهو الذي أمسك الملك المجاهد سيف الإسلام علي بن المؤيد هزبر الدين داود صاحب اليمن، وأحضره إلى مصر.
وهو الذي قام في نوبة الملك الناصر حسن لما خلع وأجلس الملك الصالح صالح على كرسي الملك.
وهو الذي قام على الأمير علاء الدين مغلطاي أمير آخور، والأمير سيف الدين منكلي بغا الفخري، لما ركبا إلى قبة النصر، وخرجا على الملك الصالح بعد أربعة أيام، وهرب الصالح، ودخل إلى والدته، فدخل الأمير طاز إليها، والتزم به لها، واخذه، وركبه، وتوجه به، ورزقهما الله تعالى النصر.
وهو الذي سعى في إخراج الأمراء المعتقلين الذين أمسكوا في نوبة الوزير منجك، وبدا منه كل خير، ونصره الله في كل موطن.
وكان في درب الحجاز يلبس عباءة وزربولاً، ويخفي نفسه، ويدخل في طلب بيبغاروس، ويتجسس على أخباره. ولما خرج بيبغا من الحبس ووصل إلى حلب نائباً، وحدثته نفسه بالخروج على الدولة، وفشا هذا الأمر وزاد، ووصل بيبغاروس إلى دمشق، جهز قطلوبك الفارسي إلى الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، وهو على لد، يقول له: ما لي غريم دون المسلمين والسلطان إلا أنت وطاز، ولما بلغ ذلك إلى الأمير سيف الدين طاز قال: قد رضيت. وسير إليه يقول: أنا أمسكتك في درب الحجاز، وحججت بك، وما مكنت أحداً من أذاك، وأخرجتك من الحبس، وأعطيتك نيابة حلب، وأنت تعرفني جيداً، وأنا واصل إليك، إن أردت بارزتك وحدي، وإن أردت أنا وطلبي وأنت وطلبك، وما حاجة إلى قتال المسلمين وسفك دمائهم. ولما وصل الأمير سيف الدين طاز إلى غزة، ثم اجتمع بالأمير سيف الدين أرغون الكاملي، وتوجها إلى جهة بيبغاروس، وبلغه الخبر، هرب، وتفرق شمل من كان معه من العساكر، وساقا وراءه إلى حلب، وهرب هو إلى الأبلستين. وقلت أنا في ذلك:
قلت إذا بيبغا أراد خروجاً ... وهو يدري غريمه في الحجاز
بيبغا بيبغا طويرٌ ضعيف ... وعليه من طاز قد طاربازي
ثم إن الأمير طاز عاد هو والأمير سيف الدين شيخو إلى دمشق، وأخذ السلطان الملك الصالح، وتوجها به والعساكر المصرية إلى القاهرة، واستقروا بها، وجرى بعد ذلك لبيبغا وأحمد الساقي وبكلمش ما جرى، على ما تقدم في ترجمتهم.
ولم يزل الأمير سيف الدين طاز على حاله إلى ثاني شوال سنة خمس وخمسين وسبع مئة، فخلع الملك الصالح، وأعيد الملك الناصر حسن إلى الملك، ورسم للأمير سيف الدين طاز بالخروج إلى حلب نائباً، فخرج إليها، وأقام بها إلى أن ورد المرسوم عليه على يد الأمير سيف الدين منكلي بغا الناصري بحضوره إلى الباب الشريف على البريد في عشرة سروج، وذلك في أول سنة تسع وخمسين، فأقام بحلب يومين ثلاثة، ثم إنه خاشن الأمراء، وأمسكهم، ورسم عليهم، ثم أفرج عنهم بعد ما حوصر من القلعة، وركب في جماعته وطلبه ملبسين، وحضر إلى القطيفة، وعسكر طرابلس وحماة وحلب وجماعة من دمشق يسيرون خلفه منزلةً بمنزلة، وخرج ملك الأمراء أمير علي بمن بقي من عسكر دمشق لابسي السلاح، وقعد له على خان لاجين، فترددت الرسل بينهما، وآخر الأمر حلف له أمير علي نائب الشام على تمكينه من التوجه في عشرة سروج إلى باب السلطان، وتوجه إلى الكسوة، وهناك قيد، وتوجه به منكلي بغا، وأمسك إخوته، واعتقلوا في قلعة دمشق وفي قلعة صفد، وتوجهوا به إلى الكرك، وتوجهت أمه إليه وأم ولده موسى، وولده، ولم يضيق عليه بالكرك.(1/389)
ثم إنه بعد إمساك صرغتمش في شهر رمضان سنة تسع وخمسين وسبع مئة رسم السلطان بنقله من الكرك إلى إسكندرية، فاعتقل بها، وكحله وهو في حبس الإسكندرية ولم يزل على حاله معتقلاً إلى أن خلع الملك الناصر حسن، وجرى له ما جرى فأفرج عنه في أول دولة الملك المنصور صلاح الدين محمد بن المظفر حاجي بتدبير الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي، يقال: إنه أنعم عليه بمئة ألف درهم وقماش كثير فاختار أن يكون مقيماً بالقدس، فوصل إلى القدس فيما أظن في أوائل شهر رجب الفرد سنة اثنتين وستين وسبع مئة، ثم إنه جهز إلى دمشق، وفي مستهل المحرم سنة ثلاث وستين وسبع مئة حضر له برلغ مكتوب بالذهب مزمك بأن يكون طرخانا على عادة الأمير منجك، يقيم في أي مكان اختاره من الشام.
وكان قد ورد إلى دمشق في أواخر سنة اثنتين وستين، ونزل بالقصر الأبلق، وتوجه ملك الأمراء أمير علي لتلقيه، وكان هو قد عرج عن الطريق، فلم يلقه، وحضر طاز إلى دار السعادة، فلم يلق ملك الأمراء، فعاد إلى القصر، وتوجه ملك الأمراء إليه. وسلم عليه، ثم إنه سكن في الدار التي للأمير سيف الدين تنكز المعروفة بدار الذهب، وأقام بها مدة إلى أن مرض، وانتقل إلى القصر الأبلق، وطول فيه، فتوفي هناك - رحمه الله تعالى - في بكرة الاثنين عشري ذي الحجة سنة ثلاث وستين وسبع مئة، ودفن في مقابر الصوفية.
أبو طالب
ابن حميد القاضي الرئيس الصدر شمس الدين بن حميد.
كان في ديوان الجيش بدمشق، ولما طلب القاضي قطب الدين بن شيخ السلامية إلى مصر، حضر للقاضي شمس الدين توقيع بأن يكون ناظر الجيش عوضاً عن قطب الدين، فباشره في يوم السبت ثاني عشري ربيع الآخر، فباشر ذلك مدة، ثم حضر القاضي معين الدين بن حشيش من الديار المصرية على الوظيفة المذكورة، وباشر القاضي شمس الدين بن حميد عوضاً عن القاضي فخر الدين بن المنذر في جيش دمشق، وتوجه ابن المنذر إلى نظر جيش طرابلس.
طالوت
الصدر الرئيس تاج الدين أبو علي بن الصدر نصير الدين عبد الله بن الشيخ وجيه الدين محمد بن علي بن أبي طالب بن سويد التكريتي.
كان عاقلاً فيه خير ودين قوي، قرئ في داره صحيح البخاري.
وكان سمع من ناصر الدين عمر بن القواس، وحدث عنه بدمشق وبطريق الحجاز.
وتوفي - رحمه الله تعالى - ثاني جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وثمانين وست مئة.
طامغار
بعد الطاء والألف ميم وغين معجمة وألف وراء: الأمير شهاب الدين بن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، أحد أمراء الخمسين بالقاهرة.
وكان يسكن على بركة الفيل بالحبانية، حسن الشكل، صاحب صدقة ومعروف.
توفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشري المحرم سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن في تربتهم بالقاهرة.
وكان له أخ اسمه إبراهيم في بلاد التتار، أعرفه، وقد جاء مرة رسولاً من القان بوسعيد إلى السلطان الملك الناصر قبل وفاة أخيه المذكور بقليل.
طان يرق
بطاء مهملة وبعد الألف نون وياء آخر الحروف وراء بعدها قاف: الأمير سيف الدين نائب حماة.
كان حظه عند المظفر قد توفر، وذنبه وخطأه قد تكفر، لا يرى فعله إلا مليحا، ولا يجد وجه وده إلا صبيحا، أثيل المكانه، أثير الاستكانه، إذا شفع فلا يرد، وإذا منع فلا يصد، لا يكاد يصبر عن رؤيته، ولا يراه يحاول أمراً إلا فداه بمهجته، فلذلك أغدق سحائب إنعامه، وروق له شراب إكرامه.
ولم يزل حاله عنده مستصحبا، إلى أن قال له اللحد: مرحبا.
وجاء الناصر حسن بعده، فأجراه على ما اعتاد، وسلم منه رسن المحبة له واقتاد، وارتاح إلى تعظيمه وارتاد، ولم يزل في أوائل الدولة الناصرية معظم الجانب، مقدم الوجاهة إلى قود المقانب، إلى أن طلع الأمير علاء الدين مغلطاي من الاصطبل، وزحف على هلاك تلك الدولة، وضرب الطبل، فأمسك الوزير منجك وغيره، فأطار بالشر في الآفاق طيره، وكان الأمير سيف الدين طان يرق فيمن أخرجه، ووغر خاطر السلطان عليه، وأحرجه، فخرج إلى حماة نائبا، وباشر أمرها، فأحسن إلى أهلها ذاهباً وآيبا.(1/390)
أول ما ظهر من أمره أنه كان معظماً عند الملك المظفر حاجي، وحضر في أيامه إلى حلب في البريد، وجاء على يده كتاب من المظفر إلى الأمير سيف الدين يلبغا نائب الشام، يقول فيه: إننا قد تراهنا - نحن والخاصكية الأمير سيف الدين الجيبغا وغيره - أنه إن حضر إليك الأمير سيف الدين طان يرق أنك تضربه، وقال المشار إليهم: أنك ما تضربه، فلا تدعنا نغلب معهم، وحضر على يده كتب المذكورين أنه إن ضربه يكن خفية، فما أمكن يلبغا إلا أن ضربه في خفية ضرباً يسيراً خفيفاً.
ولم يزل أميراً، ثم كبر، وزاد عظمةً في أيام الناصر وأيام الوزير منجك، ولما جرى ما جرى من إمساكه، طلب الأمير سيف الدين أسندمر العمري من حماة، وجهز إليها الأمير سيف الدين طان يرق، فوصل إليها في يوم الاثنين سادس عشر ذي الحجة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وأخرج إلى حماة في يومه، ولم يمهل، وأقام بحماة إلى أن رسم للأمير سيف الدين أرغون الكاملي بنيابة دمشق، فرسم للأمير سيف الدين طان يرق بالحضور إلى دمشق، والإقامة بها بطالاً، فوصل إليها في شعبان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأقام بها بطالاً لازماً بيته.
ولما تحرك بيبغاروس، وأراد الحضور إلى دمشق وتوجه أرغون الكاملي بالعساكر إلى لد أخذ الأمير سيف الدين طان يرق معه، وكتب إلى السلطان في معناه، فجاء الأمير عز الدين طقطاي الدوادار إلى لد ومعه تقليد للأمير سيف الدين طان يرق بنيابة حماة، وتشريفه، فلبسه هناك، وأقام إلى أن حضر السلطان، ودخل إلى دمشق مع الأمير سيف الدين طان يرق وأرغون الكاملي، وتوجه معهم إلى حلب. ولما عادوا من حلب، قعد هو في حماة مباشراً نيابتها، وذلك في أواخر شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. ولم يزل بها نائباً إلى أن خلع الملك الصالح صالح، وأعيد الملك الناصر حسن إلى الملك، فخرج الأمير سيف الدين طبجق لإحضار الأمير سيف الدين طان يرق من حماة، والتوجه به إلى مصر، ولما وصل إلى دمشق حضر المرسوم إلى الأمير علاء الدين أمير علي نائب الشام، بأنه يؤخر طان يرق بدمشق، ويدعه مقيماً بها، فأقام بها حسبما رسم به، ثم إنه أعطي إقطاع الأمير سيف الدين قردم وتقدمته، لما توفي بدمشق في التاريخ الذي يذكر في ترجمته.
وتوجه الأمير سيف الدين طان يرق إلى الحجاز في سنة ست وخمسين وسبع مئة، وعاد إلى دمشق، فأقام بها، ثم ورد المرسوم بإمساكه في سنة تسع وخمسين وسبع مئة، واعتقل بقلعة دمشق مدة من الأشهر، ثم ورد المرسوم بالإفراج عنه، وبقي بطالاً بدمشق. ثم ورد المرسوم بتجهيزه في صفد، فتوجه إليها، وأقام بها، إلى أن أمسك في أواخر سنة تسع وخمسين أو أوائل سنة ستين، وجهز إلى الإسكندرية مع جملة من أمسك، فأقام في الاعتقال إلى أن خلع الملك الناصر حسن بن محمد، وجرى له ما جرى، فأفرج عنه، وأنعم عليه بمبلغ مئة ألف درهم - على ما قيل - وبخيل وبقماش، وأعطي إمرة مئة وتقدمة ألف فارس بدمشق - ووصل إلى دمشق في بكرة الجمعة سادس شعبان سنة اثنتين وستين وسبع مئة. وجرى لبيدمر نائب الشام ما جرى من الخروج على يلبغا، فلازمه، وتوجه معه بالعسكر إلى غباغب، وجاءهم الخبر بهروب منجك وكسرته، فعادوا إلى دمشق.
ولما بات ما أصبح له صباح في دمشق، وتوجه هو وتومان تمر نائب طرابلس إلى نحو يلبغا، وحضروا معه إلى دمشق، ورسم له السلطان بنيابة حماة، فتوجه إليها، وهذه النيابة الثالثة وذلك في شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة، ولم يزل على حاله في نيابة حماة إلى أن ورد الأمير ناصر الدين محمد العمري من مصر متوجهاً إليه ليأخذه من نيابة حماة، ويتوجه به إلى طرابلس، ليقيم بها أميراً وذلك في أول المحرم سنة أربع وستين وسبع مئة.
الألقاب والنسب
الطباخي نائب حلب
الأمير سيف الدين بلبان.
ابن الطبال الحنبليعماد الدين إسماعيل بن علي.
ابن الطبيل محمد بن أبي بكر.
الطبري صفي الدين أحمد
بن محمد ونجم الدين محمد بن أحمد.
طرجي
بضم الطاء المهملة والراء وبعدها جيم وياء آخر الحروف: الأمير سيف الدين السلاح دار الناصري.(1/391)
كان في زمن الملك الناصر محمد أمير سلاح، كان في تلك الرفعة الأرغونية مقدما، وفي تلك الزمرة معظما، له الوجاهة في الخاصكية المقربين، والتقدم في الأمراء المدربين، وخوشداشيته كلهم كتف واحده، ويد أناملها في البطش متعاضده.
ولم يزل في جاهه المتمنع، وعزه الذي هو مترفه مترفع، إلى أن طرح طرجي في قبره، وعز على ذي قرابته معالجة صبره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - هو والأمير سيف الدين منكلي بغا السلاح دار في جمعة واحدة في شهر ربيع الأول أو الآخر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
وفي هذه المدة القريبة ورد الخبر بوفاة الأمير سيف الدين أرغون الدوادار نائب حلب، وكان خواشداشهما، فقال السلطان الملك الناصر: لا إله إلا الله ما هذه إلا آجال متقاربة. وتوهم الناس شيئاً في هذا الأمر، والله أعلم لحقيقته.
طرجي
الأمير سيف الدين أخو الأمير سيف الدين أرغون شاه.
لما توفي الأمير عز الدين أيدمر الطوماري والي الولاة بالصفقة القبلية كتب أرغون شاه إلى السلطان، وسأل أن تكون طبلخاناه المذكور لأخيه، فأجيب إلى ذلك، ثم توفي الأمير نور الدين علي بن حسن بن الأفضل، فأعطي طبلخانته، وكان مقيماً في الديار المصرية، فوصل على الإقطاع المذكور إلى دمشق في إحدى الجماديين سنة تسع وأربعين وسبع مئة، وأقام بدمشق. فلما مات الأمير سيف الدين قرابغادوادار أرغون شاه كان حوله يمرضه، وأسند وصيته إليه، فمات بعده بخمسة أيام بصق دماً ومات في شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق، رحمه الله تعالى.
ابن طرخان: شمس الدين محمد بن أبي بكر.
طرغاي
الأمير سيف الدين الجاشنكير الناصري.
أصله من مماليك الطباخي، وهو خوشداش الأمير علاء الدين أيدغمش.
كان ساكناً عاقلا، إلى الموادعة راكنا، ليس في شيء من الشر وإن هان، ولا ممن يدفف على جريح وإن ظهر له البرهان.
ولم يزل معظما في بيت السلطان، وسعادته متواصلة الأسطان، إلى أن أخرجه السلطان لنيابة حلب، وأمسك بقرون حماة وحلب، ودخل حلب في ربيع الأول أو أول ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، ولم يزل فيها مقيماً على حاله إلى أن أمسك الأمير سيف الدين تنكز، وصار في مصر، فعزله السلطان من حلب، وعزل نواب الشام أجمعين، فتوجه إلى مصر، وأقام بها إلى أن توفي الأمير سيف الدين آروم بغا نائب طرابلس، فأخرجه الملك الصالح إسماعيل إلى طرابلس نائباً في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، فأقام بها نائباً، إلى أن داناه الحين فاجتاجه، واستقى روحه من بئر جسده، وامتاحه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سادس شهر رمضان سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
وحضر بعده إلى طرابلس نائباً الأمير شمس الدين آقسنقر.
اللقب والنسب
طرنا نائب صفد، الأمير سيف الدين بلبان.
ابن الطراح قوام الدين الحسن بن محمد.
الطرقجي الأمير علم الدين سنجر.
طرنطاي
الأمير حسام الدين البشمقدار.
حضر إلى الشام على البريد هو والأمير سيف الدين تنكز نائب الشام والأمير سيف الدين أرقطاي في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين عشرة وسبع مئة.
كان بدمشق حاجبا، وحبه على القلوب لإحسانه واجبا، ولم يزل عند تنكز في غاية العظمه، وأمور الدولة به منتظمه، إلى أن وقع بينهما في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة فزالت تلك الألفه، والتحفت بالوحشة تلك التحفه، وعزله من الوظيفة، وأنزله من تلك الرتبة المنيفه، ولم يكن بدمشق في آخر وقت أحسن منه حالا، ولا أوسع أملاكاً وأكثر أموالا، إقطاع في الكثرة مطاع، وحواصل لا يصل إليها الاقتطاف بالاقتطاع، ومماليك كأنهم الكواكب، وجند إذا ركبوا زانوا المواكب.
ولم يزل ينتقل من مصر إلى الشام إلى غزة إلى حمص إلى أن حسم حسامه، وآن اقتسار جسده بالبلى واقتسامه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بكرة الجمعة خامس شعبان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وقد عدى السبعين.
وحدث عن عيسى المطعم وغيره.
وكان بدمشق أميراً بعد ما عزل من الحجوبية، فلما ورد الأمير علاء الدين ألطنبغا إلى دمشق نائباً، كان عنده مكين المنزلة، خاصاً به، ولما توجه بالعسكر إلى حلب وراء طشتمر حمص اخضر، كان هو المشير المدبر الحال العاقد، وتنكر له الفخري كثيراً، فلما هزم ألطنبغا ولاه الفخري نيابة حمص.(1/392)
ثم إن السلطان الملك الصالح في أول ملكه أعطاه نيابة غزة، فتوجه إليها في خامس عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وأقام بها نائباً سنةً أو أزيد بقليل، ثم طلبه إلى الديار المصرية، فتوجه إليها في شعبان سنة أربع وأربعين وسبع مئة، وأقام بها حاجباً.
ولما أن توفي الأمير علم الدين الجادلي أعطي إقطاعه وكان إقطاعاً كبيرا، فأقام بمصر حاجباً كبيراً، وكان منجمعاً، لا يدرى به، ولا يدرأ شيئاً، إلى أن توفي الصالح، فأخرج إلى حمص نائباً على البريد، عوضاً عن الأمير سيف الدين إياز الساقي، ووصل إلى دمشق، وتوجه إلى حمص على البريد، فوصل المرسوم بأن يرد إلى دمشق، ليقيم بها، ويتوجه الأمير سيف الدين قطلقتمر الخليلي الحاجب بدمشق، فرد الأمير حسام الدين من منزلة القسطل، أو يريج العطش، فعاد، وأقام بدمشق أميراً مدة يسيرة.
ثم لما أمسك الأمير سيف الدين الملك النائب بصفد جهز نائب غزة الأمير سيف الدين أراق إلى صفد نائباً، ونقل الأمير سيف الدين أولاجا من نيابة حمص إلى نيابة غزة وجهز الأمير حسام الدين البشمقدار إلى نيابة حمص، فأقام بها مدة يسيرة. ولما برز الأمير سيف الدين يلبغا اليحوي إلى ظاهر دمشق في أيام الكامل، كان الأمير حسام الدين أول من جاء إليه، وهو في محفة، ولما ولي السلطان الملك المظفر استمر به في دمشق.
ولم يزل بها أميراً مقدم ألف، إلى أن توفي في التاريخ المذكور - رحمه الله تعالى - ولم يخلف ولداً غير ولده الأمير علاء الدين علي أحد أمراء الطبلخانات.
طرنطاي
أحد أمراء العشرات بدمشق، الأمير حسام الدين الجوكنداري.
أول ما علمت من أمره أن الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - ولاه مدينة غزة والبر بها في خامس شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ثم إنه جاء من غزة، وولاه جعبر، فأقام بها إلى أن توفي الأمير شهاب الدين أحمد بن برق، فطلبه من جعبر، وولاه مدينة دمشق، وخلع عليه خلعة أمير عشرة.
وكان شكلاً حسناً، طويلاً أبيض مشرباً حمرة، كثير المكارم والخدمة للناس، والتقرب إليهم.
وكنت قد كتبت له توقيعاً بولاية غزة، ونسخته.
رسم بالأمر العالي، لا زال يدخر لكل مهم حساما، ويطلع في أفق الولاية كل بدر إذا غاب شهابها أخذ كماله وأربى عليه تماما، أن يرتب المجلس السامي الأميري الحسامي في كذا، سالكاً في هاتين الولايتين ما يجب لهما من الطرق التي تحمد منها العواقب، ويظهر فيها من لمعات الحسام ما يشخص له طرف الشهاب الثاقب، ويبدي فيها من حسن السياسة ما يتساوى في أمنه أهل المراقد والمراقب، لما علم من علو همته في الأوقاف المهمه، وعهد من نهضته في الأمور التي حراسته في جيدها تميمة وسياسته لحسنها تتمه، فليتول ما فوض إليه ولايةً تكون من الشدة والرفق قواما، وتجلو شمس معدلته من ألق الظلم ظلاما، وتعلي المحق على المبطل، فإن له مقالاً ومقاما، وليجتنب أخذ البريء بصاحب الذنب، وليحذر الميل على الضعيف الذي لا جنب له، ويترك صاحب الجنب وعمارة البلاد، فهو المقدم من هذا المهم، والمقصود بكل لفظ تم له المعنى أو لم يتم، فليتوخ العدل فإنه أنفع للبلاد، من صوب العهاد والسحب الماطرة، وألذ لأهل القرى من ولوج الكرى في الجفون الساهرة، فإنه لا غيث مع العيث، ولا حلم مع الظلم، وليتعمد الإنصاف بين الخصوم فما كل نار ضرم، ولا كل شحم يراه في الورى ورم، وليصل باع من لاله إلى الحق وصول، وليتذكر قوله عليه الصلاة والسلام كلكم راع وكل راع مسؤول، فليكن تقوى الله عز وجل ركنه السديد، وذخره العتيد، وكنزه الذي ينمي على الإنفاق، وكل كنز على طول المدى يبيد، والله يحرس سرحه، ويرعاه، ويوفق لكل خير مسعاه، والاعتماد في ذلك على الخط الكريم أعلاه، والله الموفق بمنه وكرمه. إن شاء الله تعالى.
طشبغا
بفتح الطاء المهملة وسكون الشين المعجمة وباء موحدة وغين معجمة بعدها ألف: الأمير سيف الدين الدوادار الناصري.
كان شكلاً حسناً إلى الغايه، ووجهه في الجمال آيه، يكتب خطاً كأن سطوره جداول قد ترقرقت، أو عقود جواهر قد تنظمت وتنسقت.(1/393)
وباشر الوظيفة في المرة الأولى بصلف زانه لما زاد، وأمانة فاز بها الجنيد لما قاربها أو قد كاد، إلى أن وقع بينه وبين القاضي علاء الدين بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء، فأخرج إلى دمشق بطالا، وجرى غمام دمعه على ما فارق من مصر هطالا، وأقام بها.
ثم أعطي إمره، وقدم في دمشق على زمره، وتزوج ابنة الأمير سيف الدين أيتمش نائب دمشق فتعلى، وجاء إليه إقبال كان عنه تولى، ثم أعيد إلى الدوادارية بمصر، فأقام فيها مدة يسيره، وأعيد إلى دمشق على تلك الوتيره، فأقام بها قليلاً إلى أن محيت آيته، وانتهت من الحياة غايته.
وتوفي - رحمه الله - بدمشق ثاني عيد رمضان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
كان هذا طشبغا أولاً عند آنوك ابن السلطان الملك الناصر جمداراً صغيراً، وكان صورة بديعة الحسن، كان آنوك - على ما قيل - يحمل سر موزة طشبغا هذا على جسده تحت قميصه، ويقول له: يا طشبغا أنا جمدارك، ما أنت جمداري. ثم إنه كان دواداراً صغيراً في أيام الملك الصالح. ولم يزل إلى أن أخرج الأمير سيف الدين جرجي من الدوادارية في أول دولة الملك الناصر حسن في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، فعمل الدوادارية بصلف زائد، وضبط موقعي الدست والقصص التي تدخل إلى دار العدل والتي تخرج، والكتب التي تكتب والتواقيع قبل دخولها في العلامة وبعدها، فإذا تأملها أولاً وآخراً أعطاها من يده لأربابها، ولم يسمع عنه في تلك المدة أنه قبل لأحد شيئاً.
ولم يزل على حاله إلى أن وقع بينه وبين القاضي علاء الدين كاتب السر بسبب شخص من الموقعين يعرف بابن البقاعي، انتصر له طشبغا، وحضر إلى الديوان في حفدته، وسل عليه السيف، وأساء أدبه عليه، وضربه بيده، فتشاكيا إلى الأمراء وإلى النائب، فرسم بإخراج الدوادار إلى دمشق، فوصلها على البريد في يوم عيد الأضحى سنة تسع وأربعين وسبع مئة، فأقام بها مديدة بطالاً، ثم أعطي طبلخاناه بدمشق، وزوجه نائب دمشق الأمير سيف الدين أيتمش بابنته بعدما شاور السلطان والأمراء في ذلك، وأقام بدمشق إلى أن أمسك الوزير منجك، فطلب إلى مصر لأن الأمير علاء الدين مغلطاي كان زوج أخت امرأة طشبغا، فتوجه إليها يوم السبت ثاني عشري القعدة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، ولما دخل على السلطان أقبل عليه إقبالاً كبيرا، وولاه الدوادارية، وقدم المصريون له شيئاً كثيرا.
ولما جرى للأمير سيف الدين أرغون الكاملي ما جرى، وحضر إلى دمشق من حلب، أرسل السلطان طشبغا الدوادار إليه بناءً على أنه في حلب، فوجده في الرملة متوجهاً إلى باب السلطان، فعاد به إلى مصر، وحضر معه إلى نيابة حلب، فوصلا إلى دمشق في يوم الأحد بعد العصر خامس صفر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، فأعطاه نائب حلب شيئاً كثيراً إلى الغاية وفي يوم الاثنين سابع عشري صفر توجه من دمشق عائداً إلى مصر.
ثم إنه لما جرى ما جرى، وخلع الملك الناصر وتولى الملك الصالح صالح أقام على الدوادارية مديدة، ثم إنه حضر إلى دمشق في حادي عشري شعبان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، وأقام بها بطالاً.
ومرض مدة، ثم توفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور.
وكان يكتب كتابة حسنة منسوبة، وكان فيه ميل إلى الفضلاء، كان بدمشق يسير يستعير مني التذكرة التي لي جزءاً بعد جزء يطالعها.
طشتمر
الأمير سيف الدين حمص أخضر الساقي الناصري.
كان شكلاً ضخما، ووجهه ممتلئ لحما، قد طالت مدته في الإمره، وجمع من أزاهر الذهب والفضة كل حضره، فزادت أملاكه، ونمت أجورها، وعظمت خزائنه، وملئت بالأموال حجورها، إلا أنه كان عطاؤه عطاء الملوك، وإذا جاء وهب الجواهر التي في السلوك. وفيه بر للفقراء وإيثار، وجود لهم على طول المدى مدرار، وأمسكه السلطان مرتين، ولم يتمكن من أذاه كرتين. ثم إنه أخرجه إلى صفد نائبا، فترك فوده لذلك الهول شائبا، لأنه كان يستقل نيابة دمشق استكباراً وعلوا، واستهتاراً منه وعتوا، فأقام بها إلى أن رسم له بإمساك تنكز، فحضر إليه، وأمسكه، وأخذ ثأره منه وأدركه.
ثم إنه توجه إلى حلب نائبا، بل جاء هاماً مالكاً صاحبا، فأظهر فيها من العظمة ما أظهر، وأبدى فيها من البذخ ما أرمد عيون أهلها وأسهر.(1/394)
ثم إنه قام في ناصر أحمد الناصر، ورام غاية ما كانت تبعد عليه إلا أن جده قاصر، فتعكس وهرب إلى البلاد الرومية في فصل تفاقم برده وبرده، ولم يقاوم جليده جلده، وقاس شقة الطريق، وقاسى أهوالا، ورأى أوحالاً صعبت عليه أحوالا.
ثم إنه عاد وجعل في مصر نائبا، ولم يدر أنه سهم القدر إذا أرسل كان صائبا، فأمسك بعد مدة قصيره، وذهب به إلى الكرك والعيون لفقده غير بصيره، فقتل هو والفخري صبراً بالسيف، وتحيفهما الحين والحيف.
وكانت قتلته في أول المحرم سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
وإنما كان يسمى حمص أخضر لأنه لما كان في الطباق كان يأكله كثيراً، فسماه خوشداشوه بذلك.
وكان في طبقة أرغون الدوادار وتلك الرفعة، وأراد السلطان مرةً إمساكه وإمساك أخيه قطلوبغا الفخري، وكان يدعوه أخي، وأنا شاك في إمساك الفخري في هذه المرة، فوقف الحرافيش تحت القلعة، واستغاثوا، ودخل خوشداشيته على السلطان، فأفرج عنهما، وعلم أنه لا قبل له بهما.
ثم إنه لما أمسك الأمير سيف الدين أرغون الدوادار وجهزه إلى حلب نائباً أمسكهما، وكان الأمير سيف الدين تنكز تلك الأيام في القاهرة، فشفع فيهما، فأفرج عنهما، وقال له: يا أمير، هذا المجنون - يعني الفخري - خذه معك إلى الشام، وهذا العاقل - يعني طشتمر - دعه عندي. فخرج الفخري إلى الشام، وأقام طشتمر في القاهرة وهو مستوحش الباطن.
ولما توجه السلطان إلى الحجاز سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة كان طشتمر أحد الأمراء الأربعة الذين جعلهم مقيمين في القاهرة.
وكان في أول أمره مليحاً حسن الصورة، وكان القاضي كريم الدين يتولى عمائره بنفسه، وهو الذي عمر له الدار التي عند حدرة البقر والإصطبل، ولها تلك البوابة العظمى والربع التي إلى جانبها التي ليس في القاهرة مثلها.
ولما جهزه إلى صفد في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، استعفى وتضرع، وطلب الإقالة فدخل قوصون إلى المرقد، وخرج مرتين، وفي الثالثة قال له: بس الأرض، ولا تتكلم كلمة واحدة، فباس الأرض، وتوجه إلى بيته، وجهز إليه السلطان خيولاً بسروجها وأنعاماً. وفي يوم الخميس أجلسه بين يديه بعد الخدمة، وقال له: ما أجهزك إلى الشام إلا لتقضي لي فيه شغلاً. وأكب على رأسه، يقبله، وودعه.
قلت: وكان ذلك الشغل المشؤوم إمساك تنكز. وجهز معه طاجار الدوادار، وقال: بعدما توصله إلى صفد؛ توجه إلى دمشق، وقل للأمير نائب الشام: هذا خوشداشك الكبير، وقد صار جارك، فراعه، ولا تعامله معاملة من تقدم.
ومرض في صفد مرضة عظيمة، أشرف فيها على التلف، وعمر له قبراً في مغارة يعقوب بصفد، وفرغ منه، ثم إنه عوفي بعد ذلك.(1/395)
ثم إن السلطان جهز إليه للقبض على تنكز مع بهادر حلاوة الأوشاقي، فتوهم، وظن أن ذلك مكيدة لإمساكه نفسه، وقام من صفد المؤذن قبل انفجار الصبح، وساق منها في جماعته حتى وصل إلى المزة قبل الظهر، وهذا سوق عظيم لا يفعله غيره، لأن دمشق عن صفد مسافة يومين وأكثر، ثم إن الطريق محجر ووعر، لا يتمكن الفارس أن يسوق فيه. ولما أمسكه - على ما تقدم في ترجمة تنكز - وجهزه إلى باب السلطان مقيداً دخل إلى دمشق، ونزل في النجيبية وحدثته نفسه بنيابة الشام، فورد إليه المرسوم بالتوجه إلى باب السلطان، فسار إليه من صفد على البريد، ولما وصل إليه شكره وأمر له بنيابة حلب، فورد إليها، وأقام بها نائباً، إلى أن خلع الملك المنصور أبو بكر، وولي الملك الأشرف كجك، وطلب الناصر أحمد إلى القاهرة، فامتنع، وجهز الفخري لمحاصرة الكرك، فلما بلغ ذلك طشتمر قام وقعد، وقلق لذلك قلقاً زائداً واضطرب اضطراباً عظيماً، وقال: هذا أمر ما أوافق أنا عليه أبداً، لأننا حلفنا لأستاذنا ولأولاده من بعده غير مرة، ولما أمسكنا تنكز، حلفنا له ولهم، والسلطان قد مات، وهذا سيدي أحمد في الكرك ووالده أعطاه إياها، فكيف يليق بنا - معاشر مماليكه - أن نخلع ابنه الواحد من ملكه الذي نص عليه، وقرره، ونهجج أولاده وحريمه إلى قوص، ونحاصر ولده الأكبر في الكرك، أيش يقول العدو عنا ؟! وسير كتبه بهذه المادة، وما جرى مجراها إلى قوصون وإلى الأمراء الكبار وإلى ألطنبغا نائب دمشق، وتواتر منه ذلك، وتحامل عليه ألطنبغا، واتفق مع قوصون أنه يتوجه إلى محاربته بعسكر دمشق وإمساكه أو طرده، فجرى ما ذكرته في ترجمة ألطنبغا. ولما برز طشتمر من حلب، وعلم أن ما في يده من أمراء حلب شيئاً خرج من حلب، وترك خزانته وحواصله بها، وحمل ما يقدر عليه من الذهب الفضة والحوائص وما أشبه ذلك، ولحقه بعض عساكر حلب، وما أقدموا عليه وجعل كلما مر على قلعة من حصون حلب ناوشه عسكرها القتال، وهو يخلص من الجميع، ودخل إلى الروم في أمطار عظيمة وثلوج زائدة، وبقي هناك إلى أن ملك الفخري دمشق، وانهزم ألطبنغا ومن معه إلى مصر، على ما تقدم. وكتب الفخري إلى الناصر أحمد يطلب حضوره إلى دمشق، فشرع يدافعه من وقت إلى وقت، حتى فهم عنه أنه ما يحضر إلا بعد حضور طشتمر، فجهز الفخري البريد إلى أرتنا حاكم الروم، واجتهد في حضور طشتمر كل الاجتهاد. فلما كان في شهر رمضان، وصل طشتمر إلى دمشق، وكان قد خرج من حلب في أوائل جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، وقاسى في الطرقات مشاق ومصاعب، ونجا من الموت مرات. ثم إن الفخري وطشتمر توجهوا بالعساكر الشامية، ولما وصلوا إلى غزة بلغهم أن الناصر أحمد توجه من الكرك إلى القاهرة، فدخلوا إلى مصر بعده، وأقبل عليهما وقررا له الملك تقريراً ما فرح به غيره، لاجتماع العساكر بمصر والشام والقضاة بمصر والشام والخليفة، وكان يوماً عظيماً، قل أن وقع في مصر مثله، ثم إنه قرر طشتمر في نيابة مصر، وبعث الفخري إلى دمشق نائباً. فأقام وطشتمر في النيابة تقدير أربعين يوماً، وعمل النيابة بعظمة زائدة إلى الغاية القصوى، وتحجر على السلطان زائداً، ومنع الناس من الدخول إليه فصبر السلطان عليه، إلى أن خرج الفخري إلى الشام، وتوسط الرمل، وطلب طشتمر، فدخل إليه فأمسكه في القصر عنده، وجهز ألطنبغا المارداني في الحال وغيره لإمساك الفخري، وخرج السلطان من القاهرة، وتوجه إلى الكرك، وأخذ طشتمر معه معتقلاً، وجهز إلى ألطنبغا ليجهز الفخري إليه إلى الكرك، فوصل إليه، وجعل الاثنين في الاعتقال بقلعة الكرك، فأقاما مدة يسيرة، فقيل: إن السلطان بات برا الكرك ليلة، وأنهما كسرا باب محبسهما، وخرجا منه، وجاء الخبر، فأمر بإحضارهما إليه، وضرب عنقهما بالسيف صبراً، رحمهما الله تعالى.
وقلت أنا فيه؛ لما قتل - رحمه الله تعالى - :
طوى الردى طشتمراً بعدما ... بالغ في دفع الأذى واحترس
عهدي به كان شديد القوى ... أشجع من يركب ظهر الفرس
ألم تقولوا حمّصاً أخضرا ... تعجبّوا بالله كيف اندرس(1/396)
وقد بسطت ترجمته في تاريخي الكبير أكثر من هذا، وهو الذي عمر الحمامين المليحين اللذين في الزريبة بالقاهرة، وعمر الربع العظيم الذي في الحريريين داخل القاهرة، وعمر حماماً حسناً بصفد، وقال بهاء الدين الرهاوي لما اجتمع بالفخري في دمشق:
قد أقبل الفخري في موكبٍ ... أعاذه الله من العين
والحمّص الأخضر في فرحة ... لأجلها صار بقلبين
طشتمر
طلليه، الأمير سيف الدين، بالطاء المهملة وبعدها لامان متحركان بالفتح وبعدما ياء آخر الحروف ساكنة وهاء، إنما عرف بهذا لأنه كان إذا تكلم بشيء قال في آخره: طلليه، كأنه يغني بها.
كان من المماليك الناصرية، وعظم أخيراً في أيام المظفر حاجي، وجعل أمير سلاح، وهو من أمراء المشور، والذين يكتبون إليهم نواب الشام قرين مطالعات السلطان.
ولم يزل في هذه الرتبة إلى أن صار ربع الحياة من طلليه طللا، وحمل إلى قبره وقد نشرت الرحمة عليه ظللا.
لأنه توفي - رحمه الله تعالى - في طاعون مصر في شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ططق
الأمير سيف الدين الأحمدي، نسبةً إلى الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي؛ أمير جاندار، وقد تقدم ذكره في مكانه.
كان عارفاً خبيرا، درباً بالأمور لا كمن لا يعرف قبيلاً ولا دبيرا، يكتب فيكبت حساده، ويقرأ فيرقا ويعلو أضداده، استراح به أرغون الكاملي مدة نيابته لما كان له دوداراً، ورأى من العز والعظمة ما لم يره كسرى ولا دارا، وعمل النيابة بالرحبة جيدا، وكان من العربان منصوراً مؤيدا، فابتسم به ذلك الثغر بعد قطوبه، ومعاناة كروبه، ومداناة حروبه. إلى أن جاءه الأمر الذي لا تمنع منه الحصون، وأذاع من حينه السر المصون.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشر ذي القعدة سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
كان المذكور من مماليك الأحمدي، أمير جاندار، ولما تأمر الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، أخذ جماعة من مماليك الأحمدي، فكان هذا ططق المذكور دواداره، وكان عاقلاً خبيراً مهذباً مدرباً، فاستراح به الكامل في نيابة حلب ودمشق، وكان بدمشق أمير عشرة، ولما عادوا إلى حلب ثانياً من دمشق أعطي إمرة طبلخاناه، ولما طلب الكاملي إلى مصر، توجه معه، وأمسك الكاملي على ما تقدم في ترجمته، بقي بطالاً مدة، ثم إنه أعطي طبلخاناه، وجهز إلى دمشق، فحضر إليها، وعرض جنده بدار السعادة في رابع عشر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وسبع مئة، وأقام بدمشق قليلا، ثم طلب إلى دمشق قليلا، ثم طلب إلى مصر، وعاد صحبة السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن حاجي، لما وصل دمشق في واقعة الأمير سيف الدين بيدمر، ولما كان بعد عيد رمضان ألبس الأمير ططق تشريفاً، وأعطي تقدمة ألف، وجهز إلى الرحبة في أوائل شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة. وكان بها نائباً، فسد ثغرها، وشد أمرها، ومنعها من أذى العربان إلى أن توفي، رحمه الله تعالى.
وكان يودني، ويثني علي ثناء كثيراً، ولم أجتمع به، وكتبت إليه، وهو بحلب لما أظفرهم الله تعالى بأحمد الساقي وبكلمش وبيبغاروس وقراجا بن دلغار قصيدةً وهي:
يا حسنه لمّا رمق ... لم يبق في جسمي رمق
أحوى اللّواحظ ناعس ... أنفى جفوني بالأرق
حلو المقبل باردٌ ... ملأ الجوانح بالحرق
حسد الصباح جبينه ... لضيائه حتّى انفلق
فالورد مثل خدوده ... وعليه كالطّلّ العرق
والثغر ليلٌ صبحه ... فرق وفي الخدّ الشّفق
شكري ليالي وصله ... شكر العفاة ندى ططق
فهو الدوادار الّذي اص ... طبح الفضائل واغتبق
أفعاله من حكمةٍ ... تجري على نسق اليسق
وسكوته لسكونه ... وإذا تكلّم قال حق
كم مسلمٍ بيراعه ... بين الأنام قد ارتزق
وإذا برى أقلامه ... أبدى الأزاهر في الورق
تغنى الملوك برأيه ... إن حان أمرٌ أو طرق
أثنى العدوّ عليه حت ... ى قال حاسده صدق
تشكو دمشق فراقه ... فنسيمها بادي القلق(1/397)
يعتّل عند هبوبه ... وله الغدير صفا ورق
وكأنّ نشر رياضها ... منه استعار أو استرق
طوبى لمن بجنابه ... قد لاذ يوماً واعتلق
من يمن طلعته وهي ال ... أعدا وصاروا في وهق
أرأيت أحمد إذ غدا ... في نار بكلمش احترق
وأتى كذلك بيبغا ... فتلاهما عطف النسق
حزّت رؤوسهم وذ ... لك من عجائب ما اتفق
مرقوا من الدين الحني ... ف لذاك راحوا في المرق
وتمام كلّ مسرّةٍ ... إمساك من منهم أبق
هذا قراجا الغادر ال ... باغي على كل الفرق
وافى لمصرع حينه ... وبحبل طغواه اختنق
كم هز رمح رزيّة ... وسهام بغي قد رشق
مات الملوك بغصّةٍ ... منه وعمّهم الشرق
قد كان فرعون الوغى ... لكن تداركه الغرق
بسعادة سيفية ... أعطاكها رب الفلق
لم تسر قط لغارة ... إلا ونصرك قد سبق
وكأن ذكرك في الملا ... مسك تأرج وانفتق
فاسلم ودم في نعمة ... ما هب ريح أو خفق
طغاي
الأمير سيف الدين الكبير.
لم يكن في مماليك أستاذه من حاز جماله، ولا بلغ القمر كماله، ولا ملك الرمح قده، ولا رأى السيف مضاء جفنه ولا حده، وكان شاباً أبيض طويلا، لا تجد العيون لجماله نداً ولا مثيلا، قد فات الوصف، وفاق ثغره عقد الجوهر في الرصف.
وأما مكانته فما ملكها في وقته أحد ولا حازها، ولا داناها فضلاً عن أن يكون جازها. كان السلطان يكون مع خواصه يمزح، ويجول في ميدان خلوته ويمرح، حتى يقال: جاء طغاي، وكل منهم ينزوي، ويميل إلى مكانه المعروف به وينضوي، وكان يضع يده في حياصة أكبر الخواص، والذي لا يجد السلطان عنه مناص، ويخرج به إلى برا، ويرميه إلى الأرض، ويضربه مئتي دبوس، وهلم جرا. هذا والسلطان يرى ويسمع، وماله إلى خلاص ذلك نظر يطمح، ولا أمل يطمع، وحسبك أن تنكز ما كان يطير إلا بجناحه، ولا يتوصل إلى نيل مقاصده إلا بنجاحه.
ولم يزل على حاله إلى أن زالت سعادته، وفرغت من الإقبال عليه مائدته، فاستحال عليه وما استحيا، وأعرض عنه ولم يسمع فيه لوماً ولا لحيا، وأخرجه إلى صفد، وأحوجه بعد العطاء الجزيل والصفد، وبعد قليل أخذه من صفد في صفد، وعمد إليه سيفاً، فأغمده في جفن حبسه، وفقد الناس مثله في أبناء جنسه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في الإسكندرية.
وكان سبب تغيره عليه أمور منها أنه لما مرض السلطان احتاج إلى أن يحلق رأسه، فحلقه، وحلق مماليك السلطان رؤوسهم، ولم يحلق طغاي ذؤابته، وكانت سوداء طويلة، مليحة إلى الغاية، ثم إنه طلب كلاً منهم على انفراد، وقال له فيما بينه وبينه. يكون نظرك على أولادي وحريمي ومماليكي؛ فأنت الذي يتم لك الأمر بعدي. فكل منهم تنصل، وبكى، وقال: هذا أمر لا يكون أبداً، ولا أوفق عليه، والله يجعلنا فداء مولانا السلطان، ولم ير من أحد من هؤلاء المقربين إقبالاً على ما قاله، فلما قال مثل ذلك لطغاي؛ رأى منه إقبالاً، وشم من أنفاسه الميل إلى طلب الملك، فكتم ذلك في باطنه، وأخرجه إلى صفد نائباً في ثالث عشري صفر سنة ثماني عشرة وسبع مئة، فحضر إليها يوم الخميس ثاني شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، وأقام بها تقدير شهرين، وحضر الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي على البريد، وقال له: قد رسم لك بنيابة الكرك، فبات على ذلك، وجهز إليه له، وكان مع مغلطاي كتب السلطان إلى أمراء صفد بإمساكه، فلما كان يوم الخميس، ركب عسكر صفد، ووقفوا في الميدان، فلما علم ذلك قال: يا خوشداش، عليك سمع وطاعة لمولانا السلطان. قال: نعم. وحل سيفه بيده، فأحضر له القيد، وقيد، وتوجه به إلى مصر، وقد رأيته وقد خرج من دار النيابة بصفد، ليركب البغل الذي أحضر له، وكلما هم بالركوب تعلق فيه مماليكه، ومنعوه من الركوب، وبكى هو، وبكوا، وفعلوا ذلك مرات، وهو من طول قامته ظاهر عنهم ببعض صدره، وكان وجهه مبدعاً في الحسن، بارعاً في الجمال.(1/398)
وتوجه به إلى إسكندرية، وذلك في ثامن جمادى الأولى من السنة المذكورة، وكان آخر العهد به، وقبره ظاهر في إسكندرية في تربة يزوره الناس كما يزورون قبور الصالحين. وهو الذي عمر الخان الذي للسبيل بالقصير المعيني - رحمه الله تعالى - .
ولما وصل إلى صفد كان الأمير سيف الدين تنكز يجهز إليه كل يوم والثاني حملي فاكهة وحلوى وكذلك الصاحب شمس الدين غبريال، ما أخلا بذلك مدة مقامه بصفد، وحضر إليه يوماً بريدي وعلى يده كتاب من الأمير سيف الدين تنكز على العادة، فيما كان يكتب به إلى نواب الشام في مهمات الدولة، فلما رأى الكتاب رمى البريدي إلى الأرض، وضربه مئتي عصاً، وقال: والك ! أنا إلى الآن ما برد خدي من ركبة السلطان وفخذه، وصار تنكز يأمر علي، وينهي.
وقال يوماً للأمير علم الدين سنجر الساقي مشد الديوان بصفد: والله، أنا مالي عند السلطان ذنب أخافه، ولا أخشاه، ولكن أخشى ممن يستشيره في أمري، فإنا كنا إذا استشارنا في أمر أحد قد غضب عليه نقول: يا خوند، اقتله. فأنا أخشى من مثل هؤلاء محاضر السوء.
وقلت - وقد داخلتني رقة عظيمة - وقد رأيته ومماليكه يودعونه:
تشفّى مماليك المليك بحادثٍ ... ألمّ بمن عنه الثّناء يطيب
وقالوا: طغى فينا طغاي وما طغى ... ومن أين للوجه المليح ذنوب
طغاي
ابن سوتاي، هو الحاج طغاي بن النوين سوتاي.
لما توفي سوتاي والده، وثب على الحكم على التومان الذي بديار بكر علي باشاخال بوسعيد، فحاربه الحاج طغاي غير مرة، وانكسر الحاج طغاي غير مرةً، ويعود إلى حرب علي باشا، وما يعود عنه إلى أن قال علي باشا: ما رأيت أقوى من وجه هذا، ولكن هذا حمار حرب.
ولم يزل بعد قتل علي باشا في محاربة قوم بعد قوم من التتار، وهو ملاحظ المسلمين متحيز إليهم، إلى أن قتله إبراهيم شاه بن بارنباي أخيه على ما تقدم في ترجمة إبراهيم شاه، وجاء الخبر بقتله من نواب الثغور والأطراف في يوم عاشوراء سنة أربع وأربعين وسبع مئة. وحز إبراهيم شاه رأسه بيده.
كان المذكور حمار حرب، وحمال طعن وضرب، لا يرجع عن القتال ولا ينثني، ولا يطأطئ رأسه لرزية ولا ينحني، إلى أن غدر به ابن أخيه، وشده في أواخيه، ولم تنفعه قرابه، وما جرد سيفه إلا أن يكون عنق عمه قرابه، فأصبح بين قومه مخذلا، وأمسى على التراب مجدلا، على أنه كان ردءاً للمسلمين، وبدءاً وعوداً في الذب عن المؤمنين، فالله يرحمه قتيلا، ولا يحرمه من أجره نقيراً ولا فتيلا.
طغاي
مملوك الأمير سيف الدين تنكز وأمير آخوره.
كان في آخر وقت قد تمكن من أستاذه تمكناً زائدا، وأصبح لولا الخوف من السلطان جعله للجيوش قائدا، وكان لا يخالفه في أمر، ولا يرجع إلى غير رأيه بخلاف زيد ولا عمرو، فكان هو وسيف الدين جنغاي المقدم ذكره - قد استحوذا على عقله، ومن سواهما عنده أخبر بنقله، على أن طغاي وجنغاي لم ير الناس منهما إلا ما أحبوه، ولم يحركا على أحد ساكناً، وإن كان الناس قد أوقدوا جمر الفتن، وشبوه.
وما زال عند مخدومه في مكانة تسفل زحل عن تربها، وتصغر الشمس عن أن تكون في رتبة تربها، إلى أن أمسك، وقيل له: بعيد بين يومك وأمسك، ففصل السيف جسده نصفين، وكان ألفاً واحداً فأصبح ألفين.
وكان ذلك في المحرم سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
يقال عن هذا طغاي: إنه خلص من أستاذه من الإقطاعات في الحلقة الأويراتية والوافدية ألف إقطاع، والسلطان نقم عليه ما نسب إلى أستاذه، وكان أولاً إذا راح في البريد إلى مصر أكرمه، وعظمه، وخلع عليه الخلع السنية، وأنعم عليه الإنعامات الوافرة، ولكن سبحان من لا يتغير، ولا يحول ولا يزول.
وكان قد حصل أموالاً عظيمة، فأخذت ونهبت، ووسطه الأمير سيف الدين بشتاك في سوق الخيل يوم الموكب، ووسط خوشداشة جنغاي على ما تقدم.
طغاي
الخوندة الكبرى زوج السلطان الملك الناصر وأم ابنه آنوك المقدم ذكره، وكانت جاريته أولاً، ثم إنه أعتقها، وتزوجها، وقيل: إنها أخت الأمير سيف الدين أقبغا عبد الواحد المقدم ذكره.
كانت بديعة الحسن، باهرة الجمال الذي لا يطيق وصفه القالة اللسن.(1/399)
رأت من السعادة، ما لا يراه غيرها من زوجات ملوك مصر الذاهبات، وتنعمت في ملاذ ما وصلت إليها يد الناهبات، لم يدم على محبة أحد غيرها، ولا نأى قسه عن ديرها، ولا عقل مجنونه عن ليلاها، ولا وقفت به جمال غرامه إلا في عقبة إيلاها، لأن نياق أشواقه؛ كانت كثيرة الشرود، سريعة الانتقال والانفتال عن مراعي زرود، وكانت فيما بعده معظمةً في كل دوله، مكرمة في كل زمان أحال الله حوله.
ولم تزل كذلك إلى أن كسفت شمسها وهانت في الثرى بعدما عز على كف الثريا لمسها.
وتوفيت - رحمها الله تعالى - في شوال سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
كانت هي الخوندة الكبرى بعد بنت نوكاي، وهي أكبر الزوجات، مقدمة حتى على ابنة الأمير سيف الدين تنكز.
حج بها القاضي كريم الدين الكبير، واحتفل بها، وحمل لها البقل في محائر طين على ظهور الجمال، وأخذ لها البقر الحلابات، تكون معها في الطريق؛ ليؤخذ لبنها ويجبن، ويصنع لها في الغداء والعشاء المقلو السخن، وناهيك بمن وصل إلى هذين النوعين البقل والجبن، وهما أحسن ما يذكر، فما عساه يكون بعد ذلك. ثم إنه حج بها الأمير سيف الدين بشتاك في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، إلا أن هذه الحجة دون تلك.
أخبرني من لفظه القاضي علم الدين بن قطب الدين ناظر الجيوش، وكان أولاً مستوفي ديون تنكز، قال: إذا جهز الأمير - يعني تنكز - إلى مصر تقادم ما يكتب على أحد شيئاً، إلا على السلطان وعلى قوصون وعلى الخوندة طغاي. وبالجملة فقد رأت ما يراه غيرها، وعظمت بعد زوجها في أيام ملوك مصر أولاد زوجها كثيراً إلى الغاية، إلى أن توفيت - رحمها الله تعالى.
طغاي تمر
الأمير سيف الدين الناصري الساقي.
لم يكن بعد طغاي الكبير أحسن منه، ولا من يروي القمران الجمال البارع إلا عنه. وكان طغاي تمر هذا أظرف وأمشق، وما تدري إذا نظر إليك أسلبك فؤادك أم شق، وطغاي كان أبيض مشرباً حمره، وهذا مع حمرته تعلوه سمره، مع لطف الحركة إذا تثنى، وخفة الهيف، فلولا جوارح طرفه غرد الحمام على غصن قده وتغنى.
زوجه السلطان ابنته، وكان في وقته منيته ومحنته، فهو أحد الأربعة الذين يبيتون عند السلطان، وتخرب بهم الدور وتعمر بهم الأوطان. وكان ساكناً عاقلاً مهيبا، وادعاً للشر لبيبا، وما كان يلازم السلطان مثل غيره، ولا يتطرح عليه، ولا يرى الناس أنه ممن يشار إليه.
ولم يزل راقياً في مطالع سعوده، ومعارج صعوده، إلى أن خسف قمره، وذوى من غصنه ثمره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أوائل سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، أو أواخر سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
ولما زوجه السلطان ابنته، لم يعمل له زفة، لكنه رسم للقاضي تاج الدين إسحاق ناظر الخاص أن يعمل ورقه بمكارمة الأمراء لقوصون في عرسه، فعمل بها ورقة وأحضرها إلى السلطان، فقال: كم الجملة. قال: خمسون ألف دينار. فقال: أعط نظيرها لطغاي تمر، فإنا عملنا له زفة قال الأمراء: هؤلاء يصادروننا بحسن عبارة.
وكان أحد الأربعة الخواص المقرين هو وبكتمر الساقي وقوصون وبهادر التمرتاشي.
ولما توفي - رحمه الله تعالى - وجد السلطان عليه وجداً عظيماً، وكتب إلى تنكز يعرفه بموته في جملة كتاب، فذهل هو وكاتب السر عن الجواب عن هذا الفصل، فجاء الجواب من السلطان إلى تنكز بالإنكار عليه، وقال: أكتب إليك أعرفك بموت صهري، وما تجهز الجواب إلي عن ذلك، ولا تعزيني فيه.
طغاي تمر
الأمير سيف الدين النجمي الدوادار.
كان دوادار الصالح إسماعيل والكامل شعبان والمظفر حاجي. كان من أحسن الأشكال وأتمها، وأبدع الوجوه وأجملها في بسطها وضمها، مديد القامه، يكاد إذا خطا تسجع عليه الحمامه، تقدم في الدول؛ وصارت له وجاهة وعظمه، ونضد السعد دره على جيده ونظمه، وخدمه الناس وقدموا، وعكموا الحمول إلى بابه وقدموا.
ولم يزل على حاله إلى أن عبث به أغرلو فيمن عبث، ولم يقدر على دفع حادث حدث منه، ولا على إزالة خبث ولا خبث، فأخرجه إلى الشام، وألحقه بمن أخذه في غزة على غره، وأجراه على عادة سفكه المستمره، وفصل رأسه عن جسده، وشفى منه غلة غيظه وحسده، وذلك في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.(1/400)
وطغاي تمر هذا أول دوادار أخذ إمرة مئة، وتقدمة ألف، وذلك في أول دولة المظفر، وعمر في الأيام الصالحية الخانقاه التي أنشأها برا باب المحروق ظاهر القاهرة، وهي مليحة إلى الغاية، وعمر الدار التي ... .
ولما كانت واقعة الحجازي وآقسنقر وأولئك الأمراء - على ما تقدم في ترجمة آقسنقر - رمى هو سيفه بنفسه، وبقي بلا سيف بعض يوم في أيام المظفر، ثم إن السلطان أعطاه سيفه واستمر به في الدوادارية على عادته، ثم لما كان بعد شهر أخرج هو والأمير نجم الدين محمود بن شروين الوزير والأمير سيف الدين بيدمر البدري على الهجن إلى الشام، ثم إنه لحقهم الأمير سيف الدين منجك، وقضى الله أمره فيهم هناك - رحمهم الله أجمعين - وذلك بتدبير أغرلو المقدم ذكره.
؟طغجي
بالطاء المهملة والغين المعجمة والجيم: الأمير سيف الدين الأشرفي مملوك الملك الأشرف خليل بن قلاوون.
كان خليل مولاه خليل، وحبيب مخدومه الجليل، أمره وقدمه، وخرب به ربع غيره وهدمه وحوله إلى الإمرة وخوله، ومد يده في الخزانة فمد باعه وطوله، وأعطاه النفائس، وكان به يفاخر القمرين ويقايس، ولكنه زالت سعادته العظمى بعد مخدومه الأشرف، وبالغ في التوقي والحذر وأسرف، إلى أن اعتورته الصوارم والذوابل، وهبرته وألقي على المزابل، وذلك في سنة ثمان وتسعين وست مئة في شهر ربيع الآخر.
كان قد استمر على إمرته بعد قتلة الأشرف في الدولة العادلية كتبغا، وفي الدولة المنصورية لاجين، فقام وقعد لحينه، وكان لما قتل كرجي الملك المنصور حسام الدين لاجين توجه طغجي إلى دار نائبه منكوتمر، ودق عليه الباب، فأخرجوه، فعلم أنهم قد قتلوا أستاذه، فاستجار بطغجي فأجاره، وحلف له، ثم إنهم توجهوا به إلى الجب، فاغتنم كرجي غفلة طغجي، وأطلع منكوتمر من الجب وذبحه. واتفقوا على إحضار الملك الناصر محمد من الكرك للملك، وأن يكون طغجي نائباً له، وحلفوا له على ذلك فبقي في النيابة أربعة أيام، فلما قدم الأمير بدر الدين بكتاش من تجريدة حلب ومن معه من الأمراء طلع طغجي وكرجي وغيرهما لملتقى الأمراء برا القاهرة، فلما التقوا تباله عليهم أمير سلاح وقال لطغجي: كان عادة السلطان يطلع إلينا ويتلقانا. فقال: وأين هو السلطان ؟ قد قتلناه. فعرج بفرسه عنه، وقال: إليك عني، أكلما قام للمسلمين سلطان، وثبتم عليه، وقتلتموه ! فاعتوره أعوان السلطان الذي قتل بالسيوف، وقتلوه ظاهر القاهرة، ورمي على مزبلة هناك، وحجه الخلائق للفرجة والعبرة، ثم إنه دفن بتربته، وقد نيف على الثلاثين.
ومن حلاوة شكله وظرفه ومحاسنه أطلع الناس تفاصيل قماش وسموها طغجي. ويقال: إنه كان بخدمة الأشرف في البلاد الحلبية، فمر السلطان بقرية جيلان، فقال له: ما اسم هذه القرية يا طغجي ؟ فقال له: جيلان، فقال له السلطان: اقعد. فنزل عن مركوبه، وقعد على الأرض، فقال له السلطان: قم، واركب. فقال: السلطان رسم بالقعود وما أقوم. فقال: قم، وخذها لك، فباس الأرض ورجله، وركب معه.
طقتمر
المير سيف الدين الصلاحي الناصري.
كان فيه عسف وجور، وله تسلسل على أموال الناس ودور، لا يرحم من بكى، ولا يسمع من شكى، تردد تكراره إلى الشام، وتحدد استكباره، واستكثاره في كل عام، إلى أن أراح الله من عتوه، وأزاح ما يكابده الناس من غلوه في الظلم وعلوه.
ومالت النوائب إليه وهو في حمص نائب، وأصابته المنية بسهم المصائب، وذلك في سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
كان أميراً في أواخر الأيام الناصرية محمد، وحضر في خدمة بشتاك لما قدم للحوطة على موجود تنكز، ثم توجه معه إلى القاهرة ولما خلع المصريون الناصر أحمد، وأقاموا الصالح، ورد هو في البريد للبشارة، وحلف العساكر. وعاد وتقدم في الأيام الصالحية، وحضر إلى الشام لتحصيل الهجن والنياق والشعير برسم الحجاز من دمشق وحلب وحماة، فثقلت وطأته على الناس، وبطل ذلك بموت الصالح - رحمه الله تعالى - ، فعاد إلى القاهرة، وتقدم عند الكامل شعبان، وحضر إلى دمشق، واستخرج منها ثماني مئة ألف درهم لأجل حج الكامل، وضيق على الناس، ومنع أن يصرف لأحد شيئاً من الأموال، وقبضها وتوجه بها إلى القاهرة، واختص بالكامل كثيراً، فلما خلع الكامل وملك المظفر حاجي أخرجه إلى حمص نائباً، فتوجه إليها، وأقام بها قريباً من أربعين يوماً، وتوفي - رحمه الله تعالى.(1/401)
طقتمر
الأمير سيف الدين الأحمدي، يعرف في بيت السلطان بطاسه. لما أمسك الأمير سيف الدين أقبغا عبد الواحد جعل هذا مكانه في الأستاذ دارية أيام المنصور أبي بكر.
كان رجلاً عاقلا، ناقماً على من نبذ عهده ناقلا، ولي نيابات عديدة، واستجلى من كل ناحية وجه خريده، وما فارق بلداً إلا وأهلها بالخير يذكرونه، ويدعون له ويشكرونه، فما كان إلا طاسةً بالخير تقلب، وتفرغ الحسنة على الناس وتغلب.
ولم يزل إلى أن نقر الموت طاسة فطن، وحقق العدم منه ما ظن.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
وكان قد أخرج أولاً إلى نيابة صفد، فأقام بها مدة، وجهز بعدها إلى حماة نائباً بعد الأمير علم الدين الجاولي، وأقام بها إلى أن حضر الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي إلى دمشق نائباً، فتوجه هو إلى حلب نائباً عوضه، فأقام بها نائباً إلى أن برز اليحيوي إلى ظاهر دمشق في أيام الكامل، وجاء إليه جميع نواب الشام، إلا طقتمر طاسه، فإنه لم يحضر إليه، ونقم ذلك عليه، ولما انتصر يلبغا، وولى المظفر حاجي كتب يلبغا فيه، فعزل من نيابة حلب، وتوجه الأمير سيف الدين بيدمر البدري عوضه إلى حلب، وطلب الأحمدي المذكور إلى القاهرة، فأقام بها أميراً بقية السنة، وجاء الخبر بوفاته - رحمه الله تعالى - .
طقتمر
الأمير سيف الدين الشريفي السلاح دار.
كان المذكور بدمشق أميرا، ومحله بها يراه الناس أثيرا، أقام بها مدة وهو في عافية وصحة كافيتها شافية إلى أن ضعف بصره، ودخل تحت الشعاع قمره، وكان يمشي وبين يديه مملوك له يعرفه بالناس لأجل السلام ومشاغلتهم بما عنده من الكلام، إلى أن انكف ناظراه، ومحي قمراه، فانقطع بعد ذلك في بيته تقدير أربع سنين، وجاءه ما نسي به عماه، وود أهله لو دام لهم أنسه في حماه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر شوال سنة خمسين وسبع مئة. وكان يسكن جوا باب الصغير عند بيت الصاحب شمس الدين، وخلف ولدين، يخالهما الناظر في سماء الحسن فرقدين.
طقتمر
الأمير سيف الدين النائب ببهسنا.
كان من مماليك الأمير سيف الدين جركس نائب قلعة الروم، أفردت له نيابة الرها، وأقام فيها مدة، إلى أن ورد الأميران سيف الدين شيخو وسيف الدين طاز في واقعة بيبغاروس إلى حلب، فرسم له بنيابة بهسنا، فأقام بها نائباً إلى أن توفي - رحمه الله تعالى - ببهسنا، وجاء البريد بموته إلى دمشق في شهر المحرم سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
وكان شجاعاً شهماً مقداماً، وفيه تودد وخدمة للناس.
طقصبا
الأمير سيف الدين المؤيدي، مملوك الملك المؤيد صاحب حماة.
وكان المذكور من بعض أمراء حماة، وصهر أستاذه الملك الأفضل، لأن المؤيد زوجه ابنته في حياته، لأنه اشتراه صغيراً، ورباه، وأحسن تربيته، فأنتشأ نشأة سعيده، وسلك طريقة حميده، وكان تام العقل، صادق النقل، جيد السياسه، كامل النفاسه، له وجه يستحي البدر من رؤيته، وتظهر على الغصن كسرة من خطرته، بعيون لو رقرقها لنوء الثريا لاستهل، أو رنا إلى الأسد لاستذل، مديد القامه، ظريف الهامه، من رآه أحبه بديها، وعلم أنه لا يجد له شبيها.
ولم يزل على حاله، إلى أن هصرت يد الموت ثمر غصنه، وأنزلته من منيع حصنه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
وكان محبوباً إلى أستاذه، يعظمه كثيراً، ويرسله في مهماته إلى السلطان، ويجهز تقادمه معه وأقواده، فيقبل السلطان عليه، وينعم عليه، ويؤثره، ويختاره، بخلاف باقي خوشداشيته، ولما مات المؤيد استمر على إمرته في خدمة الأفضل ابن أستاذه، وكان خوشداشه الأمير سيف الدين أرغون الأفضلي بطالاً بدمشق، فأنعم عليه بإقطاع خوشداشه طقصبا، فتوجه من دمشق إلى حماة.
طقزتمر
بضم الطاء المهملة والقاف وسكون الزاي وفتح التاء ثالثة الحروف وضم الميم وبعدها راء: الأمير الكبير المقدم سيف الدين الناصري.(1/402)
كان أمير مئة مقدم ألف، قديم الهجرة في دولة الناصر، معظماً فيها يشار إليه بالأصابع، وتعقد عليه الخناصر، كثير الأدب والحياء، عديم المحاباة والرياء، لم يكن يتحيز في أيام أستاذه إلى فئة قط، ولم يمتد له لسان فضول فيحتاج لقط، لا جرم أنه تقدم من تقدم وتأخر، وسبق من سبق وعثر، وهو في ميدانه إمام البرق المتألق في السحاب المسخر، وحصل الأملاك العتيده، وأصل الأموال العديده، ولم يكن أحد يضاهيه، ولا يظاهره ولا يضافيه. صاهر ملكين، وظواهر بعلو مجده فلكين، ونص السلطان على أنه يكون بعده بمصر نائبا، ثقة منه أن الزمان يجيء إليه من الذنوب تائبا، وناب بمصر وحماة وحلب ودمشق، وأعمل أقلامه في العلائم بالمد والمشق.
ولم يزل على حاله إلى أن لفته الأرض في ملاءتها وصحنته المنية في صلاءتها.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في تاسع جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وسبع مئة.
وكان الأمير سيف الدين طقزتمر أولاً مملوك المؤيد صاحب حماة، وقدمه للسلطان، وأقبل عليه، وقدمه، وأمره، وما كان يعد نفسه في بيت السلطان إلا غريباً، لأنه لم يكن له خوشداش يعتضد به. ولم يزل كبيراً معظماً من طبقة أرغون ومن بعده إلى آخر وقت، تقلبت عليه ثلاث أربع طبقات وراحت، وهو على حاله، لم يتغير عليه السلطان قط.
وهو الذي ينسب إليه حكر طقزتمر ظاهرة القاهرة، وفيه الحمام المليح، وله الربع الذي برا باب زويلة، وكان أولاً يعرف بدار التفاح، وله غير ذلك.
وزوج السلطان ابنته بابنه الملك المنصور أبي بكر، وتزوج ابنته الأخرى الملك الصالح إسماعيل، وجاء في خطبتها إلى دمشق الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي، وأوصى السلطان بأن يكون بعده نائباً، فلما أحضر له المنصور التشريف بالنيابة اقتنع، فقال له: كنت امتنعت لما وصى السلطان بذلك ؟ ولم يزل بمصر نائباً ذينك الشهرين مدة سلطنة أبي بكر إلى أن جرى ما جرى وخلع.
ولما تولى الأشراف كجك طلب طقزتمر نيابة حماة، فأمروا له بها، وكان بها إذ ذاك الملك الأفضل محمد بن المؤيد، فأخرج الأفضل من حماة إلى دمشق، وحضر طقزتمر إلى حماة نائباً، فهو أول من خرج إليها نائباً بعد صاحبها الأفضل. ولقد سمعت الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب دمشق يقول في دار عدله، وقد جاء الخبر بذلك: كل شيء تزرعه تحصده، إلا ابن آدم إذا زرعته حصدك، هذا طقزتمر مملوك بيت أصحاب حماة قدموه لأستاذنا، وزرعوه بذلك فحصدهم، وأخرجهم منها.
ولم يزل بحماة مقيماً إلى أن تحرك طشتمر في حلب، وسأله أن ينضم إليه، فتوجه إليه إلى بعض الطريق، ولما خرج ألطنبغا من دمشق وعلم بذلك أرسل إليه، فعاد من أثناء الطريق إلى حماة ولما بلغ طشتمر ذلك ضعفت نفسه، وهرب إلى بلاد الروم - كما تقدم - ولم يزل طقزتمر بحماة إلى أن بلغه وصول الفخري إلى دمشق، ونزوله على خان لاجين، فأرسل إليه، فحضر إلى عنده، وقوي جأش الفخري بذلك، ولم يزالا على خان لاجين إلى أن حضر ألطنبغا، وهرب، ودخل الفخري وطقزتمر إلى دمشق، وتوجه هو والأمير بهاء الدين أصلم وغيرهما من الأمراء الكبار إلى الناصر أحمد بالكرك، ليحضر إلى دمشق، فامتنع من الحضور، ثم إنه توجه مع العساكر الشامية إلى مصر، وأقام بمصر إلى أن جرى للناصر أحمد ما جرى. وتسلطن الصالح إسماعيل، ورسم للأمير سيف الدين طقزتمر بنيابة حلب، ونقل الأمير علاء الدين أيدغمش منها إلى نيابة دمشق، وتوجه كل منهما لمحل نيابته، والتقيا على القطيفة.(1/403)
ولما توفي الأمير علاء الدين أيدغمش، رسم لطقزتمر بنيابة دمشق، ونقل الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني من نيابة حماة إلى حلب، وحضر الأمير سيف الدين طقزتمر إلى دمشق، ودخلها في نصف شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وأقام بها نائباً إلى أن توفي الملك الصالح إسماعيل وتولى الملك الكامل شعبان، وحضر الأمير سيف الدين بيغرا، وحلف عسكر الشام له، وجاء معه تشريف باستقراره في النيابة على حاله بدمشق. وبعد ثلاثة أيام أو أربعة أيام ورد الأمير بيبغاروس، ليحضر إلى مصر، ويكون بها نائباً عوضاً عن الأمير سيف الدين ألملك، فلم تطب نفسه للخروج من دمشق، ومرض، وحصل له فالج وعدم نطق، وكتب مطالعةً، واستعفى فيها من التوجه إلى مصر، وأن يكون مقيماً بدمشق، وكتب إلى الأمراء، ودخل عليهم، وتشفع إليهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالخليل - عليه السلام - ، ثم إن جماعته خوفوه عقبى ذلك، فوجد من نفسه خفة، وجهز الأمير فخر الدين أياز الحاجب على البريد يسأل الحضور إن كان ولا بد في محفة لعجزه عن ركوب الفرس، ففرح السلطان بذلك، وخلع على فخر الدين أياز، وحضر بعده ثانياً الأمير سيف الدين بيبغاروس لطلبه، فخرج في محفة، وهو متثاقل مرضاً يوم السبت خامس جمادى الأولى، ووجد نشاطاً في الطريق.
ولما وصل إلى بلبيس سير ولده أمير حاج وأستاذ داره قشتمر يسألان له الإعفاء من النيابة، فأجيب إلى ذلك، ودخل إلى بيته، ولم يطلع إلى القلعة، وأقام في القاهرة ثلاثة أيام وقيل خمساً، وتوفي - رحمه الله تعالى - في التاريخ المذكور.
طقطاي
الأمير عز الدين الناصري الجمدار.
كان بدمشق أميراً من جملة أمرائها. وكبيراً في عداد كبرائها، فيه خير وسكون، وميل إلى أهل الفضل وركون، وجهز إلى نيابة الكرك والقيام بما فيها من الدرك، فأقام بها مدة، ثم عاد، ونسي من دمشق ما هو أقدم من عهد عاد، فجبر الله بعوده قلبه، وشد أزره وصلبه.
ولم يزل على حاله إلى أن جمدت عين الجمدار، ولم يعد له في مدى الحياة مدار.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في رابع عشر شعبان سنة ثمان عشرة وسبع مئة.
طقطاي
السلطان صاحب القبجاق، هو طقطاي بن منكوتمر بن سابرخان بن الطاغية الأكبر جنكزخان المغلي، ومنهم من يقول فيه: توقتقاي بتائين ثالثي الحروف بدل الطائين وزيادة قاف بعد التاء الثانية.
وكان مع كفره فيه عدل، وله جود على أهل الخير وبذل، وميل إلى من تدين من أهل الملل، ومن تظاهر بصلاح من أرباب النحل، إلا أنه كان يرجح الإسلام، ويحب الأئمة الأعلام، وكان له ميل عظيم إلى السحره، وله التفات إليهم، يعطر من الجو سحره، وكان يعظم الأطباء، ويقدم منهم الألباء. وممالكه واسعه، وحدوده شاسعه، وجيشه يربي على الرمل، ويفوق من النبات عد الخمل. جهز مرةً إلى بعض الجهات من كل عشرة واحداً، فبلغ ذلك مئتي ألف فارس، ممن يعاني الحروف ويمارس. وكان له ولد كان محياه البدر في التمام، أو الشمس إذا انجاب عنها الغمام، فأسلم، وكان يحب سماع القرآن، ولا يزال هو ومن يتلوه في قران، ومات - رحمه الله تعالى - ، قبل أبيه فذاق كؤوس العلقم لفراقه، ولم تطفئ دموعه غلة احتراقه.
ولم يزل طقطاي على حاله إلى أن أهلك الله نمروذه، وكف كف الموت مديته المشحوذه.
وكان هلاكه في سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. وكانت مدة ملكه ثلاثاً وعشرين سنة، لأنه جلس على التخت وعمره سبع سنين.
ولما مات طقطاي تولى أخوه أزبك - وقد تقدم ذكره - ، وقيل إنه جرد من عسكره، من كل عشرة واحداً، فبلغ ذلك مئتي ألف وخمسين ألف فارس وكان ابنه ذلك المليح قد نوى أنه إن ملك لا يترك في مملكته غير الإسلام، فمات، وترك ابنه صغيراً، ولما مات طقطاي؛ أوصى لابن ابنه المذكور، فلم يتم له الأمر، وولي بعده ابن أخيه أزبك المذكور، وجلس على التخت في أواخر رمضان سنة اثنتي عشرة وسبع مئة. وهذه المملكة هي المعروفة ببلاد بركة ابن عم هولاكو، قال الفاضل علاء الدين النعمان: إن طول هذه المملكة ثمانية أشهر، وعرضها ستة أشهر. والله أعلم.
؟طقطاي
الأمير عز الدين الدوادار.(1/404)
كان من مماليك السلطان الملك الناصر، ولكنه أعطاه للأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي في جملة ما أعطاه، وقال له: هذا يكون دوادارك، فحضر معه إلى حماة، وتوجه معه إلى حلب، وحضر معه إلى دمشق، ولم يفارقه إلى أن جرى ليلبغا ما جرى.
هو لطيف النفس، ثقيل الرأس، سهل القياد، صوفي الاعتقاد، حسن الأخلاق، منفعل للخير على الإطلاق، يرعى أصحابه، ويذكر أحبابه، ليس فيه شر ألبته، ولو رأى منه جزءاً حسم أمره وبته، كأنما ربي في الخوانق، ونشأ فيها، فهو شيخ العقل على أنه غرانق، كثير الرياضة والتأني، بريء من التكلف والتعني.
ولم يزل على حاله إلى أن قط عمره، وحط إلى الحضيض بدره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر المحرم سنة ستين وسبع مئة.
كان يلبغا يقول: هذا قرابتي وخوشداشي، وكان قد سلم قياده إليه، فهو النائب، وحديث الناس معه في سائر الأمور، ولم يكن يقرر شيئاً فيخالفه. أعطاه الملك الكامل شعبان. وهو بدمشق - إمرة عشرة، فكتبت إليه:
يا سيّداً ربّ العلى ... لكلّ خير يسّره
ومن حباه طلعةً ... بالبشر أمست مقمره
ومن له محاسنٌ ... ترضي الكرام البرره
تهنّ أمر إمرةٍ ... أنباؤها مشتهره
بها الوجوه قد غدت ... ضاحكةً مستبشره
تنالها كاملةً ... مضروبةً في عشره
وكان هذا القول مني تكهناً في حقه، لأنه صار فيما بعد أمير مئة مقدم ألف.
ولما خلع الكامل وجلس المظفر على كرسي الملك توجه إليه من دمشق على البريد، فرعى له حق خدمته، وأعطاه طبلخاناه، ولم يزل حظياً عند أستاذه إلى أن توجه معه في وقت خروجه على المظفر، وصارا في حماة، فأمسكه الأمير سيف الدين قطليجا الحموي نائب حماة، وجهز صحبة إخوة يلبغا إلى مصر، فجهز إلى الإسكندرية. ثم إن الأمير سيف الدين شيخو والأمير سيف الدين صرغتمش شفعا فيه، فأفرج عنه، وذلك في سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، فأقام في مصر، وأعطي إمرة عشرة، وتزوج بالقاهرة بزوجة الأمير سيف الدين طغاي تمر الدوادار وهي أخت الأمير سيف الدين طاز، ثم أعطي طبلخاناه، وصار خصيصاً بالأمير سيف الدين شيخو.
ولما توجه الأمير سيف الدين طاز إلى الحجاز كان هو معه، وأمسكا بيبغاروس، وتوجها به إلى مكة، ولما عاد الركب، سبق هو وجاء إلى السلطان الملك الناصر حسن بخبره وبخبر إمساك المجاهد صاحب اليمن، فخلع عليه، ووصله. ثم إنه حضر مع الأمير سيف الدين بيغاروس ليقره في نيابة حلب، فأقره، وعاد، وقد شم من أنفاسه الخروج على السلطان الملك الصالح، وذلك في شعبان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، ولما عاد من حلب في هذه المرة؛ ولاه السلطان الملك الصالح الدوادارية عوضاً عن طشبغا، فكتبت أنا إليه:
هذا الدّوادار الّذي أقلامه ... تذر المهارق مثل روضٍ نافحٍ
تجري بأرزاق الورى فمدادها ... وبلٌ، تحدّر من غمامٍ سافحٍ
أستغفر الله العظيم، غلطت، بل ... نهرٌ جرى من لجّ بحرٍ طافحٍ
وإذا تكون كريهة فيمينه ... تسطو بحدّ أسنّةٍ وصفائحٍ
يا فخر دهرٍ قد حواه، فإنّه ... عزّ لمولانا المليك الصّالحٍ
ولما أراد بيبغا الخروج، وحلف الأمير سيف الدين العسكر للسلطان الملك الصالح حضر الأمير عز الدين إلى دمشق في شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة، وأقام قليلاً، وتوجه صحبة أرغون الكاملي إلى لد، وفارق أرغون، وتوجه إلى مصر، ثم إنه عاد في شعبان ومعه تقاليد للأمير بدر الدين بن خطير بنيابة طرابلس، والأمير سيف الدين طان يرق بنيابة حماة، وبنيابة صفد للأمير شهاب الدين أحمد بن صبح، ثم إنه توجه عائداً إلى مصر، وتوجه مع السلطان الملك الصالح إلى دمشق، ثم توجه مع الأمراء شيخو وجطاز وأرغون إلى حلب خلف بيبغا، ولما عادوا عاد معهم، وتوجه صحبة السلطان إلى مصر.(1/405)
ثم إنه حضر في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة متوجها إلى حلب، ليجهز العسكر خلف بيبغاروس وأحمد وبكلمش، فاتفق من سعده أنه لما وصل إلى حلب جاء أحمد وبكمش ممسوكين في ثاني عشري الحجة، فحز رأسيهما، وجهزا إلى مصر، وأقام هو بحلب إلى أن وصل بيبغاروس في ثالث عشري المحرم سنة أربع وخمسين، فحز رأسه، وجهز صحبته إلى مصر.
ثم إنه عاد إلى حلب، وتوجه بالعساكر صحبة أرغون الكاملي إلى البلاد الرومية، ووصلوا إلى قيصرية، ولم يزالوا إلى أن أمسك ابن دلغار، وصار عند ناصر الدين محمد باك بن أرتنا، فعادت العساكر بعدما قاسوا شدائد ومشاق ومتاعب يعجز الواصف عنها، وعاد الأمير عز الدين بالخبر، فدخل إلى دمشق في خامس شهر رجب الفرد سنة أربع وخمسين وسبع مئة، ولما وصل إلى الأبواب السلطانية أعطي إمرة مئة وتقدمة ألف كانت بيد الأمير سيف الدين بلبان السناني، وقيل: إنه زادوه على ذلك بلدين آخرين من قرى مصر.
ولم يزل في عظمة ورفعة، إلى أن جرح الأمير سيف الدين شيخو في يوم الخميس ثامن شعبان سنة ثمان وخمسين وسبع مئة، وكان هو في جملة من ركب إلى قبة النصر في السلاح، وتظاهر بالتعصب الزائد، وتحيز إلى تلك الفئة، فلما توفي الأمير سيف الدين شيخو في سادس عشري ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة أمسك هو والأمير صلاح الدين خليل بن قوصون، والأمير سيف الدين قطلوبغا الذهبي، والأمير سيف الدين قجا أمير شكار، وجهزوا إلى الإسكندرية، ليعتقلوا بها، ورسم للأمير سيف الدين علم دار أن يكون عوضه في الدوادارية.
من العجيب ما حكاه لي ناصر الدين محمد العلائي البريدي المصري؛ قال: كنا وقوفاً بين يدي الأمير عز الدين طقطاي الدوادار قبل إمساكه بسبعة ثمانية أيام، وقد سير إليه علم دار رسالةً يشفع عنده في بعض البريدية أن يجهزه في شغل عينه، فتأذى الأمير سيف الدين طقطاي، وقال: الأمير علم دار يجهزه من عنده، فما كان بعد ذلك إلا قدر يسير، وولي وظيفته، وجهز ذلك البريدي في الشغل الذي كان عينه، وأقام الأمير عز الدين والجماعة في ثغر الإسكندرية مدة يسيرة، ثم إنه أفرج عنهم، وحضر الأمير عز الدين إلى دمشق، ومعه علاء الدين ألطنبغا الأبو بكري مقدم البريدية متوجهاً به إلى طرابلس ليكون بها مقيماً في جملة بحرية القلعة بطرابلس، وأن يعين له إقطاع يعمل خمسة ستة آلاف درهم، وكان وصوله إلى دمشق في يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وسبع مئة، وتردد إليه أهل دمشق من أرباب السيوف والأقلام وغيرهم، ونزل في دار الأمير سيف الدين جوبان بالعقيبة، وتوجه إلى طرابلس، وأقام بها مدة تزيد على الشهرين، ثم رسم له بالحضور إلى دمشق، فحضر إليها، وأقام بها كذلك ثم رسم بعوده إلى طرابلس، فتوجه إليها وأقام بها كذلك؛ إلى أن ورد الخبر بوفاته بطرابلس المحروسة في أواخر شهر الله المحرم سنة ستين وسبع مئة - رحمه الله تعالى - فسبحان من لا يحول ولا يزول.
طلحة
الشيخ الإمام المقرئ النحوي الأصولي علم الدين الشافعي. كان في أصله مملوكاً، يدعى سنجر، فغير اسمه بطلحة.
قرأ بالسبع على الشيخ موفق الدين بن أبي العلاء ببعلبك، وتوجه بعدما تميز وتصدر، وقرأ الناس عليه علومه بعد العشرين وسبع مئة إلى الشيخ برهان الدين الجعبري، وأخذ عنه وأجازه.
كان يعرف الحاجبية معرفة من أتقن العربية، وأصبح كما تمنى الشاعر عالماً بما في ضمير الحاجبية، ويعرف مختصر ابن الحاجب ويشرحه، ويحل لفظه ويسرحه، وكان يقرئ القراءات السبع، ويتفيهق في التلفظ بها كما يزأر السبع، ونغمه في التلاوة طيب لذيذ، وصوته يكاد يحيا به الوقيذ، وكان يقرأ بالجوق في الختم فيطرب الناس بلحنه، وإذا قرأ في الجامع تحقق الناس أن حلاوة السكر في صحنه.
ولم يزل على حاله إلى أن عدم أهل حلب فوائده وفقدوها، وقال الناس: رحم الله أعظماً دفنوها.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وعشرين وسبع مئة بحلب وقد نيف على الستين.
قرأت عليه بحلب مدة مقامي قطعة جيدة من كتاب البيوع في التعجيز لأنه كان أخذه عن الجعبري. وكنت أسمع دروسه في الجاجبية وفي مختصر ابن الحاجب، وكان يراعي الإعراب في كلامه حتى في وقت بحثه وجداله، وكان شيخاً طوالاً، أزرق العين بلحية سوداء.
طلحة بن الخضر(1/406)
ابن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن حسن بن علي، الصدر شمس الدين القرشي الدمشقي.
قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن ابن علان، وسمع من الصدر البكري وجماعة. وكان من أعيان الشهود ومن أرباب البيوت والثروة بدمشق.
توفي - رحمه الله تعالى - في شهر رجب سنة تسع وتسعين وست مئة.
طلحة بن محمد
ابن علي بن وهب، الشيخ ولي الدين بن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد.
توفي بالقاهرة سنة ست وتسعين وست مئة، وكان موته وموت ابن الصاحب فخر الدين في يوم واحد.
طوغان
الأمير سيف الدين طوغان.
ولي الشد بدمشق مرات، وتولى نيابة البيرة، فأمسكه أهل قلعتها وقيدوه، لما أمسك أسندمر وجهزوه، فأمضى ذلك وهو في ذي الحجة سنة عشر وسبع مئة، ولكن أنكر السلطان عليهم فيما بعد، وتوجهوا به إلى مصر، ثم إنه أفرج عنه، وأعيد إلى دمشق، فشد أهل الدواوين في صفر سنة إحدى عشرة وسبع مئة. ثم أمسك في شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وجهز إلى مصر هو وجماعة من الأمراء منهم بيبرس المجنون، وسنجر البرواني، وبيبرس التاجي، وكشلي، ثم أفرج عنه بعد مدة طويلة، وجهز نائب قلعة صفد، فجاء إليها، وعمرها، ورمها، ولم شعثها، وهو مع ذلك بطال، وفيما بعد مدة أظنه أعطي إمرة عشرة. وكان ينفق في الصناع والفعول من ماله، إلا أنه كان ظالماً عسوفا، عديم الرحمة عبوسا، لا يكاد يبتسم أبداً.
وكان آيةً في الكرم، وغاية في الجود، يخجل الغيث إذا احتد برقه واضطرم، لا يغسل قباءه أبدا، ولا يرى له في اقتنائه مستندا، بل يلبسه، فإذا استخ وهبه، ونزعه عن جسده لغيره وسلبه. وكان في أخلاقه حدة وشراسه، وشدة تقطع من الحلم أمراسه.
ولم يزل على حاله في قلعة صفد إلى أن طوي خبر طوغان، بعد ما كان سائراً من مصر إلى موغان.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة أربع وعشرين فيما أظن.
وكان يحكى عنه عجائب، منها أنه كان يوماً في قلعة البيرة جالساً وعنده المباشرون يعملون الحساب، فنعس هو لحظة وغفا وانتبه، فقال للناظر: اكتب على طوغان جناية مبلغ مئتي درهم لكونه يكون في شغل مولانا السلطان وينعس. فما أمكن الناظر والمباشرين إلا امتثال أمره، وقال لخزنداره: هات مئتي درهم، فأحضرها، ووضعها في صندوق الحاصل، فلما كان بعد أيام نعس الناظر، فجناه خمس مئة درهم.
وكان يوماً في صفد جالساً على البرج والهواء يتخفق في أعلى القلعة، فلعب الهواء بذيله، فوضعه تحت فخذه، فلعب الهواء به ثانياً، فشال فخذه ووضعه تحته، فلعب به ثالثاً فنزعه عنه وألقاه على الأرض، وضربه بالعصي إلى أن قطعه.
وكان الأمير سيف الدين أرقطاي كثير البسط والانشراح، فجاءه بعض أمراء العربان فانبسط عليه، وقال: أطلعوه القلعة، فجاؤوا به وهو واقف في عمارة القلعة، فلما رآه، قال: هات قيداً، وقيده به، وأداره في العمل تحت الحجارة والكلس، فقالوا: يا خوند إنما ملك الأمراء يلعب معه. فقال: والك، أنا عندي لعب !؟ وتعب الناس في خلاصه منه، إلى أن اجتمع به في الخدمة، وشفع فيه حتى أطلقه.
وكان يقف في عمارة القلعة من طلوع الشمس إلى مغيبها، وإذا كان الليل نام على قفاه، ورفع رجليه مع الحائط، وقد عصبها بالفصاديات، وقمطها، ويعطي الصانع الدراهم من عنده، وهو يضربه بالعصا التي في يده، وقلما ضرب أحداً إلا أجرى دمه، لأنه ما كان يكون في يده عصاً إلا ما تصلح أن تكون نصاب دبوس، رحمه الله.
وفيه يقول علاء الدين الوداعي - وقد كان عنده في البيرة كاتب درج - ، ومن خطه نقلت:
يا جيرةً قربهم مرادي ... وحظ قلبي ولحظ عيني
طوغان، طوفان راحتيه ... قد حال بينكم وبيني
فلا سبيل إلى لقاءٍ ... من بين لجين في لجين
اللقب والنسب
الطوسي: شارح الحاوي عبد العزيز بن محمد.
الطوفي: نجم الدين الحنبلي سليمان بن عبد القوي. ونجم الدين الرافضي عبد القوي بن عبد الكريم.
طوير الليل: تاج الدين محمد بن علي.
طيبرس بن عبد الله
الشيخ الإمام العالم الفقيه النحوي علاء الدين الحنفي المعروف بالجندي.
ذكر أنه قدم من بلاده إلى البيرة، فاشتراه بعض الأمراء بها، وعلمه الخط والقرآن العظيم. وتقدم عنده وأعطاه إقطاعاً وأعتقه.(1/407)
فلما توفي أستاذه قدم إلى دمشق وقد جاوز العشرين سنة، وتفقه بها على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، واشتغل بالنحو واللغة والعروض والأدب والفرائض والأصلين حتى فاق أقرانه، وسمت همته، فصنف في النحو وغيره، ونظم كتاب الطرفة في النحو، وجمع فيه بين ألفية ابن مالك ومقدمة ابن الحاجب، وزاد عليهما، وهي تسع مئة بيت، وقرأها عليه جماعة، منهم الشيخ صلاح الدين البطايني، وشرحها. وكان الشيخ شمس الدين بن عبد الهادي يثني عليهما. وكان مغرى بالنظم من صغره، وكان حسن المذاكرة، لطيف المعاشرة، مخبره أحسن من منظره، كثير التلاوة، يصلي بالليل كثيراً.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة بالصالحية في طاعون دمشق.
وكان مولده سنة ثمانين وست مئة تقريباً.
وأنشدني من لفظه المولى الشيخ محيي الدين أبو زكريا يحيى بن يوسف بن يعقوب الرحبي الشافعي، قال: أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ علاء الدين المذكور قال: وهو أول شيء نظمته بالبيرة قال:
وكلّما القلب ناجاني بهجرك لي ... وهل تعود فأقوالي: عسى وبلى
قد كان قربك عكس اللّفض مدّته ... كما مقامي اللّغط هري بلا
وبه قال: أنشدني المذكور لنفسه:
بكفر بطنا لقد طبنا على نزهٍ ... من مشمشٍ كنجوم غشّت الشّجرا
أحلى من الوصل لكن في لطافته ... أرقّ من نسمةٍ هبّت لنا سحرا
كدت تذوّبه الألحاظ من عجبٍ ... لما رأت قد بدت في لطفه الصّورا
وبه قال: أنشدني من لفظه لنفسه في كيال مليح له رفيق اسمه الشمس يلقب الثور لقبحه ويلقب أيضا بالدقن لطول لحيته:
نفسي الفداء لكيّال برى جسدي ... بأربعٍ زيّنتها أربعٌ أخر
في ردفه عظمٌ في خصره هضم ... في ريقه شهدٌ في طرفه حور
كأن وجنته في النّقع إذ غرقت ... ياقوتةٌ فوق تبرٍ تحتها درر
من أجله الشّمس من أنواره كسفت ... فمن رأى الشّمس غشّى نورها القمر
رفيقه الدّقن ثورٌ إنّ ذا عجبٌ ... خشفٌ ترافقه الثيران والبقر
وبه قال: أنشدني من لفظه لنفسه:
قد بتّ في قصر حجّاجٍ فذكّرني ... بضنك عيشة من في النّار يشتعل
بقٌّ يطير وبقٌّ في الحصير سعى ... كأنّه ظللٌ من فوقها ظلل
وبه قال: أنشدني من لفظه لنفسه:
قاربت ستين عاماً والشباب ظلا ... مه على شعري ما شيب بالنّور
وكان شاهد زورٍ للشباب فلا ... تستعجبوا من سواد الشّاهد الزّور
وبه قال: أنشدني من لفظه لنفسه في عطار:
احتجت إلى قطر نباتٍ وسنا ... فابتعتهما من ذي اعتدال وسنا
من وجهه ومنطقه كم سلبت ... أجفان متيّميّ هواه وسنا
طيب
الأمير سيف الدين.
كان من جملة الأمراء بصفد، ثم إنه نقل إلى دمشق وأقام بها قريباً من سنة، ثم إنه توجه صحبة العساكر إلى صفد لحصار أحمد الساقي، ولما سلم نفسه أحمد توجه به الأمير طيب إلى باب السلطان صحبة من توجه معه من الأمراء فرسم له السلطان في الديار المصرية بالإقامة فأقام بها، وذلك من أوائل سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة ولما خرج الأمير علاء الدين مغلطاي والأمير سيف الدين منكلي بغا الفخري على السلطان الملك الصالح أول دولته كان معهما، فرسم باعتقاله، وذلك في شهر رجب سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة، ثم إنه أفرج عنه وورد إلى صفد وأقام بها بطالاً.
ثم إنه توجه صحبة الأمير علاء الدين ألطنبغا برفاق نائب صفد إلى دمشق لما راح إلى بيبغاروس، وهرب معهم لما هربوا، ودخلوا البلاد الرومية، ثم إن الأرض أضمرته، ولم أسمع له خبرا إلى أن ورد مرسوم السلطان بتجهيزه من ثغر إسكندرية إلى تلك البلاد، أعني الشرقية من ولاية إلى ولاية وكان ذلك في شهر رمضان أو ما بعده، سنة ست وخمسين وسبع مئة.
اللقب والنسب
ابن أبي الطيب نجم الدين
وكيل بيت المال عمر بن أبي القاسم. وولده نجم الدين محمد بن عمر.
الطيبي: محمد بن بادي. وشمس الدين الطيبي موقع طرابلس: أحمد بن يوسف.
طيبرس(1/408)
الأمير علاء الدين الساقي أحد أمراء الطبلخانات بدمشق.
توفي رحمه الله تعالى في العشر الأول من جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
طيبغا
الأمير سيف الدين السلاح دار الناصري المعروف بقوين باشي، بقاف وواو وياء آخر الحروف وبعدها نون وباء موحدة وألف وشين معجمة وياء آخر الحروف.
كان شكله تاماً طويلا، وخده أسيلا، ذقنه في حنكه سوداء، وعمته مليحة ووجنته مرداء، خيراً لا شر فيه، يحبه تنكز ويعظمه ويعرف له حقه ويوفيه، وولاه نيابة حمص فأقام فيها على حال شديده، وسيرة في العدل سديده، ثم إنه نقله إلى نيابة غزه، وأراد له بذلك التقدم والعزه، فأقام فيها مدة يسيرة مريضا، ورأى من السقم مدىً طويلا عريضا، إلى أن فارق وجوده، وأطال البلى تحت الأرض هجوده.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشري ربيع الأول سنة اثنتين وسبع مئة.
وكان له ولد كأنه القمر إذا بدر في أفقه، أو الغزال في لي عنقه، فمات في حياته، وجرعه كأس وفاته، وصبر هو والناس على فقده، وودوا لو شركوه في سكنى لحده.
طيبغا
الأمير علاء الدين طيبغا حاجي.
أعرفه بالقاهرة، وهو رأس نوبة الجمدارية، ثم إنه خرج إلى دمشق، واختص بالأمير سيف الدين تنكز، وكان يقربه ويدنيه، ولما أمسك تنكز، وحضر بعده بشتاك، أمسك الأمير علاء الدين طييبغا حاجي والأمير سيف الدين ألجيبغا العادلي، وأودعا قلعة دمشق في الاعتقال، ولم يزالا إلى أن مرض السلطان مرض موته، وعوفي قليلاً فأفرج عنهما وعن غيرهما من الذين كانوا في الاعتقال بمصر والشام، وجهزه الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري في أول دولة الناصر أحمد إلى حلب ليكون بها نائبا فتوجه إليها، وأقام بها نائبا بعد حمص أخضر إلى أن وصلها الأمير علاء الدين أيدغمش نائباً.
وكان قد جهز في سنة اثنتين وأربعين إلى حلب أميرا، فتوجه إليها، وبعد ذلك عمل النيابة بها، ولما عزل منها أقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة تقريباً، وحضر تابوته إلى دمشق ودفن بها.
وكان عاقلا ساكنا وافر الحشمة كثير الحياء.
طيبغا
الأمير علاء الدين الإبراهيمي.
كان أميراً بصفد من جملة الطبلخانات، ورسم له بنيابة قلعة صفد عوضا عن الأمير شهاب الدين بن لافي، وباشر ذلك مدة قليلة دون الشهر، وعزل بالأمير صلاح الدين بن الخشاب.
وتوفي الإبراهيمي بعد عزله بقليل في شهر شوال سنة ست وخمسين وسبع مئة.
طينال
بفتح الطاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبعدها نون وألف ولام.
الأمير سيف الدين الأشرفي الحاجب بمصر الناصري نائب السلطنة بطرابلس وغزة وصفد.
كان أميراً كبيرا، درباً بالأمور خبيرا، ما أقام ببلد إلا وأحبه أهلها وانتفع العرفان بها وانتفى جهلها.
أول ما ورد إلى طرابلس نائباً بعد الأمير شهاب الدين قرطاي قوى نفسه، وصوب رأيه وتخمينه وحدسه، وأخذ في معاكسة الأمير سيف الدين تنكز ومعاندته، ومنافسته في الأمور ومنابذته، فكتب به إلى السلطان وعزله، وأراه الذل في المنزل الذي نزله.
ورسم له بنيابة غزة، فتوجه إليها وقد جعل إصبعه فيها تحت رزه، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، فأقام بها قليلا، ثم طاوع أن يكون في الجنة لا في النار ذليلا، فأعيد إلى طرابلس ثانيا، ورجع إليها شاكراً حامداً ثانيا، ووطن نفسه على الطاعة لمن قهره، والخضوع لمن كان سائله فنهره، فمشت حاله، وارتفع خبره وانتصب حاله. ثم إنه عزل من طرابلس، ثم أعيد إليها ثالثا، ثم عزل وجهز إلى صفد نائبا، فأقام بها إلى أن تحتم الأجل، وتختم بالوجل.
وتوفي بصفد رحمه الله تعالى في نهار الجمعة خامس شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
وكان في النيابة الثانية بطرابلس فلما أمسك تنكز عزل منها لما عزل نواب الشام وحضر إلى دمشق وأقام بها أميراً، ولما كان الفخري بدمشق جهزه إلى طرابلس نايبا، فتوجه إليها ثالث مرة نائبا، ولم يزل بها إلى أن رسم له الصالح بالتوجه إلى صفد، فتوجه من طرابلس إليها وأقام بها إلى أن توفي في التاريخ المذكور، ودفن في مغارة يعقوب عليه السلام بصفد في قبر كان طشتمر حمص أخضر قد أعده لنفسه.(1/409)
ولما أتى في المرة الثانية إلى طرابلس في شهر ربيع الآخر في سنة خمس وثلاثين وسبع مئة كان يجهز مطالعته إلى السلطان مفتوحة على يد البريدي الذي هو من جهته، ليقف عليها تنكز ويقرأها ويختمها ويجهزها.
وكان السلطان قد جهزه بمصر هو والأمير ركن الدين بيبرس الحاجب إلى اليمن نجدةً لصاحبها، ومعهما ألف فارس في شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
وكتب إليه مرة كتاباً من طرابلس يهنئ فيه الأمير سيف الدين تنكز بقدومه من صيد الطير، ويذكر فيه أنه هو كان أيضا غائباً في الصيد، فكتبت أنا الجواب إليه عنه ونسخته: أعز الله أنصار المقر الكريم العالي المولوي الأميري السيفي، وجمع شمل المسرات إليه جميعا، وجعل حرمه على الخطوب محرما وزمنه كله ربيعا، وأظفره من الصيد بما يلقى لديه في الدو صريعا، ويخر له من الجو صريعا، المملوك يقبل اليد الكريمة التي أصبح الجود لها مطيعا، ويخدم بالدعاء الذي يظن لصدقه في رفعه أن الله يكون له سميعا، ويصف الولاء الذي إذا دعا الإخلاص لباه سريعا، ويبث الثناء الذي ملأ الأسماع جمره جوهرا، والصحف بديهاً بديعا، وينهي ورود المشرفة العالية، فوقف منها على أسطار البلاغة التي أخرج العي منها خائفا يترقب، واستجلى منها كواعب البيان التي إذا لمحها هلال الأفق غطى نوره بكمه الأزرق وتنقب، ورعى منها العبارة التي إذا أثنى البليغ عليها فقد قابل درها المنظم بالجزع الذي لم يثقب، فقابل ذلك بالشكر لله تعالى على عود مولانا إلى وطنه، وقرار قلبه وقرة عينه بما ناله من اجتماعه بمسكنه وسكنه، بعد أن عرضت صيوده على مواقد النيران، وضربت أطيارها قباب أشلائها على طريق الوحش تتقارع منها على قرى الضيفان، ونثر على سندس الربيع من ريشها الأزرق ياقوت ومن دمها الأحمر مرجان، وغدت وجنة الأرض وفمها من الدماء مضرج ومن الريش خيلان، فالله يكمل لمولانا المسرة التامه، ويبهج خاطره الكريم بأفراحه العامة للخاصة والعامه، ويجعل عداه في قبضة قنصه، ويجرع كلاً منهم كؤوس غصصه، حتى يكونوا كصيوده بين يديه طرحى معفرين في الثرى كأشلائها معقرين جرحى، وولدا مولانا الجنابان العاليان: المظفري موسى والناصري محمد مخصوصان بتحية تجاري لطفهما، وثناء يباري في الطيف وصفهما، إن شاء الله تعالى.
؟طي الحوراني
كان قيماً بدار الحديث الظاهرية.
أمسك وضرب بدار الوالي، فاعترف بقتل الشيخ زكي الدين السمرقندي الحنفي، فشنقوه على باب الظاهرية بكرة الثلاثاء عاشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وسبع مئة.
الطيوري الحاسب: علي بن عثمان.
حرف الظاء
ظافر بن أبي غانم
ابن سيف بن طي بن محمد بن سالم فتح الدين أبو الفتح الأرفادي الحلبي الطائي.
أخبرني العلامة أبو حيان قال: كان المذكور بالقاهرة، وله نظم منه قوله:
ولقد ظننت بأننا ما نلتقي ... حتى رأيتك في المنام مضاجعي
فوقعت في نومي لوجهك ساجداً ... ونثرت من فرحي عليك مدامعي
ظافر بن محمد
ابن صالح بن ثابت زين الدين الأنصاري الجوجري المحتد، العدوي، نسبة إلى فقراء الشيخ عدي، يعرف بالطناني، بفتح الطاء المهملة وبعدها نون مخففة وبعدها ألف ونون ثانية، وهي بلدة بالديار المصرية بها ولد.
أخبرني العلامة أثير الدين قال: كان المذكور رجلاً فقيراً، كثير الانبساط، يظهر الخرق. ويذكر عنه بعض من خالطه صلاحاً وديانه، وتنسب له كرامه. ورأيته بدمياط، وله نظم كثير، من ذلك قوله:
تميس فتخجل الأغصان منها ... وتزري في التلفت بالغزال
وتحسب بالإزار بأن تغطّت ... وقد أبدت به شكل الجمال
سلوها لم تغطّي البدر عمداً ... وتسمح للنّواظر بالهلال
ولم تصلي الحشا بالعتب ناراً ... وفي ألفاظها برد الزّلال
ولم فضحت بمعصمها اعتصامي ... وأطبقت العقيق على الّلآلي
ويبدي حالها أمراً عجيباً ... ظهوراً في خفاء مثل حالي
فإن حاكت بوفر الرّدف وجدي ... فقد حاكى بها الخصر انتحالي
حلالٌ في الغرام بها عذابي ... كما عذب اللّما منها حلا لي
اللقب والنسب
ابن الظاهري شهاب الدين(1/410)
أحمد بن عبد الرحمن. والحافظ جمال الدين أحمد بن محمد.
وفخر الدين بن الظاهري: عثمان بن محمد.
ظهير بغا
الأمير سيف الدين أحد مقدمي الألوف بالديار المصرية.
كان قريباً للسلطان الملك الناصر محمد.
حضر إلى الديار المصرية في سنة ست وعشرين وسبع مئة بعد خروج الأمير سيف الدين أرغون النايب إلى حلب، وأظنه أخذ تقدمته، وعظمه السلطان لما وصل وأعطاه إمرة مئة.
وكان الأمير سيف الدين يكتب بالمغلي، وكان إذا حضر كتاب من بوسعيد بالمغلي، ولم يكن الأمير سيف الدين أيتمش حاضراً يقرأه الأمير سيف الدين ظهير بغا، ويكتب جوابه بالذهب أو بالمداد، ولم أر أحداً أكثر من أقاربه بتلك البلاد، كانوا يفدون عليه في كل وقت طول السنة من مئتي نفس فما دونها إلى العشرة مدة مقامه في الديار المصرية، فمنهم من يقيم بالديار المصرية، ومنهم من يختار العود ويعود وقد بره ووصله وحمله وحمله.
ولم يزل على حاله بالديار المصرية إلى أن توفي في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
ظهير بن أمير حاج بن عمر
الشيخ ظهير الدين الأرزنجاني، بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الزاي وبعدها نون وجيم وبعدها ألف ونون وياء النسبة.
ورد إلى دمشق صحبة الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى من مصر، لأنه كان يصحبه وهو في مصر إلى أن حضر إلى دمشق، وكان عنده عزيزاً مكرماً، ولكنه لا يدخل في أمر ولاية ولا عزل، وما أعرف أنه كان بيده شيء من الولايات غير نظر مسجد النارنج لا غير.
ولم يزل عنده معظما إلى أن قال عنه حمزة التركماني للأمير سيف الدين تنكز: إن القاضي جمال الدين ابن جملة رشا ناصر الدين الدوادار بألف دينار حتى سعى له في قضاء الشام، فتنكر له تنكز، فأنكر ذلك، فسلمه تنكز إلى قاضي القضاة ابن جملة، فبالغ في تعزيره وأركبه حماراً، وطاف به في الأسواق، وهو يضرب بالدرة إلى أن رق له الناس وأحضر إلى تنكز في تلك الحال، فرحمه، وجرى على القاضي بسببه ما يأتي شرحه في ترجمته، وعزل من منصبه وحكم بفسقه وباعتقاله.
ولم يزل الشيخ ظهير الدين على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة بدمشق.
حرف العين
الألقاب والأنساب
العابر الحنبلي شهاب الدين
أحمد بن عبد الرحمن.
والعابر الحنبلي زين الدين
علي بن أحمد الآمدي.
عامر بن محمد
ابن علي بن وهب: هو عز الدين ابن الشيخ الإمام العلامة أوحد المجتهدين تقي الدين بن دقيق العيد القشيري المصري.
سمع من العز الحراني، وابن الأنماطي، وغيرهما.
جلس بحانوت العدول لما تعدل، وأورق غصن فضله وتهدل، وأقام على هذه القدم مده، ورفض هذا الضابط الضاغط لما قاساه فيه من الشده، ثم إنه خالط أهل المعاصي، وتوقل معهم هضبات تلك الصياصي، فأثرت فيه تلك الخلطه، وأصبح في بيته الصحيح غلطه، وأخرجته عن طريق أهله تلك العشره، وأمسى كما يقوله الناس: إزليط العثره، حتى إن أباه جفاه، ولفظه من حسابه ونفاه، ولما تولى والده قدس الله روحه، القضاء أقامه وأنزله من حانوت العدول لعلمه أنه على غير الاستقامة، فيا ضيعة اسمه، ويا خيبة حدس أبيه ووهمه لأنه سماه باسم أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، أمين هذه الأمة كما جاء في الأحاديث الصحاح.
قد يبعد الشيء من شيء يشابهه ... إنّ السماء نظير الماء في الزرق
وكان الشيخ تقي الدين قدس الله روحه قد سمى أولاده بأسماء الصحابة العشرة رضي الله عنهم.
ولم يزل عز الدين المذكور على حاله إلى أن هدم الموت ما عمر من عامر، وأضر به الداء المخامر.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى عشرة وسبع مئة في القاهرة.
العاقولي: جمال الدين عبد الله بن محمد.
عائشة بنت محمد
ابن المسلم بن سلام بن البهاء الحراني الشيخة الصالحة أم محمد.
سمعت من إسماعيل بن أحمد العراقي، ومحمد بن أبي بكر المعروف بابن النور البلخي، ومحمد بن عبد الهادي المقدسي، وإبراهيم بن خليل، وعبد الرحمن ابن أبي الفهم اليلداني.
أجازت لي بدمشق سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وكتب عنها بإذنها عبد الله بن المحب.
وتوفيت رحمها الله تعالى في شوال سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
وهي أخت المحدث محاسن، ومولدها سنة سبع وأربعين وست مئة.(1/411)
وكان قد سمعها أخوها في الخامسة، وسمعت من فرج القرطبي، والبلخي، وابن عبد الدائم والعماد وعبد الحميد، وتفردت، وروت جملة صالحة، وكانت خيرة قانعة فقيرة، تعمل في الحياكة.
سمع منها أبو هريرة ابن شيخنا الذهبي، وأولاد المحب والطلبة، وروت فضائل الأوقات للبيهقي عن ابن خليل، وخرج لها ابن سعد.
عائشة أم محمد
ابنة العدل زين الدين إبراهيم بن أحمد بن عثمان بن عبد الله بن غدير الطائي الدمشقي المعروف بابن القواس.
حجت غير مرة وجاورت بمكة سنين، وهي زوجة علاء الدين بن صدر الدين بن المنجا.
أجازها ابن مسلمة، ومكي بن علان، والبهاء زهير القوصي، وابن زيلاق، وابن دفترخوان، والسليماني، والنور وعلي بن سعيد، والتلعفري، وهؤلاء السبعة أعيان الشعراء.
توفيت رحمها الله تعالى سادس ذي القعدة سنة ثماني عشرة وسبع مئة.
ومولدها سنة خمس وأربعين وست مئة تقريباً.
عبادة بن عبد الغني
الإمام المفتي زين الدين أبو سعد الحراني المؤذن الشروطي الحنبلي.
كان قد طلب الحديث في وقت، ودار على الشيوخ قليلاً، ونسخ جملة من الأجزاء سنة بضع وتسعين وست مئة، ثم إنه تقدم في الفقه وناظر، وتميز في الفروع وفاكر بها وحاضر، فرأى أنه ارتفع عن هذه الدرجه، وأعدم بذاك الناس من حسن ضرجه، وكان عنده صحيح مسلم، عن القاسم الإربلي.
ولم يزل على حاله إلى أن حكم الموت فساده في عباده، وأباده الله تعالى فيمن أباده.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وسبعين وست مئة.
اللقب والنسب
ابن عبادة الوكيل شهاب الدين أحمد بن علي
عبد الله بن أحمد بن تمام بن حسان
الشيخ الإمام الفاضل الزاهد الورع تقي الدين بن تمام التلي الصالحي الحنبلي.
سمع من يحيى بن قميرة، وخطيب مردا، والكفرطابي، وإبراهيم بن خليل، وجماعة، والمرسي، واليلداني، وقرأ النحو على ابن مالك، وعلى ولده بدر الدين.
كان رجلاً صالحا، دائم البشر لا يرى كالحا، ديناً خيرا، صيناً يرى وجهه في الظلمات نيرا، نزهاً محبوباً إلى القلوب، صلفاً طول عمره في الزهد على أسلوب، فقيراً لا يملك شيئا، ولا يجد له في الأرض فيئا، حسن الشعرة والمنادمه، مليح الذاكرة برئيا في المصادقة من المصادمه، ظريف البزة مع الزهد والقناعه، نظيف الملبس في الجمعة والجماعه، وله النظم الذي هو أسرى من النسيم وأسنى من العقد النظيم، يكاد يرشفه السمع راحا، ويداوي من قلوب أهل الكآبة جراحا، قد انسجم لفظه فهو صوب غمامه، ولذ تركيبه فهو صوت حمامه، تمكنت القوى في قوافيه، وطاب تلاف النفوس في تلافيه.
ولم يزل على حاله إلى أن كسف بدر ابن تمام في تمامه، وغرد الحمام بل ناح على كأس حمامه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثماني عشرة وسبع مئة ليلة السبت ثلاث شهر ربيع الآخر.
ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة.
وسيأتي ذكر أخيه الشيخ محمد إن شاء الله تعالى في المحمدين.
أخبرني القاضي شرف الدين أبو بكر بن القاضي شمس الدين بن شيخنا أبي الثناء محمود، قال: كان جدي، يعني القاضي شهاب الدين محموداً، قد أذن لغلامه الذي نفقته معه أنه مهما طلب منه الشيخ تقي الدين من الدراهم يعطه بغير إذنه، قال: فما كان يأخذ منه إلا ما هو مضرور إليه انتهى.
قلت: وكان قد صحبه أكثر من خمسين سنة، وكان قد حج وجاور واجتمع بالتقي الحوراني وبقطب الدين ابن سبعين، وسافر وطوف البلاد، وأقام بالديار المصرية مدة، وصحب الفقراء والفضلاء، وتفرد عن ابن قميرة بالجزء الرابع من حديث الصفا، وخرج له فخر الدين بن البعلبكي مشيخة، قال: شيخنا البرزالي: قرأتها عليه، وكان زاهداً متقللاً من الدنيا، لم يكن له أثاث ولا طاسة ولا فراش ولا سراج ولا زبدية، وبيته خال من جميع ذلك، أنشدني شيخنا العلامة شهاب الدين محمود إجازةً لنفسه ما كتبه من الديار المصرية إلى الشيخ تقي الدين ابن تمام:
هل عند من عندهم برئي وأسقامي ... علمٌ بأنّ نواههم أصل آلامي
وأنّ جفني وقلبي بعد بعدهم ... ذا دائمٌ وجدهم فيهم وذا دامي
بانوا فبان رقادي يوم بينهم ... فلست أطمع من طيفٍ بإلمام
كتمت شأن الهوى يوم النّوى فنمى ... بسرّه من دموعي أيّ نّمام(1/412)
كانت لياليّ بيضاً في دنوّهم ... فلا تسل بعدهم ما حال أيامي
ضنيت وجداً بهم والنّاس تحسب بي ... سقماً فأُبهم حالي عند لوّامي
وليس أصل ضنى جسمي النحيل سوى ... فرط اشتياقي إلى لقيا ابن تّمام
مولى متى أخل من برء برؤيته ... خلوت فرداً بأشجاني وأسقامي
نأى ورؤيته عندي أحبّ إلى ... قلبي من الماء عند الحائم الظامي
وصدّ عني فلن يسأل لجفوته ... عن هائمٍ دمعه من بعده هام
يا ليت شعري ألم يبلغه أنّ له ... أخاً بمصر حليف الضّعف من عام
ما كان ظنّي هذا في مودّته ... ولا الحديث كذا عن ساكني الشام
فكتب الجواب ابن تمام عن ذلك:
يا ساكني مصر فيكم ساكن الشام ... يكابد الشّوق من عامٍ إلى عام
الله في رمقٍ أودى السّقام به ... كم ذا يعلّل فيكم نضو أسقام
ما ظنّكم ببعيد الدار منفردٍ ... حليف همّ وأحزانٍ وآلام
يا نازحين متى تدنوا النّوى بكم ... حالت لبعدكم حالي وأيّامي
كم أسأل الطّرف عن طيفٍ يعاوده ... وما لجفني من عهدٍ بأحلام
استودع الله قلباً في رحالكم ... عهدته منذ أزمانٍ وأعوام
وما قضى بكم في حبكم أرباً ... ولو قضى فهو من وجدٍ بكم ظام
من ذا يلوم أخا وجدٍ بحبّكم ... فأبعد الله عذّالي ولوّامي
في ذمّة الله قومٌ ما ذكرتهم ... إلا ونمّ بوجدي مدمعي الدّامي
قوم أذاب فؤادي فرط حبّهم ... وقد ألمّ بقلبي أيّ إلمام
وما اتخذت سواهم عنهم بدلاً ... ولا نقضت لعهدي عقد إبرام
ولا عرفت سوى حبي لهم أبدا ... حباً يعبّ؟ر عنه جفني الهامي
يا أوحداً أعربت عنه فضائله ... وسار في الكون سير الكوكب السّامي
في نعت فضلك حار الفكر من دهشٍ ... وكلّ ظامٍ سقي من بحرك الطّامي
لا يرتقي نحوك السّاري على فلكٍ ... فكيف من رام أن يسعى بأقدام
منك استفاد بنو الآداب ما نظموا ... وعنك ما حفظوا من رقم أقلام
أنت الشّهاب الذي سامى السّماك علاً ... وفيض فضلك فينا فيض إلهام
لمّا رأيت كتاباً أنت كاتبه ... وأضرم الشّوق عندي أيّ إضرام
أنشدت قلبي هذا منتهى أربي ... أعاد عهد حياتي بعد أعوام
يا ناظريّ خذا من خدّه قبلاً ... مهو الحرير بتقبيلٍ وإكرام
ثم اسرحا في رياضٍ من حدائقه ... وقد زهي زهرها الزّاهي بأكمام
من ذا يوفّيه في ردّ الجواب له ... عذراً إليك ولو كنت ابن بسّام
فكم جنحت ولي طرفٌ يخالسه ... وأنثني خجلاً من بعد إحجام
يا ساكناً بفؤادي وهو منزله ... محلّ شخصك في سرّي وأوهامي
حقاً أراك بلا شكّ مشاهدةً ... ما حال دونك إنجادي وإتهامي
ولذّ عتبك لي يا منتهى أربي ... وفي العتاب حياةٌ بين أقوام
حوشيت من عرضٍ يشكى ومن ألمٍ ... لكنّ عبدك أضحى حلف آلام
ولو شكا سمجت منه شكايته ... إنّ الثمانين تستبطي يد الرّامي
وحيد دارٍ فريدٌ في الأنام له ... جيران عهدٍ قديم بين آكام
طالت بهم شقّة الأسفار ويحهم ... أخفوا وما نطقوا من تحت أرجام
أبلى محاسنهم مرّ الجديد بهم ... وأبعد العهد عنهم بعد أيام
فلا عداهم من الرّحمن رحمته ... فهي الرّجاء الذي قدّمت قدّامي
وكم رجوت إلهي وهو أرحم لي ... وقلّ عند رجائي قبح آثامي(1/413)
فطال عمرك يا مولاي في دعةً ... ودام سعدك في عزٍّ وإنعام
ولا خلت مصر يوماً من سناك بها ... ولا نأى نورك الضّاحي عن الشّام
وأنشدني العلامة أبو حيان قال: أنشدنا لنفسه ابن تمام:
وقالوا: تقول الشّعر قلت أُجيده ... وأنظمه كالدّرّ راقت عقوده
وأبتكر المعنى البديع بصنعةٍ ... يحلّى بها عطف الكلام وجيده
ويحلو إذا كرّرت بيت قصيدةٍ ... وفي كلّ بيتٍ منه يزها قصيده
ولكنّني ما شمت بارق ديمةٍ ... ولا عارضٍ فيه ندى أستفيده
فحسبي إلهٌ لا عدمت نواله ... وكلّ نوالٍ يبتديه يعيده
وأنشدني أيضا قال: أنشدني لنفسه:
وقالوا صبا بعد المشيب تعلّلاً ... وفي الشّيب ما ينهى عن اللهو والصّبا
نعم قه صبا لمّا رأى الظّبي آنساً ... يميل كغصن البان يعطفه الصّبا
أدار التفاتاً عاطل الجسيد حالياً ... وفي لحظه معنىً به الصبّ قد صبا
ومزّق أثواب الدّجا وهو طالعٌ ... وأطلع بدراً بالجمال تحجّبا
جرى حبّه في كلّ قلبٍ كأنّما ... تصوّر من أرواحنا وتركّبا
وأنشدني، قال: أنشدنا لنفسه:
أُكاتبكم وأعلم أنّ قلبي ... يذوب إذا ذكرتكم حريقا
وأجفاني تسحّ الدّمع سيلاً ... به أمسيت في دمعي غريقا
أُشاهد من محاسنكم محيّاً ... يكاد البدر يشبهه شقيقا
وأصحب من جمالكم خيالاً ... فأنّى سرت يرشدني الطريقا
ومن سلك السّبيل إلى حماكم ... بكم بلغ المنى وقضى الحقوقا
ومن شعره:
طرقتك من أعلى زرود ودونها ... عنقا زرود ومن تهمامة نفنف
تتعسّف المرمى البعيد لقصدها ... يا حبّذا المرمى وما تتعسّف
ومنه:
معانٍ كنت أشهدها عياناً ... وإن لم تشهد المعنى العيون
وألفاظ متى فكّرت فيها ... ففيها من محاسنها فنون
ومنه:
تبدّى فهو أحسن من رأينا ... وألطف من تهيم به العقول
وأسفر وهو في فلك المعاني ... وعنه الطّرف ناظره كليل
له قدٌّ يميل إذا تثنّى ... كذاك الغصن من هيفٍ يميل
وخدٌّ ورده الجوريّ غضٌّ ... وطرفٌ لحظه سيفٌ صقيل
وخالٌ قد طفا في ماءٍ حسنٍ ... فراق بحسنه الخدّ الأسيل
تخال الخدّ من ماءٍ وجمرٍ ... وفيه الخال نشوانٌ يجول
وكم لام العذول عليه جهلاً ... وآخر ما جرى عشق العذول
قلت: وهو مأخوذ من قول أبي الطيب:
مالنا كلّنا جوٍ يا رسول ... أنا أهوى وقلبك المتبول
كلّما عاد من بعثت إليها ... هام فيها وخان فيما يقول
وإذا خامر الهوى قلب صبٍّ ... فعليه لكلّ عينٍ دليل
أفسدت بيننا الأمانات عينا ... ها وخانت قلوبهنّ العقول
وقال ابن سناء الملك:
راح رسولاً وجاءني عاشق ... وعاقه عن رسالتي عائق
وعاد لا بالجواب بل بجوىً ... أخرسه والهوى به ناطق
وذكرت أنا بقول ابن تمام رحمه الله ما قلته أنا ومن مادته أخذت، وعلى منواله نسجت:
ألحّ عذولي في هواه وزاد في ... ملامي، فقلت: احتل على غير مسمعي
فلم يدر من فرط الولوع بذكره ... مصيبته حتى تعشقه معي
وقلت أنا أيضاً على هذه المادة:
بي غزالٌ لمّا أطعت هواه ... أخذ القلب والتّصبر غصبا
ما أفاق العذول من سكرة العذ ... ل عليه حتى غدا فيه صبّا
عبد الله بن أحمد بن عبد الله
ابن أحمد بن محمد، الشيخ الإمام الصالح المحدث أبو محمد بن الشيخ المحدث محب الدين السعدي المقدسي الجماعيلي الدمشقي الصالحي الحنبلي.(1/414)
سمعه والده، وحفظه القرآن، وطلب بنفسه في سنة سبع وتسعين، ولحق ابن القواس، وابن عساكر الشرف، والغسولي، والناس بعدهم، وكان عنده عوال عن ابن البخاري وبنت مكي وعدة، وانتقى له شيخنا الذهبي جزءاً، وانتقى هو لبعض مشايخه ونسخ عدة أجزاء.
وخلف عدة أولاد، وكان من أهل الخير والصيانه، وأولي الصلاح والديانه، حسن الشكل واللحية السوداء، والوجه كأنه بدر في الليلة الظلماء، طيب الصوت لذيذ النغمه، إذا تلا كأنما صب على الآذان صوب نعمه، يقرأ سريعاً مع فصاحه، ويخيط بإيراده ما في القلوب من جراحه.
نفع الناس بمواعيده العامه، وأفاض عليهم فيها ملابس التقوى التامه، وكان له محبون وزبون يدفع بهم الحرب الزبون، وكان يقرأ في الحائط الشمالي ومجلسه حافل غاص، وسمعته غير مرة.
ولم يزل على حاله إلى أن طالت منه الرقده، وأذاق الله الناس فقده.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وثمانين وست مئة.
عبد الله بن أحمد بن علي
ابن أحمد الشيخ الإمام الفقيه النحوي جلال الدين بن الشيخ فخر الدين بن الفصيح العراقي الكوفي الحنفي، قد تقدم ذكر والده في الأحمدين.
وكان هذا جلال الدين همته مباركه، وعنده في العلوم مشاركه، وقدم إلى دمشق، وسمع بها وسمع أولاده. إلا أنه عجل عليه حتفه، ورغم بالتراب أنفه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وسبع مئة.
وكان قد سمع ببغداد من جماعة، وسمع بدمشق من شيخنا الذهبي، ومن الجزري.
عبد الله بن أحمد بن يوسف
ابن الحسن الفقيه الفاضل جلال الدين أبو اليمن الزرندي، بالزاي والراء المفتوحة وبعدها نون ساكنة، الشافعي.
سمع بالحرمين، وبحماة، وحلب، والساحل، وغير ذلك، وقرأ كثيراً، وله عدة محافيظ، وكتب المشتبه، وسمع أبا العباس الجزري، والمزي، والذهبي، وغيرهم من الموجودين.
وكان شاباً فيه يقظه، وطلب في كل لحظه، لا يفتر ولا يني، ولا يعدل عن الدأب ولا ينثني.
ولم يزل على حاله إلى أن قصف، ومحق بدره بعدما خسف.
وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأخير من شعبان سنة تسع وأربعين وسبع مئة. بالطاعون.
ومولده سنة عشرين وسبع مئة.
عبد الله بن أحمد بن محمد بن سليمان
القاضي تاج الدين بن القاضي الشيخ شهاب الدين بن غانم. تقدم ذكر والده رحمه الله تعالى.
كان شاباً غضا، طري البشرة بضا، كتب في ديوان الإنشاء بدمشق فأخجل الحدائق، وتعثرت وراء أشرعته البوارق، يكاد قلمه يفوت الطرف تسرعا، ويظن من يراه أنه لم يعمل أقلامه تبرعا، وكان الناس يتعجبون من كتابته البديعه، وحركة يده السريعه.
ولم يزل على حاله إلى أن عثرت قوائم جواده، وأصاب سهم المنية حبة فؤاده.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء سادس المحرم ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وتسعين وست مئة.
ووجدت بخطه أبياتاً كتبها للقاضي علاء الدين بن الأثير:
ومثلك إن أبدى الجميل أعاده ... وإن جاد بالمعروف عاد كمّلا
وما زلت تغني بالنّدى كلّ مقترٍ ... مقلّ فتولي العالمين تطوّلا
وما جاءك المسكين قطّ مؤمّلا ... جميلك إلاّ نال ما كان أمّلا
لك اشتهرت يا بن الأثير مآثرٌ ... بآثارها الحسنى ملأت بها الملا
وجودك قد عمّ الوجود وأهله ... فما منزلٌ من فيض فضلك قد خلا
وأنت فلم تبرح تغيث ولم تزل ... تعين ذوي الحاجات منك تفضّلا
فلا زلت محروس المقرّ مبلّغا ... أمانيك مشكور الندى دائم العلا
ورثاه والده بشعر كثير، ومنه ما كتبه تحت خطه بعد وفاته:
آها لكاتبها وما ... فعلت بأنملها الظراف
نوب المنون العارضا ... ت لكلّ حيٍّ بالتّلاف
أفرطت في تفريطهنّ ... بما أفتن من التلاق
تجتاح أرواح الورى ... بظواهرٍ منها خواف
لتعيدهم كمرامدٍ ... بالريح تنسفها السّواف
أجّجن نيران الجحيم ... أسىً بقلبي والشّغاف
وأطلن سقماّ ماله ... إلاّ علاج الموت شاف(1/415)
عبد الله بن أحمد
الوزير علم الدين بن القاضي تاج الدين بن زنبور.
كان كاتباً سعيد البدايه، متصرفاً له في التدبير عنايه، جمع له من الوظائف الجليلة ما لم يجمع لغيره، ودانت له الأيام حتى ذل الأُسود لعيره، وجمع له من الأموال ما تقصر عنه أمواج الأمواه، وتكل عن وصفه أفواج الكلم من الأفواه، واقتنى من الأملاك ما يحار له الأملاك، وحاز من الإنعام ما يقف السابح في ذكره إن عام، وأما المراكيب والمراكب والملابس التي تفخر بها الكواكب، فشيء زاد على المعهود مقداره، وضاقت في البر والبحر أقطاره.
وعاند أولاً وكاد يدركه العطب، ونهض من وهدة الخطب إلى ذروة المنبر من العز وخطب، ثم إنه استقل من يعانده، واستذل من يراوده، فوقع هو في هوة لا يصل من ينتاشه إلى قرارها، وتاه في موماة هلاك لا ينجيه الحذر من فرارها، فأخذ من مأمنه، وثار إليه الشر من مكمنه، فأصبح علمه منكسا، وقلمه مركسا، ونزلت به من الزمان بليه، وأمست حلية المنصب من ابن زنبور خليه، يطلب من ينصره فلا يجده، ويروم من يعضده فلا يعده ولا يعده، وتنوع له العذاب، وتفرع من الهوان ما أذله وأذاب، إلى أن تقطعت القلوب له رحمه، وجاءه الفرج فلم يخلص إليه من الزحمه، عادة من الزمان أجرى الناس عليها، وأجراهم بعد غاياتهم إليها.
ثم إنه جهز إلى قوص، مع حظه المنقوص، ففارق أربعة رق له فيها الحسدة: مناصبه ووطنه وماله وولده، فبات وزيراً سعيدا، وأصبح فقيراً في البلاد طريدا، فلا رغبة لعاقل في العليا، ومرحباً بإقبال هذه الدنيا، فقد:
تفانى الرجال على حبّها ... وما يحصلون على طائل
ولم يزل بقوص، والذل يغور به ويغوص، إلى أن اندفع إلى القبر واندفن، وخرج من دنياه وما معه غير الكفن.
وتوفي بقوص رحمه الله تعالى في ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
أول ما علمته من أمره أن القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص استخدمه كاتب الإصطبلات بعد أولاد الجيعان في أواخر أيام الملك الناصر محمد، وبقي القاضي علم الدين على هذه الوظيفة إلى أن خرج القاضي علم الدين بن القطب من مصر إلى دمشق، فخلت عنه وظيفة استيفاء الصحبة، وخرج إلى حلب وكشف القلاع، وحصل أموالاً. وبقي على ذلك إلى أن أمسك جمال الكفاة في واقعته الأخيرة، ومات تحت العقوبة، فنقل القاضي موفق الدين إلى نظر الخاص، فبقي قليلاً، وطلب الإعفاء فأعفوه، وتولى علم الدين بن زنبور الخاص، وأضيف إليه من الجيش بعد القاضي أمين الدين، ولم يزل على ذلك إلى أن أمسك الأمير سيف الدين منجك الوزير، فأضيفت الوزارة إلى ابن زنبور، وهذا أمر ما اتفق لغيره أبداً، ولا سمعنا به وإنما كان الجيش والخاص مع جمال الكفاة، وهذه الوظائف الثلاث، هي عبارة عن الدولة إلا كتابة السر، فعلم الدين بن زنبور، أول من جمع له هذه الوظائف.
وبقي على ذلك إلى أن خرج السلطان الملك الصالح صالح إلى الشام في واقعة بيبغاروس، فحضر معه إلى دمشق وأظهر في دمشق عظمة زائدة، وروع الكتاب ومباشري الأوقاف ولكنه لم يضرب أحداً، ولا كشف رأسه، وتوجه مع السلطان عائداً إلى مصر، في أوائل ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة. ولما وصل عمل السلطان سماطا عظيماً، وخلع فيه على الأمراء كبارهم وصغارهم، وكان تشريف الأمير صرغتمش ناقصاً عن غيره، وكان في قلبه من الوزير، فدخل إلى الأمير سيف الدين طاز وأراه تشريفه، وقال: هكذا يكون تشريفي، واتفق معه على إمساك ابن زنبور. وخرج من عنده وطلبه وأهانه وضربه ورسم عليه وجد في ضربه، ومصادرته، فأخذ منه من الذهب والفضة والقماش والأصناف والكراع والأملاك ما يزيد على الحد، ويتوهم الناقل لذلك أنه ما يصدق في ذلك، ويستحيي العاقل من ذكره. وبقي ف العقوبة زماناً، وكان الأمير سيف الدين شيخو يعتني به في الباطن، فشفع فيه وخلصه وجهزه إلى قوص فأقام بها إلى أن مات في التاريخ المذكور، وقيل: إنه سم، وقيل: نهشه ثعبان، والله أعلم.
وتولى الوزارة بعده القاضي موفق الدين وتولى الخاص القاضي بدر الدين كاتب يلبغا، وتولى القاضي تاج الدين أحمد بن أمين الملك نظر الجيش.(1/416)
وبلغنا أنه لما أعيد الملك الناصر حسن إلى الملك أعيدت المصادرة على من بقي من ذوي قرابة ابن زنبور، وأنه أخذ له، ومنهم جملة من المال، وأما ما أخذ منه في المصادرة في حياته فنقلت من خط الشيخ بدر الدين الحمصي من ورقة بخطه، على ما أملاه القاضي شمس الدين محمد البهنسي: أواني ذهب وفضة ستون قنطاراً. جوهر ستون رطلاً. لولو أردبان. ذهب مصكوك مئتا ألف وأربعة آلاف دينار، ضمن صندوق، ستة آلاف حياصة، ضمن صناديق زركش: ستة آلاف كلوته، وذخائر عدة، قماش بدنه: ألفان وست مئة فرجية. بسط: ستة آلاف. صنجة دراهم: خمسون ألف درهم. شاشات: ثلاث مئة شاش. دواب عاملة: ستة آلاف. حلابة: ستة آلاف. معاصر سكر: خمس وعشرون معصرة. وخيل وبغال: ألف، دراهم ثلاثة أرداب. إقطاعات سبع، كل إقطاع: خمسة وعشرون ألف درهم. عبيد: مئة. خدم: ستون. جواري: سبع مئة. أملاك القيمة عنها. ثلاث مئة ألف دينار. مراكب: سبع مئة. رخام القيمة عنه: مئتا ألف درهم. نحاس: قيمته أربعة آلاف دينار. سروج وبدلات خمس مئة. مخازن ومتاجر: أربع مئة ألف دينار. نطوع: سبعة آلاف. دواب: خمس مئة. بساتين: مئتان. سواقي: ألف وأربع مئة.
عبد الله بن أحمد بن محمد
ابن محمد بن نصر الله الشيخ فخر الدين بن الشيخ الإمام تاج الدين ابن المغيزل الحموي شيخ الشيوخ بحماة.
كان رجلاً مباركاً، ولي المشيخة بعد والده وأقام فيها أكثر من أربعين سنةً. ووليها بعده قاضي القضاة شرف الدين البارزي.
سمع بقراءة شيخنا البرزالي بحماة على والده سنة خمس وثمانين وست مئة. وكان منقطعاً يصوم دائماً ويتعبد، ولم يكن قد تأخر في بني المغيزل مثله.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشري شهر رمضان ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
عبد الله بن أحمد بن عبد الحميد
ابن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روى لنا عن إبراهيم بن خليل وغيره، وكان فقيهاً كتب الكثير وسمع وكتب الطباق: وصار نقيباً للقاضي الحنبلي قبل موته بشهر.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
وله حضور على خطيب مردا، وهو في ثاني سنة من عمره، وسمع من جده وعم والده الفقيه محمد بن عبد الهادي وابن عبد الدائم وغيرهم.
عبد الله بن أحمد بن علي
ابن المظفر - وسيأتي تمام نسبه في ترجمة ولده القاضي فخر الدين محمد - القاضي الصدر الكبير الرئيس بهاء الدين ابن الحلي ناظر الجيوش بالديار المصرية.
كان من أعيان المصريين وصدورهم ونجوم مباشريهم وبدورهم، قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن النجيب عبد اللطيف الحراني.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الجمعة عاشر شوال سنة تسع وسبع مئة. ودفن بالقرافة. وتولى الوظيفة بعده القاضي فخر الدين كاتب المماليك.
عبد الله بن أبي بكر بن عرام
بفتح العين المهملة وتشديد الراء وبعدها ألف وميم: الأسواني المحتد، الإسكندراني الدار والوفاة.
سمع الحديث، وصحب الشيخ أبا العباس المرسي، وأمه بنت الشيخ الشاذلي.
كان يقرئ النحو بإسكندريه، ويألف به كل ذي نفس سنيه، وأفعال سريه، فأفات الجهل وأفاد العلم، وساد الناس لما ساسهم بالحلم، وكان يذكر عنه كرامات، ويشاهد له في الصلاح مقامات.
ولم يزل على حاله إلى أن عرى الموت ابن عرام حياته، وقدر له بالسوء بياته.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده بدمنهور سنة أربع وخمسين وست مئة.
عبد الله بن تاج الرئاسة
الصاحب الرئيس الوزير الكبير أمين الملك وزير الديار المصرية والشامية.
لما استسلم الجاشنكير الأمير ركن الدين بيبرس النصارى اختبأ الصاحب أمين الدين هو والصاحب شمس الدين غبريال تقدير شهر، ولما طال الأمر عليهما ظهرا وأسلما. وهو ابن أخت السديد الأعز المذكور المشهور في الدولة الظاهرية المنصورية، وكان خاله مستوفياً، وبه تخرج، وعليه تدرب، ولما مات رتب هو مكانه ومال في الاستيفاء، السعادة الزائدة والدنيا العريضة، وزر بعد ذلك ثلاث مرات، وهو يتأسف على وظيفة الاستيفاء.(1/417)
وكان رئيساً كبيرا، كاتباً منفذاً وزيرا، قد درب الأمور وباشرها، ورأى المناصب الجليلة وعاش بها وعاشرها، ولم أر من يكتب أسرع منه ولا أقوى، ولا أعرف بالمصطلح في الدولة ولا أحوز لمعرفة عوائدها ولا أحوى، يكون مرتفقاً على مدوره، والورقة في يده اليسرى مهوره، فيأخذ القلم ويكتب ما يريده ويلقيه أسرع من البرق، وأعجل من الشمس التي يكون ضؤوها في الغرب وهي في الشرق، وكان إذا وضع القلم في أول السطر وكتبه لا يرفعه إلى آخره قدرةً على الكتابة، كأنما يمد بسبب.
وكان مع جلالة منصبه كثير الأدب، زائد التواضع إذا أمر أو نهى أو طلب، وكتب بخطه المليح ربعة مليحه، واعتنى بأمرها فجاءت جيدة صحيحه، وكان يتغالى في أمداح النبي صلى الله عليه وسلم، ويكتبها بخطه ممن أنشدها أو تكلم.
ولم يزل بدمشق على نظر الدواوين إلى أن طلب إلى مصر ليعاد إلى الوزاره، فتوجه إليها، ولم يصل إلا وأمره قد نقصه من حسن العباره، فأقام في بيته بطالا إلى أن قبض عليه، وأخذ روحه قبل ما لديه.
وتوفي رحمه الله تحت المصادرة والعقاب، وطلب الأموال منه بلا حساب، وذلك في سنة أربعين وسبع مئة.
وكان قد ولي الوزارة عوضاً عن الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب بالديار المصرية في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ثم عزل منها وتولى الوزارة بعده الأمير بدر الدين بن التركماني في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وصودر وأفرج عنه، ثم إنه ولي الوزارة ثانياً، فعمل عليه القاضي كريم الدين الكبير وفخر الدين وأخرجاه إلى طرابلس ناظراً بمعلوم الوزارة في مصر، فوصل إليها في شهر ربيع الأول سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وأقام بها إلى أن حج فيما أظن واستعفى من المباشرة، وسأل الإقامة في القدس يعبد الله تعالى هناك، فأجيب إلى ذلك، فتوجه إليها في المحرم سنة عشرين وسبع مئة، وله راتب يكفيه، في كل مرة يعزل شاماً ومصراً.
ولم يزل بالقدس مقيماً، إلى أن أمسك القاضي كريم الدين الكبير في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، فطلب إلى مصر على البريد، ولما وصل في خامس عشري ربيع الآخر ولاه السلطان الوزارة مرة ثالثة.
أخبرني الصاحب أمين الدين رحمه الله تعالى قال: لو علمت أنه بقي في الدنيا وظيفة يقال لها نظر خاص ما خرجت من القدس، قلت: لم ذاك يا مولانا الصاحب ؟ قال: لأن ناظر الخاص يدخل إلى السلطان بكرة النهار فيتحدث معه بكل ما يريد أن يطلقه وينعم به على خواصه وجواريه ومن يختاره، ويدخل بعده ناظر الجيش فيتحدث معه في إقطاعات الأمراء والجند بالديار المصرية والشامية من الزيادات والنقصان والإفراجات، ويدخل كاتب السر فيقرأ البريد عليه وفيه من الولايات والعزل جميع ما بالشام، وأدخل أنا بعد ذلك، فيقول: اخرج احمل لناظر الخاص كذا وكذا فأنا فلاح لذلك المولى، وليس لي مع السلطان حديث إلا في فندق الجبن، دار التفاح، صناعة التمر، جهات القاهرة ومصر، فعلمت صحة ما قاله.
وأقام في الوزارة إلى أن كثر الطلب عليه، فدخل إلى السلطان وقال: يا خوند ما يصلح للوزارة إلا واحد من مماليك مولانا السلطان يكون أمير مئة مقدم ألف، واتفقا على الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، فقال له السلطان. اخرج نفذ أشغالك إلى آخر النهار وانزل إلى بيتك واسترح، وأعلم الناس أن الوزير فلان. فخرج ونفذ الأشغال، وكتب على التواقيع، وأطلق ورتب إلى آخر النهار، ونزل آخر النهار إلى بيته بالمشاعل والفوانيس على عادة الوزير، والنظار والمستوفون والمنشدون قدامه، ولما نزل على باب بيته قال: يا جماعة مساكم الله بالخير، ووزيركم غداً علاء الدين مغلطاي الجمالي، وكان ذلك عزلاً لم يعزله وزير غيره في الدولة التركية، وذلك يوم الخميس ثامن شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبع مئة.(1/418)
ثم لازم بيته يأكل مرتبه إلى أن عمل الاستيمار في أيام الجمالي، ووفر فيه جماعة، فطلب هو من السلطان أن يتصدق عليه بوظيفة، فقال السلطان تكون ناظر الدولة كبيراً مع الوزير، فباشر النظر في شوال سنة ثمان وعشرين وسبع مئة هو والقاضي مجد الدين بن لفيتة أربعين يوماً فكان حمله على الجميع ثقيلاً. فاجتمع الكتاب بأجمعهم عليه، وقاموا كتفاً واحدة، فما كان إلا أن كان يوماً وهو قاعد في باب الوزير لخدمة العصر، وإذا خادم صغير خرج من القصر وجاء إلى باب الوزير وأغلق دواته وقال: يا مولانا بسم الله الزم بيتك، فلزم بيته.
ولما أمسك الصاحب شمس الدين غبريال وجاء السلطان من الحجاز وطلب غبريال إلى مصر رسم السلطان للصاحب أمين الدين بمكانه ناظر النظار بدمشق، وذلك في صفر سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، فأقام بها بعمل الوزارة إلى أن أمسك السلطان النشو ناظر الخاص في سنة أربعين وسبع مئة، طلب الصاحب أمين الدين إلى مصر ليوليه الوزارة، فعمل الكتاب عليه وسعوا في أمره إلى أن انثنى عزمه عنه، فأقام في بيته قليلاً، ثم أمسك هو ووالده القاضي تاج الدين ناظر الدولة والقاضي كريم الدين مستوفي الصحبة، وصودروا، وبسط عليهم العذاب إلى أ توفي هو رحمه الله تعالى تحت العقاب في سنة أربعين وسبع مئة.
وكان الصاحب أمين الدين كثير التواضع والأدب مع جميع الناس كبارهم وصغارهم، وكان قد أسن وكبر، ولا يدخل عليه أحد إلا يقوم له، ويحكى عقيب ذلك أن خاله كان إذا جاء إلى قوم يقول بالله لا تقوموا فإن هذا دين يشق علي وفاؤه.
ولما حضر إلى دمشق أحبه الأمير سيف الدين تنكز أخيراً محبة كبيرة، وكان يثني على آدابه وحشمته.
ولما عمل نظر الدولة مع الجمالي كنت بالديار المصرية فطلبني وقال: أشتهي أن تكتب عني المكاتبات والأجوبة، ورتب لي عليه شيئاً، وكنت أبيت معه وأصبح وأنا في جامكيته وجرايته وقماشه، فيعاملني بآداب كثيرة وحشمة زائدة، رحمه الله تعالى. إذا جاءته قصة أو كتاب قلب ذاك وكتب في ظهره: مولانا يتصدق ويكتب بكيت وكيت.
ولما رسم له بنظر النظار بدمشق كنت إذ ذاك في ديوان الإنشاء بالديار المصرية، وكتبت له توقيعاً شريفاً بذلك ونسخته: الحمد لله الذي جعل ولي أيامنا الزاهرة أمينا وأحله ضمائر من ضمائرنا الظاهرة مكانا أينما توجه وجده مكينا، وخصه بالإخلاص لدولتنا القاهرة فهو يقيناً يقينا، وعضد بتدبيره ممالكنا الشريفة فكان على نيل الأمل الذي لا يمين يمينا، وفجر خلاله نهراً أصبح على نيل السعود معيناً معينا، وزين به آفاق المعالي فما دجا أمر إلا وكان فكره صبحاً مبينا، وجمل به الرتب الفاخرة، فكم قلد جيدها عقداً نفيسا، ورصع في تاجها دراً ثمينا، وأعانه على ما يتولاه فهو الأسد الأسد الذي اتخذ الأقلام عرينا.
نحمده على نعمه التي خصتنا بولي تتجمل به الدول، وتغنى الممالك بتدبيره عن النصار والخول، وتحسد أيامنا الشريفة عليه أيام من مضى من الملوك الأول، وتحل السعود حيث حل إذ لم يكن لها عنه حول.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نستمطر بها صوب الصواب، ونرفل منها في ثوب الثواب، وندخر منها حاصلاً ليوم الحساب، ونعتد برها واصلاً ليوم الفصل والمآب.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده الصادق الأمين، ورسوله الذي لم يكن على الغيب بضنين، وحبيبه الذي فضل الملائكة المقربين، ونجيه الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى حجة على الملحدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين صحبوا ووزروا، وأيدوا حزبه ونصروا، وبذلوا في نصحه ما قدروا، وعدلوا فيما نهوا وأمروا، صلاةً لهم تكون لهم هدىً ونوراً إذا حشروا، ويضوع بها عرفهم في الغرف ويطيب نشرهم إذا نشروا، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
وبعد:(1/419)
فإن أشرف الكواكب أبعدها دارا، وأجلها سراً وأقلها سرارا، وأدناها مبارا وأعلاها منارا، وأطيب الجنات جناباً ما طاب أرجاً وثمارا، وفجر خلاله كل نهر تروع حصاه حالية العذارى، ورنحت معاطف غضونه سلافة النسيم فتراها سكارى، وتمد ظلال الغصون، فتخال أنها على وجنات الأزهار تدب عذارا. وكانت دمشق المحروسة لها هذه الصفات، وعلى صفاها تهب نسمات هذه السمات، لم يتصف غيرها بهذه الصفة، ولا اتفق أولو الألباب إلا على محاسنها المختلفة، فهي البقعة التي يطرب لأوصاف جمالها الجماد، والبلد الذي ذهب المفسرون إلى أنها إرم ذات العماد، وهي في الدنيا أنموذج الجنة التي وعد بها المتقون، ومثال النعيم للذين عند ربهم يرزقون، وهي زهرة ملكنا، ودرة سلكنا، وقد خلت هذه المدة ممن يراعي مصالح أحوالها، ويرعى نجوم أموالها، ويدبر أمر مملكتها أجمل تدبير، ويحمي حوزتها ويحاشيها من التدمير، فيسم منها غفلا، ويحلي عطلا، ويملأ خزائنها خيراً يجلى، إذا ملأنا ساحتها خيلاً ورجلا. تعين أن ننتدب لها من خبرناه بعداً وقربا، وهززناه مثقفاً لدناً وسللناه عضبا، وخبأناه في خزائن فكرنا فكان أشرف ما يدخر وأعز ما يخبا، كم نهى في الأيام وأمر، وكم شد أزراً لما وزر، وكم غنيت به أيامنا عن الشمس، وليالينا عن القمر، وكم رفعنا راية مجد فتلقاها عرابة فضله بيمين الظفر، وكم علا ذرى رتب تعز على الكواكب الثابتة، فضلاً عمن يتنقل في المباشرات من البشر، وكم كانت الأموال جمادى فأعادها ربيعاً غرد به طائر الإقبال في الجهات وصفر.
وكان المجلس العالي القضائي الوزيري الصاحبي الأميني هو معنى هذه الإشاره، وشمس هذه الهالة وبدر هذه الداره، نزل من العلياء في الصميم، وفخر بأقلامه التي هي سمر الرماح كما فخرت بقوسها تميم، وتحفظت الموال في دفاتره التي يوشيها فأوت إلى الكهف والرقيم، وقال لسان قلمه " اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " ، و:
عقم الزمان بأن يجيء بمثله ... إنّ الزمان بمثله لعقيم
وتشبه به أقوام فبانوا وبادوا، وقام منهم عباد العباد، فلما قام عبد الله يدعوه كادوا.
أردنا أن ينال الشام فضله، كما نالته مصر فما يساهم فيه سواهما ولا يقول لسان الملك لغيره:
حللت بهذا حلّة بعد حلّة ... بهذا فطاب الواديان كلاهما
فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أعلاه الله وشرفه، أن يفوض إليه تدبير الممالك الشريفة بالشام المحروس ونظر الخواص الشريفة والأوقاف المبرورة على عادة من تقدمه في ذلك وبمعلومه الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت، وهو في الشهر مبلغ أربعة آلاف وست مئة وثلاثة وسبعين. تفصيله عن: نظر المملكة الشريفة بالشام المحروس: أربعة آلاف ومئة وثلاثة وثلاثين، مبلغ ألفان وسبع مئة وثلاثة وثلاثين: ثمن لحم وتوابل، ألف وثلاث مئة وخمسون، خارجاً عما باسم كتابة النظر، وهو في الشهر قمح غرارة ونصف، دراهم: مئة وخمسون. عن نظر الخاص الشريف، غلات عن الوظيفتين: تسع وعشرون غرارة، مبلغ وثمن لحم وتوابل: ثلاثة أرطال بالدمشقي: خمس مئة وأربعون درهماً، تفصيله: قمح تسع غرائر، شعير عشرون غرارة، أصناف المشاهرة: بالوزن الدمشقي، سكر بياض اثنان وعشرون رطلاً ونصف، حطب: تسعة قناطير. وفي اليوم بالدمشقي، خبز: خمسة عشر رطلاً، شمع: أوقية ونصف، ماء ورد: أوقية ونصف، صابون: أوقية ونصف، زيت طيب: نصف رطل، والكسوة والتوسعة والأضحية والأتبان على العادة لمن تقدمه في ذلك.(1/420)
فليتلق هذه الولاية بالعزم الذي نعهده، والحزم الذي شاهدناه ونشهده، والتدبير الذي يعترف له الصواب ولا يجحده، حتى تثمر الأموال في ورق الحساب، وتزيد نمواً وسمواً فتفوق الأمواج في البحار وتفوت المطر في السحاب. مع رفق يكون في شدته، ولين يزيد مضاء حدته، وعدل يصون مهلة مدته، فالعدل يعمر، والجور يدمر ولا يثمر، بحيث إن الحقوق تصل إلى أربابها، والمعاليم تطلع بدورها كاملة في كل هلال على أصحابها، والرسوم لا تزاد على الطاقة في بابها، والرعايا يجنون ثمن العدل متشابها، وإذا أنعمنا على بعض أوليائنا بجمل فلا تكدر بأن تؤخر، وإذا استدعيناه إلى أبوابنا بمهم فليكن الإسراع إليه يخجل البرق المتألق في السحاب المسخر فما أردناك إلا أنك سهم خرج من كنانة، وشهم لا يثني إلى الباطل عيانه ولا عنانه، فاشكر هذه النعم على منائحها، وشنف الأسماع بمدائحها، متحققاً أن في النقل بلوغ العز والأمل، وأنه:
لو كان في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل
فاستصحب الفرح والجذل بدل الفكر والجدل، وسر على بركة آرائنا الشريفة وقل: وفي بلاد من أختها بدل، واختر ما اختارته لك سعادتنا المؤبدة المؤيدة فطرفها بالذكاء مكتحل:
إن السعادة فيما أنت فاعله ... وفّقت مرتحلاً أو غير مرتحل
فما آثرنا بتوجهك إلى الشام إلا ليأتيك المجد من هنا وهنا، ولأنك إذا كنت معنا في المعنى فما غبت في الصورة عنا، وابسط أملك " إنك اليوم لدينا مكينٌ أمين " ، ونزه نفسك فقد أويت " إلى ربوةٍ ذات قرارٍ ومعين " ، والوصايا كثيرة وأنت ابن بجدتها علماً ومعرفة، وفارس نجدتها الذي لا يقدم على أمر حتى يعرف مصرفه، فما نحتاج أن نرشدك منها إلى علم، ولا أن نشير إليك فيها بأنملة قلم، وتقوى الله تعالى هي العروة الوثقى، والكعبة التي من يطوف بها " فلا يضلّ ولا يشقى " ، فعض بالناجذ عليها وضم يديك على معطفيها، والله يتولى ولايتك، ويعين دربتك في الأمور وعنايتك، والخط الشريف أعلاه الله تعالى وشرفه أعلاه، حجة بثبوته والعمل بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وأنشدني لنفسه إجازة ما كتبه شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود عندما ولي الوزارة الأخيرة سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة:
تبلّجت الدّنيا وأشرق نورها ... وعاودها بعد النّفور سرورها
وماست بأعطاف الممالك نفحةٌ ... من العزّ عمّ الخلق طيباً مرورها
وردّت على دست الوزارة بهجةٌ ... إذا لم تكنها الشمس فهي نظيرها
فأربت على ماضي الدّهور لكونها ... أُعيدت إلى المولى الوزير أُمورها
وصاحبها حكماً فكلّ محكّمٍ ... يباشرها من عنده يستعيرها
وما رسمت من بعده باسم غيره ... فساوى الورود الآن منها صدورها
وهل يطرق الآمال أرجاء ربّته ... على مفرق الشّعرى العبور عبورها
أمين الدّنا والدين والملك والعلى ... ومعلي سنا آرائها ومشيرها
فأشرقت الأقطار بعد قطوبها ... بمرآه وافتّرت سروراً ثغورها
ولم لا ترى تلك الثغور بواسماً ... وآراؤه حول الممالك سورها
ولم يدر إن أثرى ثرى الملك بالنّدى ... أيمناه أحيت تربها أم بحورها
وقد كانت الآمال ماتت فردّها ... به نشر بشرى كان فيها نشورها
ولو نذرت من قبلها رتبةٌ علت ... لحقّ عليها أن توفّى نذورها
يلوح بأجياد التقاليد وصفه ... فتشرق بالدرّ الثمين سطورها
وتبدو معاني نفسه في مدادها ... كما تتبدّى في الليالي بدورها
إذا ما سطت أقلامه وضراغم ... لها الطّرس غابٌ والصّرير زئيرها
وإن أجرت الأرزاق فهي غمائم ... يسير إلى الآفاق منها مطيرها
وإن دبّحت طرساً فأبهج روضه ... يناظر زهر النيّرات نضيرها
وإن سجعت في مهرقٍ فحمائم ... لها الكتب دوحٌ والقلوب طيورها(1/421)
أتانا به لطف الإله بخلقه ... وكلّ امرئ هادي العيون قريرها
إذا أجدبت أرضٌ وغاض معينها ... فمن راحتيه روضها وغديرها
فأخصب واديها وأمرع ربعها ... وأُصلح غاويها وأثرى فقيرها
بحجته معنى الجلالة سافرٌ ... وأضفى ستور الكاملين سفورها
ويدنيه منّا فضله في علوّه ... كشمس الضحى تعلو ويقرب نورها
وقد لحظ الأعمال أوّل نظرةٍ ... تساوى لديه نأيها وحضورها
ووافت حمول المال من كلّ وجهة ... ثقالا هواديها بطيّا مسيرها
ولم يك عن عسفٍ ولكن أثارها ... وقد خفيت من كل قطرٍ خبيرها
فأضحت بيوت المال ملأى برأيه ... تغصّ ولا يخشى انتقاصاً غريرها
وقد أخصبت منه الخزائن فاغتدت ... كروضة حسن والدلال زهورها
ولو لم تكن قد أصبحت وهي جنّة ... به ما علا الأبرار منها حريرها
أيا مالك النّعمى الذي لنواله ... مناهل لم يكدر لديّ نميرها
لقد كنت أخشى أن أموت وما أتى ... بما كنت أرجو من علاك بشيرها
وقد كنت بالعقبى من الله واثقا ... وإن أبطأت أيامها وشهورها
وإنك ما استنصرت إلاّ بربك الع ... ليّ ولم ينس العباد نصيرها
ومن يكن الرحمن حافظ نفسه ... فكيد أعادي نفسه لا يضيرها
فدونكها يصفي لك العزّ وردها ... ويضفي جبير السّعد منك جبورها
فقد يئست منها وقد آل أمرها ... إليك نفوس زال عنها غرورها
فأكرم بملكٍ أنت منه أمينه ... ودولة ملك أنت فيها وزيرها
وعش وابق ما غنّى الحمام بدوحه ... وبارى هديل الورق منها هديرها
يقبل الأرض التي يود لو فاز بلثم أعتابها، أو كحل ناظره الذي قذي بالبعد عنها بلثم ترابها، ويتمنى لو قام لديها بفرض التهنئة منشدا، أو مثل بها بين الأولياء منبهاً لهم على تكرار السجود لله تعالى ومرشدا. وينهي ورود البشرى التي كانت الآمال تترقب ورودها، والتهاني التي كانت الأماني تتنجز من الدهر وعودها، والنعم التي كانت الأولياء تخشى أن تجود بأنفسها قبل أن ترى وجودها، فالحمد لله على هذه المنن التي أجابت من سأل، وتركت المملوك وأمثاله من الأولياء يصحبون الدنيا بلا أمل، وأعادت على النواظر نضارة نورها وإضاءة نورها، وردت إلى القلوب ما بعد من آمالها أو نفر من سرورها، وفسحت للأولياء في أرجاء الرجاء مجالا، وأجرت سوابق الإحسان في مضمار المعنى فغدت لها المحامد غررا، والأثنية المشرقة أحجالا، ثم الحمد لله على هذه المنة التي لا يقدر الشكر قدرها، ولا يدرك سرار الانتهاء بدرها، ولا تزال الأقدار تعاضد نهيها وأمرها، والسعادة ترفه بيمن خياطتها الممالك بيض جيوشها المرهفة وسمرها، والمملوك فقد اجتنى ثمر دعائه الصالح، وأخذ من هذه التهنئة حظ المقيم الملازم بالأبواب العالية مع أنه النائي النازح، والله يجعل هذه المنة فاتحة ما يستقبل من أمثالها، ويمتع الأولياء كافة بما أنجزت لها الأيام من وعود آمالها بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
عبد الله بن جعفر بن علي بن صالح
محيي الدين الأسدي الكوفي النحوي الحنفي، ابن الصباغ.
أجاز له رضي الدين الصاغاني، والموفق الكواشي، وبالعامة من ابن الخير، وألقى الكشاف مرات دروسا، وجلا من آدابه، على الطلبة عروسا، وسقى من فضائله المتنوعة غروسا، وكانت له جلالة وأبوة وأصالة، عرض عليه تدريس المستنصرية فأبى، وصار له بهذا الإعراض حديث ونبا، وكانت فضائله موصوفه، وهو في ذلك الزمان فاضل الكوفه.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الموت بابن الصباغ صبا، وصبت الأحزان عليه سحائب الدموع صبا.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وثلاثين وست مئة.
كان فيه عبادة وزهادة، وكتب عنه عفيف الدين المطري، وأجاز للشيخ تقي الدين بن رافع، ونظم الفرائض.
عبد الله بن جعفر(1/422)
عفيف الدين التهامي أحد كتاب الإنشاء للملك المؤيد صاحب اليمن، كان دينا حسن السيره، طاهر السريره.
نقلت من خط الشيخ تاج الدين عبد الباقي اليمني، قال: كان عفيف الدين يملي على أربعة قريضاً من فيه، على غرض طالبه ومستفتيه، من غير لعثمه، ولا فأفأة ولا تمتمه، في أوزان مختلفه، وقواف غير مؤتلفه، وبلغ السبعين، وهو مشتمل برداء الدين.
وقال: توفي سنة أربع عشرة وسبع مئة ببلده من أعمال الجثة.
قال يمدح المؤيد وقد سار إلى عدن من تعز، وعيد بها:
أعلمت من قاد الجبال خيولا ... وأفاض من لمع السيوف سيولا
وأماج بحراً من دلاصٍ سابحٍ ... جرّت أسود الغاب منه ذيولا
ومن القسىّ أهلةً ما تنقضى ... منها الخضاب عن النصول نصولا
وتزاحمت سمر القنا فتعانقت ... قرباً كما يلقى الخليل خليلا
فالغيث لا يلقى الطريق إلى الثرى ... والريح فيها لا تطيق دخولا
سحبٌ سرت فيها السيوف بوارقاً ... وتجاوبت فيها الرعود صهيلا
طلعت أسنّتها نجوماً في السما ... فتبادرت عنها النجوم أُفولا
تركت ديار الملحدين طلولا ... مما تبيح بها دماً مطلولا
والأرض ترجف تحتها من أفكلٍ ... والجوّ يحسب شلوه مأكولا
حطمت جحافلها الجحافل حطمةً ... تدع الحمام مع القتيل قتيلا
طلبوا الفرار فمّد أشطان القنا ... فأعاد معقلهم بها معقولا
عرفوا الذي جهلوا فكلّ غضنفرٍ ... في النّاس عاد نعامة إجفيلا
ملك إذا هاجت هوائج بأسه ... جعل العزيز من الملوك ذليلا
بحر إلى بحر يسير بمثله ... والملح أحقر أن يكون مثيلا
وقال: وقد أمر المؤيد أن تطرح دراهم في بركة صافية، وأن ينزل الخدام والحاضرون للغوص عليها:
أرى بركة قد طما ماؤها ... وفي قعرها ورقٌ منتثر
فيا ملك الأرض هذي السّما ... وهذي النجوم وأنت القمر
وقال: وقد أمر المؤيد أن يقطع الندامى عناقيد عنب، فقطع عفيف الدين عنقوداً وحمله إلى السلطان وهو يقول:
جاء ابن جعفر حاملاً بيمينه ... عنقود كرم وهو من نعماكا
يقضي الزمان بأنّ نصرك عاجلٌ ... يأتي إليك برأس من عاداكا
وقال: وقد حضر خروف المغني من الشام سنة ثلاثين وسبع مئة، وغنى بين يدي السلطان:
إن أيامكم لأمنٌ ويمنٌ ... وأمانٌ في كل بدوٍ وحضر
هيبةٌ منك صالحت بين سرحا ... نٍ وسنحلٍ وبين صقر وكدري
ومن المعجزات أنّ خروفاً ... يرفع الصوت وهو عند الهزبر
قلت: كذا نقلته من خط الشيخ تاج الدين اليمني قوله: أمن ويمن وأمان، والأمن والأمان واحد.
عبد الله بن أبي جمرة
خطيب غرناطة المالكي.
روى عن أبي الربيع بن سالم وأقام مدة بسبته لا يخرج عنها جمعته ولا سبته.
ثم إنه ولي خطابة غرناطه، وغدق به صاحبها ذاك وناطه، وكان ذلك في آخر عمره ونهاية أمره.
خطب يوم جمعة وسقط ميتاً من أعلى المنبر، وكان ذلك آية لمن عق ومن بر، وذلك بعد سنة عشر وسبع مئة.
عبد الله بن حسن
ابن عبد الله بن عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور، الشيخ الفقيه الإمام المحدث اللغوي المفتي قاضي القضاة شرف الدين أبو محمد بن العلامة شرف الدين بن الحافظ جمال الدين بن الحافظ تقي الدين الدمشقي الصالحي الحنبلي.
سمع حضورا سنة ثمان وأربعين، وحدث عن مكي بن علان، والعراقي، والكفرطابي، ومحمد بن سعد، سمع منه صحيفة همام والعماد بن عبد الهادي، واليلداني، وخطيب مردا، وعلي بن يوسف الصوري، وإبراهيم بن خليل، وأبي المظفر سبط الجوزي، وطائفة. وحدث بصحيح مسلم عن ابن عبد الهادي، وطلب قليلا بنفسه، وقرأ على ابن عبد الدائم والشيخ شمس الدين، روى الكثير وتفرد، وكان يمل ولا يحتمل تطويل المحدثين، تفقه وبرع في مذهبه، وأفتى ودرس في حال تقلبه.(1/423)
وكان خيراً وقورا، ساكناً صبورا، حسن السمت، لا يرى في حاله عوج ولا أمت، لين العريكه، من جالسه صار في أمره وما هو فيه شريكه، تقلد الحكم بعد عز الدين المقدسي فما غير زيه، ولا حول نديه، ولا ركب بغلة، ولا حضر المواكب ولا مشى في حفلة، بل كان يركب حماره، وجعل ذلك دليلاً وأماره.
وكان طويل القامة رقيقا، دقيق الصوت رفيقا. مليح الذهن حسن المحاوره، متع المحاضره، ولم يكن محذلقاً في أموره، ولم يكن عنده فطنة في غيبته ولا في حضوره.
ولم يزل على حاله إلى أن جاءه الأجل فبغته، ولم يخطه الذي وصفه ونعته، حكم بالبلد إلى العصر، وطلع إلى الجبل ففاجأه الموت وهو يتوضأ للمغرب سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
وكانت ولايته سنة وشهرين.
ومولده سنة ست وأربعين وست مئة.
وأجاز لي رحمه الله تعالى في سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وكتب عنه بإذنه عبد الله بن أحمد بن المحب.
وكان وصول تقليده بالقضاء إلى دمشق يوم الثلاثاء سابع عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
عبد الله بن الحسين
ابن أبي التائب بن أبي العيش، الشيخ المسند المعمر الشاهد، بدر الدين أبو محمد الأنصاري.
سمع مع أخيه إسماعيل كثيراً من مكي بن علان، والرشيد العراقي، وابن النور البلخي، وعثمان بن خطيب القرافة، وإبراهيم بن خليل، وعبد الله بن الخشوعي، وعدة. وروى الكثير على ضعفه، وتفرد بالرواية، ولو طلب الإعفاء من الطلبة لم تعفه، وعمر دهرا، وخاض من العمر المديد نهرا، وكان لا يصدق في مولده في آخر عمره، ويزعم أنه تجاوز المئة، فما أصبره على جمره، ثم إنه شرع في الطلب على الروايه، وبان للناس منه الغوايه.
ولم يزل على حاله إلى أن نزل بابن أبي العيش الموت، وحضره مع كثرة التسميع الفوت.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين وست مئة.
وألحق مرة بخطه الوحش اسمه مع أخيه فيما لم يسمعه فما روى من ذلك كلمة واحدة، وأجاز لي بدمشق بخطه سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
عبد الله بن خطلبا
ابن عبد الله جمال الدين الغساني أحد مقدمي الحلقة بالقاهرة.
أخبرني العلامة أثير الدين من لفظه قال: مولده رابع عشر شعبان سنة سبع وعشرين وست مئة، وأنشدني: قال: أنشدني من لفظه لنفسه:
أستغفر الله من أشياء تخطر لي ... من ارتكاب دنيّاتٍ من العمل
ومن ملاحظتي طوراً مسارقةً ... وتراةً جهرة للفاتر المقل
من كلّ أحوى حوى رقّي ورقّ له ... قلبي وقد راق لي في وصفه غزلي
من أحسن الناس وصفا قد شغفت به ... وهو الذي حسنه العصيان حسّن لي
فالشمس تفخر إن قيست ببهجته ... والبدر منه وغصن البان في خجل
فجلّ جامع ما في الناس من حسن ... ومن على كلّ قلب الجمال ولي
عبد الله بن ريحان
ابن عبد الله، الشيخ جمال الدين التقوى القليوبي.
سمع من ابن المقير، والساوي، وابن الصابوني، وابن رواج، وابن الجميزي، وسبط السلفي، وغيرهم. وقرأ بنفسه على بعضهم، وكان يسكن بالمدرسة الكاملية بالقاهرة، وينادي بقيسارية التجار، وكان عسراً في التحديث.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: قرأت عليه جزء الصولي عن ابن رواج بجامع الحاكم.
وتوفي في نصف صفر سنة عشر وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين أو ثلاث وثلاثين وست مئة بالقاهرة.
عبد الله بن سعيد الدولة
الوزير موفق الدين.
أول ما علمته من أمره أنه كان رحمه الله ناظر البيوت في آخر أيام الملك الناصر محمد، ثم إنه بعد ذلك تولى نظر الدولة، وأمسك مع القاضي جمال الدين جمال الكفاة، ونجاه الله من تلك الفتنة وكانت واقعة عجيبة، وصودر فيها جماعة، ومات آخرون وهلك جماعة من العقوبة.(1/424)
ثم إنه تولى نظر الخاص بعد جمال الكفاة، ولما تولى نظر الخاص كتب اسمه: عبد الله، وقبل ذلك إنما كان اسمه: هبة الله، وكذا كان يكتبه، فلما ولي الخاص كتب: عبد الله، واستمر على ذلك إلى آخر وقت، ثم إنه طلب الإعفاء من نظر الخاص، وأعيد إلى نظر الدولة، وتولى علم الدين بن زنبور نظر الخاص، ولم يزل موفق الدين على نظر الدولة إلى أن أمسك ابن زنبور الوزير، فتولى موفق الدين الوزارة، وأقيم معه الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني مشيراً، وكان يجلس معه إلى آخر وقت.
وكان القاضي موفق الدين خيرا، باطنه لا يزال بمحبة الفقراء نيرا، يميل إلى الصلحاء ويبرهم، ويحسن إليهم بما يستروح إليه سرهم، ولا يرد فقيرا، ولو كان ما يعطيه نقيرا، ولا يزال على مصالحهم يثابر، وليس كمن يأخذ من نهاوش ويضعه في نهابر.
وكانت أخلاقه سهله، وغضبه مثل ثم تقتضي التراخي والمهله، دائم البشر، فائح النشر، وكان يحب الفضلاء ويدنيهم، ويود قربهم ويعينهم ويغنيهم، وخطه حسن جيد نقش، حلو الأوضاع رقش. وكان من غريب الاتفاق، أنه تزوج باتفاق، وهي جارية سوداء أظنها كانت من حظايا الصالح إسماعيل، اتصل بها بعده لأن صبره فيها عيل، ودخلت إليه بخدم كثير، وفرش وثير وجد منه عثير، وكان يتكلف في النفقة عليها كل يوم جمله، وينهض من ذلك بما لا يطيق غيره حمله، ولعله لمح منها ما هاله فحصل له الهلع، وأراد الله أن يختار له من السعود سعد بلع، وليس ذلك بدعاً فلولا الأغراض الفاسدة ما نفقت السلع، وما الوزير موفق الدين فرداً في هذه المسأله، ولا هو بأول من نصر حجة مبطله، فقد صنف ابن الجوزي كتاباً سماه تنوير الغبش في فضائل الحبش وقصيدة ابن الرومي القافية التي يصف بها السوداء تقارب المئتي بيت، وأحسنها:
أكسبها الحبّ أنها صبغت ... صبغة حبّ القلوب والحدق
وقال الشريف الرضي من أبيات:
وما كان سهم الطّرف لولا سواده ... ليبلغ حبّات القلوب إذا رمى
إذا كنت تهوى الظبي ألمى فلا تلم ... جنوني على الظبي الذي كلّه لمى
ولم يزل الوزير موفق الدين في الوزاره، إلى أن جاءه الأجل وزاره، وأبعد من اتفاق مزاره.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشري ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وتأسف الناس عليه وعدمه الفقراء، فإنه كان لهم ثمالاً، وبدعائهم له سلم من آفات أصابت غيره.
عبد الله بن أبي السعادات
ابن منصور بن أبي السعادات بن محمد، الإمام الفاضل أبو بكر نجم الدين بن الأنباري البغدادي البابصري شيخ المستنصرية، المقرئ، خطيب جامع المنصور.
سمع ابن بهروز الطبيب، والأنجب الحمامي، وأحمد المارستاني، ولي مشيخة المستنصرية، بعد العماد ابن الطبال، وتفرد بأجزاء وحمل عنه أهل بغداد.
وتوفي سنة عشر وسبع مئة في ثاني عشر شهر رمضان وله اثنتان وثمانون سنة.
ومن مسموعاته الإبانة الصغيرة لابن بطه على أحمد المارستاني بسماعه من ابن اللحاس، وموطأ القعنبي على ابن العليق عن شهده، ومسند عبد ابن حميد بفوت يسير من أوله، والجزء الثالث من ذم الكلام للأنصاري على ابن بهروز.
عبد الله بن سعد
ابن مسعود بن عسكر الماسوحي الفقيه المحدث الشافعي.
كان عارفاً بالفروع، جيد المشاركة يروق ويروع، كثير النقل، صحيح العقل.
تفقه بالشيخ برهان الدين، وسمع على الحجار، والمزي، والشيخ برهان الدين وغيرهم، وكتب الأجزاء والطباق.
وولده سنة اثنتي عشرة وسبع مئة تقريباً.
عبد الله بن شرف
ابن نجدة المرزوقي، علم الدين.
أخبرني الإمام العلامة أثير الدين قال: كان المرزوقي يحضر معنا عند قاضي القضاة تقي الدين ابن رزين، وكان معيداً بالمشهد الحسيني. ألف شرحاً للتنبيه وأنفذه إلى الشيخ بهاء الدين بن النحاس، فكتب عليه نثراً يصفه، وأعاده فأنفذ المرزوقي أبياتاً يشكره على ذلك وهي:
يا مالك الرق والقياد ... ومن له الفضل والأيادي
ومن تحلّى التقى لباساً ... وأرشد الناس للسّداد
ومن علا ذروة المعالي ... وخلّف الناس في وهاد
ومن غدا في العلوم بحراً ... آذيّه الدهر في ازدياد
وصار مدح الأنام وقفاً ... على علاه إلى التنادي(1/425)
شرّفت ما قد نظرت فيه ... شرّفك الله في المعاد
وهو كتاب عنيت فيه ... ولم أنل منتهى مرادي
جمعت فيه غرّ المعاني ... من كتب جمّةٍ عداد
وعاند الدهر فيه حظي ... والدهر ما زال ذا عناد
فمهّد العذر فيه عنّي ... إن كنت قصّرت في اجتهادي
لا زلت للعرف ذا اصطناع ... ترأب ما كان ذا فساد
فأجابه الشيخ بهاء الدين عن ذلك:
يا فارساً في العلوم أضحى ... يزيد نظماً على زياد
وراويا للحديث أمسى ... يفوق فيه على المرادي
ومنسياً سيبويه نحواً ... بلفظه الفائق المفاد
من دونه الأصمعيّ فيما ... رواه قدماً عن البوادي
فمسند الفضل عنه يروى ... ونظمه جلّ عن سناد
شيّدت للشافعيّ ذكراً ... بمنطقٍ دونه الإيادي
فاسلم لتهدى بك البرايا ... فأنت للفضل خير هاد
إليك في معضلٍ مفرٌ ... وهل معادٌ سوى العماد
ومن يجاريك في قريضٍ ... يعارض البحر بالثّماد
قلت: رزق المرزوقي السعادة في شعره لما انتحس شعر ابن النحاس.
عبد الله بن الصنيعة المصري
الصاحب شمس الدين غبريال، بكسر الغين المعجمة وسكون الباء الموحدة وبعدها راء وياء آخر الحروف وبعد الألف لام، المصري.
كان أولاً كاتب الخزانة في أيام المنصور حسام الدين لاجين، وكان يصحب الأمير شمس الدين قراسنقر، ثم إنه انتقل إلى الشام وولي نظر الجامع الأموي والأسرى والأوقاف في المحرم سنة عشر وسبع مئة عوضاً عن شرف الدين بن صصرى. ولما حضر الأمير سيف الدين كراي لنيابة دمشق عزله عن نظر الجامع والأوقاف، وولى عوضه القاضي شرف الدين محمد بن جلال الدين النهاوندي قاضي صفد، ولما أمسك كراي وحضر الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك عزل شرف الدين النهاوندي وولى القاضي تقي الدين عمر بن السلعوس.
ثم إن الصاحب شمس الدين تولى نظر الدواوين بدمشق في نصف المحرم سنة ثلاث عشرة وسبع مئة. عوضاً عن الشريف أمين الدين وبدر الدين بن أبي الفوارس لما حضر السلطان إلى دمشق، وتولى شد الدواوين معه الأمير فخر الدين أياس مملوك الأعسر عوضاً عن القرماني، وباشر نظر الدواوين على القالب الجائر، وأمسى كل أحد وهو في أمره حائر، دخل في ناصر الدين الدوادار، وتسلسل سعده وما دار، وخدم تنكز وبالغ في الخدمه، وثبت له على طول المدة، قدم القدمه، وخدمته الأيام والليالي، وجرت أنهار دمشق له ذهباً، وأصبح حصاها لآلي، ووجه الناس بمباشرته السعيدة أماناً من الحوادث، وبقيت المناصب في أيدي مباشريها أوقافاً عليهم، تنتقل من وارث إلى وارث، وسد باب المرافعات والمصادرات، واغتنم أفعال الخير مع الناس بالمعاجلة والمبادرات، فكأنما كانت أيامه مواسم، وهبات هباته نواسم، وثغور الأيام فرحاً به في رحابه بواسم، والأرزاق بأقلامه قد أثقلت الغوارب وأعيت المناسم، وسعادات تدبيره لأدواء اللأواء حواسم، وربوع الجور والعدوان في مدة مباشرته طوامس ويقال: طواسم، وكأن أبا الطيب أراده بقوله:
لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام
ورأى دمشق وتمتع بمحاسنها، وتنعم في ظلالها الوارفة من مساكنها، واقتنى بها الأملاك النفيسه، وحصل بها الأموال التي تكون البحار الزاخرة عليها مقيسه.
ولم يزل في سعادة بعد سعاده، وزيادة بعد زياده، إلى أن نقض حبله، ونفض ويله، فتغير له تنكز وتنكر، وأكمن له وتفكر، فاتفق مع السلطان على عزله، وأن يريه جده بعد هزله، فقبض عليه في حادي عشر شوال سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وبقي في الاعتقال إلى أن حضر السلطان من الحجاز فطلبه إلى مصر، فالتزم له بتكملة ألف ألف درهم.
ونزل إلى بيته وأقام بالقاهرة إلى أن أذنت شمسه بالغروب، وجرت الدموع عليه من الغروب.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة السبت ثامن عشر شوال سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.(1/426)
وكان الصاحب شمس الدين سعيد الحركات خفيفاً ظريفاً، حلو النادرة مليح التنديب، كان في متعممي دمشق شخص يعرف بالقاق يندب الناس عليه، ويمزحون معه بذلك ويظهر هو التأذي بعض الأوقات، فاتفق أنه سرق مرة جملة من الخشب من شيء كان يباشره، وذكر أمره للصاحب شمس الدين، فبقيت، فلما كان في بعض الأيام جاءه فقال له: يا مشؤوم، الناس يقولون عنك قاق، طلعت أنت نقار الخشب.
وكان فيه ستر وحلم، لم يقع لأحد من أكابر دمشق واقعة إلا وسد خرقها وتدارك رمقها وتلافى عطبها على أحسن الوجوه ولم يكشف لأحد رأساً ولا ضرب أحداً بالمقارع، ولا صادر أحداً ولا عزل أحداً. وكان كلما انتشأ أحد من الأمراء خواص السلطان خدمه وباشر أموره بالشام وثمر له وأهدى، وكان أولئك يعضدونه ويقيمونه، وإذا جاء أحد من مماليكهم أو من جهتهم أنزله عنده وأزاح أعذاره وخدمه، وكان مرجع دواوينهم إليه وأموالهم تحت يده يتجر لهم فيها ويتكسب مثل بكتمر الساقي وقوصون وبشتاك وغيرهم، كل من له علاقة بالشام ولا يخرج الحديث عنه، وكان هو والقاضي كريم الدين الكبير متعاضدين جداً، ودامت أيامهما مدة.
وطلبه السلطان مرات إلى مصر، فراح على البريد وعاد بزيادة إكرام وإنعام وزيادة معلوم، ولما كان في سنة أربع وعشرين وسبع مئة طلبه السلطان إلى مصر وخلع عليه وباشر نظر الدولة مع الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي الوزير وذلك في شهر رمضان، فأقام بالديار المصرية على كره منه لأنه ألف دمشق واعتدال مزاجها، فسعى سعياً جيداً وعاد إلى دمشق على عادته وقاعدته في نظر الدواوين، ووصل إلى دمشق في يوم الاثنين ثامن عشري صفر سنة ست وعشرين وسبع مئة، وفرح الناس به واستبشروا، وعاد القاضي كريم الدين الصغير ناظر دمشق إلى مصر.
ولم يزل بدمشق على أكمل ما يكون من السعادة إلى أن قبض عليه تنكز بأمر السلطان في التاريخ المذكور، وجعل في المدرسة النجيبية ورسم عليه الأمير علاء الدين المرتيني، فكان يكون قدامه وإذا دخل إلى الطهارة وعاد منها يقوم الأمير يمسك له فرجيته ويلبسها له. ووزن في الشام أربع مئة ألف درهم ثم إن المرسوم ورد بطلبه إلى مصر فتوجه إليها ولما وصل نزل في الطبقة التي على دار الوزارة بقلعة الجبل وجاء إليه القاضي شرف الدين النشو، وقعد بين يديه، ولم يعرف من هو لبعد عهده بمصر، فقال: السلطان يسلم عليك، فلحظته أنا وغمزته، فعلم أنه كبير، فقام وقف له وأجلسه إلى جانبه فأسررت أنا إليه أن هذا هو النشو ناظر الخاص، فقام وقف وعامله بما يجب وحلف له أنه ما يعرفه، فقبل اعتذاره، ولما راح من عنده جاء إليه الأمير صلاح الدين الدوادار برسالة عن السلطان، وكان الأمير علاء الدين بن هلال الدولة مشد الدواوين يروح إليه في الرسائل عن السلطان هذا وهو قاعد على مقاعد سنجاب ومقاعد سرسينا، ولم أر أنا ولا غيري مصادراً مثله إلى أن قال له النشو: يا مولانا وزنت في الشام أربع مئة ألف فكمل لنا ألف ألف، فقال: السمع وألف طاعة، وكتب خطه بست مئة ألف درهم، ونزل إلى بيته، ولم يزل يحمل إلى أن بقي عليه مئتا ألف، فاستطلقها له الأمير سيف الدين قوصون من السلطان، ولو أن بكتمر الساقي يعيش له ما جرى عليه بعض ذلك، وكان أعاده لأنه شفع فيه عن طريق الحجاز وسير الإفراج عنه إلى الشام، ومات بكتمر بعد ذلك ثم إن أعداءه غيروا السلطان عليه، وقيل له: إن في دمشق ودائع فكتب السلطان إلى تنكز، فتتبع ودائعه وظهر له شيء كثير، فحمل ذلك إلى السلطان.
ولما مات رحمه الله تعالى وقع بين أولاده اختلاف في الميراث، فطلع ابنه صلاح الدين يوسف ولم يكن له ولد ذكر غيره ودخل إلى السلطان ونم على أخواته، فأخذ منهم شيء كثير من الجوهر، فيرى الناس أن الذي أخذ من ماله أولاً وآخراً ما يقارب الألفي ألف درهم، وما أظنه نكب ظاهراً غير هذه المرة، وسمعته ليلةً يقول: من حين باشرت الكتابة ما أعلم أنني اشتريت لي مركوباً ولا قماشاً ألبسه أنا ولا أهلي، وفي هذه المصادرة لم يشك أحد عليه ولا رفع فيه قصة لا في الشام ولا في مصر، ولما أفرج عنه خرج الناس له بالشمع وفرحوا به فرحاً عظيماً.(1/427)
وعمل بعد موته في دمشق محضر بأنه خان في مال السلطان واشترى به أملاكاً، وشهد فيه كمال الدين مدرس الناصرية، وابن أخيه القاضي عماد الدين، وعلاء الدين بن القلانسي، وعز الدين بن المنجا، وغيرهم من الأكابر، وامتنع عز الدين بن القلانسي ناظر الخزانة من ذلك، ونفذ المحضر إلى مصر، وأراد السلطان بيع أملاكه فوقف له قوصون واستطلقها منه لأولاده.
وكان يسمع البخاري في ليالي رمضان، وليلة ختمه يحتفل بذلك، ويعمل في كل سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ويحضره الأكابر والأمراء والقضاة والعلماء ووجوه الكتاب، ويظهر تجملاً زائداً ويخلع على الذي يقرأ المولد، ويعمل بعد ذلك سماعاً للأمراء المحتشمين.
وعمر جامعاً حسناً، شرع فيه في شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة على باب شرقي عند دير القعاطلة، ووقف عليه وقوفاً، وعمر بالرحبة بيمارستاناً، وعمر بكرك نوح عليه السلام بالبقاع طهارة وأجرى إليها الماء في قناة هناك.
وكتبت أنا إليه من الرحبة:
يا سيّد الوزراء ذكرك قد علا ... وكأنّه حيث اغتدى كيوان
لك جامع بدمشق أضحى جامعاً ... للفضل فيه الحسن والإحسان
وأمرت أن يبنى برحبة مالك ... من جودك المبرور مارستان
أنشأت ذاك وذا فجئت بآيةٍ ... صحّت بها الأديان والأبدان
وكتبت إليه يوماً وأنا بدمشق ....
وكتبت إليه عن الأمير سيف الدين تنكز من الديار المصرية يعلمه بوصوله وتقبيله الأرض بين يدي السلطان وبحضور الإقبال الشريف عليه وإفاضة الإنعامات الشريفة عليه في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ونسخة الكتاب: أسبغ الله ظل المقر الكريم العالي المولوي الصاحبي الشمسي، وسر قلبه بأخبار أحبابه، وسرى همه الذي توهمه بسببهم لما تقمص من الدجا أسود جلبابه، وسير أنباءهم التي هي أطرب وأطرى من زهر الروض تحت وقع ربابه. المملوك يخدم بدعائه الذي يتمسك من القبول بأقوى أسبابه. وبثنائه الذي يجد الندمان منه نشوة لا يجدها في كأسه المرصع بدر حبابه، ويقبل اليد الكريمة التي تخجل البحر إذا طمى في عبابه، وينهي إلى العلم الكريم أنه سطرها من الأبواب الشريفه، خلد الله سلطانها، ونصر أعوانها، بعدما وصل إليها في يوم كذا وقبل الأرض بالمواقف الشريفه، وود لو استعار فم الثريا للثم تلك المواطئ التي هي على الكواكب منيفه، وفاز برؤية وجه مولانا السلطان الذي أخجل البدر في سعوده، وترقى على أوجه وهو في معارج صعوده، وود لو أن أعضاءه جميعها عيون، وكل جارحة فيها تطالب أشواقها بمالها في ذمة النوى من ديون، وشملت المملوك الصدقات الشريفة بتشريف أثقل كاهله، وجعل ربوع آماله بالمسرات آهله، وتوالى الإنعام الشريف في كل يوم على الأنعام، وأغرقته المواهب العميمة بأياديها إلى أن عام، وتزايد الجبر الشريف في كل ساعة يكون فيها بالمواقف الشريفة ماثلا، وفتح على المملوك بصالح أدعية ما ترك منها سهماً في كنانة ضميره إلا إذا كان له ناثلا، هذا إلى ما يتحف به في كل يوم من جمل التفاصيل التي يحار العقل في نقوشها، وتتأصل في المحاسن مباني عروشها، ومن الخيل التي ترى الشهب عند شهبها مستقله، ويود الأفق لو كانت تجعل مسيرها في مجرته لأنها تملأ الطرق بالأهله، ولم يصف المملوك أنواع هذه الصدقات الشريفة التي عمت، وكملت بدور بدرها وتمت، إلا إشعاراً لمولانا، بسط الله ظله، بأن نصيبه منها يحضر صحبة المملوك، ويناله منها ما يخجل القمر في التمام والشمس في الدلوك، وقد جهزها لمملوك على يد فلان ليطمئن خاطره الكريم، ويتحقق ما المملوك عليه من الأخبار التي تسره وتحل من قلبه في الصميم، وبعد قليل يأخذ دستورا بالعود، ويعلم أنها ساعة يشب لها الفؤاد ناراً ويشيب الفود، وإذا استخرج المراسيم الشريفة شرفها الله تعالى وعظمها بالرجوع، ورسم بذلك، وهو أمر يمنع الجفون من الهجوع، عجل المملوك إعلام مولانا بذلك على العاده، والله تعالى يجمع المملوك ومولانا دنيا وأخرى في دار السعاده بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
عبد الله بن أبي الطاهر
ابن محمد الشيخ الصالح أبو عبد الرحيم المقدسي المرداوي.(1/428)
أول سماعه بمردا من خطيبها سنة ست وثلاثين، وسمع من الحافظ الضياء، واليلداني، وتلقن بمدرسة أبي عمر، ثم رجع وحدث في أيام ابن عبد الدائم.
روى عنه ابن الخباز.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: وسمع منه الأصحاب، وكان معمراً من أبناء التسعين، وهو آخر أصحاب الضياء بالسماع.
وتوفي رحمه الله تعالى بمردا سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
عبد الله بن عبد الأحد
ابن عبد الله بن سلامة بن خليفة، الشيخ الصدر الكبير أمين الدين بن شقير الحراني.
كان محموداً مشكوراً، كل أحد يثني عليه ويعظمه، وهو على قدم الصدق والعدالة محترم معظم من أرباب الأموال، وله حقوق على الناس ووجاهة عند الدولة.
حدث عن يوسف بن خليل، وعيسى بن الخياط.
توفي رحمه الله بغزة ثالث عشري شهر رمضان سنة ثمان وسبع مئة.
ومولده بحران في نصف شعبان سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
كان قد توجه من دمشق في جماعة من أولاده وأقاربه يقصد القاهرة فأدركه الأجل بغزة.
عبد الله بن عبد الحق
ابن عبد الأحد المخزومي المصري الدلاصي.
تلا لنافع على أبي محمد بن لب سنة خمس وثلاثين وست مئة، ثم تلا بعده كتب علي بن فارس، وسمع القصيدة من قارئ مصحف الذهب.
وأقرأ دهراً بمكة، وتلا عليه بالروايات عبد الله بن خليل، والمجير مقرئ الثغر، وأحمد بن الرضي الطبري، والوادي آشي، وخلق.
وكان من أصحاب الحال والسقم والانتحال، له في ظلمات الليل أوراد، وركعات تكون في صحف حسناته كالأطواد، وفيه زيادة تأله، وفيه خشية من الله العظيم تحله، وقد أحيا الليل سنوات، وقطع ظلامه في ذكر وصلوات، وتفقه لمالك ثم للشافعي، فشرب من جلاب الحلات، ونصب راية الرافعي.
ولم يزل على حاله إلى أن ما حمت الدلاصي من الموت سابغة دلاص، ولكم يكن له من قدومه عليه مناص.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاثين وست مئة.
عبد الله بن عبد الحليم
ابن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن تيمية الحراني، الشيخ الإمام الفقيه المفتي القدوة العابد شرف الدين أبو محمد الدمشقي أخو الشيخ العلامة تقي الدين.
سمع حضوراً من ابن أبي اليسر، وسمع من الجمال البغدادي، وابن أبي الخير، وابن الصيرفي، وابن أبي عمر وابن علان، وابن الدرجي، وخلق كثير، وطلب الحديث في وقته، وسمع المسند والمعجم الكبير والدواوين، وسمع منه الطلبة.
قال شيخنا الذهبي: وما علمته صنف شيئاً.
كان لسناً فصيحا، جزل العبارة مديد الباع فسيحا، غزير مادة العلم كثير الإغضاء والحياء والعلم، بصيراً بالقواعد، حاوياً لكثير من غرائب المسائل الأباعد، كثير الإنصاف إذا بحث، إذا سكت خصمه حضه على الكلام وحث، زائد التعفف قادراً على التقشف مع الدين المتين، والإخلاص المبين، واسع قميص الزهد، مغتبطاً بما عنده من الجهد، منقبضاً عن الناس، منجمعاً عن مخالطة الأدناس، يتنقل في المساجد المهجوره، ويقيم فيها كثيراً لا لضروره، يختفي فيها أياما، ويهجر بها ما عساه أن يهجر دواما، مع ما أحكمه من الفقه والعربيه، والنكت الأدبيه، وبرع فيه من معرفة السيرة وكثير من التاريخ وأسماء الرجال، وما يتسع في ذلك من المجال، ورأيت كثيراً من الفضلاء يقول: هو أقرب من أخيه إلى طريق العلماء، وأقعد بمباحث الفضلاء، وكان أخوه العلامة تقي الدين يحترمه ويتأدب معه، ويحذر أن يخدعه.
ولم يزل على حاله المرضية إلى أن نزل به ما لا بد من نزوله، وظفر من الله تعالى بمرامه وسوله.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وعشرين وسبع مئة، قبل أخيه العلامة تقي الدين بسنة، وكانت جنازته حافلة مشهودة، حمله الناس على الرؤوس.
عبد الله بن عبد الكافي
نور الدين بن ضياء بن الخطيب الكبير جمال الدين عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي الربعي الدمشقي الشروطي الأديب.
كان حسن الكتابه، جيد المعرفة بالإصابه، وكان فيه لعب وانطباع وعثرة وانخلاع.
ولم يزل على حاله إلى أن راح ليكون رميما، ويجد من فضل محبيه براً عميما.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة أربع وستين وست مئة.
عبد الله بن عبد الكافي
ابن عبد الرحمن بن محمد الحميري الصنهاجي المصري المالكي، زكي الدين أبو محمد المعروف بالمأمون.(1/429)
سمع من الدواداري، وقيل: إنه سمع من النجيب.
وكان حسن الشكل والهيئة، لطيف الذات، تولى نظر الكرك والشوبك، وأقام هناك مدة وكان يعرف عروضاً وفقهاً ويشغل الناس وله نظم.
توفي رحمه الله تعالى في سابع عشري جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة، ودفن في مقابر باب النصر ظاهر القاهرة.
عبد الله بن عبد الله
أمين الدين الرهاوي الدمشقي تربية ابن الكريدي.
سمع وقتاً من ابن القواس، وابن عساكر، وطلب بنفسه وقتاً بعد السبع مئة، ونسخ الأجزاء وارتزق بالكتابة في زرع وغيرها.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وأربعين وسبع مئة بين العيدين.
ومولده سنة أربع وثمانين وست مئة.
عبد الله بن عبد الولي
ابن جبارة بن عبد المولى الإمام تقي الدين الحنبلي ابن الفقيه المقدسي الصالحي.
كان إماماً مفتياً مدرسا، مدلجا في الفضائل معرسا، صالحاً ديناً خيراً صيناً عارفاً بالفرائض والجبر والمقابلة، فارساً في بحثه، كم جدل من جادله، تبحر في الفرائض، وغرق فيها ألف رائض، وكان قد طعن في سنه، وقارب المئة على ما في ظنه.
ولم يزل على حاله إلى أن كسر ابن جباره، وسكنت منه تلك العباره.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر.
وكان من أهل الفتوى والتدريس.
عبد الله بن عبد الوهاب
ابن حمزة بن محمد بن الحسين بن حمزة، الشيخ العدل ناصر الدين أبو محمد بن العدل كمال الدين النهراني الحموي.
وكان يجلس بين الشهود بحماة، وله مسجد وقراءة، حضر جزء لطيفاً وهو في أول سنة من عمره على والدة جدته صفية بنت عبد الوهاب القرشية، وحدث بالجزء مرات بحماة ودمشق.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمعت منه بهما، وهو من حديث أبي بكر بن زياد النيسابوري، وكان قد قدم دمشق سنة سبع وسبع مئة، وسمع منه جماعة من الطلبة، وكان جده قاضياً بحماة، وهو من بيت مشهور.
وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشر صفر سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
عبد الله بن عبد الوهاب
ابن فضل الله صلاح الدين ابن القاضي شرف الدين العمري.
كان شاباً عاقلاً له فهم ومعرفة، وهو جندي، وهو والد الأمير ناصر الدين محمد بن فضل الله.
وتوفي رحمه الله تعالى سابع عشر شهر رجب سنة تسع عشرة وسبع مئة، ودفن بتربة له جوار المدرسة العزية التي عند الوراقة ظاهر دمشق.
عبد الله بن علي
ابن محمد بن سلمان القاضي الرئيس الكاتب المنشئ جمال الدين بن الشيخ علاء الدين بن غانم.
كان شاباً ظريفا، مليح الوجه نظيفا، عليه رونق الشباب ولطف السلافة إذا شف عليها الحباب، شكله أنيق، وصدغه في خده سحالة لازورد في زنجفر سحيق، يكتب خطا من أين للوشي رقومه، أو للأفق الصاحي نجومه، كأنه طرة ريحان، أو روض فيه الطل حيران، خصوصاً إذا كتب الدرج وعلق، وتأنى في تنميقه وتأنق، يأتيك بالعجب، ويريك كما يقال سلاسل الذهب، مع سرعة لا يلحقه فيها البرق إذا خفق، ولا النور إذا سطع وولد الشفق، يكتب الإنشاء من رأس قلمه، ويؤلف الدر الثمين من كلمه، وله غوص في نظم ونثر، وتلعب بالعقول إذا نفث قلمه بسحره.
إلا أنه قصف غصنه، ووقفت في أوائل حلبة العمر حصنه، فأذواه الموت ريحانه، وأراق منه بنت حانه.
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر شوال سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
وكان قد مرض في عمره مرضا حاداً مرات، ونجاه الله منها وسلمه إلى أن حم أجله فمات عبطه، وكان به لديوان الإنشاء أي غبطه.
كتب هو إلي في بعض علته هذه ولم أعده، من أبيات:
مولاي كيف كسرتني فهجرتني ... علماً بأني كيف كنتم راض
أو قلت إني لأعود ممرّضاً ... ظنّاً بأني لا محالة ماض
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
أرسلتها مثل السهام مواضي ... نفذت من الأغراض في أغراض
فأتت وعتبك قد تخلّل لفظها ... مثل الأفاعي بين زهر رياض
دعني من الجبروت أو من أهله ... لا تجعلنّ سوادهم كبياضي
حاشاك أن تمضي وسعدك قد غدا ... مستقبلا فينا وأمرك ماض
وقلت أنا أرثيه رحمه الله تعالى:(1/430)
تبكي الطروس عليك والأقلام ... وتنوح فيك على الغصون حمام
يا من حواه اللّحد غضّاً يانعاً ... وكذا كسوف البدر وهو تمام
يا وحشة الديوان منك إذا غدت ... فيه مهمّات البريد ترام
من ذا يوفّيها مقاصدها على ... ما يقتضيه النّقض والإبرام
هيهات كنت به جمالاً باهراً ... فعليه بعدك وحشةٌ وظلام
أسفي على الإنشاء وهو بجلّقٍ ... نثّاره قد مات والنظّام
كم من كتابٍ سار عنك كأنّه ... برد أجاد طرازه الرقّام
إن كان في شرّ فقد رد الرّدى ... وبه ترفّه ذابل وحسام
لم لا يردّ البأس ما ألفاته ... مثل القنا واللام منه لام
أو كان في خير فكلّ كلامه ... درّ يؤلّف بينهنّ نظام
وكأنما تلك السطور إذا بدت ... كأس ترشّف راحها الأقلام
يهتزّ عطف أُولي النّهى لبيانه ... فكأنّ هاتيك الحروف مدام
كم فيه وجهٍ سافر مثل الضحى ... وعليه من ليل السطور لثام
ولكم كتبت مطالعاتٍ خدّها ... قانٍ وثغر فصولها بسّام
وكأنما ألفاتها قضب اللّوى ... وكأنما همزاتهنّ حمام
ما كنت إلا فارس الكتّاب في ... يوم تفرّج ضيقه الأقلام
صلّى وراءك كلّ من عاصرته ... علماً بأنك في البيان إمام
وكأنّ قبرك للعيون إذا بدا ... قصرٌ عليه تحية وسلام
يا محنةً نزلت بعترة غانم ... هانوا وهم في العالمين كرام
لما تغيّب في التّراب جمالهم ... وقعدوا لهولٍ عاينوه وقاموا
يا قبره لا تنتظر سقيا الحيا ... حزني ودمعي بارقٌ وغمام
لي فيك خلّ كم قطعت بقربه ... أيام أُنسٍ والخطوب نيام
لذّت فلذت بظلّها فكأنها ... لقياد لذّات الزمان زمام
أسفي على صحب مضى عمري بهم ... وصفت بقربهم لي الأيّام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
بالرغم منّي أُفارق صاحباً ... لي بعده ضرٌّ ثوى وضرام
يا من تقدّمني وسار لغايةٍ ... لا بدّ لي منها وذاك لزام
قد كنت أحسبه يرثّيني فقد ... عكست قضيّته معي الأحكام
أنا ما أراك على الصراط لأنّه ... بيني وبينك في المعاد زحام
إذ قد سبقت خفيف ظهرٍ لا كمن ... قد قيّدت خطواته الآثام
فإذا المخفّ وقد تقدّم سابقاً ... وشفيعه لإلهه الإسلام
فاذهب فأنت وديعة الرحمن لي ... يلقاك منه البرّ والإكرام
ويجود قبرك منه غيث سماحةٍ ... بالعفو صيّب ودقها سجّام
ولقد قضيتك حقّ ودّك بالرثا ... والحرّ من يرعى لديه ذمام
خلّفتني رهن التندّم والأسى ... تعتادني الأحزان والآلام
لكنّ لي بأخيك نجم الدين في ... الديوان أُنساً ما عداه مرام
مهما توجّس أو توحش خاطري ... فيه تزول وتنقضي الأوهام
وكتب إلي من دمشق وأنا بالقاهرة:
ذكّرت قلبي حين شطّ مزارهم ... بهم فناب عن الجوى تذكارهم
وبكى فؤادي وهو منزلٌ حبّهم ... وأحقّ من يبكي الحبة دارهم
وتخلّق الجفن الهمول كأنما ... لمحته عند غروبهم أنوارهم
وذكرت عيني عند عين فراقهم ... لما أثارت لوعتي آثارهم
نذري الدموع عليهم وكأنهم ... زهر الرّبا وكأنها أمطارهم
ويئنّ منة حالي العواذل رحمةً ... لمّا بكيت وما الأنين شعارهم
ويح المحبيّن الذين بودّهم ... قرب المزار ولو نأت أعمارهم(1/431)
فقدوا خليلهم الحبيب فأُذكيت ... بالشوق في حطب الأضالع نارهم
مولىً تقلّص ظلّ أُنسٍ منه عن ... أصحابه فاستوحشت أفكارهم
كم راقهم يوماً برّؤية وجهه ... ما لا يروقهم به دينارهم
ولكم بدت أسماعهم في حلية ... من لفظه وكذا غدت أبصارهم
كانوا بصحبته اللذيذة رتّعاً ... بمسّرةٍ ملئت بها أعشارهم
يتنافسون على دنوّ مزاره ... فكأنما بلقاه كان فخارهم
لا غيّب الرحمن رؤية وجهه ... عن عاشقيه فإنها أوطارهم
وجلا ظلام بلادهم من بعده ... فلقد تساوى ليلهم ونهارهم
يا سيّداً لي لم تزل ثقتي به ... إن خادعتني في الولا أشرارهم
أصرمت حبل مودتي ولصحبتي ... عرف الطريقة في الوداد كبارهم
أم تلك عادات القلى أجريتها ... فكذا الأحبّة هجرهم ونفارهم
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
أفدي الذين إذا تناءت دارهم ... أدناهم من صبّهم تذكارهم
في جلّق الفيحاء منزلهم وفي ... مصع بقلب الصبّ تضرم نارهم
قوم بذكرهم الندامى أعرضوا ... عن كأسهم وكفتهم أخبارهم
وإذا الثناء على محاسنهم أتى ... طربوا له وتعطّلت أوتارهم
وإذا هم نظروا لحسن وجوههم ... لم تبق أنجمهم ولا أقمارهم
فهم البدور إذا ادلهمّ ظلامهم ... وهم الشموس إذا استبان نهارهم
دنت النجوم تواضعاً لمحلّهم ... وترفّعت من فوقها أقدارهم
وبكفّهم وبوجههم كم قد همت ... ألواؤهم وتوقّدت أنوارهم
أهدى جمالهم إليّ تحيّة ... منها تدار على الأنام عقارهم
أفقٌ وروضٌ في البلاغة فهي إمّ ... ا زهرهم في الليل أو أزهارهم
لك يا جمال الدين سبقٌ في الوفا ... لو رامه الأصحاب طال عثارهم
وتودّدٌ ما زال يصفو ورده ... حتى تقرّ لصفوه أكدارهم
يا بن الكرام الكاتبين فشأنهم ... صدق المودّة والوفاء شعارهم
قوم إذا جاؤوا إلى شأو العلى ... سبقوا إليه ولم يشقّ غبارهم
صانوا وزانوا باليراع ملوكهم ... أسوارهم من كتبهم وسوارهم
ما مثلهم في جودهم فلذاك قد ... عزّت نظائرهم وهان نضارهم
ما في الزمان حلىً على أعطافه ... إلاّ مآثرهم به وفخارهم
تتعلم النّسمات من أخلاقهم ... وينوب عن زهر الرّبا أشعارهم
ولفضلهم ما ابن الفرات يعدّ في ... ه قطرةً لمّا تمدّ بحارهم
وحماهم يحمي النّزيل بربعه ... من جور ما يخشى ويرعى جارهم
بالرغم مني أن بعدت ولم أجد ... ظلاٍّ تفيّؤه عليّ ديارهم
لو كان يمكنني وما أحلى المنى ... ما غاب عنّي شخصهم ومزارهم
ويح النوى شمل الأحبة فرقت ... فمتى يفكّ من البعاد إسارهم
وكتب رحمه الله تعالى وقد دخلت الديوان بدمشق
يقول جماعة الديوان فيه ... فسادٌ لا يزال ولا يزاح
فقلت فساده سيزول عمّا ... قليل إذ بدا فيه الصّلاح
فكتبت أنا الجواب إليه:
هويت جماعة الديوان دهراً ... فلمّا ضمّنا بدمشق مغنى
نظرت إليهم نظر انتقادٍ ... فكنت جمالهم لفظاً ومعنى
وكتب إلي من دمشق، وأنا بصفد ضعيف:
كتابك قد أتى عيني وفيها ... فساد نوىً لشوقي وارتياحي
فجدّده فليس يزول إلاّ ... إذا عاد الصّلاح إلى الصّلاح
فكتبت أنا الجواب إليه:
كتابك جاءني فنفى همومي ... وآذن سقم جسمي بالزوال
وأذكر ناظري زمناً حميداً ... تمتّع بالجمال من الجمال
وكتب هو يوماً إلي:
قد أصبح المملوك يا سيّدي ... يختار أن يفترع الرّبوه(1/432)
وقد أتى صحبتكم خاطباً ... فأسعفوا واغتموا الخلوه
فكتبت أنا الجواب إليه ارتجالاً:
ما لي على الربوة من قدره ... لأنني أعجز عن خطوه
وليس مركوبي هنا حاضراً ... فمرّ نحو الخلوة الحلوه
وكتب هو إلي وأنا بالقاهرة:
سار دمعي مني إليك رسولا ... حين أخليت ربعك المأهولا
وفؤادي استقرّ إذ أنت فيه ... يتراآك بكرةً وأصيلا
ونسيم الصّبا تحمّل من وص ... ف اشتياقي فيه حديثاً طويلا
ترك القلب في الأضالع يظما ... فيسقّيه الاشتياق غليلا
فاستمع ما يملّي النسيم بعلمٍ ... عن غرامي إذ كان مثلي عليلا
وقميص الكرى مزقٌ فإن زا ... ر خيالٌ وصّلته توصيلا
حبّذا قربك الذي كان أندى ... في فؤادي من النّسيم بليلا
وليالٍ كم غازل الطرف من أُن ... سك في جنحهنّ وجهاً جميلا
ومدام كأنّها لون دمعي ... عندما أزمع الحبيب رحيلا
كأسها في الدّجا تبدّى شهاباً ... وكسا المزج رأسها إكليلا
فتهدّيت للسرور برؤيا ... ه وإن كان للهدى تضليلا
كم ركبنا لها سوابق لهوٍ ... كان جرس الغناء فيها صهيلا
قرّب اللّه عهدنا من ليالٍ ... لم أكن لاقترابهنّ ملولا
أتلظّى جوىً وفرط حنين ... إن تذكرت ظلهنّ الظليلا
وإذا ما احترقت شوقاً فقولي: ... ليت لم أتخذ فلاناً خليلا
يا صلاح الدين الذي فسد العي ... ش لنا مذ نأى وساء مقيلا
قد أتتني أبياتك الغرّ تحكي ... نسمات الصّبا تجرّ ذيولا
أو نبات الربا يصافحه القط ... ر فيغدوا رطب الحيا مصقولا
فتذكرت منك جودا عميما ... ومحيا طلقاً وفضلاً فضيلا
ورأيت السطور تحكي ليالي ال ... قرب حسناً ورقّةً لا طلولا
حبذا عهدهن والعيش فيه ... إذ أنا مالك إليه وصولا
كنت أجني ثمار أنسك فيه ... نّ فبدلت بالنوى تبديلا
وكتبت أنا إليه من دمشق، وهو بغزة في الصيد جواباً عن كتاب فيه عتب:
حيث الخيام برمل غزّه ... لي سادةٌ عندي أعزّه
وأنا كثيّر حبّهم ... وهم كما أختار عزّه
سيما جمالهم الذي ... في فضله طرفي تنزّه
مولىً بعطف يراعه ... طربٌ يرنّحه وهزّه
أضحى يوشّي طرسه ... ويحوك بالأسجاع طرزه
يملي عليه بدائعاً ... يكسو المهارق خير بزّه
لو فاخر الروض البسي ... م بكتبه لأبان عجزه
ألفٌ حكت غصن النقا ... صدحت عليه حمام همزه
من ميم ميلي عنه لا ... أدخلت قلبي تحت رزّه
وظفرت منه بمعقلٍ ... لا تطرق الأحداث حرزه
وبه تبيّن لي الهدى ... وحللت من معناه رمزه
وبه ملأت يدي غنىً ... من فضله وفتحت كنزه
فالله يحرس مجده ... ويديم للآداب عزّه
يقبل الأرض، ويصف شوقه الذي شق الجوانح، وجرح الجوارح، وملأ الفؤاد فوادح، ويذكر حنينه الذي شغله عن ذاته، وأذهله حتى عن تمني اللقاء ولذاته، ونغص صفو عيشه بالبعد، وهذه أحسن حالاته. وينهي ورود المثال العالي فتلقى منه أكرم وارد، وحوى من ألفاظه الغر مصائد الشوارد، وشافهه منها ألسن عتب لها في القلب وقع السيوف، وإن كانت فصاحتها مثل المبارد، وأضرمت في الحشا نيراناً لها الزفرات دخان، والضلوع المحنية مواقد، فقابلها بأعذاره الملفقة، فقالت حرارة تلك السطور: دعنا من عذرك البارد، ونظر من تلك الحروف المنظمة إلى نونات كأنها براثن الأسود، وإلى ميمات كأنها عيون الأساود:
وكأن ذاك الطرس أصبح سلّة ال ... حاوي وهاتيك السطور أفاعيا(1/433)
ثم إن المملوك كابر نفسه، وقال: ربما تصحف عليه ما تصفح، وترجى أن يكون هذا القدر هو الذي ترجح، وجانس بين آساته وعطفه، فذاك ترنم، وهذا ترنح:
ويدلّ هجركم على ... أنّي خطرت ببالكم
وعلل نفسه بقول الآخر:
.............................. ... ويبقى الودّ ما بقي العتاب
وقال: هذا هو العتب المحمود العواقب، وهذا التأديب الذي يعقب الرضى ولا يعاقب. وقد عاد المملوك إلى صوب الصواب، وتضرع من تلك السطور على عتبات العتاب، وظن أنما فتن، فاستغفر ربه، وخر راكعاً وأناب:
وهذا الذنب أوّل كلّ ذنب ... وآخره إلى يوم الحساب
فليغفر مولانا هذه الهفوه، وليقله عثرة هذه الخطوه، التي لم يلق فيها حظوه، والله يمتع العيون والنفوس بجماله وجلاله، ويزين الوجود بمحاسنه التي يخجل منها البدر في كمال بمنه وكرمه، إن شاء الله.
وحكى لي رحمه الله تعالى، قال: رأيت البارحة في المنام، كأن في بيتي نهراً عظيماً صافياً، وأنت من ذلك الجانب، وأنا من هذا الجانب، وكأني أنشدك:
يا خليلي أبا الصّفا لا تكدّر ... منهلاً من نمير ودّك أروى
فجميع الذي جرى كان بسطاً ... ولعمري بسط المجالس يطوى
فقلت لي: لا بل انظم في زهر اللوز شيئاً، فأنشدتك:
أيا قادم الزهر أهلاً وسهلاً ... ملأت البرايا هدايا أرج
فوقتك فضّ ختام السرو ... ر وعهدك فرجة باب الفرج
فكتبت أنا إليه عندما قص علي هذه الرؤيا:
حاشى للّه أن أكدّر عهداً ... لم يزل من وفائك المحض صفوا
وإذا ما حديث فضلك عندي ... ضاع مني في نشره كيف يطوى
وكنت وعدته بعارية رسالة لابن رشيق سماها ساجور الكلب، فتأخرت، فكتب هو إلي:
يا جواداً عنانه في يد الجو ... د تباخلت لي بساجور كلب
لا تضع رتبة التفضّل والإيث ... ار فالأمر دون بذل العتب
وإذا لم يكن من العتب بدّ ... فمرادي إن شئت غير الكتب
فجهزتها إليه، وكتبت الجواب:
أيها الأروع الي فاق مجدا ... لا تؤنّب من لا أتاك بذنب
أنت تدري أن الوفاء الموفّى ... لي طباعٌ في الودّ من غير كسب
أنا أخبا لو كان طوق عروس ... عنك حتى أصون ساجور كلب
وبيني وبينه مكاتبات كثيرة نظم ونثر، وقد أوردتها في كتابي ألحان السواجع.
عبد الله بن علي بن عمر
ابن شبل بن رافع بن محمود، الشيخ الصالح المحدث نجم الدين أبو بكر الصنهاجي الحميري الشافعي الصوفي.
اعتنى به والده، وأسمعه صحيح البخاري من الشيوخ الثلاثة: ابن عزون، وابن القاضي رزين، وابن رشيق، وسنن أبي داود من النجيب عبد اللطيف، ومسند الإمام أحمد من النجيب أيضاً، ورحل به إلى دمشق ومعهما فخر الدين بن النويري، فسمع بها صحيح مسلم من ابن عبد الدائم، ومن أصحاب الخشوعي وابن طبرزد، وسمع بالإسكندرية أيضاً من أصحاب ابن موقا.
وكان مكثراً صبوراً على التسميع، ذاكراً لمسموعاته، وحدث بالكثير، ومن جملة ما حدث به الكتب الستة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني عشري شعبان سنة أربع وعشرين وسبع مئة بقرافة مصر الصغرى، ودفن بها.
ومولده في سادس عشر شهر رجب سنة ثمان وخمسين وست مئة.
عبد الله بن علي بن سليمان
الشيخ الإمام العالم كمال الدين أبو محمد الغرناطي المالكي.
كان رجلاً صالحاً عارفاً بالنحو والقراءات، وله مشاركة في الفقه، وأقرأ الناس بحلب نحو عشر سنين، وعاد إلى الغرب، وجدد عهده بأهله، وبعض شيوخه. ثم إنه رجع، وأقام بالقدس شيخ الإقراء، ومدرساً وإماماً للمالكية.
قال شيخنا البرزالي، سمع بقراءتي سنن أبي داود على ابن البخاري، وغير ذلك، وحدث بالقدس.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
عبد الله بن علي
ابن محمد بن عمر بن أبي عمر المسند الأصيل شهاب الدين أبو القاسم الأزدي الدمشقي.
حدث عن ابن أبي اليسر وغيره حضوراً، وسمع من ابن علان وطائفة.
وتوفي بدمشق رحمه الله تعالى في سنة أربع وأربعين وسبع مئة عن ثلاث وسبعين سنة.
عبد الله بن أبي عمر(1/434)
ابن أبي الرضا الفارسي الفاروثي الشيخ الإمام العالم العلامة سيف النظر نصير الدين أبو بكر الشافعي، مدرس المستنصرية ببغداد.
كان من كبار المذهب، ورافعي لوائه المذهب، لو ناظر السيف الآمدي قطعه، أو الرازي ألقاه في هوة رزية ودفعه.
قدم دمشق، وتكلم، وجرح جماعة في بحثه وكلم، وبانت فضائله، وحكت الرياض الأريضه شمائله، وعاد إلى مدرج عشه، وأقام بها إلى أن حمل على نعشه.
وتوفي ببغداد رحمه الله تعالى سنة ست وسبع مئة.
عبد الله بن محمد
ابن الصفي بن أبي المعالي أحمد المقدسي المعروف بابن الواعظ.
أخبرني العلامة أثير الدين أبو حيان، قال: لقيته بدمياط سنة ثمان وثمانين وست مئة، وأنشدني لنفسه:
سرت نسمةٌ مسكية العرف معطار ... لها أرج في طيّ مسراه أسرار
فملنا بها حتى الغصون كأنّما ... شذاها سلاف الراح والنشر خمّار
ألا هات عن نجد أحاديث غربةٍ ... فيا طيب ما خبرٌ أفدت وأخبار
أُهيل ودادي هل على أيمن الحمى ... أراكم وتقضى بالتواصل أوطار
وهل تسعف الأيام تسمح بالمنى ... بقرب مزار أو يوافق مقدار
خليليّ إن القلب والنفس والهوى ... لعينيه أعوانٌ عليّ وأنصار
قلت: شعر يقارب الجودة، ولو كان لي فيه حكم لقلت:
........................... ... فيا حبذا خبرٌ أفدت وأخبار
وكان يستريح من اللحن، ومن قلق هذا التركيب؛ لأن ما ههنا زائدة، وتقديره: فيا طيب خبر وأخبار أفدت، والمعنى عليه، وإن كانت نكرة موصوفة وتقديره: فيا طيب ما أفدته خبراً وأخباراً، فيتعين النصب حينئذ على التمييز.
عبد الله بن محمد بن هارون
ابن عبد العزيز بن إسماعيل الطائي الأندلسي القرطبي المالكي، نزيل تونس.
قرأ القراءات على جده لأمه محمد بن قادم المعافري، ولازم خال أمه إمام جامع قرطبة العلامة أبا محمد عصام بن أبي جعفر أحمد بن محمد بن خلصة، واستفاد عليه، وأخذ عن قرابته الحافظ أبي زكريا بن أبي عبد الله بن يحيى الحميري، وقرأ عليه الفصيح والأشعار الستة، وسمع منه الروض الأنف، وسمع قاضي الجماعة أبا القاسم بن بقي، وأخذ عنه الموطأ سماعاً، وقرأ عليه كامل المبرد، وسمع صحيح مسلم من عبد الله بن أحمد بن عطية، وسمع من أبي بكر محمد بن سيد الناس الخطيب صحيح البخاري، ولازمه وسمع الشمائل من الحافظ محمد بن سعيد الطرار، وسمع التيسير من النحوي أحمد بن علي الفحام المالقي، وأخذ كتاب سيبويه تفهماً عن أبي علي الشلوبين وأبي الحسن الدباج، وقرأ مقامات الحريري تفهماً على العلامة عامر بن هشام الأزدي، وانتهى إليه علو الإسناد.
وروى عنه شيخنا أبو حيان وأبو عبد الله الوادي آشي، وأبو مروان التونسي خازن المصحف وآخرون.
قال شيخنا الذهبي: وكتب إلينا بمروياته عام سبع مئة، كان قد جمع بين الرواية والدرايه، وتحقق عند الناس ماله بالعلم من العنايه، وأخذ عنه الكبار، وأعاد جدة ما قد خمل من هذا الفن وبار، إلا أنه كان يتشيع ظاهرا، ويطعن في معاوية وابنه ناظماً وناثرا.
ثم إنه في آخر وقته اختلط وانحطم، وسكن منه ذلك البحر الذي تموج والتطم، وبان هرمه، وخمد ضرمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وست مئة.
أخبرني العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، قال: رأيت بخط ناصر الدين بن سلمة الغرناطي: شيخنا ابن هارون فيه تشيع وانحراف عن معاوية، وابنه يطعن فيهما نظماً ونثراً، اختلط بعد انفصالي عنه، وبان اختلاطه.
عبد الله بن محمد بن عبد الرزاق العراقي
الإمام البارع عماد الدين الحربوي الطبيب الأديب الحيسوب المتفلسف، أحد الأعيان ببغداد.
نبغ في فنون من العلوم العقلية والنقليه، وقرأ عليه جماعة في أنواع من المعارف الجدية والهزليه، وجالس الملوك، وحصل أموالاً تضيق بدررها السلوك، ودرس مذهب الشافعي بدار الذهب، وأغار على ما في كتب المذهب من الجواهر ونهب، ومنح الطلبة ما عنده من ذلك ووهب، وولي رئاسة الطب، ومشيخة الرباط، وعمل أشياء بالاحتيال والاحتياط.
ولم يزل على حاله إلى أن زال سلطانه، وفارقته مع الحياة أوطانه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة.(1/435)
ومولده سنة ثلاث وأربعين وست مئة.
وهو الذي علم شرف الدين هارون بن الوزير وأولاد عمه علاء الدين صاحب الديوان فن الحساب، وكثرت أمواله، وكان قد أخذ فن المعقول عن النصير الطوسي وأنشأ داراً وقفها على إمام ومؤدب وعشرة أيتام، وله تصانيف وإنشاءات.
وأخذ عنه العز الإربلي، وله من التصانيف: القواعد البهائية في الحساب، ومقدمة في الطب، وغير ذلك.
قال في تفسير رشيد الدولة: هو إنسان رباني، بل رب إنساني، تكاد تجل عبارته بعد الله. فشهدوا عليه بعد موت الرشيد، فدخل على قاضي القضاة قطب الدين، فحقن دمه، ومات، ودفن في داره ببغداد.
عبد الله بن محمد بن علي
ابن حماد بن ثابت الواسطي الإمام المفتي بالعراق، جمال الدين بن العاقولي البغدادي، مدرس المستنصرية.
كان يقول: إنه سمع من محيي الدين بن الجوزي، وسمع من الكمال الكبير، وروى عن ابن الساعاتي شيئاً في تأليفه.
وكان إماماً عالما، سالباً غرة الكمال سالما، له مهابة وعنده شهامه، وإذا رمى أمراً أنفذ فيه سهامه، حميد الطريقه، مفتي العراق على الحقيقه، أفتى نحواً من سبعين سنه، وأعاد عينه في العلم رمداء، وغيره بالجهل عينه وسنه.
ولم يزل على حاله إلى أن زاد في هجر موضعه، وسار راكباً على شرجعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة، وعدل سنة سبع وخمسين وست مئة.
ورزق الحظ في فتاويه، ودفن بداره التي وقفها على ملقن وعشرة أيتام، وكانت جنازة عظيمة إلى الغاية، ما رؤي مثلها.
وخلف ولداً ذكياً، اشتغل بالحكمة والنظر، ودرس وعظم أيضاً بعد والده.
عبد الله بن محمد بن أبي بكر
الإمام العلامة تقي الدين الزريراني، بزاي مفتوح، وراء بعدها، ياء آخر الحروف، وراء ثانية، وألف بعدها نون، العراقي الحنبلي مدرس المستنصرية.
برع في مذهبه، وسار منه في موكبه، واشتغل واشتعل، وحفي في طلب العلم وانتعل، وصنف وناظر، وذاكر بالعلوم وحاضر، وناب في الحكم فحمدت سيرته، وطهرت في القضاء سريرته، وقرأ الناس عليه، وحملوا المسائل والفتاوى إليه.
ولم يزل على حاله إلى أن التقى الموت بالتقي، وفني جسده، وذكره بقي وهو نقي.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.
وكان قد قدم دمشق في حدود سنة تسعين، وتفقه بها على المجد وغيره، وعاد إلى بغداد، وهو والد شرف الدين عبد الرحيم.
عبد الله بن محمد بن أبي بكر
الفقيه شرف الدين أبو محمد بن الشيخ العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية الحنبلي، يأتي ذكره والده في مكانه.
كان شرف الدين هذا آيةً في الذكاء والحفظ. قرأ القرآن صغيراً وعمره تسع سنين، وختمه، وصلى به سنة إحدى وثلاثين بالجوزية، كان يتلقن في أكثر الأيام نصف جزء، وحفظ العراف في تلقينين، وحفظ الجرجانية والكافية الشافية لابن مالك، وحفظ المحرر للشيخ مجد الدين بن تيمية، وقرأ مختصر الروضة للشيخ مجد الدين الطوخي في أصول الفقه، وحفظ المحرر في الحديث لشمس الدين بن عبد الهادي، وسمع الحديث، وأكثر منه في الشام ومصر على أصحاب ابن عبد الدائم وأصحاب ابن النجيب الحراني وطبقتهم، وسمع على الحجار أكثر صحيح البخاري، وسمع الكتب الستة والمسانيد المشهورة، وشيئاً كثيراً من الأجزاء.
وأفتى ودرس، وأعاد، وحج مع والده مرتين، وأقام بينهما سنةً بمكة، ثم إنه حج بعد ذلك سبع حجات متواليات، وتزوج اثنتين.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شعبان سنة ست وخمسين وسبع مئة.
ومولده في سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
عبد الله بن محمد بن عبد القادر بن ناصر
قاضي القضاة زين الدين المعروف بابن قاضي الخليل الشافعي.
كان قاضي قضاة الشافعية بحلب، وكان حسن الشكاله، قادراً على نصب الحباله، وقوراً، له مهابة فاخر البزة، قد أوقد التعاظم فيها شهابه، عنده مشاركه، وله منابذة ومتاركه، عقله المعيشي جيد، وذكره بالقبول متأيد، محاضرته حلوه، ومذاكرته من الإملال خلوه، وله نظم قد صفا، ورف عليه ظل القبول وضفى.
ولم يزل على حاله بحلب إلى أن كمل شوطه وانقلب.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمسين وست مئة.(1/436)
ولي بدمشق قضاء بعلبك في أول المحرم سنة سبع وتسعين وست مئة، وقضاء حمص، ثم إنه نقل إلى قضاء حلب، فأقام به نيفاً وعشرين سنة، وناب في الحكم بدمشق، وحج مرات، وتزوج بابنة الأمير علم الدين الزراق، وجرت له أمور مضحكة بسببها، لأن سمعه لحقه صمم، وكان الشيخ كمال الدين بن الزملكاني كثير الحط عليه، حكى لي عنه حكايات عجيبة، نسأل الله العفو والسلامة منها. وتوجه الشيخ كمال الدين بعده لقضاء حلب.
ومن شعره:
أحبّك حبّاً يمنع العين نومها ... ويمنعني عند الظّما بارد العذب
وما أنا راضٍ عن غرامي وإنني ... لأعتب في هذا الغرام على قلبي
قلت: هو مأخوذ من قول الأول ..
ومن شعره في سنة حجه:
ولما أتى سيلٌ عظيم عرمرمٌ ... بوادي القرى يعلو على السهل والوعر
علونا ظهور اليعملات تحصّنا ... وكانت لنا في البرّ سفناً وفي البحر
ومن شعره قصيدة يمدح بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قد بدت طيبةٌ ولاحت رباها ... فابتدر قربه بلثم ثراها
واحمد الله ذا المواهب والفض ... ل على النعمة التي أولاها
وافرش الخدّ والدموع على الأر ... ض وهذا شأن الذي يغشاها
ثم لاحت لنا القباب العوالي ... فاستنارت رحالنا من سناها
وأتينا مدينة العلم والو ... حي ومن تنف خبثها وأذاها
فرأينا جلالةً وبهاءً ... ما رأيناه في مكانٍ سواها
وأتينا سعياً إلى الحرم الأ ... شرف والحجرة التي نهواها
حبذّا ساعةٌ أتيناه فيها ... وصباحٌ وليلةٌ سرناها
ثم قلنا عليك يا أشرف الخلق ... صلاة ورحمة لا تضاهى
وعلى صاحبيك صهريك جاري ... ك سلامٌ يعطر الأفواها
يا رسول الإله يا أشرف الخل ... ق ويا أعظم النبيين جاها
يا مغيث الأنام في موقف الحش ... ر إذا أوثق النفوس رداها
حيث كلٌ يقول: نفسي نفسي ... ليس يرجو نجاة شيءٌ سواها
فتنادي أنا لها زادك الّله ... ارتقاءً ورفعةً ترضاها
فهناك الرسول يسجد لله ... لدى العرش مخبتاً أوّاها
ملهماً أشرف المحامد لله ... وما كان قبل ذاك دراها
فينادى ارفع واشفع تشفّع ... ثم سل كلّ حاجة تعطاها
ثم يؤتى بأمّة نظر الله ... إليها بأحمدٍ فهداها
ثم يمضي بهم سريعاً إلى الجنة ... يا فوزها ويا بشراها
قلت: نظم، مقبول، إلا أن فيه لحناً خفياً، ولحناً ظاهراً، فالظاهر في قوله: ومن تنف، فجزم بمن، توهمها شرطية، وليس كذلك، والخفي قوله: وسل كل حاجة تعطاها، جواب الأمر في: سل تعطها، ولكنه يجوز، وهو أهون من الأول.
عبد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون
الشيخ تقي الدين الهرغي، بضم الهاء وسكون الراء، وبعدها غين معجمة، الزكندري، بالزاء والكاف والنون والدال المهملة، والراء المراكشي، قاضي الركب المغربي.
اجتمعت به بجسر اللبادين بدمشق في حادي عشر صفر، سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وسألته عن مولده فقال: في تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وسبع مئة.
وأنشدني من لفظه لنفسه ملغزاً في البربر:
وما أمّة سكناهم نصف وصفهم ... وعيش أعاليهم إذا ضمّ أوّله
ومقلوبه بالضم مشروب جلّهم ... وبالفتح من كلٌّ عليه معوّله
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً:
اسم الذي قد سبى قلبي تجنيّه ... وعزّ ملك جميع الحسن يطغيه
ما كل آخره عشرٌ لأوّله ... وعشر ثالثه شطرٌ لثانيه
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً:
قسماً بورد الوجنتين ونضرته ... وبقدرك السامي الرفيع وعزّته
لو لاح وجهك في الكرى لكثيّر ... ما اعتاده برح الخيال بعزته
أو لو رأى الضّليل بعض جمالكم ... ما ضلّ عن سبل الهدى بعنيزته
عبد الله بن محمد(1/437)
أبو محمد المرجاني القرشي التونسي الشيخ الإمام العالم المفتي.
كان مشهوراً في الآفاق ذكره، مشهوداً في البواطن علمه وخبره، وكان إماماً مفتياً في مذهب مالك، عالماً بما فيه من المآخذ والمسالك، حلو العبارة مذكرا، خبيراً بعلوم القرآن مفسرا، ما كان أحد يقدر على إعادة ما يسرده، ولا حفظ ما يقوله ويورده، لأنه كان ربما يتكلم على الآية الواحدة ثلاثة أشهر، وتخيل الناس أن هذه المادة من بحر زاخر، فإنها تستكثر على الأنهر، وله يد طولى في الحديث ومعرفه، وقدم راسخ في العبادة والتصوف البديع الصفه، ولم يصنف شيئا، ولا ترك لشخصه فيئا، وترك مجلدات كثيرة إلى الغايه، وعلى الجملة فكان آيه.
توفي بتونس رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة. وعاش اثنتين وستين سنة، وصلى عليه المستنصر أبو عبد الله محمد بن الواثق صاحب تونس.
قدم الإسكندرية والقاهرة، وذكر بهما، وتعجب الناس منه رحمه الله تعالى.
عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن خليل
بهاء الدين العسقلاني ثم المكي المقرئ الشافعي المحدث.
عني بالحديث، وارتحل له، وأخذ عن بيبرس العديمي بحلب، وعن ست الوزراء، والدشتي بدمشق، وعن التوزي، ورضي الدين بمكة، وعن طائفة بمصر، وقرأ المنطق، وقرأ بالروايات وأتقن المذهب.
وكان حسن القراءه، بديع المراجعة والبداءه، جيد المعرفة بعلومه، يضاهي الأفق في عداد نجومه، مليح المذاكرة إذا انشرح، بديع المحاضرة كأنه نسيم في السحر سرح، متين الديانه، مبين الصيانه، شديد الورع، عديم التسرع، يؤثر الانقطاع والخمول ويود أن لا يكون له بالخلق شمول. حصل المدارس والمعاليم، ثم ترك ذلك جميعه وانقطع، وآثر الحق الذي لاح له وسطع، ورابط بظاهر الإسكندرية في زاوية هناك، وخلص من الاشتراط والاشتراك.
وما زال على حاله إلى أن راح خفيف الحاد، وترك الفاني وأخذ ما ليس له من نفاد، وتوفي رحمه الله تعالى ... .
ومولده سنة أربع وتسعين وست مئة بمكة.
عبد الله بن محمد بن عسكر
ابن مظفر بن نجم بن شاذي بن هلال، شرف الدين أبو محمد القيراطي الشافعي.
سمع من الدمياطي، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وسمع بالإسكندرية من الأشياخ الموجودين في سنة سبع مئة، وقرأ الأصول على الباجي، والخطيب الجزري، والعربية على شيخنا أبي حيان.
كان فقيهاً أديبا، عارفاً لبيبا، محفوظه كثير، ومدده في التفسير غزير، ولي القضاء بنواحي عديده، ووجد فيها أموراً مفيتة ومفيده، ثم استعفى، وطلب لقضاء حلب، فاستخفى.
وحكى عنه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي أشياء دارت بينهما حسنة، دلت على أنه كان مطبوعاً.
ولم يزل على حاله إلى أن خلت منه القاهرة، وأوحش بفضله النجوم الزاهرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في بلبيس سنة اثنتين وسبعين وست مئة.
ولي القضاء بالمنوفية وبدمياط وبسيوط، ودرس بالسنجارية المجاورة لقبة الشافعي، وبالمشهد النفيسي، وأعاد بالقطبية وبقبة الشافعي، وترك القضاء، وطلب لقضاء حلب، فبكى بين يدي السلطان واستعفى، وسئل عن قضاء الغربية فلم يجب.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي، قال لي: ما بقيت أدخل في القضاء، فإني ما وجدت فيه خيراً، ومن شعره:
يا دارهم باللوى حيّيت من دار ... ولا تعدّاك صوب العارض الساري
ترى تعود ليالينا بقربهم ... قبل الممات وتقضى فيك أوطاري
ودّعت طيب حياتي يوم فرقتهم ... فالطرف في لجّة والقلب في النار
لله عيش مضت أيامه هدراً ... لم يبق فيها سوى أوهام تذكار
عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد
الشيخ الإمام الفقيه المحدث الفاضل شرف الدين أبو عبد الله الواني الدمشقي حفيد الشيخ برهان الدين المؤذن المقدم ذكره.
سمعه والده الشيخ أمين الدين من أبي بكر بن عبد الدائم، والمطعم حضوراً، ومن ابن سعد والبهاء بن عساكر، وبالقدس من بنت شكر، وبمصر وقوص والحرمين وحماة وحلب، وطلب هو بنفسه، وقرأ، وكان قارئاً مطيقا، فصيح اللفظ منطيقا، حاد الذهن، سريع الإدراك، بديع الاشتراك، لو عاش لكان عجبا، وأبقى له في الغابرين نبا، ولكنه مات عبطه، وأضاع الموت جمعه وتحصيله وضبطه.(1/438)
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وكان قد قرأ على شيخنا الذهبي وغيره، وكان فيه ورع، وعمل أربعين بلدية وغير ذلك.
وكتبت ورقة شهادة له باستحقاقه لما يتولاه من وظائف العلم، ونسختها ... .
عبد الله بن محمد بن محمد بن علي
الإمام القدوة شيخ المحرم، نجم الدين الأصبهاني المجاور، صحب أبا العباس المرسي تلميذ الشاذلي.
كان شيخاً مهيبا، وقوراً عجيبا، منقبضاً عن الأنام منجمعاً عن الناس في ذاته بالحطيم، زاهداً في الحطام.
تفقه في مذهب الشافعي فأتقنه، وبرع في علم الأصول وأثار معدنه، ودخل في طريق الحب، ونزل منه في جب، وصحبه الشيخ عماد الدين الحزامي.
ولم يزل على حاله إلى أن عدم الحرم أنسه، وأتاه العدم الذي يعم نوعه وجنسه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده في ثلاث وأربعين وست مئة.
جاور بضعاً وعشرين، حج من مصر، ولم يزر النبي صلى الله عليه وسلم، فعيب ذلك عليه مع جلالة قدره، وكان لجماعة كثيرة فيه اعتقاد عظيم.
عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن
الصدر الفاضل جمال الدين بن قاضي القضاة جلال الدين القزويني، وسوف يأتي ذكر جماعة من إخوته، وذكر والده وعمه كل منهم في مكانه.
كان قبل ما يتعلج، ويدخل في السمن ويتولج، ذا صورة في الحسن بديعه، وطلعة تترك قلوب من رآها صديعه، تتيم فيه جماعة وهاموا، وغرقوا في دموعهم وعاموا، ولما طلب السلطان والده ليوليه قضاء الشام كتب فيه تنكز أن هذا ولده يتعب الناس بسببه، فقال السلطان: أنا أترك ولده عندي بالقاهرة، فجهز والده، وأقام عبد الله المذكور بالديار المصرية، فخدمه الناس، وتقربوا إليه بمجالس اللهو والإيناس، وصحب الناس وعرفهم، ورافقهم وألفهم.
ولما حضر والده قاضي قضاة الديار المصرية زاد وجاهه، وارتفع عظمةً ونباهه، وحصل أموالاً جمه، وأملاكاً لا تذم لها ذمه، واقتنى من الخيل ما كثار بعدته وعدته نجوم الليل، وكانت له خبرة في معرفة جيادها، ودربة تامة في اقتنائها واقتيادها، وذهنه في غاية الحسن، وذكاؤه تعرفه القالة اللسن.
وحفظ التنبيه في الفقه وغيره من كتب العلم، ودرب الأحكام الشرعية كما يراه أولو الحلم.
ولما توجه والده مع السلطان إلى الحجاز ناب عنه في إلقاء الدروس، وعجب الناس منه، وحركوا له الرؤوس، ثم إنه خرج مع والده إلى الشام، وترك وراءه ملكاً كم لمح بارقه، وكم شام.
ولما كان الفخري على خان لاجين بدمشق قرره في ديوان الإنشاء كاتبا، وأجرى له معلوماً على ذلك وراتبا.
ولم يزل على ذلك إلى أن برك جمله فما قام، وثوى بعد تنعمه في ذل التراب وأقام.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.
ومولده .. .
وكان قد حصل له فالج ووالده بدمشق خطيب، فتعب عليه وعالجه أمين الدين سليمان إلا بقايا منه.
وكان شكلاً ضخماً، كبير البطن، ثقيل الحركة، يتعذر عليه المشي إلا بكلفة.
وحضر إلى دمشق بخيول عظيمة، وجوار كثيرة مبدعات الحسن، وكان يحتاج لجماعته ومن حوله في كل يوم خمسة أرطال لحم بالدمشقي، وكان يبالغ في اقتناء الخيل المسومة، ويسابق عليها أولاد الأمراء والأمراء ومماليك السلطان، وأخرجه السلطان لذلك من مصر، وأقام بدمشق مدة، ثم سأل والده فيه السلطان، وضمنه، فأذن له في العود، ثم أخرجه، ثم أعاده مرتين، وأنا شاك في الثالثة، وعمر بمصر على النيل بالقرب من جزيرة الفيل عمارةً عظمى أنفق عليها ما يزيد على ألف ألف درهم، ولما خرجوا من مصر اشتراها الأمير سيف بشتاك بأربعين ألف درهم، وأباع له النشو منها شبابيكها النحاس بأربعين ألف درهم، وكانت له دار أخرى داخل القاهرة عند دكة المحتسب أباعها بدون العشرين ألف درهم، أقل ما أنفق عليها ستون ألف درهم.
وأما الجواري فذكر لي من لفظه بالقاهرة: هن ما يبرحن عشرة، أربع منهن أمهات أولاد، وست أبيعهن وأشتري بدلهن دائماً.
وأما عدد خيله ومراكيبه وما يحتاج ذلك من السروج المرصعة واللجم والفكوك باليشم واليصم والأقواس والبرذنبات والكنافيش عمل الدار والمقصبه والعبي، وغير ذلك فشيء كثير جداً، لكل فرس بذلتان وثلاث، وقال لي في وقت: عندي تسع عشره حجراً غير البغال والأكاديش والفحول الثمينة.(1/439)
وأما الكتب المجلدة من الأدبيات والدواوين وغيرها من كل فن فكان عنده وحده خارجاً عن أبيه وإخوته فوق الثلاثة آلاف مجلدة، ولكن كل نسخة ما يقع مثلها في عمر مديد.
وأما الصيني من القطع النفيسة الجليلة الغريبة فشيء عظيم، إلى غير ذلك من سائر الأصناف النفيسة البديعة الثمينة.
وبالجملة فما كان إلا في عداد الملوك، وكان يحفظ ديوان ابن الفارض بكماله، ومن شعر الأرجاني وابن النبيه والحاجري والبهاء زهير وابن عربي والسراج الوراق وأبي الحسين وابن دانيال وابن النقيب، وفحول المتأخرين ما يقارب عشرين ألف بيت.
ولما مات كان قد ذهبت نعمته، ولم يبق منها إلا بقايا، وزالت بأجمعها، ولم يطرح الله فيها بركة، ووصل بعده أولاده إلى أن كانوا يستعطون من أصحاب أبيهم، ومن أكابر الناس، فسبحان العظيم.
عبد الله بن محمد بن عبد العظيم بن السقطي
الشيخ الإمام العالم فخر الدين أبو محمد الشافعي.
كان فقيهاً، وصنف منسكاً كبيراً، وناب في الحكم على باب النصر بالقاهرة، وأقام بمكة شاهداً على العمارة في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وكان شاهداً بالخزانة في قلعة الجبل، وسمع من ابن خطيب المزة، وحدث، وقيل: إنه شرح التنبيه.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
وهو ابن أخي القاضي جمال الدين ابن السقطي.
عبد الله بن محمدالمراكشي
بن عبد الله فخر الدين أبو محمد المراكشي كان فقيهاً مباركاً مشكوراً، اشتغل كثيراً بالعلم، ونسخ بخطه، وكان إمام المدرسة الرواحية، وفقيهاً بالمدارس. وقرأ بالروايات على الزواوي، وروى الحديث عن الرشيد بن مسلمة، وسمع من جماعة منهم شمس الدين محمد بن سعد المقدسي، وعبد الله بن الخشوعي، وابن طلحة، وإسماعيل العراقي، والعماد بن عبد الهادي، واليلداني، والكفرطابي، والسديد بن علان، والباذرائي، وعثمان بن خطيب القرافة، والنجم بن النور البلخي، وابن عبد الدائم.
وتوفي رحمه الله في مستهل شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وقد قارب الثمانين رحمه الله تعالى، دخل حمام السلاري فوقع ومات هناك، وغسل بالرواحية.
عبد الله بن محمد بن فضل الله
القاضي شمس الدين بن القاضي فخر الدين ناظر الجيوش.
نشأ في حياة والده، وتأهل للمناصب.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة.
وفقده والده، وكتب الأمير سيف الدين تنكز إلى والده وعزاه فيه.
عبد الله بن محمد بن أحمد
ابن خالد بن محمد بن نصر بن صغير، الصاحب الأثير الوزير فتح الدين القرشي المخزومي الخالدي الحلبي بن القيسراني.
سمع أبا القاسم بن رواحة، وابن الجميزي، ويوسف الساوي، وابن خليل، وأحمد بن الحباب، وجماعة.
كان من أعيان الوزراء، وأفاضل الكبراء، شارك في الفضائل والآداب، ودخل في عداد المحدثين والشعراء والكتاب، روى وروى الناس عنه، وأخذوا الفوائد منه.
كان ممن يزهى الزمان بوجوده، ويفخر بعلوه في علومه، ورقيه في جو جوده.
وكتب الإنشاء في الديار المصرية، وأطلع بدور المعاني في ليالي سطوره الحبرية، وكان كما قال ابن الساعاتي:
أشمّ عفيف العين واليد والمنى ... وغيب الحشا والسر والجهر والحلم
له قلمٌ يرجى ويخشى شراته ... فكم شدّ من أزرٍ وكم سدّ من ثلم
وفاق يد الغيث الصناع جلالةً ... بما بثّ من وشي بديع ومن رقم
ولم يزل بين صناعة البلاغة والتدبير، وتصريف الدول والتحبير، إلى أن فتح القبر له فاه، وقال كل من يعرفه: والهفاه ! وتوفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة خامس عشري شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبع مئة بالقاهرة.
ومولده سنة ثلاث وعشرين وست مئة.
كان له اشتغال بالحديث وتحصيله، وصنف في أسماء الصحابة المذكورين في الصحيحين، وترجم لهم، وروى شيئاً من أحاديثهم بأسانيده في مجلديه، وهما وقف المدرسة الناصرية بدمشق.
وكان يذاكر بأشياء حسنة مفيدة اللفظ والمعنى، وكتب الناس عنه قديماً، وممن روى عنه في معجمه الشيخ شرف الدين الدمياطي من نظمه، وأخذ عنه أشياخنا: فتح الدين بن سيد الناس، وعلم الدين البرزالي، والذهبي.
أنشدني من لفظه، قال: أنشدني من لفظه لنفسه الصاحب فتح الدين بن القيسراني:(1/440)
بوجه معذبي آيات حسن ... فقل ما شئت فيه ولا تحاشي
ونسخة حسنه قرئت فصحّت ... وها خطّ الكمال على الحواشي
وكان قد ولي الوزارة في دولة الملك السعيد بن الظاهر في ذي الحجة سنة سبع وسبعين وست مئة بدمشق، وقبض عليه في تاسع عشر شهر رجب سنة ثمان وسبعين وست مئة، ووليها أيضاً في دولة الكامل كتبغا فما أظن، وعمه عز الدين أبو حامد محمد كان وزيراً بدمشق للملك الناصر، وجده موفق الدين خالد وزير دمشق أيضاً للعادل نور الدين الشهيد، وكان عنده مكيناً، وقد ذكرت ترجمة موفق الدين مستوفاة في التاريخ الكبير.
وكان القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى قد نظم مرثية في الملك الظاهر، ومدح الملك السعيد، وضمن البيتين المشهورين، وهما:
خلف السعيد به الشهيد فأدمعٌ ... منهلةٌ في أوجه تتهلّل
ملكان ذلك راحلٌ وثناؤه ... باقٍ وذا باق ثناه يرحل
فكتب الصاحب فتح الدين إلى ابن عبد الظاهر لما وقف على المرثية:
يا ذا الذي أخذ الكتاب بقوّةٍ ... فأتى به وهو الأخير الأوّل
قد حاز فيه بدائع الحسن التي ... ما مثلها فهو الرئيس الأمثل
لا فاضلٌ ساواه فيه ولا مشى ... في مثل منطقه البليغ الأفضل
مستشهدٌ فيه بأحسن شاهد ... إذ قال بيتاً مثله لا ينقل
خلف السعيد به الشهيد فأدمعٌ ... منهلّةٌ في أدمع تتهلّل
وكذاك أنت خلفت فيه الفاضل ... الندب الجليل وأنت منه أفضل
أرهبت فيه فقد أتيت بمعجزٍ ... في كل سطر منه يبدو جحفل
قلت: ادعى بعضهم أن هذا البيت لابن قلاقس الإسكندري، يهنئ الأميرين محمداً وأبا السعود ولدي الداعي عمران بن سبأ صاحب عدن.
قلت: الصحيح أن ابن قلاقس ضمنه، فإني وقفت على مجموع لابن خلكان قاضي القضاة رحمه الله تعالى بخطه وقد أثبته لابن خفاجة الأندلسي، ومما وقفت عليه في هذه المادة وهي التعزية والتهنئة في بيت قول ابن شرف القيرواني:
بكينا عليه ضاحكين كأننا ... نهار عليه شمسه وهو ممطر
غراءً ممن زار القبور وغبطة ... بأبلج لبّاه سريرٌ ومنبر
وقد سبق الناس كلهم إلى هذا أبو دلامة زند بن الجون يعزي بالمنصور ويهنئ بالمهدي في كل بيت فقال:
عينان واحدةٌ ترى مسرورةً ... بأمامها جذلاً وأخرى تذرف
تبكي وتضحك مرة فيسوءها ... ما أنكرت ويسرّها ما تعرف
ويسوءها موت الخليفة محرماً ... ويسرّها أن قام هذا الأرأف
هلك الخليفة يال أمّة أحمدٍ ... وأتاكم من بعده من يخلف
أهدى لهذا الله فضل خلافةٍ ... ولذاك جنات النعيم تزخرف
وكتبت أنا إلى القاضي ناصر الدين صاحب ديوان الإنشاء بدمشق أهنئه بولد ذكر جاءه، وأعزيه في ولد ذكر مات، كل بيت عزاء وهناء:
عزاؤك فيمن غدا راحلا ... هناءٌ بهذا الذي قد حضر
فأوحشنا ذاك لمّا مضى ... وآنسنا اليوم هذا وسر
وهذا به عيشنا قد صفا ... وجرّعنا ذاك كأس الكدر
إذا الشمس في جوّها أشرقت ... فما ضرّنا حين غاب القمر
عبد الله بن محمد بن بهادر آص
جمال الدين بن الأمير سيف الدين.
كان شاباً حسناً ومليحاً، يخجل البدر سناء وسنا، ذا وجه ناسب الأقمار، وجرى حديثه في الأسمار، يخطه بقد من أين للرمح هزته، أو للغصن بزته، يكاد ينعطف بالنسيم إذا سرى، وينقصف من لطف حركاته إذا انبرى:
رأى قصر الأغصان ثم رأى القنا ... طوالاً فأضحى بين ذاك قواما
وكان رحمه الله تعالى يعمل بيده أشياء مليحة من آلات الجندية، قل من يعملها من حذاق الصناع، وعمل أشياء من أعمال الخرد فوشيه متقنة، ودخل بها إلى السلطان الملك الناصر حسن، وقدمها فاستحسنها منه.
وكان سعيد الحركات، له حظ وافر في المتجر، توجه مع والده الأمير ناصر الدين إلى الديار المصرية، وله إقطاع بالشام، فأقام بمصر عند والده، ومرض ثلاثة أيام، وكسف بدره.(1/441)
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري الحجة سنة إحدى وستين وسبع مئة، وترك شيئاً له صورة.
عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فيرو
الشيخ الإمام المحدث المفتي شيخ الإسلام زين الدين الفارقي، خطيب دمشق ومفتيها، أبو محمد الشافعي.
سمع من كريمة القرشية، وابن الصلاح، والسخاوي، وابن خليل، وطبقتهم، ثم إنه تحول إلى مصر، وقرأ على الشيخ عز الدين بن عبد السلام وغيره.
وروى الكثير، وأبان عن فضل غزير، وفاز بذكر شهير.
وكانت فيه زعارة وحده، وهيبة عظيمة وشده، وكانت فيه قوة للحق، وجلادة على مخاصمة الخلق، وتسرع في الافتاء وقع معه في هوة الإثم إلى الحلق، أراق دماءً كثيره، وقطع أطرافاً أمورها في ذلك الزمان شهيره.
وكان فصيحاً في لفظه، بديعاً في خطه، متحرياً في ديانته، متجرياً إلى أمد صيانته.
ولم يزل على حاله إلى أن فارقت الفارقي حياته، وورد عليه بما أبكى الناس عليه مماته.
وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري صفر سنة ثلاث وسبع مئة.
ومولده في سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
وكان شيخ دار الحديث الأشرفية، قدم من مصر بالمشيخة بعد الشيخ محيي الدين النووي رحمهما الله تعالى، ودرس بالشامية البرانية، والناصرية، وتصدى للإشغال. وكان قد باشر الإمامة والخطابة بالجامع الأموي في العشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة، وحضر الأفرم لسماع خطبته، وصلى بالمقصورة، وفي هذا اليوم قرئ تقليد قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بالمقصورة، قرأه الشيخ شرف الدين الفزاري.
وتولى مشيخة الحديث بالأشرفية سبعاً وعشرين سنة، وهو الذي اهتم بعمارتها بعدما احترقت أيام التتار، وعمرت أحسن مما كانت أولاً، وكان مقصوداً بالفتوى.
عبد الله بن موسى بن أحمد
الشيخ الصالح الجزري.
كان شيخاً مباركاً، كثير الخير والعبادة، وله مطالعة وفهم ومعرفة، وعليه هيبة ووقار، وأقام بجامع دمشق سنين بمشهد أبي بكر مجاوراً متعبداً منقطعاً. وسمع الحديث من ابن البخاري، وحدث عنه، وكان يلازم الحضور عند الشيخ تقي الدين بن تيمية، ويسأله ويضبط عنه أشياء من العلم. وحج غير مرة، وجاور بمكة وتعبد.
وتوفي في يوم الاثنين السادس والعشرين من صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة، ودفن بمقبرة الباب الصغير عند أولاد شيخه الشيخ عمر الجزري شيخ أرض نبات.
عبد الله بن موسى بن عمر
ابن يومن الزواوي، الشيخ المقرئ المحدث الصالح الزاهد العفيف.
قدم الحجاز قبل التسعين وست مئة، وأقام بمكة أكثر من المدينة، وجاور إلى أن توفي بها رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وصحب الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد بالقاهرة، وسمع عليه وعلى التقي عبيد، ومن مؤنسة بنت الملك العادل السباعيات التي خرجها لها ابن الظاهري، وحدث بها عنها. وسمع منه جماعة، وكان يحفظ الموطأ، وكان كثير الأمراض.
عبد الله بن يوسف بن أبي بكر
الشيخ جمال الدين الإسعردي الإصطرلابي.
رأيته بدمشق في الحائط الشمالي بالجامع الأموي، وجالسته غير مرة، فوجدت إنساناً منحرف المزاج، محتاجاً إلى العلاج، قد ساءت أخلاقه من ضيق رزقه، وأدته إلى نوكه وحمقه، إلا أنه إذا ثاب عقله، وأناب فضله وجد الطالب منه في قواعد هذا العلم غرائب، وجعل للبه عنده رغائب، ولو جاءه بطليموس كتبه الجمل الكبير والصغير، وضيع زمانه في ما يعرفه الإنسان في الكتاب، حتى يستطيل أو يستطير، وما أظنه انتفع به أحد، ولا كان عنده لطالب ملتحد.
ولم يزل في جنونه، ودوران من جنونه إلى أن سقط من قيسارية محسي فدخل تحت الشعاع، ولم يكن له عن الطريقة المحترقة من دفاع.
وكانت وفاته عشية السبت عاشر شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وكان يعرف الإسطرلاب معرفةً جيدة، وله أوضاع جيدة، إلا أنه كان منحرفاً يسب الناس ويغتابهم، ولا يذكر أحداً بخير لفقره، وضيق رزقه، وضعف بصره قبل موته.(1/442)
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
بقية حرف العين
عبد الله بن يوسف بن أحمد بن هشام
الشيخ الإمام العالم العلامة حجة العرب، أفضل المتأخرين، جمال الدين أبو محمد الأنصاري الحنبلي المصري.
شيخ النحو، ومن قام في أمره بالإثبات والمحو، أظهر فيه الإبداع وصنف، وقرط الأسماع وشنف، ونظر ودقق، وتعمد لأن تعمق وحقق، ورجح الأضعف، لذهنه المتوقد وأوهى الأقوى من الأقوال، وسهل المتعقد، وكد وكدح، وصد عن الباطل، وأطرب لما صدح، وناقض شيخنا أثير الدين وحجه، وعدل بمذاهبه عن المحجة، وكاد يميت ذكر أبي حيان، ويردي كل من جاء من جيان، فلو عاصره سيبويه لحاكم الكسائي إليه، وفصل أمر المسألة الزنبورية بين يديه، وفصل فصول كتابه وخلعها عليه، أو الفارسي لأجلب عليه بخيله ورجله، أو ابن جني لما كتم سر الصناعة من أجله، أو ابن مالك لكان له مملوكاً، وجعل به طريق التسهيل للناس مسلوكاً:
وأطلعه الفهم بعد النهي ... على مشكلات كلام العرب
ولم يزل بالقاهرة يصنف ويفيد، ويجود للطلبة بفوائده ويجيد، إلى أن نزلت به أم اللهيم الأربي، وفجعت به النحاة والأدباء.
وتوفي رحمه الله تعالى عشية الخميس خامس ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبع مئة.
مولده تقريباً بعد العشرة وسبع مئة.
وكان في أول عمره قد تفقه للشافعي، ثم انتقل أخيراً إلى مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، وحضر مدارس الحنابلة، وحفظ مختصر أبي القاسم الخرقي في دون الأربعة أشهر، مع ملازمة المطالعة والاشتغال، وروى الشاطبية عن قاضي القضاة ابن جماعة، وغيرها.
وصنف وأفاد وتخرج به جماعة من أهل الديار المصرية، ومن أهل مكة لما جاور بها، وأقرأ كتاب سيبويه مرات، وصنف كتباً في العربية منها: تعليقه على مشكل ألفية ابن مالك، ومنها: مقدمة في النحو سماها الإعراب عن قواعد الإعراب، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وهو كتاب مفيد قد جود وبيضه فسوده، واشتهر في حياته في الشام ومصر، واشتغل به أهل العصر.
عبد الله بن أبي الوليد محمد
ابن أبي القاسم أحمد بن أبي الوليد محمد التجيبي بن الحاج القرطبي المالكي.
إمام محراب المالكية بجامع دمشق، حدث عن ابن الثمانين، وكان مشهوراً بالصلاح.
توفي رحمه الله تعالى في سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة بظاهر دمشق.
وسيأتي ذكر والده في المحمدين.
عبد الله الفاتولة
بالفاء والألف والتاء ثالثة الحروف والواو واللام والهاء، الحلبي الدمشقي.
شيخ قد أسن، وبلي من الكبر فأشبه الشن، فقير حرفوش، مكشوف الرأس منفوش، عليه دلق رقيق، بالي الخرقة دقيق، قد تمكن منه الوسخ، وثبت فيه ورسخ، قد جمعه من عدة رقاع، والتقطه من متباعد البقاع، يعبث به الأطفال فيزط، وينهض لمناوشتهم وينط، له مجمرة يستدفئ بنارها، ويرتضي بعابها وعارها.
وكان عاقلاً، إلا أنه عن الصلاة لا يزال غافلاً، والناس مع ذلك يذكرون له كرامات، ويشهدون أنه يشهد في الملكوت مقامات.
ولم يزل على حاله إلى أن انحل فتل الحبل من الفاتوله، وأكلته أم دفر القاتوله.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة.
وكان يجلس عند عقبة الكتان بدمشق.
أخبرني شيخنا الذهبي، قال: كان الفاتولة جيد العقل، لا يقرب الصلاة، ولا يسأل الناس شيئاً، فقلت أنا في ذلك:
يا معشر المسلمين هذا إبراهيم في غاية الضلال
ومن عجيب الزمان يبدو ... فاتولة العصر في انحلال
عبد الله الحاجب
الأمير جمال الدين الدمرتاشي.
كان رأس الميسرة في الحجبة بدمشق، ركابياً بخدمة دمرتاش بن جوبان المقدم ذكره، وحبس بعده في قلعة دمشق مدة مديدة، ثم أطلق، وتولى شد المسابك بدمشق، ثم تولى شد المواريث الحشرية بدمشق في سنة خمس وأربعين وسبع مئة، فيما أظن، ثم إنه تولى مدينة دمشق في أيام الأمير يلبغا، وخدم الناس وأحسن إليهم، ثم تولى ولاية البر، وجمع له بين ولاية المدينة والبر زماناً، ولم يهتك مستوراً، ثم إنه تولى القبلية وهو على حاله في خدمة الناس ثم إنه ولي إمرة الحجوبية في الميسرة إلى آخر وقت وهو على حاله في خدمة الناس ومسايستهم إلى سنة تسع وخمسين وسبع مئة، فعزل عن الحجبة، وأخرج إلى طرابلس بطالاً، فأقام بها قليلاً، ورسم له بعوده إلى دمشق، فأقام بها بطالاً إلى أن توفي في ثاني القعدة يوم الجمعة سنة اثنتين وستين وسبع مئة.(1/443)
وكان قد حج في سنة خمس وخمسين وسبع مئة، وكان يزعم أنه في ولاية المدينة دخل إليه في الليل شيخ من الجن واعترف عنده أنه شرب الخمر وسأله أن يحده، وأنه فعل به ذلك، وطلبه فلم يجده، سمعت ذلك من لفظه غير مرة.
عبد الأحد بن أبي القاسم
ابن عبد الغني بن خطيب حران الشيخ العدل بقية الأخيار، شرف الدين أبو البركات بن تيمية التاجر.
سمع من ابن اللتي في الخامسة، ومن ابن رواحة ومرجى بن شقيرة، وعلوان بن جميع.
وكان له حانوت في البز، ثم انقطع، وحدث زماناً.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة في رابع شعبان.
ومولده بحران سنة ثلاثين وست مئة.
عبد الأحد بن سعد الله
ابن عبد الأحد بن سعد الله بن عبد القاهر بن عبد الأحد بن عمر الفقيه شمس الدين أبو محمد الحراني الشافعي.
كان فقيهاً فاضلاً، كثير التنفل، يستحضر الكثير من المذهب، وسمع الكثير ببغداد وبدمشق، وحدث، ومن شيوخه: ابن البخاري، وابن شيبان، ورقية بنت مكي، وابن الواسطي، والعماد بن العماد، والنفيس بن الكمال، والشمس بن الزين بدمشق. ومن شيوخه ببغداد: الكمال الفويرة، والرشيد بن أبي القاسم، ويوسف بن كرم، وابن الطبال، وعبد الرحيم بن الزجاج، وابن الدباب، وابن المريخ، وعبد المنعم بن عرندا. وسمع أيضاً بحماة وحلب والإسكندرية.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: وخرجت له جزءاً عن البغداديين وجزءاً عن الشاميين، وحدث بهما فيهما عن أكثر من مئة شيخ.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد عاشر جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
مولده بحران سنة ثمان وستين وست مئة، وكان يعرف بابن نجيح.
عبد الأحد بن يوسف بن الرزيز
تصغير رز.
خطيب جامع القاضي كريم الدين الكبير الذي بالقبيبات ظاهر دمشق، خطب فيه أول يوم فرغ من عمارته في شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وضره جماعة من القضاة والعلماء وأرباب الدولة، وقصد الناس الصلاة خلفه لبركته وحسن خطابته.
عبد الباري بن أبي علي الحسين
ابن عبد الرحمن كمال الدين بن الأسعد الأَرْمَنْتي، بهمزة مفتوحة، وراء ساكنة، وميم مفتوحة، ونون ساكنة، وتاء ثالثة الحروف، القرشي البكري.
سمع من ابن النعمان وغيره.
كان متورعاً زاهداً، يقطع الليل هاجداً، عنده وسواس في النجاسات، وتخيل زائد في توهم القاذورات، بحيث إنه زاد أمره، وتغير مزاجه، وكاد يخيب فيه طبه وعلاجه، وغلبت عليه السوداء، وما يتبعها من فساد التخيل والأدواء، فطلع المنبر بقوص بعد صلاة الجمعة، وادعى الخلافة له في كل بقعة، ثم إنه صلح حاله بعد ذلك قليلاً، وبقي في عقابيل ذلك نزيلاً.
وكان فقيهاً مالكياً، ثم تحول شافعياً، وحفظ كتاب ابن الحاجب في الفروع، والتعجيز أكمله حفظاً بعد الشروع.
ولم يزل على حاله إلى أن لسعه ثعبان فمات من سمه، وعدم روح الحياة ولذة شمه، وذلك بقوص سنة ست أو سبع وسبع مئة.
قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: ذكر لي جماعة من قوص أن قاضي القضاة أبا الفتح القشيري قال له: اكتب على باب بلدك أنه ما خرج منها أفقه منك.
وكان عنده قمح قد انتقاه وغسله بالماء فيزرعه في أرض يختارها بنفسه يتولى زرعه وحصاده وطحنه، وعنده طين طاهر يعمل منه آنية ليأكل فيها ويشرب.
عبد الباقي بن عبد الحميد
ابن عبد الله بن أبي المعالي متى بن أحمد بن محمد بن عيسى بن يوسف، الشيخ تاج الدين اليمني المخزومي.
كان أسمر اللون، ظريف الكون، شيخاً طوالاً، حسن العمة، بعيد الهمة، يدعي في الإنشاء أشياء لو صحت كانت معجزه، أو لو أتى ببعضها كانت من الغرائب الموجزة، لا يحقق شيئاً من العلوم، ولا مما يتصف به ذوو الألباب والحلوم، نعم كانت له قدرة على النظم والنثر، وهو فيهما كثير التردي في الردي والعثر.
وكان يقرئ في المقامات والعروض، ويحسن ما يدعيه بالتقادير والفروض، ونظمه أقرب إلى الجودة، ونثره يقال فيه كما قيل: قد عرفناك يا سوده، ويكتب خطاً نقشاً، ويجيد منه سطراً رقشاً، وعلى كل حال فكان من أشياخ الأدب، وجراثمه التي تقصد بالطلب.
وكان كثير الحط على القاضي الفاضل، وهذا دليلي على أنه لم يكن ممن يناظر أو يناضل، وكفته هذه الحطة، وحبسه بها سيئة أكفأته في هذه الورطة.(1/444)
وكان يرجح كلام ابن الأثير، وهذا كلام من هو بين أهل الكلام عثير، وبينهما عند أرباب هذا الفن من الفرق، ما بين القدم والفرق، وبينهما من البعد والبون ما بين الفساد والكون، أو الأبيض اليقق والأسود الجون، علم ذلك من علمه، أو جهله من جهله.
ولم يزل على حاله إلى أن فني عبد الباقي، ورقد في البرزخ إلى يوم التلاقي.
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر سنة ثلاث وأربعين، أو أوائل سنة أربع وأربعين وسبع مائة.
ومولده بمكة ثاني عشر شهر رجب سنة ثمانين وست مئة.
وكان قد ورد في أيام الأفرم إلى دمشق، وعمل رسالة سماها: قلائد الحور في المفاخرة بين المنظوم والمنثور، وحكم فيها القاضي محيي الدين بن فضل الله، فتوسط له عند الأفرم، فرتب له على الجامع الأموي بدمشق في الشهر مئة ردهم، وقرأ عليه الطلبة في المقامات والعروض. ثم إنه توجه إلى اليمن، وكتب الدرج باليمن، وربما وزر، ثم إنه لما توفي المؤيد صاحب اليمن صادره ولده المجاهد، وأخذ منه ما حصله، فورد إلى مصر سنة ثلاثين، وقدم إلى دمشق، ورأيته بها في سنة إحدى وثلاثين، ثم عاد إلى مصر، وبها اجتمعت به سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وفوض إليه تدريس المشهد النفيسي، وشهادة البيمارستان المنصوري.
ثم إنه ورد إلى دمشق، ورتب مصدراً بالحرم في القدس، فأقام به مدة وتردد إلى دمشق وحلب وطرابلس، وعمل له راتب بطرابلس، ثم توجه إلى القاهرة وأباع وظائفه، وبها توفي رحمه الله تعالى.
وكانت له قدرة على النظم والنثر، إلا أنه لم يكن له فيهما غوص على المعاني.
وكان ظنيناً بنفسه، يدعي أنه يملي على أربع كتاب، أو قال: خمسة في مقاصد مختلفة نظماً ونثراً، ويظن مع ذلك أن كلامه خير من كلام القاضي الفاضل، وعارض الرسائل المختارة للفاضل، مثل الرسالة الذهبية، وفتح القدس، وغيرهما، فكان كمن عارض الزواهر بالذبالة، والجواهر بالزبالة وكان كلامه متوسطاً، وعمل تاريخاً لليمن، وتاريخاً للنحاة، وليسا بشيء، وذيل على تاريخ ابن خلكان بذيل قصير جداً رأيته لم يبلغ به ثلاثين رجلاً.
وكان يعظم نفسه، ويطريها، بل يطغيها، ولكن لكلامه وقع في النفوس، وديباجة إذا أطنب في وصف نفسه، وتعيش بذلك زماناً، وقمر عقولاً أغماراً.
وأنشدني من كلامه المنظوم والمنثور كثيراً، وكتب على أشياء وقف عليها من تصانيفي تقريظاً بالنظم والنثر، فمن ذلك ما كتبه على كتابي جنان الجناس:
جنان جناس فاق جنس جنان ... يعين المعاني فيه جل معان
لقد نوع الأجناس فيه مؤلف ... طرائق وشي أو سموط جمان
غدا ناهجاً فيه مناهج لم يكن ... قدامة قدماً جاءها ببيان
مقاصد ما نجل الأثير مثيرها ... بدائع فضل من بديع زمان
محررة الألفاظ لكن حسنها ... رقيق ينسينا جليل حسان
إذا ابن فتى نجل الحديد أرداها ... تقول له أقصر فلست بدان
وما أنت فمن يسبك التبر ناقدً ... ومالك في سبك الفضا ريدان
لقد أطربت أبياته كل سامع ... فرائد ما جاءت لهن ثوان
تفوح بأرواح الصبا نفحاتها ... حظيرة بان عند حضرة بان
لقد صير الحساد تذرف دمعها ... مدامع شأن في محاجر شان
أقول لنظمي حين حاول شأوها ... رفيقك قيسي وأنت يمان
بقيت صلاح الدين للفضل صالحاً ... لحسن بيان من يراع بنان
فكتبت أنا إليه ارتجالاً:
لآ لي غوالٍ من حلي غوان ... وترجيع بم عند خفق مثان
أم الشيخ تاج الدين نظم شعره ... فما زهر روض من حلاه بدان
إمام زمام الفضل أضحى بكفه ... يصرفه يومي ندى وبيان
وزير بتدبير الممالك عارف ... غدا الناس في أيامه بأمان
إذا هو جارى الغيث يوم سماحه ... فذاك أوان ليس فيه بوان
يشيد مباني المجد في حومة العلى ... بهز يراع أو بسل يمان
فأقسم ما أثنى على ما وضعته ... بشعر ولكن بالجنان حباني
جناس بديع لو تقدم عصره ... أبان لنا في ذاك عجز أبان(1/445)
فشكري ما وفى حقوق صنيعه ... وكيف بشام شام برق يمان
وأنشدني من لفظه لنفسه:
تجنب أن تذم بك الليالي ... وحاول أن يذم لك الزمان
ولا تحفل إذا كملت ذاتاً ... أصبت العز أم حصل الهوان
قلت: أخذ الأول من قول الأول، وهو أحسن:
جهل الفتى عار عليه لذاته ... وخموله عار على الأيام
وأنشدني من لفظه لنفسه:
بخلت لواحظ من رأينا مقبلاً ... برموزها ورموزهن سلام
فعذرت نرجس مقلتيه لأنه ... يخشى العذار لأنه نمام
قلت: أخذه من قول الأول، وهو أحسن، وأكمل:
لافتضاحي في عوارضه ... سبب والناس لوام
كيف يخفى ما أكابده ... والذي أهواه نمام
وأنشدني من لفظه لنفسه في حمار وحش:
حمار وحش نقشه معجب ... فلا يضاهي حسنه في الملاح
فمذ غدا في حسنه أوحداً ... تشاركا فيه المسا والصباح
قلت: فيه إضمار قبل الذكر، ولا يجوز في الأفصح، ولغة أكلوني البراغيث مرذولة وأحسن من هذا قول القائل في فهد:
تنافس الليل فيه والنهار معاً ... فقمصاه بجلباب من المقل
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لا أعرف النوم في ليلى جفا ووفا ... كأن جفني مطبوع من السهد
فليلة الوصل تمضي كلها سمراً ... وليلة الهجر لا أغفى من الكمد
وأنشدني من لفظه لنفسه وقد زاد جمال الدين بن نباته الشاعر بدمشق، فرأى في بيته نملاً كثيراً:
مالي أرى منزل المولى الأديب به ... نمل تجمع في أرجائه زمرا
فقال لا تعجبا من نمل منزلنا ... فالنمل من شأنها أن تتبع الشعرا
عبد الحافظ بن عبد المنعم
ابن غازي بن عمر بن علي المقدسي، الشيخ المحدث أبو محمد.
سمع الكثير على الحافظ ضياء الدين ومن بعده من الشيوخ، ونسخ الكثير لنفسه وللناس، ثم إنه بعد ذلك كتب الشروط، وارتزق بذلك في أيام الشيخ شمس الدين ومن بعده من قضاة الحنابلة، وكان يكتب خطاً حسناً. ومن شيوخه: المرسي، ومكي ابن علان، وابن مسلمة، وخطيب مردا، والصدر البكري، واليلداني، وإسماعيل العراقي، وإبراهيم بن خليل، والعماد بن النحاس. وسمع بحلب والقدس، وكان يضبط أسماء السامعين، ويكتب الطباق.
وتوفي رحمه الله تعالى عاشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبع مئة.
عبد الحافظ بن بدران
ابن شبل بن طرخان الزاهد القدوة، المسند الرحلة عماد الدين أبو محمد النابلسي المقدسي، شيخ نابلس.
قدم دمشق في صباه، وسمع الكثير من الشيخ موفق الدين، وموسى بن عبد القادر، وابن راجح، وأحمد بن طاوس، وزين الأمناء، والبهاء عبد الرحمن، وابن الزبيدي، وجماعة.
وأجاز له أبو القاسم بن الحرستاني، وأبو البركات بن ملاعب.
تفرد بأشياء أسمعها، وأختص بمحاسن أجرى مياهها وأنبعها، قصد من البلاد للسماع والتبرك، وطلب لتسكين القلق والتحرك.
كان كثير الأوراد والتلاوة، والاجتهاد في الانجماع على ذلك علاوة، ملازماً بيته إلى جانب مسجده، مقبلاً على شأنه في تعبده، بنى بنابلس مدرسة، وجدد طهارتها، وتحيل كثيراً إلى أن أتقن عمارتها، إلا أن الكيمياء استحوذت على عقله، ورمت فؤاده منها بنبله، فعالج لواعجها، ونافح أكوارها، ولا أقول: نوافجها، ولم يصح له فيها كغيره تدبير، ولا علم فيها قبيلاً من دبير، ثم إنه ترك هذا الهوس، وقال له التوفيق: قد قصرت لما طولت فيها النفس.
ولم يزل على حاله إلى أن ضاع عبد الحافظ، وألقاه في حفرته اللافظ.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وست مئة، وقد شارف التسعين.
وأول سماعه سنة خمس عشرة وست مئة، رحل إليه ابن العطار وعلم الدين البرزالي، وسمع منه شمس الدين بن مسلم، وابن نعمة، وجماعة، وقرأ عليه الشيخ شمس الدين الذهبي عشرة أجزاء.
عبد الحق بن محمد
الشيخ الإمام المحدث مجد الدين أبو محمد.
سمع الكثير كأخيه من أصحاب ابن كليب، والبوصيري، وحدث، وهو أخو تاج الدين عبد الغفار السعدي.
أجاز لي بخطه بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وقد نيف على الثمانين.
عبد الحق بن أبي علي(1/446)
ابن عمرو بن محمد بن عمرون الصدر أمين الدين المعروف بالفارغ الحموي.
كان فاضلاً عاقلاً كثير الأدب، جيد النظم والنثر، حسن الترسل والإنشاء متفرداً بحل المترجم.
توفي بالقاهرة في رابع عشري المحرم سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
وبعضهم قال فيه: عبد الخالق، وسيأتي في مكانه.
عبد الحميد بن منصور
ابن علي بن عبد الجبار الأنصاري.
سمع من علي بن عبد الواحد، وإسماعيل بن أبي اليسر، وغيرهما.
وأجاز لي بخطه في السنة التي توفي بها رحمه الله تعالى، وهي سنة تسع وعشرين وسبع مئة في ذي القعدة.
ومولده في سنة ست وخمسين وست مئة.
عبد الحميد بن عبد الرحيم
ابن أحمد بن حسان، الشيخ المعمر الكبير تاج الدين أبو عبد الله الحريري الدمشقي.
أصله من وادي التيم، ذكر أنه يعرف الملك الأشرف والملك الكامل.
أقعد في أواخر عمره سنين، وكان مقبولاً عند القضاة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: ظهر سماعه لجزء ابن عرفة على ابن عبد الدائم، وحدث به غير مرة. قال: قرأته عليه قبل موته بقليل.
عبد الخالق بن عبد السلام
ابن سعيد بن علوان القاضي الإمام تاج الدين أبو محمد المعري، الأصل، البعلبكي، الشافعي، الأديب.
حدث عن الشيخ الموفق، والبهاء عبد الرحمن، والمجد القزويني، والكاشغري، والعز بن رواحة، والتقي أبي أحمد علي بن واصل البصري، وأحمد بن هشام اللبلي، والزكي أبي عبد الله البرزالي، وجماعة.
وأجاز له الكندي، وروى الكثير، وتفرد في وقته بالرحلة إليه والمسير، وحدث بدمشق بسنن ابن ماجة، وكان الطلبة إليه في جد حاجة. وكان صاحب أوراد وقيام في الدياجي وبكاء من خشية الله وخطاب وتناجي.
ودرس بالأمينية بدمشق، وولي قضاء بعلبك، وحمدت أحكامه، وشكرت سيرته وأيامه.
ولم يزل على حاله إلى أن راح عبد الخالق إلى من خلقه، وأوضح له من صبح الهدى فلقه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ثلاث وست مئة. فأناف على التسعين.
وسمع شيخنا الذهبي منه سنن ابن ماجة وأكثر عنه، وهو من أكبر شيوخه، وحدث عنه أبو الحسين اليونيني والمزي.
ومن شعره... .
عبد الخالق بن أبي علي
ابن عمر بن محمد بن عمر الصدر الفاضل الكبير عفيف الدين أبو الفضائل بن الصدر علاء الدين بن زين الدين بن الفارغ الحموي الشافعي.
قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز جزء ابن عرفة، قرأه عليه في سنة خمس وخمسين وست مئة، وعن ابن عبد الدائم والنجيب عبد اللطيف، وسمع من الباذرائي وجماعة.
وكان موصوفاً بالمروءة والمكارم، وقضاء الحقوق، وهو ابن أخت قاضي القضاة تقي الدين بن رزين.
وكان تقدم له اشتغال، وحفظ التنبيه، وقرأ الحديث، ثم إنه خدم بعض الأمراء بالقاهرة، وولي نظر الصدقات بدمشق مدة، وسكن درب العجم.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده سلخ رجب سنة ثمان وثلاثين وست مئة.
وقد تقدم ذكر أخيه عبد الحميد في مكانه.
وبعضهم سماه عبد الحق، وقد تقدم في مكانه.
عبد الرحمن بن إبراهيم
ابن عبد الله بن أبي عمر المقدسي، الشيخ الإمام الفاضل الزاهد عز الدين أبو الفرج بن الشيخ الإمام عز الدين بن الخطيب شرف الدين بن الشيخ الإمام القدوة أبي عمر محمد بن قدامة. سمع من ابن عبد الدائم، وأجاز لي بخطه في سنة تسع وعشرين وسبع مئة بدمشق.
وسمع من والده، ومن عم والده الشيخ شمس الدين، وعمر الكرماني، وعبد الولي ابن جبارة، وأحمد بن جميل، وأبي بكر الهروي وجماعة.
وكان رجلاً صالحاً كثير الخير مواظباً على أفعال البر فقيهاً فاضلاً، درباً مناضلاً، يعرف الفرائض، ويغوص في بحرها على الغوامض، ويده فيها طولى، ويورد فيها مذاهب عجيبة ونقولاً.
واشتغل عليه خلق كثير، وانتفع به جم غفير، وخرج له شمس الدين بن سعد مشيخة قرأها عليه شيخنا علم الدين البرزالي.
ولم يزل على خير إلى أن لقي الله ربه، ووجد عنده ما أحبه.
وتوفي رحمه تعالى في ثامن شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده تاسع جمادى الأولى سنة ست وخمسين وست مئة.
وحج مرة مع الشيخ شمس الدين، وكمل عليه كتاب المقنع بالمدينة، وحج بعد ذلك مرات.
عبد الرحمن بن أحمد(1/447)
ابن محمد بن محمد بن نصر الله الحموي، الشيخ الفقيه الإمام الزاهد ناصر الدين بن المغيزل الحموي.
كان مدرس العصرونية، وكان فقيهاً صالحاً، متواضعاً ديناً متعبداً.
توفي رحمه الله تعالى في العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة سبع وسبع مئة بحماة.
عبد الرحمن بن أيوب
تاج الدين مغسل الموتى.
أقام يغسل الموتى نحواً من ثمانين سنة. وكان رحمه الله تعالى تعافه النفوس، وتنفر منه لملازمة التغسيل والنزول في الرموس، لأنه اتصف بالقساوة، وعدم المبالاة بأمر بينه وبين الحياة اتضاد وعداوة.
رسم في وقت الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى بقتله بالمقارع فشفعوا فيه، فنقل حانوته من طريقه، وكان يمر عليه إذا توجه إلى دار الذهب، وكانت دكانهم في الكفتين، فنقلوا منها. وسئل قبل موته: كم غسلت من الأموات؟ فقال: ستين ألف ميت، وكان ذلك قبل موته بمدة.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح الغاسل غسيلاً، وصبحته نائبات المنايا وكان لها رسيلاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري شهر رجب الفرد سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. وكان من أبناء الثمانين.
عبد الرحمن بن أبي بكر بن أحمد
ابن عمر بن أبي بكر بن عبد الله بن الشيخ الفقيه الفاضل تقي الدين أبو محمد المقدسي الحنبلي.
كان فاضلاً في الفقه والحساب والفرائض والمساحة. وكان يوصف بالشجاعة والأمانة والهمة.
روى عن ابن عبد الدائم جزء ابن الفرات. قال شيخنا البرزالي: قرأته عليه بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتوفي في يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
عبد الرحمن بن أبي بكر
ابن محمد بن محمود القاضي كمال الدين البسطامي الحلبي الحنفي.
ناب في الحكم بالقاهرة، وكان إماماً بالقبة المنصورية، ومدرساً بالمدرسة الفارقانية.
كان قد عجز عن الحركة ولزم بيته. وكان قد سمع من النجيب عبد اللطيف من الموافقات المخرجة له، وحدث عنه بأكثر سنن أبي داود. وكان يحفظ كتاب الهداية في الفقه.
ونزل عن الفارقانية، والتربة الأشرفية لولده الفقيه سراج الدين عمر.
عبد الرحمن بن الحسن
الفقيه الإمام القدوة الرباني البركة نجم الدين اللخمي المصري القبابي، بالقاف والباء الموحدة وبعدها ألف وباء ثانية الحروف. والقباب قرية بناحية دمياط.
تفقه للإمام أحمد، وبرئ به طرف الزهد وكان أرمد، نزح من مصر بأهله، ونزل في حمص برحله، فانزوى بها، وخيم بين قبابها، وفتح حانوت فاخوري لأجل البلاغ، وتحصيل ما للعيال فيه مساغ، وكان ينبه المشتري على عيوب الآنية، ويجتهد في إعلامه خوفاً من أن يسقى من عين آنية. ثم إنه تحول إلى حماة، فعرف به صاحبها، فآواه وحماه، وأقبل عليه وكان يزوره، ويعد أن ذلك حبوره، فاشتهر أمره، وقصد بالزيارة مقره.
ولم يزل على حاله إلى أن لقي باب قبره القبابي مفتوحاً، وقال روحه الطيب لملكيه: روحا.
وتوفي رحمه الله تعالى بحماة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.
وحمل على الرؤوس، وقبره الآن بحماة يزار.
حدث بشيء يسير عن عيسى المطعم، كان قد سمع منه مسند الدارمي، وترك المدارس بمصر، وتوجه إلى حمص. وكانت له جنازة عظيمة إلى الغاية.
عبد الرحمن بن رواحة
ابن علي بن الحسين بن مظفر بن نصر بن رواحة، الشيخ الجليل المسند زين الدين بن أبي صالح الأنصاري الحموي الشافعي نزيل مدينة سيوط.
سمع من جده لأمه أبي القاسم بن رواحة عدة أجزاء منها: القناعة لابن مسروق، وسمع من صفية بنت الحبقبق جزءاً من معرفة الصحابة لابن مندة وهو الثامن، وللبغوي، وله إجازة من ابن روزبة والشيخ شهاب الدين السهروردي، وطائفة.
وتفرد في زمانه، وتأخر عن أقرانه، واختفى ذكره مده، ثم إنه تنبه له من الطلبة عده، وحدث في آخره عمره وخاتمة أمره.
ولم يزل على حاله إلى أن خرج روح ابن رواحة، ولقي من الله جودة وسماحة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة.
وكان كاتباً في سيوط.
عبد الرحمن بن عبد الرحيم
ابن عبد الرحمن بن إسماعيل بن رافع العثماني القوصي الكيزاني سديد الدين.(1/448)
سمع من مجد الدين القشيري، ومن ابنه الشيخ تقي الدين، ومن عبد العظيم، ومن ابن برطلة، ومن ابن عبد السلام، وغيرهم وحدث بقوص.
سمع منه شرف الدين النصيبي وغيره. وحدث بالقاهرة، وقرأ الفقه على الشيخ مجد الدين.
وكان خفيف الروح مطبوعاً، سليم الصدر متبوعاً، إذا انشرح أضحك الثكلى، وتحقق السامع أنه لا يرى له شكلاً، وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ينبسط معه، ويهش له إذا سمعه، وينشده، ويبره ويرفده.
ولم يزل على حاله إلى أن وقع السديد في الكرب الشديد، وراح إلى المبدي المعيد.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس عشرة وسبع مئة.
ومولده بقوص سنة أربع وعشرين وست مئة.
وكان ابن دقيق العيد إذا رآه وخلا به أنشده:
بين السديد والسداد سد ... كسد ذي القرنين أو أشد
عبد الرحمن بن عبد اللطيف
ابن محمد بن عبد الله بن وريد المكبر البزاز، المعروف بالفويرة، الحنبلي المقرئ المحدث.
كانت له إجازة من ابن طبرزد، وابن سكينة، وأحمد بن الحسن العاقولي، والحسين بن شنيف، وعبد الملك بن مبارك قاضي الحريم، ومحمد بن هبة الله بن كامل الوكيل، وابن الأخضر، وأبي البقاء العكبري، وسليمان بن الموصلي، وعبد الله بن المبارك بن أحمد بن سكينة وغيرهم. وسمع من ابن صرما ومحمود بن مندة وعمر بن كرم، ويعيش بن مالك بن ريحان، وأبي القاسم بن علي بن يوسف بن أبي الكرم الحمامي، ومحمد بن الحسن بن أسلم الفرغاني، ومحمد بن أحمد بن صالح الجيلي، وزيد بن يحيى بن هبة، وأبي الحسن محمد بن محمد بن حرب النرسي.
وقرأ القراءات على الفخر الموصلي صاحب يحيى بن سعدون القرطبي.
وتوفي رحمه الله تعالى ببغداد في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وست مئة.
وكان شيخ المستنصرية في عصره لعلو إسناده، قارب المئة سنة.
قال شيخنا البرزالي: أجاز لي ولولدي محمد غير مرة، وهو آخر من روى بالإجازة عن ابن طبرزد، وابن سكينة.
عبد الرحمن بن عبد المحسن
ابن حسن بن ضرغام بن صمصام، العدل الفقيه المعمر، كمال الدين الكناني المصري المنشاوي الحنبلي.
سمع من سبط السلفي، والصدر البكري، وطائفة.
وسمع منه شيخنا الذهبي.
كان يخطب بالمنشأة التي لقناطر الأهرام، وصار عدلاً بالقاهرة دهراً، واختبل قبل موته بنحو من أربعة أشهر.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة عشرين وسبع مئة.
ومولده بالمنشأة سنة سبع وعشرين وست مئة.
عبد الرحمن بن عبد المحسن بن عمر
ابن شهاب، الإمام المفتي الشيخ تقي الدين أبو الفرج الواسطي الشافعي، محدث واسط.
قدم دمشق، وحج مرات، وسمع هو وشيخنا الذهبي، وأخذ عن المخزمي، وبنت جوهر، والموجودين.
وكان ذا مروءة، ومحاسن مخبوءه، متواضعاً لمن يلقاه، إذا رأى شراً بصاحبه توقاه، كيساً خيراً، ذا باطن بالإخلاص نيراً.
قال شيخنا شمس الدين: حصل كثيراً من مروياته، وحدثنا عنه ابن ثردة الواعظ، وصحب الشيخ عز الدين الفاروثي.
وتوفي رحمه الله تعالى ببغداد سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وسبعين وست مئة.
عبد الرحمن بن عبد المولى بن إبراهيم
الشيخ المسند أبو محمد اليلداني الصحراوي.
سمع الكثير من جده تقي الدين، والرشيد العراقي، وابن خطيب القرافة، وشيخ الشيوخ الأنصاري، وأجاز له العلم السخاوي، والحافظ ضياء الدين، وآخرون.
وتفرد بأشياء، وسمع منه الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام رحمه الله تعالى كتاب الآثار للطحاوي، ووصله ورتب له مرتباً. وكان فقيراً، ثم عمي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة خامس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة أربعين وست مئة، وهو سبط اليلداني.
عبد الرحمن بن عبد العزيز
ابن عبد الرحمن بن عبد الواحد بن عبد الرحمن بن عبد الواحد ابن هلال، فخر الدين أبو محمد الأزدي الدمشقي.
كان عدلاً ابن عدل ابن عدل، كان منقطعاً عن الناس ملازماً لبيته وعياله، ليس له تعلق بغير ذلك.
توفي رحمه الله تعالى في بستانه بالنيرب ظاهر دمشق، في صفر سنة أربع عشرة وسبع مئة.
وكان قد روى شيئاً من الحديث عن ابن أبي اليسر، وسمع من جماعة. وحج وحدث بطريق الحجاز.
ومولده في المحرم سنة ثلاث وستين وست مئة بدمشق.
عبد الرحمن بن عبد الوهاب(1/449)
ابن علي بن أحمد بن عقيل، الإمام الخطيب ضياء الدين بن الخطيب السلمي البعلبكي.
سمع من أبي المجد القزويني كتاب شرح السنة، وكان خاتمة أصحابه، وسمع من ابن اللتي، وابن الصلاح.
وكان خيراً متواضعاً، يخضب بالحمرة، وبقي في الخطابة بضعاً وخمسين سنة، وسمع منه شيخنا الذهبي.
وتوفي رحمه الله تعالى ثالث صفر سنة ثلاث وسبع مئة.
ومولده سنة أربع عشرة وست مئة.
عبد الرحمن بن علي
ابن إسماعيل بن يحيى بن البارزي، الصدر الكبير زين الدين بن علاء الدين المعروف بابن الولي الحموي.
كان متعيناً في بلده، وله مكانة عند الملك المؤيد، وعند ولده الأفضل، وكان وكيل بيت المال بحماة، وبنى بها جامعاً، وصلى فيه.
وتوفي رحمه الله تعالى خمس شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
عبد الرحمن بن عمر
الصدر الرئيس شرف الدين بن الصاحب فخر الدين بن الخليلي.
كان قد ورد إلى دمشق متولياً نظر ديوان سلار عوضاً عن القاضي عماد الدين بن ريان.
وكان شاباً عاقلاً، عنده سكون ومعرفة، وفيه رياسة وحشمة.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع صفر سنة تسع وسبع مئة.
وكان قد حضر بعده على نظر الدواوين المذكورة عز الدين محمد بن كمال الدين عبد القادر بن منهال، وسيأتي ذكره.
عبد الرحمن بن عمر بن علي
الهاشمي الجعفري الشنشتري، الطبيب نور الدين، الحكيم الطبيب.
كان فاضلاً في علوم، وكتب المنسوب الذي أخجل الدر المنظوم، وبرع في الإنشاء والأدب وأيام الناس من العجم والعرب، واتصل بعلاء الدين صاحب الديوان، فأجله مع أصحابه في الإيوان، وحصل بالطب أموالاً، وتقدم في الدولة فما يدري أعادى الناس أم والى، ثم إنه أقبل على التصوف، ودخل في التصون ورحل عن التشوف والتسوف، وخاض تلك الغمرات، وترنم بذكر البان وليالي السمرات، وعمر خانقاه، جعل نفسه شيخها المشار إليه، وكبيرها الذي يفد الناس عليه ، وعظم شأنه عند خربندا، وبقي دخله في العام سبعين ألفاً.
ولم يزل على حاله إلى أن دخل النور من الأرض في ظلماتها، وذكر الناس به أيام الفضل وطيب أوقاتها.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة وقد أسن.
وكان قد قدم بغداد، ونزل بالنظامية، وتفقه ومهر في الطب، وتخرج بابن الصباغ، وابن القسيس، ونوه عز الدين الجعفري متولي البصرة بذكره، وهو والد الشيخ نظام الدين يحيى الذي كان شيخ الربوة بدمشق، وعاد إلى بغداد.
عبد الرحمن بن عمر بن صومع الدير قانوني
الشيخ الصالح أبو محمد سبط الشيخ زين الدين بن عبد الدائم.
سمع من ابن اللتي، والهمذاني، والحافظ ضياء الدين المقدسي وغيرهم.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمعت عليه مسند أبي بكر رضي الله عنه من أول مسند ابن حميد وغير ذلك.
ضرب التتار رقبته بالصالحية، ولم يتفق دفنه في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة. وكان صائماً عدة أيام.
ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة.
عبد الرحمن بن عمر بن الحسن
ابن علي كمال الدين التيمي الأرمنتي، يعرف بالمشارف.
كان جواداً كريماً، رئيساً حليماً، كثير المروه، غزير الفتوة، شاعراً أديباً ماهراً في فن الكتابة أريباً، تقلب في الخدم الديوانية، وتسلب ما في الجهات السلطانية.
ولم يزل على حاله إلى أن فارق الدنيا، ونزح عن السفلى إلى العليا.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وسبع مئة.
ومن شعره:
حبست جفني على الأرق ... نغمات الورق في الورق
وانعطاف الغصن صيرني ... واختلاف النور في نسق
هائماً لم أدر ما فعلت ... يد هذا البين بالأفق
ومنه:
ألحظك فيه سحر أم حسام ... وخدك فيه ورد أم ضرام
وثغرك فيه در أم أقاح ... دماً في فيك شهد أم مدام
خطرت فكاد في فرط التثني ... يغرد فوق عطفيك الحمام
أياً من خص بالتعذيب قلبي ... أما في الوصل بعدك لي مرام
قلت: شعر مقبول له ديباجة إلا أن في الأول فصلاً بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله: صيرني وصيرني متعلق ب؟ هائم، ومثل هذا لا يجوز، وقوله في الثاني: خطرت. أحسن منه قول أبي طاهر حيدر البغدادي:
خطرت وكاد الورق يسجع فوقها ... إن الحمام لمغرم بالبان(1/450)
عبد الرحمن بن محمد
بن محمد بن عمر
الشيخ الفقيه المسند الأصيل مجد الدين ابن الشيخ المحدث مجد الدين بن الصفار الإسفرايني.
سمع على كريمة، وابن الصلاح، والقرطبي، وإسماعيل بن ظفر، وعتيق السلماني، وشيخ الشيوخ ابن حموية، وعمر بن البراذعي، والصريفيني، وجماعة، وحدث بدمشق والقاهرة.
وكان رجلاً جيداً، قرأ كتاب التعجيز في الفقه وجود حفظه، وقرأ غيره.
وكان ملازماً للاشتغال، طاهر اللسان، حسن الأخلاق قنوعاً. وكان فقيهاً في المدارس، وتولى مشيخة الخانقاه الشهابية.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة.
عبد الرحمن بن محمد
الإمام القدوة العابد المتبع المذكر تاج الدين ابن الإمام أفضل الدين أبي حامد التبريزي الشافعي الواعظ، أحد من قام بالإنكار على رشيد الدولة وزير التتار، وطعن في نحلته وفلسفته، فما أقدم الرشيد عليه، وأعرض عنه لرفعة قدره في نفوس الناس من أهل بلد تبريز.
كان قوالاً بالحق، قواماً بالصدق، سلفي الاعتقاد، ذا سكينة وإخلاص واجتهاد، وعظ ذكر، وعظ بناجذ الصدق وفكر، وكانت له في النفوس مهابة، وعنده خشوع وإنابة. وقدم دمشق بنية الحج بأبيه وبنيه وجماعته وذويه، وسار وحج وعاد مع الركب العراقي، وأعمل اليعملات طمعاً في التلاقي، فأدركه أجله في بغداد، فانقطع بذلك السير والإغذاذ.
وكانت وفاته سنة تسع عشرة وسبع مئة، وله ثمان وخمسون سنة.
عبد الرحمن بن محمد بن عسكر
البغدادي المالكي، الشيخ شهاب الدين مدرس المستنصرية ببغداد، شيخ المالكية.
روى عن ذي الفقار محمد بن شرف العلوي مسند الشافعي بسماعه من ابن الخازن، وسمع من علي بن محمد الأسد آبادي، وعز الدين الفاروثي، والعماد بن الطبال، وسمع في الحجاز من زين الدين ابن المنير قصيدة.
وأخذ عنه الشرف بن الكازروني، وأبو الخير الدهلي، وولده الفقيه شرف الدين أحمد الذي درس بعده، تخرج به الأصحاب. وتلقي لعظمته بالترحاب. وبعد صيته وسمعته. وأوقدت في المحافل شمعته.
وكان صاحب أخلاق، ومواهب في الحال وإطلاق. وعنده تصور وتصديق وتصوف، وتطلع إلى الواردات وتشوف. يشهد السماع، ويكشف القناع، ويتواجد لطفاً، ويتعاهد ذلك ظرفاً، ولا يرعى ناموساً ولا يراعي ملبوساً. دخل اليمن، وفاز هناك بغلاء الثمن. وله مصنفات في المذهب وفي الدعوات، وله: عمدة السالك والناسك. وله غير ذلك.
ولم يزل على حاله إلى أن هزم جيش ابن عسكر، وأصبح فريداً في قبره كأن لم يذكر.
وتوفي رحمه الله تعالى اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة.
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن
ابن يوسف البعلبكي، ثم الدمشقي الحنبلي، الفقيه، المحدث، المفيد، فخر الدين أبو محمد.
سمع من الفخر في الخامسة، ومن ابن الواسطي، وابن القواس، ثم طلب بنفسه سنة خمس وسبع مئة، رحل وكتب، وتعب ودأب. وكان عين الطلبة، ومعين السامعين على بلوغ المأربة. وكان يقرأ على الكراسي، ويجلس في تلك المراسي، وفيه للعوام نفع، وبه في صدر الشيطان ضرب ودفع. وتميز ودرس الفقه على مذهبه، وتعب على تحصيل منصبه.
ولم يزل على حاله إلى أن حلت به الداهية، وأصبحت عينه شاخصة ساهية.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثمانين وست مئة.
عبد الرحمن بن محمد بن علي
أبو زيد الأنصاري الأسدي القيرواني، المعمر، صاحب تاريخ القيروان.
أخذ عن عبد الرحمن بن طلحة، وعبد السلام بن عبد الغالب الصوفي، وطائفة، وأجاز له ابن رواج، وابن الجميزي، وسبط السلفي، وجماعة. وخرج له أربعين تساعيات بالإجازة.
سمع منه محمد بن جابر الوادي آشي.
وكن مؤرخ بلده ومحدثها، ومانح فوائدها ومورثها. عمل هذا التاريخ المختص ببلده، وما رئي مثل صبره على ذلك ولا جلده.
ولم يزل على حاله إلى أن أدركه مكتوبه، وفرغ من عمره محسوبه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة خمس وست مئة.
عبد الرحمن بن محمد بن علي
الفقيه النبيه، تاج الدين ابن الإمام العلامة فخر الدين المصري الشافعي، وسوف يأتي ذكره والده في مكانه من حرف الميم.(1/451)
حفظ المنهاج للنووي، ومنهاج البيضاوي في الأصول، وناب عن والده في تدريس العادلية الصغيرة وفي الرواحية. ونزل أبوه له عن تدريس الدولعية. وحج مع والده سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وجاور والده، وقدم هو صحبة الركب إلى دمشق.
وكانت فيه هشاشة، وله بمن يلتقيه بشاشة. وفيه تعصب مع الناس، ومروة توجب له الإيناس. وعنده كرم وجود، واعتراف بالجميل من غير جحود. وفي كل قليل يعمل للفقهاء ولأصحابه دعوه، ويرزق بالثناء عليه فيها حظوه.
ولم يزل على حاله إلى أن ذوى ينعه، وغاض من الحياة نبعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
ومولده في عشرين شهر ربيع الآخر سنة ست وعشرين وسبع مئة.
كان في الحمام، فبصق دماً، فخرج من الحمام، وقد أيقن بالهلاك، ودار على أصحابه وودعهم، ويقول لكل واحد منهم: لا أوحش الله منكم، قد بصقت، وأنا ميت. وتأسف الناس على فقده.
ومما قلت أنا في ذلك الوقت:
يا رحمتا لدمشق من طاعونها ... فالكل مغتبق به أو مصطبح
كم هالك نفث الدما من حلقه ... أوما تراه بغير سكين ذبح
عبد الرحمن بن محمد بن علي
ابن عبد الواحد الصدر الفقيه، القاضي تقي الدين ابن الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام كمال الدين بن الزملكاني الشافعي.
كان في حل المترجم آية، وفي حل الألغاز غاية. وما عدا ذلك فهو منه عري، ومما كان يعرفه والده بري. وخطه لا يرضى به تعيس أن يكون حظه، وذهنه في غير ما ذكرته لا يفهم به لفظه. على أنه كان ينظم ولكن خرزا، ويدع الطرس بذلك من خطه صعيداً جرزاً. ولكن كان سليم الطباع، جيد الصحبة لطيف الاجتماع. ينفعل لأصحابه، ويوافق كلاً منهم على آرائه. وجوده متدفق، وبذله لما في يده غير مترفه ولا مترفق.
ولم يزل على حاله إلى أن فارق الأوطان، ونزح من الأعطان.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة بدمشق.
وطلبت أنا من الديار المصرية في أيام الأمير سيف الدين تنكز بوساطة القاضي شهاب الدين بن القيسراني في المرة الثانية، ولما جئت رتبت مكانه في ديوان الإنشاء. وكان هو رحمه الله قد توجه صحبة والده إلى الديار المصرية، ولما توفي والده في بلبيس، دخل هو القاهرة ودفن والده عند قبر الشافعي رضي الله عنه.
وكان والده قد عمل سيرة مليحة للسلطان الملك الناصر محمد، فدخل وقدمها، وساعده الناس إكراماً لأبيه، وعضده الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار، فرسم له بتدريس المسرورية وبأن يكون في جملة كتاب الإنشاء بدمشق، فدخل إليها وأهل دمشق إما أقاربه، أو تلاميذ والده، وإما أصحابه، فرعوه لذلك.
وكان قاصراً في كل ما يعرفه والده، إلا في حل المترجم، كان يحله بلا فاصلة في أسرع ما يكون، وكذلك الألغاز حتى إنني كنت أتعجب له في ذلك من جود ذهنه في غير هذين، وتوقد ذهنه فيهما. فسبحان الله العظيم والده شيخ الإسلام وكل ما يعرفه كان فيه آية، وهذا ولده هكذا، مع ما تعب عليه والده واجتهد.
عبد الرحمن بن أبي محمد
ابن محمد بن سلطان القرامزي، الشيخ الصالح، بقية السلف، أبو محمد الحنبلي.
كان شيخاً مشهوراً، يلازم الجامع أعواماً وشهوراً، كثير الصلوات، غزير الخلوات، له مريدون وأصحاب وخدام وأحباب. اشتغل بالعلم أولاً، وانقطع للعبادة والتلاوة، جعل ذلك معولاً، وللناس فيه عقيدة، ومحبة عتيدة.
ولم يزل على حاله إلى أن لحق بالباري تعالى، وتواتر البكا عليه وتوالى.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل المحرم سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة ببستانه بأرض المصيصة ظاهر دمشق.
وصلى عليه بجامع جراح، ودفن بمقبرة الباب الصغير في تربة له جوار القلندرية.
سمع من ابن أبي اليسر، والنجم بن النشبي، والشيخ حسن الصقلي، والجمال البغدادي الحنبلي، والمجد بن عساكر، وابن هامل، والكنجي، وجماعة. وسمع بالقدس من الخطيب قطب الدين، وبالخليل من الشيخ عبد الدائم بن الزين بن عبد الدائم.
وحدث بدمشق والقاهرة، وكان تلا بالروايات على الشيخ حسن الصقلي.
عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل
ابن محمد بن أحمد بن أبي الفتح، الخطيب عفيف الدين أبو محمد ابن الشيخ الخطيب المرداوي المقدسي خطيب مردا.(1/452)
ورد دمشق مع والده، وقرأ الحديث بنفسه سنة ثلاث وخمسين، وسمع الكثير على والده وابن عبد الدايم. وخطب مدة طويلة بالقرية المذكروة، وحدث قديماً.
سمع منه ابن الخباز سنة خمس وستين وست مئة.
قال شيخنا البرزالي: قرأ عليه بدمشق وبمردا.
وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشر وسبع مئة.
ومولده تقريباً بمردا سنة ثلاثين وست مئة.
عبد الرحمن بن محمود
مجد الدين بن قرطاس القوصي الأديب.
سمع الحديث بالقاهرة على أشياخ عصره، وقرأ النحو على العلامة أثير الدين، وتأدب على الطوفي الحنبلي والشيخ صدر الدين بن الوكيل والأمير مجير الدين عمر بن اللمطي. وتولى الخطابة بجامع الصارم بقوص.
وكان يتصوف، ويجمع الدواوين وينتقي منها ويتصرف. وعلق تعاليق، وعمل منها مبتدآت وتغاليق. ووقف كتبه على المدرسة السابقية بقوص، وعلم الناس بذلك أنه صحيح غير منقوص.
ولم يزل على حاله إلى أن خرق سهم المنية قرطاسه، وأخمد الموت أنفاسه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ورثى مجير الدين بن اللمطي بقصيدة أولها:
كأس الحمام على الأنام يدور ... يسقى بها ذو الصحو والمخمور
منها:
يزهى به النعش الذي هو فوقه ... وكذاك يزهى بالأمير سرير
عبد الرحمن بن مخلوف
ابن عبد الرحمن بن مخلوق بن جماعة بن رجاء الربعي الإسكندري المالكي، الشيخ الإمام العالم العدل الخير المعمر المسند محيي الدين أبو القاسم.
سمع من جعفر الهمذاني، وعلي بن زيد التسارسي، سمع عليه الثالث من الثقفيات وسمع الدعاء للمحاملي على جعيفر، وسمع من ابن رواج.
وسمع منه الواني، وشيخنا أبو الفتح بن سيد الناس، وابن ربيع المصغوني، وسمع منه شيخنا الذهبي خمس مجالس تعرف بالسلماسية.
وكان له بصر بالشروط، وأمره في العدالة مضبوط، وله فيها تقدم وشهرة، وخبرة فيها قد جمل به دهره. وتفرد بأجزاء عالية سلفية رواها، وملك زمام أمرها وحواها، وشفى بروايتها من النفوس جواها.
ولم يزل على حاله إلى أن فرغ من حياته وعاؤها، وأجيب في منيته دعاؤها.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة.
عبد الرحمن بن مسعود بن أحمد
العلامة شيخ الحنابلة، شمس الدين ابن قاضي القضاة، سعد الدين الحارثي المصري الحنبلي.
سمع من العز الحراني، وغازي، وبدمشق من الفخر علي وجماعة. وأخذ النحو عن الشيخ بهاء الدين بن النحاس، والأصول عن ابن دقيق العيد. وحج غير مرة.
وكان يدرس بمدارس كبار، وإذا جرى في حلبة المناظرة لا يعلق الريح له بغبار. مع الوقار الجميل، والسمت الذي لبس له فيه عديل. وصدق اللهجة، وعفاف المهجة، والديانة التي رأس بها وتصدر، والصيانة التي تصبب بها نوه وتحدر. و لم يزل على حاله إلى أن نبش من الحارثي قبره، وعدم من صاحبه عليه صبره.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة سادس عشري ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وسبعين وست مئة.
عبد الرحمن بن موسى
هو الملك أبو تاشفين، ابن الملك أبي حمو، بالحاء المهملة والميم المشددة والواو، ابن الملك أبي عمرو عثمان ابن السلطان يغمراسن بن عبد الواد الزناتي المغربي البربري صاحب تلمسان.
كان شجاعاً حازماً، موقناً بالشر جازماً، جبروته زاد عن الحد حتى كذبه العقل وأباه، وناهيك بمن تجرأ وما اتجرى وقتل أباه.
وكان قد نظر في فنون العلم مدة، وأنفق فيها من عمره عدة، وتفقه على ابني الإمام، وفدت سيرته ونسي ورد الحمام.
ويحكى عنه في دولته قبائح، أما الراوي لها فكاتم وأما التاريخ لها فبائح.
قصده سلطان المغرب أبو الحسن المريني وحاصره مدة طويلة وأنشأ في المنزلة مدينة كبيرة، وطال الأمر إلى شهر رمضان، فبرز أبو تاشفين في أبطاله لكبسه ومكيدة يعملها فانعكست عليه، وركب جيش أبي الحسن وحملوا حتى دخلوا من باب تلمسان وقتلوه على ظهر جواده في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة. وكان الحصار نحو سنتين وأكثر. وطيف برأسه في المغرب، ثم دفن مع جسده عند آبائه بتلمسان.
وكان جد السلطان أبي الحسن قد نازل تلمسان أيضاً سنوات ومات وهو يحاصرها سنة بضع وسبع مئة.
عبد الرحمن بن موسى بن عمر(1/453)
تاج الدين الناسخ، عرف بابن المناديلي، ووالده بدر الدين بن أبي الفضل.
كان ينادي يوم الجمعة على الكتب، ويأخذ رزقه فيها من بني الخطية السلب، ونسخ كثيراً من الدواوين الصغيرة الرائقة، والأشعار التي بالغزل والنسيب لائقة. وقطعت في غير جناية يمينه، وبقي رحمة لا يجد من يعينه. وكتب بعد قليل بشماله، وقاتل على ذلك لأن الخط كان رأس ماله. وكان يعتذر في آخر الكتاب أنه بيده اليسرى، ليعذره من كان بذكره مغرى. وكان خطه أبهج من خميلة، وأرهج من الطلعة الجميلة.
ولم يزل على حاله إلى أن غص بالشجى، ولم يجد من يد الموت مخرجاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وسبع مئة. ووصل إلى السبعين.
وكان قد وصل إليه القباري واليعفوري، وكتب لهما كتاباً، وكان ذلك مرافعة في حق الأفرم، فأمسكوا، وأفتى الشيخ زين الدين الفارقي بقطع يديه، وتوسيط الآخرين، فقطعت يده. وقد تقدم ذكر هذه الواقعة في ترجمة الشيخ أحمد القباري في آخر الأحمدين فتكشف من هناك. ولما قطعت يده قال للأفرم: يا خوند قطعت يدي لأجل درهمين، هذان دفعا إلي درهمين وقالا: اكتب هذا الكتاب، فرق له الأفرم، وأعطاه جملة دراهم، وأظنه رتب له شيئاً، وكان التاج المذكور مغرى بكتابة ديوان ابن الفارض والحاجري وغيره من هذه الدواوين الصغار، ويكتب كثيراً بكتاب الدرة المضية في اللغة التركية، وهذه الكتب موجودة بين ظهراني الناس، وخطه معروف. وكان يقول: عمري ما وقع في أذني ألذ من قول الأفرم: وهذا اقطعوا يده، لأنه رسم قبل ذلك بتوسيط القباري واليعفوري المذكورين.
وكان قد أسن، ووقعت أسنانه، وكان يمشي وفي جنبه جرن خشب، ويدق، حتى يدق الخيارة والقيثاءة والتفاحة والسفرجلة والكمثري وغير ذلك. ووجد بعد موته سماعه مشيخة العفيف محمد بن زكريا بن رحمة.
عبد الرحمن بن نصر
ابن عبيد المفتي الإمام زين الدين الفدمي السوادي الصالحي الحنفي.
سمع المرسي، وسبط بن الجوزي، وخطيب مردا، وإبراهيم البطائحي، والرشيد العراقي، واليلداني، وعدة.
كان له في الفقه بصر حديد، وفي الشروط نظر ما لخصمه عنه محيد. شهد تحت الساعات، وأنفق عمره في الطاعات، إلى أن عجز وانقطع، ولمع برق ضعفه وسطع. وكان يعبر الرؤيا، ويأتي في كلامه بما هو الغاية العليا.
ولم يزل إلى أن جف عوده، وزمجرت بالنزاع رعوده.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وله ست وثمانون سنة.
وانقطع بمدرسة الأسدية لما عجز عن التوجه إلى مكان الشهود.
عبد الرحمن بن يوسف
ابن محمد الشريف الخطيب الإمام العالم، الزاهد الفاضل جمال الدين أبو البقاء الحراني، خطيب المسجد الأقصى.
كان صاحب فضائل وفنون، ولي الخطابة بالأقصى بعد قاضي القضاة، بدر الدين بن جماعة.
توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبع مئة.
عبد الرحيم بن إبراهيم
ابن إسماعيل بن أبي اليسر التنوخي، تاج الدين أبو الفضل.
سمع من جده أبي محمد كثيراً، وأجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بدمشق.
عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة الله
قاضي القضاة نجم الدين الجهني البارزي الشافعي الحنفي، حفيد قاضي القضاة شيخ الإسلام شرف الدين، الحاكم بحماة، وسيأتي ذكر جده هبة الله في حرف الهاء في مكانه.
توفى القضاء نجم الدين هذا بحماة لما ترك قاضي القضاة جده المنصب وقد أضر. وقد كان إبراهيم والده توفي في حياة والده شرف الدين. ولم يكن في عصر نجم الدين هذا أحد من قضاة القضاة أقدم منه في هذا المنصب شاماً ومصراً مدة تزيد على الثلاثين سنة. وكان ساكناً خيراً قائماً بوظيفته على مات يجب. ورأيته بحماة غير مرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الخميس ثامن عشر جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبع مئة.
عبد الرحيم بن أبي بكر
مجد الدين الجزري الفقيه النحوي الصوفي.
كان قائماً بمعرفة النحو، هائماً في محبة أدته سكرتها إلى عدم الصحو.(1/454)
وكانت له حلقة اشتغال، يجالس إليه فيها من هو في محبته متغال. وفيه مع ذلك عشرة وانطباع زائد، وكيس لا يحتاج معه في المحبة إلى رائد. ولكنه ابتلي بحب شاب شيب فوده، وحسن إلى الهلاك قوده، فكان إذا رآه ترعد فرائضه عشقاً وصبابة، ويود لو نال من عظيم وصاله صبابة. فقويت عليه سوداؤه، وتحكم منها فيه داؤه. فأغلق الخانقاه الشهابية عليه، وطلع إلى سطحها وألقى بنفسه إلى الطريق فمات، وأنزل بنفسه من أعاديه الشمات. وكان يوم جمعة، وقت الصلاة، ثاني عشر شهر رمضان سنة ثمان وتسعين وست مئة.
عبد الرحيم بن عبد الرحمن
ابن نصر الموصلي، الشيخ الإمام نجم الدين بن الشحام الشافعي.
أكثر الأسفار، ومطالعة الأسفار. واشتغل ببغداد وتميز، وانزوى إلى سراي وتحيز. وأقام بها مدة، وأنفق فيها من العمر جده.
وقدم دمشق سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وولي مشيخة القصر. ودرس بالجاروخية والظاهرية البرانية.
ولم يزل إلى أن ذاب بالأسقام شحمه، وسبك في القبر لحمه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة. وله ثمان وسبعون سنة.
وكان فقيهاً طبيباً. وكان قد ولي تدريس الظاهرية البرانية، ثم أضيف إليه تدريس الجاروخية ومشيخة خانقاه القصر.
عبد الرحيم بن عبد العليم
الدندري، بدال مهملة أولى ودال ثانية بينهما نون وبعد الدال الثانية راء، المعروف بالفصيح.
مدح الأكابر، واستجدى بشعره، وسامحهم فيه بترخيص سعره.
وكان خفيف الروح، قانعاً بما تيسر من الفتوح.
ولم يزل على حاله إلى أن خرس الفصيح، وبكاه صاحبه بجفنه القريح.
قال الفاضل كما الدين الأدفوي: توفي سنة أربع وسبع مئة ظناً. وأورد له في تاريخ الصعيد قصيدة مدح بها الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، منها:
أيا سيداً فاق كل البشر ... ومن علمه في الوجود انتشر
ويا بحر علم غدا فيضه ... لوارده من نفيس الدرر
أيادي ندى عمنا جودها ... كما عم في الأرض جود المطر
وفي روض أيامك المونقات ... أنزه طرف المنى بالنظر
عبد الرحيم بن عبد المنعم
ابن عمر بن عثمان، الإمام المفتي الزاهد، جمال الدين، أبو محمد الباجربقي، بباء موحدة وبعد الألف جيم وراء وباء أخرى وقاف، الموصلي الشافعي.
شيخ فقيه محقق، نبيه مدقق، نقال، عارف بالوجود والطرق والأقوال. له حلقة اشتغال تحت قبة النسر إلى جانب البرادة، كل فاضل قد جعل إليها ترداده.
اشتغل بالموصل وأفاد، وبدأ بالفضل في دمشق وأعاد.
وكان طويلاً، عليه مهابة، ساكناً كثير الرجوع والإنابة، كثير الصلاة والذكر، والخشوع والفكر.
ولم يزل على حاله إلى أن بلغ عمره حده، وجعل اللاحد على الأرض خده.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة في شوال.
وكان قد خطب الجامع الأموي نيابة، ودرس بالغزالية نيابة. وولي تدريس الفتحية، وحدث ب؟ جامع الأصول لابن الأثير عن واحد عن المصنف. وله نظم ونثر ووعظ. وقد نظم كتاب التعجيز فعمله برموز. وهو والد الشيخ محمد الآتي ذكره في مكانه، إن شاء الله تعالى، صاحب تلك العجائب.
ومن شعره: ....
عبد الرحيم بن علي
ابن هبة الله الأسنائي الصوفي.
كان من أصحاب الحسن بن الشيخ عبد الرحيم القنائي.
وكان نحوياً شاعراً، لغوياً ماهراً. جمع في النحو كتاباً سماها المفيد، وقال: " هذا ما لدي عتيد " .
ولم يزل إلى أن نحاه البلى، وجر ذيله إليه مسبلاً.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وسبع مئة.
ومن شعره:
أهاجك برق بالمدينة يلمع ... وبيض يعاليل سوار وطلع
تراهن يهمين الحيا فكأنه ... على وجنات الأرض در مرصع
كأن عراها عندما مسها الحيا ... سحيقة مسك نشره يتضوع
على جنبات الغدر زهر تفتقت ... لها في شعاع الشمس لون منوع
عبد الرحيم بن علي بن الحسن
ابن الفرات عز الدين الحنفي.
اجتهد في مذهبه واشتغل، ودخل في مضائقه ووغل، وبرع في الفقه وأفتى، وسلك طريقاً " لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا " وانتهت إليه رياسة الإفتاء والإشغال، ودرس وأعاد وأتى بكل نفيس غال.(1/455)
وكان قد سمع من قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وأبي عبد الله بن القماح، وعبد الله الصنهاجي. وتفقه على محيي الدين الدمشقي، وقاضي القضاة شمس الدين الحريري، والشيخ علاء الدين القونوي.
ودرس بالحسامية بالقاهرة وبتربة الحريري بالقرافة، وأعاد بالمدرسة المنصورية وغيرها، وناب في الحكم بمصر.
وبطل ذاك إلى أن أصبح ابن الفرات رفاتاً، وأمسى شخصه تحت الأرض كفاتاً.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في المدرسة الصالحية بين القصرين سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وسبع مئة.
عبد الرحيم بن محمد
ابن يوسف السمهودي، الخطيب بسمهود.
كان فقيهاً شافعياً، أديباً نحوياً.
رحل إلى دمشق، واجتمع بمحيي الدين النووي وحفظ منهاجه، وجعل إلى هذا الكتاب معاده ومعاجه. وكان لضيق رزقه. وما هو عليه من حذقه يتحيل على ما يتقوت به بأنواع من الحيل، ويقول إذا جاءه طوفان الحرمان: " سآوي إلى جبل " وكان يقرئ النحو والعروض والأدب بسمهود، ويأتي على ذلك بما هو من الشواهد مشهور ومشهود.
ولم يزل على حاله إلى أن رقا الخطيب منبر نعشه، وفسد ولم يعط جناية أرشه.
وتوفي رحمه الله تعالى بسمهود سنة عشرين وسبع مئة.
وكان قد قرأ الفقه على الزكي عبد الله السيرناوي. وأقام بالقاهرة مدة.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: حكى لي رحمه الله أن كان بالقاهرة تحصل له ضائقه، وتلجئه الحاجة والفاقة، فيأخذ ورقاً ويكتب فيه قلفطيريات ويعتقه ويبيعه بشيء له صورة. قال: وحكي لي ذلك أيضاً شيخنا أثير الدين وكان صاحبه. وكان ظريفاً لطيفاً جارياً على مذهب أهل الأدب في حب الشراب والشباب والطربق، وكان ضيق الخلق، قليل الرزق، اجتمعت به كثيراً.
وله خطب ورسائل، ومن شعره:
يا مالكي ذلي لحسنك شافعي ... فاشفع هديت الحسن بالإحسان
من قبل أن يأتي ابن حنبل آخذاً ... من وجنتيك شقائق النعمان
ومنه:
وافي نظامك فيه كل بديعة ... أخذت من الحسن البديع نصيباً
فلقد ملكت من البلاغة سرها ... وحويت من فن البديع غريبا
ونصبت من بيض الطروس منابراً ... أضحى يراعك فوقهن خطيبا
تبدي ضروب محاسن لسنا نرى ... بين الورى يوماً لهن ضريبا
ومنه:
وروض حللنا من حماه خمائلاً ... ينبه منه النشر غير نبيه
تغنت لنا الأطيار من كل جانب ... بمرتجل نختاره وبديه
وأضحى لسان الزهر فوق غصونها ... يخبر بالسر الذي هو فيه
ومنه:
كأنما البحر إذ مر النسيم به ... والموج يصعد فيه وهو منحدر
بيضاء في أزرق تمشي على عجل ... وطي أعكانها يبدو ويستتر
ومنه:
قال لي من هويت شبه قوامي ... وقد اهتز بالجمال دلالا
قلت: غصن على كثيب مهيل ... صافحته النسيم فمالا
ومنه قصيدة يمدح بها المظفر صاحب اليمن:
هم القصد إن حلوا بنعمان أو ساروا ... وإن عدلوا في مهجة الصب أو جاروا
تعشقتهم لا الوصل أرجو ولا الجفا ... أخاف وأهل الحب في الحب أطوار
وآثرتهم بالروح وهي حبيبة ... إلي، وفي أهل المحبة إيثار
وهل سحر ولى بنعمان عائد ... فكل ليالينا بنعمان أسحار
عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم
ابن علي تقي الدين البمباني - بالباء الموحدة. وبعدها ميم وباء أخرى، وألف بعدها، ونون - وبمبان قرية بأسوان.
قرأ النحو والأدب على الشمس الرومي.
وكان فاضلاً أديباً، نحوياً أريباً، خفيفاً ظريفاً، متعاً لطيفا، ينظم البلاليق، ويجيد الاختيارات والتعاليق.
ولم يزل على حاله إلى أن بلغ غايته، ونكس الموت رايته.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس أو ست وسبع مئة.
ومن نظمه يمدح طقصبا والي قوص:
لعلا جنابك كل أمر يدفع ... وإليك حقاً كل خطب يرفع
ومنها:
ما كان يفعله الشجاعي سالفاً ... في مصر في أسوان جهراً يصنع
وضاعت له سكين فوجدها مع ابن المصوص الأسنائي، فقال فيه:(1/456)
إنك قذارى في اللصوص ... يا بن المصوص
خنيجري كان في الطبق
ومنتصر في القول صدق
وأنت خذته بالسبق ... لعب الفصوص
عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحمن
ابن عمر بن أحمد القزويني الأصل، الدمشقي الدار، تاج الدين، خطيب الجامع الأموي، ابن قاضي القضاة جلال الدين تقدم ذكر أخيه جمال الدين عبد الله، وسيأتي ذكر أخيه الخطيب بدر الدين محمد وذكر والده وذكر عمه وجماعة من بيتهم إن شاء الله تعالى.
كان أعلم، وهو بمخارج الحروف من إخوته أعلم. فكنت أعجب من ألفاظه الفصيحة، وخطابته المليحة. وكان يخطب بلحن، ويورد خطبته بلا لحن. ويقرأ طيباً في محرابه، ويأتي من نعمة النغمة بما هو أحرى به. وكان يتعاجم في كلامه تشبهاً بأبيه، دون إخوته وذويه. وكان العوام يحبونه، ويؤثرونه على من سواه ويختارونه. وعزل من الخطابة، ثم أعيد إليها رحمة له وإطابة.
ولم يزل على حاله إلى أن صلي عليه، وامتدت يد البلى إليه. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء، ثامن ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق، بصق دماً على العادة. وخرج جنازته ومعها خمس جنائز من بيته فيما أظن أو أكثر، لأنه مات منهم في جمعة جماعة.
لما مات أخوه الخطيب بدر الدين محمد، ولي الأمير علاء الدين ألطنبغا الخطابة للعلامة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى، وباشر الخطابة إلى أن ملك الفخري دمشق، فولي الخطابة لتاج الدين هذا.
وكتبت له توقيعاً من رأس القلم ارتجالاً، جاء أوله: " الحمد لله الذي رفع تاج الدين على رأس المنابر، وأنطق بأوصافه ألسنة الأقلام في أفواه المحابر.. " .
ولما طلب قاضي القضاة إلى مصر في أيام الصالح إسماعيل تولى الخطابة من هناك، وكان يطلع على المنبر ويجلس قبل الخطبة ويبكي ويقول: هذا السبكي قد أخذ الخطابة وقطع رزقنا، فكان يرق العوام له، ويبكون معه.
ولما جاء قاضي القضاة إلى دمشق نزل له عنها، فاستمر تاج الدين يخطب بالجامع الأموي من سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة إلى أن توفي في سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
وكان خطيب جامع بشتاك الذي على بركة الفيل، وهو أول من خطب به، وكان معه بدمشق تدريس المدرسة الشامية الجوانية وتصدير بالجامع الأموي.
وقرأ كثيراً من العربية على الشيخ الإمام بهاء الدين بن عقيل وكثيراً من الأصول على العلامة الشيخ شمس الدين الأصبهاني.
ولم يكن له يد في شيء من العلوم، وتأسف الناس لموته، وكانت جنازته حافلة، ولم يبلغ الأربعين.
عبد الرحيم بن علي
ابن حسين بن مناع المعمر الصالح زين الدين التكريتي الدمشقي التاجر.
حدث بالصحيح غير مرة عن ابن عبد الدائم.
وكان مهيباً نبيلاً، منور الشيبة، كريم الأخلاق أقعد في أواخر عمره.
وتوفي رحمه الله تعالى بالصالحية في سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ومولده في شهر رمضان سنة اثنتين وستين وست مئة.
عبد الرحيم بن يحيى
ابن عبد الرحيم بن المفرح بن المسلمة، الأموي، الشيخ الفقير أبو محمد بن المحدث الدمشقي الكوافي.
حضر السخاوي، وعتيقاً السلماني، وعمر بن البراذعي، وسمع كثيراً من عم أبيه الرشيد بن مسلمة، والسديد بن علان، وعدة.
وحدث وكتب في الإجازات في أيام ابن أبي اليسر، وحفظ القرآن. وكان يعمل الكوافي، ويقرأ على الترب.
وخرج له شيخنا علم الدين البرزالي مشيخة سمعها منه شيخنا الذهبي والجماعة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة.
عبد الرزاق بن أحمد
ابن محمد بن أحمد بن الصابوني، الشيخ الإمام المحدث المؤرخ الإخباري النسابة الفيلسوف الأديب، كمال الدين الشيباني بن الفوطي البغدادي، صاحب التصانيف.
أفرد له شيخنا الذهبي ترجمة تخصه في جزء، ذكر أنه من ولد معن بن زائدة الأمير.(1/457)
اشتغل في علوم الأوائل، وحظي منها بكل طائل. وعبث بالنظم وبالنثر وتأدب، وأتقن ذاك وتهذب. ثم إنه صنف التواريخ المفيدة، وكانت له يد في ترصيع التراجم مجيدة، وذهنه في جميع ذلك سيال، وإلى كل فن ميال. وأما خطه فلم أر أقوى منه ولا أبرع، ولا أسرى ولا أسرع، خط فائق، رائع رائق، بديع إلى الغاية في تعليقه، لو أنه ريح لسابق الرياح في يومه إلى تخليقه، وكان يكتب في كل يوم أربع كراريس، ويأتي بها أنقش وأنفس من ذنب الطواويس. أخبرني من رآه قال: ينام ويضع ظهره على الأرض ويكتب ويداه إلى جهة السقف. ولم أر له بعد هذا خطاً إلا وهو عجب، وقد أجاز لشيخنا الذهبي مروياته.
ولم يزل على حاله إلى أن فرط أمر الفوطي، وديس خده تحت الأرض ووطي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث المحرم سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وأربعين وست مئة.
كان قد أسر في كائنة بغداد، ثم إنه صار إلى النصير الطوسي سنة ستين، واشتغل عليه بعلوم الأوائل، وباشر كتب خزانة الرصد بمراغة أزيد من عشرة أعوام، وهي على ما قيل أربع مئة ألف مصنف، والأصح أن تكون أربع مئة ألف مجلد. ولهج بالتاريخ، واطلع على كتب نفيسة. ثم إنه تحول إلى بغداد وصار خازن كتب المستنصرية، فأكب على التصنيف، وسود تاريخاً كبيراً جداً، وآخر دونه، سماه: مجمع الآداب في معجم الأسماء على الألقاب، في خمسين مجلداً، المجلد عشرون كراساً. وألف كتاب: درر الأصداف في غرر الأوصاف مرتب على وضع الوجود من المبدأ إلى المعاد، يكون عشرين مجلداً، وكتاب: تلقيح الأفهام في المختلف والمؤتلف مجدولاً، والتاريخ على الحوادث إلى خراب بغداد. والدرر الناصعة في شعر المئة السابعة. قال: ومشايخي الذي أروي عنهم ينيفون على الخمس مئة شيخ، منهم: الصاحب محيي الدين بن الجوزي، والأمير مبارك بن المستعصم بالله حدثنا عن أبيه بمراغة، وحلف ولدين. وله شعر كثير بالعربي وبالعجمي.
عبد الرزاق بن أحمد بن عبد الله
ابن الزبير، الخطيب، تقي الدين ابن الشيخ العلامة شمس الدين أحمد الخابوري، خطيب حلب وابن خطيبها.
توفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وسبع مئة، في أوائلها.
وولي الخطابة بعد قاضي القضاة شمس الدين محمد بن محمد بن بهرام الشافعي المعروف بالدمشقي.
عبد الرزاق بن علي
ابن سلمي بن ربيعة الفقيه، المحصل جمال الدين بن القاضي ضياء الدين الشافعي.
كان اشتغل وتعب، وحفظ الوجيز وحفظ كتابين في الطب، وأقام مدة بالباذرائية.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشر شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
عبد السلام بن محمد
ابن مزروع بن أحمد، الإمام المحدث القدوة، عفيف الدين أبو محمد البصري الحنبلي.
حدث عن المؤتمن ابن قميرة، وفضل الله الجيلي، وجاور بالمدينة أكثر عمره، خمسين سنة، وحج أربعين حجة منها متوالية. وكان من خيار الشيوخ.
سمع منه شيخنا علم الدين البرزالي، وله نظم.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة.
وكانت وفاته بالمدينة الشريفة.
وقرأ عليه علم الدين البرزالي مشيخة ابن شاذان الكبرى بدمشق ثم قرأها عليه بالحجاز في رابغ وخليص، وقرأ عليه بالمدينة ثلاثة أجزاء، وهي: الخامس من حديث الحمامي، والثاني والثالث من حديث أبي الأحوص.
الألقاب والنسب
ابن عبد السلام: خطيب العقيبة ناصر الدين أحمد بن يحيى.
ومحيي الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز.
عبد السيد بن إسحاق بن يحيى
الحكيم الفاضل بهاء الدين ابن المهذب، الطبيب الكحال.
كان من قبل ديان اليهود، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، وتعلم القرآن وجالس العلماء. وكان طبيباً فاضلاً.
توفي رحمه الله تعالى في سادس جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وسبع مئة، ودفن بسفح قاسيون.
عبد الصمد بن عبد اللطيف
ابن محمد بن محمد بن نصر الله، الصدر، الرئيس، الأصيل، بهاء الدين أبو القاسم بن الشيخ الخطيب بدر الدين بن المغيزل الحموي.
كان رجلاً جيداً، له ثروة وتجارة، وقد سمع على جماعة، وحدث ببلده وبطريق الحجاز وولي الوزارة بحماة، ثم تركها.
ولما مات أخوه الخطيب معين الدين ولي الخطابة بحماة مكانه، فبقي سنة ومات في ثاني عشر ذي الحجة سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
الألقاب والنسب(1/458)
ابن عبد الظاهر: كمال الدين علي بن أحمد والقاضي علاء الدين علي بن محمد.
عبد العزيز بن أحمد
ابن عثمان، الإمام البارع، الرئيس عماد الدين، أبو العز الهكاري المصري الشافعي قاضي المحلة، ويعرف بابن خطيب الأشمونين.
كان من الرؤساء النبلاء، والفقهاء والعلماء، له معرفة وفهم، وحكم ينفذ نفوذ السهم، مع رياسة وسؤدد، وتؤدة وقعدد. له اعتناء بالحديث واهتمام، وله تصانيف مليحة الترتيب والنظام. وكان يتواضع مع رفعته، ويتدانى على سعة رقعته.
حج مرات، وفاز بما شاء من مبرات. وذكر لقضاء دمشق بعد ابن صصرى، ولم يرض بها لسكنه قصراً.
ولم يزل على حاله إلى أن ولي قاضي المحلة محلة الأموات، وأصبح وقد خلت بأهله المثلات.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وكان قد سمع من عبد الصمد بن عساكر، وغيره.
وله تصانيف وأدب وشعر، ومن تصانيفه الكلام على حديث الأعرابي الذي واقع أهله في شهر رمضان، واستنبط منه ألف حكمة.
عبد العزيز بن أحمد بن شيخ السلامية
القاضي الرئيس فخر الدين.
باشر الحسبة بدمشق في يوم الخميس سادس عشر جمادى الأولى تسع عشرة وسبع مئة عوضاً عن القاضي بدر الدين بن الحداد، وولي ابن الحداد نظر الجامع الأموي، ولبسا تشريفيهما.
عبد العزيز بن إدريس
ابن محمد بن أبي الفرج المفرح بن إدريس، الشيخ عز الدين أبو محمد، وأبو بكر أيضاً ابن الشيخ الإمام المحدث تقي الدين بن مزيز التنوخي الحموي، أخو الشيخ تاج الدين أحمد، وقد تقدم ذكره في الأحمدين.
روى جزء ابن عرفة عن شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز، وسمع بالقاهرة من إسماعيل بن عزون عدة أجزاء تفرد ببعضها في الشام.
وتوفي رحمه الله تعالى سلخ المحرم سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة بحماة.
ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة.
ولما توفي صلى عليه أخوه الشيخ تاج الدين، ودفن بمقبرة الباب القبلي ظاهر حماة.
عبد العزيز بن عبد الحق
ابن شعبان بن علي بن الشياح عز الدين أبو محمد الأنصاري الدمشقي.
روى عن ابن عبد الدائم، وسمع من عبد الله الخشوعي.
توفي بقرية يبرود، وحمل على الأعناق إلى تربة والده، وتوفي رحمه الله تعالى سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
عبد العزيز بن سرايا
ابن علي بن أبي القاسم بن أحمد بن نصر بن أبي العز بن سرايا بن باقي بن عبد الله بن العريض، الإمام العلامة، البليغ، المفوه، الفاضل، الناظم، الناثر، شاعر عصرنا على الإطلاق، صفي الدين الطائي السنبسي الحلي.
شاعر أصبح به راجح الحلي ناقصاً، وكان سابقاً فأصبح على عقبه ناكصاً. أجاد القصائد المطولة والمقاطيع، وأتى بما أخجل زهر النجوم في السماء، فما قدر زهر الأرض في الربيع؟ تطربك ألفاظه المصقولة ومعانيه المعلولة، ومقاصده التي كأنها سهام راشقة أو سيوف مسلولة. يغوص على المعاني ويستخرج جواهرها، ويصعد بمخيلته الصحيحة إلى السماء ويلتقط زواهرها. كلامه السحر إلا أنه خلال، ولفظه على القلب الظمآن ألذ من الماء الزلال. تلعب بالمعاني كما يتلعب النسيم بالأغصان اللدان، وولد بعضها من بعض كما يتولد الضرج من الخجل في خدود الولدان، مع بديع ما سمع بمثله البديع، وترصيع ما ألم به الصريع.
وشعره مع حلاوة الديباجة، وطلاوة التركيب التي ما فرحت بها طلاء الدن ولا سلافة الزجاجة، لا يخلو من نكت أدبية ترقص المناكب، وفوائد علمية من كل فن ينقص الكواكب. عالماً بكل ما يقول، عارفاً بغرائب النقول.
أجاد فنون النظم غير القريض، وأتى في الجميع بما هو شفاء القلب المريض، لأنه نظم القريض فبلغ فيه الغاية، وحمل قدامة جماعة من فحول الأقدمين الراية.
وكذلك هو في الموشحات والأزجال والمكفرات والبلاليق والقرقيات، والدوبيت والمواليا، والكان وكان والقوما، ليس له في كل ذلك نظير يجاريه، ولا يعارضه ولا يباريه.
وأما الشعر فجود فنونه، وصاد من بره ضبه ومن بحره نونه، لأنه أبدع في مديحه وهجوه، ورثائه وأغزاله، وأوصافه وتشبيهاته، وطردياته وحماسته، وحكمه وأمثاله، لم ينحط في شيء منها عن الذروة، ولم يخرج في مشاعرها عن الصفا والمروة.
وأما نثره فهو طبقة وسطى، وترسله يحتاج في ترويجه إلى أن يعلق في أذنه قرطاً. وعلى الجملة فإنه:(1/459)
تملل الشعر حتى ما لذي أدب ... في الناس شين ولا غين ولا راء
وكان يسافر ويتجر، ويعف في بعض الأحيان عن الاجتداء ويزدجر. وكان منقطعاً إلى الملوك الأرتقية أصحاب ماردين، وشهر مدائحهم في الصادرين والواردين. وكانت فيه شجاعة وإقدام، وقوة جنان وثبوت أقدام.
ورد إلى مصر وامتدح السلطان الملك الناصر، وبز بمديحه كل متقدم ومعاصر. وعاد إلى البلاد الشرقية، إلا أنه كان شيعياً، وليس هذا الأمر في الحلة بدعياً.
وكان يتردد إلى حلب وحماة ودمشق، ويعد إلى ماردين، ويعرج على بغداد.
ولم يزل على حاله إلى أن كدر الموت على الصفي عيشه، وأنساه خرقه وطيشه.
وتوفي رحمه الله تعالى تخميناً سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
ومولده يوم الجمعة خامس شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وست مئة.
وقلت أنا فيه:
إن فن الشعر نادى ... في جميع الأدباء
أحسن الله تعالى ... في الصفي الحلي عزائي
وأنشدني من لفظه الشيخ جمال الدين محمد بن نباته:
يا سائلي عن رتبة الحلي في ... نظم القريض وراضياً بي أحكم
للشعر حليان ذلك راجح ... ذهب الزمان به وهذا قيم
وكان قد دخل إلى مصر في سنة ست وعشرين وسبع مئة تقريباً، وأظنه وردها مرتين، ومدح القاضي علاء الدين بن الأثير بعدة مدائح، وأقبل عليه كثيراً، ودخل به إلى السلطان الملك الناصر، وقدم مديحه، واجتمع بالشيخ فتح الدين، وبأثير الدين، وبمشايخ ذلك العصر، ولما دخلت بعده، وجدتهم يثنون عليه.
وأما الصدر المعظم شمس الدين عبد اللطيف الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، فكان يظن بل يعتقد أنه ما نظم الشعر أحد مثله لا في المتقدمين ولا في المتأخرين مطلقاً.
واجتمعت أنا به في الباب وبزاعة من بلاد حلب في مستهل ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، كنا في الصيد مع الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، وأجاز لي بخطه جميع ماله من نظم ونثر وتأليف مما سمعته منه، وما لم أسمعه، وما لعله يتفق له بعد ذلك التاريخ على أحد الرائين، وما يجوز له أن يرويه سماعاً وأجازة ومناولة ووجاده بشرطه.
وأنشدني من لفظه لنفسه في التاريخ والمكان:
للترك مالي ترك ... مادين حبي شرك
حواجب وعيون ... لها بقلبي فتك
كالقوس يصمي وهذي ... تشكي المحب ويشكو
وأنشدني أيضاً من لفظه لنفسه:
وإذا العداة أرتك فر ... ط مذلة فإليك عنها
وإذا الذئاب استنعجت ... لك مرة فحذار منها
وأنشدني من لفظه لنفسه:
لا غرو أن يصلى الفؤاد بذكركم ... ناراً تؤججها يد التذكار
قلبي إذا غبتم، يصور شخصكم ... فيه، وكل مصور في النار
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يقبل الأرض عبد تحت ظلكم ... عليكم، بعد فضل الله، يعتمد
ما دار مية من أسنى مطالبه ... يوماً وأنتم له العلياء والسند
وأنشدني من لفظه لنفسه:
وأغر تبري الإهاب مورد ... سبط الأديم محجل ببياض
أخشى عليه بأن يصاب بأسهمي ... مما يسابقني إلى الأغراض
وأنشدني من لفظه لنفسه:
وأدهم يقق التحجيل ذي مرح ... يميس من عجبه كالشارب الثمل
مضمر مشرف الأذنين تحسبه ... موكلاً باستراق السمع من زحل
ركبت منه مطاليل تسير به ... كواكب تلحق المحمول بالحمل
إذا رميت سهامي فوق صهوته ... مرت بهاديه وانحطت عن الكفل
قلت: ولم يطل اجتماعنا به، لأنه كان قد قصد الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام رحمه الله، لأنه كان قد سرقت له عملة بماردين، وبلغه أن اللص من أهل صيدنايا، وسأل كتابه إلى متولي البريد بدمشق بأمساك غريمه.
وقوله: " كالقوس... " الأبيات، إشارة إلى قول ابن الرومي:
تشكي المحب وتشكو وهي ظالمة ... كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان
وقوله: " وإذا الذئاب استنعجت ... " البيت، يريد بذلك قول القائل:
وإذا الذئاب استنعجت لك مرة ... فحذار منها أن تعود ذئاب(1/460)
والذئب أخبث ما يكون إذا اكتسى ... من جلد أولاد النعاج ثيابا
وديوانه يدخل في مجلدين كبار أو ثلاثة صغار، وكله منتخب.
وله قصيدة ميمية في مديح النبي صلى الله عليه وسلم عارض بها البردة، أتى فيها بما يزيد على المئة والأربعين نوعاً من البديع، وشرحها وسماها: نتائج الألمعية في شرح الكافية البديعية. وجود في هذه القصيدة ما شاء.
وله مدائح ببني أرتق على حروف المعجم، مجلد. وله كتاب: العاطل الحالي والمرخص الغالي. وقال لي إنه وضع شيئاً في الجناس، ولم أره إلى الآن. وقيل: إنه عمل مقامات يسيرة.
والذي أقوله: إن الرجل كان أديباً كبيراً عالماً فاضلاً قادراً على النظم والإنشاء، مهما أراد فعل.
وأنشدني له إجازة:
سوابقنا والنقع والسمر والظبي ... وأحسابنا والحلم والبأس والبر
هبوب الصبا والليل والبرق والقضا ... وشمس الضحى والطود والنار والبحر
وأنشدني إجازة، وفيه استخدامان:
لئن لم أبرقع بالحيا وجة عفتي ... فلا أشبهته راحتي في التكرم
ولا كنت ممن يكسر الجفن في الوغى ... إذا أنا لم أغضضه عن رأي محرم
قلت: استخدام الحيا في مفهومية، وهو: الحيا، نقيض الوقاحة، والحيا: المطر. واستخدم الجفن في مفهوميه، أحدهما: جفن السيف وهو قرابة، والجفن: غطاء العين، وهو من غريب النظم.
وأنشدني له إجازة في مثله:
لا يسمع العود منا غير حاضنه ... من لبة الشوس يوم الروع بالعلق
ولا يعاطي كميتاً غير مصدره ... يوم الصدام بليل العطف بالعرق
وأنشدني له إجازة في سبع تشبيهات:
وظبي بقفر فوق طرف مفوق ... بقوس رمى في النقع وحشاً بأسهم
كشمس بأفق فوق برق بكفه ... هلال رمى في الليل جناً بأنجم
ونقلت من خطه وهو مما يقرأ مقلوباً: " كد ضدك. كن كما أمكنك. كرم علمك يكمل عمرك " .
ونقلت من خطه رسالة طويلة نظماً ونثراً، كل كلمة منها تصحيف ما بعدها، تكون أربع مئة كلمة، وهي: " قبل قبل يداك ثراك عبد عند رخاك رجاك، أبي أبي سؤال سواك. آمل أمك رجاء رخاء. فألغى فألقى جدة خده بأعتابك باغياً بك شرفاً سرفا. لاذبك لأدبك مقدماً مقدماً أمل آمل يزجيه يبشره بيسره وجودك وجودك. فاشتاق فاستاف. عَرف عرُف منك مثل عبير عنبر، وقَدم وقُدم، صَدقه صِدقه متجملاً متحملاً بصاعه بضاعة تبر نثر.
سند سيد حليم حكيم ... فاضل فاضل مجيد مجيد
حازم جازم بصير نصير ... زانه رأيه الشديد السديد
أمه أمة رجاء رخاء ... أدركت إذ زكت نقود تقود
مكرمات مكرمات بنت بي؟ ... ت علاء علا بجود يجود
وهي طويلة، ربما تزيد على الأربع مئة. وقد أوردتها بمجوعها في كتاب: حرم المرح في تهذيب لمح الملح.
وأنشدني له إجازة مضمناً.
تزوج جاري وهو شيخ صبية ... فلم يستطع غشيانها حين جاءها
ولو أنني بادرتها لتركتها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
وأنشدني له إجازة:
ليهنك أن لي ولداً وعبداً ... سواء في المقال وفي المقام
فهذا سابق من غير سين ... وهذا عاقل من غير لام
وأنشدني لنفسه إجازة:
وذات حر جادت به فصددتها ... وقلت لها: مقصودي العجز لا الفرج
فدارت ودارت سوء خلقي بالرضا ... وفي قلبها مما تكابده وهج
إذا ما دفعت الأير فيها تجشأت ... وذاك ضراط لم يتم له نضج
وأنشدني له إجازة:
خلياني أجر فضل برودي ... راتعاً في رياض عين البرود
كم بها من بديع زهر أنيق ... كفصوص منظومة وعقود
زنبق بين قضب آس وبان ... وأقاح ونرجس وورود
كجبين وعارض وقوام ... وثغور وأعين وخدود
وأنشدني له إجازة:
ولي غلام كالنجم طلعته ... أخدمه وهو بعض خدامي
تراه خلفي طول النهار فإن ... دجا لنا الليل صار قدامي
جعلته في الحضور مع سفري ... كفروة الحرث بن همام(1/461)
قلت: يريد قول الحريري: فعمدت لفروة هي في النهار رياشي وفي الليل فراشي.
وأنشدني لنفسه إجازة:
لما رأت علياك أني كالذي ... أبدو فينقصني السقام الزائد
وافيتني ووفيت لي بمكارم ... فنداك لي صلة وأنت العائد
قلت: أخذ هذا من واقعة شرف الدين بن عنين مع الملك المعظم لما كتب إليه وهو ضعيف:
انظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي
أنا كالذي أحتاج ما أحتاجه ... فاغنم ثنائي بالجيمل الوافي
فحضر المعظم إليه وقال له: أنت الذي وأنا العائد وهذه الصلة، وأعطاه صرة فيها ثلاثة مئة دينار. ولكن صفي الدين زاد هنا النقص، لأن الذي عند النحاة اسم ناقص يحتاج إلى صلة وعائد.
وأنشدني له إجازة:
وعود به عاد السرور لأنه ... حوى اللهو قدماً وهو ريان ناعم
يغرب في تغريده فكأنه ... يعيد لنا ما لقنته الحمائم
وأنشدني له إجازة يطلب مشمشاً:
يا جواداً أكفه في مجال الحر ... ب حتف وفي النوال غمامه
جد بتضعيف عكس مشطور تصحيف مثنى ترخيم مثل علامه
قلت: مثل علامة: سمة، فإذا رخمتها كانت: سم، فإذا ثنيتها كانت: سمسم، فإذا صحفتها كانت: شمشم، فإذا أخذت شطرها كان: شم، فإذا عكستها كانت: مش، فإذا ضعفتها كانت: مشمش.
ومثل هذا قول القائل يطلب حبراً:
تصدق علي بمعكوس ضد ... مصحف قولي خبت ناره
فتصحيف: خبت ناره: خسارة، وضدها: ربح، ومعكوسها: حبر. ولكن الشيخ صفي الدين زاده عملاً كثيراً.
وأنشدني إجازة لنفسه يستهدي راحاً:
جاد لنا الدهر بعد ما بخلا ... ومجلس الأنس قد صفا وحلا
ونحن في مجلس يزينه ... رشف طلى بيننا ولثم طلى
فاهد لنا لا برحت ذا نعم ... ما ضد تصحيف عكسه عدلا
قلت: ضد عدل: جار، وتصحيفه: حار، وعكسه: راح. والله أعلم.
وأنشدني له إجازة يطلب فلفلاً:
أعوزتنا إحدى العقاقير في الدر ... ياق فأتحف بها تكن خير تحفه
ضعف تصحيف ضد مشطور مثل ... لمثنى معكوس ترخيم دفه
قتل: ترخيم دفه: دف، ومعكوسه: فد، ومثتاه: فدفد، ومثله: مهمه، ومشطوره: مه، وضده: قل وتصحيفه: فل، وتضعيفه: فلفل.
وأنشدني لنفسه إجازة:
بأبي قذار منك وابن زرارة ... أدنيت حتف المستهام العاني
فلو أن كاسم أبي معاذ قلبه ... ما كان في البلوى أبا حسان
قلت: المعنى: بسالف منك وحاجب أدنيت حتفي، فلو أن قلبه جبل ما كان في البلوى ثابتاً، لأن سالفاً أبوه قذار، وحاجباً أبوه زرارة، ومعاذاً أبوه جبل، وحسان أبوه ثابت.
وأنشدني لنفسه أيضاً:
ما كان ودك إذ عتبتك في الجفا ... كابن الطفيل ولا أبي حسان
وجهي أبو المقداد منك من الحيا ... والقلب منك حكى أبا سفيان
قلت: المعنى: ما كان ودك عامراً ولا ثابتاً، وجهي منك أسود وقلبك صخر. لأن الطفيل ابنه عامر، وحسان أبوه ثابت، والمقداد أبوه الأسود، وأبا سفيان كنيته صخر.
وأنشدني لنفسه أيضاً رحمه الله تعالى موالياً:
تقول بسك مني يا شقيق البدر ... لقول ضدك عني بالخنا والغدر
وكان ظنك أني يا جليل القدر ... يكون ذلك فني عند ضيق الصدر
قلت: وهذان البيتان يقرأ شطر كل قفل منها فيصير بيتي قريض قائمة الوزن بذاتها، وهما:
تقول بسك مني ... لقول ضدك عني
وكان ظنك أني ... يكون ذلك فني
وإذا قرأت هذين البيتين بالهجاء حرفاً فحرفاً، خرج منهما بيتاً موالياً قائماً الوزن، وذلك:
تاء قاف واو لام باء سين كاف ميم نون يا ... لام قاف واو لام ضاد دال كاف عين نون يا
واو كاف ألف نون ظاء نون كاف ألف نون يا ... ياء كاف واو نون ذال لام كاف فاء نون يا
وهذا عمل صعب إلى الغاية، ولا يتأتى إلا لذي القدرة والتسلط على النظم. وقد أردت أن أعمل مثل ذلك، فأعان الله تعالى، وفتح علي، فقلت:
علمت أنك حبي يا رشيق القد ... وقلت: ودك طبي يا شريق الخد(1/462)
فراع صدك لبي يا سعيد الجد ... عسى يردك ربي يا مديد الصد
فشطر كل نصف أول يقرأ فيكون قريضاً وهو:
علمت أنك حبي ... وقلت: ودك طبي
فراع صدك لبي ... عسى يردك ربي
وإذا قرأت هذين البيتين بالهجاء حرفاً فحرفاً، كانا بيتي موالياً وهما:
عين لام ميم تاء ألف نون كاف حاء باء يا ... واو قاف لام تاء واو دال كاف طاء باء يا
فاء راء ألف عين صاد دال كاف لام باء يا ... عين سين ألف ياء راء دال كاف راء باء يا
وأنشدني له إجازة:
وعدت في الخميس وصلاً ولكن ... شاهدت حولنا العدا كالخميس
أخلفت في الخميس وعدي وجاءت ... بعدما قبل بعد يوم الخميس
قلت: المعنى: أنها أوعدته الزيارة في يوم الخميس فرأت العدا كالجيش، فأخلفت الوعد في ذلك النهار، وجاءت في يوم الجمعة، وذلك لأن البعد والقبل متكافئان فسقطا، وفضل معه بعد والخميس بعده الجمعة. وهذا أخذه من قول القائل:
ما يقول الفقيه أيده الله ... ولا زال عنده الإحسان
في فتى علق الطلاق بشهر ... بعدما قبل بعده رمضان
وقد أوردت هذين البيتين في شرح اللامية وتكلمت عليه وعلى تقديم القبلات والبعدات، وهناك يظهر هذا أوضح من هنا.
وأنشدني لنفسه ما يقرأ مقلوباً:
أنث ثناء ناضراً لك إنه ... هنا كل أرض إن أنث ثناء
أمر كلاماً ألفته مظنه ... له نظم هتف لأم الكرماء
أهب لوصف لا لما هب آمل ... ملماً بها ملء الفصول بهاء
أروح أطيل الدأب أبرم همة ... مربى بإدلال يطاح وراء
أرق فلا حزن ينم بمهمل ... مهم بمن ينزح الفقراء
أخر لأني نائب لقضية ... تهيض قلبي أن ينال رخاء
أفوه أراعي قوته بتكلف ... لكتبة توقيع أراه وفاء
وأنشدني له إجازة مما يقرأ مقلوباً:
يلذ ذلي بنضو ... لو ضن بي لذ ذلي
يلم شملي لحسن ... إن سح لي لم شملي
وأنشدني لنفسه إجازة في الجناس:
كم قد أفضنا من دموع ودماً ... على رسوم للديار والدمن
وكم قضينا للبكاء منسكاً ... لما تذكرنا بهن من سكن
معاهد تحدث للصبر فناً ... إن هاجت الورق بها على فنن
تذكارها أحدث في القلب شجاً ... وفي الحشا قرحاً وفي القلب شجن
لله أيام لنا على منى ... فكم لها عندي أياد ومنن
شربت فيها لذة العيش حساً ... وما رأيت بعدها مرأى حسن
؟كم كان فيها من فتاة وفتى ... كل لقلب المستهام قد فنى
فما ارتكبنا بالوصال مأثماً ... بل بعتهم روحي بغير ما ثمن
وعاذل أضمر مكراً ودها ... فنمق العيش بنصح ودهن
لاح غدا يعرف للقلب لحاً ... إن أعرب القول بعذلي أو لحن
يزيدني بالزجر وجداً وأسى ... وكان ماء الود منه قد أسن
سئمت منه اللوم إذ طال مدى ... ولم أجبه بل بدوت إذا مدن
بجسرة تشد في السير قرى ... إذا لم تذلل بزمام وقرن
لا تتشكي نصباً ولا وجى ... إذا دجا الليل على الركب وجن
حنت وأعطت في السرى خير عطاً ... إن حن يوماً غيرها إلى عطن
وأصبحت من بعد أين وعناً ... للملك الناصر ضيفاً وعنن
ملك غدا لسائر الناس أباً ... إن سار في كسب الثناء أو أبن
الناصر الملك الذي فاض جداً ... فخلته ذا يزين وذا جدن
ملك علا قدراً وجداً وسناً ... فجاء في طرق العلا على سنن
لا جور في بلاده ولا عدى ... إن عد في العدل زبيد وعدن
كم بدر أعطى الوفود ولهى ... وكان يرضيهم كفاف ولهن
حنيت من إنعامه خير جنى ... وكنت من قبل كميت في جنن(1/463)
فما شكوت في حماه لغباً ... ولو أطاق الدهر غبني لغبن
دعوته بالمدح عن صدق ولا ... فلم يجب يوماً بلم ولا ولن
أنظم في كل صباح ومساً ... كأنه لصارم الفكر مسن
يا مالكاً فاق الملوك ورعاً ... إن شان أهل الملك طيش ورعن
أكسبني بالمجد مجداً وعلاً ... فصغت فيك المدح سراً وعلن
إن أولك المدح الجزيل فحرى ... وإن كبا فكر سواي وحرن
لا زلت في ملكك خلواً من عناً ... وليس للهم لديك من عنن
ونلت فيه ما تروم من منى ... وعشت في أمن وعز ومنن
وأنشدني إجازة لنفسه:
سل سلسل الريق إن لم تروحر ظلما ... بل بلبل القلب لما زاده ألما
قد قدَّ قدُّ حبيبي حبل مصطبري ... إن آن أن أجتني جرماً فلا جرما
مذ مل ململ قلبي في تغنته ... لو كف كفكف دمعاً صار فيه دما
بل رب ربرب سرب ثغره شنب ... لو لؤلؤ رام تشبيهاً به ظلما
لو قابل الشمس لألأ لاؤها كسفت ... فإن يقل للدجازح زحزح الظلما
كم هَد هُدهد واشينا بناء وفاً ... غداة عنعن عن أعدائنا الكلما
مذ نم نمنم أقوالاً شقيت بها ... إذ زل زلزل طود الصبر فانهدما
لم لملم الوجد عندي بعد مصرفه ... عني وجمجم جم الغيث فالتأما
مدلج لجلج نطقي عن إجابته ... لو رق رقرق دمعاً ظل منسجماً
إن كان دعدع دع كأس العتاب وقل ... من مهمه العشق لا يطويه من سئما
إن قيل ضعضع ضع خديك معتذراً ... أو قيل قلقل قل أرضى بما حكما
أو قيل طحطح طح بالحب ملتجئاً ... أو قيل دمدم دم بالود ملتزما
سب سبسب الحب واشكر من احبتنا ... لكل منْ منَّ منْ أهل الوفا كرما
هم همهم حفظهم للخل حق وفا ... من حيث حصحص حص الهم منتقماً
إن قيل أح أحاح الغدر فارض بهم ... أولا فنفسك لمُ لمَ لمْ تفض ندما
وأنشدني لنفسه إجازة:
إنهض فهذا النجم في الغرب سقط ... والشيب في فود الظلام قد وخط
والصبح قد مد إلى نهر الدجى ... يداً بها در النجوم يلتقط
وألهب الإصباح أذيال الدجى ... بشمعة من الشعاع لم تقط
وضجت الأطيار في أوراقها ... لما رأت سيف الصباح مخترط
وقام من فوق الجدار هاتف ... متوج القامة ذو فرغ قطط
يخبر الراقد أن نومه ... عند انتباه جده من الغلط
والبدر قد صار هلالاً ناحلاً ... في آخر الشهر وبالصبح اختلط
كأنه قوس لجين موتر ... والليل زنجي عليه قد ضبط
وفي يديه للثريا ندب ... يزيد فرداً واحداً عن النمط
فأي عذر للرماة والدجى ... قد عد في سلك الرماة وانخرط
أما ترى الغيم الجديد مقبلاً ... قد مد في الأفق رداه وانبسط
كأن أيدي الريح في تلفيقه ... قد لبدت قطناً على ثوب شمط
يلمع ضوء البرق في حافاته ... كأن في الجو صفاحاً تخترط
وأظهر الخريف من أزهاره ... أضعاف ما يخفي الربيع إذا شحط
ولان عطف الريح في هبوبها ... والظل من بعد الهجير قد سقط
والشمس في الميزان موزون بها ... قسط النهار بعدما كان قسط
وأرسلت جبال دربند لها ... رسلاً صبا القلب إليها وانبسط
من الكراكي الخزريات التي ... تقدم والبعض بعض مرتبط
كأنها إذ تابعت صفوفها ... ركائب عنها الرحال لم تحط(1/464)
إذا قفاها سمع ذي صبابة ... مثلي تقاضاه الغرام ونشط
فقم بنا نرفل في ثوب الصبا ... إن الرضا بتركه عين السخط
والتقط اللذة حيث أمكنت ... فإنما اللذات في الدهر لقط
إن الشباب زائر مودع ... لا يستطاع رده إذا فرط
أما ترى الكركي في الجو وقد ... نعم في أفق السماء ولغط
أنساه حب دجلة وطيبها ... مواطناً قد زق فيها وقمط
فجاء يهدي نفسه وما درى ... أن الجياد للحروب ترتبط
من كل سبط من هدايا واسط ... جعد التلاع منه في الكعب نقط
أصلحه صالح باجتهاده ... وكل ذي لب له فيه غبط
وما أضاع الحزم عند حزمها ... بل جاوز القيظ وللفصل ضبط
حتى إذا حر حزيران خبا ... وتم تموز وآب وشحط
وجاء أيلول بحر فاتر ... في نضج تعديل الثمار ما فرط
أبرز ما أحرز من آلاته ... وحل من ذاك المتاع ما ربط
ومد للصنعة كف أوحد ... مننره عن الفساد والغلط
وظل يستقري بلاغ عودها ... فنبر الأطراف واختار الوسط
وجود التدقيق في لحامها ... فأسقط الكرشات منه والسقط
ولم يزل ينقلها مراتباً ... تلزم في صنعته وتشترط
فعندما أفضت إلى تطهيرها ... صحح دارات البيوت والنقط
حتى إذا قمصها بدهنها ... جاءت من الصحة في أحلى نمط
كأنها النونات في تعريقها ... يعوج منها بندق مثل النقط
مثل السيور في يد الرامي فلو ... شاء طواها وحواها في سفط
لو يقذف أليم بها مالكها ... ما انتقض العود ولا الزور انكشط
كأنما يندقها نيازك ... أو من بد الرامي إلى الطير خطط
من كل محني الضلوع مدمج ... ما وهم الباري بها ولا فرط
كأنما لام عليها ألف ... وقال قوم إنها اللام فقط
فأجل قذى عيوننا ببرزة ... تنفي عن القلب الهموم والقنط
فما رأت من بعد هور بابل ... ومائه التيار عيشاً يغتب
ونحن من مروجه في نشوة ... عند التحري في الوقوف للخطط
من كل مقبول المقال صادق ... قد قبض القوس وللنفس بسط
يقدمنا فيها قديم حاذق ... لا كسل يشينه ولا قنط
يحكم فينا حكم داود فلا ... تنظر منا خارجاً لما شرط
لا يسبك الأسباق من جفته ... ولم يكن مثل القرلى في النمط
إذا رأى الشر تعلى وإذا ... لاح له الخير تدلى وانخبط
ما نعم المزهر والدف إذا ... فصل أدوار الضروب وضبط
أطيب من تدفدف التم إذا ... دق اكتسى الريش وهذا قد شمط
وذاك يرعى في شواطيه وذا ... على الروابي قد تحصى ولقط
فمن جليل واجب تعداده ... ومن مراع عدها لا يشترط
تعرج منا نحوه بنادق ... لم ينج منها من تعلى واختبط
فمن كسير في العباب عائم ... ومن ذبيح بالدماء يعتبط
وأنشدني له إجازة، ومن خطه نقلت:
كيف الضلال وصبح وجهك مشرق ... وشذاك في الأكوان مسك يعبق
يا من إذا سفرت محاسن وجهه ... ظلت بها حدق الخلائق تحدق
أوضحت عذري في هواك بواضح ... ماء الحيا بأديمه يترقرق
فإذا العذول رأى جمالك قال لي ... عجباً لقلبك كيف لا يتمزق(1/465)
يا آسراً قلب المحب فد معه ... والنوم منه مطلَق ومطلَّق
أغنيتني بالفكر فيك عن الكرى ... يا آسري فأنا الغني المملق
؟وصحبت قوماً لست من نظرائهم ... فكأنني في الطرس سطر محلق
قولاً لمن حمل السلاح وخصره ... من قد ذابله أرق وأرشق
لا توه جسمك بالسلاح وحمله ... إني عليك من الغلالة أشفق
ظبي من الأتراك فوق خدوده ... نار يخر لها الكليم ويصعق
تلقاه وهو مزرد ومدرع ... وتراه وهو مقرط ومقرطق
لم تترك الأتراك بعد جمالها ... حسناً لمخلوق سواها يخلق
إن نوزلوا كانوا أسود عريكة ... أو غوزلوا كانوا بدوراً تشرق
قوم إذا ركبوا الجياد رأيتهم ... أسداً بألحاظ الجآذر ترمق
قد خلقت بدم القلوب خدودهم ... ودروعهم بدم الكماة تخلق
جذبوا القسي إلى قسي حواجب ... من تحتها نبل اللواحظ ترشق
نشروا الشعور فكل قد منهم ... لدن عليه من الذؤابة صنجق
لي منهم رشأ إذا قابلته ... كادت لواحظه بسحر تنطق
إن شاء يلقاني بخلق واسع ... عند السلام نهاه طرف ضيق
لم أنس ليلة زارني ورقيبه ... يبدي الرضا وهو المغيظ المحنق
حتى إذا عبث الكرى بجفونه ... كان الوسادة ساعدي والمرفق
عانقته وضممته فكأنه ... من ساعدي ممنطق ومطوق
؟حتى بدا فلق الصباح فراعه إن الصباح هو العدو الأزرق وأنشدني له إجازة يمدح الملك الناصر محمد بن قلاوون:
أسبلن من فوق النحور ذوائبا ... فتركن حبات القلوب ذوائبا
وجلون من صبح الوجوه أشعة ... غادرون فود الليل منها شائبا
بيض دعاهن الغبي كواعباً ... ولو استبان الرشد قال كواكبا
وربائب فإذا رأيت نفارها ... من بسط أنسك خلتهن رباربا
سفهن رأي المانوية عندما ... أسبلن من ظلم الشعور غياهبا
وسفرن لي فرأين شخصاً حاضراً ... شدهت بصيرته وقلباً غائبا
أشرقن في حلل كأن أديمها ... شفق تدرعه الشموس جلابيا
وغربن في كلل فقلت لصاحبي ... بأبي الشموس الجانحات غواربا
حلو التعتب والدلال يروعه ... عتبي، ولست أراه إلا غاتبا
عاتبته فتضرجت وجناته ... وازور ألحاظاً وقطب حاجبا
فأراني الخد الكليم وطرفه ... ذو النون إذ ذهب الغداة مغاضبا
ذو منظر تغدو القلوب بخسنه ... نهباً وإن منح العيون مواهبا
لا غرو أن وهب اللواحظ حظوة ... من نوره ودعاه قلبي ناهبا
كمواهب السلطان قد كست الورى ... نعماً وتدعوه القساور سالبا
ملك يرى تعب المكارم راحة ... ويعد راحات الفراغ متاعبا
؟لم تخل أرض من ثناه وإن خلت من ذكره ملئت قناً وقواضبا
بمكارم تذر السباسب أبحراً ... وعزائم تذر البحار سباسبا
ترجى مواهبه ويخشى بطشه ... مثل الزمان مسالماً ومحارباً
فإذا سطا ملأ القلوب مهابة ... وإذا سخا ملأ العيون مواهبا
كالغيث يسفح من عطائه نائلاً ... سبطا ويرسل من سطاه حاصبا
كالليث يحمي غابه بزئيره ... طوراً وينشب في القنيص مخالبا
كالسيف يبدي للنواظر منظراً ... طلقاً ويمضي في الهياج مضاربا
كالسيل يحمد منه عذباً واصلاً ... ويعده قوم عذاباً واصبا
كالبحر يهدي للنفوس نفائساً ... منه ويبدي للعيون عجائبا
فإذا نظرت ندى يديه ورأيه ... لم تلف إلا صيباً أو صائبا(1/466)
أبقى قلاوون الفخار لولده ... إرثاً ففازوا بالثناء مكاسبا
قوم إذا سئموا الصوافن صيروا ... للمجد أخطار الأمور مراكبا
عشقوا الحروب تيمناً بلقا العدا ... فكأنهم حسبوا العداة حبائبا
وكأنما ظنوا السيوف سوالفاً ... واللدن قداً والقسي حواجبا
يا أيها الملك العزيز ومن له ... شرف يجر على النجوم ذوائبا
أصلحت بين المسلمين بهمة ... تذر الأجانب بالوفود أقاربا
ووهبتهم زمن الأمان فمن رأى ... ملكاً يكون له الزمان مواهبا
فرأوا خطاباً كان خطباً فادحاً ... لهم وكتباً كن قبل كتائبا
وحرست ملكك من رجيم مارد ... بعزائم إن صلت كن قواضبا
حتى إذا خطف المنافق خطفة ... أتبعته منها شهاباً ثاقبا
لا ينفع التجريب خصمك بعدما ... أفنيت من أفنى الزمان تجاربا
؟صرمت شمل المارقين بصارم ... تبديه مسلوباً فيرجع سالبا
صافي الفرند حكى صباحاً جامداً ... أبدى النجيع به شعاعاً ذائباً
وكتيبة تدع الصهيل رواعداً ... والبيض برقاً والعجاج سحائبا
حتى إذا ريح الجلاد حدت لها ... مطرت وكان الوبل نبلاً صائبا
بذوابل ملد يخلن أراقماً ... وشوائل جرد يخلن عقاربا
تطأ الصدور من الصدور كأنما ... تعتاض عن وطء التراب ترائبا
فأقمت تقسم للوحوش وظائفا ... فيها وتصنع للنسور مآدبا
وجعلت هامات الكماة منابراً ... وأقمت حد السيف فيها خاطبا
يا راكب الخطر الجليل وقوله ... فخراً بمجدك لا عدمت الراكبا
صبرت أسحار السماح بواكراً ... وجعلت أيام الكفاح غياهبا
وبذلت للمداح صفو خلائق ... لو أنها للبحر طاب مشاربا
فرأوك في جنب النضار مفرطاً ... وعلى صلاتك والصلاة مواظبا
إن يحرس الناس النضار بحاجب ... كان السماح لعين مالك حاجبا
لم يملؤوا فيك البيوت رغائبا ... إلا وقد ملؤوا البيوت غرائبا
أوليتني قبل المديح عناية ... وملأت عيني هيبة ومواهبا
ورفعت قدري في الأنام وقد رأوا ... مثلي لمثلك خاطباً ومخاطبا
في مجلس ساوى الخلائق في الندى ... وترتبت فيه الملوك مراتبا
وافيته في الفلك أسعى جالساً ... فخراً على من قال أمشي راكبا
فأقمت أنفذ في الأنام أوامراً ... مني وأنشب في الخطوب مخالبا
وسقتني الدنيا غداة وردته ... ريا وما مطرت علي مصائبا
فطفقت أملأ من ثناك وشكره ... حقباً وأملأ من نداك حقائبا
أثني فتثنيني صفاتك مظهرا ... عياً وكم أعيت صفاتك خاطبا
لو أن أعضانا جميعاً ألسن ... تثني عليك لما قضينا الواجبا
وأنشدني إجازة، ومن خطه نقلت، يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كفى البدر حسناً أن يقال نظيرها ... فيزهى ولكنا بذاك نضيرها
وحسب غصون البان أن قوامها ... يقاس به ميادها ونضيرها
أسيرة حجل مطلقات لحاظها ... قضى حسنها أن لا يفك أسيرها
تهيم بها العشاق خلف حجابها ... فكيف إذا ما آن منها سفورها
وليس عجيباً أن غررت بنظرة ... إليها فمن شأن البدور غرورها
فكم نظرة قادت إلى القلب حسرة ... يقطع أنفاس الحياة زفيرها
فواعجباً كم نسلب الأسد في الوغى ... ويسلبنا من أعين الحور حورها
فتور الظبى عند القراع يشينها ... وما يرهف الأجفان إلا فتورها(1/467)
وجذوة حسن في الخدود لهيبها ... يشب ولكن في القلوب سعيرها
إذا آنستها مقلتي خر صاعقاً ... فؤادي وقال القلب لادك طورها
وسرب ظباء مشرقات شموسه ... على حلة عند النجوم بدورها
تمانع عما في الكناس أسودها ... وتحرس ما تحوي القصور صقورها
تغار من الطيف الملم حماتها ... ويغضب من مر النسيم غيورها
إذا ما رأى في النوم طيفاً يرودها ... توهمه في اليوم ضيفاً يزورها
نظرنا فأعدتنا السقام جفونها ... ولذنا فأولتنا النحول خصورها
وزرنا وأسد الحي تذكي لحاظها ... ويسمع في غاب الرماح زئيرها
فيا ساعد الله المحب فإنه ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
ولما ألمت للزيارة خلسة ... وسجف الدياجي مسبلات سورها
سعت بيننا الواشون حتى حجولها ... ونمت بنا الأعداء حتى عبيرها
وهمت بنا لولا حبائل شعرها ... خطا الصبح لكن قيدته ظفورها
ليالي يعديني زماني على العدا ... وإن ملئت حقداً علي صدورها
ويسعدني شرخ الشبيبة والغنى ... إذا شانها أفتارها وقتيرها
ومذ قلب الدهر المجن أصابني ... صبوراً على حال قليل صبورها
فلو تحمل الأيام ما أنا حامل ... لما كاد يمحو صبغة الليل نورها
سأصبر إما أن تدور صروفها ... علي وإما تستقيم أمورها
فإن تكن الخنساء إني صخرها ... وإن تكن الزباء إني قصيرها
وقد أرتدي ثوب الظلام بجسرة ... عليها من الشوس الحماة جسورها
كأني بأحشاء السباسب خاطر ... فما وجدت إلا وشخصي ضميرها
وصادية الأحشاء غصى بآلها ... يعز على الشعرى العبور عبورها
ينوح بها الخريت ندباً لنفسه ... إذا اختلفت حصباؤها وصخورها
إذا وطئتها الشمس سال لعابها ... وإن سلكتها الريح طال هريرها
؟وإن قامت الحرباء ترصد شمسها ... أصيلاً أذاب الحظ منها هجيرها
تجنب عنها للحذار جنوبها ... وتدبر عنها في الهبوب دبورها
خبرت مرامي أرضها فقتلتها ... وما يقتل الأرضين إلا خبيرها
بخطوة مر قال أمون عثارها ... كثير على وفق الصواب عثورها
ألذ من الأنغام رجع بغامها ... وأطرب من سجع الهديل هديرها
نساهم شطر العيش عيساً سواهما ... لطول السرى لم يبق إلا شطورها
حروفاً كنونات الصحائف أصبحت ... تخط على طرس الفيافي سطورها
إذا نظمت نظم القلائد في البرى ... تقلدها خصر الربا ونحورها
طواها طواها فاغتدت وبطونها ... تجول عليها كالوشاح ظفورها
يعبر عن فرط الحنين أنينها ... ويعرب عما في الضمير ضمورها
نسير بها نحو الحجاز وقصدها ... ملاعب شعبي بابل وقصورها
فلما ترامت عن زرود ورملها ... ولاحت لها أعلام نجد وقورها
وصدت يميناً عن شميط وحاذرت ... ربا قطن والشهب قد شف نورها
وعاج بها عن رمل عاج دليلها ... فقامت لعرفان المراد صدروها
غدت تتقاضانا المسير لأنها ... الى نحو خير المرسلين مسيرها
ترض الحصى شوقاً لمن سبح الحصى ... لديه وحياً بالسلام بعيرها
إلى خير مبعوث إلى خير أمة ... إلى خير معبود دعاها بشيرها
ومن بشر الله الأنام بأنه ... مبشرها عن إذنه ونذيرها
ومن أخمدت مع وضعه نار فارس ... وزلزل منها عرشها وسريرها(1/468)
ومن نطقت توراة موسى بفضله ... وجاء به إنجيلها وزبورها
محمد خير المرسلين بأسرهم ... وأولها في المجد وهو أخيرها
فيا آية الله التي مذ تبجلت ... على خلقه أخفى الظلال ظهروها
عليك سلام الله يا خير مرسل ... إلى أمة لولاه دام غرورها
عليك سلام الله يا خير متشافع ... إذا النار ضم الكافرين حصيرها
عليك سلام الله يا من تعبدت ... له الجن وانقادت إليه أمورها
تشرفت الأقدام لما تتابعت ... إليك خطاها واستمر مريرها
وفاخرت الأفواه نور عيوننا ... بتربك لما قبلته ثغورها
ولو وفت الوفاد قدرك حقه ... لكان على الأحداق منها مسيرها
لأنك سر الله والآية التي ... تجلت فجلى ظلمة الشرك نورها
مدينة علم وابن عمك بابها ... فمن غير ذاك الباب لم يؤت سورها
شموس لكم في الغرب مدت شموسها ... بدور لكم في الشرق حفت بدورها
جبال إذا ما الهضب دكت جبالها ... بحور إذا ما الأرض غارت بحورها
فيا آل خير الآل والعترة التي ... محبتها نعمى قليل شكورها
إذا جولست للبذل ذل نضارها ... وإن سوجلت في الفضل عز نظيرها
وصحبك خير الصحب والغرر التي ... بهم أمنت من كل أرض ثغورها
كماة حماة في القراع وفي القرى ... إذا شط قاريها وطاش وقورها
أيا صادق الوعد الأمين وعدتني ... ببشرى فلا أخشى وأنت بشيرها
بعثت الأماني عاطلات لتبتغي ... نداك فجاءت حاليات نحورها
وأرسلت آمالاً خماصاً بطونها ... إليك فعادت مثقلات ظهورها
إليك رسول الله أشكو جرائماً ... يوازي الجبال الراسيات صغيرها
كبائر لو تبلى الجبال بحملها ... لدكت ونادى بالثبور ثبيرها
وغالب ظني بل يقيني أنها ... ستمحى وإن جلت وأنت سفيرها
لأني رأيت العرب تخفر بالعصا ... وتحمي إذا ما أمها مستجيرها
فكيف بمن في كفه أورق العصا ... يضام بنو الآمال وهو خفيرها
وبين يدي نجواي قدمت مدحة ... قضى خاطري أن لا يضيع خطيرها
يروي غليل السامعين قطارها ... ويجلو عيون الناظرين قطورها
وأحسن شيء أنني قد جلوتها ... عليك وأملاك السماء حضورها
تروم بها نفسي الجزاء فكن لها ... مجيزاً بأن تمسي وأنت مجيرها
فلا بن زهير قد أجزت ببردة ... عليك فأثرى من ذويه فقيرها
أجرني أجزني واجزني أجر مدحتي ... ببرد إذا ما النار شب سعيرها
وقابل ثناها بالقبول فإنها ... عرائس فكر والقبول مهورها
فإن زانها تطويلها واطرادها ... فقد شانها تقصيرها وقصورها
إذا ما القوافي لم تحط بصفاتكم ... فسيان منها جمها ويسيرها
بمدحك تمت حجتي وهي حجتي ... على عصبة يطغى علي فجورها
أقص بشعري إثر فضلك واصفاً ... علاك إذا ما الناس قصت شعورها
وأسهر في نظم القوافي ولم أقل ... خليلي هل من رقدة أستعيرها
عبد العزيز بن عبد الجليل
الشيخ الإمام الفقيه عز الدين النمراوي الشافعي.
كان من فقهاء القاهرة المشهورين. أفتى ودرس وصحب الأمير سيف الدين سلار مدة، وترقى بسببه.
توفي رحمه الله تعالى في تاسع ذي القعدة سنة عشر وسبع مئة.
عبد العزيز بن عبد الغني(1/469)
ابن أبي الأفراح سرور بن أبي الرجاء، سلامة بن أبي بن اليمن بركات بن أبي الحمد داود، ويتصل بالحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الينبعي المحتد، الإسكندراني المولد.
أخبرني العلامة أبو حيان قال: أنشدنا لنفسه بجامع عمرو بن العاص، ثاني عشر شهر رجب، ثمانين وست مئة:
وجدت بقائي عند فقد وجودي ... فلم يبق حد جامع لحدودي
وألفيت سري عن ضميري ملوحاً ... برمز إشاراتي وفك قيودي
فأصبحت مني دانياً بمعارف ... وقد كنت عني نائباً لجمودي
ومن عين ذاك الأمر حكم مبين ... لتحقيق ميراثي وحفظ عهودي
فمن مبتدا فرقي قنوتي ووجهتي ... إلى منتهى جمعي يكون سجودي
وعاكف ذاتي مطلق غير مطرق ... وبادي صفاتي قد وفا بعقودي
وإن أمرتني نشأتي غير نسبتي ... فصالح آبائي نذير ثمودي
سألقي عصاي في رحاب تجردي ... لتأتي من نحو القبول وفودي
وأخلد بلعامي إلى أرض طبعه ... لترفعني الآيات حال صعودي
إذا وردت من ماء مدين نشوتي ... لطيفة أسراري بطيب ورودي
فأنزل مني منزلاً بعد منزل ... وتنزل شمسي في بروج سعودي
فلا منهج إلا ولي فيه مسلك ... ولا موطن إلا وفيه شعودي
قال العلامة أبو حيان: قال شيخنا الرضي الشاطبي: هذا يعرف بالشيخ عبد العزيز المنوفي، وهو من أتباع ابن العربي، صاحب عنقاء مغرب.
قال الشيخ أثير الدين: وهو شيخ عبد الغفار بن نوح القوصي.
قلت: توفي هذا الشيخ، أبو فارس المنوفي، رحمه الله تعالى، سنة ثلاث وسبع مئة.
وولده سنة سبع وست مئة.
عبد العزيز بن عبد القادر
ابن أبي الكرم بن أبي الذر الربعي البغدادي، الشيخ نجم الدين، أحد أشياخي الذين سمعت عليهم بالقاهرة.
أجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وسمعت عليه المقامات الجزرية التي لابن الصيقل، كان يرويها عن المصنف، قرأها عليه الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن العسجدي بالمدرسة القراسنقرية بالقاهرة في السنة المذكورة ونحن نسمع. وله رسالة في الرد على الشيخ تقي الدين بن تيمية في إنكاره صحة الكيمياء، وله مصنفات منها كتاب نتائج الشيب من مدح وعيب وهو كبير، ملكته بخطه.
وكان شيخاً قد أتقى واستمسك من الزهد بالعروة الوثقى، صوفياً قد تجرد، وانفرد عن الوظائف ومن فيها تمرد، طيلاً مهيباً، دانياً من القلوب قريباً.
لم يزل على حاله إلى أن ذر على ابن أبي الذر ترابه، وفارقه لداته وأترابه.
وتوفي رحمه الله تعالى...
ومولده ببغداد سنة اثنتين وستين وست مئة.
عبد العزيز بن أبي القاسم
ابن عثمان، الشيخ عز الدين أبو محمد البابصري البغدادي الحنبلي الصوفي الأديب من أعيان الشميساطية.
سمع مشيخة الباقرحي على ابن الأجل، وسمع بدمشق من أصحاب ابن طبرزد.
وكان بالفقه بصيراً، وعلى الأدب لمن عاناه نصيراً، وله حظ من معرفة أيام الناس، وتراجم الأطهار والأدناس، وعلى ذهنه من الشعر جملة، وعلى ظهر قلبه من روايته حمله.
ولم يزل على حاله إلى أن شخص بصر البابصري وبرق، وغص بها الحلقوم وشرق، وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة أربع وثلاثين وخمس مئة.
وسمع منه ابن البرزالي، وابن الصيرفي، وضعف بصره أخيراً. وله شعر منه قوله: ...
عبد العزيز بن محمد
ابن عبد الله بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر بن صغير، الصدر عز الدين بن القيسراني، كاتب الإنشاء بالقاهرة.
سمع من الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، ومن الشريف موسى وغيرهما.
ودرس بالفخرية وغيرها على مذهب الشافعي.
وكان من بيت رياسة، وجماعة وصدارة ونفاسة، بزته جميلة، ومنظره آنق من خميلة، وكفه يسح بالنوال ولا يشح عن السؤال، ولطفه كالنسيم، وظرفه كطلعة الصبح البسيم.
ولم يزل على حاله إلى أن ذوى رطيباً، وركب أعواد النعش ولم يك خطيباً.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة تسع وسبع مئة، ودفن بالقرافة ولم يكمل الأربعين.(1/470)
وكتب عنه شيخنا البرزالي وجماعة من المصريين. وله نظم ونثر، ومن نظمه ما قاله في قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وقد خطب بمصر:
تضوع نشر المسك من لفظك العذب ... وأظهرت من نهج البلاغة ما يصبي
وشنفت أسماع الأنام بخطبة ... نفخت بها الأرواح في ميت القلب
وقد عجب الراؤون من عود منبر ... تلامسه إذا لم يكن منبت العشب
ولكنه من حين لامست عوده ... تعرف حتى صار من مندل رطب
ومنه:
من طلب الأرزاق من عند من ... يطعمه الله ويسقيه
يكون قد ضل سبيل الهدى ... وحاد عن نيل أمانيه
لأن من يعجز عن نفسه ... يعجز عن إرزاق راجيه
عبد العزيز بن محمد بن عبد الحق
ابن شعبان بن علي، عز الدين أبو محمد الشياح بالشين - المعجمة والياء آخر الحروف وألف بعدها حاء مهملة - الأنصاري الدمشقي.
روى عن ابن عبد الدائم، وسمع من عبد الله الخشوعي.
كان رجلاً حسناً، لوذعاً فطناً. تعانى الخدم والتجارة، وكتب في الديوان طلباً للمعيشة وحسن الشارة. وتولى على عمارة الجامع السيفي بظاهر دمشق، ولما فرغ ولي إشرافه، واجتنى قطوفه وحاذر غيبته عنه وانصرافه. ثم إنه توجه للقدس وعاد فباشر مشارفة يبرود، وأقام بها إلى أن نشرت له من الموت مطويات البرود.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة، وحمل على الأعناق إلى تربة والده بسفح قاسيون.
عبد العزيز بن محمد بن أحمد
ابن هبة الله بن جرادة، قاضي القضاة، عز الدين أبو البركات بن الصدر محيي الدين الحنفي، ابن العديم قاضي القضاة بحماة.
كان شيخاً فاضلاً في عدة فنون. ولي قضاء حماة مدة تقارب الأربعين سنة. وكان مدرساً بعدة مدارس، وروى الحديث عن يوسف بن خليل الحافظ، وسمع من أخويه: يونس وإبراهيم، ومن الضياء صقر، وهدية بنت المغربي، وغيرهم.
وكان له اعتناء ب؟ الكشاف ومفتاح السكاكي وغير ذلك.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ودفن بتربتهم بعقبة نقيرين.
ومولده في شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
عبد العزيز بن محمد بن علي الطوسي
ضياء الدين، مدرس النجيبية ومعيد الباذرائية والناصرية.
كان بصيراً بالفقه وأصوله، خبيراً بمنتخبه ومحصوله. أفاد وأفتى، وتميز بمحاسن شتى، وصيف في العلم وطلبه وشتى، وصنف التصانيف البديعة حتى، ووضع شرحاً للحاوي وأعان به الطلبة على الفتاوي. وشرح المختصر لابن الحاجب، وأتى فيه بكل مهم واجب.
ولم يزل على حاله إلى أن خرج من الحمام، فدخل في الحمام، ورثاه حتى ساجعات الحمام.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشر جمادى الأولى سنة ست وسبع مئة، خرج من الحمام ومات، رحمه الله تعالى.
عبد العزيز بن محمد بن عبد الحق
ابن خلف بن عبد الحق، الفقيه الإمام العدل عز الدين الدمشقي الشافعي.
كان فاضلاً، عنده فقه وحديث، وله معرفة بالشروط وكان من أعيان الشهود، ودرس بالمدرسة الأسدية ظاهر دمشق.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: روى لنا عن ابن الزبيدي، وابن صباح، والفخر الإربلي، وجعفر الهمداني، وغيرهم. وله إجازة من ابن القطيعي، وابن روزبة، وجماعة من بغداد.
وتوفي رحمه الله تعالى في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده في تاسع عشر شعبان سنة خمس وعشرين وست مئة.
عبد العزيز بن منصور
الصدر عز الدين الكولمي التاجر.
كان له أموال كالأمواه، أو الكلمات التي تخرج أفواجها من الأفواه، لا يضبطها حساب، ولا يحصل نظيرها اكتساب، فاتت العد، وتعدت الحد.
عبد العزيز بن يحيى بن محمد
القاضي الرئيس عماد الدين أبو محمد ابن قاضي القضاة محيي الدين بن الزكي القرشي الدمشقي الشافعي مدرس العزية والتقوية.
وكان أحد من ولي نظر الجامع الأموي غير مرة، ونول أهله ومن له به علاقة كل مسره، وكان شكله مليحاً، ونطقه في المقاصد السعيدة فصيحاً، فيه حشمة، وله همة، وعنده صدارة، وللرياسة عليه إحاطة وإدارة. وكان قد عين للقضاء، وقابله الناس بالارتضاء.
ولم يزل على حاله إلى أن حانت وفاته، ولانت للموت صفاته.(1/471)
وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة أربع وخمسين وست مئة.
وقرأ عليه شيخنا البرزالي مشيخة أبي مسهر بروايته حضوراً عن إبراهيم بن خليل.
عبد العزيز
المغني المعروف بالفصيح.
كان مشهوراً بالإجادة في صناعت، وأظن دخل اليمن رحمه الله.
وتوفي بالقاهرة في جمادة الأولى سنة عشر وسبع مئة.
وفيه يقول علاء الدين الوادعي - ومن خطه نقلت - :
قل للذي عشق الفصيح وعنده ... أن العيون إليه لم تتيقظ
يا من تحفظ في هواه عن الورى ... ليس الفصيح كفاية المتحفظ
ونقلت منه له:
عذلي في هوى الفصيح دعوني ... واسمعوا العذر واضحاً مشروحا
خفت لحناً في شرح مجمل حبي ... فلهذا قد حفظت الفصيحا
ونقلت منه له:
لحن هذا الفصيح أحسن من إع؟ ... راب ذاك الفصيح في كل حال
بين هذين في الفصاحة بون ... ذاك من ثعلب وذا من غزال
ونقلت منه له:
وليلة ما لها نظير ... في الطيب لو ساعفت بطول
كم نوبة للفصيح فيها ... أطرب من نوبة الخليل
؟عبد العظيم بن عبد المؤمن
الشيخ زكي الدين بن الشيخ شرف الدين الدمياطي.
مات كهلاً سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة. وكان شيخ الظاهرية بالقاهرة.
عبد الغالب بن محمد
ابن عبد القاهر بن محمد بن ثابت بن عبد الغالب الماكسني.
سمع من إسماعيل بن أبي اليسر، وأبي بكر محمد بن علي النشبي، وإبراهيم بن إسماعيل بن الدرجي، وغيرهم.
أجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
عبد الغفار بن محمد
ابن عبد الكافي بن عوض السعدي المصري القاضي المفتي المتقن المجيد تاج الدين الشافعي.
روى عن إسماعيل بن عزون، والنجيب، وابن علاق، وعدة، وجع وصنف وقطع ورصف، ونسخ الكثير وجود، وأفاد الطلبة وعود، وعمل المعجم والتساعيات، وخرج المسلسلات، وكان موصوفاً بالفقه والإتقان والدين والإيقان.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح عبد الغفار عند الحفار، وتحدث بأخباره السفار.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة خمسين وست مئة.
وكان شيخ الحديث بالمدرسة الصاحبية بمصر، وأخذ عنه تقي الدين بن رافع، وشهاب الدين أحمد بن أيبك الدمياطي، والواني، وابنه، والسروجي. وأجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ذكر في شعبان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة أنه كتب بخطه ما يزيد على خمس مئة مجلد ما بين فقه وحديث وغير ذلك.
وقرأ العربية على أمين الدين المحلي، وسمع منه، ومن ابن عزون، وابن علاق، والنجيب عبد اللطيف، وأخيه، والمعين بن القاضي الدمشقي، ومحمد بن مهلهل الجنبي وعبد الهادي القيسي والشيخ شمس الدين بن العماد الحنبلي، وأبي حامد بن الصابوني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، ومحمد بن إبراهيم الكلي الطبيب، وابن الخيمي الشاعر، والحافظ اليغموري، والفضل بن رواحة، وسمع بالإسكندرية من عثمان بن عوف آخر أصحاب ابن موقا وابن الدهان وابن الفرات وجماعة من أصحاب ابن البنا وابن عماد، وخرج لنفسه معجماً في ثلاث مجلدات، وأجازه من دمشق ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وجماعة من أصحاب الخشوعي وغيرهم.
وحدث بالكثير، واعتنى بهذا الشأن، وكان ذاكراً لشيوخه وسماعه، حسن الخط، جيد الضبط، عارفاً بهذا الشأن وناب في الحكم بمصر عن القاضي تقي الدين الحنبلي.
عبد الغفار بن أحمد
ابن عبد المجيد بن عبد الحميد، الذروي المحتد، الأقصري المولد، القوصي الدار، المعروف بابن نوح.
صحب الشيخ أبا العباس أحمد الملثم، والشيخ عبد العزيز المنوفي، وقد تقدم ذكره آنفاً، وتجرد زماناً، وتفرد بالمشيخة عياناً.
وكانت له قدرة على الكلام، وفصاحة يشهد بها الأئمة الأعلام، وله في السماع حال، وعنده قال من جعل له القال، وبه نزل من رقق شعره في المحبة والغزل، وكان ينكر من المنكرات كثيراً، ويأمر بالمعروف فيوقد به سراجاً منيراً، وله قوة جنان، وتصرف عنان في البيان.
ولم يزل على حاله بالقاهرة، بعدما جاء إليها من قوص إلى أن قامت النوائح على ابن نوح، وفارق جسده ما كان قد تعلق به من الروح.
وتوفي بمصر سنة ثمان وسبع مئة ومولده ...(1/472)
وكان قد تعبد سنين، وسمع من الدمياطي بالقاهرة، وحدث عنه بقوص، وسمع بمكة من المحب الطبري، وصنف كتاباً سماه الوحيد، وله بظاهر قوص، رباط حسن، وله بقوص أحوال معروفة، ومقالات موصوفة، وينسب أصحابه إليه كرامات.
كان النصارى قد أحضروا مرسوماً بفتح الكنائس، فقام شخص في السحر بجامع قوص، وقرأ " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " ، وقال: يا أصحابنا الصلاة في هدم الكنائس، فلم يأت الظهر إلا وقد هدمت ثلاث عشرة كنيسة، ونسب ذلك إلى أنه من جهة الشيخ ابن نوح، ثم إن عز الدين الرشيدي أستاذ دار سلار حضر إلى قوص، فتوجه إليه نصراني يدعى النشو، كان يخدم عندهم، وتكلم في القضية، واجتمع العوام، ورجموا إلى أن وصل الرجم إلى حراقة الرشيدي، فأتهم الشيخ بذلك، ثم إنه بعد أيام حضر أمير إلى قوص وأمسك جماعة من الفقراء، وضربهم، واخذ الشيخ معه إلى القاهرة، ورسم له أن يقيم بمصر، ولا يخرج منها، فحصل بعد مدة لطيفة للرشيدي مرض، وتهوس وتلاشت حاله، واستمر في أنحس حال إلى أن توفي، وتوفي الشيخ بعده بمدة في تاريخ وفاته.
ومن شعره:
أنا أفتي أن ترك الحب ذنب ... آثم في مذهبي من لا يحب
ذق على أمري مرارات الهوى ... فهو عذب وعذاب الحب عذب
كل قلب ليس فيه ساكن ... صبوة عذرية ما ذاك قلب
عبد الغفار
قيل: عبد القاهر، الشيخ العالم الفقيه نجم الدين المعروف بابن أبي السفاح الحلبي، قاضي القضاة الشافعي بحلب.
توفي بحلب رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة خمسين وسبع مئة.
وقيل: اسمه عبد القاهر، وهو الصحيح.
عبد الغني بن يحيى
ابن محمد بن عبد الله الحراني القاضي شرف الدين أبو محمد الحنبلي.
ولي نظر الخزانة بالديار المصرية مدة طويلة، ثم أضيف إليه قضاء الحنابلة.
كان رئيساً جواداً، نفيساً لا يدخل العل له فؤاداً، فيه لمن يقصده تعصب، وقيام على من يعانده وتوثب، اشتهرت رئاسته، وظهرت للناس نفاسته، وشكرت في القضاء أيامه، وحمدت فيه أحكامه.
ودرس بالصالحية إلى أن فارق دنياه، وترك عليا.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل سنة تسع وسبع مئة.
ومولده بحران في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وست مئة. وروى جزء ابن عرفة عن شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري، وسمع منه الطلبة، وتولى قضاء الحنابلة بمصر يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة عوضاً عن القاضي بدر الدين بن عوض.
عبد الغني بن محمد بن عبد الواحد
القاضي الفقيه تقي الدين بن الشيخ شمس الدين المقدسي.
كان مدرساً بالمنصورية بالقاهرة، وعنده فضيلة، وهو متعين في مذهبه.
توفي رحمه الله تعالى خامس جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة، ودفن بالقرافة عند والده.
عبد الغني بن منصور
ابن منصور بن إبراهيم، جمال الدين أبو عبادة الحراني المؤذن.
روى عن عيسى بن الخياط الحراني، وسمع من مجد الدين بن تيمية، وغيرهما.
وكان من أعيان المؤذنين، طيب الصوت، فقيهاً فاضلاً مناظراً مشاركاً في العلوم، وله نظم.
توفي رحمه الله تعالى بقرن الحارة، وحمل إلى دمشق، وكانت جنازته حافلة في ثالث ربيع الآخر سنة خمس وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين بحران.
وحدث بعرفة ومنى.
عبد الغني بن عروة
ابن عبد الصمد بن عثمان، جمال الدين أبو محمد بن الشيخ الصالح الرأس عيني.
سمع بحلب سنة أربع وأربعين وست مئة على الشيخ عز الدين عبد الرزاق الرأس عيني المعروف بالمحدث.
وكان جمال الدين هذا حسن الخلق خفيف الروح، يتردد إلى الأعيان وغيرهم من الأفرم ومن دونه من جميع الطوائف، ويحاضرهم ويلاطفهم ويستجديهم، وكان يخرج من بيته من بكرة، ويدور على الناس دورة، وما تجيء الثانية أو الثالثة حتى يحصل له العشرون درهماً فما دونها.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم السبت رابع عشر جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وقد تجاوز الثمانين، ودفن بمقابر الشيخ أرسلان.(1/473)
وكان كثيراً ما يحكي ويتعيش بوقائعه مع الأمير علم الدين أرجواش نائب قلعة دمشق، لأنه كان به خصيصاً، لا يكاد يصبر عنه. حضر إلى صفد في وقت، وكان الأمير علم الدين سنجر الساقي مشد الديوان بصفد ووالي الولاة، وهو متزوج بابنة أرجواش فتركها في مخدع بحيث تسمع، وأحضر الشيخ عبد الغني واستحكاه، فأخذ يحكي عن أرجواش، ومما حكاه أنه لما توفي الملك المنصور، قال: يا عبد الغني، أحضر لي مقرئين يقرؤون ختمة للسلطان، قال: فأحضرت له جماعة، وجلس أمامهم وإلى جانبه دبوس، وأخذ أولئك يقرؤون على العادة، فقال: دعهم يقرؤون عالياً، ليسمع السلطان في قبره، فقلت لهم: ارفعوا أصواتكم بالقراءة، فقفزوا وما فرغوا منها إلى ربع الليل، فقلت: يا خوند فرغوا، فقال: دعهم ليقرؤوا ختمة أخرى فقال، فقلت لهم: ابدؤوا في أخرى فشرعوا في الثانية، وما فرغوا منها إلى نصف الليل، فقلت: يا خوند فرغوا بسعادتك، فقال: لا، السموات ثلاث، والأرض ثلاثة، والبحار ثلاثة، والمعادن ثلاثة، كل شيء في الدنيا ثلاثة ثلاثة، يقرؤون الأخرة تتمة ثلاثة، فقلت لهم: يا مساكين اقرؤوا أخرى، واحمدوا الله واشكروه كونه ما عرف أن السموات سبع والأرض سبع، فما فرغوا حتى أشرفوا على الهلاك، لأنهم من المغرب إلى بكرة في عياط، فقلت: يا خوند فرغوا، فقال: رسم عليهم إلى بكرة، فإذا تعالى النهار، اكتب عليهم حجة تحت الساعات بالله وبالقيامة الشريفة أن ثواب هذه الختمة لأستاذنا السلطان الملك المنصور، وهات الحجة إلي واعطهم مئة درهم. فما ملكت ابنة أرجواش نفسها، بل فتحت الباب، وخرجت إلى الشيخ عبد الغني ونتفت ذقنه، وخربت عمامته، فخرج منها، وهي تشيخه وتسبه، وأما زوجها؛ فقاسى منها شدة.
وقال: جئت يوماً إلى باب القصر الأبلق، فوجدت الملك الكامل، والصاحب عز الدين بن القلانسي جالسين فدروزتهما، فلم يعطياني شيئاً، فلطفت القول، وزدت فما رشحالي بشيء، فقلت: والله لأغرمنكما جملة كثيرة على هذه العشرة دراهم، وتركتهما، ومضيت، وشددت طبق فاكهة، وحملته حمالاً، وغطيته بفوطة مليحة، وجئت إلى باب الصاحب، ودققت الباب، فخرجت الجارية، فدفعت إليها الطبق، وقلت لها: قولي لمولانا الصاحب، الله يجعلها ساعة مباركة، وتركتها حتى مشت خطوتين، وقلت لها: يا ستي تعالي، هذا بيته الجديد وإلا العتيق؟ فقالت: ولي! إيش يكن بيته الجديد؟ فقلت: يا ستي هاتي الطبق، أنا أحسبه الذي دخل فيه عروساً، وأخذت الطبق ومضيت، فدخلت إلى ستها، وحكت لها الواقعة، فما شكت أن الصاحب تزوج بغيرها، فقعدت في حزن شديد، ولما حضر الصاحب؛ لم تقم إليه، ولم تأخذ شاشه، ولا فرجيته على العادة، فقال: خير ما لكم؟! قالت: روح إلى عروسك الجديدة، فضحك، فصممت، وصار كلما ضحك؛ تصمم، فحلف لها بالطلاق، أن هذا ما جرى منه شيء، فزادت في التصميم، فاغتاظ منها، وحلف بطلاقها، وباتت منه وبقيت مدة إلى أن ترضاها وسألها عن الموجب لذلك، فحكت له الصورة ، فعلم من أين أتي؟، وحكى لها الصورة، فصدقته، فجدد لها صداقاً، وزاده، وبذل لها شيئاً بجملة، وغرم في هذه الواقعة قريباً من خمسة آلاف درهم.
وأما الملك الكامل؛ فإنه كان يوماً عند الأفرم يحكي له، ويتلطف، فحضر الملك الكامل، فشكر الأفرم منه، فقال عبد الغني: والله يا خوند، ما في دمشق من يحب مولانا ملك الأمراء مثله، ولقد بلغ الملوك أنه من أيام اشترى خمس مئة غرارة شعير، ليحملها إلى اصطبل مولانا ملك الأمراء، فالتفت إليه الأفرم، وقال: يا ملك ليش تفعل هذا؟، أنا أعرف بحالك، والله ما تعود تفعل مثل هذا وأمثاله وأعود أقبل منك، فقال: يا خوند الكل من صدقاتك، وخرج فما أمكنه إلا حمل خمس مئة غرارة شعير إلى اصطبل الأفرم، وكان الصاحب عز الدين بعد ذلك والملك الكامل إذا رأيا عبد الغني بادراً بالمكارمة، وقالا له: اكفنا شرك، وله من هذا الضرب ألوان، وأنواع يضيق عنها هذا المكان، وهذا القدر كافي.
عبد القادر بن عبد العزيز
ابن السلطان الملك المعظم عيسى بن أبي بكر محمد العادل بن أيوب هو الملك أسد الدين أبو محمد.
سمع من خطيب مردا السيرة النبوية وحدث بها في مصر، وروى عنه عدة أجزاء، وله إجازة من محمد بن عبد الهادي والصدر البكري.(1/474)
وله همة وجلادة، وقدوم على دمشق ووفاده، مليح الشكل لمن يراه، صبيح الوجه، يشهد بالقدرة لمن يراه، حسن الأخلاق من الرياضة، كثير البشر لمن قصد اعتراضه، شديد البنية والتركيب، عتيد القوى في الترغيب والترهيب، قيل: إنه ما تزوج ولا تسرى، ولا تبرم من ذلك ولا تبرى.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح أسد الدين مفترساً، ورسب شخصه في القبر ورسا.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة سبع وثلاثين وسبع مائة.
ومولده بالكرك سنة اثنتين وأربعين وست مئة، وكانت وفاته بالرملة، ونقل إلى القدس، وأجاز لي بالقاهرة بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. واجتمعت به غير مرة.
عبد القادر بن محمد
ابن أبي الكرم عبد الرحمن بن علوي بن المعلى بن علوي بن جعفر القاضي تاج الدين بن القاضي عز الدين العقيلي البخاري الحنفي.
سمع الصحيح من ابن الزبيدي، وسمع من الإمامين جمال الدين الحصيري، وتقي الدين بن الصلاح، وولي قضاء الحنفية بحلب، ونظر الأوقاف والمدرسة العصرونية. وعاد إلى دمشق، وحدث بها بالمئة البخارية، وعاد إلى حلب.
ولم يزل بها إلى أن حلت به في حلب الداهية، وأصبح ذا قوة واهية.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده بدمشق سنة ثلاث وعشرين وست مئة.
عبد القادر بن محمد بن تميم
الفقيه المحدث محيي الدين المقريزي، بالميم المفتوحة والقاف الساكنة والراء المكسورة وبعدها زاي، البعلبكي الحنبلي.
سمع ببلده من زينب بنت كندي، وبدمشق من ابن عساكر، وابن القواس، وبمصر من البهاء بن القيم وسبط زيادة، وبحلب والحرمين. ونسخ وحصل، وجمع وأصل، وميز وفصل، وتفقه ودأب، وجد واجتهد في الطلب، وصار شيخ دار الحديث للبهاء بن عساكر، وكان بها يحاضر ويذاكر.
ولم يزل على حاله إلى أن نزل في الجدث، وأنس أصحابه ما قدم بما حدث.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، عن خمس وخمسين سنة أو نحوها.
عبد القادر بن أبي القاسم
ابن علي الأسنائي، القاضي ناصر الدين الشافعي.
كان كاتب الحكم العزيز الشافعي بالقاهرة.
كان فاضلاً ديناً، عاقلاً صيناً، عفيفاً ورعاً، خبيراً حفظ عهد القضاء ورعاه، عمر المدرسة الشهابية بميدان القمح ظاهر القاهرة، وعمر وقوفاً من ماله، ثم إنه استعاد ذلك من ربع الوقف قليلاً قليلاً، وكان معيد الشافعية بالمدرسة المنصورية، وشاهد الحواصل بها وبالبيمارستان، ومعيد المدرسة القطبية، وناب في الحكم خارج باب الفتوح عن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وناب عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في بعض الأعمال، وكان يحج كل سنة ويترك سنة، وجاور بمكة مدة، وكان يعيد بالسيفية.
وسمع من شهاب بن علي المحسني وغيره.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر شهر رجب الفرد سنة ثلاثين وسبع مئة وقد جاوز السبعين، وخلف مالاً وثروة، وتصدق في مرضه بنحو من خمسة عشر ألف درهم، ودفن بالقرافة الصغرى.
عبد القادر بن بركات
ابن أبي الفضل: الشيخ محيي الدين الصوفي المعروف بابن قريش أحد الأخوة، تقدم ذكر أخيه الشيخ إبراهيم، وسيأتي ذكر أخيه الشيخ تقي الدين في حرف الميم.
أسن هذا محيي الدين وكبر وعجز عن المشي، وكان يركب حماراً، وكانت له خصوصية بقاضي القضاة نجم الدين بن صصرى، وكان من ذلك الطراز الأول، فبقي في آخر عمره غريباً. إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
عبد القادر بن يوسف
ابن مظفر، الصدر الجليل العدل المأمون أبو محمد شمس الدين بن الخطيري الدمشقي الكاتب.
سمع من عبد الوهاب بن رواج، وأجاز له أبو القاسم بن الصفراوي: وعلي بن مختار: وجماعة.
وسمع منه جماعة: الواني، والبرزالي، وابن شيخنا الذهبي، وولي نظر الجامع الأموي ونظر الخزانة.
وكان من الكتاب العقلاء، والرؤساء النبلاء، تنقل في المباشرات، وقابل بالمكاسرات المكاشرات. وساس دهره إلى أن زار قبره.
وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشري جمادى الأولى سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة.
عبد القادر بن أحمد
الفقيه الجدلي المناظر محيي الدين حينئذ، كان يكثر في بحوثه من قول حينئذ.
كان أصله من بغداد، ومن سمعه تحقق أنه أستاذ، مليح السمت عديم الصمت، له فضائل، وعنده شبه ودلائل.(1/475)
لم يزل إلى أن سقط عن سلم فما تنفس وكان من الحياة في طريق مستقيم حتى تنكس.
وكانت وفاته رحمه الله تعالى سنة سبع مئة في سن الكهولة.
عبد القادر بن مهذب
ابن جعفر الأدفوي قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: هو ابن عمي، كان ذكياً جواداً متواضعاً، وصل إلى قوص للاشتعال بالفقه، وحفظ أكثر التنبيه ولم ينتج فيه، وكان إسماعيل المذهب، مشتغلاً بكتاب الدعائم تصنيف النعمان بن أحمد، متفقهاً، وكان فيلسوفاً، يقرئ الفلسفة، ويحفظ من كتاب زجر النفس، وكتاب أثولوجيا، وكتاب التفاحة المنسوب لأرسطو كثيراً.
قال: وذكر لي بعض أصحابنا، ممن لا أتهمه بكذب، أنه تعسر عليه قفل باب، فذكر أسماء وفتحه، وأنهم قصدوا حضور امرأة، فهمهم بشفتيه لحظة فحضرت فسألوها عن ذلك، فقالت: إنها حصل عندها قلق عظيم، فلم تقدر على الإقامة. وكان مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وسلم، منزلاً له منزلته، ويعتقد وجوب أركان الإسلام، غير أنه يرى أنها تسقط عمن حصل له معرفة بربه بالأدلة التي يعتقدها، ومع ذلك، فكان مواظباً على العبادة في الخلوة والجلوة، والصيام، إلا أنه يصوم بما يقتضيه الحساب، ويرى أن القيام بالتكاليف الشرعية يقتضي زيادة الخير، وإن حصلت المعرفة، وكان يفكر طويلاً، ويقوم ويرقص ويقول:
يا قطوع من أفنى عمرو في المحلول ... فاتوا العاجل والآجل ذا البهلول
قال: فمرض فلم أصل إليه، ومات فلم أصل عليه، وسار إلى ساحة القبور، وصار إلى من " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " .
وأظن وفاته ي سنة خمس أو ست وعشرين وسبع مئة، قال لي: جماعة سنة خمس لا غير.
عبد القاهر بن محمد
ابن عبد الواحد بن موسى القاضي الأديب الخطيب الشافعي جمال الدين أبو بكر البخاري ثم التبريزي.
كان ذا شكالة وعمه، وحركات وهمه، أبيض اللحية نقيها، أحمر الوجنة ورديها، عليه قبول: وللنفس إليه تشوق وبه ذهول، مغرى بالأدب، موفر الهمة في تحصيله والطلب، يشعر مثل الصبا إذا هبت، والقطر إذا نبت، وينثر الدر من فيه نثراً، ويكتب الرقعة كأن صغرى وكبرى، لم تخرج تبريز مثل كلمة الإبريز.
تولى القضاء بسلمية وعجلون، وقضاء القضاة بصفد، وختم ذلك بقضاء دمياط، وأقام بها إلى أن جاءه الأمر الذي لا يدفع بالأعلاط.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة أربعين وسبع مئة.
ومولده بحران سنة ثمان وأربعين وست مئة.
واشتغل ونشأ بدمشق، وتفقه للشافعي، وجاءنا قاضي القضاة إلى صفد في أيام قاضي القضاة جمال الدين الزرعي لما كان بدمشق، ولم يزل تلك المدة، إلى أن عزل وتولى القضاء جلال الدين القزويني، فعزله من صفد، ثم إنني رأيه بالقاهرة مرات، وولي قضاء دمياط مرات، وآخر عهدي به في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.(1/476)
قال شيخنا الذهبي: قال فيما ذاكرني به، يعني القاضي جمال الدين التبريزي، قال: ماتت أمي بنت عشرين سنة، وكان أبي تاجراً ذا مال، فقدم بي إلى دمشق، وأنا ابن ست سنين فمات، وكفلني عمي عبد الخالق، ورجع إلى حران، وباع أملاكنا بثمانين ألفاً ورد بي، ثم قال لي يوماً: امض بنا، فمضى بنا نحو ميدان الحصا، وعرج بي فوثب علي وخنقني، فغشيت، فرماني في حفرة، وطم علي المدر والحجارة، فأبقى كذلك إلى أربعة أيام، فمر رجل صالح كان برباط الإسكاف عرفته بعد ثلاثين سنة، فبكر يتلو، ومر بجسرا بن شواش ثم إلى القطائع، فجلس يبول، وكنت أحرك رجلي فرأى المدر يتحرك، فظنه حية، فقلب حجراً، فبدت رجلي في خف بلغاري، فاستخرجني، فقمت أعدو إلى الماء فشربت من شدة عطشي، ووجدت في خاصرتي فزاراً من الحجارة، وفي رأسي فتحاً قال الشيخ شمس الدين: ثم أراني القاضي أثر ذلك في كشحه، ووضع أصابعي على جورة في رأسه تسع باقلاة ودخلت البلد إلى إنسان أعرفه، فمضى بي إلى ابن عم لنا، وهو الصدر الخجندي، وكان مختفياً بالصالحية، وله غلامان ينسجان ويطعمانه، اختفى لأمور بدت منه أيام هولاكو، وكتب معي ورقة إلى نسائه بالبلد، وكانت بنته ست البهاء التي تزوج بها الشيخ زين الدين بن المنجا، وماتت معه، هي أختي من الرضاعة، فأقمت عندهن مدة لا أخرج، حتى بلغت، وحفظت القرآن بمسجد الزلاقة، فمررت يوماً بالديماس، فإذا بعمي، فقال: ها جمال الدين، امش بنا إلى البيت، فما كلمته، وتغيرت ومعي رفيقان، فقالا لي: ما بك، فسكت وأسرعت، ثم رايته مرة أخرى بالجامع، فأخذ أموالي، وذهب إلى اليمن، وتقدم عند ملكها، ووزر، ومات عن أولاد.
وجودت الختمة على الزواوي، وتفقهت على النجم الموغاني، وترددت إلى الشيخ تاج الدين، وتفقهت بابن جماعة، وقرأت عليه مقدمة ابن الحاجب وعلى الفزاري، ثم وليت القضاء من جهة ابن الصائغ وغيره، ونبت يوماً بجامع دمشق عن ابن جماعة، فقيل له: إن داوم هذا راحت الخطابة منك، يعني لحسن أدائه وهيئته.
وجالسته مرات، وكان يروي عن الشيخ مجد الدين بن الظهير قصيدته التي أولها:
كل حي إلى الممات مآبه
انتهى ما ذكر الذهبي.
قلت: ولما كان بصفد، قرأت عليه ديوان خطبه سماه تحفة الألباء وأجازني جميع ما يجوز له أن يرويه، وفي هذه الخطب مواضع خارجة عن الصواب من اللحن الخفي، فكتبت عليها طبقة، وهي: قرأت هذه الخطب المسرودة على حروف المعجم من أولها إلى آخرها على مصنفها وكاتبها العبد الفقير إلى الله تعالى القاضي جمال الدين عبد القاهر بن محمد التبريزي الحاكم بصفد المحروسة، لا زالت الطروس توشي وتوشع بكلامه وأقلامه، وترصف وترصع بحكمه وأحكامه، ومحاسن أيامه ولياليه تنشا وتنشد، ودرر نظمه ونثره تنظم وتنضد، قراءة من غاص اللجة من بحر حبرها، وعلم قيمة المنتقى والمنتقد من دراريها ودرها، واستشف معانيها المجلوة في حبر حبرها، وصدق معجز آياتها، وما شك في خبر خبرها، واستجلى وجوه عربها وتوجيه إعرابها، وتحقق أن القرائح ما لها من طاقة على مثلها في بابها، وتنزه في حدائقها التي ضربت عليها أوراق الأوراق، واجتلى أبكارها الغر، فكانت حقيقة فتنة العشاق، فسرحت سوام الطرف فيما أرضاه من روضاتها، ورشفت قطر البلاغة مما زهي من زهراتها:
وتشنفت أذني بلؤلؤ لفظها ... وتنزهت عيناي في جناتها
وتأملت أفهامنا فتمايلت ... بترشف الصهباء من كاساتها
وكأن همز سطورها بطروسها ... ورق على الأغصان من ألفاتها
وكأنها وجنات غيد نقطها ... خال على الأصداغ من جيماتها
لله ما أطرى وأطرب ما أتى ... في هذه الأوراق من سجعاتها
لا غرو أن عقدت لسان أولي النهى ... عن مثلها بالسحر من كلماتها
فكتب هو إلي:
شرفت غرس الدين حين قرأت ما ... أمليت من خطب أجدت شياتها
فصاحة لو أن قساً حاضر ... لرآك تسبقه إلى غاياتها
يا فخر دهر أنت من بلغائه ... وعلا ليال أنت من ساداتها
خطبي التي أنشأتها ما أنت من ... خطابها فتجاف عن علاتها(1/477)
عظمتها وبررتها وجبرتها ... وغفرت ما قد كان من زلاتها
فلأنت أكرم فاضل لما بدت ... لعيانه غطى على عوراتها
فاسلم ودم ما رنحت ريح الصبا ... أعطاف غصن الروض في هباتها
وأنشدني لنفسه في شبابة، وقد وجدتها فيما بعد في ديوان جوبان القواس بخطه:
وناطقة بأفواه ثمان ... تميل بعقل ذي اللب العفيف
لكل فم لسان مستعار ... يخالف بين تقطيع الحروف
تخاطبنا بلفظ لا يعيه ... سوى من كان ذا طبع لطيف
فضيحة عاشق ونديم راع ... وعزة موكب ومدام صوفي
فأنشدته أنا لنفسي ملغزاً في الكمنجا:
ما اسم إذا خفت هماً ... رأيت لي فيه منجا
يشدو بلحن عجيب ... حروفه ما تهجى
كم قد شجاك بصوت ... من الحمائم أشجى
إن لم يجئ لك طوعاً ... في الحل فهو كمن جا
فأعجبه ذلك وزهزه وطرب.
وأنشدني من لفظه لنفسه، قال: حضرت صحبة الملك الظاهر بيبرس حصار قلعة صفد، فصنعت هذه الأبيات:
إذا القلعة الشماء باتت حصينة ... وبات على أقطارها القوم رصدا
ترى منجنيقاً يذهب العقل جسه ... يغدرهم بين الأسرة همدا
إذا ما أراها السهم منه ركوعه ... تخر له أعلى الشراريف سجدا
وأنشدني لنفسه من لفظه كثيراً من شعره فمن ذلك قصيدة طويلة أولها:
أنت الممنع والمحجب ... إلا على من ليس يحجب
ومع البعاد فأنت من ... حبل الوريد إلي أقرب
سر بسيط ظاهر ... يختال في شبح مركب
عبد القوي بن عبد الكريم
القرافي الحنبلي الطوفي، نجم الدين الرافضي.
له مصنف في أصول الفقه ونظم كثير، وعزر بالقاهرة على الرفض لأنه قال:
كم بين من شك في خلافته ... وبين من قيل إنه الله
وهو الذي يقول في نفسه:
حنبلي رافضي ظاهري ... أشعري هذه إحدى الكبر
توفي ببلد الخليل عليه السلام سنة ست عشرة وسبع مئة.
ويقال إنه تاب أخيراً من الهجاء والرفض.
عبد القوي بن محمد
ابن جعفر الأسناي، نجم الدين المعروف بابن مغني وبابن أبي جعفر.
قرأ على الشيخ النجيب بن مفلح، والشيخ بهاء الدين بن هبة الله القفطي، وناب في الحكم، ودرس بالمدرسة العزية بقوص.
وكان طيب الخلق، ضحوك السن لو نظر إلى الأفق، كثير الرياضة. لا يدخل من الغيظ في مخافة ولا مخاضه، خفيف الروح إذا جالس، ظريف الإشارة إذا خالس، وكان محباً للسماع، لا يؤثر عليه شيئاً في الانتفاع، يكاد إذا سمع شبابة يطير طرباً، ولا يبلغ من اللذة أربا، وكان التزم أنه لا يبحث مع قاض، ولا يجيبه عن تقريرات ولا إنقاض.
ولم يزل على حاله إلى أن عقر سمعه وطفي من نور الحياة شمعه.
وتوفي رحمه الله تعالى بأسنا سنة ثمان وتسعين وست مئة.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: بلغني أنه وصى أن تخرج جنازته بالدفوف والشبابة، وتمنع النائحات والباكيات عليه.
عبد الكافي بن عثمان
الشيخ جمال الدين المعروف بابن بصاقة الحيسوب كان كاتباً متصرفاً، يعرف صناعة الكتابة الديوانية، وهو من قدماء الكتاب، وعمر وضعف.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية، وصلي عليه في جامع الأمير سيف الدين تنكز.
وكان حسن الأخلاق.
عبد الكافي بن علي
ابن تمام بن يوسف، الشيخ الإمام القاضي زين الدين، أبو محمد السبكي الشافعي، والد قاضي القضاة شيخ الإمام تقي الدين السبكي.
توفي رحمه الله تعالى تاسع شهر رجب سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في حدود سنة تسع وخمسين وست مئة.
هو من أهل سبك العبيد من الديار المصرية. تفقه بالقاهرة على السديد، والظهير، وقرأ أصول الفقه على الشيخ شهاب الدين القرافي، وناب في القضاء ببعض أعمال القاهرة عن قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق اليد، وتولى أخيراً قضاء المحلة الغربية، وأقام بها إلى حين وفاته.
وسمع من ابن خطيب المزة وغيره، وحدث.
وسمع منه ولده قاضي القضاة تقي الدين.(1/478)
وخرج له أقضى القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن عبد اللطيف السبكي مشيخة.
وحدث بالقاهرة والمحلة ومكة والمدينة، وسمع منه حفيده قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب جزء الغطريف وقطعة من سنن أبي داود وشيئاً من نظمه، وتوفي بالمحلة، ونقلت من خطه له:
قطعنا الأخوة عن معشر ... بهم مرض من كتاب الشفا
فماتوا على دين رسطالس ... ومتنا على ملة المصطفى
الألقاب والنسب
جمال الدين بن عبد الكافي: اسمه سليمان.
عبد الكريم بن حسن
الشيخ المسلك العارف كريم الدين الآملي، بميم بعد الألف الممدودة، ينتمي إلى سعد الدين بن حموية شيخ خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة.
كان إلى الأعيان محبباً، ولم يكن حظه منهم مخيباً، له في النفوس صورة كبيرة، وله أبهة في الصدور، كأنما ألبس منها حبيره، وعنده شيء يغطي جراجات باطنه بجبيره، وفيه أمور لا يدريها ولا يدريها إلا العقول الخبيرة، وهو من كبار القوم الذين خاضوا تلك الغمرات، وعظموا تلك المشاعر ورموا بها تلك الجمرات، وقالوا في خلواتهم:
إذا لم يكن فيكن ظل ولا جنى ... فأبعدكن الله من شجرات
وكانت له رياضات عديدة، ومفاوضات للصوفية مديدة.
وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية كثير الحط عليه، غزير النط - على رأي العوام - إليه.
حكى لي الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأكفاني، قال: دخل الشيخ كريم الدين مرة إلى الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وتكلم زماناً طويلاً والشيخ ساكت، فلما خرج من عنده؛ قال للحاضرين: هل فيكم من فهم عنه تراكيب كلامه، لأني أنا ما فهمت غير مفرداته.
وقال شيخنا الذهبي: أثبت الصوفية فسقه من ستة عشرة وجهاً، وأخرج من الخانقاه، ثم أعيد، وتولى مكانه بعد موته قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة.
ولم يزل على حاله إلى أن خاب من الآملي أمله، ووافاه بالوفاة أجله.
وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة عشر وسبع مئة، وتولى عوضه الشيخ علاء الدين القونوي.
عبد الكريم بن يحيى
ابن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز، الشيخ الإمام القاضي تقي الدين أبو محمد بن قاضي القضاة محيي الدين أبي الفضل بن قاضي القضاة محيي الدين أبي المعالي بن قاضي القضاة زكي الدين أبي الحسن بن قاضي القضاة منتخب الدين أبي المعالي القرشي الأموي العثماني المصري، ثم الدمشقي الشافعي.
ولد بمصر ليلة عرفة سنة أربع وستين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
وقدم من مصر إلى دمشق، وتفقه بها، وسمع من ابن البخاري وغيره، وولي مشيخة الشيوخ، ودرس بأماكن، وكان من رجال الدهر عزماً وحزماً وسكوتاً ودهاء وغوراً ومكارم وإفضال.
عبد الكريم بن عبد الرحمن
ابن عبد الواحد، نجم الدين بن صدقة الكاتب، ابن عم النفيس واقف النفيسية.
قال شيخنا الذهبي: خدم في جهات الظلم، وكان سمع من الرشيد بن مسلمة وابن عبد الدائم وطبقته، وحفظ التنبيه.
قتل: وتوفي رحمه الله تعالى بصافيتا سنة ست وتسعين وست مئة.
عبد الكريم بن عبد النور
ابن منير، الشيخ الإمام الحافظ مفيد الديار المصرية، قطب الدين أبو علي الحلبي، ثم المصري الشافعي المعروف بابن أخت الشيخ نصر.
حفظ القرآن وتلا بالسبع على أبي الطاهر إسماعيل المليجي صاحب أبي الجود، وتلاه بالسبع على خاله الزاهد الشيخ نصر المنبجي، وانتفع بصحبته، وسمع من العز الحراني، وغازي، وابن خطيب المزة، والقاضي شمس الدين بن العماد، وطبقتهم بدمشق والحرمين من طائفة.
وكتب العالي والنازل، وسمع من السامي والسافل، وخرج وجمع، ونفع وانتفع، وشرح من البخاري شطره، وأثبت في طرسه سطره، وعمل بمصر بالرجال، ومجال بالفقه بعض مجال، وحج غير مرة، وأحرز من الأجر كل ذرة، وروى الكثير، وهو في حجنب ما سمعه قليل، وجالد وحد عمره فليل.
ولم يزل على حاله إلى أن دارت رحا الموت على قطبه، ونزلت بأهله مصيبة خطبه.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد سلخ شهر رجب سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وستين وست مئة.
علق في تاريخه عن شيخنا الذهبي، وما عنده عنه إلا الإجازة، وكان يحبه في الله.(1/479)
وكان فيه تواضع زائد، وحسن سيرة، ولعل أشياخه تبلغ الألف، وخرج لنفسه أربعين تساعيات.
وأخذ عنه المحدثون تقي الدين بن رافع، وابن أيبك الدمياطي، وعمر بن العجمي، وعلاء الدين مغلطاي، والسروجي، وعدد كثير.
وأنا في شك هل سمعت منه أو لا؟ ولكنه أجاز لي، وأجزت له ولأولاده، واجتمعت به عند الشيخ فتح الدين بن سيد الناس غير مرة.
عبد الكريم بن علي الشهرزوري
زين الدين.
كان مقيماً بقوص، وحظه من الدنيا منقوص، وكان يتطور أطواراً، ويتدور مع الدقر أدواراً، تارة يلبس زي الفقراء، وتارة يكون في شعار الرؤساء. بينا هو في الربط والزوايا إذا هو يخدم في الجهات التي فيها المكوس والطوايا.
ولم يزل على حاله إلى أن دعاه الله وأخذه، واجتذبه من الحياة وفلذه.
وتوفي رحمه الله تعالى بعد سنة خمس وسبع مئة بقوص.
عمل بعض الرؤساء من جيرانه عرساً، وفرق أطعمة كثيرة، وغفل عنه فلم يرسل إليه شيئاً، فكتب إليه:
يا جيرة جرتم على جاركم ... وعادة الجيران ألا تجور
ما كان في أمراقكم كلها ... رطل خرا يشربها الشهرزور
وقال يهجو شهاب الدين بن القاضي النجيب القوصي:
وكرشة مملوءة ... من الخرا مطنبه
شبهتها مرمية ... بدمها مختضبه
قليطة القاضي الشها ... ب بن النجيب بن هبه
وكان ينظم الأزجال والبلاليق، وطلب من بعض التجار جوزة هندية، فلم يبعث بها قال:
طلبت منك جوزة ... منعت مني قربها
وكم طلبت زوجة ... منك فلم تبخل بها
قلت: الباء الأولى في قوله قربها مفتوحة، والثانية مكسورة، وهي عيب في القافية، وكان ضامن الزكاة بقوص.
عبد الكريم بن علي بن عمر
الأنصاري الشيخ الإمام الفاضل علم الدين، ابن بنت العراقي.
كان من علماء مصر في عدادهم، وفضائله التي قضت بسدادهم، وكانت له مشاركة في عدة فنون، ومضت عليه في الإقراء سنون، وله صبر على التعليم والإشغال وقدرة على الإكباب على نفع الطلبة وإيغال، حتى إن معظم من في الديار المصرية قرأ عليه، وأخذ عنه العلوم، ومثل بين يديه.
وكان حسن المفاكهة، مليح الملقى بالملق والمواجهة، لا يسأم المذاكرة، ولا يمل طول المحاضرة، كثير الحكايات والنوادر، والإصابات في البوادر، نفسه منبسطة، وسيوف فوائده مخترطة، إلا أنه أضر آخر عمره، وعدم من الطروس والأقلام رؤية بيضه وسمره.
ولم يزل على حاله إلى أن بلغت التراقي، وذهب ابن بنت العراقي.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع صفر سنة أربع وسبع مئة.
ومولده بمصر سنة ثلاث وعشرين وست مئة.
أخبرني شيخنا العلامة أبو حيان قال: أصله من وادي آش من الأندلس، وجده أبو أمه ليس من العراق، وإنما رحل إلى العراق، ثم عاد إلى مصر وهي بلده، فسمي العراقي.
وكانت له مشاركة في الفقه وأصوله والأدب والتفسير، وله اختصاص بتفسير الزمخشري، وصنف مختصراً في أصول الفقه، ورداً على القاضي ابن المنير المالكي في رده على الزمخشري. وكانت له معرفة بالحساب والكتابة، وحظ من النظم والنثر، ودرس بالشريفية وبالمشهد الفقه، وأملى كتاباً على تفسير القرآن مختصراً احتوى على فوائد، وأنشدنا قال: نظمت في النوم في قاضي القضاة ابن رزين وكان معزولاً:
يا سالكاً سبل السعادة منهجاً ... يا موضح الخطب البهيم إذا دجا
يا ابن الذين رست قواعد مجدهم ... وسرى ثناهم عاطراً فتأرجا
لا تيأسن من عود ما فارقته ... بعد السرار ترى الهلال تبلجا
وابشر وسرح ناظراً فلقد ترى ... عما قليل في العدى متفرجاً
وترى وليك ضاحكاً مستبشراً ... قد نال من تدميرهم ما يرتجى
وكتب الشيخ علم الدين المذكور بخطه كتاب الحاوي الكبير للماوردي مرتين. وكان يؤم بمسجد الدرفل.(1/480)
قال شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله: سمعت عمي - يعني أبا البقاء يحيى بن علي - يقول: كنا حاضرين في الدرس عند قاضي القضاة صدر الدين ابن بنت الأعز، وهو يلقي في حديث " أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر " فحضر الشيخ علم الدين العراقي، فما استقر جالساً حتى قال على وجه السؤال: لا يخلو إما أن تحصل الحياة بتلك الأرواح أم لا؟ والأول عين ما تقوله التناسخية، والثاني مجرد حبس للأرواح وسجن. انتهى.
قلت: لا نسلم أنها إذا كانت كذلك تكون في سجن وحبس، لأنه أقل أقسامها أن تكون في حواصل الطير، كما كانت في أجسادها في هذه الدار، وما قال أحد إن هذا عذاب لها ولا سجن، ولا يورد أن الدنيا سجن المؤمن، لأن هذا أمر نسبي، وقد يجعل الله لها في الحواصل من السرور والابتهاج ما يحصل لبعض النفوس في هذه الدار من السرور الزائد والبهجة التامة.
عبد الكريم بن أبي الفرج
ابن الحكم الشيخ الزاهد القدوة الصدر شرف الدين بن الشيخ السيد القدوة الزاهد نجم الدين الحموي الشافعي.
باشر حسبة حماة مدة، وكان يعرف بالمحتسب في حياة والده وبعدها، وتركها، وكان له زاوية حسنة يقصدها الفقراء والزوار ويجدون عنده الراحة والفضل المكارم والأوقات الطيبة والمكارم والسماعات والسماطات.
ودرس بالمدرسة الحيرية بحماة، ولم يزل بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في ثامن شوال سنة إحدى عشرة وسبع مئة، ودفن بتربته بعقبة نقيرين، وصلي عليه غائباً وعلى الوزير فخر الدين بن الخليلي بالجامع الأموي بدمشق في وقت واحد.
عبد الكريم بن محمد
ابن محمد بن نصر الله الحموي الشيخ الفاضل الصدر الكبير أبو السماح، ابن المغيزل، وكيل بيت المال بحماة.
حدث بمصر والشام، وكان قد سمع من الكاشغري، وابن الخازن وابن قميرة، وسمع بحماة من العز بن رواحة.
وكان شيخاً حسن الخلق، يلقى الناس بوجه طلق، يجتهد على قضاء الحوائج، ويسلك في التلطف لهم أقرب المسالك وأنجح المناهج، حسن التوصل إلى مقاصده، لطيف التوصل في مصادره وموارده، لا يخبأ عمن يقصده نفسه ولا ماله، ولا يزال يسعى إلى أن يبلغه آماله.
ولم يزل على حاله إلى أن نحلت حركاته، وغاضت عمن يقصده بركاته.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشر المحرم سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ست عشرة وست مئة.
عبد الكريم بن هبة الله
ابن السديد المصري القاضي الجليل الكبير النبيل المدبر المشير الأثير الأثيل، كريم الدين أبو الفضائل، وكيل السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وناظر خاصته ومدبر دولته.
أحيا الكروم والجود، وسهر في طيب الثناء عليه والمدابير هجود، صدق أخبار البرامكة بل أخملهم، وزاد في اقتراح المكارم فحملهم الخجل بل جملهم، ابتدع في الإحسان طرقاً خفيت على الأوائل، وابتده جوداً لا يحسن الثناء عليه سحبان وائل، فكان كما قال أبو الطيب:
تمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع
عمر ربوع الندى، وغمر الناس بالجدى، وعم بجوده وما خص، وبل جناح الشكر وما حص، فدرجت حوله طيور الثناء وما طارت، وعرجت في مراقي حمدة ودارت، أجمع أهل عصره من غير مصره على سماحه، ولم يخالف واحد على مبالغة الجود في بطن راحه، إذا أنه كرم، كرمه عرش على الفقراء والأمراء، وتعدى الغاية فتأدى إلى الملوك والوزراء حتى أخجل بنيله النيل، وفرت مياه الفرات، وقالت: هذا من المستحيل، وعلى الجملة فكان خبره أكبر من خبره، وهو أبو دلف زمانه الذي ولت الدنيا على أثره، وقد تمكن من سلطانه تمكن الصبابة من بني عذرة، والشجاعة من آل أبي صفرة، وحل منه محل الإنسان من العين. وأطاعه طاعة امفلس لرب الدين، فهو له في القوبل مثل المحب للواشين، والغر للغاشين لا يكاد يخالفه، ولا يرى هواه في شيء إلا يميل إيه ويحالفه، وكان به لذلك الملك نضارة، ولذلك العصر غضارة:
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسير(1/481)
ولم يزل نجمه في سعود، وعزمه في صعود، إلى أن غدر به زمانه، وخانه محبوه وإخوانه، وتبرأ منه من كان يجمعهم خوانه فقبض عليه ونظر بعد الرضا بعين السخط إليه وجهزه إلى الشوبك، ثم إلى القدس، ثم إلى أسوان، ومن هناك انتقل إلى رضوان، وادعي أنه شنق روحه، واختار أن سكن ضريحه، وذلك في ثالث عشر شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
وكان قد أسلم كهلاً أيام الجاشنكير، وكان كاتبه، وكان لا يصرف على السلطان شيء إلا بقلمه، ويقال: إنه طلب يوماً إوزة، ولم يكن كريم الدين حاضراً، فتعذر صرفها إليه، ولما هرب المظفر رحمه الله تعالى ووصل السلطان إلى مصر، لم يكن له دأب في غير تطلب كريم الدين والتوقع عليه والسؤال عنه في كل وقت.
أخبرني الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس، قال: جاء كريم الدين إلى الأمير علم الدين الجاولي، وقال له: قد جئت إليك، فقال: ما في يدي لك فرج، ولكن اليوم للسلطان خاصكي، يقال له: الأمير سيف الدين طغاي الكبير وهو لا يخالفه فأريد أجتمع لك به، وأعرفك ما يكون، ثم إنه اجتمع به فقال له أحضره، ودخل طغاي إلى السلطان، وهو يضحك، فقال له: إن حضر كريم الدين أيش تعطيني؟ ففرح، وقال له: أعندك هو؟ أحضره، فخرج، وقال للجاولي: أحضره، فأحضره، وقال طغاي لكريم الدين: مهما قال لك السلطان؛ قل له: نعم، ولا تخاله، ودعني أنا أدبر أمرك، فدخل به عليه، فلما رآه استشاط غضباً، وقال له: اخرج الساعة، احمل ألف ألف دينار، فقال: نعم، وخرج، فقال: لا كثير، أحمل خمس مئة ألف دينار، فقال: السمع والطاعة. فقال: لا، كثير، احمل ثلاثة مئة ألف دينار، فقال: السمع والطاعة، فقال: لا، كثير، احمل الساعة مئة ألف دينار، فقال: السمع والطاعة، فخرج، فقال له الأمير: سيف الدين طغاي: لا تسقع ذقنك وتحضر الجيمع الآن، ولكن هات الآن منها عشرة آلاف دينار، ودخل بها إلى السلطان، فسكن غيظه، وبقي كل يومين وثلاثة يحمل خمسة آلاف دينار، ومرة ثلاثة آلاف دينار، ومرة ألفين. ولم يزل هو والقاضي فخر الدين ناظر الجيش؛ يصلحان أمره عند السلطان إلى أن رضي عنه وسامحه بما بقي عنده، واستخدمه ناظر الخاص فهو أول من باشر هذه الوظيفة، ولم تكن تعرف أولاً، ثم تقدم عنده، وأحبه محبة زائدة عن الحد، وكان يخلع عليه أطلس أبيض والفوقاني بطرز، والتحتاني بطرز، والقبع زركش على ما استفاض.
وكانت الخزائن عنده جميعها في بيته، وإذا أراد السلطان شيئاً نزل مملوك إليه في بيته، واستدعى منه ما يريده، فيجهزه إليه من بيته، وكان يخلع على أمراء الطبلخانات الكبار من عنده، وقيل: إن السلطان نزل يوماً من الصيد، فقال له: يا قاضي! عرض أنت صيود الأمراء، يحضرون صيودهم على طبقاتهم بين يديه، وهو يخلع عليهم على طبقاتهم واحداً بعد واحد.
وحج هو والخوندة الكبرى طغاي، واحتفل بأمرها، وقد مضى ذكر حجها في ترجمتها، وكان يخدم كل واحد من الأمراء الكبار والمشايخ والخاصكية الكبار، وأرباب الوظائف والجمدارية الصغار، وكل أحد حتى الأوشاقية في الإصطبل وأرباب الوظائف، وكان في أول أمره ما يخرج القاضي فخر الدين لصلاة الصبح إلا ويجد كريم الدين راكباً وهو ينتظره، ويطلع في خدمته إلى القلعة، ودام الأمر هكذا ستة أشهر أو ما حولها، ثم إن فخر الدين كان يركب ويحضر إلى بابه، وينتظره ليطلع معه إلى القلعة، وكان في كل يوم ثلاثاء، يحضر إلى دار فخر الدين، ويتغذى عنده، ويحضر محفيتين لا يعود اله شيء من ماعونهما الصيني أبداً، وكان يركب في عدة مماليك أتراك - يقال سبعين مملوكاً أو أقل - بكنابيش عمل الدار وطرز ذهب، والأمراء تركب في خدمته. وبالجملة ما رأى أحد من المتعممين ما رآه القاضي كريم الدين.
ولما ورد في صفر سنة ثماني عشرة وسبع مئة أمر ببناء جامع في آخر القبيبات بدمشق، فعمره الصاحب شمس الدين غبريال، وأخذ في العمل فيه بعد سفره.(1/482)
قيل: إنه طلبه السلطان يوماً إلى الدور فدخل، وعادت الخزندارة تروح وتجيء مرات فيما تطلبه الخوندة طغاي، فقال له السلطان: يا قاضي! أيش حاجة لهذا التطويل بنتك، ما تختبئ منك، ادخل إليها، وأبصر الذي تريده أفعله، فقام، ودخل إليها وسير قال لها: أبوك هنا، أبصري له ما يأكل، فأخرجت له طعاماً، وقام السلطان إلى كرمة في الدور، وقطع منها عنباً، وأحضره في يده، وهو ينفخه من الغبار، وغسله بماء بيده، وقال: يا قاضي، كل من عنب دورنا، هذا أمر ما فرح به متعمم.
وكان إذا أراد أن يعمل سوءاً، ويراه قد أقبل يقول: جاء القاضي وما يدعنا نعمل شيئاً مما نريده، فيحدثه في إبطال ما كان قد هم به من الشر، وفي مدة حياة القاضي كريم الدين لم يقع من السلطان إلا خير.
وأما مكارمه فحكى لي غير واحد بالقاهرة جماعة لا يمكن تواطؤهم على نقل باطل: أنه حضرت إليه امرأة رفعت له قصة تطلب فيها إزاراً، فوقع في ظاهرها إلى الصيرفي بصرف مبلغ ثماني مئة درهم، فلما رأى الصيرفي ذلك؛ أنكره، وأوقفها، وتوجه إليه، وقال: يا سيدي، هذه سألت إزاراً والإزار ما ثمنه هذا المبلغ، فقال له: صدقت، وأخذ القصة، وقال: الأولى متاع الله تعالى، وزادها مبلغ ثمانين، وقال: الأولى متاع الله تعالى، وزادها مبلغ ثمانين، وقال: هذه متعالي وقال: أنا ما أردت إلا ثمانين، ولكن الله أرادها ثماني مئة، فوزن الصيرفي للمرأة ثماني مئة درهم وثمانين درهماً.
وقيل: إنه كان له صيرفي يستدعي منه ما يريد صرفه لمن يسأله شيئاً، وإن الصيرفي أحضر إليه مرة وصولات ليست بخطه فأنكرها، فقال الصيرفي: هذا في كل وقت يحضر إلي مثل هذه الوصولات، فقال: إذا جاء أمسكه وأحضره، فلما جاء على العادة أمسكه وأحضره إلى بابه فقيل: إن الصيرفي وقع بالمزور، فقال: سيبوه، مالي وجه أراه، ثم قال: أحضروه، فلما مثل بين يديه قال: ما حملك على هذا؟ قال: الحاجة، فقال له: كلما احتجت إلى شيء اكتب به خطك على عادتك لهذا الصيرفي، ولكن ارفق، فإن علينا كلفاً كثيرة، وقال للصيرفي: كلما جاءك شيء من خط هذا فاصرفه، ولا تشاور عليه.
وحكي لي أنه قبل إمساكه ضيع بعض بأبية مماليك بكتمر اللاساقي حياصة ذهب، فقال صاحبها للأمير، فقال الأمير: إن لم يحضر الحياصة، وإلا روحوا به للوالي ليقطع يده، فنزلوا بذلك البابا، فوجد القاضي كرم الدين آخر النهار طالعاً إلى القلعة، فوقف وشكا حاله، فقال: أخروا أمره إلى غد، فلما نزل إلى داره؛ قال لبعض عبيده: خذ معك غداً حياصة ذهب، لنعطيها لذلك البابا المسكين، فلما أصبح وطلع إلى القلعة أمسك، واشتغل الناس بأمره، ونسي أمر البابا، ولما فرغ الناس طلب البابا، وجهز إلى الوالي، فقال له رفاقه: ما كان القاضي كريم الدين وعدك، روح إليه، فقال: يا قوم، إنسان قد أمسك وصودر، أروح إليه! فراح إليه، وكان قد أمر بالمقام في القرافة، فلما دخل إليه؛ شكا حاله، فقال: يا بني، جئت إلي وأنا في هذه الحالة، ثم إنه رفع المقعد، وقال له: خذ هذه الحالة، ثم إنه رفع المقعد، وقال له: خذ هذه الدراهم، استعن بها، كانت قريب الألفين، فلما أخذها وخرج؛ قال لذلك العبد: ما كنت قد أعطيتك حياصة ذهب لهذا البابا؟ فقال: نعم، وهي معي، فقال: هاتها، فأخذها، وطلب البابا، ودفعها إليه، وقال: هذه الحياصة أعطهم إياها والدراهم أنفقها، فطلع بالحياصة، وأعطا للمملوك، فدخل بها المملوك للأمير سيف الدين بكتمر الساقي، فطلب البابا، وقال له: قل لي أمر هذه الحياصة كيف هو؟ فحكى له ما جرى له مع كريم الدين، فقيل لي: إن بكتمر الساقي لطم وجهه، وقال: يا مسلمين! مثل هذا يمسك أو يؤذى؟! وما إمساك كريم الدين برضى بكتمر.(1/483)
وحكى لي القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله أنه بلغه أن القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر والقاضي نجم الدين بن الأثير قعدا يوماً على باب القلة وأجري ذكر كريم الدين ومكارمه، فقال علاء الدين بن عبد الظاهر: ما مكارمه إلا لمن يخالفه، فهو يصانع بذلك عن نفسه، فما كان بعد يومين أو ثلاث إلا حتى احتاج نجم الدين بن الأثير إلى رصاص يستعمله في قدور حمام، فكتب ورقة إلى كريم الدين يسأل فيها بيع جملة من الرصاص بديوان الخاص، فحمل إليه جملة كبيرة، فضل له منها عما احتاج إليه ثلاثون قنطاراً، ولم يأخذ عن ذلك ثمناً، وأما علاء الدين بن بعد الظاهر؛ فإنه تركه يوماً في بستانه، وانحدر إليه في البحر، فلم يدر به إلا وقد أرست حراقته على زربية علاء الدين، فنزل إليه، وتلقاه، ودهش لقدومه، فحلف أنه ما يأكل ما يحضره إليه من خارج البستان، ومهما كان طعام ذلك النهار يحضره، فأحضر له ما اتفق حضوره، وقال له: يا مولانا أنا ما أعلمتك بمجيئي، ولكن أنا مثل اليوم ضيفك، ولكن لا ألتقي هذه العمارة على هذه الصورة، وشرع رتبها على ما أراد ، وخرج من عنده، فلم يشعر علاء الدين ذلك اليوم إلا بالمراكب قد أرست على زربيته بأنواع الأخشاب والطوب وأفلاق النخل والجبس والمهندسين والصناع والفعول، وكل ما يحتاج إليه، وأخذوا في هدم ذلك المكان، وشرعوا في بنائه، على ما قال لهم، فلم يأت على ذلك خمسة أيام أو ستة إلا وقد تكامل ورخم وزخرف بالذهب واللازورد، وفرغ منه، فلما كان قبل الميعاد بيوم جاء إليه مركب موسوق بأنواع الغنم والإوز والدجاج الفائق وغيره، والسكر والأرز، وجميع ما يطبخ حتى المخافي والماعون الصيني والجبن ومن يقليه، وعمل الطعام الفائق المختلف ومد السماط العظيم، ونزل القاضي كريم الدين ومعه من يختاره وجاء إليه، وجد الدار قد عمرت على ما أراد، والطعام قد مد سماطه، فأكل هو ومن معه، وأحضر أنواع الفواكه والحلوى والمشروب، ولما فرغ من ذلك أحضر بقجة كبيرة، أخرج إليه منها ما يصلح للنساء من القماش الإسكندري وغيره، وما يصلح لملبوس علاء الدين، وقال: هذه خمسة آلاف درهم يكسو بها مولانا عبيده وجواريه على ما يحبه ويراه، وهذا توقيع تصدق به مولانا السلطان على مولانا فيه زيادة معلوم دراهم وغلة وكسوة لحم وجراية، ونزل يركب، ونزل معه علاء الدين، فلما ركب وفارقه، قال: يا مولانا علاء الدين! والله هذه الأشياء أنا أفعلها طباعاً، وأنا لا أرجوك ولا أخافك.
وقيل: إنه مرة شرب دواء، فجمع له كل ما دخل القاهرة ومصر من الورد، وحمل إلى داره وبسط ذلك الورد إلى كراسي الطهارة، وداس الناس ما داسوه، وأخذ ما فضل أباعه الغلمان للبيمارستان بمبلغ ثلاثة آلاف درهم.
وكان السلطان قد فوض إليه نظر البيمارستان المنصوري، فنمت أجور أوقافه، وعمرت وعمر البيمارستان، وكان كلما دخل فيه تصدق بعشرة آلاف درهم، ومات مرة من الزحمة ثلاثة أنفس.
وبالجملة، فما سمعت عنه بالديار المصرية إلا كل مكرمة غير الأخرى يبتدع فعلها ولم نسمعها عن غيره. وهو الذي صدق أخبار البرامكة، ومن رئاسته الكاملة أنه كان إذا قال: نعم؛ كانت نعم، وإذا قال: لا؛ فهي لا، وهذه الخلة تمام الرئاسة.
وكان في كل أول ثلاثة الشهور رجب وما بعده من كل سنة يخرج كل من كان في الحبوس من الولاية، ومن حبس الشرع، وما يدع في الحبوس أحداً، إن كان عليه دين أوفاه، أو على قضية معضلة أحضر الغريم، وتوصل إلى رضاه بكل طريق، وعمر بالزربية جامعاً وميضأه، وعمر في طرق الرمل البيارات، وأصلح الطرق، وعمر في دمشق جامع القبيبات وجامع القابون، ووقف عليهما الوقوف الجيدة.
وكان عاقلاً وقوراً داهية، جزل الرأي بعيد الغور، بحب العلماء والفضلاء، ويبرهم ويحسن إليهم أخبرني الشيخ شهاب الدين العسجدي، قال: كنت ليلة عيد مع الشيخ صدر الدين ونحن متوجهان إلى القرافة، فعرض لنا فقير، وقال للشيخ: يا سيدي، شيء لله، فقال لي: كم معك؟ قلت: لا عليك، توجه إلى القاضي كريم الدين، وقل له: الشيخ يسلم عليك، ويهنئك بالعيد، فتوجهت إليه، وقلت له ذلك، فقال: كأن الشيخ مفلس في هذا العيد، يا ططاج - مملوكه - ادفع إلى رسول الشيخ ألفي درهم، قال: فأخذتها، وجئت بها إليه، فقال الشيخ: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسنة بعشرة.(1/484)
قدم من ثغر من الإسكندرية مرة في نوبة الحريق الذي وقع بالقاهرة، فغوت به الغوغاء، ورجموه، فغضب السلطان، وقطع أيدي أربعة، ثم إنه مرض في ذلك العام قبل الواقعة، ولما عوفي زينت القاهرة، وتزاحم الخلق، واختنق واحد.
ولما انحرف عنه السلطان أمر للأمير سيف الدين أرغون النائب بالقبض عليه، فلما أراد بكرة النهار الدخول إلى السلطان على العادة طلبه إلى بيته وأمسكه، وأوقعت الحوطة على دوره وموجوده، وأمسك ولده علم الدين عبد الله، وكان يوماً عظيماً، وذلك يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، وبقي في بيته أياماً، ثم إنه رسم له بالنزول إلى تربته بالقرافة، فتوجه إليها، وأقام بها.
وفي جمادى الآخرة رسم بتسفيره إلى الشوبك، فأقام به إلى أن رسم له بالحضور إلى القدس، فوصل إليه تاسع عشر شوال من السنة المذكورة، فأقام به يحسن إلى الفقراء والمجاورين والزوار، إلى أن رسم له بالعودة إلى مصر، فتوجه من القدس في حادي عشر شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وسبع مئة، ولما وصل إليها أخذ ما كان من ذخائره وحواصله وموجوده، ورسم له بالتوجه إلى أسوان، فأقام بها إلى أن توجه إليه الأمير ركن الدين بيبرس الفارقاني، وأصبح على ما قيل مشنوقاً بعمامته، و قيل: إنه لما أحس بقتله توضأ، وصلى ركعتين، وقال: هاتوا، عشنا سعداء، ومتنا شهداء. وكان الناس يقولن: ما عمل أحد مع أحد ما عمله السلطان مع كريم الدين أعطاه الدنيا والآخرة.
وكان قد طلب الحجار وست الوزراء، وسمع عليهما صحيح البخاري بقراءة شيخنا ابن سيد الناس ووصلهما، ووصل الشيخ بجملة، وكتب له بها نسخ وذهبت وجلدت.
وكتب إليه شرف الدين القدسي:
إذا ما بار فضلك عند قوم ... قصدتهم ولم تظفر بطائل
فخلهم خلالك الذم واقصد ... كريم الدين فهو أبو الفضائل
وأنشدني إجازة شيخنا أبو الثناء شهاب الدين محمود، ما كتب به إلى القاضي كريم الدين يتقاضاه سكراً له في الديوان:
أيها السيد الذي لو تجارى ... جوده والحيا لقصر وبله
والكريم الذي تفرد في الجو ... د فلم يلف في المكارم مثله
والذي كل ما تفرق بين الن؟ ... اس من فرغ نائل فهو أصله
والذي كل ما يقال من الأو ... صاف والمدح والثنا فهو أهله
عم معروفة وتمت أيادي؟ ... ه، وزادت علياه وامتد فضله
؟وسما نيله على النيل إذ في ... كل يوم إن تأته فاض فضله
وهمى جوده فلو لم يسل سأ ... ل ومن لم يقصده وافاه بذله
لي رسم على نداك من السك؟ ... ر هذا أوانه ومحله
وخصوصاً والعبد من إثر ضعف ... آده ثقله وأعياه حمله
لي مني تصحيفه في نظام ... يتقاضاه عقده أو حله
مثل مولاي من يرى الشكر أولى ... فهو آل الندى ويصبيه فعله
فابق واسلم يعزى إليك الندى وال؟ ... جود والفضل والتطول كله
ما تغنت ورقاء في الورق النض؟ ... ر وحلى معاطف الدوح ظله
ومما رثى به الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم للقاضي كريم الدين رحمه الله تعالى:
كريم الدين عشت بكل خير ... ومت ممات كل فتى كريم
شهيداً قد درجت بغير ذنب ... ولا إثم يؤثم للأثيم
بلغت جميع ما تختار حتى ... بلوغك رحمة الله الرحيم
إلى جنات عدن صرت يا من ... له تشتاق جنات النعم
وجدت بما حوت كفاك فينا ... لأرملة وشيخ أو يتيم
وللأمراء والفقراء حتى ... لأثرى كل محتاج عديم
ففي دنياك فزت بكل حظ ... وفي أخراك بالأجر العظيم
وقد خلفت ما يبقى إلى أن ... تقوم قيامة العظم الرميم
من الذكر الجميل لكل صنع ... حديث منك أو بر قديم
مناقب خصها الرحمن منه ... بما قدم عم من فضل عميم(1/485)
وبالمدح المضمن كل حمد ... وشكر ظاعن لثنا مقيم
وما أبقيت في قلبي جواه ال؟ ... مجدد للهموم وللغموم
لقد جرعت حين جرعت كأس ال؟ ... حمام فتاك كاسات الحميم
ففي الجنات أنت بغير شك ... ومن خلفت في نار الجحيم
ويحسب من تصبره سليماً ... وكيف وليله ليل السليم
يقضي ليله بتعلات ... ويخلو في دجاه بالهموم
فلا تبعد فإن الموت آت ... على المخدوم منا والخديم
عبد اللطيف بن بلبان
ابن عبد الله السعودي، الشيخ الصالح الفاضل سيف الدين أبو محمد.
كان خليفة الشيخ عمر السعودي مدة، ثم ولي المشيخة ولد الشيخ عمر.
سمع من ابن عزون، والمعين ابن القاضي الدمشقي، وخرج له شهاب الدين الدمياطي جزءاً. وكان فيه خير وديانه، وله شعر وكلام على طريقة القوم.
توفي رحمه الله تعالى في سابع عشر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة، وكتب في الإجازات.
عبد اللطيف بن خليفة
الصدر المعظم الفضل شمس الدين العجمي أخو النجيب كحال غازان وغيره.
كان النجيب المذكور له صورة كبيرة، ومحل زائد عند ملوك المغل، وكان أخوه هذا شمس الدين عبد اللطيف قد تسمى في تلك البلاد بالملك الصالح، وورد إلى الديار المصرية، فأكرم كثيراً إلى الغاية.
وكان أديباً فاضلاً، لبيباً عاقلاً، على ذهنه غوامض من العربية، وعنده نكت ظريفة أدبية، يترسل بغير سجع، وينبت في طروسه أزاهر بغير رجع، لكن بعبارة فاضل، بحاث مناضل، يستشهد على مقصوده بالآيات الكريمة، والأحاديث القويمة والحكمة القديمة، والأشعار الرائقة، والفقر الفائقة، وخطه قوي إلى الغاية من عادة تعليق العجم، وشبه الزهر الذي أينع لما نجم، وله مداخلات مع السلطان وغيره من أرباب الدولة، وممن له في الدهر جولة، يتحدث بالتركي والعجمي فصيحاً، ويذر من يجادله في الوقت طريحاً.
وكان له إقدام على الأكابر، وجرأة على أرباب السيوف والمحابر، ويحضر عند السلطان في بعض الأحيان، وينفع من يريد، ويضر بكل لسان.
ولم يزل على حاله إلى أن مرض بفالج، فكابد منه ألماً يعالج من برحه ما يعالج، ثم إنه بطلت حركات جوارحه، وقيدت مطلقات سوارحه.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين سلخ المحرم سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وجدوه غريقاً في البركة، ودفن في مقابر باب النصر.
وكان له من الرواتب في تلك الأيام ما يقارب الألفي درهم، واجتهد بدهائه، إلى أن جعل ذلك في جملة رواتب المماليك السلطانية حتى إن المستوفين لا يتعرضون له إذا عملوا استيماراً، وكان الأمير سيف الدين أرغون النائب إذا رآه في القلعة يقول: ما أحسد إلا هذا الشيخ الذي له في كل شهر ألفا درهم، وهو دائر بطال بلا شغل.
وكان يحضر عند السلطان في سرياقوس، يتكلم بين يديه بالنفع والضر لمن يريد، لأنه كان خبيراً بأخلاق الملوك، ومخاطباتهم وسياساتهم. قال لي من لفظه: أنا أتعيش بين الناس، وأتجوه عندهم بكل جلسة أجلسها بسرياقوس عند السلطان عدة شهور.
وكانت له خصوصية بالقاضي فخر الدين ناظر الجيش، وبالقاضي علاء الدين بن الأثير كاتب السر، ونفع جماعة، وهو كان أحد من ساعد الخطيب جلال الدين القزويني على توليه قضاء القضاة بالشام وعلى الحضور إلى قضاء الديار المصرية.
ودخل يوماً إلى القاضي مجد الدين بن لفيتة، وهو ناظر الدولة، يطالبه بمرتبه وألح عليه، وزاد في الإبرام، فقال له: يا مولانا كل شهر ألفا درهم، ما تمهل علينا بشهر واحد؟، فقال: يا مولانا هذه الألفان التي لي ما تكفي هذا عبدك الذي يحمل دواتك أن يشرب بها نبيذاً، فلم يجبه بكلمة، وصرف له ما أراد.
وكان إذا حضر عند فخر الدين ناظر الجيوش أخذ الورقة من يده، ونتشها بعنف، ورمى بها، وقال: خلنا من هذا، وتحدث بنا في شأننا.
وكان شيخاً تام القامة، أعشى البصر قليلاً، ذا عمة صغيرة كأنها تخفيفة، وكان لا يخاطب إلا بمولانا، وكان يدعي أنه قرأ المنطق على الأثير الأبهري.(1/486)
وكانت له دار مليحة على بركة الفيل، وله أموال وجواهر نفيسة، ورأيته يوماً وقد دخل إلى الأمير شرف الدين حسين بن جندر بك، وقد انقطع الأمير من وجع مفاصل كان يعتريه في رجليه، وكان قد غاب عنه مدة، فلما رآه مقبلاً؛ قال له: يا مولانا! أين كنت في هذه الغيبة؟ وا ويلاه من رجلك.
وكان أصله بتلك البلاد يهودياً ثم أسلم، ولما انفلج جاء إلي الشيخ شمس الدين محمد ابن الأكفاني، وقال لي: يا مولانا الآن. كما أسلم شمس الدين العجمي، فقلت له: كيف ذلك، وهو قديم الإسلام؟! فقال: لأن المسلمين سلموا من يده ولسانه، يعني بالفالج الذي حصل له.
أخبرني من لفظه العلامة شيخ الإسلام، قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى قال: اجتمع يوماً شمس الدين، والأمير ناصر الدين بن البابا، وشجاع الدين الترجمان، ونجم الدين بن قاسم بن مرداد، فقال ناصر الدين: أخبرني هذا، وأشار إلى أحد الاثنين، فقال شمس الدين: من هو هذا؟ " إن البقر تشابه علينا " فقال شجاع الدين: مولانا، من قال هذا الكلام. فقال شمس الدين: الذين قال الله في حقهم: " يا بني إسرائيل اذكر نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين " ، فقال شجاع الدين: مولانا، حاشاك تقول مثل هذا! وإنما قال الله في حقهم: " وضربت عليهم الذلة والمسكنة " الآية، أو كما قال.
ولما دخلت القاهرة اجتمعت به في سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فرأيت منه رجلاً داهية، خبيراً بما يتكلم به، يغلب عليه العقليات، ويستحضر من كلام الحكماء جملة وافرة، وينقل كثيراً مما يذاكر به من فنون الأدب ووقائع الناس، خصوصاً وقائع ملوك المغل، وله ذوق جيد في الشعر، وتفضل في حقي كثيراً رحمه الله ونوه بذكري عند الأكابر وأثنى علي ثناء كثيراً انتفعت به، شكوت إليه يوماً من بعض الكتاب، فقال لي: مولانا القواهر العلوية دائمة الفيض ممنوعة الحجب تقتص من الظالم للمظلوم، ومن الحاكم للمحكوم.
وكتبت أنا إليه في أول شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة:
يا من بحبل ولائه أتمسك ... وبذكره بين الورى أتمسك
أوليتني نعماً غدت تترى فما ... تدرى وغاية شكرها لا تدرك
وأفدتني فضلاً بكل نفيسة ... تشرى فجودك في الورى لا يشرك
أنت المبوأ ذروة المجد التي ... عزت فما لسواك فيها مسلك
حزت السيادة في الأنام وأنت في ... أهل العلوم على الجميع مملك
كل ينام عن المحامد والعلا ... وإذا دعي لفضيلة يستدرك
إذا عزائمك العلية كم لها ... في كسب ذلك باعث ومحرك
وتجود مبتدئاً ومالك مقصد ... إلا طباع فتى غدا يتبرمك
شيم من النفس الأبية أشرقت ... أبداً تقاد إلى الجميل وتملك
وغدت مرنحة بما تولي الورى ... صنعاً جميلاً شأوه لا يدرك
هذبتها بمعارف قدسية ... فتبيت تصقل بالعلوم وتسبك
حتى لقد خلصت ونور ذاتها ... عرفان من بجنابه تتمسك
إن لم يكن هذا فكيف بررتني ... وجعلت ثغر الدهر نحوي يضحك
يا شمس فضل ظله المبسوط لي ... أنا من سناه في الورى أتبرك
سطرت ما أوليتني ذهباً على ... وجه الزمان وذا المديح يزمك
فتهن شهراً قد أتاك مبشراً ... يا خير من بصيامه يتنسك
واسلم ودم في كل خير وافر ... من حيث يأتي لا يمل ويترك
ما بات ضوء الشمس يصقل جدولاً ... ويروح من نفس الصبا يتفرك
عبد اللطيف بن ممد بن سند
سراج الدين التاجر الكارمي الإسكندراني.
كان من أعيان الكارم، وذوي الجود والمكارم، رئيساً وجيهاً، فاضلاً نبيهاً، وقف وقوفاً جيده، وبنى مدرسة بالثغر للمحاسن متصيده، وسمع وروى، وأطنب في ذلك وما غوى، وله ديوان كله أمداح نبوية، ومحامد على خير البرية.
ولم يزل على حاله إلى أن طفئ سراجه، وكمل نقد عمره وخراجه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع عشرة وسبع مئة.
وكان قد سمع من النجيب، وابن فارس، وغيرهما، وحدث وسمع منه الأعيان.
ومن شعره:(1/487)
لي بالأجيرع دون وادي المنحنى ... قلب تقلبه الصبابة والضنا
غاروا عليه بالغوير ويمموا ... نجداً سحيراً واستقلوا أيمنا
ملكوه مني بالمكارم والعلا ... وحموه عني بالصوارم والقنا
أتبعتهم يوم استقلت عيسهم ... بحشاشة ألفت معاناة الغنا
ونثرت من جفني عقيق مدامعي ... حين التفرق فاستحالت أعينا
وسرت بي الهوج البوازل ترتمي ... ليلاً ولذ لها الفناء على الفنا
حتى إذا أهدت لنا ريح الصبا ... عرف الخزامى زال عنها ما عنى
فأنخت نضوي ثم قلت لها: قفي ... مهلاً رويدك فالمعرس ههنا
وأنشدني من لفظه العلامة أبو حيان قال: ومن شعر سراج الدين المذكور:
ما للنياق عن العراق تميل ... تهوى الحجاز وما إليه سبيل
ذكرت لياليها المواضي بالحمى ... والوجد منها سائق ودليل
واستنشقت عرف الخزام وشاقها ... ظل بأكناف الغوير ظليل
عجباً لها تهوى النسيم تعللاً ... بنسيم رامة والنسيم عليل
ترد النقيب وما تبل به صدى ... وتود لو أن العذيب بديل
لله ليلتها وقد لاحت لها ... أعلام يثرب واستبان نخيل
وبدا لها شعب الثنية فانثنت ... تهتز من طرب به وتميل
يحدو لها حادي السري مترنماً ... ما بعد طيبة لركاب مقيل
يا سائق الوجناء عرج بالغضا ... فهناك عرب بالأراك نزول
دار لعزة ما أعز جوارها ... وظلالها للوافدين نزول
للنوق مراعاها البهيج وللعدى ... نقم تهيج وللجياد صهيل
فإذا حللت فللظباء مراتع ... وإذا رحلت فللحمام هديل
عبد اللطيف بن أحمد
ابن محمود بن الإمام الفاضل التاجر، سراج الدين بن الكويك، بكاف أولى مضمومة، وبعدها واو مفتوحة، وياء آخر الحروف ساكنة، وبعدها كاف أخرى.
كان فاضلاً جيد العربية، والمقاصد الدقيقة الأدبية، حسن الشاكلة والمحيا، لو حاول القمر حسنه ما تم له وما تهيأ، حسن النظم البارع، جيد الذهن فيما يفهمه وإليه يسارع.
سمع بقراءتي على شيخنا أثير الدين كثيراً، وكان يحلني من قبله محلاً أثيراً.
توجه إلى التكرور بتجارة فلم يكر، وحل به من الموت هناك الأمر النكر.
وتوفي هناك رحمه الله سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
اجتمعت به غير مرة ونحن نحضر حلقة شيخنا أثير الدين، وسمع بقراءتي جملة، وكان شافعي المذهب، قدم دمشق سنة عشر وسبع مئة، وسمع بنت البطائحي وإسحاق الأسدي وابن مكتوم.
وقفت على ثلاثة أبيات بخطه كتبها على مصنف لشيخنا العلامة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي سماه كل وما علي تدل وهي:
لله ذر مسائل هذبتها ... ونفيت خلفاً عد خلفاً نقله
وحللت إذ قيدت بالشرطين ما ... أعيا على العلماء قبلك خله
فعلا على الشرطين قدرك صاعداً ... أوج العلوم وفوق ذاك محله
عبد اللطيف بن عبد العزيز
ابن عبد السلام، الفقيه محيي الدين بن الشيخ عز الدين السلمي الدمشقي الشافعي.
روى عن ابن اللتي، وطلب الحديث بنفسه بالقاهرة وقرأ على الشيوخ، فكان أفضل الإخوة، وهو من بينهم صاحب القريحة والهمة والنخوة، قرأ الفقه وتميز، وانزوى إلى زاوية العلماء وتحيز، وكان يعرف تصانيف والده جيداً، ولم يكن عن معرفة غيرها متحيداً.
ولم يزل على حاله إلى أن لقي عبد السلام من ربه سلاماً، ولم يسمع محادثه منه كلاماً.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وتسعين وست مئة، وقيل: سنة خمس.
عبد اللطيف بن عبد العزيز
الشيخ مجد الدين بن تيمية الحراني الحنبلي.
روى عن جده، وعن عيسى بن سلامة، وابن عبد الدائم. وخطب بحران سنوات، وكان عدلاً خيراً.
توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
عبد اللطيف بن محمد
ابن الحسين العلامة أبو البركات بدر الدين بن شيخ الشافعية القاضي تقي الدين بن رزين الحموي المصري الشافعي.(1/488)
كان إماماً تفنن، وعرف المذهب وتعين، ودرس وأفتى، وحسن وصفاً ونعتاً، أعاد لأبيه، وولي قضاء العسكر، فلم يكن له فيه شبيه، ودرس بالظاهرية، وخطب الجامع الأزهر.
ولم يزل على حاله إلى أن خف ابن رزين على نعشه، وبله وبل الردى بطشه.
وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشري جمادى الآخرة سنة عشر وسبع مئة.
ومولده بدمشق سنة تسع وأربعين وست مئة.
وحدث عن عثمان خطيب القرافة، وعبد الله ابن الخشوعي، وغيره، وكان قد حفظ المحرر في الفقه.
وكان فقيهاً كبيراً قد تولى الإعادة لوالده، وهو ابن عشرين سنة، وأفتى، وناب في الحكم بالقاهرة وقليوب، وولي قضاء العسكر في حياة والده، واستمر على ذلك إلى أن مات، أكثر من ثلاثين سنة.
ودرس بالمدرسة الظاهرية، والسيفية والأشرفية، وخطب بالجامع الأزهر، وكان يذكر الدروس من الفقه والحديث والتفسير والأصول، وكان له اعتناء بالحديث والرواية.
وولي قضاء العسكر عوضه جمال الدين الأذرعي مضافاً إلى قضاء القضاة بمصر.
عبد اللطيف بن عبد العزيز
الشيخ الإمام النحوي المقرئ شهاب الدين بن المرحل الحراني.
كان في النحو علامة، له فيه أمارات بينة وعلامة، لو عاصره الأستاذ ابن عصفور لكان غلامه، متثبتاً فيما يقوله، سالمة من الشك نقوله، يكتب خطاً حسناً قوياً، ويأتي به في المنسوب سوياً. وكان يتردد من مصر إلى حلب، ويتجر بالكتب فيها إذا جلب.
ولم يزل على حاله إلى أن رحل رحلة لم يعد منها إلى هذه الدار، ورثاه حتى الحمام الهدار.
وتوفي رحمه الله تعالى سنى أربع وأربعين وسبع مئة بالقاهرة.
سمعت صحيح البخاري بقراءته في شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وسبع مئة بالظاهرية بين القصرين على شيخنا أبي الفتح.
وكان فيه جمود يسير، وما اعتقد ذاك الجمود عن بلادة، ولكنه كان ذا تثبت في النقل.
أخبرني الشيخ شمس الدين محمد بن الخباز، قال: سألته بحلب، فقلت: يا سيدي، كِشاجم بكسر الكاف أو فتحها أو ضمها؟ فأخذ يفكر زماناً، ويقول: كُشاجم بضم الكاف مثل علابط، هذا وزن صحيح، ثم التفت إلي، وقال: يا سيدنا، لا تنقل عني في هذا شيئاً ما يحل لك.
قلت أنا: المعروف بين أهل الأدب أنه كشاجم بفتح الكاف لأنه كما قيل في سبب تسميته بذلك أنه كان كاتباً شاعراً أميراً جليساً منجماً، فأخذوا له من كل وصف حرفاً وركبوا له هذا الاسم.
وكان الشيخ شهاب الدين رحمه الله تعالى يعرف ألفية ابن مالك، أقرأها جماعة بالقاهرة وحلب، وممن قرأها عليه بالقاهرة أخي إبراهيم.
وقد اجتمعت به رحمه الله تعالى غير مرة، وأخذت من فوائده، وكان يلازم سوق الكتب كثيراً لأنه كان يتجر فيها، وينقلها إلى حلب.
عبد اللطيف بن نصر
ابن سعيد بن سعد بن محمد بن ناصر بن الشيخ أبي سعيد الميهني الشيخي نجم الدين شيخ الشيوخ بالبلاد الحلبية بن الشيخ بهاء الدين أبو محمد.
سمع من جده لأمه حامد بن أميري، وعبد الحميد بن بليمان، ويحيى بن الدامغاني، وابن روزبه، وغيرهم.
أقام بحلب وحدث بها.
وغص بلقمة، فمات رحمه الله تعالى في سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده بحمص سنة تسع وست مئة، وكتب لشيخنا الذهبي بإجازة مروياته.
عبد اللطيف
الشيخ سيف الدين شيخ زاوية السعودية بالقاهرة، كان يعرف قبل ذلك ببلبان الكرجي.
سمع من المعين أحمد بن علي بن يوسف الدمشقي، وأبي إسحاق إبراهيم ابن عمر بن مضر، غيرهما. وخرجت له مشيخة لطيفة، وكتب خطاً حسناً متوسطاً.
أجاز لي بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وكتب بخطه:
أجزت لهم رواية كل مالي ... روايته سماعاً أو إجازه
ومالي من مقول مؤلفات ... حوت نظماً ونثراً لي مجازه
أجزتهم وأرجو الله ربي ... ينيلهم الكرامة والعزازه
عبد المحسن بن حسن
ابن سليمان البارنباري جمال الدين.
أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين قال: رايته مراراً بالقاهرة ودمياط، وبمصر، وله نظم، منه ما أنشدني لنفسه بدمياط وهو:
متى يا أهيل الحي أحظى بقربكم ... ويبلغ قلبي من لقائكم القصدا
وترجع أيام تقضت على الحمى ... وتنجز ليلى من تواصلها الوعدا
قال: وله أيضاً:
منهج فخر الدين في حكمه ... وشرعه أقوم منهاج(1/489)
قد وسع الناس بأخلاقه ... فما له في الخلق من هاج
عبد المحسن بن أحمد
ابن محمد بن علي، الشيخ المسند أمين الدين أبو الفضائل بن شهاب الدين بن الحافظ جمال الدين أبي حامد بن الصابوني.
أجاز لي بخطه المرتعش المعوج بالقاهرة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت سادس جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في سابع عشر ذي الحجة سنة سبع وخمسين وست مئة.
وسمع من أصحاب البوصيري، وكان مكثراً. وحدث وهو من رواة جزء ابن عرفة. وسمع ابن عزون، وابن القاضي الدمشقي، وابن علاق، والنجيب الحراني بالقاهرة، وبدمشق من ابن أبي اليسر، وابن عبد، وشيوخ جمة.
وكان شاهداً بمصر ثم ضعف بصره.
عبد المحسن بن عبد اللطيف
ابن محمد بن الحسين بن رزين، القاضي الإمام علاء الدين بن القاضي بدر الدين ابن قاضي القضاة تقي الدين بن رزين.
سمع من العز الحراني، وغازي.
سمعت خطابته ودرسه بالظاهرية غير مرة، وكان فصيحاً بليغاً، ودرسه بسكون، لا يتكلم فيه أحد غيره.
أجاز لي بخطه في رابع المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الاثنين عاشر شعبان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
وسمع من ابن خطيب المزة سنن أبي داوود بقراءة أبي حيان.
وكان خطيباً بالجامع الأزهر
عبد المحمود بن عبد الرحمن
ابن محمد بن عمر بن محمد بن عبد الله الشيخ الإمام القدوة والصدر الكبير شهاب الدين أبو القاسم بن أبي المكارم بن الشيخ عماد الدين أبي جعفر بن الشيخ الإمام القدوة شهاب الدين أبي حفص السهروردي البغدادي.
كان شيخاً قدره كبير، له وقار يخف عنده ثبير، صدر العراق وقلبه، وعينه التي يطبق الدهر عليها هدبه، أمواله جزيلة، وحشمته نبيلة، وكلمته كالسهام النافدة، وعظمته في النفوس ترى وهي إلى الثريا آخذة. وكان يجلس للوعظ أحياناً، ويموت سامعوه وجداً، وهم يقولون: أحياناً.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح عبد المحمود على الأعناق محمولاً، وقطع من كل من كان يؤمه مأمولاً.
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر شهر رجب سنة أربع عشرة وسبع مئة.
وكان قد لبس الخرقة من جده أبي جعفر محمد، وروى عنه سداسيات القاسم بن عساكر. ولشيخنا علم الدين البرزالي منه إجازة.
عبد المحمود بن عبد السلام
ابن حاتم بن أبي محمد بن علي البعلبكي الدمشقي الشافعي الشيخ الإمام العالم مجد الدين أبو المحامد.
اشتغل وحفظ التنبيه وعرضه على المشايخ، وقرأ على الشيخ محيي الدين النووي، ولازم الشيخ برهان الدين الإسكندري وقرأ عليه القرآن والتنبيه. وسمع الحديث من القاضي شمس الدين بن عطاء الحنفي وحدث عنه.
وقال: كتبت الأسماء في مجالس الحديث، وقرأت بنفسي على الكرجي والقاضي ابن الخويي، وأجلسني مع الشهود القاضي بهاء الدين بن الزكي.
وكان يدعي أنه من ذرية أبي فراس بن حمدان.
توفي رحمه الله تعالى في يوم الاثنين عرفة تاسع ذي الحجة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
وقال: كنت رضيعاً عندما دخل هولاكو البلاد.
عبد الملك بن أحمد
ابن عبد الملك الأنصاري، تقي الدين الأرمنتي الشافعي.
سمع الحديث على شيخه مجد الدين القشيري، وابنه الشيخ تقي الدين، وعلى عبد المحسن ابن إبراهيم المكتب وغيرهم.
وحدث، وكان فقيهاً مفتياً، معيداً في فضله مبدياً وكان يحسن إلى الفقهاء، ويجود على الأدباء ويساعدهم على المناصب، ويكف عنهم بفضله كل شر واصل واصب.
ولم يزل على حاله إلى أن أنشبت فيه المنية أظفارها، وحكمت فيه شفارها.
وتوفي رحمه الله تعالى بقوص سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة. ومولده بأرمنت سنة اثنتين وثلاثين وست مئة.
وكان قد أجازه الشيخ مجد الدين بالإفتاء، وله أرجوزة في الحلى، ورجز تاريخ مكة للأزرقي. وكان يكتب خطاً رديئاً لا يحسن أحد يستخرجه إلا الشاذ.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: كان بعض قضاة قوص إذا جاءت إليه ورقة بخطه، يقول لصاحبها: أحاضره ليقرأها.
ومن شعره:
قالت لي النفس وقد شاهدت ... حالي لا تصلح أو تستقيم
بأي وجه نلتقي ربنا ... والحاكم العدل هناك الغريم
فقلت: حسبي حسن ظني به ... ينيلني منه النعيم المقيم(1/490)
قالت وقد جاهرت حتى لقد ... حق له يصليك نار الجحيم
قلت معاذ الله أن يبتلي ... بناره وهو بحالي عليم
ولم أفه قط بكفر وقد ... كان بتكفير ذنوبي زعيم
وقال في لزوم سوق الوراقة:
أيا سائلاً حالي بسوق لزمته ... يسمونه سوق الوراقة ما يجدي
خذ الوصف مني ثم لا تلو بعده ... على أحد من سائر الخلق من بعدي
يكسب سوء الظن بالخلق كلهم ... وخسة طبع في التقاضي مع الحقد
وينقص مقدار الفتى بين قومه ... ويدعى على رغم من القرب والبعد
وإن خالف الحكام في بعض أمرهم ... يرى منهم الله كل الذي يردى
ولا سيما في الدهر إذ رسموا لنا ... بأربعة في كل أمر بلا بد
ويكفيه تمعير النقيب وكونه ... يشنطط بين الرسل في حاجة الجندي
وإن قال إني قانع بتفردي ... فهذا معاش ليس يحصل للفرد
فبالله إلا ما قبلت نصيحتي ... وعانيت ما يغنيك عنه وما يجدي
وإن كنت مقهوراً عليه لحاجة ... فصابر عليه لا تعيد ولا تبدي
عبد الملك بن الأعز
ابن عمران الثقفي، تقي الدين الأسنائي.
كان بالتشيع متهماً، وعلى التوالي ملتئماً. وكان في عداد الأدباء، ومن جملة الشعراء. وكان قد قرأ النحو والأدب على الشمس الرومي. ورد عليهم أسنا. وله ديوان شعر.
ولم يزل على حاله إلى أن جف من حياته الورق، ورق خيط عمره ودق.
وتوفي رحمه الله تعالى بأسنا سنة سبع وسبع مئة.
ومن شعره:
لا تلم من تحب عند سراه ... فغرام الحبيب قد أسراه
جذبته يد الغرام لمن يه؟ ... واه فاعذره في الذي قد عراه
راح يطوي نشر الليالي من الشو ... ق إليه ووجده قد براه
ومنه:
جفوني ما تنام إلا ... لعلي أن أراك
فزرني قد براني الشو ... ق يا غصن الأراك
وطرفي ما رأى مثلك ... وقلبي قد حواك
فهو لك لم يزل مسكنفسبحان الذي أسكنوحسنك كم به أفتن
وما قصدي سواكحبيبي آه ما أحلىهواني في هواك
فخل الصد والهجران ... ولا تسمع ملام
وصلني يا قضيب البان ... ففي قلبي ضرام
وجد للهائم الولهان ... يا بدر التمام
وزر يا طلعة البدرودع يا قاتلي هجريوارفق قد فني عمري
وعد أيام وفاكواسمح أن أقبل يامليح بالله فاك
إذا ما زاد بي وجدي ... ولا ألقى معين
وصار معي على خدي ... كالماء المعين
أفكر األتقيك عندي ... يطيب قلبي الحزين
لأنك نزهة الناظروشخصك في الفؤاد حاضروحبي فيك بلا آخر
وقولي قد كفاكفجد واعدل وعد واصلوصل من رضاك
جبينك يشبه الإصباح ... بنور وقد هدى
وريقك من رحيق الراح ... به يروى الصدى
وخدك يبهر التفاح ... مكلل بالندى
سباني لونه القانيفخلاني كئيب عانيتجافي النوم أجفاني
فهل عيني تراكفذاك اليوم فيه خديأعفر في ثراك
عذولي لا تطل واقصر ... ودع صباً كئيب
تأمل من هويت وابصر ... إلى وجه الحبيب
وكن يا صاح مستبصر ... ترى شيئاً عجيب
ترى من حسنه مبدعكبدر التم إذ يطلعتحير لم تدر ما تصنع
ولا تعرف هداكوتبقى مفتكر حيرانإلا إن هداك
عبد الملك بن عبد الرحمن
ابن عبد الأحد بن عبد العزيز بن أبي نصر حماد بن صدقة الحراني العطار، الشيخ جمال الدين العطار، عرف بابن العنيقة.(1/491)
قال شيخنا البرزالي: سمعت عليه الفوائد الملتقطة المخرجة من مسموعات أبي الفتح عبد الله بن أحمد بن أبي الفتح الخرقي الأصبهاني انتقاء محمد بن مكي الحنبلي بسماعه من الشيخ العدل أبي الفضل معالي، بسماعه من الخرقي المذكرو بأصبهان في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وست مئة، بقراءة الشيخ تقي الدين بن تيمية، قال: ثم قرأت عليه عدة أجزاء.
توفي رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة سبع مئة في المحارة بعد الرحيل من الصالحية إلى العباسة بدرب مصر في الجفل.
عبد المؤمن بن خلف
ابن أبي الحسن بن شرف، الشيخ الإمام العالم العلامة، الحافظ البارع النسابة، المجود الحجة، علم المحدثين عمدة النقاد، شرف الدين أبو محمد وأبو أحمد الدمياطي الشافعي.
قرأ القرآن وطلب الحديث بعدما تميز في الفقه، وقد صار له ثلاث وعشرون سنة، فسمع بالإسكندرية في سنة ست وثلاثين من أصحاب السلفي، ثم قدم القاهرة وعني بهذا الشأن رواية ودراية، ولازم الحافظ زكي الدين حتى صار معيده.
وحج سنة ثلاث وأربعين وست مئة، وسمع بالحرمين، وارتحل إلى الشام سنة خمس وأربعين وست مئة.
وارتحل إلى الجزيرة والعراق مرتين، وكتب العالي والنازل، وبالغ، وصنف إذ ذاك وحدث، وأملى في حياة كبار مشايخه.
وسمع من ابن المقير، وعلي بن مختار العامرين ويوسف ابن عبد المعطي بن المخيلي، والعلم بن الصابوني، وإبراهيم بن الخير البغدادي، وابن العليق، وأحمد ويحيى ابنى قميرة، وموهوب بن الجواليقي، وعد بالعزيز بن الزبيدي، وهبة الله محمد بن مفرج ابن الواعظ، وعلي بن زيد التساري، وظافر بن شحم المطرز، وشعيب بن الزعفراني المجاور، وصفية بنت عبد الوهاب، وحمزة بن أوس الغزالي، ومحمد بن محمد بن محارب القيسي، ومحمد بن الجباب، وابن عمه أبي الفضل بن الجباب، وابن رواج، وابن رواحة عبد الله، وأبي الحسن محمد بن ياقوت، وابن الجميزي، وحسين ابن يوسف الشاطبي، وعبد العزيز بن النقار الكاتب، ومظفر بن عبد الملك الغوي، وأبي علي منصور بن سند بن الدماغ، ويوسف بن محمود الساوي، وعبد الرحمن بن مكي السبط، ومحمد بن الحسن السفاقسي، خاتمة من سمع حضوراً من السلفي.
وسمع بدمشق من عمر بن البراذعي، والرشيد بن مسلمة، ومكي بن علان، وطبقتهم.
وبدمياط من خطيبها الجلال عبد الله.
وبحران من عيسى بن سلامة الخياط.
وبماردين من عبد الخالق بن أنجب النشتبري.
وبحلب من ابن خليل فأكثر، لغله سمع منه مئتي ألف حديث.
وبالموصل من أبي الخير إياس الشهرزوري صاحب خطيب الموصل.
وبمصر من عبد الكريم بن عبد الرحمن الترابي، حدثه عن خطيب الموصل، وعنده عدة من أصحاب السلفين وشهدة، وابن عساكر، وخلق من أحاب ابن شاتيل، والقزاز، وابن بري النحوي، وإسماعيل بن عوف، ويحيى الثقفي، وابن كليب، وأصحاب ابن طبرزد، وحنبل، والبوصيري، والخشوعي. ونزل إلى أصحاب الكندي، وابن ملاعب، والافتخار الهاشمي.
وكتب عنه طائفة من رفائه ومن هو أصغر منه، وعدد معجمه ألف ومئتان وخمسون نفساً.
وأجاز له أبو المنجا بن اللتي، وأبو نصر بن الشيرازي. ويروي بالإجازة العامة عن المؤيد الطوسي وجماعة.
وحدث عنه الصاحب كمال الدين بن العديم، والإمام أبو الحسين اليونيني، والقاضي علم الدين الأخنائي، والشيخ علاء الدين القونوي، والشيخ أثير الدين أبو حيان، والشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس، والحافظ المزي، والعلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وفخر الدين النويري، وخلق كثير من الرحالين، وطال عمره، وتفرد بأشياء.
قال المزي: ما رأيت أحفظ منه. وسمع جزء ابن عرفة من بضع وثمانين نفساً بالشام ومصر والعراق والجزيرة وجزء ابن الأنصاري من أكثر من مئة شيخ.(1/492)
وكان قد أربى على من تقدمه في علم النسب، لأنه طفا على من سواه، وغيره رسا ورسب. وكان قد برع في علوم، وآسى بعرفانه ما أعيا من الكلوم، وتفنن في فضائل، وتفرد بأدلة ومسائل، وصنف التصانيف المحررة، والتواليف المحبرة، ونحوه فيه غوامض، ولغته فيها الروافع والخوافض، إلى فصاحته المنتهى، وقراءته هي رصد السمع والمشتهى، سريع القراءة لا يعرف التثبت ولا الإناءة، كأنه السيل إذا تحدر، والبحر إذا اندفع بعدما تصدر. مليح الهيئة، قريب العودة والفيئة، حسن الأخلاق، غنياً بعلمه لا يلتفت في الإملاء إلى الإملاق، جيد العبارة، ظريف الإشارة، صحيح الكتب كثيرها، غزير المادة لمن يثيرها، باسم الثغر في ملقاه، طالب الزيادة والعلو في مرقاه، حلو المذاكرة، زائد الإمتاع والتفنن في المحاضرة، حسن العقيدة، كافاً عن الدخول في الكلام، لا يفتح وصيده، ينظم القريض، ويأتي به كالإغريض.
وكان موسعاً عليه في رزقه، ولم يك كما جرت العادة مثل من خمل مع حذقه، له عند الناس حرمة وجلاله، وأبهة في النفوس تزين خلاله.
ولم يزل يسمع الحديث إلى أن مات فجاءه، وكأنما كان ينتظر قدوم الموت فجاءه.
وتوفي رحمه الله تعالى في نصف صفر سنة خمس وسبع مئة.
وقال شيخنا علم الدين البرزالي: في خامس عشر ذي القعدة من السنة المذكورة.
ومولده بتونة، قرية من أعمال تنيس في آخر عام سنة ثلاث عشرة وست مئة.
وكان منشؤه بدمياط، وسكن دمشق مدة، وأفاد أهلها، ثم تحول إلى الديار المصرية ونشر بها أعلام علومه، وتولى مشيخة الظاهرية بين القصرين.
وتصانيفه كلها جيدة منقحة مهذبة، تشهد له بالفهم وسعة العلم، منها: كتاب الصلاة الوسطى مجلد لطيف. كتاب الخيل مجلد وقد جوده قبائل الخزرج مجلد، العقد المثمن فيمن اسمه عبد المؤمن مجلد، الأربعون المتبانية الإسناد في حديث أهل بغداد مجلد، مشيخة البغاددة مجلد، السيرة النبيوية مجلد، مشيخة، وله غير ذلك.
قال الذهبي: سمعته يقول: سمعت ابن رواج يقول: قرأ علي السراج بن شحانة نتف الإبط فحركه بالكسر، فقلت: لا تحركه يفح صنانه.
وأخبرني شيخنا ابن سيد الناس، قال: دخل الشيخ على جماعة يقرؤون الحديث فسمعهم يقولون: عبد الله بن سلام بتشديد اللام، فقال: سلام عليكم سلام.
وحمل عن الصاغاني عشرين مجلداً من تصانيفه في اللغة والحديث.
ومن شعره....
عبد المؤمن بن عبد الحق
ابن عبد الله بن علي، الإمام العالم صفي الدين البغدادي الحنبلي، من علماء العراق.
كانت له بالحديث عناية، وله تواليف بلغ فيها النهاية، وعنده فنون، مضى من عمره في جمعها سنون، وكان فيه خير وفتوة، وديانة ومروة.
ولم يزل إلى أن تكدر عيش الصفي، وظهر أجله الذي كان في غضون الأيام وهو خفي.
وتوفي رحمه الله تعالى في صفر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وخرج لنفسه، وسمع من شيخنا الذهبي، ومن الفرضي.
عبد المؤمن بن عبد الرحمن
الشيخ الإمام الكاتب المجود عز الدين بن العجمي.
كانت له فضائل، وعنده فوائد ومسائل، وهو شيخ كتابه، ورب ذكاء ومهابه.
كان قد رحل إلى القاهرة، وأهلها في ذك العصر يفاخرون بالمكارم النجوم الزاهرة، فانقطع في بيت بحارة أرجوان، وأرخى على بابه ستارة أرجوان، وتردد الناس إليه، وأقبلو بخواطرهم عليه، فنفقت سوقه، ومشت وما وقفت سوقه، وراج وأذكى السراج، وجبى ما وجب له من الإتاوة والخراج. وكان يجلس في كل سوق حيث تباع المجلدات والدفاتر التي فيها دواوين العلوم مخلدات، فيشتري منها القشات وما يمتري، ويقع له فيها مخاريم من صحاح الجوهري، فيكملها بخطه ويناسب، ويأخذ فيها مع ما يترجمه عليها ما شاء من المكاسب. وكان يشد الكتب أحمالاً أجمالاً، ويسير بها إلى حلب أجمالاً أحمالاً، وحصل من ذلك جملاً، وأوفر من فوائدها جملاً.
ولم يزل على حاله إلى أن أخذه الموت في قشه، وجعل التراب فرشه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
وكان هو وأخوه الشيخ شمس الدين خطيب حلب الآتي ذكره، إن شاء الله تعالى في مكانه شيخي كتابة.
اجتمعت بالشيخ شمس الدين هذا بالقاهرة غير مرة في بيته وفي سوق الكتب، وكان من رجال الدنيا في بابه وإذا ذكر الرجال ما يكونون قطرة في حساب سحابه.(1/493)
وكتب له شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود، رحمه الله تعالى، إجازة وهي: أما بعد حمد الله جاعل علم البيان علماً على الإعجاز، وسلماً إلى ارتقاء ذروة الفصاحة المستقرة على ركني الحقيقة والمجاز، ووسيلة إلى الإحاطة بأسرار البلاغة المستكنة في طرفي الإطناب والإيجاز، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أوتي جوامع الكلم، ولوامع الحكم، التي يتضاءل لديها كل منثور، من كلام البشر ومنتظم، وعلى آلة وصحبه الذين من زل عن سننهم ذل وهوى، ومن تمسك بسننهم فاز وسلم.
فإني لما خلت في غمار طلبة الأدب رغبة في اقتباسه، وطعماً في تحصيل بعضه بإدامة التماسه، وحصلت كثيراً من كبته رواية ودراي، وعرفت ما أجتنب من نقائص المعاني والألفاظ التي لا تؤمن نكايتها في الأذهان السليمة بالسراية، لم أزل أستضيء بنور أئمته، وأهتدي بمنار من بلغ الغاية فيه من علماء أمته، وأقنع من لحاق من برز في مضماره برؤية غباره، وأرضى من مآثر من صرفه على إيثاره بمشاهدة آثاره، فنمت علي نفحات آدابهم، ورفلت في فواضل ما تشبثت به من أهابهم، وكاتبوني فأجبت بعدم الرغبة في العتق في رقهم، و جاروني فوافقتهم في المضمار الأدبي، مع الاعتراف بتقدمهم وسبقهم، فقبلوا من كلامي ما لولا حسن إغضائهم لم يقبل، واسبلوا علي ما اضطرتني إليه المباشرة ستر تجاوزهم ولولا جميل اعتنائهم لم يسبل.
ولما فزت بالاجتماع بالجناب العالي الشيخي العزي، نفع الله به طارحته في فنون الأدب غير مرة، فرأيت من مواده بحراً لا يرى العبر عائمة، وشاهدت من بدائهه برقاً لا يفقد الري شائمة، وفاوضت منه إماماً تقطر الفصاحة من أعطاف قلمه، وتخطر البلاغة في أفواف كلمه، وتنزل المعاني المتمنعة من معاقل القرائح على حكمه، وتقف جياد البدائة حسرى دون الوسط في حلبة علمه، إن وشي الطرس فرياض، وإن أجرى النقس فحياض، أو نظم فقلائد، أو نثر ففرائد، لا يتجاسر المعنى المطروق أن يلم بفكره، ولا يقدم التخيل المسبوق على المرور بذكره، ولا يجوز زيف الكلام على ذهنه المنتقد، ولا يثبت عناء النظام لدى خاطره المتقد، فسمعت منه مقامات في العرفان قد وشى الأدب حبرها، وحقق الطلب خبرها، وزان الصدق لهجتها، وزاد الحق بهجتها، وحلتها البلاغة برقومها، وكللتها الفصاحة بشهبها ونجومها، تشرق القلوب بأضوائها، وترتوي النفوس بأنوائها، وتستضيء البصائر بأقمارها، وتغتذي السرائر بما تجتني في رياض اليقين من يانع ثمارها، ووقفت له على طرائق في التوحيد، أوضحها علمه لسالكها، وهدى فكره الطائف بكعتبها إلى لطائف مشاعرها ومناسكها، فمن أراد الصفا في سلوكه سعى من مروة الإخلاص إليها، ومن تعرض لنفحات الفتح الذي اقتصر في طرق تعبده عليها، مع بروزها في ألفاظ أرق مساغاً من الماء القراح، وأدق مسلكاً في الجسوم من الأرواح، وأجلى لليل الشك البهيم من صباحة محيا الصباح، إلى غير ذلك من أحاديث تكلم على بلاغتها وبلاغها، وأبان ما جهلته الأفهام الظامئة من أسباب مساغها، مما لم يبلغ بذلك إلا إرشاد الطالب، وتنبيه المفتقر إليها على ما أودع في أثنائها من الكنوز، وادخر في أرجائها من المطالب.
ولما وقفت على تلك البدائع، وفهمت ما تضمنته من النكت الروائع، وعلم مني أني ممن يعرف الدر وإن لم يملكه، وينتقد التبر وإن لم يسبكه، ولذلك أتعوض فيما أعانيه من الكتابة عن الدر بالخرز، وأكتفي عن أبكار المعاني الجليلة من العون المسنة بما هو سداد من عوز، سامني مع ارتفاع شأنه في هذه الصناعة، وإثرائه دوني من نفائس هذه البضاعة، أن أجيزه رواية نظمي الذي قدمت العذر في انتهاج طريقه، ونثري الذي أوضحت السبب في مصاحبة فريقه، ومكاتباتي التي أنشأتها بسبب الوقائع التي دعت إليها، وتواقيعي التي ارتجلت غالبها لحفز الدواعي الباعثة عليها، ولمالي في قواعد ذلك من تأليف وتصنيف، وانتخاب غني بشهرته عن التصريف، فسألته الإعفاء من هذه الدرجة التي قدره أرفع منها، ورغبت إليه في قبول القول بالموجب في إجازتي من فوائده التي هي أحق بأن يروي غريبها ويحدث عنها، فلم يعف من تلك الإشارة التي قصده بها الإحسان، ومراده أن ينظم سبح نظمي في سلك ما يؤخذ عنه من درر بدائعه الحسان.(1/494)
فامتثلت أمره أعزه الله تعالى ونفع به وأجزته رواية ما يجوز لي وأتيه من مسموعاتي ومقروءاتي واختياراتي ومناولاتي، وما لي من نظم مختلف الأوضاع، مستحق، لولا ما يضوع فيه من المدائح النبوية، أن يضاع ولا يذاع، وإنشاء نوعته كثرة المباشرة، وكثرته المحافظة على الوظيفة والمثابرة، ونفحته فوائد المطارحة والمذاكرة، إلى ما يندرج في سك ذلك من تأليف حمل عليه التنقيب عن أسرار هاتين الصناعتين واختيار واختصار وانتقاء وانتقاد، وانتخاب تكلمت على ما فيه من معنى مستملح وأدب مستفاد، ورغبت إليه في أن يصلح من ذلك ما أغفله القلم، وزل فيه الفكر الذي عثرته أبلغ من عثرة القدم، إذ هو الملي بالإحسان في ذلك، الجدير بتوطئة ما تعذر سلوكه على السالك.
ومولدي بحلب في شعبان سنة أربع وأربعين وست مئة، وهي إذ ذاك للعلوم معالم، ولوفود الفوائد مواسم، وسمعت بها الكثير ولكن أين أصوله؟ وفقد لي في الوقعة ثبت كبير، ولكن كيف حصوله؟ فإن وجد في ذلك شيء في الأصول فهو أصل في هذه الإجازة، وإن تعذر وجوده فكم سلبت بضاعة فضل في أثناء مفازه.
وكتب: محمود بن سلمان في المحرم، سنة ست عشرة وسبع مئة.
عبد المؤمن
كان مقداماً جريئاً، شجاعاً من الخير بريئاً، لا يهاب سيول السيوف إذا تحدرت، ولا يخاف من ورد الحتوف إذا تكدرت، بلا عقل بلا دين يردانه عن الردى بلا لب بلا ثبات يصدانه عما يوجب الصدى. قد ركب هو نفسه، وذهل عن وجود حسه. لا يخشى عاقبة، ولا له من الله تعالى مراقبة، يقدم على الليث في غابة، ويرد على المطلوب ولو أن فيه تمزيق إهابة.
ولم يزل في سكر جنونه وسوء ما يتوهم في ظنونه، إلى أن ركب الجمل مصلوباً، وانعكس حسابه عليه فأصبح مقلوباً.
كان هذا المذكور قد ورد القاهرة في أيام القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص، وأخذ يتعلق على خدمة الأميرين سيف الدين قوصون وسيف الدين بشتاك بواسطة طاجار الدوادار، ولم يكن في ذهن الناس منه شيء إلى أن دخل مع الأمير قوصون وبشتاك على السلطان في معنى النشو، على ما سيأتي في ترجمة النشو، وخاف السلطان شره، فأراد إبعاده، وولاه قوص، وتوفي السلطان الملك الناصر وهو في قوص. ولما خلع الأمير قوصون الملك المنصور أبا بكر بعث به إلى قوص، وكأنه سير إليه في السر بقتله، فقتله، وأخذ ما معه من الجواهر، ولما جاء السلطان أحمد بن الكرك وطشتمر والفخري طلبوه من قوص، وسمروه على جمل، وطافوا به شوارع القاهرة، وشمت به الناس وسبوه ولعنه، واعترف وهو على الجمل مسمر أنه هو الذي جرح القاضي شرف الدين النشو، فقال: يا أهل مصر، أنا ما أبالي بتسميري وقد قتلت ملك الكتاب وملك الترك في بلادكم، فأنا الذي جرحت النشو، وأنا الذي عمل عليه حتى أمسك وقتل، وأنا قتلت المنصور أبا بكر سلطانكم وابن سلطانكم، أو كما قال.
وكان تسميره في أواخر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
وكان المذكور رافضياً، والله أعلم بحاله وبما صار إليه في ماله.
عبد الواحد بن منصور
ابن محمد بن المنير، العلامة عز القضاة فخر الدين الجذامي الإسكندري صاحب التفسير.
سمع من السراج ابن فارس، وتفقه بعمه ناصر الدين، وله نظم ونثر، وعمل أرجوزة في السبع.
وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة في يوم السبت رابع جمادى الأولى.
ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
عبد الواحد بن عبد الحميد
ابن عبد الرحمن بن عبد الواحد بن عبد الرحمن بن عبد الواحد بن محمد ابن المسلم بن الحسن بن هلال بن الحسن بن عبد الله بن محمد، الشيخ الفقيه الفاضل الأصيل، مخلص الدين أبو المكارم، ابن الشيخ عز الدين بن فخر الدين.
سمع من جده فخر الدين في سنة ست وخمسين وست مئة، وسمع من ابن أبي اليسر، والنجم ابن النشبي. وأجاز له إبراهيم بن خليل، وعبد الله بن الخشوعي، وعبد الحميد بن عبد الهادي وجماعة. حفظ التنبيه. وكان يكرر عليه إلى آخر وقت، واشتغل على الشيخ تاج الدين.
وكان له شعر وخدم في الجهات الدينية.
وتوفي رحمه الله تعالى في عاشر شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
وكان عنده تعفف وانقطاع.
عبد الواحد بن علي
ابن أحمد بن محمد بن عبد الواحد، شمس الدين القرشي الحنبلي.(1/495)
أخبرني من لفظه شيخنا أبو حيان، قال: كان المذكور موصوفاً بالصلاح، ويذكر عنه أنه اجتمع بالخضر عليه السلام لما سافر عن جبل لبنان واشتاق إليه، وأنشد لنفسه:
لعلك يا نسيم صبا زرود ... تعود، فقد ذوى للبين عودي
ويا نفحات أنفاس اللخزامى ... على المشتاق من لبنان عودي
قال: وأسمع الحديث وسمعنا عليه بالحكر، وكان فيه مقيماً.
عبد الواحد القيرواني
أخبرني من لفظه شيخنا أثير الدين قال: كان عندنا بالقاهرة، وله نظم حسن، ورحل إلى الحجاز، واستوطن بمكة، وصحب ملكها أبا نمي الحسيني. وله فيه أشعار حسنة، أجاد فهيا غاية، ونظم بها نظماً كثراً، وتعرض في نظمه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل بها أشنع قتل.
ومن شعره بالقاهرة مما أنشدنا بعض أصحابنا:
غليل أسى لا يهتدى لمكانه ... عزيز أسى لا يرتجى من سقامه
خذوا إن قضى في الحب عمداً بثأره ... أخا البدر يبدو في غمام لثامه
ورفقاً به لا ناله ما يشينه ... وإن كان أسقى الصب كأس حمامه
غزال تضاهيه الغزالة في الضحى ... وتشبهه في البعد عن مستهامه
يموت جني الورد غماً بخده ... ألم تنظروه مدرجاً في كمامه
عبد الوهاب بن عمر
الإمام الزاهد النحوي ظهير الدين بن عمر بن عبد المنعم بن هبة الله ابن أمين الدولة الحلبي الحنفي الصوفي.
سمع من حيية الحرانية، وأجاز له شعيب الحراني، وابن الجميزي.
وحدث، وأخذ عنه محمد بن محمد بن طغريل وجماعة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة أربعين وست مئة.
عبد الوهاب بن عمر
أخو الشيخ صدر الدين بن الوكيل.
كان أسود الجلدة، لأن أمه كانت حبشية، تفقه وحضر المدارس، ثم إنه انسلخ من ذلك، وتمفقر وتجرد تجرد العالم.
وتوفي رحمه الله تعالى شاباً، سنة تسع وتسعين وست مئة.
عبد الوهاب بن فضل الله
القاضي الكبير الخبير، الكاتب المدبر شرف الدين أبو محمد، كاتب السر، وصاحب ديوان الإنشاء بمصر والشام.
كان كاتباً مترسلاً، حسن المقاصد متوصلاً، ما كتب بين يدي الأتراك مثله، ولا عرف مقاصدهم وأتاهم كما في نفوسهم مثل بنانه الذي فاض وبله، يتحيل في عبارته، ويتجنب مستثقل الألفاظ، ويتحيد عن الألفاظ الغربية التي تهجر من الأعراب، فلا يخرج الكتاب من يده إلا عذباً فصيح الألفاظ، ظاهر المعاني، لا يحتاج إلى التنبيه والإيقاظ. يكتب خطاً لو كان للحدائق يوماً ما احتاجت للأزاهر، أو للغواني ما تحلت بالجواهر، متعه الله بحواسه الخمس، وكان يسمع البعيد ويسمع الهمس. وكان مخاديمه يحترمونه ويعظمونه، ويتوخون كبار الدر لأجل الثناء عليه وينظمونه. وكان كاملاً في فنه، حاملاً أعباء ديوانه، إذا انفرد لا تثنه.
ولم يزل على حاله إلى أن جاءه بريد حينه، و حل عليه من الأجل وفاء دينه.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الثلاثاء ثاني شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبع مئة.
ومولده في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وست مئة.
وكان في أول أمره يلبس القماش الفاخر، ويأكل الأطعمة المنوعة الشهية، ويعمل السماعات الطيبة، ويعاشر الفضلاء مثل الشيخ بدر الدين بن مالك وغيره. ثم إنه انسلخ من ذك كله لما داخل الدولة وقتر على نفسه واختصر في ملبوسه، وانجمع عن الناس انجماعاً كلياً.
وكان قد سمع في الكهولة من ابن عبد الدائم، وأجاز له ابن مسلمة وغيره.
وتنقل إلى أن صار صاحب ديوان الإنشاء بمصر مدة طويلة، وما كتب قدام أحد إلا وعظمة واحترامه، مثل حسام الدين لاجين، والملك الأشرف، والملك الناصر محمد بن قلاوون. والأمير سيف الدين تنكز كان يذكره كل قليل، ويجعل أفعاله قواعد يمشي الناس عليها.(1/496)
أخبرني القاضي شهاب الدين بن القيسراني. قال: كنت يوماً أقرأ البريد على الأمير سيف الدين تنكز، فتحرك على دائر المكان طائر، فالتفت إليه يسيراً ورجع إلي، وقال: كنت يوماً بالمروج، وشرف الدين بن فضل الله يقرأ علي بريداً جاء من السلطان، والصبيان قد رموا جلمة على عصفور، فاشتغلت بالنظر إليها، فبطل القراءة وقال: يا خوند، إذا قرأت عليك كتاب السلطان اجعل بالك كله مني، ويكون كلك عندي، ولا تشتغل بغيري أبداً، وافهمه لفظة لفظة، أو كما قال.
وما رأى أحد ما رآه هو من تعظيم الناس له، رآه الملك الأشرف مرة، وقد قام ومشى، وتلقى أميراً، فلما حضر عنده قال: رأيتك وقد قمت من مكانك وخطوت خطوات! فقال: يا خوند، كان الأمير سيف الدين بيدار النائب قد جاء وسلم علي. فقال: لا تعد تقوم لأحد أبداً. أنت تكون عندي قاعداً وذاك واقف.
ولما توفي القاضي فتح الدين محمد بن عبد الظاهر بمصر، وقام بعده عماد الدين بن الأثير مدة يسرة طلب السلطان الملك الأشرف القاضي شرف الدين من دمشق، ورتبه بعد عماد الدين بن الأثير في صحابة ديوان الإنشاء بالديار المصرية، فأقام بها إلى أن جاء السلطان الملك الناصر من الكرك في سنة تسع وسبع مئة. وكان قد وعد بالوظيفة للقاضي علاء الدين بن الأثير، فأخرج القاضي شرف الدين إلى صحابة ديوان الإنشاء بدمشق عوضاً عن أخيه محيي الدين، فوصل إلى دمشق يوم السبت تاسع عشر شهر الله المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، ولم يزل بها إلى أن توفي في التاريخ المذكور، وهو ينفذ بريداً إلى بعض النواحي.
ومتعه الله بجوارحه، لم يتغير سمعه ولا بصره، ولا تغيرت كتابته، وخلف نعمة طائلة من الأموال.
ولما مات بدمشق حضر شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود مكانه في صحابه ديوان الإنشاء بدمشق، ورثاه بقصيدة طنانة، وهي:
لتبك المعالي والنهى الشرف الأعلى ... وتبك الورى الإحسان والحلم والفضلا
وتنتحب الدنيا لمن لم تجد له ... وإن جهدت في حسن أوصافه مثلاً
ومن أتعب الناس اتباع طريقه ... فكفوا وأعيتهم طريقته المثلى
لقد أثكل الأيام حتى تجهمت ... وإن كانت الأيام لا تعرف الثكلا
وفارق منه الدست صدراً معظماً ... رحيباً يرد الحزن تدبيره سهلا
فكم حاط بالرأي الممالك فاكتفت ... به أن تعد الخيل للصون والرجلا
وكم جردت أيدي العدى نصل كيدهم ... فرد إلى أعناقهم ذلك النصلا
وكم جل خطب لا يحل انعقاده ... فأعمل فيه صائب الرأي فانحلا
وكم جاء أمر لا يطاق هجومه ... فلما تولى أمر تدبيره ولى
وكم كف محذوراً وكم فك عانياً ... وكم رد مكروهاً وكم قد جلا جلى
ومنها:
وقد كان للاجين ظلاً فقلصت ... يد الموت عدواً عنهم ذلك الظلا
وعف عن الأغراض مغض عن القذى ... صبور عليه في الورى يحمل الكلا
سأندبه دهري وأرثيه جاهداً ... وأكثر فيه من بكاي وإن قلا
ولم لا وقد صاحبته جل مدتي ... أراه أباً براً ويعتدني نجلا
ولم يرنا في طول مدتنا امرؤ ... فيحسبنا إلا الأقارب والأهلا
وكم أرشدتني في الكتابة كتبه ... ولو زل عن إرشادها خاطري ضلا
وكم مشكلات لم تبن لمحدق ... إليها جلاها فانجلت عندما أملى
فمن هذه حالي وحالته معي ... أيحسن أن أبكي على فقده أم لا
وعهدي به لا أبعد الله عهده ... وأقلامه أني جرت نشرت عدلا
وتجري بما تجري الملوك من الندى ... بها فتزيل الجدب والمحل والأزلا
لقد كان ي أنس به وهو نازح ... كأن التنائي لم يفرق لنا شملا
وقد زال ذاك الأنس واعتضت بعده ... دموعاً إذا أنشأتها أنست ألوبلا
فلا مدمعي الهامي يجف ولا الأسى ... يخف جواه إن أقل لهما مهلا(1/497)
ولا حرقي تخبو وإن يطف وقدها ... بماء دموعي صار فيها غضاً جزلا
إلى الله أشكو فقد صحب رزئتهم ... وفقد ابن فضل الله قد عدل الكلا
ولم يترك الموت الذي حم منهم ... حمماً ولا خلى الردى منهم حلاً
وعمهم داعي الحمام فأسرعوا ... جميعاً وألفى قولنا منه إلا
وكم يرجئ الساري الونى عن رفاقه ... بإبطائه عمن تقدمه كلا
أيطمع من قد جاز معترك الردى ... إذا ركبهم يوماً بدارهم حلا
ولا سيما من عاهد الداء جسمه ... يعاوده بدءاً إذا ظنه ولى
عزاؤك محيي الدين في الذاهب الذي ... قضى إذا قضى فرض المناقب والنفلا
فمثلك من يلقى الدروس بكاهل ... يقل الذي تعيا الجبال به حملا
وفي الصبر أجر أنت تعرف قدره ... وآثاره الحسنى فلا تدع الفضلا
وسلم لأمر الله وارض بحكمه ... تحز منه فضلاً ما برحت له أهلا
ولا زال صواب المزن والعفو دائماً ... يؤمانه حتى إذا وصلا انهلا
ورثاه الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن غانم، أنشدنيها لنفسه إجازة:
ما كنت من حزني عليك بلاه ... لما فقدتك يا بن فضل الله
أصبحت ذا جلد لفقدك واهن ... حزناً عليك وذا اصطباري واه
كم صنت سر الملك منك بهمة ... وكفاية ما صانها إلا هي
ولكم مهم مشكل أمضيته ... إذ أنت منه امرأو ناه
من للمصالح والمهمات التي ... ما كنت عنها ساعة بالساهي
كم حاجة حصلت تجاهك وانقضت ... وكريهة فرجتها لله
من ذا يقوم مقام فضلك في العلا ... من سائر الأنظار والأشباه
ما زلت عمرك محسناً حتى انتهى ... ولكل عمر في الزمان تناه
كم قائل ما زلت أنت ملاذه ... قد كنت عزي في الأنام وجاهي
ولكم سعيد مات بعدك خاملاً ... بل كان يفخر دائماً ويباهي
ما فرد داهية برزئك قد دهت ... بل قد دهت لما فقدت دواه
قسماً لقد خمل الزمان وكنت لم؟ ... ا كنت فيه هو الزمان الزاهي
لله در معارف قد حزتها ... من ذا يجاري فضلها ويباهي
أنطلقت أفواه الزمان بمدحك ال؟ ... عالي لفضل دام منك وفاهي
أسفي على ما فات منك وأنت لم ... تبرح بقربي منعماً وتجاهي
أبكيك ما بقي البكاء بكاء مح؟ ... زون على طول المدى أواه
فسقت ضريحك رحمة فياضة ... ترويه بالأنواء والأمواه
ولما طلب في الأيام الأشرفية إلى مصر، كتب إليه علاء الدين الوداعي، ومن خطه نقلت:
وافقت ربي في ثلاث بأن ... تبقى وترقى وتنال العلى
وقد رأت عيناي أمنيتي ... والحمد لله تعالى على
والآن في مصر فلا بد من ... أن تخلف الفاضل والأفضلا
وكتب إليه، ونقلت من خطه:
لئن كان أصلي من ذؤابة كندة ... أولي الحكم الغراء والمنطق الفصل
فما زلت طول الدهر أشكر فضلكم ... إلى أن دعوني في القبائل بالفضل
ومن إنشاء القاضي شرف الدين بن فضل الله كتاب بشرى بالنيل، وهو: لا زالت البشائر تستمتع بمحاورته، وتغتبط بمجاورته، وتود لو استقر بذراه قرارها، وطال معه سرارها، وهذه البشرى تبشره بنعمة عظمت مواهبها، وعذبت مشاربها، وانتشرت في البسيطة مذاهبها، وردت الآمال الظماء، وضاهت الأرض بها السماء، وأغنت عن منة الغمام، وعمت مصر بالهناء حتى فاض إلى الشام، وهي وفاء النيل الذي وفى، وفي وفائه حياة البلاد والعباد، وشكر النعمة به متعين على الحاضر والباد.
ومنه أيضاً:(1/498)
ورد كتابه فتمتع منه بعرائس أبكار الأفكار، وتملى منه بنفائس من أنفاس الأزهار، وشاهد كل سطر منه أحسن من سطري، وكان ناظره صائماً عن النظر لبعده فأوجب عليه عيد قدومه فطراً، وردد فكره في بدائعه الرائقة الرائعة، ورأى التشريف بإرساله من جملة صنائعه المتتابعة، ووقف عليه وسر بدونه وإيابه. وشكر الأيام التي خولته من اقترابه ما لم تطمعه الأيام في تمثيله ولم يدر في حسابه، والله تعالى يقرن اليمن بهذه الحركة، ويجعلها مشمولة على السعادة مخصوصة بالبركة.
ومنه نسخة كتاب كتبه عن نائب السلطان بالشام لما قدم المبارك الذي ادعى أنه ابن المستنصر: " سلام عليك طبتم فادخلوها خالدين " .
ليهنك النعمة المخضر جانبها ... من بعدما اصفر في أرجائها العشب
ضاعف الله جلال الجناب الكريم الشريف العالي المولوي السيدي النبوي، وجعل قدومه كاسمه المبارك على الإسلام.
واسم شققت له من اسمك فاكتس ... شرف العلو به وفضل العنصر
وأورد ركابه الأرض الشامية ورود الغمام، وبين أنوار الخلافة على جبين مجده فلا تضام النواظر في رؤيتها ولا الأفهام، وأضاء بوجوده بيت الإمامة حتى يعود إلى عوائده الحسنى في سالف الأيام، وسخر له العزائم والشكائم، وجعل من شيمته السيوف والأقلام. ورد الكتاب الكريم تبدو البكرات من صفحاته، وتسري نسمات السعد من أنفاس كلمه الطيب ونفحاته، وكان كالسحاب إذا سح وابله، وكالذكر المحفوظ إذا عمت ميامنه للإسلام وفواضله.
وكالبدر وافته لوقت سعوده ... وتم سناه واستقلت منازله
فتلقاه حين ألقي إليه من سماء الشرف بالإعظام، وحل الواردون به من مواطن القبول محل ملائكة الوحي الكرام، وتلا على ما قبله: يا بشراي هذا سيد ولم يقل: هذا غلام. فأي قلب لم يسر بمقدمه، وأي طرف لم يستطع أنوار مطلعه على الدنيا ومنجمه.
ومن شعره يمدح الملك المنصور قلاوون الألفي:
تهب الألوف ولا تهاب لهم ... ألفاً إذا لاقيت في الصف
ألف وألف في ندى ووغى ... فلأجل ذا سموك بالألفي
ومنه لما ختن الملك الناصر محمد:
لم يروع له الختان جناناً ... قد أصاب الحديد منه حديداً
مثلما تنقص المصابيح بالقط ... ط فتزداد في الضياء وقودا
ومنه:
كتبت والشوق يدنيني إلى أمل ... من اللقاء ويقصيني من الدار
والشوق يضرم فيما بين ذاك وذا ... بين الجوانح أجزاء من النار
ومنه:
في ذمة الله ذاك الركب إنهم ... ساروا وفيهم حياة المغرم الدنف
فإن أعش بعدهم فرداً فيا عجباً ... وإن أمت هكذا وجداً فيا أسفي
ومنه يهنئ القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر ببنت:
أمولاي فتح الدين هنئ خدركم ... بقرة عين للصيانة والمجد
ومتعتم منها بأيمن غرة ... مباركة في الصالحات من الولد
وصين بني سعد حماكم وعشتم ... ميامين فرسان اليراعة والحمد
وعوذ تم من عين حاسد فضلكم ... ومجدكم في المجد يوماً وفي المهد
فأولادكم إما بدور فضيلة ... وإما شموس هن أخبية السعد
فبورك فيها طلعة فلربما ... أفاد بني سعد فخاراً بنو نهد
؟عبد الوهاب بن فضل الله
القاضي الكبير الأثير المهيب شرف الدين النشو ناظر الخاص.(1/499)
كان كالغصن قده. أو السيف حده، أو البدر محياه البهي، أو الدر كلامه الشهي. طويل القامة ممتدها، ظريف الخطرة يحسبها الناظر خطرة كاعب ويعتدا. باشر نظر الخاص فعم به إقبال الدولة، وانتشرت له السمعة والصولة، وسد مهمات لو جرى النيل ذهباً لأفناه الإنفاق، ولو نثرت النجوم دراهم لما ساعدها الإرفاد ولا الإرفاق، وبزت أموال جماعة وأرواحهم، وركدت بعدما هبت بالسعادة أرواحهم، وتمكن من السلطان فوصل وقطع، ولمع بارق سعوده وسطع، وخلاله العصر، وجلا السعد له القصر، وانفرد بالتدبير، وما خلا ذلك التثمير من التدمير، وغره ميل السلطان إليه وتقريبه، وفاته منه ما يجري به تجريبه، فعاند الناس جميعاً، ولم يكن لأحد من الخاصكية سمعياً، وأراد يتعشى بأناس فتغدوا به قبل، وفوقوا إليه من المصائب صائبات النبيل، فافترسته ليوث خوادر، وساعدت عليه المقادر، وعجز السلطان عن خلاصه، وغنموا الغفلة في افتراسه وافتراصه.
وجاءه شؤبوب الشيوب، واستخرج منه ومن أهله خبايا البيوت قبل الجيوب، فقضى تحت العقاب نحبه، ولقي بما قدم ربه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثاني صفر سنة أربعين وسبع مئة.
وفي ذلك قال القاضي علاء الدين بن فضل الله صاحب دواوين الإنشاء:
في يوم الاثنين ثاني الشهر من صفر ... نادى البشير إلى أن أسمع الفلكا
يا أهل مصر نجا موسى، ونيلكم ... وفى وفروعون وهو النشو قد هلكا
وكان النشو أولاً هو ووالده وإخوته يخدمون عند الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، فلما انفصلوا من عنده أقاموا بطالين مدة في بيتهم، ثم إن النشو خدم عند الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور، فأقام في خدمته تقدير ستة أشهر، ثم إن السلطان طلب كتاب الأمراء، فحضروا، فرآه وهو واقف وراء الجميع، وهو شاب طويل نصراني، حلو الوجه، فاستدعاه وقال له: إيش اسمك؟ فقال: النشو. قال: أنا أجعلك نشوي. ثم إنه رتبه مستوفياً في الجيزية، وأقبلت سعادته فأرضاه فيما يندبه إليه، وملأ عينه بالنهضة والكفاءة، فنقله إلى استيفاء الدولة، فباشر ذلك مدة، وخدم الناس، وأحسن معاملتهم فأحبوه.
ثم إن السلطان استسلمه على يد بكتمر الساقي وسماه عبد الوهاب، وسلم إليه ديوان ابنه آنوك، فلاحظته السعادة، ونام عنه طرف الزمان. ولما توفي القاضي فخر الدين ناظر الجيش نقل السلطان القاضي شمس الدين موسى من نظر الخاص إلى نظر الجيش، وولى النشو ناظر الخاص مع كتابة ابنه، وحج مع السلطان في تلك السنة، وهي سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.(1/500)
ولما كان مستوفياً وهو نصراني كانت أخلاقه حسنة، وفيه بشر وطلاقة ورجه وتسرع إلى قضاء حوائج الناس، ولما تولى الخاص وكثر الطلب عليه من السلطان، وزاد السلطان في الإنعامات والعمائر وبالغ في أثمان المماليك وزوج بناته وتوجه إلى الحج واحتاج إلى الكلف العظيمة المفرطة الخارجة عن الحد ساءت أخلاق النشو، ولبس للناس جلد النمر، وأنكر من يعرفه، وفتحت أبواب المصادرات للكتاب ولمن معه مال، وكان الناس يقعون معه ويقومون إلى أن جرح، فازداد الشر أضعافه، وهلك أناس كثيرون، وسلب جماعة نعمهم وذهبت أرواح، وزاد الأمر إلى أن دخل الأمير سيف الدين بشتاك والأمير سيف الدين قوصون وجماعة من الخاصكية ومعهم عبد المؤمن الذي تقدم ذكره إلى السلطان، فقال عبد المؤمن: أنا الساعة أخرج إلى النشو وأضربه بهذه السكينة، وأنت تشنقني وأريح الناس من هذا الظالم، فقال السلطان: يا أمراء متى قتل هذا بغتة راح مالي، ولكن اصبروا حتى نبرم أمراً، فلما كان ليلة الاثنين ثاني صفر الشهر المذكور اجتمع السلطان به، وقال له: غداً أريد فلاناً، فاطلع أنت من سحر لتروح وتحتاط عليه، وأحضر جماعتك ليتوجه كل واحد إلى جهة أعينها له. فلما كن من بكرة النهار طلع القلعة ودخل إليه واجتمع به وقرر الأمر معه، وقال له: اخرج حتى أخرج أنا وأعمل على إمساكه مع الأمراء، فخرج وقعد على باب الخزانة، وقال السلطان لبشتاك: اخرج إلي النشو وأمسكه، فخرج إليه وأمسكه وأمسك أخاه مجد الدين رزق الله المذكور في حرف الراء، وصهره ولي الدولة، وأخاه الأكرم، وجماعتهم، وعبيدهم، ولم يفت في ذلك الوقت إلا المخلص أخوه الكبير، فإنه كان في بعض الديرة، فجهز إليه من أمسكه وأحضره، وسمل بشتاك النشو إلى الأمير سيف الدين برسبغا الحاجب، وعوقب هو وأخوه المخلص ووالدتهما وعبيدهم. وماتت والدتهما وأخوه المخلص تحت العقوبة في المعاصير والمقارع. ثم إن السلطان رق على النشو ورفع عنه العقوبة، ورتب له الجريحية والفراريج والشراب فاستشعروا رضا السلطان عنه، فأعيدت عليه العقوبة ومات تحتها رحمه الله تعالى.
وقيل: إن الذي تحصل من النشو ومن إخوته ومن أمه ومن عبيدهم وأخيه وصهره مبلغ ثلاث مئة ألف دينار مصرية.
وأراني النشو قبل خروجي من الديار المصرية في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة، قال: هذه أوراق فيها ثمن المماليك الذين اشتراهم السلطان من أول مباشرتي سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة إلى الآن، وجملة ذلك أربعة آلاف ألف دينار وسبع مئة ألف دينار. وأما جراحته، فإنه كان من عادته متى أذن الصبح ركب من بيته في الزربية وتوجه إلى القلعة فيجلس على باب القلعة إلى أن يفتح ويدخل، فلما كان في ثاني عشر شهر رمضان سنة سبع أو ثمان وثلاثين وسبع مئة ركب على عادته، فلا كان خلف الميدان عند أوله إلى جهة البحر، لحقه فارس يطرد الفرس وبيده سيف مشهور، فقال له عبده من ورائه: يا سيدي جاءك، فالتفت فرأى السيف مسلولاً، قال لي: فرفست البغلة لأحيد عنه، فأخذتني إليه، فضربه على عضده اليسار وعلى جنبه إلى مربط لباسه، ثم تقدمه وضربه ضربة أخرى إلى خلف، فوقع شاشة إلى الأرض، ولما ضربه هذه الثانية رفعت البغلة رأسها، فجاء السيف في حجاج عينها وبعض أذنها، فلما وقع شاشه توهمه رأسه وساق وتركه، فرجع النشو إلى البيت، فقطب الجرايحي يده بست إبر وقطب جنبه باثنتي عشرة إبرة، ولو لم أر ذلك بعيني ما صدقت، فإن الناس أجمعوا على أنه ادعى ذلك ليؤذي الناس عند السلطان.
وحكى لي القاضي شرف الدين النشو من لفظه غير مرة لما تولى نظر الخاص قال: كنت أطلع مع والدي إلى القلعة بالحساب، فيتقدمني هو بحماره القوي وأنقطع أنا على الحمار الضعيف، والحساب عليه، فلا أزال أضربه بالعصا إلى أن تتكسر ثم أضربه بفردة السرموزة إلى أن تنقطع، وأطلع القلعة في أنحس حال.
وحكى لي أيضاً غير مرة قال: لما بطلنا من عند الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب أقمنا نبيع من أطرافنا وننفق علينا، إلى أن لم يبق لنا شيء، فاحتجنا يوماً ولم نجد ما نبيعه، فجمعنا السراميز العتق وسيرنا أبعناها بما أنفقناه علينا، فقال لي والدين: هذا آخر الخمول، وما بقي بعد هذا قطوع، وقد قرب الفرج.(2/1)
قال: وكان لي قميص إذا خرجت أنا لبسته، وإذا خرج أخي المخلص لبسه، فلما كان ثاني يوم نزل عبدنا إلى البحر، فاصطاد لنا سمكة مليحة سمينة، فقلوناها بما فيها من الدهن، ولم يكن عندنا ما نشتري به سيرجاً، فلما كان ثاني يوم لذاك اليوم جاءني من طلبني لأخدم عند أيدغمش أمير آخور، فتوجهت وقدر الله باتصال القسمة وخلع علي، فتوجهت بالتشريف إلى الشرابشيين وأبعته واشتريت قماشاً من الشراب كثيراً وفصلناه قمصانا لما وجدناه من حرقة عدم القمصان.
عبد الوهاب بن محمد
ابن عبد الوهاب بن ذؤيب الأسدي، الشيخ الإمام العالم النحوي الفقيه كمال الدين ابن قاضي شهبة الشافعي.
سمع من ابن أبي الخير سباعيات الصيدلاني ورواها عنه. سمع الكتب الكبار ومسند الإمام أحمد، وله ثبت بخط الوجيه السبتي.
ومن شيوخه الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وابن علان، وابن البخاري، والمجد بن الخليلي، وإسماعيل بن العسقلاني، والبرهان بن الدرجي، والشرف بن القواس.
كان فقيهاً فاضلاً، عارفاً بالمذهب ناقلاً، له حلقة بالجامع الأموي خلف محراب الحنابلة، قرأ عليه جماعة من الطلبة أولاد الأكابر، ومن أرباب السيوف وذوي المحابر. وكان حريصاً على التعليم، مجتهداً على التفهيم، يعيد الدرس للطالب مرات، ويطالبه بإعادته كرات، ويسمع على المشتغلين الماضي الذي تقدم، ويقيم بالمذاكرة من ربوع العلم ما تهدم، لو أمكنه صور الدرس للطالب في الخارج، ورقاه في فهمه على المعارج، وانتفع عليه بذلك جماعة، وأرخى على وجهه قناع القناعة، وكان يعتكف في الجامع الأموي شهر رمضان بكماله، ويستجلي من الخير بدور جماله.
ولم يزل على حاله إلى أن لم يكن في عدم ابن قاضي شهبة شبهة، ودس في التراب ذاك الوجه والجبهة.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده في ثاني عشر شوال سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
وكان من أعيان أصحاب الشيخ تاج الدين في الفقه والأصول، ومن أعيان أصحاب أخيه شرف الدين في العربية. لازمهما وسلك طريقهما في الإشغال.
عبد الوهاب بن أحمد
ابن يحيى بن فضل الله، القاضي الرئيس شرف الدين ابن القاضي شهاب الدين ابن القاضي محيي الدين، موقع الدست بدمشق.
كان شكلاً ظريفاً، أبي النفس شريفاً، فيه شجاعة وإقدام، وفروسية ثابتة الأقدام، يلعب الكرة بالصوالج، ويصيد بالطير والحوامي ما هو في وكره والج، ويسوق في البريد فيكاد يسبق الرياح، ويثبت على ظهور الخيل من الليل إلى الليل إلى الصباح. وكتب الرقاع جيداً، ووقع على القصص متأيداً.
وكان فيه مروءة وكرم، وحدة في أخلاقه تتوقد بالضرم.
ولم يزل على حاله إلى أن ذوى غصنه الناعم، وأصبح وأعضاؤه للبلى مطاعم.
وتوفي رحمه الله تعالى ثامن عشري شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة، ودفن في تربتهم بجبل قاسيون.
استخدمه السلطان بمصر بعد دخولهم إليها، في سنة ثلاثين أو إحدى وثلاثين وسبع مئة، وكتب في ديوان الإنشاء مع الواده رحمه الله تعالى، ومع عمه القاضي علاء الدين. وسمع بقراءتي على الشيخ فتح الدين بن سيد الناس وغيره.
ولما رسم لوالده بكتابة سر دمشق حضر معه، وكان يدخل بالعلامة إلى الأمير علاء الدين ألطنبغا ويخرج، ويقرأ البريد عليه، وكان يؤثره ويحبه، وكان يكتب عن والده أوراق البريد وأسماء الموقعين على القصص. ولما توفي والده رحمه الله تعالى تحدث له مع القاضي ناصر الدين كاتب السر وأدخله إلى الدست موقعاً في أوائل سنة خمسين وسبع مئة أواخر أيام أرغون شاه.
الألقاب والنسب
ابن عبود: جمال الدين الحسين بن محمد.
عبيد الله بن محمد
الإمام العابد شيخ الحنفية ركن الدين أبو محمد البارساه، بالباء الموحدة وبعدها ألف وراء وسين مهملة وبعدها ألف وهاء، السمرقندي، نزيل دمشق، ومدرس الظاهرية، ومدرس النورية.
كان من كبار المذهب، تقمص منه درعه المذهب، وأصبح وحواصل علومه بيد التعليم تنهب، مكباً على التعليم والمطالعة والتفهم والمراجعة، له ورد في اليوم والليلة مئة ركعة، يحرم جفنة في الليل لذاذة الهجعة، وله حلقة في الجامع للإفادة، وللطلبة إلى حرمها في كل يوم وفاده.(2/2)
ولم يزل البارساره إلى أن بار وجوده، وطفي في الماء وقوده، فأصبح في بكرة الظاهرية ملقى غريقاً، أصيلاً في الأموات عريقاً، قتل لشيء كان معه من الحطام، وقيد إلى المنية بخطام.
وذلك في ليلة الاثنين ثاني عشر صفر سنة إحدى وسبع مئة.
وكن قد أعطي تدريس النورية قبل وفاته بستة أيام، وألقى فيها ستة دروس لا غير، وأمسك طي الحوراني قيم دار الحديث بالظاهرية، وضرب، فأقر بقتله، فشنق على باب المدرسة.
عبيد الله بن علم الدين
ابن شراقي، بفتح الشين المعجمة وبعدها راء وألف وقاف وياء آخر الحروف، الكاتب.
أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين، قال: رأيته بالقاهرة، وكتب إلي بأبيات.
ومن شعره ما كتب به إلى الخطيب مجد الدين بمدينة الفيوم من أبيات:
خلائقك الحسنى أبر وألطف ... وأنت بأنواع المكارم أعرف
وتلك السجايا الغر فهي كروضة ... مفوفة الأزهار تجني وتقطف
طبعت على فعل الجميل خلائقا ... فأنت بما تأتيه لا تتكلف
فأجابه مجد الدين:
يميناً لأنت البحر للدر تقذف ... وذا عجب إذ أنت بالعذب توصف
وما الدر في البحر الفرات وإنما ... خصائص فضل حزتها بك تعرف
فلا جيد إلا وهو منها مطوق ... ولا سمع إلا وهو منها مشنف
منها:
لقد نالنا من طيب نشرك نشوة ... فقلنا: أهذا الشعر أم هو قرقف
فذاك هو السحر الحلال حقيقة ... كمر نسيم الروض بل هو ألطف
وكتب علم الدين بن شراقي إلى زين الدين الأرمنتي:
بحق ما حزت من خصال ... عطرت الأكوان بالأريج
شنف بنظم كنظم در ... ورونق اليانع البهيج
فمذ قطعت القريض عني ... أمري في مقلق مريج
فأجاب زين الدين المذكور:
سألت أمراً وبي احتياج ... لنظمك الباهر البيهج
تطلب مني وأنت أولى ... ما البحر يحتاج للخليج
نظمك في حسنه أراه ... كالزهر في يانع المروج
بلاغة فيه لم ينلها ... حبيب أوس ولا السروجي
ومن شعر علم الدين شراقي:
ولقد هممت بأن أفوز بنظرة ... من مالك تهوى المعالي وصفه
لم يستطع نظري يراه شاكيا ... فبعثتها عني تقبل كفه
الألقاب والنسب
ابن عبيد الله الموقع: شهاب الدين أحمد بن عبيد الله.
صلاح الدين يوسف بن محمد.
عتيق بن عبد الرحمن.
ابن أبي الفتح، المحدث المتقن الزاهد تقي الدين أبو بكر القرشي العمري المصري الصوفي المالكي، شيخ خانقاه ابن الخليلي.
سمع بمصر والشام والحجاز، وحدث عن النجيب عبد اللطيف، وعبد الله بن علاق، وكتب عنه الطلبة.
وجاور بمكة مدة، وكان فيه تعبد، وعنده فقر وتزهد، وتحر وتجرد، وله فضيله، يخرج بها من السمة الردية الرذيلة.
مرض مدة بالفالج وعالج من آلامه ما كان يعالج.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
عتيق بن محمد
ابن سلميان المخزومي، تاج الدين الدماميني، بالدال المهملة والميم والألف والميم الثانية والياء آخر الحروف وبعدها نون.
قرأ الفقه بقوص، وحفظ التنبيه، واستوطن الإسكندرية، وانتهت إليه رئاستها.
وكان ذكياً كثير العطاء، وله مشاركة في التاريخ والأدب، وبنى مدرسة بالمرجانيين بالثغر ووقف عليها أوقافاً كثيرة.
وحضر إلى مصر فتوفي بها في أواخر جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
عثمان بن إبراهيم
ابن أبي علي الحمصي المقرئ الصالح أبو عمرو الصالحي النساج، إمام مسجد القرشيين.
سمع حضوراً نصف البخاري الأخير من ابن الزبيدي، وسمع من ابن اللتي، لكنه كان يحرف كتابة الأسماء، يكتب الحمصي المصري، فذهب سماعه. وكان قد سمع كثيراً من الحافظ الضياء.
وسمع منه الواني، والمقاتلي، والعلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، والمحب، وجماعة.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة عشر وسبع مئة، وعاش ثلاثاً وثمانين سنة.
وكان خيراً يتودد إلى الناس ويتواضع ويحسن بشره.
عثمان بن إبراهيم(2/3)
ابن مصطفى، الشيخ الإمام العالم فخر الدين المارديني المصري، مفتي الحنفية المعروف بابن التركماني.
كان فاضلاً في مذهبه، عارفاً بدقائقه وتقلبه، شرح الجامع الكبير وألقاه دروساً، وجلاه للنواظر والبصائر عروساً.
كان جميل المحاضرة، جليل المذاكرة، أخلاقه لطيفة، وتناديبه ظريفة، طلق المحيا، فصيح العبارة، حسن العمة، كامل الشارة، وكان له ولدان، كأنهما في سماء الفضل فرقدان.
ولم يزل على حاله إلى أن حم يومه العصيب، فأخذ من الموت بنصيب.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة السبت حادي عشر شهر رجل الفرد سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في عاشر جمادى الأولى سنة ستين وست مئة، يوم توفي الشيخ عز الدين بن عبد السلام المنصوري.
وسمع من الأبرقوهي، والدمياطي، وغيرهما. وشرح الجامع الكبير في مئة كراس، وألقاه في المدرسة المنصورية. وله نظم. وتفقه به ولداه الشيخ علاء الدين والشيخ تاج الدين.
عثمان بن أحمد
ابن محمد، المحدث، فخر الدين أبو عمرو الحلبي، ثم المصري، ابن الظاهري.
حضر النجيب، وابن علاق، وسمع من عامر القلعي والعز الحراني، ونسخ بعض الأجزاء وكتب الطباق.
قال شيخنا الذهبي، رحمه الله تعالى: وله إلمام ببعض هذا الشأن وكثرة مطالعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس شهر رجب سنة ثلاثين وسبع مئة.
وولده سنة إحدى وسبعين وست مئة.
وكان له قبول، وعنده مروءة، وقرأ القرآن بروايات، وحفظ ألفية ابن مالك، وتعب عليه والده وأسمعه الكثير. قال شيخنا علم الدين البرزالي: شيوخه ست مئة شيخ، وذلك في سنة خمس وثمانين وست مئة، وازداد بعد هذا التاريخ خلقاً كثيراً.
وسمع منه الطلبة والرحالون.
عثمان بن أحمد بن عمر
ابن أحمد بن هرماس بن نجا بن مشرف بن محمد بن ورقة، القاضي الفقيه الإمام العالم فخر الدين أبو عمرو قاضي نابلس.
ولي القضاء بعدة أماكن بالشام. وكان حسن السيرة في القضاء عفيفاً، يقال إنه أباع ملكاً بثلاثين ألفاً، وأنفقه عليه مدة الولاية. وكان كثير الأستحضار لمسائل المحاكمات.
قال البرزالي: كتبنا عنه من شعره بنابلس.
وتوفي رحمه الله تعالى تاسع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبع مئة، ومولده سنة ثلاثين وست مئة بزرع.
عثمان بن أحمد بن عثمان
ابن هبة الله بن أحمد بن عقيل القيسي الشافعي، المعروف بابن أبي الحوافر، الطبيب بالقارة.
له إجازة من ابن اللتي، وابن المقير، وإبراهيم الخشوعي، وغيرهم. وكان ينعت بجمال الدين.
توفي رحمه الله تعالى يوم الجمعة غرة صفر سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وعشرين وست مئة.
عثمان بن إدريس
ابن عبد الله بن السلطان عبد الحق بن مجبو، البطل الضرغام، فارس الإسلام، مقدم الجيوش أبو سعيد بن أبي العلاء المريني.
قائد جيش غرناطة، وهو الذي أبلى يوم الكائنة العظمى سنة تسع عشرة وسبع مئة، ونصر الله فيها الإسلام، و أباد جيوش الفرنج.
وكان ذا دين متين، وعقل صحيح مبين، فيه شرف وعند سيادة، وله كبرياء في الرئاسة، وافرة الزيادة، أبلى في الحروب، وأملى دروساً في الجراح والضروب، يلقى الهجير بنحره ويقدم على الهول وهو قد جاء وطم ببحره، لا يبالي بالكتائب إن قلت أو كثرت، ولا يهمه أمر جياده، إن كلت أو عثرت، أين ما بأسه عنترة أو عامر بن الطفيل؟! وأين من كره على الفارس زيد الخيل؟ كاد يرد الموت من الظما، أو يخال سمرة الرماح لمى، أو يتخيل أن السيوف جداول فهو يخوضها، أو يتوهم أن المنايا ذات دلال فهو يروضها.
ولم يزل على حاله إلى أن صالت عليه المنايا، وجاءته بما في زواياها من الجنايا.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثين وسبع مئة.(2/4)
قيل: إنه شهد مئتي غزوة وأربعاً وثلاثين غزوة، أهلك الله ضده الوزير المحروق الذي أبعده من الحضرة في سنة تسع وعشرين وسبع مئة لأن ولده إبراهيم بن عثمان كان قد شارك يحيى بن عمر بن راجو في قتلة السلطان أبي الوليد، ثم عاد ابن أبي العلاء إلى منصبه فلي سنة تسع وعشرين وسبع مئة. نزل يوم الملحمة العظمى إلى الأرض، وسجد وتضرع إلى الله ثم ركب فرسه وقال لجيشه: احملوا، وكانوا دون الألفين، فحملوا على القلب وفيه ذون بطرو المقدم ذكره، وهو في بضعة عشر ملكاً من الفرنج فقتلوا كلهم، ثم لم يفلت منهم أحد، ودام القتال إلى الليل، فأقل ما قتل من الفرنج ستون ألفاً وقيل: ثمانون ألفاً، ولم يقتل من المسلمين سوى ثلاثة عشر فارساً، وغنم المسلمون غنيمة عظيمة إلى الغاية.
وتوفي رحمه الله تعالى وهو مرابط، وكان من أبناء الثمانين.
عثمان بن إسماعيل
ابن عثمان، الأمير صارم الدين.
كان أولاً حاجباً بصفد، ثم نقل إلى دمشق أميراً ثم أعيد إلى دمشق، ولم يزل بها مقيماً إلى أن توجه صحبة الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى إلى ملطية.
ولما عاد العسكر من ملطية توفي رحمه الله تعالى في الطريق في سابع عشري شهر ربيع الأول بالمعرة سنة خمس عشرة وسبع مئة.
وكان رجلاً جيداً ساكناً وقوراً. عين لشد الدواوين بدمشق، وكان يسكن بدرب الفراش، وخلف أولاداً وذرية، وكان جده من مماليك الدوادار الرومي، كذا قاله شيخنا البرزالي. وعاش ثمانياً وخمسين سنة.
وهو أخو الأمير ناصر الدين مشد الأوقاف بدمشق، وناظر الحرمين بالقدس والخليل عليه السلام. وكان يعرف في دمشق بحاجب صفد، أعني الأمير صارم الدين.
عثمان بن أيوب
ابن مجاهد الفرجوطي، بالفاء والراء الساكنة والجيم والواو الساكنة الطاء المهملة.
كان ملازم التلاوة، ويستعمل الصبر على ذلك علاوة، قد التحف بالتحف من القناعة، وجعل الشكر رداءة وقناعة، يرضى بالقليل من العيش الشطف، ويتجلد لما مضى ولا يأتنف، عديم الطلب من الناس، سليم القلب في معاشرة الأخيار والأدناس.
ولم يزل على حاله إلى أن افترش تراب لحده، وألصق بالثرى ديباجة خده.
وتوفي في مستهل شوال سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وتوفي ببلده فرجوط.
ومن شعره:
ألا في سبيل الحب ما الوجد صانع ... بقلب له من وشكة البين صارع
يكابد من أجل البعاد هلوعه ... وإن قلى الأحباب للصب هالع
ويقلقه داعي الهوى ويقيمه ... فيقعده الإعجاز والعجز مانع
ويصبو فتنصب الدموع صبابة ... ولا غرو إن صبت لذاك المدامع
إذا فاح من أكناف طيبة طيبها ... تحركه شوقاً إليها المطامع
وإن ذكرت نجد وجرعاء رامة ... ولله كم من لوعة هو جارع
هل الدهر يوماً بعد تفريق شملنا ... بذاك الحمى النجدي للشمل جامع
وهل ما مضى من عيشنا في ربوعكم ... وطيب زمان بالتواصل راجع
عدوا بالتلاقي عطفة وتكرماً ... علي فإني بالمواعيد قانع
وإن تسمحوا بالوصل يوماً لعبدكم ... فهذا أوان الوصل آن فسارعوا
أهيل الحمى هل منكم لي راحم ... وهل فيكم يوماً لشكواي سامع
فهذا لسان الحال يرفع قصتي ... لديكم عسى منكم لبلواي رافع
عثمان بن أيوب
ابن أبي الفتح، فخر الدين أبو عمرو الأنصاري العسقلاني.
أخبرني من لفظه العلامة أثير الدين، قال: مولد المذكور ببيت زينون، بالنون لا بالتاء، من عسقلان وغزة، في خامس عشر شعبان سنة تسع وثلاثين وست مئة.
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه:
أتاني كتاب خلت في طي نشره ... بريق ضياء يخجل القمرين
إلى علم أسعى به من سميه ... فنلت مني بالسعي في العلمين
فأجابه نور الدين بن سعيد:
ببيت وبيت قد سبقت مجلياً ... فلا زلت بالبيتين ذا سبقين
وأنجحت بالأمر الذي قد قصدته ... بسعيك يا ذا الفضل بالعلمين
قال: وأنشدنا المذكور لنفسه:
من يبقها وردي ومن وجناتها ... وردي وخمري لحظها والساقي(2/5)
يا هند عندك منيتي ومنيتي ... بوعيد هجر أو بوعد تلاقي
عثمان بن أبي بكر
ابن محمد قاضي القضاة جلال الدين أبو عمرو الحاكم بصفد. كان قاضيها من الأيام الظاهرية، وكان نوابها يحبونه ويعزونه ويكرمونه، وهو والد قاضي القضاة شرف الدين محمد قاضي صفد وطرابلس الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في المحمدين.
توفي رحمه الله تعالى يوم السبت رابع عشري المحرم سنة ثمان وتسعين وست مئة.
وكان يعرف بالنهاوندي بنون مفتوحة وهاء بعدها ألف وواو ونون ساكنة ودال مهملة.
عثمان بن بلبان
المحدث فخر الدين الرومي المقاتلي الدمشقي الكفتي. سكن مصر سنوات. وداخل الرؤساء إلى أن صار معيداً في المنصورية للحديث. وكان حلو المذاكرة، يحفظ بعض القرآن.
سمع من ابن القواس، ويوسف الغسولي، وابن عساكر وبحلب من سنقر الزيني مملوك ابن الأستاذ، وبمصر من الدمياطي وطبقته، وعني بالرواية، ونسخ الأجزاء وحصل.
قال شيخنا الذهبي: كتبت عنه وكتب عني، وكان في ورعه نقص، وغيرة أدين منه، وليس له محفوظ، ولا حفظ القرآن يعني ختمه.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة ثالث عشري شوال سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة.
عثمان بن عبد الصمد
ابن عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل، الشيخ بدر الدين أبو عمرو بن الشيخ جمال الدين الخطيب قاضي القضاة بن قاضي القضاة جمال الدين الحرستاني الدمشقي.
سمع حضوراً من جده سنة ست وخمسين وست مئة، ومن عبد الله بن الخشوعي، وشرف الدين الحسين الإربلي، وابن أبي اليسر، والمجد بن عساكر، والمجد بن النشبي، وغيرهم. واشتغل على الشيخ شمس الدين أبي عبد الله المقدسي مدرس الشامية، ورتب بالمدارس، وكان يجلس مع الشهود.
ومرض أواخر عمره بالفالج، وعجز وانقطع إلى أن مات.
وتوفي رحمه اله تعالى ثامن ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة.
عثمان بن علي
الإمام العالم المفتي القاضي فخر الدين الأنصاري الشافعي المصري ابن بنت أبي سعد.
كان فقيهاً كبيراً، وحاكماً خبيراً، فاضلاً في الأصول، غزير المادة والمحصول، ويدري العربية، وعنده جزء كبير من الأنواع الأدبية، وكتب الخط البهج، وأتى به أبهى من الروض الأرج. وكان يشارك يف علم الموسيقى، ويطبق الألحان على الكلام تطبيقاً.
ولم يزل على حاله إلى أن تداول أصحابه نعيه، وتذاكروا اجتهاده وسعيه.
وتوفي رحمه الله تعالى رابع عشري جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبع مئة.
ومولده بداريا من أرض دمشق.
وحدث عن الكمال الضرير، والرضي بن البرهان، وتقلب في الخدم الديوانية، ووقع عن قاضي القضاة ابن رزين، وأفتى سنين وولي القضاء بقوص، وتوفي رحمه الله تعالى وله تسعون عاماً.
ومن شعره يصف بركة:
وجلا بياض النهر في مخضرها ... وكأنه إذ لاح للأبصار
سبك اللجين على بساط زمرد ... والشمس فيه تلوح كالدينار
عثمان بن علي بن إسماعيل
ابن الشيخ الإمام العلامة صاحب الفنون، قاضي القضاة. فخر الدين أبو عمرو بن زين الدين الطائي الحلبي الشافعي ابن خطيب جبرين، فقيه حلب ومقرئها وحاكمها.
كان فاضلاً إذا قلت فاضل، وعالماً يقر له كل مناظر ومناضل، قادراً على حل كلام الناس في سائر الفنون، مبادراً إلى شرح ما يقرأ عليه ويأتي من ذلك بالنكت والعيون، لم أر له في هذا الشأن نظيراً يقاربه، ولا من يجاريه فيسالمه أو يحاربه، وكان في كل فن ماهراً، وعلى كل علم ظاهرا، كأن ابن الخطيب ابن خطيب الري وكلاهما فخر، وكأن هذا ذاك إلا أن الأول فينا يقطف من زهر وذاك يقطع من صخر، يحل كلام كل مصنف بغير كلفه، ويتسرع إلى فهمه، كأن له دربة قديمة وألفه.
لقد كنت أعجب من شأنه وحق لي العجب، وأتفكر في بيانه الذي أطلع على كل غائب وما احتجب، وما كان إلا أعجوبة الزمان، ونادرة الوجود في نوع الإنسان. لكنه تولى قضاء قضاة حلب فما حمد في ذلك العقبي، وضرب بينه وبين الراحة بسد فما استطاع له نقبا، وطلب إلى مصر وأنكر السلطان ولا يته وزجره، فنزل من القلعة، وكان ذلك مِنْ مَنْ أمره نهايته:
فمالنا اليوم ولا للنهى ... من بعده إلا البكا والنحيب(2/6)
وتوفي رحمه الله في القاهرة بالمنصورية سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وستين بالقاهرة، كذا رأيته بخط بعض الفضلاء.
وكان رحمه الله قد تلا بالسبع على شمس الدين الخابوري، والبدر التاذفي، وابن بهرام، والكمال الغرناطي. وتفقه بقاضي حلب شمس الدين بن بهرام، وقاضي حماة شرف الدين، وأخذ عن ابن ملي علم الكلام.
وتصدر وأقرأ، وتخرج به الناس، واشتهر اسمه، وكان عاقلاً ذكياً غزير المادة، كثير الإطلاع. قرأت أنا عليه بحلب سنة.. في الأربعين للإمام فخر الدين الرازي، وفي الشمسية مشروحة لابن المطهر في المنطق. وحضرت دروسه الجماعة الذين يقرؤون عليه، فكنت أرى منه العجب، لم يحضر إليه أحد بأي كتاب كان في أي علم كان في أي باب كان من ذلك الكتاب إلا وأقرأه فيه، وحل كلام ذلك المصنف، ولم أر مثله في هذا الباب ولا رأى غيري إلا ما حكاه لنا الأشياخ عن الشيخ كمال الدين بن يونس، فإنه كان عجباً في هذا الباب.
وكان يقرئ في الشاطبية وكتب القراءات، وفي الحاوي، وكتب الفروع، وفي المختصر لابن الحاجب، والمحصل للإمام فخر الدين، وفي الفرائض، والجبر، والمقابلة، وفي الحساب، وعلم: الصواب، وكتاب التحت والميل، وفي الحاجبية، وفي تصريف ابن الحاجب، وفي تمرين التصريف، وفي كتب الحكمة مثل الملخص لفخر الدين، وفي كتب الطب، وفي كتب الهجاء، وفي أشياء غير ذلك.
وكان يومئذ ينوب عن القاضي زين الدين الشافعي، وعن القاضي ناصر الدين بن العديم الحنفي، ومع ذك كله يحكم بين الناس، وإذا فرغ من الحكم سبح، وكذلك في التعليم إذا قرأ الطالب اشتغل بالسبحة.
وصنف شرح الشامل الصغير وشرح التعجيز وشرح مختصر ابن الحاجب وشرح البديع لابن الساعاتي. وله في الفرائض نظم، وشرحه في مجلد. ومصنف في المناسك، وفي اللغة، وشرح الحاوي في الفقه فيما أظن.
وتلا عليه بالسبع محتسب حلب نجم الدين بن السفاح الحلبي، والشيخ علي السرميني، وجمال الدين يوسف بن حسن التركماني، وأحمد بن يعقوب، ولم يكمل.
وتولى قضاء قضاة حلب الشافعية في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
ثم إن السلطان طلبه وطلب ولده إلى مصر، فلما مثلا بين يديه روعهما الحضور قدامه، لكلام أغلظه لهما، فنزلا مرعوبين، ومرض بالبيمارستان المنصوري بالقاهرة، ومات ولده قبله، وتوفي هو رحمه الله بعده بيوم أو يومين، مدة المرض دون الجمعة.
وكان قد ولي حلب عوضاً عن قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب.
وكنت قلت فيه:
غدا ابن خطيب الري للناس آية ... فضائله منها البدور تمام
وفي حلب قاضي القضاة نظيره ... ففخرهما يسمو وليس يسام
كما اشتركا في ابن الخطيب إضافة ... ولكن ذا قاض وذاك إمام
ومن شعره في مقلمة:
تأمل تر حالي بعديعاً وقصتي ... وأنعم رعاك فكرك في أمري
حويت الذي رزق الخلائق كلهم ... وأحكامهم طول الزمان به تجري
ولو رمت مما في يد الناس حبه ... عجزت ولم أبلغ مرامي مدى عمري
ومنه في مروحة:
وخادم ما مثلها خادم ... بكل معنى حسن توصف
يروق من يبصرها حسنها ... أخلاقهها محبوبة تؤلف
لباسها الوشي وفي حجرها ... عود لها وهي به أعرف
يحرك الأرواح ترويحها ... ويشتفي المكروب إذ تطرف
ومنه:
وقائل ما الذي ترجوه حين ترى ... ببابك الموت قد أرسى ولم ترم
وما الذي أنت يا مسكين قائله ... إذا حللت بضيق اللحد والظلم
فقلت: توحدي رب العرش مدخري ... وحسن ظني بربي بارئ النسم
والقول فاسمع رعاك الله قول فتى ... على سوى الحق يا مولاي لم يقم
أمسيت جارك يا من لا يضام له ... جار وضيفك يا ذا الجود والكرم
ومنه في أسماء الولائم:
بوليمة سم كل دعوة مأكل ... بتقيد لكن لعرف أطلق
ولذي الختان فتك إعذار وما ... للطفل فهي عقيقة بتحقق
وسلامة الحبلى من الطلق اجعلا ... خرساً لها ولأجل غائب انطق
بنقيعة ووكيرة لعمارة ... ووضيمة لمصيبة بتصدق(2/7)
وسم اليتامى ما لها سبب بمأ ... دبة وخد يا صاح قول محقق
قلت: لا بأس بتصحيح ألفاظ هذه الولائم خوفاً من التصحيف: فطعام الختان إعذار وهو بالعين المهملة والدال المعجمة والراء، لأن العرب تقول عذرت الغلام إذا ختنته. وطعام المولود في اليوم السابع عقيقة، بعين مهملة وقافين وهو مشهور.
وطعام سلامة الحبلى من الطلق خرس، بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وبعدها سين مهملة، تقول العرب فيه: خرسه.
وطعام الغائب إذا قدم من سفره نقيعة بنون مفتوحة وقاف مكسورة وياء آخر الحروف ساكنة وعين مهملة مفتوحة.
وطعام الدار إذا فرغت عمارتها وكيرة بفتح الواو بعدها كاف وياء آخر الحروف وراء بعدها هاء.
وطعام المصيبة وضيمة بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة وبعد ها ياء آخر الحروف ساكنة وبعدها ميم وهاء.
والطعام بلا سبب مأدبة بفتح الميم وسكون الهمزة وضم الدال المهملة وفتح الباء الموحدة وبعدها هاء على وزن مأربة، فإن كانت المأدبة عامة فهي الجفلى بفتح الجيم والفاء واللام وبعدها ألف مقصورة، وإن كانت المأدبة خاصة لقوم بأعيانهم النقرى بفتح النون والقاف والراء وبعدها ألف مقصورة.
ومن شعر الشيخ فخر الدين في أسماء خيل الحلبة.
أسامي خيول الحلبة أعلم أنها ... لمن عدها عشر فخد قول واصف
مجل مصل قل مسل لثالث ... ورابعها التالي وخمس بعاطف
وسدس بمرتاح حظي مؤمل ... لطيم سكيت فاره غير خائف
وخذها على الترتيب والفسكل الذي يجيء أخيراً فاستمع قول عارف
قلت: لا بأس بتقييد أسماء خيل الحلبة ليؤمن فيها التصحيف: الأول: المجلي، بضم الميم وفتح الجيم وتشديد اللام.
والثاني: المصلي مثل اسم الفاعل من الصلاة.
والثالث: المسلي، بضم الميم وفتح السين وتشديد اللام.
والرابع: التالي، اسم فاعل من تلا يتلو.
والخامس: العاطف بالعين المهملة والألف والطاء المهملة والفاء.
والسادس: المرتاح، بضم الميم وسكون الراء وبعدها تاء ثالثة الحروف وألف وحاء مهملة.
والسابع: الحظي بفتح الحاء المهملة وكسر الظاء المعجمة وتشديد الياء آخر الحروف.
والثامن: المؤمل بضم الميم وفتح الهمزة وتشديد الميم وبعدها لام.
والتاسع: اللطيم بفتح اللام وكسر الطاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبعدها ميم.
والعاشر: السكيت تصغير ساكت، بضم السين المهملة وفتح الكاف مخففة وبعضهم يشددها، وسكون الياء آخر الحروف وبعدها تاء ثالثة الحروف، وبعض العرب تسمية الفسكل بكسر الفاء وسكون السين المهملة وكسر الكاف وبعدها لام.
وقد طول الشيخ فخر الدين رحمه الله تعالى في عد هذه العشرة، وقد نظمها بعض الأفاضل في بيتين وهما:
أتانا المجلي والمصلي بعده ... مسل وتال بعده عاطف يجري
ومرتاحها ثم الحظي ومؤمل ... وجاء اللطيم والسكيت له يبري
عثمان بن عمرو
ابن أبي بكر بن محمد، الملك العزيز فخر الدين بن الملك المغيث فتح الدين بن الملك العادل سيف الدين بن الملك الكامل ناصر الدين بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن محمد بن أيوب.
أجاز لي بخطه في القاهرة سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
سمع من مؤنسة بنت العادل وجماعة.
وحدث وجمع مجاميع بخطه الحسن. وكان ناظر البيمارستان القديم بالقاهرة.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء رابع عشر المحرم سنة خمس وثلاثين وسبع مئة.
ومولده بقلعة الكرك سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
عثمان بن محمد
ابن منيع بن عثمان بن شادي، شمس الدين بن البشطاري، بضم الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة وفتح الطاء المهملة وبعد الألف راء.
سمع من ابن رواج، والمرسي، وسمع منه شيخنا الذهبي.
وكان طيب النغمة يعرف الموسيقي موصوفاً بذلك.
توفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة. وعمل المؤذنون عزاءه بدمشق. وكانت وفاته بقوص.
ومولده بعد الأربعين وست مئة.
عثمان بن محمد بن عثمان
ابن أبي بكر، الشيخ المقرئ الفقيه الزاهد مفيد الديار المصرية، فخر الدين أبو عمرو المغربي التوزري، بفتح التاء ثالثة الحروف وسكون الواو وفتح الزاي وبعدها راء، المصري المالكي المجاور.(2/8)
سمع من ابن الجميزي، وسبط السلفي. ثم طلب بنفسه سنة نيف وخمسين وست مئة.
وتلا بالسبع على أبي إسحاق بن وثيق، والكمال بن شجاع. وقرأ صحيح مسلم على ابن البرهان. وأكثر عن المنذري، والرشيد بن عزون، وأصحاب البوصيري فمن بعدهم. قرأ مسند أحمد والمعجم الأكبر للطبراني والدواوين الكبار، وذكر أنه قرأ صحيح البخاري نحواً من ثلاثين مرة. وسمع بقراءته خلق كثير، وشيوخه نحو الألف.
ثم إنه أقبل على شانه، وعرف عواقب زمانه، فجاور بالبيت الحرام، وغني هناك بالحطيم عن الحطام، وتعبد في مثل ذاك المقام، وتهجد فيه والناس ينام، وحدث بالكثير، وكان صاحب أصول وله فهم خطير، ولديه محاضرة، وعنده مذاكرة ومسامرة، وخبرته بالقراءات متوسطه، ولكنها غير مغلطه.
ولم يزل على حاله إلى أن وصل بعد تسميعه إلى الفوت، وحسمت فوائده بمدية الموت.
وتوفي رحمه الله تعالى حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاثين وست مئة.
وكانت له إجازة من ابن المقير. وقرأ عليه شيخنا الذهبي بمنى أجزاء، وأخذ عنه الإمام عبد الله بن خليل والناس.
عثمان بن محمد
ابن عبد الرحيم، الإمام البارع قاضي القضاة فخر الدين أبو عمرو حفيد قاضي القضاة فخر الدين الحموي بن البارزي الشافعي.
لحق جده وأخذ عنه وعن عمه قاضي القضاة شرف الدين.
وكان ذا دين وصرامة، وسيرة مشكورة عند الخاصة والعامة، وكان يحفظ الحاوي ويفهمه، وينزل مسائله على الرافعي ويعلمه. وله إلمام كثير بنحو ابن مالك، وخوض كثير في تلك المسالك.
ولي قضاء حمص وما ساس نوابها، فما دخل معهم مدينة الحرمة ولا رأى بوابها. لا جرم أن القرماني ضربه، ولولا الإنابة قرمة، وألهب جمر غضبه عليه وضرمة. ثم إنه عاد إلى حماه، وأوى منها إلى حماه، وولي بها الخطابة، وجمع بينها وبين النيابة. ثم إنه تولى قضاء القضاة بحلب، وأماط عنها العدوان وسلب.
ولم يزل بها إلى أن مرض مدة وأفاق غير ناصح، ثم بعد مدة مات فجأة فما صح إلا أنه ما صح.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر صفر سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.
وحج غير مرة، وحدث بمسند الشافعي عن ابن النصيبي، وتفقه به جماعة.
وكان قد مرض مدة وأفاق، وتوضأ بعد ذلك في ويوم وجلس في مجلس حكمه ينتظر صلاة العصر فمات فجأة.
وكان بحمص والأمير سيف الدين أرقطاي بها نائب، فجرى بينهما يوماً كلام، فأساء الأدب على النائب، فصبر له واحتمله، ولما جاء القرماني إلى حمص نائباً جرى بينهما كلام، فأساء الأدب، فبطش به وضربه، وقال الناس: إنما ضربه الحاج أرقطاي.
وكان توجهه إلى حلب قاضياً في أوائل الحجة سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
عثمان بن محمد بن علي
فخر الدين أبو عمرو البزاز مفتي الثغر.
عثمان بن محمد بن عبد الملك
ابن عيسى بن درباس، فخر الدين الماراني القاهري.
سمع من أبيه، وحدث. وكان مقبول القول عند القضاة، وإذا فتح فمه بالشعر قلت: هذا سيف قد انتضاه. وهو من بيت حشمة وقضاء، وقبول عند الناس وارتضاء.
لم يزل على حاله إلى أن سكن منه النفس، وأصبح فيما بين عم يتساءلون وعبس.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم عاشوراء سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وأربعين وست مئة.
ومن شعره:
كيف المقام بدار لا أراك بها ... وأي معنى لمغنى لم تكن فيه
يفديك بالروح صب لو حصلت له ... وفاته كل شيء كان يكفيه
عثمان بن محمد لؤلؤ
الأمير فخر الدين بن الأمير شمس الدين لؤلؤ.
كان أحد الأمراء الطبلخانات بدمشق، جهزه الأمير سيف الدين تنكز إلى صفد مشد الدواوين ووالي الولاة عوضاً عن الأمير علاء الدين بن المرواني، فأقام بها سنتين فأكثر، وطلب الإقالة، فتوجه إلى دمشق وأقام بها أميراً إلى أن توجه ابن المرواني إلى مصر، فولاه تنكز مكانه في ولاية البر في أول شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، فأقام بها مدة إلى أن مرض وطلب الإقالة فأقيل.
وتوفي رحمه الله تعالى بعد ذلك بعشرة أيام في رابع شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة.(2/9)
وكان أميراً من خمس عشرة سنة. وكان خيراً ديناً عاقلاً وقوراً، فيه حشمة وعقل وأدب، وكان يقيم الثلاثة الأيام والأربعة ما يشرب فيها ماء، ويعمل بيده عدة صنائع ويزركش ويطرز ويعمل الكشاتوين.
عثمان بن يعقوب
ابن عبد الحق، السلطان أبو سعيد المغربي المريني، صاحب مراكش وفاس وغير ذلك.
كان ذا حلم، وركون إلى السلم، فأهمل أمور الجهاد، فامتلأت عليه بالوبال الربا والوهاد، وامتدت أفنان الفتن، وجرى وبل الوبال وهتن. وعلا في أيامه أمر الغلاء، وكادت سنوه تجري على الولاء. إلا أنه كان له نظر في العلوم، واتصاف يدخل به في ذوي الفهوم.
ولم يزل في إنكاد إلى أن كاد يفارقه الملك، ويقع في ورطات، يرمي بنفسه إلى الهلك، إلى أن جاء الأمر الذي لا يدفع، ولا يرده صاحب ولا يمنع.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. وله بضع وستون سنة.
كانت دولته اثنتين وعشرين سنة، وملك أخوه يوسف قبله خمساً وعشرين سنة، لكن بينهما الملكان عامر وسليمان، وخالف على عثمان ابنه عمرو، وملك سجلماسة، وجرت في ذلك أمور يطول شرحها.
وملك بعد عثمان ولده الفقيه العالم السلطان العادل أبو الحسن علي، الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في مكانه.
عثمان بن يوسف
ابن أبي بكر، القاضي المحدث الفقيه الورع الصالح فخر الدين أبو محمد النويري المالكي.
صحب والده القدوة الزاهد علم الدين، وتفقه به وبجماعة، وأفتى ودرس، وكان كثير الحج والمجاورة والتأله والصدق والإخلاص.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
عثمان أبو عمرو
الصعيدي، الحلبوني: بفتح الحاء المهملة، وسكون اللام، وضم الباء الموحدة، وبعدها واو ساكنة، ونون، الشيخ الصالح العابد.
كان فيه صدق وتأله، وتؤثر عنه أحوال وتوجه وتأثير. أقام مدة ببعلبك، ومدة ببرزة.
وكان قانعاً متعففاً، ترك أكل الخبز مدة سنين عديدة، وقال إنه يتضرر بأكله.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع عشري شهر المحرم سنة ثمان وسبع مئة، وطلع الأفرم والقضاة والناس إلى جنازته.
عثمان بن أبي النوق
فخر الدين المغربي.
كان له قدرة على الارتجال، والبديهة التي يعجز عنها رجاء الرجال، يكاد أنه لا يتكلم في جميع محاوراته إلا بالشعر الموزون، والنظم الذي يفرح به المخزون، ولما وصف لي بذل هونت أمره، وقلت: يكون ممن يورد تمرة وجمرة، فما كان إلا أن رأيته بالجامع الأموي في ليلة نصف شعبان وهو واقف ينضض بلسانه مثل الثعبان والناس في ذلك الأمر المريج، وكأن صحن الجامع بذلك الوقيد أزاهر الروض البهيج، فقلت له: يا مولانا أنشدنا شيئاً من شعرك، واقذف لنا قليلاً من لآلئ بحرك، فأنشدني من وقته في الحالة الراهنة أبياتاً جملة، أتى بها سرداً من أول وهلة، كأنما كان قد بيتها لذلك، أو سهر فيها ليلة الحالك، ومعناها تشبيه ذلك الوقيد والاشتعال، ووصف ما للناس به من الاحتفال والاشتغال، وتشبيه القومة وحركاتهم، وترقيهم في درجاتهم، وانحطاطهم في دركاتهم، بحيث لو وصف في ذلك لما صدقت، ولا ارتمى بي الظن إلى ذلك ولا حلقت، فما كدت أقضي عجبي منه، ووددت أنني لم أنفصل عنه. ثم إنني اجتمعت به بعد ذلك في جامع حلب، وكان الأمر على ذلك الأنموذج الذي مضى وذهب.
وأخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: رآني مرة وبين يدي كتاب له فاتحة ذهب، فأنشدني كأنه يتحدث:
أراك تنظر في شيء من الكتب ... وفي أوائلة شيء من الذهب
لو شئت تصرف نقداً من فواتحه ... صرفت منه دنانيراً بلا ريب
قال: فوهبته الكتاب، وأنشدته:
خذه إليك بما يحوي من الذهب ... ففي ندي السحب لا يخشى من اللهب
واضمم يديك عليه لا تمزقه ... فإنه ذهب من معدن الأدب
قال: وكتب إلي يتقاضاني عليقاً لفرسه، وشيئاً ينفقه:
دموع كميتي على خده ... من الجوع يطلب مني العلف
وليس معي ذهب حاضر ... ولا فضة وعلي الكلف
ولي منك وعد فعجل به ... فمن أنجز الوعد حاز الشرف
ودم وتهن بشهر الصيا ... م بوجه يهل وكف تكف
فبعثت إليه الشعير والنفقة، وكتبت إليه الجواب:(2/10)
مسحت بكمي دموع الكميت ... وقلت له قد أتاك العلف
ووافى إليك جديد الشعير ... لعل يداوي سقام العجف
وفي كم سائقه صرة ... تسر لتخفيف ثقل الكلف
فإياك تحسبها للوفا ... فإني بعثت بها للسلف
وكان يقص ما ينظمه في الورق قصاً مليحاً محكماً جيداً بالنقط والضبط، ولكن أوضاعه على عادة المغاربة في كتابتهم.
ونقلت من قصة قوله:
إلى الحر الحسيب إلي علي ... علاء الدين ذي الحسب العلي
إلى من جوده عم البرابا ... وفاق مكارماً لكريم طي
إلى من قدره فاق البرايا ... وزاد علاً على الأفق السمي
وكان اجتماعي به في الجامع الأموي سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، أو في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، واجتماعي به في حلب سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، وتركته وهو يعمل مجلساً يفسر فيه القرآن، وكان ذلك آخر عهدي به.
عثمانالمعروف بالدكالي
بضم الدال المهملة، وكاف بعدها ألف، ولام، الصوفي، من فقراء الشميساطية.
كان يتردد إلى الناس، ويجتمع بطائفة من العوام والأدناس، فاستخف منهم جماعة، وألقى إليهم من الكلام ما ذكره للزمان أضاعه، وسلك بهم شيئاً من الطرائق الباجربقية، فإنه كان عنده منها بقية غير نقية ولا تقيه، وقال لهم: أنا أدلكم على الطريق إلى الله عز وجل، وخالف القواعد الشرعية فضل أو أضل، وتبعه شرذمة قليلة، وطائفة أذهانهم عن قبول الصواب كليله.
ولم يزل على حاله، واستمراره على غيه وضلاله، إلى أن فصل السيف رأسه من بدنه، وأراح الناس من فتنه، وذلك في حادي عشري القعدة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ولما شاع أمره أمسك واعتقل، وأحضر في دار العدل ثلاث مرات في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وأدوا عليه شهادات عجيبة، ولم يعترف بشيء، ولما كان يوم الثلاثاء أحضر في زنجير وبلاس شعر، وحضر الشيخ جمال الدين المزي والشيخ شمس الدين الذهبي وجماعة، وشهدوا عليه بالاستفاضة عنه أنه قال ما ادعي عليه به، فحكم قاضي القضاة شرف الدين المالكي بإراقة دمه، فضربت رقبته في سوق الخيل، ولم يكن ذلك رأي النائب ألطنبغا ولا رأي قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، ولكن أمر الله تعالى نفذ فيه.
حكى لي قاضي القضاة تقي الدين، رحمه الله تعالى قال: قال لي الأمير علاء الدين ألطنبغا: لما كانت ليلة الثلاثاء فكرت في أنهم يحضرون عثمان الصوفي وأبتلش بأمره، وقصدت دفع أمره عني، فقلت: غداً ما أعمل دار عدل، وأركب بكرة وأروح، فلما أصبحت أرسل الله عليه النوم، فنمت إلى أن طلع النهار وتعالى، فدخلوا إلى وقالوا: إن القضاة والحجاب والجماعة حضروا وهم في انتظارك، فالتزمت بعمل دار العدل ذلك النهار، أو كما قال.
وحكى لي هو عن نفسه، رحمه الله تعالى قال: أردت وأنا خارج من دار السعادة أن أقول لنقيب المتعممين أن يتوجه إليهم ويقول لهم ألا يعجلوا في أمره، فأنساني الله ذلك إلى أن فرط فيه الأمر، أو كما قال.
ولم أر أنا أثبت جناناً منه ولا أملك لأمر نفسه، لأنني كنت حاضرة أمره في الثلاثة أيام.
عثمان المعروف بابن علم
ابن الإمام العالم القاضي فخر الدين المعروف بابن علم.
كان شيخاً فقيهاً محدثاً، له اشتغال بالقاهرة وتحصيل، وولي قضاء الخليل مدة، ثم تركه لولده وسكن الرملة، وكان له بها ميعاد وحلقة إشغال، وله معلوم على ذلك.
توفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين سلخ المحرم سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
وهو والد القاضي برهان الدين قاضي الخليل.
وكانت وفاة فخر الدين بالخليل ودفن بمقبرة البلد.
عثمان المعروف بالقريري
الشيخ المنيني الصالح المعروف بالقريري، بضم القاف وفتح الراء الأولى، وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة وراء ثانية مكسورة.(2/11)
كان رجلاً مباركاً صالحاً. لما اشتد الأمر بأهل بعلبك زمن غازان، وكانت بعلبك مفتوحة الأبواب، فلما نازلها بولاي غلقت أبوابها، قال القاضي محيي الدين بن فضل الله: فتوجهنا لزيارته، فوجدنا قطب الدين اليونيني خارجاً من عنده، فقال لنا: دخلت على الشيخ فلم يكلمني ووجدته مفكراً، فلم أجلس، والرأي أن ترجعوا، فإن هذا رجل له بادرة فقلنا: لا بد أن ندخل فدخلنا، قال: فالتفت إلي وقال: يا محيي الدين، لأي شيء غلقتم أبواب المدينة؟ فقلت له: يا سيدي، خوفاً من بولاي، فإنه قد جاء ونزل عليها، وربما أنه يريد أن يحاصرها، قال: فغضب الشيخ غضباً شديداً، واحمرت عيناه، وجثا على ركبتيه، وطلعت الزبدة من فيه، حتى ظنناه سبعاً يريد أن يفترسنا، وبقي على هذه الحالة هنية، ثم قال: وغزة العزيز، طرشهم رجل طرشة بدد شملهم. وفتح يديه يمنة ويسرة ثم سري عنه. وقال: قل لهم يا محيي الدين أن يفتحوا الأبواب: قال: فقمنا وفعلنا ما قال، فباكرنا الخبر في اليوم الثالث برحيل غازان عن دمشق في الساعة التي قال فيها الشيخ عثمان ما قال.
وتوفي الشيخ القريري في سنة ثمان وسبع مئة.
الألقاب والأنساب
ابن العجمي: الخطيب شمس الدين أحمد بن عبد الرحمن. وأخوه الشيخ عز الدين عبد المؤمن. وشمس الدين أحمد بن محمد.
شمس الدين العجمي: عبد اللطيف بن خليفة.
وكمال الدين بن العجمي: عمر بن محمد.
وابن العجمي الحنفي المدرس بالإقبالية: محمد بن عثمان. وشهاب الدين بن محمد بن عبد الرحمن. وبهاء الدين يوسف بن أحمد. وتاج الدين يوسف بن إسماعيل.
عدنان بن جعفر
ابن محمد بن عدنان الشريف، شرف الدين بن الشريف أمين الدين بن محيي الدين الحسيني بن أبي الجن نقيب الأشراف بدمشق.
تقدم ذكر والده وعمه، وسيأتي ذكر جده في المحمدين إن شاء الله تعالى.
لبس تشريفه عوضاً عن والده بطرحة في تاسع شعبان سنة أربع عشرة وسبع مئة وهو شاب، فقدم على غيره لعقله وفهمه وأهليته لذلك.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في عشية الأربعاء تاسع عشري المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقابرهم عند مسجد الذبان ظاهر دمشق وعمره اثنتان وأربعون سنة.
الأنساب والألقاب
ابن عدلان: محمد أحمد.
ابن العديسة: محمد بن علي.
ابن العديم: عبد العزيز بن محمد. وناصر الدين محمد بن عمر بن عبد العزيز.
ابن عرام: بهاء الدين أحمد بن أبي بكر.
ابن بنت العراقي: عبد الكريم بن علي.
العزازي التاجر الشاعر: أحمد بن عبد الملك. وبدر الدين محمد بن عثمان. وولده فخر الدين عثمان بن أبي الوفاء.
ابن العز الحنفي: محمد بن محمد، وجمال الدين يوسف بن محمد.
ابن العز عمر: بهاء الدين علي بن عمر.
ابن العسال: أمين الدين فرج الله بن أسعد. وصلاح الدين يوسف بن أسعد.
بنو عساكر: جماعة منهم: شرف الدين أحمد بن هبة الله. وفخر الدين إسماعيل بن نصر الله. وبهاء الدين القاسم بن مظفر. وبدر الدين محمد بن الحسين.
ابن عسكر المالكي: عبد الرحمن بن محمد.
العسقلاني: بهاء الدين عبد الله بن محمد.
العشاب المحدث: أحمد بن محمد.
ابن عصية قاضي بغداد: أحمد بن حامد.
ابن أخت ابن عصفور: محمد بن أحمد.
أبو عصيدة صاحب تونس: محمد بن يحيى.
عضد
بالعين المهملة المفتوحة، والضاد المعجمة المضمومة، والدال المهملة، الشريف الخواجكي، المعروف بابن قاضي يزدكان، أحد خواجكية القان بوسعيد.(2/12)
أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله قال: أخبرني الخواجا مجد الدين إسماعيل السلامي، أن المذكور كان فيه تسلط على الوزير ومن حول السلطان، ففكروا في إبعاده، وحسنوا لبوسعيد أن يجهزه رسولاً إلى الهند إلى السلطان محمد بن طغلق، قال: فجهزه، فلما وصل إليه أقبل عليه، وكان يقربه ويدينه ويؤثر كلامه ويسامره، وأعطاه شيئاً كثيراً إلى الغاية، ولما كان في بعض الأيام، قال له: ادخل إلى الخزائن، فدخلوا به إليها وعرضوها عليه. وقالوا: أمرنا السلطان أنك مهما أردت وأعجبك منها تأخذه، فأخذ من جميع الخزائن مصحفاً، فحكوا ذلك للسلطان، فأحضره وأنكر عليه ذلك، فقال: السلطان قد أغناني بإحسانه عن جميع ما رأيت، ولم يكن لي غنى عن كلام الله تعالى، فأعجبه ذلك منه، وأمر له بألف ألف دينار فحملت إليه. ولما عاد وقارب البلاد بلغ الوزير الخبر، فحسنوا لبوسعيد أن يجعل أحمد أمير ألكة بفتح الهمزة واللام والكاف وبعدها هاء ومعناه أن يكون له الحكم حيث حل من المملكة، وأن يفعل ما أراد، فتوجه المذكور إلى أطراف مملكة بوسعيد وتلقى الشريف عضد، وأخذ منه مبلغ مائتي ألف دينار، وضرب منها أواني، وقدم بعضها لبوسعيد أو كما قال.
عطاء الله بن علي
ابن زيد بن جعفر، الفقيه نور الدين بن الثقة الحميري الأسنائي.
كان فقيها فرضياً، عدلاً مرضياً، من كبار الصالحين، والأولياء الناجحين، انقطع ستين سنة في مكان، لا يخرج منه إلا للصلاة إذا سمع الأذان، ولا يملك شيئاً من الدنيا، ولا يرغب إلا فيما في المنزلة العليا.
ولم يزل على حاله إلى أن خانت الليالي لابن الثقة، وحانت من المنايا صعود العقبة الزلقة.
فتوفي رحمه الله تعالى بأسنا في سنة ثماني عشرة وسبع مئة. ووقع يوم موته مطر عظيم.
قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: أخبرت أنه قال: أنا أموت في هذا النهار، فإن والدتي أخبرتني أنني ولدت في يوم مطر عظيم.
وقال: أخبرني جماعة أنه لما قدم نجم الدين بن ملي إلى أسنا اجتمع به وتكلم معه في الفرائض والجبر والمقابلة، فقال: ما ظننت أحداً في كيمان الصعيد بهذه المثابة.
وكان رحمه الله تعالى سليم الصدر جداً، قال: قال لي صاحبنا علاء الدين الأصفوني: قلت له مرة: يا سيدنا، أبو بكر المؤذن طلق زوجته، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قلت له: لكن صارت بكراً كما كانت، فضحك وقال: فتبول من أين؟ وجمع دراهم ليحج بها، وأقام سنين يجمعها فسرقت، فقصد الوالي أن يمسك إنساناً بسببه فلم يوافق.
قال: وحكي لي عنه أنه كان يقول: الجن فلي الليل يمسكون إصبعي، ويقولون: هذا إصبع عطاء الله! وأخذ علمه من الشيخ بهاء الدين هبة الله القفطي، وأقام بالمدرسة الأفرمية التي بأسنا ستين سنة تقريباً منقطعاً لا يخرج إلا للصلاة في مسجد له أو لضرورة، وليس عنده إلا عمامة وفوقانية طاقية وفروة وشملة.
الألقاب
ابن العطار: جماعة منهم: شرف الدين إبراهيم بن أحمد. كمال الدين كاتب الإنشاء أحمد بن محمود. والشيخ علاء الدين بن العطار علي بن إبراهيم بن داود. وبدر الدين محمد بن أحمد.
ابن عطاء السكندري
تاج الدين أحمد بن محمد.
ابن عطايا
سعد الدين الوزير محمد بن محمد.
الشريف عطوف محمد بن علي.
ابن عطية عطية بن إسماعيل.
عطية بن إسماعيل
ابن عبد الوهاب بن محمد بن عطية بن المسلم بن رجا اللخمي الإسكندراني المالكي، العدل الكبير جمال الدين أبو الماضي بن مكين الدين.
سمع كرامات الأولياء من مظفر بن الفوي، وتفرد بذلك. وكان والده من أصحاب الصفراوي وجده، وروى عن الحافظ ابن المفضل، وجدهم عطية أخو أحمد يروي عن أبي بكر الطرطوشي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة، وقد زاد على الثمانين أشهراً.
الألقاب
ابن العفيف: الكاتب محمد بن محمد.
أولاد ابن عقبة: جماعة منهم: القاضي صدر الدين إبراهيم بن أحمد بن عقبة. وصدر الدين يعقوب بن إبراهيم.
العقيمي: جمال الدين عمر بن إبراهيم.
علي بن إبراهيم
ابن الخطيب يحيى بن عبد الرزاق بن يحيى، العدل المسند مؤيد الدين أبو الحسن الزبيدي بضم الزاي، المقدسي، ثم الدمشقي، ابن خطيب عقربا.(2/13)
سمع من جده، ومن الناصح ابن الحنبلي، وابن غسان، والإربلي، وابن اللتي، والقاضي ابن الشيرازي، وسالم بن صصرى، ومحمد بن نصر القرشي، وحج فسمع بالمدينة من النجم بن سلام.
كان ديناً متواضعاً، ولي مخزن الأيتام. وناب في نظر الجامع وغير ذلك، وشهد على القضاة.
توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى وعشرين وست مئة.
علي بن إبراهيم بن داود
الشيخ الإمام المفتي المحدث الصالح، بقية السلف، علاء الدين أبو الحسن بن الموفق بن الطبيب الشافعي، شيخ دار الحديث النورية، ومدرس القوصية والعلمية.
حفظ القرآن، وسمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وعبد العزيز بن عبد، والجمال ابن الصيرفي وابن أبي الخير، والمجد محمد بن إسماعيل ابن عساكر، والعماد محمد بن صصرى، وابن مالك شيخ العربية، والشمس ابن هامل، وأبي بكر محمد بن النشبي، وخطيب بيت الآبار، ومحمد بن عمر، والقطب ابن أبي عصرون، وأحمد بن هبة الله الكهفي، والكمال بن فارس المقرئ، والشيخ حسن الصقلي، والفقيه زهير الزرعي، والقاضي أبي محمد بن عطاء الأذرعي، ومدللة بنت الشيرجي، وإلياس بن علوان المقرئ وغيره.
وسمع بمكة من يوسف بن إسحاق الطبري، وأبي اليمن بن عساكر. وبالمدينة من أحمد بن محمد النصيبي. وبالقدس من قطب الدين الزهري. وبنابلس من العماد عبد الحافظ. وبالقاهرة من الأبرقوهي، وابن دقيق العيد.
وعمل له شيخنا الذهبي معجماً بلغ أشياخه فيه مئتين وسبع وعشرين شيخاً.
وسمعه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني بقراءته سنة سبع وتسعين، وابن الفخر، وابن المجد، والمجد الصيرفي، والبرزالي، والمقاتلي.
وكان فقيهاً أفتى ودرس، وركب الجادة في العلم وألج وعرس، وجمع وصنف، ونسخ الأجزاء وألف، ودار مع الطلبة ووطف. وكان فيه زهد، وورع بلغ الجهد، وتعبد وأمر بالمعروف على زعارة أخلاقه، ومرارة في مذاقه. وكان قد صحب الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى، واشتعل ذهنه عليه اشتعالاً، وتفقه عليه، وحفظ التنبيه بين يديه. وكان له محبون وأتباع، وسوق نافقة فيها تطلب وتباع.
وأصيب رحمه الله تعالى بالفالج سنة إحدى وسبع مئة، وكان يحمل في محفة، ويكون فيها جالساً مرفه، ويدار به كذلك إلى الجامع والمدارس، ويمارس حامله ما يمارس.
ولم يزل على حاله إلى أن التقى عمله، وأعطاه الله من جوده أمله.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل ذي الحجة سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده يوم الفطر سنة أربع وخمسين وست مئة.
رأيته غير مرة ولم أسمع منه، لكن حصلت بركة رؤيته لا روايته.
وعقد يوماً مجلس بمشهد عثمان في أيام الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى فطلب العلماء والفقهاء، وغص المجلس بالأعيان، فما كان إلا أن جاء الشيخ علاء الدين بن العطار وقد حمله اثنان في محفته على عادته، فلما رآه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وقد دخلا به، قال: أيش هذا؟ من قال لكم تأتون بهذا، ورده تنكز إلى برا، وجلس خارج الشباك، إلا أن ابن الزملكاني لحق كلامه بأن قال: قنا لكم تحضرون العلماء، ما قلنا لكم تحضرون الصلحاء.
قلت: على كل حال كسر خاطره.
وكان يكتب بيده اليسرى. وكان قد حج غير مرة، وكان في شهر ذي القعدة سنة أربع وسبع مئة تكلم الشيخ شمس الدين بن النقيب وجماعة في بعض الفتاوي الصادرة عن الشيخ علاء الدين بن العطار، وأن فيها تخبيطاً ومخالفة لمذهب الشافعي، وأنه ينبغي للفقهاء والقضاة النظر في ذلك، وتوجهوا إلى الحكام، فحضر جماعة إلى ابن العطار وقالوا: إنهم قد هيؤوا شهادات يشهدون بها عليك، فبادر هو إلى القاضي الحنفي، وصورت عليه دعوى، فحكم بإسلامه وحقن دمه وبقاء جهاته عليه، ونفذ حكم ذلك، فلامه أصحابه على عجلته، فأحال الأمر على من نقل ذلك فأنكروا، ووصلت القضية إلى الأفرم فأنكر ذلك، وغضب لحصول الفتن بين الفقهاء، وأحضر ابن النقيب وجماعة، ورسم عليهم بالقصر أربع ليال، وأحضروا بدار العدل وسوعدوا، فأطلقوا بعد ذلك.
علي بن إبراهيم التجاني البجلي
أخبرني العلامة أثير الدين قال: المذكور أستاذ بتونس يقرأ عليه النحو والأدب، قدم علينا حاجاً، وأنشدنا بالقاهرة لنفسه:
إن الذي يروي ولكنه ... يجهل ما يروي وما يكتب(2/14)
كصخرة تنبع أمواهها ... تسقي الأرض وهي لا تشرب
قال: وأنشدنا وكان الممدوح قد وهبه مالاً عوناً على الحج:
يا سيداً قامت لدهري به ... على الذي تعتبه الحجة
جودك للناس ربيع ولي ... منه ربيعان وذو الحجة
علي بن إبراهيم بن عبد المحسن
ابن قرناص علاء الدين الخزاعي الحموي الشافعي، ابن قرناص.
أخذ عن جماعة، ونسخ، وقرأ على الشيوخ ولم يكثر. سمع بمصر من ابن خطيب المزة، وبدمشق من شرف الدين بن عساكر.
وكان فصيح القراءة، قيل الدربة بالرجال، وله نظم.
توفي رحمه الله تعالى ثالث عشر جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وسبع مئة بدمشق.
ومولده سنة أربع وخمسين وست مئة.
ومن شعره...
علي بن إبراهيم بن علي
ابن معتوق بن عبد المجيد بن وفا، علاء الدين أبو الحسن الواسطي الأصل البغدادي المنشأ، الواعظ المعروف بابن الثردة، بالثاء المثلثة والراء والدال.
قدم إلى دمشق مرات ووعظ بها، وأخذ من فضتها وذهبها، ولكنه في المرة الأخيرة تغيرت حاله، وتغبت سماء عقله وغزاله، فالتحق بعقلاء المجانين، وسلك من الهذر في أفانين، وكان يثوب إليه عقله في بعض الأوقات، وتكون منادمته ألذ من الأقوات، فينشد الأشعار الرائقة له ولغيره، ويبذر الحب لسقوط طيره، ثم يعاود الاختلال والاختلاط، وينخل، إذ ينخل من الرباط. رأيته في هذه الحالة وهو يجاري القاضي شهاب الدين بن فضل الله بيتاً فبيتاً، ويسبق إلى نظم البيت حتى إخاله كميتاً.
وابتدأ بعمل كارة صغيرة يحملها تحت إبطه، ويجتهد عليها بكل جهده وضبطه. وهو يزيدها في كل يوم مما يراه مطرحاً في الطرق، إما خيطاً أو حبلاً ويديره عليها كالنطق، وتلك في كل يوم تنمو وتزيد، وهو يقاسي من حملها العذاب الشديد، حتى إنه يكون في الطهارة وهو يكابد حملها، وما ينكر حملها. ولما كان آخر وقت ضعف عن حملها فألقاها، وعجز عن ضمها ومعالجة شقاها.
وأصبح ابن الثردة طعام الدود، وشخصه المنتصب وهو تحت الأرض ممدود.
وتوفي رحمه الله تعالى بالبيمارستان النوري في أول شهر ربيع الآخر سنة خمسين وسبع مئة.
وسألته عن مولده، فقال: في ثاني عشري شعبان سنة سبع وتسعين وست مئة.
وكان في هذا الاختلاط يدعي أنه كانت له ببغداد كتب تقدير الألفي مجلد، وأن جماعة من التجار الذين قدموا إلى دمشق اغتصبوها وأخذوها منه، ولم يلق من يساعده على ذلك.
وكان ذلك من مخيلة السوداء، فساءت حاله وأضرت به، وأخذه الولع الزائد في هذه الكارة، ويطلبها الناس منه فيقول: لو دفع لي فيها ألف دينار ما أبعتها. وكان قد أتى إلى بعض الحكام وادعى عنده، وهو في هذه الحالة، على التجار الذين أخذوا كتبه، فقال له القاضي: يا شيخ علاء الدين، قولك دعوى، ألك بينة تشهد بذلك؟ فقال له: كيف يكون لي بينة، وقد صفعوك منها بمئتي مجلد، يعني دفعوها برطيلاً، فضحك القاضي والحاضرون منه.
وعلق عني أشياء من نظمي، وعلقت عنه. وقال لي يوماً: أنشدني هذين البيتين اللذين لك في الجناس، وأنا قد حفظتهما، ولكن أشتهي أسمعهما منك لأرويهما بالسماع. فأنشدته لنفسي:
أتاني كتاب فيه أن محبتي ... تلاشت كما قيل أي تلاشي
فيا قبح ما قد ضم جانب طرسه ... فضائح واش في فضاء حواشي
وكان إذا دفع إليه أحد شيئاً من دراهم أو غيرها يقول: من أنت؟ أظن عندك شيء من كتبي، فأنت تبرطلني على ذلك. ولا يقبل لأحد شيئاً.
وكنت أراه فأتألم لحاله، وأتوجع لما أصابه. وكنت أخضع له وأتذلل وأعطيه شيئاً قليلاً من الدراهم، فيقول: يا مولانا، والله لا أريد شيئاً من مالك. فأقسم عليه وأقول: لا بد من ذلك، فأنا محبك وراوية شعرك. فيأخذ من عرض ذلك درهماً واحداً، ولا يزيد على ذلك. فعله مرات.
وكتب، وهو في هذه الحالة، قصة للأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نظماً، نقلت ذلك من خطه، وهي:
يا نائب السلطان لا تك غافلاً ... عن قتل قوم للظواهر زوقوا
قوم لهم وقع وذكر في الورى ... ويرى عليهم في المهابة رونق
وإذا رأوا شيئاً عليه تحيلوا ... في أخذه وتأولوا وتملقوا
ما هم تجار بل لصوص كلهم ... فأمر بهم أن يقتلوا أو يشنقوا(2/15)
المين دأبهم إذا ما حدثوا ... ما فيهم من في كلام يصدق
مرقوا من الدين الحنيف بأسرهم ... كالسهم ظل من الرمية يمرق
كم أستغيث وكم أضج وأشتكي ... منهم إليك وكم لقلبي أحرقوا
سدوا علي الطرق بغياً منهم ... أني اتجهت وللأعادي أذلقوا
وأتوا بمالي من لآمة طبعهم ... نحو الشآم وبينهم قد مزقوا
وأراك لا تجدي إليك شكاية ... إلا كأنك حائط لا ينطق
ماذا جوابك حين تسأل في غد ... عنهم ورأسيك من حيائك مطرق
ما أنت راع والأنام رعية ... وإذا ركبت، لك الملوك تطرق؟
كن منصف المظلوم من غرمائه ... فالبغي مصرعة وفعل موبق
واكشف ظلامة من شكا من خصمه ... فالحق حق واضح هو مشرق
لا تعف عن قوم سعوا لفسادهم ... في الأرض بغيا منهم وتجوقوا
وانصب لهم شرك الردى إن أنجدوا ... أو أتهموا أو أشأموا أو أعرقوا
لا تنبرق منهم وإن هم أسرجوا ... أو ألجموا أو أرعدوا أو أبرقوا
ومتى ظفرت بمفسد لا تبقه ... فبقاؤه للناس ضر مقلق
واكفف أكف الظالمين عن الورى ... ليكف عنك الله شراً يطرق
لا زلت سيفاً للأعادي قاطعاً ... ورؤوسهم مهما حييت تحلق
وبقيت في مجد رفيع لا يهي ... وبنود نصرك عاليات تخفق
علي بن إبراهيم بن عبد الكريم
تاج الدين الكاتب المصري.
كان رجلاً عاقلاً، كثير السكون، فيه لطف وتودد إلى الناس. يعرف بكاتب قطلوبك، لأنه كان كاتب الأمير سيف الدين قطلوبك الكبير.
ولم يزل في الخدم الديوانية. وهو والد الشيخ الإمام العالم القاضي فخر الدين المصري الشافعي، الآتي ذكره في المحمدين إن شاء الله تعالى.
توفي في العشرين من شعبان سنة خمس وثلاثين وسبع مئة بالعادلية عند ولده المذكور، ودفن بمقبرة الباب الصغير ظاهر دمشق.
علي بن إبراهيم بن خالد
الأمير علاء الدين بن جمال الدين.
كان قد باشر ولاية دمشق هو وأبوه.
وتوفي رحمه الله تعالى بقرية من قرى حوران في سابع عشري شهر رجب الفرد سنة عشرين وسبع مئة.
قال شيخنا علم الدين: رأيت سماعه على القاضي شمس الدين بن عطا الحنفي في سنن أبي داود. ويعرف بابن النحاس.
علي بن أحمد بن عبد الدائم
ابن نعمة بن أحمد، الشيخ أبو الحسن المقدسي الصالحي، قيم جامع الجبل.
سمع من البهاء عبد الرحمن، وابن صباح، وابن الزبيدي، وابن غسان، ومكرم، والإربلي، وأبي موسى الحافظ، وجماعة بدمشق، ولزم جعفر الهمداني.
كان رجلاً عابداً، فقيراً لأهوال هذه الدنيا مكابداً. ابتلي فصبر، وثبت على البلاء لما اجتاز به وعبر، وانقطع لما حصل له الزمانة، وشكر الله وما ذم زمانه.
وكان لا يبرح يتلو في المصحف بين يديه، ويتلو كل يوم ختمة يقدمها بين يديه. ودخل عليه التتار لما فتحوا الباب، وحموا له سيخاً ووضعوه في فرجه فمات في العذاب.
وكانت وفاته رحمه الله تعالى في العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة عن ثمانين سنة.
علي بن أحمد بن عبد المحسن
ابن أحمد، الإمام الفقيه، العالم، المحدث، المسند، بقية المشايخ، تاج الدين أبو الحسن العلوي الحسيني الغرافي، بالغين المعجمة والراء المشددة وبعد الألف فاء، الإسكندري الشافعي، المعدل.
سمع في الخامسة من ابن عماد وطائفة، وببغداد من أبي الحسن القطيعي، وابن بهروز، وابن القبيطي، وجماعة.
وسمع منه شيخنا الذهبي جماعة أجزاء، وانتقى عليه عوالي، وخرج لنفسه ولغيره، وحمل عنه المغاربة والرحالون، وحدثوا عنه في حياته.
وكان قد سمع من ظافر بن شحم، وابن حاتم، وعلي بن جبارة.
كان له بالحديث أنس وعناية، ومعرفة بقوانين الرواية، وكان فقيهاً نبيهاً، وفاضلاً في بلده وجيهاً. وكتابته حسنة سريعة، وإذا ألقى الطرس من يده تراه روضة مريعة.
ولم يزل على حاله إلى أن لبى من دعاه، وجاء إلى البلاد من نعاه.(2/16)
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع ذي الحجة سنة أربع وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وعشرين وست مئة.
وكان شيخ دار الحديث التي أنشأها نبيه الدين بن الأبزاري بثغر الإسكندرية.
علي بن أحمد بن جعفر
ابن علي بن محمد بن عبد الظاهر بن عبد الولي بن الحسين بن عبد الوهاب بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن يوسف بن يعقوب بن محمد بن أبي هاشم بن داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، الشيخ كمال الدين الهاشمي الجعفري القوصي، نزيل إخميم، المعروف بابن عبد الظاهر.
سمع من الشيخ أبي الحسن علي بن هبة الله بن سلامة، ومن شيخه مجد الدين بن دقيق العيد، وأجازه بالتدريس على مذهب الشافعي.
وصحب الشيخ علي الكردي، وقدم عليهم قوص، فاجتمع عليه الشيخ تقي الدين بن دقيق العبد والشيخ جلال الدين الدشناوي والشيخ كمال الدين هذا، وعبد الخالق بن الفقيه نصر، ولازموا الذكر بمسجد جلال بقوص.
وكان الشيخ كمال الدين هذا قد أصبح شيخ دهره، وأوحد عصره. قد جمع بين العلم والعمل، وبلغ من الصلاح كل أمل. وظهر له من الكرامات ما أخجل الشمس إذا حلت دارة الحمل. وانتشر ذكره، وصدق خبره خبره. وحكى الناس عنه أموراً في الصلاح لم تحك عمن سواه من أهل ناحيته، ولا رواها الرواة عمن هو في دائرته. وكان يحضر السماع، ويخلع فيه على الأغاني ما عليه من المتاع، وله فيه أحوال عجيبة، وإشارات مصيبة.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح ابن عبد الظاهر في باطن الأرض، وأقام تحتها إلى يوم العرض.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب الفرد سنة إحدى وسبع مئة ودفن برباط إخميم، وقبره هناك يزار. ومولده سنة ثمان وثلاثين وست مئة بقوص.
وامتدحه الشيخ تاج الدين الدشناوي بأبيات منها:
محبك هذا العارف العازف الذي ... تبدى بوجه بالضياء مكلل
حليف التقي والشكر والذكر دائماً ... فلله هذا الشاكر الذاكر الولي
عزائمه العليا تضاهي مقامه ... ومقداره والسر أن أسمه علي
ألا إن لله الكمال جميعه ... وما لسواه منه حبة خردل
ومن شعر الشيخ كمال الدين بن عبد الظاهر:
يا عين بحق من تحبي نامي ... نامي فهواه في فؤادي نام
والله ما قلت ارقدي عن ملل ... إلا لعسى تريه في الأحلام
قلت: فيهما لحنتان خفيفتان خفيتان، ولو قال: " يا عين بمن سهرت فيه نامي " " إلا لعسى أراه في الأحلام " . لخلص من ورطة اللحن.
وقال الفاضل كمال الدين الأدفوي: حكى لي القاضي نجم الدين القمولي أن الشيخ كمال الدين رأى مرحاضاً قد أخرج ما فيه، ووضع بجانب المسجد، فقال في نفسه: لا بد أن أحمل هذا، فنازعته نفسه في ذلك، لأنه من بيت رياسة وأصالة وسيادة وعدالة، فقال: لا بد من ذلك، ثم استدرجها إلى أن حمله في النهار، ومر به في حوانيت الشهود حتى تعجبوا منه ونسبوه إلى خبل في عقله. ثم إنه سافر إلى القاهرة، واجتمع بإبراهيم الجعبري ولازمه وانتفع به. ثم إنه استوطن إخميم، وظهرت بها كراماته وانتشرت بركاته.
وقال حكى لي صاحبنا الفقيه علاء الدين العدل علي بن أحمد الأصفوني رحمه الله تعالى وكان ثقة في نقله، قال: كنت بأدفو أخذت في العبادة، ولازمت الذكر مدة حتى خطر لي أني تأهلت. قال: وكان أخي جلال الدين غائباً عنا مدة وانقطع خبره، فحضر شخص وأخبرني أنه قدم من ألواح ونزل سيوط، فسافرت إلى سيوط، فلم أجده، وصحبت شاباً نصرانياً ورافقته في الطريق إلى سوهاي، وصار ينشدني طول الطريق شعراً، وكان جميلاً ففارقته من سوهاي، ووجدت ألماً كبيراً لمفارقته، فدخلت إخميم وعندي وجد بذلك النصرانين فحضرت ميعاد الشيخ كمال الدين بن عبد الظاهر، فتكلم في الميعاد، على عادته، ونظر إلي وقال: لا إله إلا الله، ثم أناس يعتقدون أنهم من الخواص، وهم من عوام العوام، قال الله تعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " . والنحاة يقولون: مِن للتبعيض، ومعنى التبعيض ألا ترف شيئاً من بصرك إلى شيء من المعاصي.(2/17)
ثم قال: حكى لي فقير قال: كنت في خدمة شيخ، فمررنا بدار، وإذا بامرأة جميلة ورأسها خارجة من الطاق تتطلع إلى الشارع، فوقف الشيخ زماناً يتطلع إليها ويتعجب من ذلك. ثم بعد ساعة والشيخ صاح صيحة عظيمة، وإذا بالمرأة نزلت وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فالتفت الشيخ إلى الفقير وقال: نظرت إلى هذا الجمال، فقال: أنقذني من هذا الكفر، فتوجهت إليه، فالشيخ ما نظر إلى حسن الصورة، وإنما نظر إلى صورة الحسن، فمن أراد ينظر إلى النصراني فلينظر كذا.
قال الشيخ علاء الدين: فصرخت ووقعت.
قال: وحكى لي صاحبنا محمد بن العجمي، وهو من أصحاب أبي عبد الله الأسواني قال: عمل سماع في دار ابن أمين الحكم، وحضر الشيخ ورؤساء البلد وخلق كثر، وكنت من جملة الحاضرين، فحضر القوال، وهو مظفر بالشبابات والدفوف، وقالوا شيئاً، ثم قال:
من بعد ما صد حبيبي ومار ... جا اليوم وزار
أبصرت ما كان أبركو من نهار
جاني حبيبي وبلغني المنى ... وزال عن قلبي الشقا والعنا
ودار كاس الأنس ما بيننا
يا ما أحسن الكاسات علينا تدار ... في وسط دار
أنا ومحبوبي نهاراً جهار
فقام الشيخ وقال: إي والله، أن ومحبوبي نهاراً جهار. إي والله. وطاب وخلع جميع ما عليه، وخلع الجماعة ما عليهم، ولم يبق كل أحد إلا بلباسه، ثم أرسلوا وأحضروا ثياباً، فقال: يا مظفر، قال: لبيك، قال: ثيابي وثيابك الجماعة، الجميع لك. فشدوا كارات. فقلت: يا مظفر لولا رأس هذا المنسر معك ما قشطت ثياب الجماعة، فبلغت الشيخ فضحك.
علي بن أحمد بن الحسين
علاء الدين الأصفوني.
اشتغل بالفقه على الشيخ بهاء الدين القفطي، وتأدب على الغضنفر الأصفوني والجلال بن شواق الأسنائي وغيرهما.
كان أديباً ذكياً، سري النفس زكياً. له مكارم لم تنلها الغمائم، ومحاسن تسجع بأوصافها الحمائم. وكان له شعر ألذ من نغمات الأوتار، وأطرب من تغريد القمري في الأسحار على الأشجار. وله يد طولي في صناعة الحساب، ومباشرة في الخدم السلطانية جعلها من باب الارتزاق والاكتساب. وجلس بين الشهود بقوص وبالقاهرة، وتقمص تلك الحلة الفاخرة.
ولم يزل على حاله إلى أن جاءه أمر ما أطاق دفعه، وأعمل الموت فيه خفضة ورفعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
أثنى عليه الفاضل كمال الدين الأدفوي، ووصفه بمكارم أخلاق.
قال: لما طلع داود الذي ادعى أنه ابن سليمان من نسل العاضد إلى الصعيد في سنة سبع وتسعين وست مئة، وتحركت الشيعة، بلغ علاء الدين هذا أنه قال لبعض أهل أصفون، إنه يتحمل عنه الصلاة. فنظم علاء الدين.
ارجع ستلقى بعدها أهوالا ... لا عشت تبلغ عندنا الآمالا
يا من تجمع فيه كل نقيصة ... فلأضربن بسيرك الأمثالا
وزعمت أنك للتكالف حامل ... وكذا الحمار يحمل الأثقالا
ولما ولى السفطي قوص سنة إحدى عشرة وسبع مئة، وكان بصره ضعيفاً جداً حتى قيل إنه لا يبصر به شيئاً. وكان القاضي فخر الدين ناظر الجيش قد قام في ولايته. قال علاء الدين:
قالوا تولى الصعيد أعمى ... فقلت: لا بل بألف عين
وبلغه شعر الشيخ عبد القادر الجيلي، وهو:
ما في المناهل منهل يستعذب ... إلا ولي منه الألذ الأطيب
أنا بلبل الأفراح أملأ دوحها ... طرباً وفي العلياء باز أشهب
فقال علاء الدين:
ما في الموارد مورد يستنكد ... إلا ولي فيه الأمر الأنكد
أنا قنبر الأحزان أملأ طلحها ... حزناً وفي السفلى غراب أسود
علي بن أحمد بن يوسف بن الخضر
الشيخ الإمام العالم زين الدين أبو الحسن الآمدي الحنبلي العابر.
كان شيخاً مهيباً، يقظاً لبيباً، فهيماً أريباً، صالحاً صدوقاً، ثقة إذا كان نطوقاً، عابراً للرؤيا، عارفاً بأحوال الدنيا، أضر في أخر عمره، وكان إلى ذلك نهاية أمره.
وكانت تبدو منه عجائب مع عماه، وصوائب من كل سهم رماه، إلى أن فتن به القان غازان، وأنعم عليه بما زاد وبما زان. وكانت له منامات غريبة الكون، تدل على أنه له من الله نعم العون.(2/18)
ولم يزل على حاله إلى أن بلغ الآمدي إلى مداه، وتجاوز عمره ببلوغ رداه.
وتوفي رحمه الله تعالى بعد سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
وكانت له حكايات عجيبة تحكى عنه، منها أنه أهدى إليه بعض أصحابه نصفية حسنة، فسرقت، فرأى في نومه شيخه الإمام مجد الدين عبد الصمد بن أحمد بن أبي الجيش المقرئ شيخ القراء ببغداد، وهو يقول له: النصفية أخذها فلان وأودعها عند فلان، اذهب وخذها منه. فلما استيقظ قال في نفسه: الشيخ مجد الدين كان صدوقاً في حياته، وكذلك هو بعد وفاته. فذهب إلى الرجل الذي ذكره، فدق عليه الباب، فخرج إليه، فقال: أعني النصفية التي أودعها فلان عندك، فقال: نعم، فدخل وأخرجها له، فأخذها وذهب، ولم يقل له شيئاً. وجاء السارق بعد ذلك إلى المودع يطلب النصفية، فقال له: جاء الشيخ زين الدين الآمدي، وطلبها على لسانك، فأعطيته إياها. فبهت السارق وبقي حائراً، ولم يعنفه الشيخ ولا واخذ.
ومنها أنه قال: رأيت في المنام كأن شخصاً أطعمني دجاجة مطبوخة، فأكلت منها ثم استيقظت وبقيتها في يدي. وهذا شيء عجيب.
وهذه الوقائع مشهورة عنه في تلك البلاد.
ولما دخل القان غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن جنكزخان بغداد في سنة .. ... وتسعين وست مئة، ذكر له الشيخ زين الدين المذكور، فقال: إذا جئت غدا المدرسة المستنصرية أجتمع به، فلما أتاها احتفل الناس له واجتمع بالمدرسة أعيان بغداد وأكابرها من القضاة والعلماء والعظماء، وفيهم الشيخ زين الدين لتلقي غازان، فأمر غازان أكابر أمرائه أن يدخلوا المدرسة قبله واحداً بعد واحد. ويسلم كل منهم على زين الدين، ويوهمه الذين معه أنه هو السلطان امتحاناً له، فجعل الناس كلما قدم أمير يزهزهون له ويعظمونه، ويأتون إلى زين الدين ليسلم عليه، والشيخ زين الدين يرد عليه السلام من غير تحرك له ولا احتفال، حتى جاء السلطان في دون من تقدمه من الأمراء في الحفل، وسلم على الشيخ وصافحه، فحين وضع يده في يديه نهض له قائماً، وقبل يده، وأعظم ملتقاه والاحتفال به، وبالغ في الدعاء له باللسان المغلي ثم بالتركي ثم بالفارس ثم بالرومي ثم بالعربي، ورفع به صوته إعلاماً للناس. فعجب غازان من فطنته وذكائه وحدثه ذهنه مع ضرره. ثم إن السلطان خلع عليه في الحال ووهبه مالاً ورسم له بمرتب في كل شهر ثلاث مئة درهم، وحظي عنده وعند أمرائه ووزرائه وخواتينه.
وكان يتجر في الكتب، وعنده كتب كثيرة جداً، وإذا طلب منه إنسان كتاباً نهض إلى كتبه، وأخرجه من بينها. وإن كان الكتاب عدة مجلدات، وطلب منه الأول مثلاً أو الثاني أو الثالث أو غيره أخرجه بعينه. وكان يمس الكتاب أولاً، ثم يقول: يشتمل هذا المجلد على كذا كذا كراسة، فيكون الأمر كما قال: وإذا مر بيده على الصفحة قال: عدد أسطرها كذا كذا سطراً، فيها بالقلم الغليظ هذا وهذا، المواضع كتبت به، وفيها بالأحمر هذا وهذا، المواضع كتبت به. وإن اتفق أنها كتبت بخطين أو ثلاثة، قال: اختلف الخط من هنا إلى هنا، من غير إخلال بشيء منها مما يمتحن به.
وكان لا يفارق الإشغال والاشتغال في غالب أوقاته، وللناس عليه إقبال عظيم لدينه وورعه.
ومن تصانيفه: جواهر التبصير في علم التعبير، وله تعاليق كثيرة في الفقه والخلاف وغير ذلك. وانتفع به جماع.
علي بن أحمد بن سعيد
ابن محمد ابن الأثير، القاضي الكبير الصدر علاء الدين أبو الحسن بن القاضي تاج الدين الحلبي الأصل ثم المصري، صاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية أيام السلطان الملك الناصر محمد.(2/19)
وكان السلطان لما توجه في المرة الأخيرة إلى الكرك توجه القاضي علاء الدين معه فأقام عنه مدة، ووعده بالمنصب، وأعاده إلى القاهرة. ولما قدم السلطان من الكرك أباع القاضي علاء الدين إكديشا كان عنده بمئة وعشرين درهماً، واشترى بذلك حلوى، وتوجه للقاء السلطان، فلما استقر له الأمر، قال السلطان للأمير الدوادار: اكتب إلى محيي الدين بن فضل الله، وقل له يكتب إلى أخيه القاضي شرف الدين ليطلب مني دستوراً في التوجه إلى الشام، وأنا أستحيي أن أبدأه بالخورج من مصر. فكتب محيي الدين إلى أخيه بذلك فلم يلتفت إليه، وقال: أنا ما أعيش بعقل يحيى. ولما علم السلطان بذلك رسم للقاضي شرف الدين بن فضل الله في أوائل المحرم سنة اثنتي عشرة وسبع مئة بأن يكون صاحب ديوان الإنشاء بدمشق عوضاً عن أخيه القاضي محيي الدين، وتولى القاضي علاء الدين بن الأثير مكانه في كتابة السر بالديار المصرية في سابع عشر ذي الحجة يوم الثلاثاء سنة إحدى عشرة وسبع مئة.
وكان القاضي شرف الدين له على السلطان خدم كثيرة، وإنما لما خرج إلى الكرك جهز معه القاضي علاء الدين بن الأثر، وكان في تلك الأيام صغيراً بين الجماعة، فنقم السلطان ذلك، ونسبه إلى شرف الدين، ووعد القاضي علاء الدين بالمنصب.
ولما ولاه عظمه وقربه وكرمه وأنعم عليه ونوه بقدره، وبلغ منه في المكانة العالية ما لم يبلغه أحد. وكان يأمره السلطان بأشياء إلى نواب الشام، ويقول له: اكتب إليهم بكذا وكذا عنك، فيكتب إليهم بما أمره، حتى إلى الأمير سيف الدين تنكز، فزادت عظمته في القلوب ووجاهته، وكان يركب بستة عشر مملوكاً من الأتراك، فيهم ما هو بعشرة آلاف درهم وأكثر. وكان أخيراً يقف هؤلاء المماليك في خدمته بالديوان سماطين ولا يتكلم إلا بالتركي، ومماليكه يقربون كلامه للناس.
وكان فيه ذكاء وعنده نباهة، وحسن كتابة، فيها للنواظر نزاهة، وتدبير يعينه على التقدم والوجاهة، وإحسان إلي من يعرفه، وجود على من يحضر إليه من الشام ويصرفه. أنشأ جماعة وقدمهم في الدولة، وجعل لهم بنظره إليهم أبهة في النفوس وصوله. واقتنى المماليك والأملاك، وخضع له الأمراء والنواب والأملاك، وحصل نعماً أثيرة، وأصل في الديوان كلمات كثيرة، ودانت له الأقدار، وصفت له أيامه من الأكدار.
وعلا علاء الدين بن الأثير، إلى أن صار من دونه الفلك الأثير، ورقد في سعوده على الفرش الوثير، ورأى كل من دونه قليلاً وهو كثير، وتقدم به أولاد أخيه، وكتبوا معه في الدست، فشدت بهم قواعد الملك وثبتت أواخيه.
وأصبح ذكره في كل أرض ... يدار به الغناء على العقار
ولم تزل كواكبه في سعود ، ومراتبه في صعود، إلى أن قلب الدهر له مجنه، وأظهر له ما كان أكنه، وتيقظ له وكأنما كان في أكنه، ورمي بفالج عدم معه الانتفاع بحواسه، وبطلت حركة يده وطالما كان القلم فيها كأنما شد بأمراسه على أم رأسه، وعز أمره وما نزل به على السلطان، وطلب علاجه من النازحين والقطان، فما نجع فيه دواء من يعالج، ولا ظهر طريق مستقيم لطب ما به من الفالج، فنزل من ديوانه إلى البيت، ورآه الناس وهو حي كأنه الميت، و:
ما زال يدفع كل أمر فادح ... حتى أتى الأمر الذي لا يدفع
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء منتصف شهر الله المحرم سنة ثلاثين وسبع مئة، ودفن يوم الخميس بمقبرتهم بالقرافة، ومات وهو في حدود الخمسين.
أصابه مبادي فالج، فكابر هو نفسه، وصار يدخل ويخرج إلى السلطان ويفهم السلطان عنه ذلك، وما يقول له شيئاً، فلما كان في بعض الأيام أراد أن يقوم من بين يدي السلطان ويحمل الدواة بيمينه، فسقطت من يده فتألم له السلطان، وقال للأمير سيف الدين ألجاي الدوادار: اكتب إلى نائب الشام ليجهز لنا القاضي محيي الدين بن فضل الله، وسر السلطان يقول له: يا علاء الدين، أنزل واضرب لك خاماً في جزيرة الروضة، وعالج هذا الحادث، وأنا أجهز لك الأطباء، فلم يفعل، وبقي في الديوان مريضاً إلى أن جاء الخبر بوصول القاضي محيي الدين بن فضل الله إلى قطيا، فقال لألجاي: مخر ابن الأثير بالنزول إلى بيته. فجهز يقول له: قد جاء صاحب الديوان ووصل، وغداً يكون هنا، فباسم الله أنزل استريح في بيتك.
سبحان الله العظيم، هم أولا به عزلوا، وهو ثانياً بهم عزل.(2/20)
فذي الدار أخدع من مومس ... وأمكر من كفة الحابل
وكان نزول ابن الأثير إلى بيته في أوائل المحرم سنة تسع وعشرين وسبع مئة، وأقام في بيته، وتزايد به المرض، وجهز السلطان أحضر أمين الدين سليمان رئيس الأطباء بدمشق، وقال له لما وصل: أنزل إلى القاضي علاء الدين بن الأثير، وعالجه ووعده، فنزل إليه وعالجه فما أفاد وآل أمره إلا أنه لم يبق فيه شيء يتحرك غير جفونه فكان إذا أراد شيئاً علا صارخاً بصوته، فيحضرون إليه، ويدقون على الأرض دقات متوالية، وهو يعد الحروف من أول المعجم، فإذا وصلوا إلى أول حرف من مقصوده أطرق وأغمض جفنه، فيحفظون ذلك الحرف، ثم يفعلون ذلك، فإذا وصلوا إلى الحرف الثاني من مقصوده أغمض جفنه. ولا يزالون كذلك حتى يفهموا عنه قصده. وكان الزمان يطول عليهم وعليه حتى يفهموا عنه لفظة أو لفظتين. نسأل الله تعالى العفو والعافية من آفات هذه الدار.
وكان يكتب خطاً قوياً منسوباً، وله قدرة على إصلاح اللفظة وإبرازها من صورة إلى صورة، وما كن يخرج كتاب عن الديوان حتى يتأمله، ولا بد له أن يزيد فيه بقلمه شيئاً. وله إنشاء، وهو الذي أنشأ توقيع الشيخ مجد الدين الأقصرائي بمشيخة شيوخ الخانقاه بسرياقوس لما فرغت عمارتها.
وعلى الجملة، فإنه عمل كتابة السر جيداً، ونفذ المهمات على أحسن ما تكون.
ومدحه شعراء عصره. ومما كتب إليه به ما أنشدناه لنفسه إجازة شيخنا العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود رحمه الله تعالى:
أما ومكانة لك في ضميري ... وذكرك لا يزال معي سميري
لقد سافرت بالأشواق أسعى ... إليك وإن قعدت عن المسير
ولو أدركت من زمني مرادي ... لما ناب الكتاب عن الحضور
ولم أوثر ولا لابني اختياراً ... بخطي من نوال ابن الأثير
وكيف وليس إلا بالتثامي ... بنان يديه يكمل لي سروري
كريم طاهر الأعراق تعلو ... أصالته على الفلك الأثير
له خلق يدمثه حياء ... كروض دمثته يد الغدير
وجود كلما أخفاه صوناً ... حكى شمس الظهيرة في الظهور
إذا وشى بليل النقس صبح ال؟ ... طروس أراك نوراً فوق نور
وأبدي للموالي والمعادي ... أماني أو منايا في السطور
وله فيه أمداح كثيرة.
وأنشدني من لفظه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة قصيدة، مدحه بها، أولها:
أصاب بجفنه عقل الأسير ... فيا ويل الصحيح من الكسير
غزال كالغزالة في سناها ... تجحبه الملامة بالسفور
منها:
يلذ تغزل الأشعار فيه ... لذاذة مدحها في ابن الأثير
أغر إذا احتبى وحبا العطايا ... رأيت السيل يدفع من ثبير
أخو يومين يوم ندى ضحوك ... ويوم ردى عبوس قمطرير
كأن حديثه في كل ناد ... حديث النار عن نفس العبير
له قلم سرى للنفع سار ... يبيت على الممالك كالخفير
تلثم بالمداد لثام ليل ... فأسفرت عن سنا صبح منير
علي الاسم والأوصاف يزهى ... به الدهر العلي على الدهور
من القوم الذين لهم صعود ... إلى العلياء أسرع من حدور
سما شعري وزاد على علاهم ... فلقبناه بالفل الأثير
أأندى العالمين يداً وأجدى ... على العافين في الزمن العسير
إليك سعى رجاي وطاف قصدي ... فدم يا كعبة للمستجير
ولما دخلت أنا إلى القاهرة في سنة سبع وعشرين وسبع مئة وجدت بعض الناس قد لهج بالمقامة للقاضي علاء الدين بن عبد الظاهر التي وسمها ب؟ مراتع الغزلان، وكلفت أنا في ذلك بإنشاء رسالة في تلك المادة، فأنشأت رسالتي التي وسمتها ب؟ عبرة اللبيب بعبرة الكئيب، وكتبت في أولها أبياتاً تتعلق بمديحه، وقد شذت الآن عني، وحملتها إليه، فوقف عليها. ولما جئته بذلك قال لي: الله يزيدك من فضله. وطوق علي، فقلت له: والله يزيدك سعادة.
علي بن أحمد بن عبد الواحد(2/21)
قاضي القضاة أبو الحسن عماد الدين بن محيي الدين أبي العباس بن بهاء الدين أبي محمد الطرسوسي الدمشقي الحنفي.
كان قاضياً سؤوساً، عالماً في مذهبه رئيساً. كم ألقى دروساً، وأطلع من ألفاظه غروساً، حسن الشكل مديد القامة ظريف العمامة، كأن وجهه الشمس تحت الغمامة.
لم ينكد عليه في منصبه، ولا رأى فيه ما ارتاع بسببه. ماشياً فيه على السداد، سالكاً فيه سبل الرشاد. يعظمه نواب السلطنة بالشام، ويثنون على ما له من القضايا والأحكام.
وكان لا يمل من قراءة القرآن، ولا يفتر لسانه عن سرد آياته في كل زمان ومكان إلى أن سأل في النزول عن منصب القضاء لولده، وإيثاره به لما دار في خلده. فأجابه السلطان إلى ما قصده وعجل له الأمر الذي رصده. فلازم بيته آناء الليل وأطراف النهار، ويعمل على خلاصة في غد إذا وقف على شفا جرف هار.
إلى أن حان مصرعه، وآن من ورد المنية مكرعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الاثنين ثامن عشري الحجة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ودفن بالمزة.
وكان الأمير تنكز رحمه الله تعالى قد ولاه تدريس المدرسة القايمازية بعد وفاة الشيخ رضي الدين المنطيقي في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، فكتبت أنا توقيعه بذلك. ونسخته: الحمد لله الذي جعل عماد الدين علياً، وأيد شرعه المطهر بمن رقى بعلمه سموا وأصبح للوصي سميا، ورفع قدر من إذا كان في حفل همى ندى وحنى ندياً، وهدى الناس بأعلام علمه التي إذا خفقت كم هزمت كميا وقادت إلى الحق أبياً.
نحمده على نعمه التي جعلت العلماء للأنبياء ورثة، وأقامت بهم الحجة على من نكب عن الحق أو نقض الميثاق ونكثه، ونفت بهم شبه الباطل عن الدين القيم كما ينفي الكير خبثه. وجعلت كل حبر منهم إذا نطق في المحافل جاء بالسحر الحلال من فيه ونفثه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ندخرها في المعاد خير عدة، ونأمن بها يوم الفزع الأكبر إذا ضاق على الناس خناق الشدة، ونجدها في الصحائف نوراً يضيء لنا إذا كانت وجوه الذين كذبوا على الله مسودة. وتجعل أيدينا على قطاف ثمار الرحمة وجنى غصونها ممتدة.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله خير من هدى الخلق ببرهانه، وأشرف من قضى بين الناس بالحق وفرقانه، وأعز مزن دفع في صدور البلغاء بنان بيانه، وأكرم من أطلق في ملكوت الله عز وجل عنان عيانه.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين رووا لأوليائهم السنة، ورووا من أعدائهم الأسنة، وأضحت طريقهم لطالب هدية الهدى مطية المظنة، وأمسوا حرباً لحزب الشيطان الذين جعل الله في آذانهم وقراً وعلى قلوبهم أكنة، صلاة تطلق جياد الألسنة في ميدانها الأعنة، وتبلغهم أمانيهم التي بايعهم عليها بأن لهم الجنة.
وبعد، فلما كان العلم الشريف هو لدين حافظ نظامه، وضابط أحكامه في حلاله وحرامه، بنشره يطيب نشر الإيمان وأرجه، ويتسع من صدر الجاهل بأحكام ربه تعالى ضيقه وحرجه. والعلماء هم الذين يرعون سوامه ويراعون، ويقدمون على منع من يتعدى حدود الله تعالى فما يهابون ولا يهانون ولا يراعون. وكفى بالعلماء فخراً أنهم للأمة أئمة الاقتداء، وأن مدادهم جعله الله بإزاء دم الشهداء.
وقد خلت في هذه الأيام المدرسة القايمازية، أثاب الله واقفها، ممن ينشر فيها أعلام العلم، ويبدي في مباحثه مع خصومه معنى الحرب في صورة السلم، وينبت في رياض دروسها دقائق النعمان، ويثبت في حياض غروسها دقائق النعمان.
تعين أن يقع الاختيار على من يحيى بدروسه ما درس من مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، رضي الله عنه، ويجدد بفضائله التي أتقن فنونها ما رث من أقواله التي لا توجد إلا فيه، ولا تؤخذ إلا منه.(2/22)
وكن المجلس العالي القضائي العمادي أبو الحسن علي الطرسوسي، أدام الله أيامه، وأعز بالطاعة أحكامه، هو الذي تفرد بهذه المزايا، وجمع هذه الخلال الحميدة والسجايا، تضع الملائكة له إذا خطا في العلم الأجنحة، ويتخذ الناس إذا اضطروا لدفع الأذى عنهم من صلاح الأسلحة، قد أراد الله به خيراً لما وفقه وفقهه في الدين، وأقامه حجة قاطعة ولكن في أعناق الملحدين، تنقاد المشكلات لذهنه الوقاد في أسلس قياد، وتشيد أفكاره الدقيقة للنعمان إمامة ما لا شادته من المجد للنعمان أشعار زياد، وتبيت النجوم الزهر ناظرة إلى محاسن مباحثه من طرفها الخفي، وتنكف الألسنة الحداد من خصومه إذا جادلهم وتنكفي، ويأتي بالأدلة التي هي جبال لا تنسفها مغالط النسفي.
فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أعلاه الله تعالى أن يفوض إليه تدريس المدرسة المذكورة. فليظهر عرائس فضله المجلوه، ويبرز نفائس نقله المخبوه، وليطرز دروسه بدقائقه التي بهرت، ويزد المباحث رونقاً بعبارته التي سحرت الألباب وما شعرت، إذ هو الحاكم الذي سيف قلمه إذا أمضاه كان في الدماء محكماً، والحبر الذي لا يقاس به البحر وإن كان القياس في مذهبه مقدماً، والعالم الذي إذا نهض بالإملاء فهو به ملي، والفاضل الذي إن كان العلم مدينة فبابها علي.
وليتعهد المشتغلين بالمدرسة بمطالبة محفوظهم، والحث والحض على الأخذ بزيادة العلم، فإن ذلك أسعد حظوظهم، والحفظ والجدل جناحا العلم ويداه، وبهما يتسلط الطالب على مقاربة المدى وإن كان العلم لا نهاية لمداه. فمن استحق رقياً على غيره فليرقه، وليوفه حقه؛ فإنه إذا نظر الحاكم في أمره وصل إلى حقه.
والتقوى هي ملاك الأمور وقوامها، وصلاح الأحوال ونظامها، على أنه أدام الله أيامه هو الذي يشرع الوصايا لأربابها، ويعلم المتأدب كيف يأتي البيوت من أبوابها. وإنما أخذ القلم على العادة نصيبه، وأتى بنكت ومن علم العوان الخمرة كانت منه عجيبة.
والله يوفق أحكامه السديدة، ويمتع الأيام بمحاسنه، فإنها في الناس باب القصد وبيت القصيدة، والخط الكريم أعلاه حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه، والله الموفق بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وكان قد وصل تقليده من الديار المصرية بقضاء قضاة الحنفية بالشام عوضاً عن قاضي القضاة صدر الدين الحنفي البصروي في نصف شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، وخلع عليه ، وقرئ تقليده يوم الجمعة بجامع دمشق، وولي الحكم مع تدريس المدرسة النورية، واستناب في الحكم عنه القاضي عماد الدين إسماعيل بن محمد بن أبي العز الحنفي.
وكان قاضي القضاة عماد الدين صاحب هذه الترجمة ينوب أولاً في الحكم عن قاضي القضاة صدر الدين، فلما توفي رحمه الله تعالى عين هو للمنصب لجودة أحكامه وحسن سيرته. وكان قد باشر النيابة بعد موت القاضي شمس الدين بن العز الحنفي في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
علي بن أحمد بن زفر
ابن أحمد بن مظفر الإربلي، الدنباوندي الأصل، الشيخ الفاضل عز الدين أبو الحسن الصوفي.
كان فقيراً قانعاً، خبيراً نافعاً، محفوظه كثير، وملفوظه غزير، حسن المجالسة، كثير المؤانسة. رأى بلاداً عديدة، وأنفق فيها مدة مديدة، ونظر في علوم كثيرة، وحصل منها فوائد إذا ذكرها تخجل اللآلئ النثيرة.
وكان ضبطه جيداً، ونقله مقيداً، وزكي في الطلب فلم يعالج تورعاً، وفعل ذلك تبرعاً.
ولم يزل على حاله إلى أن أربد وجه الإربلي، ومحي أثره تحت الثرى وبلي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ويم الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وستين وست مئة بإربل.
وكان قد سافر البلاد وأقام بتبريز وماردين وغيرها من المدن.
وكان قد رتب بمدرسة الطب، وزكي، وأذن له في العلاج. ولم ينتصب لذلك.
كان صوفياً بدويرة حمد، وساكناً بها، وكان قد اختار مقام دمشق إلى أن مات.
علي بن أحمد بن محمد
ابن أبي بكر بن عمر بن الشيخ علي الحداد، المؤذن بالجامع الأموي بدمشق.
كان له شعر ومدائح نبوية، وكان ينشد في المحافل والمجالس. وتعلم صناعة الحدادة بالعقيبة، وأذن بالمرشدية، والصاحبية، وجامع النيرب، وبيروت. وحج غير مرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع عشر شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده بحلب سنة خمس وخمسين تقريباً.(2/23)
علي بن أحمد بن عبد الرحمن
ابن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، الإمام الخطيب فخر الدين أبو الحسن بن قاضي القضاة نجم الدين أبي العباس ابن الشيخ قاضي القضاة شمس الدين أبي محمد الخطيب بالجامع المظفري بسفح قاسيون.
توفي رحمه الله تعالى في ليلة الأحد حادي عشري شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة. وقد قارب الخمسين.
سمع من الشيخ فخر الدين بن البخاري وغيره.
وحدث، وفوض أمر الخطابة إلى خاله الشيخ عز الدين محمد بن الشيخ عز الدين إبراهيم بن الشيخ شرف الدين ابن الشيخ أبي عمر، وإلى ابن أخته نجم الدين أحمد بن قاضي القضاة عز الدين محمد بن قاضي القضاة تقي الدين سليمان بن حمزة، بينهما على الاشتراك.
علي بن أحمد بن محمد الأمير
السيد الشريف علاء الدين العباسي. أحد أمراء العشرات بدمشق.
أول ما عرفت من أمره أنه كان والياً بالقدس، ثم إن الأمير سيف الدين أخذه وجعله أستاذ داره الكبير في بابه. ولما أمسك هو في جملة مباشري ديوانه، ووزن شيئاً في تلك المرة، ثم إنه تولى شد الأوقاف في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وتداول هو والأمير حسام الدين بن النجيبي هذه الوظيفة مرات، ثم إنه قوي عليه بانتمائه إلى الفخري، ثم أعطي إمرة عشرة مع الوظيفة.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في مستهل ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
وكان شكلاً طويلاً، تام الخلق نبيلاً، له عبسة وطل جلسه، وصمت وإطراق وإعراض عمن يخاطبه وإخراق. إلا أنه ليس فيه شر، ولا عنده كر إلى الفتن ولا فر.
ولما كان الفخري بدمشق، ويئس من مجيء السلطان أحمد الناصر من الكرك، وبلغه أنه توجه إلى مصر، خطر له الخروج على المصريين، وقال: هذا عندنا رجل شريف عباسي، نقيمه نحن خليفة، ونبايعه، وما نحتاج إلى أحد من المصريين. وكان الفخري قد عني هذا علاء الدين مشد الأوقاف.
علي بن أحمد بن أسد
القاضي علاء الدين بن الأطروش، ابن أخي شمس الدين بن الأطروش، كان يعرف بالسكاكيني.
وسمع القاضي علاء الدين هذا الدار قطني على الحافظ شرف الدين الدمياطي. وكان شيخنا قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يقول: هو رفيقي في السماع على الدمياطي.
وحدث بدمشق، وربما حدث بالديار المصرية.
ورد إلى دمشق في أيام الأمير سيف الدين طقزتمر متولياً نظر الحسبة، وذلك في سنة ثلاث وأربعين، في أواخرها، وباشرها مباشرة جيدة بصلف ومهابة. ولم يزل بها، وهو يخدم الأمراء المصريين وغيرهم إلى أن سعى في طلبه مع الأمير سيف الدين أرغون العلاي والحجازي وغيرهم، فطلب إلى مصر في أواخر سنة خمس وأربعين، فتوجه إلى القاهرة، وباشر الحسبة بها ثم إنه عزل منها، وتولى حسبة دمشق مرة ثانية، فورد إليها بعد وفاة الشيخ عز الدين بن المنجا المحتسب في سنة ست وأربعين وسبع مئة فيما أظن، وتولى مع الحسبة نظر الأسرى بدمشق أيضاً، فباشر ذلك مدة لطيفة، وانفصل من الأسرى، وبقي على وظيفة الحسبة بدمشق، وهو مستمر على خدمة الأمراء المصريين، يسعى في العود إلى القاهرة. فطلب إليها ثانياً من دمشق في سنة.... .
وأقام بها، وتولى الحسبة بالقاهرة ونظر المارستان المنصوري مرات، وعزل منهما ثم أعيد إليهما، وولي قضاء العساكر بالقاهرة أيضاً، ولما تولى علم الدين بن زنبور الوزارة عزله من وظائفه، ثم إنه أعيد إليها ثم عزل أخيراً من البيمارستان.
وبقي على الحسبة وقضاء العساكر إلى أن ورد الخبر إلى دمشق بوفاته رحمه الله تعالى وصلى عليه بالجامع الأموي صلاة الغائب يوم الجمعة عشري جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. وكانت وفاته بالقاهرة يوم الأحد مستهل جمادى الآخرة.
وكان رحمه الله فيه خدمة للناس، ورعاية لأصحابه، ومكارم لمن يصحبه.
أول ما عرفت من أمره أنه تعلق على صحبة الأمير علم الدين سنجر الجاولي، وتمارض في وقت، وسعى مع أصحابه في أن يعوده الجاولي، فجاء إليه وعاده، فطار هذا الخبر في القاهرة، فتشبه الناس بالجاولي، وعاده الكبار من أرباب السيوف والطيالس.(2/24)
ولم يزل بعد وفاة السلطان الملك الناصر يسعى مع أمراء الدولة إلى أن ولي حسبة دمشق، كما تقدم. وكان من رجالات العالم في السعي، وحفظ المودة والرعي، لا يمل من المشاكلة للأكابر، والتردد إليهم إن كانوا أرباب سيوف أو محابر، والتودد إلى من حولهم، والتعهد إلى من يسمع قولهم، ولا يزال يداخلهم بكل صنف يميلون إليه، وينازلهم في كل مربع ينزلون عليه، حتى يخلب قلوبهم بخدمه، ويثبت لديهم رسوخ قدمه، فحينئذ يقترح بعد التطفل، ويترفع بعد التسفل.
له عزمة ما استبطأ الدهر نجحها ... ولا استعتب الأيام وري زنادها
إذا شوهدت بالرأي بان اختيارها ... وإن بان ذو الرأي اكتفت بانفرادها
وكانت الدنيا تهون عليه في البذل، ويستوي عنده في المكارمة ذو الوجاهة والنذل، لا يرى إلا قضاء مآربه، وإضاءة الوجود بذكره في مشارقه ومغاربه.
ولما جاء إلى حسبة دمشق عبث بشمس الدين الشاعر الخياط المنبوز بالضفدع، وضربه واعتقله، وهم بحلق ذقنه، فقام في أمره القاضي شهاب الدين بن فضل الله، وخلصه، فتسلط على عرضه، وهجاه بقصائد ومقطعات كثيرة، من ذلك قوله وقد ركب بغلة بزنار:
رقى ابن الأطروش إلى رتبة ... باغ لها الجنة بالنار
تنصرت بغلته تحته ... فقد غدت تمشي بزنار
علي بن أرقطاي
الأمير علاء الدين بن الأمير الكبير سيف الدين الحاج أرقطاي نائب صفد وطرابلس وحمص وحلب والقاهرة، تقدم ذكر والده في مكانه.
كان ذا وجه سبحان من أبدعه، ومحيا كأن الله تعالى خلق الجمال له وأودعه. حلو الصورة، كأن المحاسن عليها مقصورة، أو صفات الجمال البارعة فيها محصورة، أو الفتنة تقابلها العيون من صورة منصوره، أو صفات الجمال البارعة فيها محصورة، أو الفتنة تقابلها العيون من صورة منصوره، إذا رأى الناظر عينيه يخال أن الكحل في جفونها قد نفض، والسحر من الزمن القديم إلا من حركاتها قد رفض، بقوام من أين للغصون الميادة حركاته، أو للقنا الذابل تحت الأسنة فتكاته، وذؤابة أورق بها من قده الغصن الرطيب، وحكت مجنون ليلى إذا خطا، فهي تخط على كثيب:
حلو الشمائل والمعاطف أهيف ... جمعت ملاحة كل حسن فيه
يختال معتدلاً فإن عبث الصبا ... بقوامه متعرضاً يثنيه
كان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى يميل إليه ميلاً شديداً، ويجد منه غراماً جعل قلبه في هواه عميداً، إلا أنه على عادته، في هواه، وقاعدة جواه، لم ينل منه إلا لذة نظره، واستجلاء قمر وجهه في دياجي شعره. طلبه وطلب أخاه إبراهيم، وكان الآخر بارع الجمال، ولكن علي هو البدر في ليالي الكمال. وكتب إلى السلطان في معناهما، وأمرهما عنده بدمشق، لبسا تشاريفهما، وأنزلهما عنده بدار السعادة، وأقاما قريباً من شهر. وجعل علياً بطبلخاناه وإبراهيم بعشرة، وأعادهما إلى أبيهما.
وتوجه أمير علي مع والده إلى الديار المصرية، وأقام فيها مدة إلى أن هصرت يد الموت غصنه الرطب، وأعظمت على أبيه الخطب، وتوفي رحمه الله تعالى.
علي بن إسحاق
الشيخ المسند علاء الدين أبو الحسن بن الملك المجاهد صاحب الجزيرة بن السلطان بدر الدين لؤلؤ الأتابكي صاحب الموصل.
سمع من الحراني جزء ابن عرفة، والمصافحات، المخرجة له والثمانيات وغير ذلك. وسمع من ابن علاق الجمعة للنسائي.
وكان من أعيان الجند بالقاهرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن شهر ربيع الآخر، سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.
ومولده ثامن عشري المحرم سنة سبع وخمسين وست مئة بجزيرة ابن عمر.
علي بن إسماعيل بن إبراهيم
ابن كسيرات، القاضي تاج الدين بن الصاحب مجد الدين المخزومي.
كان يخدم بطرابلس في وظائف الديوان من سنين.
وكان كاتباً ظريفاً شاباً، لين الشمائل، ظاهر الرئاسة، له اشتغال ونظم. سمع مع الشيخ علم الدين البرزالي كثيراً.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده فلي مستهل الحجة سنة تسع وستين وست مئة.
علي بن إسماعيل بن أبي العلاء
ابن راشد بن محسن، الشيخ الفاضل علاء الدين أبو الحسن الدمشقي القواس الوتار.
سمع من ابن أبي اليسر والزين بن الأوحد، والبدر عمر بن محمد الكرماني. وحدث.(2/25)
وكان رجلاً جيداً فاضلاً أديباً، له نظم، وعنده طرف من العربية واللغة، وذهنه جيد. وكان حسن المجالسة والمحاضرة، ملازماً لسوق القواسين، يقصده الناس في دكانه، ويصحح جماعة عليه ما يقرؤونه عليه في المواعيد وعلى الكراسي.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس صفر سنت ست وثلاثين وسبع مئة.
علي بن إسماعيل بن يوسف
الإمام العالم العامل العلامة القدوة العارف المسلك، ذو الفنون قاضي القضاة بدمشق الشافعي شيخ الشيوخ بالديار المصرية، القونوي التبريزي.
سمع الحديث عن إبراهيم بن عنبر المعروف بالمارداني، وأبي العباس أحمد بن عبد الله اليونيني، وأبي العباس أحمد بن عبد الواحد الزملكاني، وأبي الفضل أحمد بن هبة الله بن عساكر، وإسماعيل بن عثمان بن المعلم، وأبي الخير سلامة بن سالم الجعبري، وعبد الله بن محمد الرصافي، وأبي حفص عمر بن القواس.
وسمع بمصر من الأبرقوهي، وابن الصواف، وابن القيم، ومن الحافظ شرف الدين الدمياطي، وقاضي القضاة تقي الدين أبي الفتح بن دقيق العيد، ولازمه زمناً طويلاً، يحضر عنده بالليل، وكتب له بخطه مع تحريه وضبطه على مختصر ابن الحاجب على النسخة التي هي ملكه، باحثت صاحب هذا الكتاب، ونعته وقال: فوجدته يطلق اسم الفاضل عليه استحقاقاً. وحسبك هذا الثناء من الشيخ تقي الدين رضي الله عنه وعلى من كان يطلق هذا اللفظة، أعني الفاضل.
وكان الشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى جبل علوم، وطود حلوم، وبحر فضائل ومسل مسائل، فاضل الدهر وعالمه العلامة، ومن إذا ذكر الناس غيره لم يقل الإنصاف له إلا مه، عرف التفسير وكشف سر كشافه، وعلم ما يخاطب به منه وما يشافه، وخاض بحر الفقه فلو رآه الروياني لأغرقه في بحره، وحوى محاسن الحاوي، فلو عاصر الماوردي لعجز عن ثنائه الطيب وشكره، ومخض زبد الكلام، فلو تأمله السيف الآمدي لوقف فيه عند حده، أو الإمام فخر الدين لتحقق أن محصله من عنده، وحقق أصول الفقه فلو تقدم زمانه كان ابن الحاجب بين يديه نقيباً، أو البيضاوي لتسود وجوه طروسه ولم يكن في منهاجه مصيباً.
وذاق لب العربية فالفارسي يفتخر به ويقول أنا أبو علي، وابن مالك يقول: من شافعي في هذا الفن إلى هذا الولي. وخاض في لجة المعاني والبيان، فعبد القاهر عنده عبد مقهور، وصاحب المفتاح لا نسبة له إلى من عنده خزائن المنظوم والمنثور.
وبرع في المنطق فهو من الخونجي أفضل، ومن الكاتبي أنبه، ومن الأبهري أبهر وأنبل.
وجد للجدل حتى وافقه العميدي على الخلاف، ونسف حبال النسفي وما تلافاه أحد من التلاف.
وهذب نفسه بالمعارف في التصوف، وذاب في خلواته من التشوق إلى حضرة القدس والتشوف، فلو رآه الشبلي لقال هذا الأسد، أو معروف لأنكر نفسه وقال: هذا الذي بلغ من الأشد الأشد.
هذا إلى صورة قد حسنها الذي فطرها، وشيبة بيضها الله ونورها، وأخلاق ليس للنسيم لطفها، ولا للرياض نضرتها وظرفها.
أقمام في القاهرة فملأها علماً، وجاء إلى دمشق فسرها حكماً وحلماً.
ولم يزل فيها على حاله إلى أن غاض بحره العجاج، وطفئ سراجه الوهاج.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق رابع عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وستين وست مئة.
ودفن بسفح قاسيون بتربة اشتريت له.
ومات بورم الدماغ بقي مريضاً أحد عشر يوماً. وكانت جنازته حافلة، وتأسف الناس عليه.
خرجوا به ولكل باك حوله ... صعقات موسى يوم دك الطور
حتى أتوا جدثاً كأن ضريحه ... في كل قلب موحد محفور
تبكي عليه وما استقر قراره ... في اللحد حتى صافحته الحور(2/26)
وكان الشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى قد قدم دمشق في أول سنة ثلاث وتسعين وست مئة، فرتب صوفياً، ثم إنه درس بالإقبالية، ثم إنه توجه إلى الديار المصرية، وأقام بها، وولي مشيخة سعيد السعداء، وأقام ثلاثين سنة على قدم واحد، إذا طلع الفجر خرج من مسكنه للصلاة بسكون ووقار، وإذا فرغ منها أخذ في إشغال الطلبة في غير ما فن إلى أن يؤذن الظهر، فيصلي، ويأكل شيئاً في بيته، ثم إنه من الظهر إلى العصر يدور، إما أن يزور أصحابه الأعزة، أو يتوجه في شفاعة لأحد قصده، أو يسلم على غائب أو يهنئ أو يعزي أو يعود مريضاً، إلى أن يتوجه إلى وظيفة الخانقاه للذكر والعبادة. هكذا أبداً لا يمر له وقت في غير ذلك.
وكان قد ولي تدريس الشريفية بالقاهرة، وبها سكنه. وكان السلطان يعظمه ويثني عليه، وكذلك الأمير سيف الدين أرغون النائب.
أخبرني القاضي ناصر الدين بن الصاحب شرف الدين كاتب السر بدمشق، قال: سمعت الأمير سيف الدين أرغون النائب يقول بحلب: ما رأيت رجلاً مثل الشيخ علاء الدين القونوي ولا ملأ عيني غيره.
وكان يعرف بالتركي وبالعجمي.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني ببلبيس، وقد طلبه السلطان ليوليه قضاء دمشق، فحينئذ عين السلطان الشيخ علاء الدين لقضاء الشام، فما خرج منها إلا كارهاً. كان يقول لأصحابه الأعزة عليه: أخملني السلطان كونه لم يولني قضاء الديار المصرية، وليته كان عينني لذلك في الظاهر، وكنت أنا سألته الإعفاء من ذلك.
ولما خرج إلى الشام حمل كتبه معه على البريد، وأظنها كانت وقر خمسة عشر فرساً أو أكثر. وباشر منصب الحكم بدمشق أحسن مباشرة بصلف زائد وعفة مفرطة، ولن يكن له تهمة في الأحكام، بل رغبته وتطلعه إلى الإشغال والإفادة. وطلب الإقالة أولاً من السلطان، فما أجابه، ثم إنه لما جاء إلى الشام واستقر في دمشق، كتب إلى شيخنا العلامة تقي الدين السبكي ليناقله إلى وظائفه بالقاهرة، ويأخذ هو قضاء الشام، فما وافقه ذاك.
وكان منصفاً في بحوثه، ريضاً معظماً للآثار، ولم يغير عمته للتصوف. ولما جاء إلى دمشق، بلغني أنه أحضر القاضي فخر الدين المصري والقاضي جمال الدين ابن جملة، وحل من وسطه كيساً فيه ألف دينار، وقال: هذه جاءت معي من الديار المصرية.
وخرج له ابن طغريل والشيخ عماد الدين بن كثير مشيخة، فوصلهما بجملة. وشرح الحاوي في أربع مجلدات وجوده، واختصر منهاج الحليمي وسماه الابتهاج. وله التصرف، شرح التعرف في التصوف.
وكان قد أحكم العبية، وله يد طولى في الأدب، ويكتب خطاً قوياً إلى الغاية مليحاً تعليقاً.
وكان له حظ وافر من صلاة وصيام وخير وحياء، وكان مع مخالفته للشيخ تقي الدين بن تيمية وتخطئته له في أشياء كثيرة، يثني عليه ويعظمه ويذب عنه، إلا أنه لما توجه من مصر قال له السلطان: إذا وصلت إلى دمشق، قل لنائب الشام يفرج عن ابن تيمية. فقال: يا خوند، على ماذا حبستموه؟ قال: لأجل ما أفتى به في تلك المسألة. فقال: إنما حبس للرجوع عنها، فإن كان قد تاب ورجع أفرجنا عنه. وكان ذلك سبب تأخيره في السجن إلى أن مات.
وكان له ميل إلى محيي الدين بن عربي، إلا أن له ردوداً على أهل الاتحاد. وكان يتحدث على حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " كنت سمعه الذي يسمع به " . وشرحه شرحاً حسناً، وبينه بياناً شافياً.
ورأيته يكتب بخطه على ما يقتنيه من الكتب التي تخالف السنة من اعتزال وغيره:
عرفت الشر لا للشر ... ر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر ... ر من الخير يقع فيه
وكان يترسل جيداً من غير سجع، ويستشهد بالأبيات المناسبة والأحاديث والآيات اللائقة بذلك المقام.(2/27)
وكنت أنا بصفد أكتب إليه وهو بمصر عن الأمير شرف الدين حسين بن جندر رحمه الله تعالى فتأتي أجوبته بخطه، وهي في غاية الحسن، وفيها السلام علي والثناء الكبير والتودد من غير معرفة. ولما دخلت القاهرة واجتمعت به مرات، عاملني بكل جميل وطلب مني كتابي جنان الجناس. وقف عليه، وبقي عنده مدة، ثم أعاده إلي، وبلغني الثناء الزائد منه علي. ثم لما قدمت من مصر إلى دمشق متوجهاً إلى الرحبة، و هو بالشام قاض، طلب ذاك المصنف مني، فحملته إليه، وبقي عنده مديدة، ثم أعاده، وأخذ في الفضل والشكر على عادة إحسانه، جزاه الله عني الخير، ورحمه ورضي عنه.
وكتب هو رحمه الله إلى ناصر الدين شافع، وقد طلب منه شيئاً من شعره:
غمرتني المكارم الغر منكم ... وتوالت علي منها فنون
شرط إحسانكم تحقق عندي ... ليت شعري الجزاء كيف يكون
يقبل الباسطة الشريفة، لا زالت للمكرمات مستديمة، وفي سبل الخيرات مستقيمة.
وينهي أن بضاعة المملوك فغي كل الفنون مزجاه، ولا سيما في فن الأدب، فإنه فيه في أدنى الدرجات. وقد وردت عليه إشارة مولانا حرسه الله تعالى في طلبه شيئاً من الشعر الذي ليس المملوك منه في عير ولا نفير، ولا حظي منه بنقير ولا قطمير، سوى ما شذ من الهذيان، الذي لا يصلح لغير الكتمان، ولا يحفظ إلا للنسيان. والمسؤول من فضل مولانا وكرمه المبذول أن يتم إسحانه إليه بالستر عليه، فإنه وجميع ما لديه من سقط المتاع، ولا يعار لسقاطته لا لنفاسته ولا يباع، والله يؤيد مولانا ويسعده ويحرسه بالملائكة ويعضده.
وكتبت إليه وقد وقف على كتابه الذي سماه مخالفة المرسوم في حل المنثور والمنظوم:
مخالفة المرسوم وافقت المنى ... وحازت من الإحسان خصل المناضل
أثارت على نجل الأثير إثارة ... من العلم مفتوناً بها كل فاضل
وشاعت بالشام صورة فتيا على لسان بعض اليهود، وهي:
أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأوضح حجة
إذا ما قضى بي بكفر بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
دعاني وسد الباب عني فهل إلى ال؟ ... دخول سبيل؟ بينوا لي قصتي
قضى بضلالي ثم قال ارض بالقضا ... فها أنا راض بالذي فيه شقوتي
فإن كنت بالمقضي يا قوم راضياً ... فربي لا يرضى لشؤم بليتي
وهل لي رضى ما ليس يرضاه سيدي ... وقد حرت دلوني على كشف حيرتي
؟إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة فها أنا راض باتباع المشيئة
وهل لي اختيار أن أخالف حكمه ... فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي
فكتب الشيخ علاء الدين رحمه الله الجواب:
حمدت إلهي قبل كل مقالة ... وصليت تعظيماً لرب البرية
وحاولت إبلاغ النصيحة منصفاً ... لمن طلب الإيضاح في كل شبهة
فأول ما يلقى إلى كل طالب ... لتحقيق حق واتباع حقيقة
نزوع الفتى من كل عقد وشبهة ... تصد عن الإمعان في نظم حجة
وإلقاء سمع واجتناب تعنت ... فلا خير في المستحمق المتعنت
إذا صح عن الجد في كشف غمة ... بليت بها فاسمع هديت لرشدتي
صدقت، قضى الرب العظيم بكل ما ... يكون وما قد كان فوق المشيئة
وهذا إذا حققته متأملاً ... فليس يسد الباب من بعد دعوة
لأن من المعلوم أن قضاءه ... بأمر على تعليقه بشريطة
يجوز ولا يأباه عقل كما ترى ... حدوث أمور بعد أخرى تأدت
كما الري بعد الشرب والشبع الذي ... يكون عقيب الأكل في كل مرة
فليس ببدع أن يكون معلقاً ... قضاء إله الخلق رب الخليقة
بكفرك مهما كنت بالبغي رافضاً ... تعاطي أسباب الهدى مع مكنة
فمن جملة الأسباب مما رفضته ... مع الأمر والإمكان لفظ الشهادة
فأنت كمن لا يأكل الدهر قائلاً ... أموت بجوع إذ قضى لي بجوعة(2/28)
فلو أنتم أقبلتم بضراعة ... إلى الله والدين القويم الطريقة
ووفيتم حسن التأمل حقه ... وأحسنتم الإمعان في كل نظرة
لكان الذي قد شاءه الله من هدى ... وليس خروج من قضاء بالة
ألا نفحات الرب في الدهر جمة ... ولكن تعرض كي تفوز بنفحة
ولا تتكل واعمل فكل ميسر ... لما هو مخلوق له دون ريبة
ولو كنت أدري أن فهمك قابل ... لفهم كلام ذي غموض ودقة
لأشبعت فيه القول بسطاً محققاً ... على نمطي علمي كلام وحكمة
ولكنما المقصود إقناع مثلكم ... فهاك قصيراً من فصول طويلة
ولولا ورود النهي عن هذه التي ... سألت لصار الفلك في وسط لجة
فها أنا أطوي بسط ما قد نشرته ... وأستغفر الله العظيم لزلتي
ونظم الشيخ علاء الدين رحمه الله أبياتاً في الشجاج، أنشدنيها عنه الإمام قاضي القضاة جمال الدين محمد بن عبد الرحيم بن علي بن عبد الملك المسلاتي المالكي. قال: أنشدنا لنفسه، وسمعتها منه غير مرة:
إذا رمت إحصاء الشجاج فهاكها ... مفسرة أسماؤها متواليه
فحارصة إن شقت الجلد ثم ما ... أسال دماً وهي المسماة داميه
وباضعة ما تقطع اللحم والتي ... لها الغوص فيه للذي مر تاليه
وتلك لها وصف التلاحم ثابت ... وما بعدها السمحاق فافهمه واعيه
وقل ذاك ما أفضى إلى الجلدة التي ... تكون وراء اللحم للعظم غاشيه
ومن بعدها ما ينقل العظم واسمها ... منقلة ثم التي هي آتيه
وموضحة ما أوضح العظم باديا ... وهاشمة بالكسر للعظم باغيه
ومأمومة أمت من الرأس أمه ... وقد بقيت أخرى بها العشر وافيه
فدامية تسمى لخرق جليدة ... هي الأم كيس للدماغ وحاويه
وهذا هو المشهور في عدها وإن ... ترد ضبط حكم الكل فاسمع مقاليه
ففي الخمسة الأولى الحكومة ثم ما ... بإيضاح عمد فالقصاص وجانيه
وخصت بهذا الموضحات لضبطها ... فلا عشر في استيفائها متكافية
وإن حصلت من غير عمد أو انته ... إلى المال عفواً فاقدر الأرش ثانيه
على ذمة النفس التي أوضحت بها ... فتلك لنصف العشر منها مسايه
وذاك لأرش الهشم والنقل مفرداً ... وزد بانضمام للحساب مراعيه
ففي اثنين منها العشر ثم لثالث ... يزيد عليه نصفه بك حاسيه
ومأمومة فيها من النصف ثلثها ... ودامغة مثل لها ومكافيه
وقيل بأن الدمغ ليس جراحة ... لتدقيقه كالحرز وهي ملافيه
وقد نجز المقصود والعي واضح ... وعجمتي العجماء في النظم باديه
؟علي بن إسماعيل بن إبراهيم
ابن قريش، المسند نور الدين أبو الحسن بن المحدث تاج الدين المخزومي المصري.
سمع الحافظين المنذري والعطار، وشيخ الشيوخ الحموي، ومحمد بن أنجب، والكمال الضرير، وابن البرهان، وابن عبد السلام. وسمع حضوراً من عبد المحسن بن مرتفع. وتفرد بأشياء، وكان صالحاً خيراً، من الشهود.
أخذ عنه شهاب الدين الدمياطي، والشيخ تقي الدين بن رافع، وشمس الدين السروجي، وجماعة.
وسمعت أنا عليه الجزء الأول والثاني من عوالي المعجم الكبير لأبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، بقراءة شيخنا الحافظ أبي الفتح، في منزله بين القصرين في عدة مجالس، آخرها في سابع جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبع مئة. وأجاز لنا جميع ما يرويه، ورواهما لنا بسماعه من الشيخ زين الدين أبي الطاهر إسماعيل بن عبد القوي بن عزون.(2/29)
قال: أخبرتنا الشيخة فاطمة بنت الإمام أبي الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري، قراءة عليها، وأنا أسمع، قالت: أخبرتنا الشيخة فاطمة بنت أحمد بن عبد الله بن عقيل الجوزدانية، قراءة عليها، وأنا حاضر، في الثالثة، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريدة الضبي، أخبرنا الطبراني.
وتوفي الشيخ نور الدين بن قريش المذكور في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وخمسين وست مئة.
علي بن إسماعيل
الشيخ الإمام نور الدين الصفدي.
ربي في حجر الشيخ زين الدين أبي بكر المقرئ إمام مسجد الشيرزي بصفد ومقرئها.
كان له قدرة على الحفظ، وشهرة بكثرة اللفظ، ذكياً إلى الغاية، زكياً في نفسه ليس لطلبه نهاية، يحرص على أن يسلك طريق الشيخ تقي الدين بن تيمية، ويأخذ نفسه بالدخول في كل بلية، ويشتهي أن يحيط بالأشياء علماً، وألا يدع علماً ولا غيره حتى يملكه فهما، فلذلك ضيع الزمان، وإن كان قد خرج عن الجهل بأمان، لكنه ذو عربية جيدة، وروية لم تكن عن الصواب متحيدة، وبرع في الحديث دراية، وشاكل فيه ببعض رواية، وشارك في الفقه فأخذ منه بنصيب، وكابد من الفقر كل يوم عصيب.
ثم إنه دخل اليمن، وتولى هناك تدريساً، ولم يكشف الله لي بعد ذلك من أمره تلبيساً.
وأظنه توفي رحمه الله تعالى بعد الست والثلاثين وسبع مئة.
كان هذا نور الدين أعجوبة لمن يفكر في أمره، كان شديد الحرص على أن يعرف كل شيء، وإذا سئل عن شيء، يريد أن يجيب عنه بالقوة، وإذا لم يوافق الصواب يتحيل على نصرة ما يقوله بكل الطرق.
وأعرف له يوماً وضعت قدامه قطع الشطرنج التي وصفها مشهرو، وهو أنها تصف صفاً مخصوصاً من القطع البيض والسود، وإذا تكامل ذلك يدعي أن مركباً كان فيه مسلمون ونصارى جالسين على هيئة مخصوصة، وكان الرائس مسلماً، فهاج البحر عليهم وهم في وسط اللجة، فاحتاجوا إلى أن يرموا بعضهم في البحر ليخف المركب فأرادوا يعملون القرعة، وكان الرائس ذكياً، فنظر إليهم وقال: ما نحتاج إلى قرعة، بل نعد من هنا، وكل من جاء تاسعاً ألقيناه إلى البحر، فارتضوا جميعاً بذلك، وأخذ الرائس يعد، وكلما جاء تاسعاً ألقيناه إلى البحر، فارتضوا جميعاً بذلك، وأخذ الرائس يعد، وكلما جاء تاسع من النصارى رمى به إلى البحر إلى أن رمى بالنصارى جميعهم، ولم يرم بأحد من المسلمين.
فلما صنعت ذلك قدامة، أعجبه ذلك وزهره ونحنح وبقي مفكراً في ذلك، واشتغل باله به عامة نهاره. ثم إني فارقته وعدت إليه، فوجدته يكرر عليها ويقول: أربعة مسلمون وخمسة نصارى، ومسلمان ونصراني وثلاثة مسلمون ونصراني ومسلم، وهو يدرس ذلك، ويكرر عليه، ويقع التخبيط عليه في سرد ذلك على الصحة، فرحمته وقلت: يما مولانا هذا أمر يتعبك ولا ينضبط لك، وقد تطلبه في وقت الحاجة، فيشذ الصواب فيه عنك. فقال لي: فكيف انضبط لك هذا؟ قلت له: هذا ضابطه في بيت واحد من الشعر. فطار عقله، وقال: هذا أعجب. ولم يصدق. قلت: نعم، بيت واحد، حروفه المهملة مسلمون، والمعجمة نصارى. فلما أنشدته ذلك، وصف القطع على حكمه وعده وصح معه، خرج من حبال عقله، فقلت: وأزيدك أخرى، إن أردت صففت لك ثمانية ثمانية وسبعة سبعة وستة ستة وخمسة وخمسة وأربعة أربعة ثلاثة ثلاثة. فقال: هذا بقاعدة أيضاً قلت: نعم. فقال: أريد تعلمني ذلك، فقلت: ما هو وقته. وقمت وتركته. وحفظ مني بيت التسعة، و هو:
ولما فتنت بلحظ له ... عذلت فما خفت من شامت
وفرح به فرحاً عظيماً، ثم إنه طالبني في آخر وقت بمعرفة القاعدة في ذلك، فما قلت له. وفرق الدهر بيننا بعد ذلك.
ونور الدين هذا في عذر مما ذهب، لأنني وجدت الفاضل الأديب الكامل صفي الدين الحلي قد جاء إلى شيء مثل هذا، فأراد ضبط صفه، وصنع له أبياتاً لتعلق بالذهن، فقال خمسة أبياتاً، أولها:
جيش من الزنج والإفرنج يقدمه ... ما كان بينهما زوج من الخدم
والضبط في هذا ببيت واحد أخصر وأحسن وأسرع في العمل. ث إنني بعد فراقي لنور الدين هذا بثلاثين سنة، أردت ضابطاً لعد ستة وإلقاء السابع، وأخذت نفسي به، تصورته، وعملت لذلك بيتاً، وهو:
فديتك إن صدقي من فخار ... أبان بناء سر في دعائي(2/30)
ثم إنني فكرت في رص مهارك النرد، وهي ثلاثون مهركة، وأردت أن توضع كذا دائرة، وتعد: ستة ويلقى السابع، ففتح الله بذلك، ووضعت له هذا البيت، وهو:
قد رد شاني بكل شين ... عدمت ذا في صلاح جبري
ثم أردت أيضاً أعد قطع الشطرنج: أربعة ويحذف الخامس، ففتح الله به، ونظمت لذلك بيتاً، وهو:
عبتم فلم أندفع ومن ذا ... يدفع بالسب عنه ضرا؟
ثم إني أردت ذلك في قطع النرد، ففتح الله به، ونظمت له بيتاً، وهو:
لا تبك إن هب ريح نجد ... إنك يا بئس ما بليتا
وكان قد نزل إلى دمشق، وقرأ على الشيخ نجم الدين القحفازي نحواً وعروضعاً، ولما رآه الجماعة بهذه المخيلة عبثوا به، ونظم فيه جمال الدين يوسف الصوفي رحمه الله تعالى.
وسائل يسأل مستفهماً ... من أين ذا المولى علي ورد
قلت له: من صفد، قال لي: ... ولا رأى أولى به من صفد
وشاع البيتان في دمشق واشتهر، فحصل له خيال، وترك دمشق، وتوجه إلى صفد، وفتح له حانوت تجارة في البطاين، ثم إنه طلب في بكرة نهار فلم يوجد له خبر، وغاب سنين ولم يظهر له أثر، فعمل أهله عزاءه. ولما كان بعد مدة ظهر خبره من مصر، ثم إنه عاد إلى صفد، فرأيته قد زاد الحال به، وقد تعلق بلعب الشطرنج، فكان يستغرق نهاره وليله، ولا يأكل ولا يشرب إلا إذا لم يجد من يلعب معه، وزاد في ذلك، فقلت له: يا مولانا، هذا الشطرنج هو مثل الكتابة، متى وصل الإنسان فيهما إلى غاية لا يمكنه أن يتعداها، وأنا قد نصحتك فما بقيت تقدر تزداد على هذه الغاية التي وصلت إليها شيئاً. فقال: كيف أعمل؟ أريد أكون فيها عالية مثل غيري. قلت: هذا الذي فتح الله به عليك، فلم يرجع عن غيه، ثم إنه لازم ذلك زماناً وعاد إلى ما قلت له. ثم إنه نزل إلى دمشق ورأيته بها، ثم إنا طلبناه فلم نقع له على خبر. وبعد حين تقديره عشرة أعوام طلع خبره في اليمن، وأنه هناك شيخ حديث، وهذا آخر عهدي بخبره في سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
علي بن إسماعيل بن جعفر
القاضي علاء الدين بن الآمدي.
كتب المنسوب الفائق، وحقق ما فيه من الطرائق، وأتقن أقلامه السبعة، مع ثبوت التأنق وعدم التأني والسرعة، تسابق البروق أقلامه، وتفوق سطوره الدر إذا زانه نظامه. كأنما همزاته الحمائم على ألفاته التي هي الأغصان، وكأنما عطفات الجيمات وجنات، ونقطها خيلان. كم كتب ختمة وكأنها للعيون روضة ورد، وكم حرر ربعة فلم تحتج إلى ذهب ولا لازورد، تسودت بعده أوراق التجويد، وتحطمت أقلام الكتاب بعدما كانت أماليد:
وأكبت الكتاب تبكي بعده ... بمدامع بلت بها أوراقها
باشر جهات الديوان والأوقاف والدرج، وكان معدوداً في كتاب الحساب، متفرداً بالضبط في الدخل والخرج.
ولم يزل على حاله إلى أن قطع الآمدي مدى الحياة، وجعله الطاعون ملقى على قفاه.
وتوفي رحمه الله تعالى بعد عصر الخميس ليلة عيد رمضان سنة أربع وستين وسبع مئة في طاعون دمشق، وقد ناهز الخمس وسبعين.
وكان إماماً في صناعة الحساب، ليس في كتاب المسلمين له نظير في عصره. كنت أقول له: كم جملة ما أقول لك، وهو خمس مئة عشرون ألف وخمس عشرة وثمانين وخمسة وعشرين وسبعة وثلاثون ومئة وسبعين. وأقول له من هذه التفاصيل جملة، وهو يلتقط ذلك على أصابعه، فإذا فرغت من الكلام، قال على الفور: كذا وكذا.
وكان قد باشر في ديوان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى مستوفياً فيما أظن، وأقام به مدة، ثم إنه في أيام حمزة التركماني صادره مع علاء الدين بن القلانسي وغيره، وأخذ منه مبلغ ستين ألف درهم، ثم استخدمه في ديوان خاص داريا ودومة، وخدم كاتباً عند الأمير سيف الدين قرمشي في أيام القاضي شهاب الدين بن فضل الله، دخل به ديوان الإنشاء في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا، وباشر في أيام طقزدمر في ديوان الأسرى.
وكان يشتري الملك بالدين، ويجعل الأجرة في وفاء الدين، فحصل من ذلك أملاكاً كثيرة من بساتين وقاعات ورباع.
وكتب ما يقارب المئة والاثنتي عشرة ختمة وربعة، وأشعار تاريخي الكبير والتذكرة التي لي جميعها، وانتخب من ذلك مجاميع عديدة.(2/31)
وكان قد أودعه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله عشرة آلاف دينار، ونسيها، فلما صادره، قال له: لك عندي وداعة. فقال: لا، إن كان صحيحاً، فهاته، فأحضر الذهب بجملته، و كان الناس يلومونه على ذلك، وهو معذور لأنه لو ذكرها فيما بعد راحت روحه معه.
علي بن أسمح
العلامة الزاهد أبو الحسن البعقوبي الشافعي النحوي المعروف بالشيخ علي مثلاً، بفتح الميم والثاء المثلثة وبعدها لام ألف.
أخذه التتار من بعقوبا فأقام ببلغار عند التتار، وحفظ المصابيح للبغوي والمفصل والمقامات وغير ذلك.
وكان شديد الديانة عتيد الصيانة، يلف رأسه بمئزر صغير، ويغني بقناعته عن الأمير والوزير. وكان ممن يعبث بالشيخ تقي الدين بن تيمية ويؤذيه بلسانه، ويستعمل في الحط ما علمه من معانيه وبيانه.
ولم يزل كذلك إلى أن توجه للحج في سنة عشر وسبع مئة، فأدركه باللجون حمامه وحان من الحياة انصرافه وانصرامه.
وكان قد سكن الروم، وولي مشيخة الحديث هناك، وهو شاب، و ركب المغلة، ثم إنه بعد ذلك تزهد، وفارق الروم، وحضر إلى دمشق سنة بضع وثمانين وست مئة.
علي بن أغرلو
الأمير علاء الدين بن الأمير سيف الدين أغرلو العادلي.
كان والده مملوك الملك العادل كتبغا، وكان والده ملك الأمراء بدمشق في أيام أستاذه، وقد تقدم ذكره في مكانه من حرف الهمزة.
وكان هذا الأمير علاء الدين من جملة أمراء الطبلخاناة بدمشق.
توفي رحمه الله تعالى في أوائل جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبع مئة. في طاعون دمشق.
علي بن ألدمر
الأمير علاء الدين بن الأمير سيف الدين أمير جاندار، قد تقدم ذكر والده رحمه الله تعالى في مكانه.
ورد هذا الأمير علاء الدين أمير علي إلى دمشق أميراً من مصر على طبلخاناة في تاسع ذي القعدة سنة ستين وسبع مئة، وجلس تحت الأمي ناصر الدين بن ألملك.
وأقام على حاله بدمشق إلى أن توفي رحمه الله تعالى في العشر الأواخر من شهر رجب الفرد سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
علي بن أيبك
الأمير علاء الدين بن الأمير عز الدين أيبك الطويل، وهو أخو الأمير صلاح الدين محمد بن أيبك الطويل، وسوف يأتي ذكره في مكانه من المحمدين.
وكان الأمير علاء الدين أولاً بدمشق في جملة أمراء الطبلخانات، ثم إنه نقل إلى طرابلس على إمرة طبلخاناة، وأقام بها إلى أن عزل الأمير شهاب الدين أحمد بن القشتمري أمير حاجب من طرابلس، ونقل إلى إمرة الحجبة بدمشق عوضاً عن الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي في سنة ستين أو في سنة إحدى وستين وسبع مئة. فأعطي الأمير علاء الدين بن أيبك الطويل مكانه.
وكان بطرابلس أمير حاجب إلى أن نقل منها إلى دمشق أميراً، فحضر إلى دمشق، وبقي بها أميراً، وكان وصوله إلى دمشق في العشر الأول من شعبان سنة ثلاث وستين وسبع مئة. إلى أن توفي رحمه الله تعالى في خامس عشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وسبع مئة.
علي بن أيوب بن منصور
الشيخ الإمام علاء الدين المقدسي الشافعي، معيد المدرسة الباذرائية بدمشق.
كان أولاً يعرف بعليان ويكتب ذلك بخطه في أول أمره.
سمع من الفخر بن البخاري ومن عبد الرحمن بن الزين.
وحدث بدمشق والقاهرة. وكان قد عني بالحديث، وطلب وقرأ بنفسه، وحرر الألفاظ وضبطها.
وكان يكتب خطاً فائقاً، ويبرز الصحف من يده تحكي روضاً بالأزاهر رائقاً صحيحة الألفاظ مضبوطة، سليمة من اللحن مشكولة منقوطة. ولما أبيعت كتبه في حياته، تغالى الناس في أثمانها، وبالغوا في قيمتها رغبة في صحتها وحسنها وإتقانها.
وكان قد درس بالأسدية وبحلقة صاحب حمص. ثم إنه توجه إلى القدس وسكنه فاختلط، وتلفظ بالصواب تارة، وتارات بالغلط، وأخذ في ادعاء المستحيلات، والقدرة على فعل ما هو خارج عن الممكنات. وكابد مع ذلك فقفراً شديداً، وعيشاً من الهناء بعيداً.
ولم يزل على حاله إلى أن نزل قبره، وما يملك خيطاً في إبرة.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة بالقدس.
وكان بدء اختلاطه في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.(2/32)
وكان يذكر الجن كثيراً في كلامه، ويقول: قد وعدوني بأن يسوقوا إلي نهراً من النيل، ونهراً من زيت نابلس إلى داري هذه، ويعد لذلك أماكن يكون فيها الماء وأماكن يكون فيها الزيت، وأشياء من هذه المستحيلات. وكابد فقراً مراً مع هذه الحالة. نسأل الله تعالى العافية من كل بلاء.
علي بن شاه بن أبي بكر
التوريزي، الوزير الكبير.
خدم القان بوسيعد ملك التتار، وتمكن منه عظيماً، وجعل عقد وزارته نظيماً. وهو الذي قام على الرشيد الوزير، وأهلكه، وساق إليه حتفه حتى أدركه.
وكان داهية ذا هبة، غير مفكر في أمر دنياه الذاهبة. وكان محباً لأهل تالسنة، قوي اليقين في ذاك والمنة. صافي السلطان الملك الناصر، وهاداه، وكان إلباً على من خالفه وعاداه. ولم تزل رسله ترد، وسيل هداه إلى دمشق ومصر يجري ويطرد، وكلمته مقبولة وإشارته على العين محمولة.
وكان في أول أمره سمساراً. فما زال يرقى إلى أن صار النجم له جاراً.
ولم يزل على حاله إلى أن حمل على شرجعه، وعز على ذويه أوان مرجعه.
وتوفي رحمه الله تعالى بأرجان في أواخر جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
وهو والد الأمير ناصر الدين خليفة، أحد أمراء دمشق، المقدم ذكره في مكانه.
وكان قد أهدى إلى السلطان الملك الناصر ربعة مليحة في قطع نصف البغدادي في ورق جيد، وهي مكتوبة، جميع أجزائها الثلاثين، بليقة ذهب، بقلم محقق كبير، مزمكة، في غاية الحسن. رأيتها في الخانقاه بسرياقوس. وأهدى أخرى مثلها إلى الأمير سيف الدين تنكز، أظنه جعلها في جامعة.
علي بن أبي بكر بن محمد
ابن محمود بن سلمان بن فهد، القاضي علاء الدين بن القاضي شرف الدين، وقد تقدم في حرف الباء، ابن القاضي شمس الدين، وسيأتي ذكره في حرف الميم، ابن العلامة شهاب الدين محمود، وسيأتي ذكره.
كان قد شدا طرفاً من الأدب، وعني بالإنشاء وكتب. ونظم ونثر، وجرى إلى الغاية فما شارفها حتى عبر.
وكان يتودد إلى الناس، ويخدمهم بما يقدر عليه من غير إلباس.
ولم يزل على حاله إلى أن كبا جوداه في وسط الميدان، وخلا منه صدر الدست وقلب الديوان. وتوفي رحمه الله تعالى في نهار الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبع مئة.
ومولده فيما أظن سنة ثلاثين وسبع مئة.
كان قد دخل إلى الديوان، وكتب الإنشاء. ولما توفي أخوه القاضي شهاب الدين أحمد وكان يوقع في الدست، دخل هو بدل أخيه، ووقع في الدست بدمشق المحروسة. وحج إلى بيت الله الحرام في سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
وكان رحمه الله تعالى كثير الأسقام، ضعيف التركيب.
وكان في وقت قد أهدى إلي صحن حلوى مشبك، وتحته قطائف، فكتبت إليه:
يا سيدي إن الذي أهديته ... عطف الموائد من حلاه مائد
وافى فأذكرني عهود مكارم ... والخير منك كما يقال عوائد
صحن لأنواع الحلاوة جامع ... ذا راكع فيه وهذا ساجد
نصبت بساحته شباك مشبك ... وقطا القطائف تحتهن رواكد
وبأفقه أقراص ليمون بدت ... فكواكب قد رصعت وفراقد
والسكر المذرور فيه مجرة ... أو لا فمن فوق النحور قلائد
إن كنت قد فرغته أكلاً فقد ... ملأته مني في علاك محامد
لا زلت تهدي للموالي مثله ... في كل صوم فيه عيد عائد
علي بن أبي بكر
علاء الدين بن البرقعيدي الكحال.
ما رأيت مثله في العمل بالحديد، قطع عندي لإحدى بناتي شرانيق من عينها في دفعة واحدة، من أسرع ما يكون. فتق الجفن الأعلى، واستخرج منه شيئاً شبيهاً بالشحم الأصفر، ولم يعمل ما يعتمده غيره من تعليق الصنانير في الأجفان، وحك الشرانيق بالسكر النبات، لأن ذلك أمر مطول مؤلم.
وكانت عنده مشاركة في الطب وغيره، وكان كحالاً بالبيمارستان النوري بدمشق.
وأنشدني من لفظه لنفسه، وادعاه أنه نظمه في مشد الدواوين بدمشق:
مشدنا في الشام قد شقيت ... مما تقاسي من جوره الأمم
يذبح الناس ما يرق لهم ... كأنما الناس عنده غنم
وتوفي رحمه الله في حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبع مئة.
علي بن بكتمر(2/33)
الأمير علاء الدين بن الأمير سيف الدين الأبو بكري. أحد الأمراء أخيراً بمصر.
كان هو وإخوته قد أخرجهم الملك الناصر محمد بعد موت أبيهم في حبس الإسكندرية إلى دمشق، فأقاموا بها. وقد تقدم ذكر أخيه الأمير شهاب الدين أحمد.
وطلب السلطان الملك الناصر حسن الأمير علاء الدين هذا، وأخاه الأمير سيف الدين أسنبغا إلى مصر، وأقبل عليهما.
ولم يزل الأمير علاء الدين بمصر أميراً إلى أن جرى للملك الناصر حسن ما جرى، وتصاف هو والأمير سيف الدين يلبغا، وتناوشوا القتال، فحصلت للأمير علاء الدين جراحة في وجهه، فمات منها بعد يويمات، على ما قيل، ووصل الخبر بموته إلى دمشق في أواخر جمادى الأولى سنة اثنتين وسبع مئة.
ولما كان بالشام توجه إلى الرحبة نائباً مرتين، وأنا شاك في الثالثة. وكان من أبناء الستين أو ما يزيد عليها.
كان شكلاً تاماً ذا رواء، وهمة في الأمور واعتلاء. يكتب ويقرأ، ويد لو أنشأ نظماً ونثراً، لأنه بمصر كان يجتمع بالأفاضل، ويرامي الأقران بالجدال ويناضل. وله ميل كثير إلى الألغاز، ولم يكن كغيره يهواها، وهو في العمي ضائع العكاز.
ولما كنت بالقاهرة في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، طلب مني لغزاً، فكتبت إليه:
أيا سيداً حاز العلا وهو يافع ... فراوي الندى عنه كثير ونافع
ومن حاز فضل السيف في معرك الردى ... فبارقه في ظلمة النقع ساطع
ومن إن سألنا: من أولو الفضلو والنهى ... أشارت إليه عند ذاك الأصابع
ومن نفق الآداب بعد كسادها ... وجلى دجاها من محياه لامع
ومن هو ذخر للعفاة وملجأ ... إذا صدهم حظ من الدهر صادع
أحاجيك ما اسم، أعوز الناس قطرهم ... فلما دعا انجابت عيون هوامع
كتابته في الطرس لا شك أربع ... وعدته خمس وفي العكس سابع
وإن زال منه ثالث فقبيلة ... لها في قراع الدارعين وقائع
وعدة ما يبقى لعكس ثلاثة ... ولكنه سبع، ففيم التنازع
وإن تم معكوساً وصحفت لفظه ... تجده منى من قد غدا وهو جائع
فصحفه بعد القلب من غير نقصه ... فذلك في التصحيف والقلب شائع
أبن لي معماي الذي قد سترته ... فغيرك فيه مثل أشعب طامع
ودم وارق في أوج المفاخر والعلا ... مدى الدهر ما غنت بأيك سواجع
فحله في عباس. ولم يكتب الجواب نظماً.
وطلب الزيادة مني، فكتبت إليه أيضاً ملغزاً في أبيات، منها:
تقدم لعز قبل ذا وحللته ... فمن يقتن العليا بفضلك يقتد
فما اسم رباعي الحروف وإنما ... تركب من حرفين من رامها هدي
رسول إلى قوم كريم كتابه ... به خاطب القرآن كل موحد
ويقتل عند الشافعي ومالك ... وعند الفتى النعمان والحبر أحمد
له في أعالي كل غصن تلاوة ... بلحن كأن الدوح معبد معبد
تكاد قوافي ذا القريض تذيعه ... فقد زينت منه بحرف مردد
ودم راقياً في أفق كل سعادة ... بنى لك منها الدهر أشرف مقعد
فحله في هدهد وهو صحيح.
علي بن بلبان
الأمير امفتي المحدث النحوي، أبو الحسن علاء الدين الفارسي المصري الجندي الحنفي.
سمع من الحافظ شرف الدين الدمياطي جزء ابن ديزيل، وسمع من محمد بن علي بن ساعد، وبدمشق من البهاء بن عساكر وغيره.
وكان جيد الفهم، لا يرد له عن إصابة الصواب سهم، حسن المذاكرة، كثير الفوائد في المحاضرة. وله تقدم في الدولة المظفرية، ووجاهة في الدولة الناصرية. وله شعر مموه بالبديع، ويوهم أنه مفيد، وهو طعام من ضريع. إلا أنه مقبول غير مردود. وفيه دلالة على أنه برز من خاطر مكدود. وكان مليح الشكالة، وافر الجلالة.
ولم يزل على حاله إلى أن بلغ الأجل كتابه، وهيل عليه ترابه.(2/34)
وتوفي رحمه الله تعالى في تاسع شوال سنة تسع وثلاثين وسبع مئة في منزله بشاطئ النيل.
ومولده سنة خمس وسبعين وست مئة.
وكان قد تفقه بقاضي القضاة أبي العباس أحمد السروجي، وبفخر الدين عثمان بن التركماني وبمحيي الدين الدمشقي وغيرهم.
وقرأ المنطق والأصول على الشيخ علاء الدين القونوي، والنحو على العلامة شيخنا أبي حيان، وصحب الأمير سيف الدين أرغون النائب، وكان قد تقدم في أيام المظفر.
وله تصانيف، منها: شرح كتاب الجامع تصنيف صدر الدين الخلاطي. ورتب صحيح ابن حبان على أبواب الفقه، وكذلك معجم الطبراني الكبير بإعانة الشيخ قطب الدين عبد الكريم.
وانتشا ولده جمال الدين، فتفقه لأبي حنيفة، ثم تحول شافعياً، فتألم والده لذلك.
وكان علاء الدين الفارسي يصلح للقضاء لسكونه وعلمه وتصونه.
ومن شعره:
سرت نسمة طابت بطيبة للذكر ... فأرجت الأرجاء من عرفها العطر
وجاءت بها البشرى فسرت بما سرت ... وأحيت بما حيت إلى مطلع الفجر
فيا حسنها بخدية زمزمية ... أضاء لها من ثغرها زاهر الدر
تبسم منها كل قلب وقالب ... فتيق نسيق الشيح والرند والزهر
تجلت فجلت بالشفا كل غلة ... وحلت فحلت بالصفا عقدة الهجر
أباحت حباء من حبائل شعرها ... تصيد به صيد الصناديد عن قسر
وغادرت الأسرى وأسري بسرها ... تسر بما لاقت وذاقت من الأسر
فأصبحت مشتاقاً إلى ساكن الحمى ... ولم أستطع من بعد شيئاً سوى الصبر
وهي طويلة. وهذا القدر منها كاف، إذ هو شعر فاضل. أتى فيه بصناعة بديع يوهم أن ذلك شعر يسمع فيطرب، وليس كذا ما كل باسمة لبنى.
علي بن بلبان
الأمير علاء الدين بن الأمير الكبير سيف الدين البدري. تقدم ذكر والده في مكانه من حرف الباء الموحدة.
وكان الأمير علاء الدين أحد أمراء الطبلخاناة بدمشق. وكان حسن السياسة، كثير الرياسة، وافر الأمانة، زائد الصيانة، عفيفاً عن أموال الرعية، سالك الطريق المرضية المرعية. قل من رأينا سلك مسلكه القويم، أو تولى أمر ناحية فسقى عدله أهلها كأساً، مزاجها من تسنيم. ما باشر جهة إلا وسد خللها، وأزاح عللها، وشفى غللها وفصم جللها، ونشر حللها. لا جرم أنه وجد له ذلك مدخراً، و جعل ذكره الطيب في الناس سمرا.
وراح إلى الله معفواً عن مغفوراً له خطأه، ودخل في قوم ضرب مثلهم بزرع أخرج شطأه.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وسبع مئة.
ولاه الأمير علاء الدين ألطنبغا ولاية نابلس لما كان بدمشق، فأجمل فيها السيرة. ثم إنه تولى ولاية الولاة بالصفقة القبلية، فأجمل سياستها، وعف عن أموال الرعايا إلى الغاية، ثم ولي نيابة الرحبة فحمدت سيرته بها، ثم عزل منها وأقام في دمشق على إمرته، ثم أعيد إلى نيابة الرحبة، ثم إنه عزل منها، ثم تولى القبلية، فزداد في حسن المباشرة والعفة عن أموال الرعايا حتى إنه كان لا يعلق التبن على خيله، ولا يشرب الماء إلا بثمن من دراهمه، ثم إن استقال فأعفي من ذلك. ثم ورد مرسوم السلطان بإعادته إلى نيابة الرحبة، وكا قد حصل له مرض استرخاء، فعاقه عن ذلك، وطولع بأمره، فورد مرسوم السلطان بأن يعفى من ذلك، ويتوجه إليها الأمير ناصر الدين محمد بن الزيبق. وبقي الأمير علاء الدين بعد ذلك قريباً من شهرين أو ثلاثة، وتوفي رحمه الله تعالى في التاريخ المقدم.
علي بن بهادر آص
الأمير علاء الدين أمير علي بن الأمير سيف الدين بهادر آص.
كان أمير عشرة، ولم يكن في دمشق من يلعب الكرة أحسن منه، يقال إنه هو بهذا اللعب كان السبب في خلاص والده، لأن تنكز كان يعظمه، ولكنه ضيع ماله وتضعضع حاله.
وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
علي بن بيبرس
الأمير الفاضل الذكي النحرير، علاء الدين بن الأمير الكبير ركن الدين. تقدم ذكر والده في حرف الباء مكانه.(2/35)
كان هذا علاء الدين له ألمعية، وعنده لوذعية، يتوقد ذكاء وفطنة، ويتقلب ما بين حالتي منحة ومحنة. عاشر الناس وصحب الفضلاء، واجتمع بالأكابر الرؤساء والنبلاء. وطالع كتب الأدب، وعلق لنفسه واختار ودأب، وحفظ من المنظوم والمنثور جملة وافية، وعلق بدهنه من أخبار من تقدم قطعة كافية.
نشأ بمصر وأقام بدمشق وحلب، وترسل إلى سيس، فلذلك كان إذا تحدث خلب. وجلب إلى النفوس من محاسنة ما جلب. ولما عمل الحجوبية ما كان يدع أحداً يسبقه إلى كلام، وإذا قال شيئاً كان برئياً من المؤاخذة والملام. فكأنما عناه أبو الطيب بقوله:
في رتبة حجب الورى عن نيلها ... وعلا فسموه علي الحاجبا
ولي الحجوبية بحلب ثم نقل منها إلى دمشق، وكان وهو حاجب عينها، وأصلح منها ما فسد، وسد مينها، ثم عاد إلى حلب على الوظيفة، وزاد علواً في مراتبها المنيفة.
ولم يزل بها على حاله إلى أن أطبق الموت أجفانه، وأودعه تحت الأرض أكفانه.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وخمسين وسبع مئة. وقد عدى الخمسين بقليل.
وهو أكمل الإخوة وأسعدهم وأفضلهم، سعى بنفسه إلى أن أخذ الإمرة من مصر، وكان قد كتب على يده الأمير سيف الدين يلبغا كتباً ومطالعة إلى السلطان، فاتفق تغير الدولة، فأقام هناك، وأعطي إمرة بدمشق، فجاء وأرغون شاه بدمشق نائب، سيف الدين أرغون الكاملي إليها نائباً، فخدمه، فولاه بها شد الدواوين. ولم يزل إلى أن اتفقت للكاملي تلك الكائنة مع الحلبيين، وهرب من عندهم، وجاء إلى دمشق، وتوجه منها إلى مصر، وأعيد إليها نائباً، فأحسن إلى علاء الدين بن بيبرس، لأنه ما غفل عن خدمة بيته وأهله، ولا خانة، فرعى له ذلك. ولما قدم الكاملي إلى دمشق، وطلب الأمير سيف الدين تلك الحاجب إلى مصر، خلت الوقت الوظيفة، فطلبها للأمير علاء الدين، فجاء إلى دمشق حاجباً، ولم يكن عنده غيره، لأنه عارف خبير درب، عاشر الناس ورآهم في مصر والشام، فما كان يتكلم في الدست غيره.
ثم إنه توجه إلى لد، وجاء معه إلى دمشق، وتوجه معه إلى حلب، فكان معه، فلما رسم له بالإقامة هناك، أقام عنده حاجباً، ولما طلب الكاملي إلى مصر لم يمكنه إلا الإقامة في حلب، وحضر الأمير سيف الدين طاز إلى حلب نائباً، فراج عليه ونفق عنده بعدما كان قد أعرض عنه. ولم يزل إلى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ.
وكان يستحضر شعراً كثيراً للأقدمين والمتأخرين وأهل العصر، وعلى ذهنه تواريخ ووقائع من قديم الإسلام وحديثه. وكان حلو العبارة، فصيح اللسان، يستحضر الواقعة في وقتها، ويتمثل بالشعر النادر في كتبه.
وكان غريباً في أبناء جنسه. كتبت إليه بعدما توجه من دمشق لما أقام بحلب ارتجالاً من رأس القلم في شوال سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة:
لقد أوحشت أهل الشام حتى ... سلبت ربعوها ثوب البهاء
يقبل الأرض ويشكو حظه من الأيام، وما يجده لهذه الحادثة من الآلام، وما يجرعه من الغصص لفراق مولانا الذي آنس مقامه حلب، وأوحش فراقه الشام.
وإذا تأملت البقاع وجدتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد
نعم يا مولانا، لقد شقيت دمشق ببعدك عنها، وسعدت حلب بقربك منها. وما يقول المملوك إلا كأن الله تعالى كان قد كمل محاسنها بحلولك، وأطلع الأمن فيها بنزولك، وكاثر أنهارها بما تجريه المكارم فيها من سيولك، وفاخر أهلة أفقها بما تؤثره في طرقها حوافر خيولك، وفاضل أزاهرها النافحة بآثار جرذيولك:
فتجملت وتكملت ... فأصابها عين الكمال
ورمى الإله صفاتها ال؟ ... حسنى بحادثة الليالي
فعيوننا من ذا بوا ... ك في منازلها البوالي
وكأنما عرصاتها ... سلك وأدمعنا لآلي
ومولانا عز نصره، فيجد أمثالنا كثيراً، وأما نحن فوالله ما نجد مثله، ولا من إذا أصابنا ظمأ أفاض علينا بالجود وبله وبله. وقد حرم المملوك على نفسه المرور على باب دار مولانا الكريمة، لا أخلاها الله تعالى من المحيا الكريم، والوجه الذي يخجل البدر إذا أنار في الليل البهيم.(2/36)
يا مولانا، الله يمتعنا بحياتك، ما ينسى المملوك تلك الليلة التي مرت، ومماليك بين يديك، وكأن الأنس والسعد والفضل في قبة ضربت عليك، والمسرة والإقبال والهناء خدام وقفوا لديك. ودموع المملوك ما يملك رد عنانا، ولا يخبا عقود درها وجمانها، ولا ينقطع لها خيط مزن، ولا يعلم الباعث لها ما هو، أمن سرور أو حزن. نعم، للنفس شعور بما يقع فيما بعد، وإدراك بما سوف يتجدد من النحس أو السعد.
ولما عاد المملوك تلك الليلية من عند مولانا أعز الله أنصاره ودخل مسكنه واستجن داره، نظم المملوك:
تعجب خلي من عبرتي ... وقد هطلت كالحيا الساكب
فقلت: دموعي تحاكي ندى ... علي بن بيبرس الحاجب
وبالله يقسم المملوك أن دمشق بعد مولانا ما تسكن، والعمل على الخروج منها متعين إن أمكن. فلقد كان لها بمولانا ملك الأمراء جمال وأي جمال، ورونق لا يملكه إلا البدور إذا كانت في ليالي الكمال، وعز دائم لو أن ركابه الكريم فيها يحل ويرحل، وظل ظليل لو أن مغناها ما أقفر منه ولا محل.
ما العيش فيها طيب لبعاده ... عنها ولا روض الحمى بنضير
وعلى الجملة، فدمشق لها مدة سنين في خمول، الله يجعل هذا آخره، ويرينا وجه مولانا على ما يسر من أوقات أنسه الفاخرة:
وكنا كما نهوى فيا دهر قل لنا ... أفي الوسع يوماً أو نكون كما كنا
وألطاف الله تعالى خفية بعباده، وقد يرجع الله الغريب إلى بلاده، بمنه وكرمه. أنهى ذلك إن شاء الله تعالى.
علي بن تنكز
الأمير علاء الدين أيمر علي بن الأمير الكبير المهيب سيف الدين نائب الشام.
كان يحبه والده محبة عظيمة، وأظنه من زوجه بنت الأمير سيف الدين كوكاي.
أمره السلطان الملك الناصر، ولبس التشريف والشربوش، ومشى الأمراء والحجاب ووجوه الدولة من أرباب السيوف في خدمته من مدرسة نور الدين الشهيد إلى دار السعادة في يوم الخميس ثاني شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
وكان لا يزال عليلاً كثير الأوجاع والأسقام، فتنكد عيش والده بذلك.
ولم يزل على ذلك إلى أن توفي رحمه الله في عشية الاثنين عند المغرب، العشرين من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ودفن في أول الليل بتربة والده التي بجوار جامعة، ظاهر دمشق.
ووجد عليه وجداً عظيماً والده، وجهز إليه السلطان أميراً كبيراً يعزيه، وجهز إليه تشريفاً عظيماً، فلبسه.
وكان قد جاء منه كتاب إلى الأمير سيف الدين بكتمر الساقي، يوصي فيه بأخته، زوج أمير أحمد بن بكتمر الساقي، وكان اسمه فيه بخط يده، لأنه كان صغيراً جداً أول ما كتب. فكتبت أنا الجواب عنه وأنا بالديار المصرية في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، ونسخته: " أدام الله تعالى نعمة الجناب العالي الأميري العلائي، وزاد العيون بآثاره كل بهجة، وسر بأبكار معانيه كل نفس وأقر بها كل مهجة، وشد ببأسه عضد والده حتى يطفئ به حر الوغى و رهجه.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تطوى على سلام، هو أصدق القول وأطربه لجهة، وينشر عن ثناء جعل طريقه إلى الأسماع على الرياض ونهجه.
وتوضح لعلمه الكريم ورود مكاتبته التي هي حقيقة المحاسن ومجازها، وبرود الفضل التي أضحت، وخط اسمه الكريم طرازها، فوقف منها على الرياض رقمها الغمام بأبر قطره، ودبح ثراها بملونات زهره، لا بل نظل منها إلى الأفق يلمع في ليل مداده صباح طرسه، ووجد ألفاظه الدر، لا بل تعلوا على الدر، أن تكون من نوعه وجنسه، وسر من الجناب العالي بدره، أهذا أبوه وهو في الحقيقة بحر وسماً واسعاً، وتعجب له من ماجد فاق البدور هلالاً وعلا الشموس نجماً، ورأى خط يده يطير جناحه بنجاح النجابة، وعلم أنه لا بد وأن يغدو فارس الكتائب والكتابة.
فيا عز هذه الدولة الناصرية ببأسه الماضي الشبا. ويا بشرى المعالي منه بأمارة نجيب قالت له الإمارة مرحباً، والله يجمل ببدره هالات المواكب، ويعلي قدره على أقدار السعود من الكواكب، فإن الظن في الصدقات السلطانية ما رقى له غير أولي درجة، ولا تخطى الأمل الصادق منعطفه ومنعرجه.(2/37)
وأما الإشارات الكريمة إلى كريمته، فهي أين كانت كريمة، وحيث سارت وصارت سعودها مقيمة، وما الجناب العالي وأهله إلا بمنزلة الولد بل أعز قدراً، وإذا جاء أحدهم بحسنة واحدة نال بها عشراً، فهي درة أحرزها مودعها وشمس أشرق بالسعد واليمن مغربها ومطلعها.
فلتقر عينه من جهتها المصونة، ولتطب نفسه بما تناله من العناية والمعونة، إن شاء الله تعالى.
علي بن جابر بن علي بن موسى
نور الدين الهاشمس اليمني.
شيخ الحديث بالمنصورية بالقاهرة. سمع باليمن من الزكي البيلقاني، وبمصر من العز الحراني وخلق، بدمشق من الفخر، وجماعة.
كان فاضلاً محدثاً أديباً، رئيساً في نفسه أريباً، أخلاقه سهلة، وحركاته تقتضي التراخي والمهلة، متواضعاً في نفسه، مقتصراً في حاله ولبسه، وكان للكتب جماعة، ونفسه إلى التزيد منها طماعة. وكان صوته جهورياً، وليس من الفصاحة عرياً، وقراءته مليحة، وكلماته صحيحة.
ولم يزل على حاله إلى أن هشم الموت عظام الهاشمي، وأتاه منه ما لم يسلم منه النوع الآدمي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث عشري جمادة الآخرة سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده بمكة سنة سبع وأربعين وست مئة وقليل: سنة ثمان وأربعين، في يوم عاشوراء، كما ذكر.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وأصحابنا ينسبونه إلى شيء من التساهل فيما يقوله ويدعيه.
وكان الشيخ أبو عمرو بن سيد الناس يذكر عنه أنه ذكر شيئاً وكتب بخطه، ثم ادعى غيره وأصلحه.
وكانت فيه مكرمة، وكان يوصف بحسن الجوار والمخالطة، وتورع في أنه هاشمي.
وقال شيخنا الذهبي: وكان مع علمه ليس متحرياً في النقل. قال أبو محمد النويري. أخذ عنه الطلبة.
وأخبرني من لفظه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى قال: استعرت من نور الدين المذكور مجلداً، فوجدت فيه في مكان الأبيات الضادية التي للشافعي رضي الله عنه وفيها تخريجة إلى الحاشية تتصل ببيتين، الأول حفظته، وهو:
قف ثم ناد بأنني لمحمد ... ووصية وابنيه لست بباغض
ثم تأملت الخط، فإذا هو خط نور الدين، انتهى.
قلت: وقد اشتهر هذا البيت، وأثبته الفضلاء والحفاظ والناس من شعر الشافعي، وهو:
يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضاً كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
ولكن من له معرفة ودربة بقدر الشافعي رضي الله عنه يتحقق أن الشافعي ما يقول: باغض، اسم فاعل من أبغض.
وذكر الثقات عن الربيع أنه قال: حججنا مع الشافعي، فما ارتقى نجداً. ولا هبط وادياً، إلا وهو يبكي وينشد هذه الأبيات الثلاثة. فإذا زيد رابع أو خامس، أخرج ذلك أهل النقد.
وعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول:
شهدت بأن الله لا رب غيره ... وأشهد أن البعث حق وأخلص
وأن عرى الإيمان قول مبين ... وفعل زكي قد يزيد وينقص
وأن أبا بكر خليفة أحمد ... وكان أبو حفص على الحق يحرص
وأشهد ربي أن عثمان فاضل ... وأن علياً فضله متخصص
أئمة دين يقتدى بفعالهم ... لحى الله من إياهم يتنقص
وروى أبو سعد بن السمعاني في ذيله، وبسنده إلى جعفر بن أحمد بن الحسن السراج أنه أنشد رداً على من زعم أن في الشافعي تشيعاً:
لا در در معاشر لم يحفظوا ... غيب الأئمة عاجز أو ناهض
زعموا بأن الشافعي محمداً ... جادت ثراه بمصر مزنة عارض
مترفض إذ قال في بيت له ... فليشهد الثقلان أني رافضي
ما قاله إلا بشرط واضح ... لأولي النهى والدين ليس بغامض
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
وبه يقول المسلمون فهل ترى ... عين لآل محمد من باغض
يا من رماه ببدعة في دينه ... لازال جسمك حلف حمى نافض
رجع القول إلى ذكر نور الدين الهاشمي: الله أعلم بسريرته.
ومن شعره في أصحاب الطيالس:
قوم لهم سيرة سارت ببغيهم ... قد ارتدوا برداء الكبر والحمق(2/38)
خفت رؤوسهم إذ خف عقلهم ... لولا طيالسهم طارت من العنق
ومنه في أصحاب العذبات:
قوم إلى الثيران أقرب نسبة ... وحقيقة قد ألبسوا أثوابا
سترت عمائمهم شعوب قرونهم ... أو ما ترى عذباتهم أذنابا
ومنه:
يفخر زيد بحسن عمته ... يخطر بالكم إذا رأى عذبه
كمثل ثور يدور ملتهيا ... يمرح عجباً إذا رأى ذنبه
ومنه:
هو المجد لا زور الأماني الكواذب ... وليس العلا إلا ابتذال الرغائب
وما فاح نشر الروض إلا لأنه ... بذول لما أولاه قطر السحائب
وما طاب ذكر الحمد إلا لأنفس ... لها في اقتناء الحمد أسنى المكاسب
حناينك من عصر خلت منه سادة ... غياث لمستجد وغوث لراغب
ومنه:
نال من صدها الفؤاد سوا ... رب خير أتى بغير اعتماد
شيمة في الحسان بغض المحب؟ ... بين فلا ترجون صفو الوداد
قلت: شعر جيد، ومقاصد حسنة، ولكنه هو ولد بمكة، وربي باليمن، وأهل تلك البلاد المعهود عنهم اللطف ورقة الحاشية، ولا سيما وقد أقام بالديار المصرية، فكيف يقول:
نال من صدها الفؤاد سلوا ... رب خير أتى بغير اعتماد
هذا فيه جفاء وغلظة طباع. وأين هذا من قول الأول:
علمتني بهجرها الصبر عنها ... فهي مشكورة على التقبيح
قال علمتني، فنسب ذلك إليها، وقال: الصبر، وما قال: السلو. والنصف الثاني في غاية الحسن.
وكان الشيخ نور الدين المذكور يدعي أنه يحفظ الوجيز
علي بن الحسن بن أحمد
الإمام الزاهد العابد، علم الأولياء، أبو الحسن الواسطي الشافعي.
صحب الشيخ عز الدجين الفاروثي، وسمع من أمين الدين بن عساكر وغيره،. وقرأ القرآن والفقه، وأكثر من مطالعة العلم، ولاذ بظل الصبر والحلم، ولازم الحج ستين عاماً، وجاور في بعض ذلك مقاماً.
وكان منجمعاً عن الناس، منعزلاً عن الأدناسن لا يقبل من كل أحد، ولا له غير الصبر ملتحد. له كشف وحال، وفضل وقال. كثير التلاوة والقيام، والذكر والصيام، منقطع القرين، متواصل الآهة والأنين.
توفي رحمه الله تعالى ببدر محرماً، وراح إلى الله مكرماً، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
علي بن الحسن
الإمام الخطيب ابن الجابي، بالجيم والألف والباء الموحدة، خطيب جامع جراح.
كان طيب النغم، حسن الصوت إذا نغم، جيد الأداء، فصيح التلاوة يشوق إلى الاقتداء به والاهتداء. يورد خطباً طوالاً، يطيل فيها جواباً وسؤالاً. وله عمل كثير في الكيمياء، ويزعم أنها صحت معه. والظاهر أنه ظفر منها ببعض صبغ أطمعه.
ولم يزل في نصبه وكده إلى أن حصل في لحده.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة إحدى وسبع مئة.
وخطب بعده الشيخ شرف الدين الفزاري إلى أن نقل إلى خطابة الجامع الأموي.
وكان هذا الخطيب ابن الجابي قد جمع نحو أربع مئة دينار. وجاءت التتار، فكابر وقعد في بيته في الجامع، فدخلوا عليه، فكلمهم بالتركي، فأخذوا ثيابه وفرشه ونحو ثلاثين قطرميزاً من زبيب ومخلل وعسل. ثم جاءته فرقة أخرى، وقالوا له: أين المال، فتمسكن لهم، فرأوا هناك لازورداً، فأرادوا أن يوجروه به، فصاح وخرج لهم عن ثلاث مئة دينار، فأخذوا الذهب، وعذبوه، ثم إنه هرب وتسلق من الباب الصغير، فظفر به أناس آخرون، وطالبوه مصادرة، وقاسى أهوالاً ووبالاً وفقراً إلى أن توفي رحمه الله تعالى في تاريخه.
ولما أبيعت كتبه، جاء الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى واشترى منه كتباً بألف درهم، جميعها في الكيمياء، ورمى بها في وقته في بركة، وغسلها، وقال: هذه كانت تضل الناس وتضيع أموالهم.
علي بن الحسن بن علي بن أبي نصر
علاء الدين بن عمرون.
نشأ علاء الدين هذا، وقد عدم ما كان لوالده من الدنيا الواسعة، فاشتغل بالحساب، وولي الزكاة ثم الوكالة وغيرها.
وكان من عقلاء الناس.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وسبع مئة في خامس عشر شهر رجب.
وروى سداسيات الرازي عن أحمد بن النحاس، سمعها عليه بالإسكندرية عن ابن موقا.
وكان والده من أرباب الأموال الجزيلة. أقام بالإسكندرية وتوفي بها.
علي بن حسن
الأمير نور الدين بن الأمير بدر الدين حسن بن الأفضل.(2/39)
كان الأمير نور الدين هذا ابن أخي الملك المؤيد صاحب حماة. جاء إلى دمشق بعد الفخري أمير طبلخاناة، وأقام بدمشق، واشترى دار أيدغدي شقير التي عند مئذنة فيروز من الأمير علاء الدين علي بن بيبرس الحاجب، وهي دار عظيمة وبها بحرة متسعة، لم يكن بداخل دمشق أكبر منها، وعمر بها الأمير نور الدين قبة مليحة إلى الغاية.
وكانت له أملاك وسعادة بحماة وإقطاع جيد، وعنده جواري جنكيات ودفيات، فانقصف، وأورث أهله الأسى والأسف.
وكان موته في عاشر صفر سنة تسع وأربعين وسبع مئة. وعمره تقدير أربع وعشرين سنة.
وكان يعرج قليلاً إلا أن وجهه حسن.
علي بن حسن
الأمير علاء الدين بن المرواني.
كان في دمشق من خيار الناس، وأعقلهم ممن يود أن يعد أو يدخل في كيس الأكياس. ظريفاً مندباً، مخرجاً مهذباً، يخدم الناس ويتقرب بإحسانه، ويحسن بيده وبلسانه، إلى أن تولى الصعيد بمصر، فاكتسب هناك الإثم، وأصر على الإصر وسفك الدماء نهاراً جهاراً، وأجرى منه بجرأته أنهاراً.
ثم إنه نقل إلى ولاية القاهرة، فأظهر فيها من الجبروت ما تجف منه البحار الزاخرة، ولم يزل على حاله إلى أن راح إلى الآخرة.
وتوفي رحمه الله تعالى ....
أول ما علمت من أمره أنه جاء إلى صفد شاد الديوان ووالي الولاة عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الساقي، جهزه الأمير سيف الدين تنكز في سنة ثماني عشرة أو تسع عشرة. ولم يزل بصفد إلى أن طلب إلى دمشق، وتولى ولاية البر بها في سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة عوضاً عن سنجر الطرقجي، فأحبه تنكز والصاحب شمس الدين، وقرباه وأدنياه وبالغا في إكرامه.
ولم يزل معظماً يحبه أهل دمشق، ويحسن هو إليهم إلى أن طلبه السلطان الملك الناصر محمد إلى القاهرة في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، و ولاه الصعيد، فدخل يوماً إلى ديوان الإنشاء بقلعة الجبل لإلفه بأهل دمشق، وقعد عندنا يسيراً يتحدث ويذكر دمشق، فجاء إليه إنسان من عند بعض الخاصية يقول: هذا يكون في خدمتك، يصلي بك ويؤذن ويقرأ. يشير إلى فقيه معه. فقال: سلم على الأمير، وقل له: أنا ما أروح إلى الصعيد مسلماً، فضلاً عن أني أصلي. فأخذنا منه ذلك على عادة بسطه وتنديبه. فما كان إلا أن راح إلى الصعيد، وحط يده والسيف. فوسط وسمر وشنق، وسفك الدماء، إلى أن نقل إلى ولاية القاهرة في سادس عشري جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
وكان الحال في هذه الولاية أشق. أول ولاية بالقاهرة قطع على ما قيل خمسين يداً غير الأرجل، وزاد في ذلك، ودخل مع القاضي شرف الدين النشو وأحبه وأخذا أرواح جماعة من الكتاب.
وولى السلطان ابنه الأمير ناصر الدين محمداً مصر، وأضاف الحسبة في الخبز إلى الأمير علاء الدين في أيام الغلاء، لكنه ساس ذلك سياسة جيدة. وأظنه تولى القاهرة بعد سيف الدين بلبان الحسامي، بعدما نقل إلى نيابة دمياط.
علي بن الحسن بن علي
الشيخ نور الدين أبو الحسن الأرموي الشافعي، شيخ خانقاه القاضي كريم الدين.
سمع من الفخر بن البخاري وغيره.
وأجاز لي بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده بأقصر سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين وست مئة.
علي بن حسن بن أبي الفضل
ابن جعفر بن محمد بن كثير الحلي.
قدم دمشق وأقام بها سنوات، ثم إنه في يوم شق الصفوف في الجمع الأموي، والناس في صلاة جنازة، وجعل يقول: لعن الله من ظلم آل محمد. ومن هذا وشبهه، فنبه الشيخ عماد الدين بن كثير عليه، وقال: أمسكوه، فإن هذا يسب الصحابة، فأمسكوه وأحضروه إلى العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فاستفهم منه عما يقول، فظهر له أنه يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فأمر باعتقاله.(2/40)
ثم إن الناس قاموا في أمره، ورفعوه إلى قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي المالكي، فضربه ثلاثة أيام بالسياط، ويأمره بالتوبة، وهو مصر، ثم إن الناس حملوه إلى دار العدل بين يدي النائب، فأمره بالتوبة هو والقضاة، وهو مصر، ثم إن نائب القاضي المالكي حكم بضرب عنقه، فتوجه الناس به إلى سوق الخيل، و توجه بعض الناس يشاور عليه، فجاء بعض الجند، وضرب عنقه، وأخذ رأسه، ولعب الجند به الكرة في سوق الخيل، ثم إن العوام أحرقوا جسده بالنار، وطيف برأسه بعد ذلك في أسواق دمشق. وكان ذلك في يوم الخميس عشري جمادة الأولى سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
علي بن حسن بن صبح
الأمير علاء الدين، أحد الأمراء بدمشق.
صحب الأفرم وداخله، ولما قفز الأمراء وتركوا الأفرم وحده، ولم يبق عنده أحد من الأمراء إلا من هو من خواصه، ولا من هو بعيد عنه، أخذه علاء الدين بن صبح، وتوجه به إلى الشقيف.
ولما دخل السلطان إلى دمشق كتب لهما أماناً، فحضر إليه، ثم إنه أمسكه فيما بعد، وأقام في سجن الإسكندرية إلى أن أفرج السلطان عنه، ووصل إلى دمشق يوم عيد الأضحى سنة أربع عشرة وسبع مئة.
ولم يزل بدمشق مقيماً على إمرته إلى أن توجه إلى البقاع، ومرض به.
وتوفي هناك في يوم الأربعاء سابع عشري شوال سنة أربع وعشرين وسبع مئة. عمره سبع وأربعون سنة.
علي بن الحسن بن محمد بن الحسين
القاضي الرئيس الشريف، شرف الدين الحسيني الأرموي ثم المصري، نقيب العلويين ووكيل بيت المال بالقاهرة، وقاضي العساكر.
حدث عن ست الوزراء، ودرس بمشهد الحسين بالقاهرة، وكان من كتاب الإنشاء. وهو ابن عم السيد الشريف شهاب الدين الحسين المقدم ذكره.
وكان السيد علاء الدين ظريف الشكل والمنظر، دائم البشر بوجه يخجل القمر إذا تم وأبدر. وله إنشاء جيد، ونثر ما عرج عن الحسن ولا حاد عنه، فإنه بالبلاغة متأيد، وبينه وبين الشيخ جمال الدين بن نباتة مكاتبات راقت صدروها وسطورها، ولاق بالقولب منظومها ومنثورها.
وكان قد حصلت له وجاهة في أيام الملك الصالح إسماعيل من جهة أم السلطان، وساد فيها، وعبث به ابن عمه الشريف شهاب الدين بما كتب على الحيطان.
ولم يزل على حاله إلى أن أصبح في أكفانه مدرجاً، وانقطع أمل من أم له ورجا.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع وخمسين وسبع مئة بالقاهرة.
علي بن الحسين بن قاسم بن منصور بن علي
الشيخ الإمام العالم الفاضل العلامة المتبحر المفتن الأصولي الفقيه النحوي، الكامل زين الدين أبو الحسن ابن الشيخ جمال الدين ابن الشيخ شمس الدين ابن الشيخ جمال الدين ابن الشيخ زين الدين بن العوينة الموصلي الشافعي.
كان حسن الشكالة، ظاهر الجلالة، نير المحيا، يشبهه البدر لو تم له ذلك أو تهيا، أحمر الوجنة، رؤية البدر معها هجنة، نقي الشيب، بريئاً من العيب، طاهر الذيل عاطر الحبيب، فكه المحاضرة مأمون الغيب، خالياً من الشبهة والريب، حالياً بمواهب الفوائد التي ما يذكر معها للغمائم سيب.
فقيه إذا قلت فقيه، يبهر علمه وبحثه كل من يلتقف فضله أو يلتقيه، أصولي مد أطناب الإطناب في شرح المختصر، وقام بأعباء هذا العلم وجالد لما جادل وانتصر.
مفسر غير مقصر، بليغ إذا تفوه ألهي بعذوبة نطقه عن العذيب ووادي محسر.
نحوي حل ما في التسهيل من التعقيد، وأوضح غوامضه فأغمض ناظر الناظر فيه بعد ما كان يعالج التسهيد.
ورياضي أخذ جمل محاسنه بلا حسب، وقرب بعيد هذا الفن وسهل الاكتساب.
وناظم أدار قوافيه كؤوساً على الألباب وأنس المتيمين بأغزاله ذكرى المنازل والأحباب.
نبه به جماعة من الأعيان، وتخرج به طائفة من أولي الفهم والأذهان.
ولم يزل يفيد، ويبدي البدائع في البدائة ويعيد إلى أن أتى سيل المنية على ابن شيخ العونية، واستوفى أجله منه دينه.
وتوفي رحمه الله تعالى بالموصل، وصلي عليه في ماردين غائباً في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
وسألته عن مولده، فقال: بالموصل ثاني عشر شهر رجب الفرد سنة إحدى وثمانين وست مئة.(2/41)
اجتمعت به في دمشق بالمدرسة القليجية جوار دار الذهب في شهر شوال سنة خمسين وسبع مئة، وقد ورد للحج إلى دمشق صحبة بنت صاحب ماردين، فرأيت منه حبراً كامل الفوائد، وبحراً لا تبخل أمواجه بإلقاء الفرائد، وكتبت إليه بعد ذلك سؤالاً نظمته قديماً، وهو:
ألا إنما القرآن أكبر معجز ... لأفضل من يهدى به الثقلان
ومن جملة الإعجاز كون اختصاره ... بإيجاز ألفاظ وبسط معان
ولكنني في الكهف أبصرت آية ... بها الفكر في طول الزمان عناني
وما ذاك إلا استطعما أهلها فقد ... نرى استطعماهم مثله ببيان
فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر ... مكان ضمير إن ذاك لشان
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك:
سألت لماذا استطعما أهلها أتى ... عن استطعماهم إن ذاك لشان
وفيه اختصار ليس ثم ولم تقف ... على سبب الرجحان منذ زمان
فهاك جواباً رافعاً لنقابه ... يصير به المعنى كرأي عيان
إذا ما استوى الحالان في الحكم رجح الضمير، وأما حين يختلفان
فإن كان في التصريح إظهار حكمة ... لرفعة شان أو حقارة جان
كمثل أمير المؤمنين يقول: ذا ... وما نحن فيه، صرحوا بأمان
وهذا على الإيجاز والفظ جاء في ... جوابي منثوراً بحسن بيان
فلا تمتحن بالنظم من بعد عالما ... فليس لكل بالقريض يدان
وقد قيل إن الشعر يزري بهم فلا ... تكاد ترى من سابق برهان
ولا تنسني عند الدعاء فإنني ... سأبدي مزاياكم بكل مكان
وأستغفر الله العظيم لما طغى ... به قلمي أو طال فيه لساني
والجواب المبسوط بالنثر، فهو: بسم الله الرحمن الرحيم سأل بعض الفضلاء عن الحكمة في ف؟ " استطعما أهلها " دون فاستطعماهم مع أنه أخصر؟ والجواب: قلت: والله الموفق: إنه لما كانت الألفاظ تابعة للمعاني، لم يتحتم الإضمار، بل قد يكون التصريح أولى، بل ربما يكاد يصل إلى حد الوجوب، كما سنبين إن شار الله تعالى، ويدل على الأولية قول أرباب علم البيان ما هذا ملخصه: لما كان للتصريح عمل ليس للكناية، كان لإعادة اللفظ من الحسن والبهجة والفخامة ما ليس لرجوع الضمير، انتهى كلامهم.
فقد يعدل إلى التصريح إما للتعظيم وإما للتحقير وإما للتشنيع والنداء بقبح الفعل، وإما لغيرهم، فمن التعظيم قوله تعالى: " قل هو الله أحد، الله الصمد " دون " هو " . وقوله تعالى: " وبالحق أنزلناه وبالحق نزل " ولم يقل وبه. وقوله: " الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " فقد كرر لفظ الحج مرتين دون أن يقال: فمن فرضه فيهن، ولا جدال فيه " ، إعلاماً بعظمة قدر الحج، وعبادته، من حيث إنها فريضة العمر، وفيها شبه عظيم بحال الموت والبعث، فناسب حال تعظيمه في القلوب التصريح باسمه ثلاث مرات.
ومه قول الخليفة أمير المؤمنين: يرسم بكذا دون أنا، إما لتعظيم ذلك الأمر أو لتقوية داعية المأمور أو نحوهما.
وقول الشاعر:
نفس عصام سودت عصاما
وقول أبي تمام:
قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ ... دد والمجد والمكارم مثلاً
فإن إيقاع الطلب على المثل أوقع من إيقاعه على ضميره لو قال: طلبنا لك مثلاً فلم نجده.
وقول بعض أهل العصر:
إذا برقت يوماً أسرة وجهه ... على الناس قال الناس جل المنور
وأما ما يكاد يصل إلى حد الوجوب، فمثل قوله تعالى: " يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك " إلى قوله: " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، إن أراد النبي أن يستنكحها " عدل عن الإضمار إلى التصريح، وكرر اسمه صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على أن تخصيصه صلى الله عليه وسلم بهذا الحكم أعني النكاح بالهبة عن سائر الناس، لمكان النبوة، وكرر اسمه صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على عظمة شأنه وجلالة قدره، إشارة إلى علة التخصيص وهي النبوة.(2/42)
ومن التحقير: " فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم " " فأنزلنا على الذين ظلموا " ، دون: " عليهم " ، " وقالوا قلوبنا غلف، بل لعنهم الله بكفرهم " أضمر هنا، ثم لما أراد المبالغة في ذمهم صرح في الآية الثانية والثالثة بكفره فقيل " لعنة الله على الكافرين " " وللكافرين عذاب مهين " .
وأمثاله كثير، فإذا تقرر هذا الأصل، فنقول: لما كان أهل هذه القرية موصوفين بالشح الغالب واللؤم اللازب بدليل قوله صلى الله عليه وسلم " كانوا أهل قرية لئاماً " وقد صدر منهم بحق هذين العبدين الكريمين على الله ما صدر من المنع بعد السؤال، كانوا حقيقين بالنداء عليه بسوء الصنع، فناسب ذلك التصريح باسمهم، لما في لفظ الأهل من الدلالة على الكثرة مع حرمان هذين الفقيرين من خيرهم مع استطعمامهما إياهم، ولما دل عليه حالهم من كدر قلوبهم وعمى بصائرهم، حيث لم يتفرسوا فيهما ما تفرسه صاحب السفينة في قوله: أرى وجوه الأنبياء.
هذا ما يتعلق بالمعنى، وأما ما يتعلق باللفظ، فلما في جمع الضميرين في كلمة واحدة من استثقال، فلهذا كان قليلاً في القرآن المجيد. وأما قوله تعالى: " فسيكفيكهم الله " وقوله: " أنلزمكوها " فإنه ليس من هذا القبيل، لأنه عدول عن الانفصال إلى الاتصال الذي هو أخصر، وعند فك الضمير لا يؤدي إلى التصريح باسم ظهر، بل يقال " فسيكفيك إياهم الله " ، و " أنلزمكم إياها " ، فكان الاتصال أولى، لأنه أخصر، ومؤداهما واحد، بخلاف مسألتنا.
ثم هنا سؤالات، فالأول: ما الفرق بين الاستطعام والضيافة؟ فإن قلت: إنهما بمعنى، قلت: فلم خصصهما بالاستطعام، والأهل بالضيافة؟ والثاني: فلم قيل " فأبوا أن " ، دون فلم، مع أنه أخصر؟ والثالث: لم قيل " أتيا أهل قرية " ، دون أتيا قرية، والعرف بخلافة؟ نقول: أتيت الكوفة دون أهل الكوفة، كما قال تعالى: " ادخلوا مصر " .
والجواب عن الأول: أن الاستطعام وظيفة السائل، والضيافة وظيفة المسؤول لأن العرف يقضي بذلك، فيدعو المقيم إلى منزله القادم، يسأله ويحمله إلى منزله. وعن الثاني: أن في الإباء من قوة المنع ما ليس في فلم، لأنها تقلب المضارع إلى الماضي وتنفيه، فلا يدل على أنهم لم يضيفوهم في الاستقبال، بخلاف الإباء المقرون بأن، فإنه يدل على النفي مطلقاً، وآيته: " ويأبى الله إلا أن يتم نوره " أي حالاً واستقبالاً.
وعن الثالث: أنه مبني على أن مسمى القرية ماذا؟ أهو الجدران وأهلها معاً حال كونهم فيها؟ أم هي فقط، أم هم فقط؟ والظاهر عندي أنه لم يطلق عليها مع قطع النظر إلى وجود أهلها وعدمهم بدليل قوله تعالى: " أو كالذي مر علي قرية وهي خاوية على عروشها " سماها قرية، ولا أهل ولا جدار قائماً، ولعدم تناول لفظ القرية إياهم في البيع إذا كانت القرية وأهلها ملكاً للبائع، وهم فيها حالة البيع، ولو كان الأهل داخلين في مسماها لدخلوا في البيع، ولثبوت المغايرة بين المضاف والمضاف إليه، وإنما ذكر الأهل لأنهم المقصود من سابق الكلام، دون الجدران، لأنه بمعرض حكاية ما وقع منهم من اللؤم.
فإن قلت: فما تصنع بقوله تعال: " وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها " " وكم من قرية أهلكناها، فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون " " وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة " إلى آخره " واسأل القرية " فإن المراد في هذه الآيات وأمثالها الأهل والجدران؟ قلت: هو من باب المجاز بالقرينة، لأن الإهلاك إنما ينسب إليهم دونها، بدليل " أو هم قائلون " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف وبطرت معيشتها، ولاستحالة السؤال من غير الأهل. على أنا نقول: لو تصور وقوع الهلاك على نفس القرية بالخسف والحريق والغريق وننحوه، لم تتعين الحقيقة، لما ذكرناه.
وهذه عجالة الوقت، ونحن على جناح السفر.
هذا صورة ما كتب به إلى الشيخ زين الدين رحمه الله تعالى، وقد كنت كتبت هذا السؤال للشيخ الإمام العلامة نجم الدين علي بن داود القحفازي وأجاب عنه بجواب يأتي إن شاء الله في ترجمته.
وأجاب عنه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى يجيء في ترجمته إن شاء الله تعالى.(2/43)
وقرأ الشيخ زين الدين القرآن ببغداد على الشيخ عبد الله الواسطي الضرير لعاصم من طريق أبي بكر. وشرح الشاطبية على الشيخ شمس الدين بن الوراق الموصلي، وحفظ الحاوي الصغير، وشرحه على أقضى القضاة عز الدين أبي السعادات عبد العزيز بن عدي البلدي، وشرحه أيضاً على السيد ركن الدين. وقرأ مختصرات ابن الحاجب، وشرحه على السيد ركن الدين أيضاً.
وقرأ أصول الدين والمعقولات على السيد ركن الدين أيضاً، وقرأ ألفية ابن معط على الشيخ شمس الدين المعيد المعروف بابن عائشة.
وقرأ اللمع أيضاً لابن جني ببغداد على مهذب الدين النحوي، وعلى شمس الدين الحجري بفتح الحاء والجيم التبريزي مدرس العربية في المستنصرية.
وقرأ الحساب على القاضي عز الدين المذكور آنفاً، وقرأ عليه الطب أيضاً.
أجاز له جماعة، منهم الشيخ تاج الدين بن بلدجي الحنفي، وسمع عليه بعض جامع الأصول لابن الأثير، وكان يرويه عن ابن الحامض عن المصنف، وسمع أكثر شرح السنة على الشيخ تاج الدين عبد الله بن المعافي، وأجاز له الشيخ شمس الدين بن الوراق الحنبلي.
وقدم إلى دمشق سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وسمع على الشيخ جمال الدين المزر صحيح البخاري والترمذي ومسند الشافعي، وأجزاء كثيرة. وعلى الشيخ شمس الدين السلاوي صحيح مسلم، وعلى الشيخ زين الدين بن تيمية سنن النسائي، وعلى الشيخ شمس الدين الذهبي سنن ابن ماجة، وسمع على الشيخ شمس الدين بن النقيب قاضي حلب بعض سنن الدار قطني، وأجازه الباقي. وسمع على الشيخ علم الدين البرزالي كتاب علوم الحديث لابن الصلاح.
وأجازه الشيخ شمس الدين محمد بن شكاره المؤدب الموصلي المقامات الحريرية.
وروي مصنفات الشيخ موفق الدين الكواشي عن الشيخ شمس الدين بن عائشة عن السيد ركن الدين عن المصنف رحمه الله تعالى وله من المصنفات تفسير بنج الحمد، وهو خمس سور من القرآن الكريم، أول كل سورة: " الحمد " . وشرح مختصر ابن الحاجب في مجلد، وشرح البديع لابن الساعاتي الحنفي، وشرح مختصر المعالمين للسد ركن الدين، وكتاب تنفيح الأفهام في جملة الكلام اختصار مقاصد السول في علم الأصول للسد ركن الدين، ونظم الحاوي الصغير في دون الخمسة آلاف بيت، ونظم شرح المنظومة الأسعردية في الحساب وشرح التسهيل لابن مالك، ولم يكمل، وشرح قصدية في الفرائض للشيخ عبد الله الجزري. وله كتاب عرف العبير في عرف التعبير.
هذه الترجمة أملاها علي من لفظه، وسألته عن معنى هذه التسمية، أعني شيخ العوينة، فقال: الشيخ زين الدين الأعلى كان من أهل الثروة والسعادة بالموصل، فآثر الانقطاع والعزلة، فآوى إلى الجباية بباب الميدان ظاهر الموصل، ولا ماء لها هناك إلا من الآبار المحفورة، طول البير خمسون ذراعاً وستون ذراعاً وأكثر وأقل فكان الشيخ زين الدين يتوجه في كل يوم إلى الشط، ويملأ إبريقين، ويحملهما، ويجيء بهما لأجل شربه ووضوئه. فمكث على ذلك مدة، وهو يقاسي مشقة لبعد المسافة، فلما كان في ليلة، رأى النبي صلى الله عليه وسلم أو الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول له: احفر لي عندك حفيرة، يظهر لك الماء، فلما انتبه استبعد ذلك، لأن الآبار هناك بعيدة الغور، ولبث مدة، فرأى تلك الرؤيا، فاستبعد ذلك، وقال: لو حفرت بعكاز طلع لك الماء. فقص ذلك على بعض أصحابه، وحفر في ذلك المكان تقدير ثلاثة أذرع أو أكثر، فأجرى الله تعالى هناك عيناً، وهي مشهورة هناك، فمن ثم قيل له شيخ العوينة، وكان من الصلحاء الكبار. انتهى.
ولما بلغتني وفاة الشيخ زين الدين المذكور، قلت أنا في رثائه:
الشيخ لما توفي ... وقدر الله حينه
سالت دموعي عيوناً ... على ابن شيخ العوينة
وأنشدني الشيخ زين الدين رحمه الله من لفظه لنفسه. ما كتب به إلى الشيخ شمس الدين الحيالي:
سلام مثل أنفاس العبير ... على من حبه زاد المسير
ونهج سبيله حرز الأماني ... ومصباح الهداية للبصير
عوارفه لأهل الكشف قوت ... وإحياء لعلمهم الغزير
إشارته النجاة لمن وعاها ... ومنطقه شفاء للصدور
تحية من ذريعته إليه ... خلاصة نية وصفا ضمير(2/44)
وفي جمل الفصول له مثير ... الى المقصور في تلك القصور
ولو واتاه تيسير وفوز ... بتكميل المقاصد والسرور
وقابل سره وجه التهاني ... ولاح طوالع السعد المنير
سعى ورمى جمار البعد عنه ... وطاف بكعبة الحرم الخطير
ولم يقنع بتحفة بنت فكر ... ولا اعتاض السطور عن الحضور
وأنشدني من لفظه لنفسه يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرم الشريف في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة:
دعاها تواصل سيرها بسراها ... ولا تردعاها فالغرام دعاها
ولا تخشيا منها كلالاً من السرى ... وحقكما إن الكلال عداها
فإن مل حاديها وحار دليلها ... هدها إلى تلك القباب سناها
عسى ينقضي في مسجد الخيف خوفها ... وتلقى مناها في نزول مناها
وتجرع من ماء الأجيرع شربة ... وتنقع من حر الذميل صداها
متى ما تخللت النخيل بيثرب ... بها عدمت تثريبها وغناها
ولم يبق من أكوارها في ظهروها ... ظهور إذا ما بطن مر حواها
إليك رسول الله سعى عصابة ... تعد خطاها فيك محو خطاها
أتت وقراها موقر بذنوبها ... فأحسن كعادات الكرام قراها
وليس لها عند الإله وسلية ... سواك إذا ما النار شب لظاها
وأنشدني من لفظه ما كتبه لصاحب ماردين، يودعه، وقد توجه للحج سنة خمسين وسبع مئة:
ودعتكم وتركت قلبي عندكم ... ورحلت بالمخلوق من صلصال
فالقلب في الفردوس يشهد حسنكم ... والجسم في نار التفرق صال
ومن شعره أيضاً يمدح صاحب ماردين:
إلهي إن الصالح المصلح الذي ... بدا غزه في آل أرتق يزهر
وألبسته من نور وجهك حلة ... تكاد لأبصار الخلائق تبهر
إذا برقت يوماً أسرة وجهه ... على الناس قال جل المنور
وقالوا كما قالت صواحب يوسف: ... أذا ملك أم آدمي مصور
يؤمل أن يدعوك ظناً بأنني ... لديك وجيه مستجاب موقر
إلهي فلا تخلف بي الظن عنده ... وإن لم أكن أهلاً فحلمك يستر
وهذي يدي مرفوعة بتضرع ... فيسر عليه كل ما يتعسر
وآمنه من خوف فقد أمن الورى ... بهيبته مما يخاف ويحذر
وأحسن له العقبى وبلغه بيتك ال؟ ... حرام على وجه يحب ويؤثر
وحط ملكه حتى يؤوب مسلماً ... وقد حطت الأوزار وهو مطهر
فما في اعتقادي في السلاطين مثله ... وأنت بما يخفى ويعلن أخبر
فإن لم يكن فاجعله حيث ظننته ... فأنت على قلب الحقائق أقدر
علي بن الحسين بن علي بن بشارة
الفاضل علاء الدين أبو الحسن الشبلي، بالشين المعجمة والباء الموحدة واللام، الدمشقي الحنفي.
سمع كثيراً من اليونيني، وسمع بنفسه، وكتب، وأعاد، وتأهل للإفتاء.
وتوفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة تسعين وست مئة في غالب الظن.
وولي إعادة المدرسة الشبلية. قال شيخنا علم الدين البرزالي: سمع معنا كثيراً، ورافقته في الحج رحمه الله تعالى.
علي بن الحسين بن محمد بن عدنان
السيد الشريف علاء الدين بن الشريف زين الدين بن الشريف محيي الدين بن أبي الجن الحسيني.
كان أولاً خليعاًن ظريفاً خريعاً، فيه دماثة أخلاق، وسعة صدر في حالتي يسر وإملاق. قل أن يرى إلا وهو يضحك، ولسلامة صدره يعتقد ودك ونصحك. وكان الناس يتطفلون على عشرته، ويعتقدون وده لعدم شرته، ولم يكن في باطنه حقد، وخيره دون شره نقد. إلا أنه لسلامة باطنة يتظاهر بمذهب الاعتزال، وإذا أنكرنا عليه حاله في الوقت زال. ومع ذلك فكان عامياً خالياً من العلم، قد ملئ باطنه وظاهره من الحلم.
ولم يزل على حاله إلى أن طفئت شعلته، وراح إلى الله تعالى ومعه نحلته.(2/45)
وتوفي رحمه الله تعالى في سلخ شعبان سنة سبع وأربعين وسبع مئة.
وكان قد ابتلي بحمى الربع وطالت به مدة سنتين، ثم إنه راح إلى الربوة، وأكل سمكاً ولبناً، وربما أنه نزل في النهر، فمات رحمه الله تعالى.
وكان أولاً بيده شهادة المواريث الحشرية، وله فيها أخبار.
وكنت قد كتبت له توقيعاً بنقابة الأشراف بدمشق في شهر رجب الفرد سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وهو: الحمد لله الذي زان أشراف هذه الأمة بعليها، وجعله من الذرية المنسوبة إلى نبيها، ورفع شأنها إلى رتب تحف الملائكة بناديها والملوك بنديها، وقمع من شأنها برفع لوائها في آفاق الفخار إلى غاية لا يترجل علوي عن علويها، نحمده على نعمه التي لا تزال تجود وليها بجود وليها، ومننه التي طاب عرف رياها، وطار عرف ريها، وأياديه التي بلغت النفوس آمالها بماليها خيراً ومليها، وعوارفها التي نأت عن لحاق الشكر فيما نجد عبارة، وفيها حق وفيها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يلمع الإيمان من محيا ألمعيها، وتميس أعطاف قائلها تحت اللواء المعقود في حلالها وحليها، وترد نفس معتقديها الحوض المورود، فتبل غلتها بشهي كوثريها.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده الذي ابتعثه من سادة لم يلو المجد عن لؤيها، ولا أقصى الله المحامد عن قصيها، ورسوله الذي انتخبه من أنجاب كم أنجاب الظلام بسنا السنان من سمهريها وخفية الذي انتفاه من أمجاد لم تستقم طرق النجابة حتى شقها سنبك أعوجيها. صلى الله عليه وآله وصحابته الذين هم خير جماعة، ركبت إلى الشرف مطامطيها، وأعز فئة لم تخط غرض الصواب سهام قسيها، وأفضل زمرة تفرق الأبطال إذا انحسر فوق كميها، وأشرف سادة عاد غنيها على فقيرها، وعاذ فقيرها بغنيها.
صلاة ترفل الأقلام من الطروس في سندسيها، وتبسم شفاه الطروس اللعس عن جوهري كلمها ولؤلؤيها، وشرف ومجد وكرم.
وبعد، فإن أولى النسب بأن ترعى له الأقلام حدوداً، وترفعه إلى غاية تعقد له على السماك ألوية تخفق عذباتها وبنوداً، وتودع في غاب متى دخله دعي داخله الخوف مما ملئ أساود وأسودا، وينتهي إلى محل إذا سرحت العيون في أفيائه لم تلق إلا نعمة وحسوداً.
نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ونم فلق الصباح عمودا
فهو بيت النبوة الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره، وأعلاه على كل ذي شرف باذخ، وأظهره، وفرعه من شجرة أصلها ثابت من أبي القاسم، كما حرره النقل والنقد، وحبره، وفرعها في السماء، تتشعب غصونه من التبول وحيدره، ولم تزل نقابة الطالبيين تساهمهم الخلافة العباسية في المناصب، وتزاحمهم في كواكب المواكب بالمناكب، وتشركهم في كل عقد وحل، وتجاذبهم سقيا رياضهم بكل وابل وطل، وقد قال الشريف الرضي للطائع، وما استحيا، مهلاً أمير المؤمنين فإننا لم نتفرق في درجة العليا.
ولما خلت الآن هذه الوظيفة السنية، والرتبة العلية العلوية، من النقيب عماد الدين موسى بن جعفر، قدس الله روحه تطاول كل عرابة لتلقي راية مجدها بيمينه، ونظر بعين صلفه، وخطر بعطف شرفه، وشمم عرنينه، واحتاجت العصبة الطاهرة، والأنجم التي كل منها نير فكلها بحمد الله تعالى زاهرة إلى من يسد مسده، ويبلغ أشده الذي لا يبلغ الوصف حده أجمعوا رأيهم على من عقدوا عليه الخناصر، وحكموا بأن الأحق لما حواه من كرم الأصول، وطيب العناصر، واتفقت كلمتهم عليه بمجلس الحكم العزيز الشافعي زاده الله علواً، وأفاد أحكامه رفعة وسمعوا، وقال لسان حاله لما ولي:
لا سيف إلا ذو الفقار ... ولا فتى إلا علي(2/46)
ولما كان الجناب العلالي الأميري العلائي أدام الله عزي شرفه، ونفع ببركة سلفه هو الذي أسر القلم ضميره، وحكم الفكر فيه بصفاء السريرة، وأشارت الصفات إليه، وكادت سماته الصادقة تدل الرائد عليه. فلذلك رسم بالأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري، ولا زال الشرف بأوامره المطاعة يزيد علاء، ويفوق على مدى الأيام سناً وسناء أن يغوص إليه نقابة الطالبيين بدمشق المحروسة على عادة من تقدمه بحكم رضى السادة الأشراف به، لما حازه من مفاخرة التي تبتلج بها الوجه الوضاء، ومآثره التي يترنم بها الركبان على ذات الأضاء، ومناقبة التي انساقت إليه من الحسين إلى زين العابدين إلى محمد الباقر إلى جعفر الصادق إلى موسى الكاظم إلى علي الرضى، إلى محمد الجواد، وهلم جرا، حتى انتهى صباح ذلك إليه فأسفر بمساعيه وأضا، ولأنه من بيت أحياه محييه، وزاده زيناً، وجعل رئاسته، أعزه الله تعالى، في ذمة الزمان إلى هذا الوقت ديناً، وسماه علياً تفاؤلاً بعلوه، ولذلك جعل أول اسمه عيناً، فليفخر بهذا النسب الذي أضحى على هامة الجوزاء مرخى الذوائب والبيت الذي علت شرفات شرفه، فكأنما تحاول ثأراً عند بعض الكواكب، والمكارم التي شرح الجود بها التباس المذاهب، وليجمع السادة الأشراف عليه بأحسانه، ويودع كبيرهم وصغيرهم من الحنو والرأفة سرادق أجفانه، وينشر عليهم ملاءة عارفته وعرفانه، ويعاملهم بالبر والتقوى حتى يروا طرف الزمان الذي عمه عمه، كيف من الله علي بإنسانه. وليحفظ عليهم أنسابهم المتصلة، ويضبط ما تفرع من أغصانه المتهدلة، حتى لا تشذ شذرة من مكانها، ولا تتركب حبة مع غير جمانها، ولينزهم عن مناكحة غيرهم من الأجانب، ومخالطة من لا يعادلهم في الدرج والمراتب، فقبيح بالجواهر أن ينخرط الجزع في أسلاكها، وغير لائق بالدراري أن لا تدور في غير أفلاكها، وليصنهم عن التبذل في اكتساب المعاش، والتظاهر بغير ما ألفوه من زينة اللباس والرياش. وليمنعهم من التحاكم إلا إليه، والوقوف في التنازع إلا بين يديه، ولا يدعهم يتبذلون فإنهم سادة من فاه أو تكلم، وأشرف من تكرم أو تحلم، وبقية قوم إذا غضبوا غضبة مضرية قطر السيف دماء وتثلم، وإذا أعاروا ذرى المنابر سيداً صلى عليهم وسلم، وليأمرهم بالاتضاع لمن دونهم في المحافل والمجامع، والانقياد في الخير، فإن الناس يدخلون معهم في النسب الواسع، وليستوق المباشرين في تحصيل ما لهم وصرفه، وإنفاقه في طبقاته حين جناه وقطفه، وليحذرهم كل الحذر من الخوض فيما شجر بين الصحابة، ومن القول إنه كان الخطأ مع هذا، ومع ذلك الإصابة، فإنه لم يخرج أحد منهم عن الكتاب والسنة، والقاتل والمقتول بين علي ومعاوية من أهل الجنة، وكل منهم اجتهد فيما ترك وأخذ، وأنعم النظر فيما تناول ونبذ، والمجتهد يخطئ تارة ويصيب، وله من الأجر على كل حال نصيب، ولكن كان الحق مع علي يدور كيف دار، ويسير مع مقاصد كيفما سار.
وأما المقالات المبتدعة، والضلالات التي خاب من شام برقها وانتجعة، فليزجرهم عن الخوض في باطلها الذي لا يعلم، ويكن عليهم في مثل ذلك قاسياً، ومن كان حازماً فليقس أحياناً على من يرحم، فقد دون أهل الباطل مقالات ابتدعوها، وزخارف لا يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم من تلك العقائد التي زرعوها.
أما أمر الخلافة فإنه ثابت الأساس، واضح القياس، مأمون الالتباس، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما نهى وأمر: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " ، وقد ماتا قبل علي، فلو تولى الخلافة قبلهما لما صح إخبار هذا الخبر، ولا كان له من المعجزات أثر، وقد بايع علي أبا بكر فيما بعد مجتهداً، ولو كانت خلافته غير صحيحة لما سوغ نكاح الحنفية حتى أولدها محمداً، والحجج في هذا الباب كثيرة، والأدلة فيها قاطعة عند أولي البصيرة، وأنت أيها السيد أعلى الله قدرك أدرى بهذه الأمور، لأنك جهينة أخبارها، وحقيبة أسرارها التي توجد عند أخيارها دون أشرارها، فبصرهم المحجة، ولقنهم الحجة، وأقل الأقسام الإمساك عما لا عاصروه، ولا عالجوا جرحه المؤلم، ولا شاهدوا فتنة التي كانت كقطع الليل المظلم.(2/47)
وأما العقائد فحذرهم من الخوض في أخطار لجتها، والركوب على ظهر محجتها، كالقول بأنه الكسف الساقط، أو أنه يأتي " في ظلل من الغمام " والرعد الضاغط، ولهذا يسلمون على ما يزمجر من السحاب، ويخالون أن الأبرق سوطه المتألق بالتهاب، أو أنه اشتبه بغيره اشتباه الغراب، واعترفوا بهذا الباطل ودانوا، وغلطوا جبريل في الوحي، فمالوا عن الهدى ومالوا أو أنه الضوء من الضوء، يعنون أنه لا فرق إلا أن أحدهما أسبق، فافترى القائل بهذا وحاد عن الحق ولم يلحق، أو أن العصمة للأئمة والمعصية جائزة على الأنبياء، فإن القائل بهذا من أكبر الضلال والأشقياء، أو أن الإمام الظاهر حجته مسورة. والمستور حجته ظاهرة، فإن ذلك جهل وضعف في الأذهان الفاترة، أو أن الدين معرفة الإمام، فإن هذا وأمثاله تحكم منهم وإسلام، إلى غير ذلك من المقالات التي خبطوا خبط العشواء فيها، واستعملوا في القول بها من كان غمراً أو سفيهاً، فما الدين القيم إلا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وأشار الخلفاء الراشدون إليه، ولزم السلف الصالح منهاجه، وقوى الكتاب والسنة والإجماع احتجاجه، فاجهد على أن يركبوا الصراط المستقيم من ذلك، واحرص على أن يسلكوا إلى الحق أوضح المسالك، وتقوى الله تعالى ملاك الوصايا، وأنت إن شاء الله تعالى لا تزال خير خدنها، وساكن عدنها، وساحب ردنها، وصاحب مدنها، فاجعلها نصب عينك، وهذا فراق بين الوصايا وبينك، والله تعالى يعين ولايتك، ويوضح لأهل الحق بالسنة عنايتك، والخط الكريم أعلاه حجة في العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى.
علي بن داود
ابن يحيى بن كامل بن يحيى بن جبارة بن عبد الملك بن يحيى بن عبد الملك بن موسى بن جبارة بن محمد بن زكري بن كليب بن جميل بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، الشيخ الإمام العلامة الفريد الكامل الفقيه الأصولي النحوي الأديب نجم الدين أبو الحسن ابن القاضي عماد الدين القرشي الأسدي الزبيري القحفازي، بالقاف والحاء المهملة، وفاء بعدها ألف وراء.
قرأ القرآن الكريم على الشيخ علاء الدين بن المطرز، وكان قد أخذ القراءات السبع عن عماد الدين بن أبي زهران الموصلي، قرأ عليه رواية أبي عمرو من طريقي الدوري والسوسي إفراداً وجمعاً.
وأخذ الفقه عن قاضي القضاة صدر الدين علي مع الفرائض قبل أن يباشر الحكم، وأصول الفقه على قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة لعنايته بمختصر ابن الحاجب، وعن الشيخ جلال الدين الخبازي الحنفي.
وقرأ في أصول الدين عقيدة الطحاوي حفظاً، واعتنى بحلها وبمطالعة كتب الأصول لأصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه، وغيرهم، وعلم العربية من الشيخ شرف الدين الفزاري، ثم عن الشيخ مجد الدين التونسي. وعلم البلاغة عن الشيخ بدر الدين بن النحوية الحموي حين جاء إلى دمشق سنة تسع وتسعين وست مئة مع الجفال، ونزل بالبادرائية، قرأ عليه كتابه ضوء المصباح، وشرحه إسفار الصباح.
والمنطق والجدل عن الشيخ سراج الدين الرومي مدرس الفرخشاهية والسفينية بالجامع الأموي.
وعلم المواقيت عن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة في مقدمته التي صنفها ثم عن الشيخ بدر الدين بن دانيال بمدينة الكرك حين جفل الأعيان إليها سنة سبع مئة في مقدمته التي صنفها في علم الإسطرلاب وهي مطولة مفيدة.
وعلم العروض فمن الكتب الموضوعة في ذلك.
وحل المترجم، وجد في الكتب الموضوعة وقد تكلم فيه كلاماً غير شاف، فأخذه بالقوة حتى كتب له فيه:
إن زرزوراً ووزه ... زودا داود زادا
فحله.
وسمع الحديث من الشيخ برهان الدين بن الدرجي فيما حول سنة ثمانين وست مئة. سمع عليه أجزاء كثيرة، وسمع موطأ مالك من قاضي القضاة جمال الدين المالكي، ومن الشيخ نجم الدين الشقراوي الحنبلي، وسمع مختصر الرعاية للمحاسبي على قاضي القضاة شرف الدين البارزي لما قدم إلى دمشق حاجاً، ومن غيرهم.(2/48)
وكان الشيخ نجم الدين مجموعاً للفضائل، ممنوعاً من الرذائل، مطبوعاً على التنديب والتندير الذي يدل على لطف الشمائل، كثير الحكايات المختصرة في دروسه، والنوادر المضحكات في غصون فوائده وغروسه، لا يخل بذلك، ولا يوجد في وقت إلا وهو عليه متهالك، يضحك الثكالى، وينشط الكسالى، مع الأصول التي أحكم قواعدها، وكثر بروقها ورواعدها، والفقه الذي تهدلت فروعه، وتملأت منه أفاويقه وضروعه، والنحو الذي برز على أقرانه في إقرائه، وظهر مذهبه الصحيح من إفرائه، قرأ عليه فيه من الأعيان جماعة، واشتهر ذلك عنه في عصره، فما ينكر أحد سماعه، لو عاصره صاحب المفصل كان عليه مفصلاً، أو صاحب التكملة كان ناقصاً، وهذا مكملاً.
وكتب المنسوب القوي، وحرر أصله السوي، وكان خطه آنق من حواشي الأصداغ، وأظرف من الحلل التي رقمت في أوان الصحة والفراغ. وله النظم الذي هو وسط، لا هو الذي ارتفع، ولا هو الذي سقط.
كان من محاسن دمشق التي يفخر بها لزمان، وغرائبها التي قلدت جيد الدهر قلائد الجمان، وقل أن اتفق مجموعه في عصر لغيره من أهل مذهبه، أو قارب مداه من يجاري إلى غاية مطلبه. وخطب بالجامع التنكزي قبل بالدموع الأردان، وعلا المنبر فما ذكر معه سجع الحمائم على البان.
ولم يزل على حاله إلى أن أصاب الموت قحف القحفازي، واختطف روحه من المنية بازي.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
ونقلت مولده من خطه ثالث عشر جمادى الأولى سنة ثمان وستين وست مئة.
حكى لي نور الدين علي بن إسماعيل الصفدي، وقد تقدم ذكره، قال: أنشد الشيخ نجم الدين يوماً لغزاً للجماعة وهم بين يديه في الحلقة يشتغلون عليه:
يا أيها الحبر الذي ... علم العروض به امتزج
أبن لنا دائرة ... فيها بسيط وهزج
فقال واحد منهم: هذه الساقية، فقال له الشيخ: دورت فيها زماناً حتى ظهرت لك، يريد أنه ثور يدور في الساقية.
وجئت أنا إليه في سنة سبع عشرة وسبع مئة، وسألته في أن أقرأ عليه المقامات الحريرية، فقال: أنا والله قليل الأدب.
وسمعته يوماً يقول لمنصور الكتبي رحمه الله: يا منصور! هذا أوان الحجاج، اشتر لك منهم مئتي جراب، وارمها خلف ظهرك إلى وقت موسمها تكسب فيها جملة، فقال له: والله الذي يشتغل عليك في العلم يحفظ منك حرفاً قدره عشر مرات.
وقيل لي: إنه لما عمر الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى الجامع الذي له بظاهر دمشق كان قد عينوا له شخصاً من الحنفية يلقب الكشك ليكون خطيباً، فلما كان يوماً وهو يمشي في الجامع المذكور، أجري له ذكر الشيخ نجم الدين ومجموع فضله وأنه في الحنفية مثل الشيخ كمال الدين الزملكاني في الشافعية، فأحضره، واجتمع به، وتحدثا، ثم قال له وهم في الجامع يمشون: أيش تقول في هذا الجامع؟ فقال: مليح، وصحن مليح، لكن ما يليق أن يكون فيه كشك، فأعجب ذلك الأمير سيف الدين تنكز، وأمر له بخطابة الجامع، وسمعت خطبته في أول يوم خطب به، وذلك في يوم الجمعة عاشر شعبان سنة ثماني عشرة وسبع مئة، ثم إنه رسم له بعد مدة بتدريس الركنية، فوليها سابع عشري المحرم سنة تسع عشرة وسبع مئة. فباشرها مدة، ثم نزل عنها، وقال: لها شرط لا أقوم به، ومعلومها في الشهر جملة كثيرة، تركه تورعاً.
وكان إذا قال هذه التناديب يقولها سريعة رشقة من غير فكر ولا روية، ويقولها وهو يضحك وينبسط.
وكان يعرف الإسطرلاب، ويحل التقويم، ويشتغل في مختصر ابن الحاجب والحاجبية والألفية لابن مالك، والمقرب لابن عصفور، وفي ضوء المصباح وغيره في المعاني والبيان.
وكان قد تولى تدريس الركنية بجبل قاسيون عوضاً عن الشيخ محيي الدين أحمد بن عقبة الحنفي لما مات في المحرم سنة تسع عشرة وسبع مئة. وتولى الظاهرية عوضاً عن شمس الدين بن العز في أول صفر سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
وكنت قد كتبت أليه لما وضعت تاريخي الكبير أطلب منه ما أستعين به على ترجمته على العادة في مثل ذلك، ومنه:
يا مفيد الورى معاني المعالي ... وإمام الأنام في كل علم
إن لي معجماً كأفق فسيح ... اشتهى أن يزان منك بنجم
فتأخر جوابه عني، فكتبت إليه أيضاً:
ظفرت بوعد منك بلغني المنى ... وجودك نجم الدين ليس يحول(2/49)
وقد طال ليلي لانتظار وروده ... وليل الذي يرعى النجوم طوي
وكتبت معه السؤال الذي تقدم ذكره في ترجمة الشيخ زين الدين بن شيخ العوينة آنفاً وأوله:
ألا إنما القرآن أكبر معجز ... لأفضل من يهدي به الثقلان
فكتب هو إلي بخطه:
يا سائلي عن نسبي ... ومولدي وأدبي
وما قرأ في العلو ... م من شريف الكتب
ومن أخذت ذاك عنه من شيوخ مذهبي
وغيرهم ممن حوى ... سر كلام العرب
وما الذي سمعته ... عن النبي العرب
وما الذي سمعته ... عن النبي العربي
صلى عليه الله ما احلو ... لك جنح غيهب
وذكر شيء صغته ... من شعري المنتخب
وما الذي صنفته ... من كتب وخطب
لولا وجوب حرمة القصد ورعي الرتب
ما قلت ذاك خشية ... من حاسد مؤنب
يقول إني قلته مفتخراً بحسبي
لكنما البخل بما ... سئلت لا يحسن بي
والمقتضى مني له ... لا يأتلي في الطلب
وهو خليل في الرخا ... وعدة في الكرب
وهمة في جمع شم؟ ... ل الفضل لا في النشب
وما صلاح الدين إلا ... في اقتناء القرب
هو الذي أوجب لي ... يا صاح كشف الحجب
عن محتدي ومولدي ... وفضلي المحتجب
فقلت غير آمن ... من عائب مندب
مختصراً مقتصداً ... معتذراً من رهبي
ما ستراه واضحاً ... مرتسماً عن كثب
ما زلت للفضل حمى ... ولبنيه كالأب
تجمع شمل ذكرهم ... مخلداً في الكتب
وذكر نثراً ما ذكرته في صدر ترجمته هذه، ثم إنه قال: وأما الرواية فإني لم أسمح لأحد بأن يروي عني مسموعاتي لصعوبة ما شرطه أصحابنا في الضبط بالحفظ من حين سمع إلى حين روى، وأن الكتب التي سمعتها لم تكن محفوظة عندي، فضلاً عن حفظ ما سمعته. وأما ما صنفه من الكتب فإني رغبت عن ذلك لمؤاخذتي للمصنفين، فكرهت أن أجعل نفسي غرضاً لمن يأخذ علي، غير أني جمعت منسكاً للحج أفردت فيه أنواع الجنايات، ومع كل نوع ما يجب من الجزاء على من وقع فيه؛ ليكون أسهل في الكشف ومعرفته، وكان ذلك بسؤال امرأة صالحة لا أعلم في زماننا أعبد منها، وانتفع بحسن القصد فيه وبركتها خلق كثير. وأما ما سمحت به القريحة الجامدة والفكرة الخامدة، فمن ذلك ما كتبت به إلى عماد الدين بن مزهر، وقد كان يجتمع معنا في ليالي الشتاء عند بعض الأصحاب، فلما مات عمه تزوج جاريته، وانقطع عنا، فقلت:
إن يكن خصك الزمان بخود ... ذات قد لدن وخد أسيل
فلقد فزت بالسعادة والرحب وفارقتنا بوجه جميل
قلت: هو مأخوذ من قول ابن الخيمي:
لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفارقنا على وجه جميل
وقال: وقلت متذكراً لزيارة الكعبة وزيارة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام:
يا ربة الستر هل لي نحو مغناك ... من عودة أجتلي فيها محياك
أم هل سبيل إلى لقياك ثانية ... لمغرم ما مناه غير لقياك
له نوازع شوق بات يضرمها ... بين الجوانح والأحشاء ذكراك
لم ينس طيب لياليك التي سلفت ... وكيف ينساك صب بات يهواك
يا ربة الخال كم قد طل فيك دم ... فما أجل بعرض البيد قتلاك
أسرت بالحسن ألباب الأنام فما ... أعز في ذل ذاك الأسر أسراك
ماذا عساها ترى تنأى الديار بنا ... لو كنت في مسقط الشعرى لجيناك
ولو تحجبت بالسمر الذوابل عن ... زوار ربعك يا سمرا لزرناك
ذلت لعزك أعناق الملوك أعلاك يا منتهى سؤلي وأغلاك
تهتكت فيك أستار الهوى ولهاً ... لما بدا من خلال الستر معناك
يا هل ترى يسمح الدهر المشت بما ... أرجوه من قرب مغناك لمضناك(2/50)
وأجتلي من محياك الجميل ضحى ... ما بات يحكيه لي من حسنك الحاكي
من بعد خط رحالي في حمى أرج الأرجاء بالمصطفى الهادي الرضى الزاكي
خير الخلائق طراً عند خالقه ... وخاتم الرسل ما حي كل إشراك
سباق غايات أقصى الفضل والشرف الأعلى وراقي العلى من غير إدراك
مهدي المعارف مبدي كل غامضة ... مسدي العوارف مردي كل فتاك
محمد ذي المقال الصادق الحسن المصدوق في القول مقتصي كل أفاك
يا نفس إن بلغتك العيس حجرته ... وصافحت يمن ذاك الربع يمناك
ونلت مأمؤلك الأقصى بلثم ثرى ... أعتابه وبلغت القصد من ذاك
وقمت بين يديه للسلام على ... أقدام ذلك تذري الدمع عيناك
وقد مددت يد الإملاق طالبة ... سؤاله لك عفواً عند مولاك
فقد بلغت المنى والسول فاجتهدي ... هناك واستنجدي لي طرفك الباكي
عساك أن ترزقي عطفاً عليك فإن رزقت ذاك فيا والله بشراك
وليهنك السعد إذ حطت رحالك في ... ربع به لم تزل تحدى مطاياك
فثم أندى الورى كفاً وأعظمهم ... جاهاً وأرحبهم صدراً لملقاك
وخيرهم لنزيل في حماه وأو ... فاهم ذماماَ وأملاهم بجدواك
آخر قلباه من شوق لرؤيته ... فقد تقادم عهد الشيق الشاكي
بالله يا نفس كوني لي مساعدة ... حاشاك أن تخذليني اليوم حاشاك
وجددي العزم في ذا العام واجتهدي ... عسى بذلك تخبو نار أحشاك
فإن حرمت لقاه تلك معذرة ... وإن ظفرت به يا حسن مسعاك
صلى عليه إله العرش ما قطعت ... كواكب الأفق ليلاً برج أفلاك
قال: وقلت عند قدوم الحج في بعض السنين أبياتاً أنشدت بدار الحديث الأشرفية:
يا نياق الحجيج لا ذقت سهداً ... بعدها ولا ولا تجشمت وخدا
لا فدينا سواك بالروح منا ... أنت أولى من بات بالروح يفدى
يا بنات الذميل كيف تركتن ... شعاب الغضا وسلعاً ونجدا
مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً ... بوجوه زارت معالم سعدى
قال: ولم يحضرني باقيها.
ولما ظفر قازان في سنة تسع وتسعين، ثم جاء في سنة اثنتين وسبع مئة، فكسر، وقيل لي: إن قازان عندهم اسم للقدر، قلت:
لما غدا قازان فخاراً بما ... قد نال بالأمس وأغراه البطر
جاء يرجي مثلها ثانية ... فانقلب الدست عليه فانكسر
قلت أنا: هذان البيتان في غاية الحسن في بادي الرأي، ولكن إذا حكهما النظر ونقدهما تبهرجا وتزيفا وذلك لأن القدر في اللغة التركية قرن، هكذا بلا ألف، وأولها قاف، وقازان إنما هو: غازان، بالغين المعجمة، وإنما قال ذلك المتهكم به، كما قالوا في بولاي: بوليه، وفي خداي بندا خربندا، وفي قوله: فانقلب الدست عليه، فانكسر فيه أيضا، نظر، لأن المعنى الذي ورى به لا يصح له وبأدنى تأمل يظهر هذا للبيب، ولولا أن هذا شعر مثل هذا شيخ الأدب وفقيه وما وأخذته، فإنه قد مر ويمر في هذا التاريخ أشياء من هذا النوع فما أعرج على المؤاخذة.
قال الشيخ نجم الدين: ولما ذهب بدر الدين بن بصخان مع الجفال إلى مصر وأقام هناك كتبت إليه:
يا غائباً قد كنت أحسب قلبه ... بسوى دمشق وأهلها لا يعلق
إن كان صدك نيل مصر عنهم ... لا غرو فهو لنا العدو الأزرق
قلت: وقد ذكرت في ألحان السواجع ما جاء في هذه المادة.
قال الشيخ: ومن الخطب فاتحة خطبة رأس السنة: " الحمد لله الذي لا تدرك كنه عظمته ثواقب الأفهام، ولا تحيط بمعارف عوارفه خطرات الأوهام، ولا تبلغ مدى شكر نعمه محامد الأنام، الذي طرز بعسجد الشمس حواشي الأيام، ورصع بجواهر النجوم حلة الظلام، وفصل بلجين الأهلة عقود الشهور والأعوام.
أحمده على نعمه الجلائل العظام، ومنه الشوامل الجسام.(2/51)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا نقص لها تمام، ولا يخفر لها ذمام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله وسوق الباطل قد هام، وطرف الرشد قد نام، وأفق الحق قد غام، فجرد سيف العزم وشام، وعنف على الغي ولام، واقتاد الخليفة إلى السعادة بكل زمام، صلى الله عليه وآله الخيرة الكرام، صلاة لا انفصال لمتتابعها ولا انفصام.
قال: وأما الجواب عن إعادة لفظ الأهل في قوله تعالى: " حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها " ، ولم يقل: استطعماهم، والمحل إضمار، وفيه الإيجاز، فقد علم أن البلاغة لا تختص بالإيجاز، وإنما هو نوع من أنواع، وأن مدار حسن الكلام وارتفاع شأنه في القبول بإيراده مطابقاً لمقتضى الحال، فإن كان مقتضى الحال خليقاً ببسط الكلام تعلقت البلاغة ببسطه، وإن كان حقيقاً بالإيجاز كانت البلاغة في إيراده كذلك، ثم قد يعرض للبليغ أمور يحسن معها إيراد الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، فيتنزل غير السائل منزلة من يسأل إذا كان قد لوح له بما يقتضى السؤال، ويتنزل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهرت عليه مخايل الإنكار، ويوقع المضمر في موضع الظاهر، والظاهر في موضع المضمر إلى غير ذلك من الأمور المذكورة في علم البلاغة، والذي حسن إيقاع الظاهر موقع المضمر في الآية الكريمة أن الظاهر أدل على المعنى الذي وضع له اللفظ من المضمر؛ لأنه يدل عليه بنفسه، والمضمر يدل عليه بواسطة ما يفسره، وقصد المتكلم هنا الإخبار عن الذين طلب منهم الإطعام أنهم أهل القرية؛ لأن من غشيه الضعف في منزله ولم يعتذر بعذر عن إكرامه؛ بل قابله بالمنع مع ظهور حاجته التي أوجبت له أن يسأل منه ذلك؛ لأن المسألة آخر أسباب الكسب يعلم بذلك أن الحامل له على الامتناع من إضافته لؤم الطباع واتباع مذموم البخل ولشح المطاع، كما قال الشاعر:
حريص على الدنيا مضيع لدينه ... وليس لما في بيته بمضيع
حتى روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كانوا أهل قرية لئاماً " ، ومن كانت هذه سجيته كان حرياً بالإعراض عنه، وعدم مقابلته بالإحسان إيه، فلما رأى موسى صلوات الله عليه إصلاح الخضر عليه السلام لجدار مشرف على السقوط في القرية التي هؤلاء أهلها من غير طلب أجر ذلك منهم مع الحاجة إلى ذلك عجب من ذلك وأنكره حتى كأن نسي ما قدمه من وعده إياه بالصبر وبعدم المصاحبة إن سأله عن شيء بعد ذلك، مع حرصه على صحبته والتعلم منه فكان في إعادة لفظ الأهل في الآية الكريمة إقامة لعذر موسى في الاعتراض في هذه الحالة؛ لأنه حالة لا يصبر عن الاعتراض فيها لأن حالهم يقتضى بذل الأجر في إصلاح أمر ديناوي لحرصهم وشحهم فترك طلب الأجرة على إصلاح ذلك مع الضرورة والحاجة وقع إحساناً إلى أهلها الذين قابلوهما بالمنع عن الضيافة، فكانت البلاعة متعلقة بلفظ الأهل التي هي الحاملة على الاعتراض ظاهراً فأطلعه الخضر عليه السلام بأن الجدار إنما كان ليتيمين من أهلها، واليتيم محل المرحمة، وليس محلاً لأن يطلب منه أجرة، وإما لعجزه، أو لفقره وهو الظاهر، أو لأنه لا يجوز تصرفه في ماله، ولهذا قال: " رحمة من ربك " ، ولم يكن لأهلها الذين أبوا أن يضيفوهما، والله سبحانه وتعالى أعلم، انتهى ما نقلته من خط الشيخ رحمه الله تعالى.
قلت: جواب الشيخ رحمه الله تعالى في غاية الحسن، وهو كلام عارف بهذا الفن، جار على القواعد، والذي قاله الشيخ جمال الدين بن الحاجب رحمه الله تعالى في الجواب عن ذلك ملخصه: أنه إنما أعاد الأهل بلفظ الظاهر، لأمرين. أحدهما: أن استطعتم صفة لقرية، فلو قال: أستطعماهما لكان مجازاً، إذ القرية لا تستطعم، فلا بد من ذكر المضاف مضمراً، فتعين ذكره مظهراً، ولا يرد عليه أن استطعما جواب ل؟ إذا، لا صفة لقرية، لأنا نقول: لقوله في القصة الأخرى: " حتى إذا لقيا غلاماً فقتله " ، فقال: ههنا جواب إذا متعين ولا يستقيم أن يكون فقتله جوابه إذ الماضي الواقع في جواب، إذا لا يكون بالفاء، فتعين فيه. قال: والظاهر أن الجواب في القصة الأخرى هكذا لأنها في مساق واحد.(2/52)
الثاني: أن الأهل لو أضمر لكان مدلوله مدلول الأول، ومعلوم أنه جمع الأهل، ألا ترى أن إذا قلت: أتيت أهل قرية كذا، إنما تعني: وصلت إليهم، فلا خصوصية لبعضهم، والاستطعام في العادة إنما يكون لمن يلي النازل بهم وهم بعضهم، فوجب أن تقول: استطعما أهلها لئلا يفهم أنهم استطعموا جميع الأهل، وليس كذلك.
وقد أجابني عن هذا السؤال شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى بجواب طويل، نظم ونثر، وقد كتبته بخطي، وقرأته عليه، وهو مثبت في التذكرة التي لي. وقد تقدم جواب الشيخ زين الدين علي بن الحسين بن شيخ العوانية في ترجمته أيضاً.
ومن شعر الشيخ نجم الدين رحمه الله تعالى، قوله في مليحة اسمها: قلوب:
عاتبني في حبكم عاذل ... يزعم نصحي وهو فيه كذوب
وقال: ما في قلبك اذكره لي ... فقلت في قلبي المغنى قلوب
ومنه في مليح نحوي:
أضمرت في القلب هوى شادن ... مشتغل في النحو لا ينصف
وصفت ما أضمرت يوماً له ... فقال لي: المضمر لا يوصف
وأنشدني من لفظه لنفسه ما كتبه من أبيات إلى الشيخ تاج الدين عبد الباقي اليمني.
بأبي بكر خصصت بها ... من أخي الأفضال والمنن
أقبلت تختال في حلل ... وشيها من صنعة اليمن
فرعها يملي خلاخلها ... ما يقول القرط في الأذن
قلت: هو مأخوذ من قول الصاحب جمال الدين عيسى بن مطروح:
إذا ما اشتهى الخلخال أخبار قرطها ... فيا طيب ما تملي عليه الظفائر
ولكن قول الشيخ نجم الدين أخصر بكثير، فهو أحق به.
؟علي بن رزق الله بن منصور
الشيخ نور الدين المقدسي.
سمع من ابن عبد الدائم، وأبي حامد محمد بن الصابوني.
أجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة.
علي بن سالم بن عبد الناصر
القاضي الرئيس الفاضل المنشئ علاء الدين أبو الحسن الكناني الغزي الشافعي، أحد الأخوة.
كان حسن الشكل والسمت، بهي المنظر؛ إلا أنه لا يملك الصمت، لا يكاد يسكت إذا تكلم، ولا يخشى على حسام لفظه أن يتثلم. تام القامة، ملحي الوجه والعمامة، وخطه جيد ما به بأس، وفضله ظاهر ما به إلباس، له قدرة على مداخلة الأكابر، والخوض معهم في اللجج والمعابر، يتحدث بالتركي، ويرمي في الإماج والألكي؛ إلا أن الموت هصر غصنه اليانع، وأجرى عليه المدامع.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة سبع وأربعين وسبع مئة فيما أظن.
باشر التوقيع بغزة بعد ابن منصور لما توجه إلى طرابلس فيما أظن، وتغير عليه الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى وعزله، وأحضره إلى دمشق، واعتقله. ولما كان في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا رسم له بالمدرسة الجراحية والمواعيد بالصخرة في القدس الشريف.
وكتب إلي أيام غضب تنكز علي شعراً كثيراً، من ذلك:
غدا حالي بحمد الله حالي ... وبالي قد تخلص من وبالي
وراح الخير منحل العزالي ... علي وقبل ذا كان الغزالي
وحزت العز مذ يممت حبراً ... كبحر لا يكدر بالقلال
فحياني وأحياني وأبدى ... مكارم لم يشنها بالقلا لي
وأرشفني على ظمأ زلالاً ... فكان ألذ من بنت الدوالي
وشنف مسمعي ببديع لفظ ... فقلت أتيت بالسحر الحلال
فزدني من قريضك يا خليلي ... فإن بليغ لفظك قد خلا لي
أبث لديك خطباً قد دهاني ... نوائب أذهبت جاهي مالي
وقد فني اصطباري واحتمالي ... وقد خان المناصح والموالي
فعجل يا أخا العلياء جبري ... وعاملني معاملة الموالي
فقد ذقت المنايا لا المنى يا ... إماماً قد تفرد بالمعالي
فقد قدتني الأحزان قداً ... بوخز البيض والسمر العوالي
وأنبني ونيبني زماني ... وصيرني على جمر المقالي
وأنت أبا الصفاء تقيم عذري ... وتغضي عن عيوب في مقالي
أيا من علمه عم البرايا ... وحشى حلمه في كل حال(2/53)
فبلغني ولا ترجي رجائي ... فسيف الغم يا بن العم خالي
رجوتك في قديم ثم لما ... علوت مكانة زاد الرجا لي
فلا حظني بعين الجبر واعطف ... حماك الله من غلب الرجال
قلت: خانته العوالي والمعالي ومالي، ما أتى لها بأخت، وكان يمكنه ذلك، وتكررت معه: لفظة: لي، بلام الجر، وياء المتكلم، وهو إيطاء، وبعضهم تسمح فيه.
وكتب على كتابي جنان الجناس:
نزهت في روض الجنان الناضر ... طرفاً يفديه بنور الناظر
خطرت به والحسن فيه شاهد ... أبكار أفكار بدت للخاطر
أكرم بجنات الجناس وزهرها ... مع زهرها الزاهي البهي الباهر
نمت بها لما نمت ريح الصبا ... فغدت تضوع بالعبير العاطر
يحيا الصريع بها إذا ما جعفر ... منها أتت غدرانه بغدائر
ويصير في روض المحاسن خالداً ... يأتي يفضل ربيعها للزائر
فأعجب لروض زخرفته يراعه ... في نقش قرطاس بنقس محابر
أضحى به در البلاغة زاهياً ... فالناس فيه ناظم مع ناثر
قد فاق منشئه به من قبله ... فاعجب لسباق أتى في الآخر
ما قدر سحبان وقدر قدامة ... إن خاض في بحر الخليل الزاخر
فلقد أتيت أبا الصفا بفضائل ... كملت به من كل واف وافر
قلدت أجياد الزمان قلائداً ... نظمتها من كل زاه زاهر
وسكنت معنى العز يا ابن الغر إذ ... أبرزت معنى ذا بهاء باهر
فلك الفضاحة والسماحة والكيا ... سة والرياسة من أقل مفاخر
قصرت في مدحيك فاعذر إنني ... فني فروع الفقه لست بشاعر
أصبحت من جور الزمان نعامتي ... فتخاء تجفل من صغير الصافر
ونظمت هذا الهموم ضجيعتي ... بل كان قلبي في جناحي طائر
فاغضض عن العي الذي في منطقي ... واحرص بجهدك أن تقيم معاذري
واسلم ودم لعرائس أبرزتها ... وجليتها من بكر فكر ظاهر
فكتبت أنا الجواب أشكره على ذلك:
أسماء نظم قد زهت بزواهر ... وحديقة قد أحدقت بزواهر
أم غادة أهديتها في جيبها ... من شعرك الفتان عقد جواهر
بكرت إلي فباكرتني نشوة ... ما كان يخطر مثلها في خاطري
في باطني منها باقي سكرة ... يبدو علي بها الهنا في ظاهري
مهلاً علاء الدين قد حملتني ... منناً تفوق على الغمام الماطر
وجبرت تضيفي الكسير فقد غدا ... يروي الإجازة في الورى عن جابر
ما هذه أولى يد أوليتني ... لك يا بن سالم ابن عبد الناصر
زهر ودر ذاك من روض زها ... نبتاً وهذا من خضم زاخر
إن كان شعر كنت أفقه عالم ... أو كان فقه كنت أبدع شاعر
وكتب إلي كثيراً وهذا القدر كاف.
وحمل إلي تخميس البردة؛ قصيدة البوصيري، فكتبت أنا له عليها: وقفت على هذا التخميس الذي طرز طرسه، وسقي الفضل غرسه، وجلا للعين عرسه، ونوع في البديع جنسه، ونول أهل الأدب أنسه، وساق إلى طيبة بأحمال المدائح عنسه، فرأيت أسرار البلاغة فيه فاشية، وأبكار الفصاحة كيف غدت في خدور السطور ناشيه، والبردة كيف اكتست بهذه الزيادة رقة الحاشية:
لله من جاء به أولاً ... فإنه أتعب من بعده
عسل ثغر الزهر في روضه ... لما روى الإبداع عن شهده
وكل سطر غصن قد غدا ... يحمل من قافية ورده
أقسم ما خمسها ناظماً ... لكنه قد طرز البردة(2/54)
فيا له من سهم خرج من كنانه، وشهم لا يثني إلا حجام عنانه، وذي فهم ثقف العلم رمح قلمه، وأرهف سنانه، لقد أصبحت غزة به ذات عزه، وأمس كثير الفضائل وفوائد تخجل منها عزه، يقول جاره البحر: ما لي عجائبه، ولا لي لآليه، ويعجز بلديه أبو إسحاق أن يكون قوى فيه لقوافيه، ويرى الخياط أن البردة كانت قبل هذا التفصيل سدى، ويعترف الرفاء أن إبرة قلمه قد لبست من المداد الصدا، فالله يديم لبني الآداب هذه الفوائد، ويميرهم من هذه المآدب التي غصون أقلامهم في امتداحهم فوائد، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
علي بن سعيد بن سالم
علاء الدين الصبيبي، بضم الصاد المهملة، وبعدها باء موحدة مفتوحة، وياء آخر الحروف ساكنة، وباء ثانية نسبة إلى قلعة الصبية وهي قلعة بين صفد ودمشق، ومدينة هذه القلعة بليدة بانياس، الخياط، الشاعر المعروف بالشوش بشينين معجمتين بينما واو ساكنة والأولى مضمومة.
كان من أعاجيب الأناسي، وممن غدت لحيته وكأنها خلقت بالمواسي، ووقفت سفنه في أبحر القريض، ولم تجر لأنها قيدت بالمراسي، وأضحكت الثكالى حركاته، حتى قال الزمان: لقد بان ياسي من التعجب بعد البانياسي، ما عساي أن أقول فيمن يزعم أن أبا الطيب عنده باقل، وأن أبا تمام لم ينهض من الحضيض شعره المتثاقل. يدعي مثل هذا بتصميم، ويتبادى وما فيه شعرة من تميم.
ولم يزل في طيشه، وتقتير عيشه إلى أن دب سوس البلى في الشوش، وفتح فاهاً له قبره المرفوش.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في حدود سنة ست وسبعين وست مئة.
اجتمعت به غير مرة بالجامع الأموي وبجسر اللبادين، وكان ينشدني كثيراً من شعره فأسمع العجائب والغرائب، وأشكر الله على نعمة العقل، إلا أنه كان يندر له البيت في القصيدة ونصف البيت.
وقال لي غير مرة وأنا وهو نمشي في صحن الجامع بعد ما يدير وجهه إلى القبلة: وحق هذا المعبد وما يتلى فيه، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل شعري ما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
وقال لي غير مرة: أنا والله الذي لا إله إلا هو، ما لي غرض مع المتنبي، شعري خير من شعره، وكذا يقول في أبي تمام وغيره.
ولقد قال لي مرة وأنا بجسر اللبادين: يا مولانا! ما هذا الحاتمي إلا كان إماماً عظيماً، هذا يسمي شعراء عمرنا ما سمعنا بهم، مثل الحطبة، كذا قال بالباء الموحدة، ومثل الطرماخ كذا قال، بضم الطاء وسكون الراء، وبعد الألف خاء معجمة.
وأنشدني في وقت قصيدة له ثانية جاء منها:
والليل أسود كالزنجي حالكه ... والبرق سيف له فيه جراحات
فقلت له: يا شيخ علاء الدين: عابوا عليك هذا، وقالوا: كأنك تقول: الليل أسود أسود أسود، فنفر في وقال: ما أراك أنت الآخر إلا قليل العقل مثلهم.
وقال لي مرة: يا مولانا هجاني واحد أبلم، قلت: ما قال؟ قال: قال:
في الخواصين خياط ... قالوا إن اسموا الشوش
من جهلو صار لو ... فوق راسو شر بوش
ثم مر بيده على رأسه في الهوى، وراح وجاء مرات، وقال: يا مولانا! أين الشربوش الذي على رأسي.
وقلت أنا فيه وقد تبرمت به:
كأني إذا أنشا وأنشد شعره ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل
فيرمي ولا يدري فؤادي ومسمعي ... بجلمود صخر حطه السيل من عل
ونقلت من خط شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى، قال: أنشدنا لنفسه موشحاً:
هل لكم من شعور بأفاعي الشعور ... حين يلدغن قلبي من كثيب الخصور
لا تزيدوا ملامي ... ما لدائي دوا
قد وهى بي غرامي ... وهوى بي الهوى
وبرى من عظامي ... جلدها والقوى
وتدانى حمامي ... آه أنى للنوى
من ذوات الخدور هل لنا من مجير ... راشقات بهدب من نشاط الفتور
من سهام الجفون ... كم بقلبي كلوم
نزحها من عيوني ... عند مي مقيم
أوردتني منوني ... وهو منهم نعيم(2/55)
لذ فيهم شجوني ... أقصروا لا تلوموا
إن نار السعير جنتي مع سروري ... لا تزيدوا فعتبي كمنادي القبور
علي بن سليم بن ربيعة
القاضي الفقيه الأديب أقضى القضاة ضياء الدين الأذرعي الشافعي.
تنقل في قضاء النواحي نحواً من ستين سنة من جهة ابن الصايغ وغيره، أكبرها طرابلس وأعمالها، وناب بدمشق أياماً سنة تسع وعشرين وله نظم كثير، من ذلك: نظم التنبيه في ستة عشر ألف بيت.
وكان منطبعاً بساماً عاقلاً.
توفي رحمه الله تعالى بالرملة ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، وله أربع وثمانون سنة.
علي بن سليمان بن أحمد
أبو الحسن الهادي بالله ابن أمير المؤمنين المستكفي ابن أمير المؤمنين الحاكم.
كان أبوه المستكفي بالله قد عهد إليه بالخلافة بعده، فتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشرين شوال سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة. وعاش أقل من عشرين سنة، ودفن في ترب جده بجوار السيد نفيسة رضي الله عنها، وفجع به والده، ووجد عليه وجداً عظيماً.
علي بن سنجر
الإمام العالم تاج الدين بن قطب الدين أبي اليمن البغدادي ابن السباك، بالسين المهملة وبالباء الموحدة المشددة، وبعدها ألف وكاف الحنفي.
عالم بغداد، وواحدها الذي يطلق عليه أنه أستاذ، انتهت إليه رئاسة المذهب بالمسنتصرية، وتفرد هناك بالعلوم الأدبية.
وكان قيماً بعرفانه، ذكياً قد مضى فضله برفعة شانه. وخطه رياض مونقه، وآفاق بالشموس مشرقه، ما يرضى أن يكون ياقوت فصاً في خاتمه، ولا يرى أن جود هذه الصناعة، ينسب إليه، لا إلى حاتمه.
ونظم شعراً تجاوز به الشعرى، وظن من سمعه أن قوافيه وضعت في أذن دراً.
ولم يزل على حاله إلى أن سبك ابن السباك في بوتقة القبر، وعدم الطلبة على المصيبة به ذخائر الصبر.
وتوفي رحمه الله ...
ومولده سنة إحدى وستين وست مئة، أو في ستين، في شعبان، الشك منه.
وكان قد سمع وهو كهل صحيح البخاري عن ابن أبي القاسم، وأحكام ابن تيمية منه، وإحياء علوم الدين من كمال الدين محمد بن المبارك المخرمي، ومسند الدارمي من ست الملوك، وله إجازة من أبي الفضل بن الدباب، ومحمد بن المريح.
وأخذ السبع عن أمين الدين مبارك بن عبد الله الموصلي، والمنتجب التكريتي.
وتفقه على ظهير الدين محمد بن عمر البخاري، وعلى مظفر الدين أحمد بن علي بن ثعلب بن الساعاتي صاحب مجمع البحرين.
وقرأ الفرائض على أبي العلاء محمود الكلاباذي، والأدب على حسين بن إياز، وحفظ اللمع، ثم المفصل والبداية وأصل ابن الحاجب، وله أرجوزة في الفقه، وشرح أكثر الجامع الكبير.
ومن شعره:
هل أرى للفراق آخر عهد ... إن عمر الفراق عمر طويل
طال حتى كأننا ما اجتمعنا ... فكأن التقاءنا مستحيل
وأنشدني الإمام تقي الدين بن رافع، قال: أنشدنا المطري، قال: أنشدنا ابن السباك لنفسه:
الأمر أعظم مما يزعم البشر ... لا عقل يدركه كلاً ولا نظر
فانظر بعينك أو فاغمض جفونك واح؟؟ ... ذر أن تقول عسى أن ينفع الحذر
فكل قول الورى في جنب ما هو في ... نفس الحقيقة إن هم فكروا هذر
فاستغفر الله قولاً قد نطقت به ... فيما مضى وهو في الألواح مستطر
وأنشدني الحافظ نجم الدين أبو الخير سعيد الذهلي، قال: أنشدنا ابن السباك لنفسه:
يا نهار الهجير نجم الدين قد طلت بالصو ... م كما طال ليل هجر الحبيب
ذاك قد طال بانتظار طلوع ... مثل ما طلت بانتظار مغيب
ومن شعره:
يخفي السلام علي خوف وشاته ... ويبيت لي حتى الصباح نديما
فلسانه حين التقينا صامت ... ولحاظه تقرينني التسليما
قلت: هذه تقرينني مستثقلة إلى الغاية لو أنها في النيل كدرته، أو في وجه الصباح جدرته، ولو قال: ولحاظه تهدي لي التسليما؛ لكان أحسن وأعذب في السمع.
ومن شعره:
لما غدا والشهد من ريقه ... ودونه يستشهد المستهام
ازدحم النمل على خده ... والمنهل العذب كثير الزحام(2/56)
وكان قد قرأ عليه جماعة منهم: القاضي حسام الدين الغوري قاضي قضاة مصره. ولما ولي الغوري القضاء ببغداد دخل على شيخه ابن السباك بالخلعة، وقال: الحمد لله الذي جعل من غلمانك قاضي القضاة.
ورأيت أنا بخطه نسخة بالكشاف في مجلدين صغيرين وهي كتابة عظيمة صحيحة مليحة إلى الغاية.
؟علي بن طرنطاي
الأمير علاء بن الأمير الكبير حسام الدين طرنطاي المنصوري.
كان أصغر الأخوة، وهو أمير عشرة بالديار المصرية، مليح الشكل، حسن الهيئة.
توفي رحمه الله تعالى في حادي عشر شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة، وعمل عزاؤه أياماً.
؟علي بن طغريل
الأمير علاء الدين أمير حاجب دمشق.
حضر من مصر إلى دمشق حاجباً في شهر ربع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبع مئة في أواخر أيام يلبغا، فما أقام إلا يسيراً حتى جرى ليلبغا ما جرى، على ما سيأتي في ترجمته، وكانت الملطفات قد جاءت من السلطان المظفر حاجبي إليه والى الأمراء بدمشق بإمساك يلبغا، فلما هرب يلبغا ساق الأمير علاء الدين خلفه وجماعة من الأمراء، ورد من رد منهم، وبقي هو وراءه إلى أن اضطره إلى حماة.
حكى لي الأمير سيف الدين تمر المهمندار انه رأى هذا الأمير علاء الدين وقد جاءه اثنان من جماعة يلبغا، وطعناه برمحيهما، وأنه عطل ذلك بقفا سيفه، ولم يؤذ أحداً منهما، وكان يحكي لي ذلك، ويتعجب من فروسيته.
ولم يزل بدمشق على إمرته ووظيفته إلى أن وصل الأمير سيف الدين أرغون شاه، فأقام يدخل عليه في كل خدمة، ويطلب منه الإقالة من الشام والرجوع إلى مصر إلى أن كتب له إلى باب السلطان، وجاء الجواب بالإجابة إلى ذلك، فعاد إلى مصر في شعبان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، وحضر الأمير سيف الدين منجك عوضه حاجباً.
وأقام الأمير علاء الدين بالقاهرة بطالاً إلى أن توفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون مصر.
علي بن طيدمر ككز
بضم الكافين، وبعدهما زاي، الأمير علاء الدين أحد أمراء العشرات بدمشق، والده من مماليك السلطان الملك الناصر محمد.
وكان هذا ظريف القد، أسيل الخد، وجفنه يجرد سيفاً ماضي الحد، وخده كأنما ورد الورد وما رد، ظريف العمة، لبق الشمائل، يود الغصن لو ضمة، والبدر لو وهبه كماله وتمه. يتجمل به الموكب إذا كان في دارته، والأفق إذا تخيل أنه في شارته. ومع حسنه البارع فكان لطيفاً، إذا خطا رأيت الجمال به مطيفاً، سهل الإنقياد، كثير الوداد، ليس فيه شمم، ولا عنده عن طلب الميل صمم.
ولم يزل إلى أن أذبل الموت ورد خده، وكف عن جفنه غرب حده.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شهر رجب سنة تسع وأربعين وسبع مئة، ولم يبقل وجهه.
علي بن طنبغا قوين باشي
علاء الدين ابن الأمير علاء الدين نائب حمص ونائب غزة. تقدم ذكر والده في مكانه من حرف الطاء.
كان هذا علي ذا صورة جميلة، وطلعة كم جعلت القلوب من حسنها دمنة، والعيون كليلة، أرشق من الغصن إذا عطفته النسمات، وأعدل من الرمح إلا أن هذا ألطف حركات، كم فتن قلباً، وجعل من الصب دمعه صبا.
بينا هو بدر في ليالي كماله إذا به قد انخسف، وبينا هو غصن يميس في اعتداله إذا هو قد انقصف، وأنشد الناس قبره:
ما أنت يا قبر لا روض ولا فلك ... من أين جمع فيك الغصن والقمر
وتوفي رحمه الله تعالى بكرة الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة، ومات عن اثنتين وعشرين سنة، وصلى عليه بسوق الخيل، وحضره الأمير سيف الدين والأمراء.
وكانت جنازته حافلة، وكان قد حج مرتين، وأثنى الناس عليه، وتألموا له ولوالده.
علي بن عثمان
ابن يعقوب بن عبد الحق السلطان أبو الحسن بن أبي سعيد بن أبي يوسف المريني، صاحب مراكش وفاس وغيرهما، المريني، تقدم ذكر والده في مكانه.
ملك أبو الحسن هذا، رحمه الله تعالى، بعد موت والده سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة. وكان سلطاناً فاضلاً، مناظراً للفقهاء ولأرباب السلاح مناضلاً.(2/57)
قام بالجهاد مدة ملكه، ونظم كثيراً من البلاد في سلكه، امتشق الصوارم واعتقل الأسل، واشتار العسل من غزواته وما اختار الكسل، وباشر القتال بنفسه، وأقام وجهه للنبل مقام ترسه، ووجد ضرب المواضي أحلى من الضرب، وجاد بروحه للخطوب حتى كأنما له في قتله أرب. يكر على الأبطال، والسيف مصلت بكفه، ويقدم على الصفوف باجتهاد، كأنه يخاف أن يطعن من خلفه، فما حمل على جيش إلا أباده، وأبان للملائكة كره، وفره وطراده، وأجال في حومات الوغي جياده، وارتجل المنايا للأعادي وباده، وعلى صرح الإسلام وشاده، وأصلح فساد الدهر وأهله فساده، هذا مع فضائل بحرها زخار، وعلوم نيرها سيار.
ولم يزل في جهاد مع الفرنج، وحروب نصره الله فيها، وقد ظن أنه لم ينج، إلى أن أدبر سعده، وأخلفه الزمان وعده، وطالما صدق وعده، وخانه حتى ابنه، وساعده عليه حتى أدبرت شجاعته وأقبل جبنه، وهذه قاعدة الأيام التي قل ما انخرمت، وطالما أصبحت جمراتها رماداً بعد ما اضطرمت.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة خمس وخمسين وسبع مئة.
وكان هذا السلطان أبو الحسن قد صادق سلطاننا الأعظم الملك الناصر محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون، وهاداه وراسله، وجهز إليه التحف والطرف، وجهز إليه مرة في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة خمسين فرساً بسروجها وعددها المغربية صحبة الجهة التي حضرت للحجاز، وتدعى الحرة، وحضر معها شيء كثير من التحف النفائس.
قيل: إنها أحضرت معها صورة كرمة تحمل على رؤوس النساء، عناقيدها الجواهر النفيسة، وأحضرت من الثياب البيض الرفاع جملة وافرة. وكانت هذه السروج على كل ركاب منها طلاء ذهب، ستة سبعة دنانير، وأمر السلطان لها بجميع ما دعت حاجتها إليه من آلات الحج وزاده وماعون مائه لها ولمن حضر معها، وكان معها فيما أظن خمس مئة نفر، ولما عادت أرسل السلطان معها من تحف مصر وقماش إسكندرية، وقماش العراق شيئاً كثيراً.
وكان قد جهز إلى مكة، شرفها الله تعالى، ختمة بخط يده، وقر بعير مذهبة مليحة في بابها، والى القدس الشريف ختمة أخرى نظيرها صحبة ابن فرقاجة، وجهز معه مبلغاً اشترى به ملكاً ووقفه على من يقوم بقراءة القرآن هنا وهنا.
وكانت المكاتبات ما تنقطع بينهما كل قليل. وورد منه كتاب على السلطان الملك الصالح إسماعيل في أواخر شعبان سنة خمس وأربعين وسبع مئة على يد كاتبه ابن أبي مدين يعزي السلطان فيه بأبيه، ويهنئه بالجلوس على تخت الملك، ويذكر واقعة جرت له، ويطلب الدعاء، ويستنجد به على الأعداء، ونسخته بعد الحمدلة والصلاة: من عبد الله علي أمير المسلمين المجاهدين في سبيل رب العالمين، المنصور بفضل الله، المتوكل عليه، المعتمد به جزيع أموره ما لديه، سلطان البرين، حامي العدوتين، مؤثر المرابطة والمثاغرة، ومؤازر حرب الإسلام، مظاهر دين الملك العلام، ابن مولانا أمير المسلمين المجاهدين في سبيل رب العالمين، فخر السلاطين، حامي حوزة الدين، ملك البرين، إمام العدوتين، ممهد البلاد، مبدد شمل الأعاد، مجند الجنود، المنصور الرايات والبنود، محط الرحال، مبلغ الآمال، أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، حسنة الأيام، حسام الإسلام، أبي الأملاك، شجى أهل العناد والإشراك، مانع البلاد، رافع علم الجهاد، مدوخ أقطار الكفار، مصرخ من ناداه للاسنتصار، القائم لله بإعلاء دين الحق، أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أخلص الله لوجهه جهاده، ويسر في قهر عداة الدين مراده.(2/58)
إلى محل ولدنا الذي طلع في أفق العلا بدراً تما، وصدع بأنوار الفخار فجلى ظلاماً وظلماً، وجمع شمل المملكة الناصرية، فأعلى منها علماً، وأحيا بها رسما، حائط الحرمين، القائم بحفظ القبلتين، باسط الأمان، قابض كف العدوان، الجزيل النوال، الكفيل تأمينه بحياطة النفوس والآمال، قطب المجد وسماكه، حسب الحمد وملاكه: السلطان الجليل، الرفيع الأصيل، الحافل العادل، الفاضل الكامل، الشهير الخطير، الأضخم الأفخم، المعان المورث المؤيد المظفر، الملك الصالح، أبو الوليد إسماعيل ابن محل أخينا الشهير علاؤه، المستطير في الآفاق ثناؤه، زين الأيام والليال، كمال عين إنسان المجد، وإنسان عين الكمال، وارث الدول، النافث بصحيح رأيه في عقود أهل الملل والنحل، حامي القبلتين بعدله وحسامه، النامي في حفظ الحرمين أجر اضطلاعه بذلك وقيامه، هازم أحزاب المعاندين وجيوشها، هادم الكنائس والبيع " فهي خاوية على عروشها " ، السلطان الأجل الهمام، الأحفل، الأفخم، الأضخم، الفاضل العادل، الشهير الكبير، الرفيع الخطير، المجاهد المرابط، المقسط عدله في الجائر والقاسط، المؤيد المظفر المنعم المقدس المطهر، زين السلاطين، ناصر الدنيا والدين، أبي المعالي محمد ابن الملك الأرضى الهمام الأقضى، والد السلاطين الأخيار، عاقد لواء النصر في قهر الأرمن والفرنج والططار، محيي رسوم الجهاد، معلي كلمة الإسلام في البلاد، جمال الأيام، ثمال الأعلام، فاتح الأقاليم، صالح ملوك عصره المتقادم، الإمام المؤيد المنصور المسدد، قسيم أمير المؤمنين فيما تقلد، الملك المنصور، سيف الدنيا والدين قلاوون مكن الله له تمكين أوليائه، ونمى دولته التي أطلعها السعد شمساً في سمائه، وأحسن إبزاغه للشكر أن جعله وارث آبائه.
سلام كريم يفاوح زهر الربا مسراه، وينافح نسيم الصبا مجراه، يصحبه رضوان يدوم ما دامت تقل الفلك حركاته، ويتولاه روح وريحان تحييه به رحمة الله وبركاته.(2/59)
أما بعد حمد الله مالك الملك، جاعل العاقبة للتقوى صدعاً باليقين ودفعاً للشك، وخاذل من أسر في النفاق النجوى، فأصر على الدخن، والإفك. والصلاة والسلام على نبينا محمد ورسوله الذي محا بأنوار الهدى ظلم الشرك، ونبيه الذي ختم به الأنبياء، وهو واسطة ذلك السلك، ودحا به حجة الحق، فمادت بالكفرة محمولة الأفلاك، وماجت بهم حاملة الفلك، والرضا من آله وصحبه الذين ملكوا سبل هاده، فسلك في قلوبهم أجمل السلك، وملكوا أعنة هواهم، فلزموا من محجة الصواب أسحج الهلك، وصابروا في جهاد الأعداء، فزاد خلوصهم مع الابتلاء. والذهب يزيد خلوصاً على السبك، والدعاء لأولياء الإسلام، وحماته الأعلام بنصر لمضائه في العدا أعظم الفتك، ويسر بقضائه درك آمال الظهور، وأحفل بذلك الدرك، فكتبنا إليكم - كتب الله لكم رسوخ القدم، وسبوغ النعم - من حضرتنا بمدينة فاس المحروسة وصنع الله سبحانه تعرف مذاهب الألطاف، وتكيف مواهب تلهج الألسنة في القصور عن شكرها بالاعتراف، وتصرف من أمره العظيم وقضائه المتلقى بالتسليم ما يتكون بين الكاف والنون، ومكانكم العتيد سلطانه، وسلطانكم المجيد مكانه وولاؤكم الصحيح برهانه، وعلاؤكم الفسيح في مجال الجلال ميدانه، والى هذا زاد الله سلطانكم تمكيناً، وأفاد مقامكم تحصيناً وتحسيناً، وسلك بكم من سنن من خلفتموه سبيلاً مبيناً، فلا خفاء بما كانت عقدته أيدي التقوى ومهدته الرسائل التي على الصفاء تطوى بيننا وبين والدكم نعم الله روحه وقدسه، وبقربه مع الأبرار في عليين آنسه - من مؤاخاة أحكمت منها العقود تالية الكتب والفاتحة، وحفظ عليها محكم الإخلاص معوذتاها المحبة والنية الصالحية، فانعقدت على التقوى والرضوان، واعتضدت بتعارف الأرواح عند تنازح الأبدان حتى استحكمت وصلة الولاء، والتحمت كلحمة النسب لحمة الإخاء، فما كان إلا وشيكاً من الزمان، ولا عجب في قصر زمن الوصلة أن يشكوه الخلان ورد وارد أورد رنق المشارب، وحقق قول: " ومن يسأل الركبان عن كل غائب " ، أنبأ باستئثار الله بنفسه الزكية وإكنان درته السنية، وانقلابه إلى ما أعد له من المنازل الرضوانية بجليل ما وقر لفقده في الصدور، وعظيم ما تأثرت له النفوس لوقوع ذلك المقدور حناناً للإسلام بتلك الأقطار وإشفاقاً من أن يعتور قاصدي بيت الله الحرام من حر الفتن عارض الأضرار، ومساهمة في مصاب الملك الكريم، والولي الحميم، عميت الأخبار، وطويت طي السجل الآثار، فلم نر مخبراً صدقاً ولا معلماً بمن استقر له ذلك الملك حقاً، وفي أثناء ذلك أحفزنا الحركة عن حضرتنا لاستصراخ أهل الأندلس وسلطانها وتواتر الأخبار بأن النصارى أجمعوا على خراب أوطانها، ونحن أثناء ذلكم الشأن نستخبر الوارد من تلكم البلدان عما أجلى عنه ليل الفتن بتلكم الأوطان.(2/60)
فبعد لأي وقعنا منها على الخبير، وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير، وتعرفنا أن الملك استقر منكم في نصابه، وتداركه الله منكم بفاتح الخير من أبوابه، فأطفأ بكم نار الفتنة وأخمدها، وأبرأ من أدواء النفاق ما أعل البلاد وأفسدها. فقام على سبيل الحج سابلا، وتعبد طريقه لمن جاء قاصداً أو قافلاً، ولما اجتمعت بهذا الخبر القرائن، وتواتر بنقله الحاضر له والمعاين، أثار حفظ الاعتقاد البواعث، والود الصحيح تجره حقاً الموارث، فأصدرنا لكم هذه المخاطبة المتفننة الأطوار، الجامعة بين الخبر والاستخبار الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار، ومثل ذلكم الملك رضوان الله عليه من يجل المصاب لفقدانه، وتحل عرا الاصطبار لموته ولات حين أوانه، ولكن الصبر الجميل أجمل ما ارتداه ذو عقل حصين، والأجر أولى ما اقتناه ذو دين متين، ومثلكم من لا يخف وقاره، ولا يشف عن ظهور الجزع للحادث اصطباره ومن خلفكم فما مات ذكره، ومن قمتم بأمره فما زال بل زاد فخره، وقد طالت والحمد لله العيشة الراضية بالحقب، وطاب بين مبتداه ومحتضره هنيئاً بما من الأجر اكتسب، وصار حميداً إلى خير المنقلب، ووفد من كرم الله على أفضل ما منح موقناً ووهب ، فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدسة، وحماية زوار بيته مقيمة أو معرسة، ونحن بعد بسط هذه التعزية نهنئكم بما خولكم الله أجمل التهنئة، وفي ذات الله الإيراد والإصدار، وفي مرضاته سبحانه الإضمار والإظهار، فاستقبلوا دولة ألقى العز عليها رواقه، وعقد الظهور عليها نطاقه، وأعطاها أمان الزمان عهده وميثاقه، ونحن على ما عاهدنا عليه الملك الناصر رضوان الله عليه من عهود موثقة، وموالاة محققة وثناء كمائمه عن الزهر غب القطر مفتقه، ولم يغب عنكم ما كان من بعثنا المصحفين المكرمين اللذين خطتهما منا اليمين، وأوت بهما الرغبة من الحرميين الشريفين إلى " قرار مكين " ، وأنه كان لوالدكم الملك الناصر؛ تولاه الله برضوانه وأورده موارد إحسانه؛ في ذلك من الفعل الجميل، والصنع الجليل، ما ناسب مكانه الرفيع، وشاكله فضله من البر الذي لا يضيع حتى طبق فعله الآفاق ذكرا، وطوق أعناق الوراد والقصاد براً، وكان من أجمل ما به تحفى وأتحف، وأعظم ما يعرف إلى رضا الملك العلام في ذلك تعرف، إذنه للمتوجهين إذ ذاك في شراء رباع توقف على المصحفين، ورسم المراسم المباركة بتحرير ذلك الوقف مع اختلاف الجديدين، فجرت أحوال القراء فيها بذلك الخراج المستفاد وبما يصلهم من خراج ما وقفناه عليهم بهذه البلاد، على ما رسمه رحمة الله عليه من عناية بهم متصلة، واحترام في تلك الأوقاف فوائدها به موفرة متحصلة.
وقد أمرنا مؤدي هذه لكمالكم، وموفدها على جلالكم كاتبنا الأسنى الفقيه الأجل الأحظى الأكمل أبا المجد ابن كاتبنا الشيخ الفقيه الأجل الحاج الأتقى الأرضى الأفضل الأحظى الأكمل المرحوم أبي عبد الله بن أبي مدين حفظ الله عليه رتبته، ويسر في قصد البيت الحرام بغيته، بأن يتفقد أحوال تلك الأوقاف، ويتعرف تصرف الناظر عليها، وما فعله من سداد وإسراف. ويتخير لها من يرتضى لذلك، ويحمد تصرفه فيما هنالك، وخاطبنا سلطانكم في هذا الشأن جزياً على الود الثابت الأركان، وإعلاماً بما لوالدكم رحمه الله تعالى في ذلك من الأفعال الحسان، وكمالكم يقتضي تخليد ذلك البر الجميل، وتجديد عمل ذلك الملك الجليل، وتشييد ما اشتمل عليه من الشكر الأصيل والأجر الجزيل، والتقدم بالإذن السلطاني في إعانة هذا الوافد بهذا الكتاب، على ما يتوخاه في ذلك الشأن من طرق الصواب، وثناؤنا عليكم الثناء الذي يفاوح زهر الربا، ويطارح نغم حمام الأيك مطربا.
وبحسب المصافاة ومقتضى الموالاة نشرح لكم المتزيدات بهذه الجهات، وننبئكم بموجب إبطاء إنفاذ هذا الخطاب على ذلك الجناب، وذلك أنه لما وصلنا من الأندلس الصريخ، ونادى الجهاد منا عزماً لمثل ندائه نصيخ، أنبأنا أن الكفار قد جمعوا أحزابهم من كل صوب، وحتم عليهم بابهم اللعين التناصر من كل أوب، وأن تقصد طوائفهم البلاد الأندلسية بإيجافها، وتنقص بالمنازلية أرضها من أطرافها، لتمحو كلمة الإسلام منها، وتقلص ظل الإيمان عنها، فقدمن من يشتغل بالأساطيل من القواد، وسرنا على أثرهم إلى سبتة منتهى المغرب الأقصى وباب الجهاد.(2/61)
فما وصلناها إلا وقد أخذ أخذه العدو الكفور، وسد اختطاف الطواغيت على التعاون مجاز العبور، وأتوا من أجفالهم بما لا يحصى عدداً وأرصدوها بمجمع البحر حيث المجاز إلى دفع العدا، وتقلصوا عن الانبساط في البلاد، واجتمعوا إلى جزيرة الخضراء، أعاذها الله، بكل من جمعوه من الأعاد، لكنا مع انسداد تلك السبيل وعدم أمور نستعين بها في ذلكم العمل الجميل، حاولنا إمداد تلكم البلاد بحسب الجهد، وأصرخناهم بمن أمكننا من الجند، وجهزنا أجفاناً مختلسين فرصة الإجازة وتترد على خطر من جهز الجهاد جهازه، وأمرنا لصاحب الأندلس من المال بما يجهز به حركته لمداناة حزب الضلال، وأجرينا له ولجيشه العطاء الجزل مشاهرة، وأرضخنا لهم في النوال ما نرجو به ثواب الآخرة، وجعلت أجفاننا تتردد من يمشي السواحل ويلج أبواب الخوف العاجل، لإحراز الأمن الآجل، مشحونة بالعدد الموفورة، والأبطال المشهورة، والخيل المسومة، والأقوات المقومة، فمن ناج حارب دونه الأجل، وشهيد مضى لما عند الله عز وجل، وما زالت الأجفان تتردد على ذلك الخطر، حتى تلف منها سبع وستون قطعة غزوية أجرها عند الله يدخر، ثم لم نقنع بهذا العمل والإمداد، فبعثنا أحد أولادنا أسعدهم مساهمة لأهل تلك البلاد، فلقي من هول البحر وارتجاجه، وإلحاح العدو ولجاجه، ما به الأمثال تضرب وبمثله يتحدث ويستغرب، ولما خلص لتلك العدوة بمن أبقته الشدائد نزل بإزاء الكافر الجاحد، حتى كان منه بفرسخين أو أدنى، وقد ضرب بطعن يصابح العدو ويماسيه بحرب بها يمنى، وقد كان من مددنا بالجزيرة جيش شريت شرارته، وقويت في الحرب إدارته، يبلون البلاء الأصدق، ولا يبالون بالعدو وهو منه كالشامة البيضاء في البعير الأورق، إلا أن المطاولة بحصرها في البحر مدة ثلاثة أعوام ونصف، ومنازلتها في البر نحو عامين معقوداً عليها الصف بالصف، أدى إلى فناء الأقوات بالبلد حتى لم يبق لأهله قوت نصف شهر مع انقطاع المدد، وبه من الخلق ما يربي على عشرة آلاف دون الحرم والولد.
فكتب إلينا سلطان الأندلس يرغب في الإذن له في عقد الصلح، ووقع الاتفاق على أنه لاستخلاص المسلمين من وجوه النجح.
فأذنا فيه الإذن العام، إذ في إصراخه وإصراخ من في طره من المسلمين توخينا ذل المرام، هنالك دعا النصارى إلى السلم فاستجابوا لداعيه، وقد كانوا علموا فناء القوت، وما استرابوا الصلح إلى عشر سنين، وخرج من بها من فرسان ورجال وأهل وبنين، ولم يرزؤوا مالاً ولا عدة، ولا لقوا في خروجهم غير النزوع عن أول أرض مس الجلدة ترابها شدة، ووصلوا إلينا فأجزلنا لهم العطاء، وأسليناهم عما جرى بالحباء، فمن خيل تزيد على الألف عتاقها، وخلع تربي على عشرة آلاف أطواقها، وأموال عمت الغني والفقير، ورعاية شملت الجميع بالعيش النضير، وكفى بالله ضر الطواغيت عما عداها، وما انقلبوا بغير مدرة عفا رسمها وصم صداها.(2/62)
وقد كان من لطف الله حين قضى بأخذ هذا الثغر أن قدم لنا فتح جبل طارق من أيدي الكفر، وهو المطل على هذه المدرة، والفرصة منه فيها إن شاء الله ميسرة. حين يفترق عقد الكفار، ويفرد بهذه الجهة منه مجاوروا هذه الدار فلولا إجلابهم من كل جانب، وكونهم سدوا مسلك العبور بما لجميعهم من الأجفان والمراكب، لما بالينا بأضعافهم، ولحللنا بعون الله عقد اتفاقهم. ولكن للموانع أحكام، ولا راد لما جرت به الأقلام، وقد أمرنا لذلك الثغر بمزيد المدد، وتخيرنا له ولسائر تلك البلاد من العَدد والعُدد، وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السفر، وتربط الجياد تنتخب العُدد لوقت الظهور المنتظر، وتكون على أهبة الجهاد وعلى مرقب الفرصة عند تمكنها في الأعاد، وعند عودنا من تلك المحاولة نسير الركب الحجاز موجهاً إلى هنالكم رواحله، فأصدرنا إليكم هذا الخطاب إصدار الود الخالص والحب اللباب، وعندنا لكم ما عند أحنى الآباء، واعتقادنا فيكم في ذات الله لا يخشى جديده من البلاء، وما لكم من غرض بهذه الأنحاء، فموفى قصده على أكمل الأهواء موالي تتميمه على أجمل الآراء، والبلاد باتحاد الود متحده، والقلوب والأيدي على ما فيه من مرضاة الله تعالى معتضده، جعل الله ذلكم خالصاً لرب العباد، مذخوراً ليوم التناد، مسطوراً في الأعمال الصالحة يوم المعاد بمنه وفضله، وهو سبحانه يصل إليكم سعداً تتفاخر به سعود الكواكب، وتتضفر على الانقياد له صدور المواكب، وتتقاصر عن نيل مجده متطاولات المناكب، والسلام الأتم يخصكم كثيراً أثيراً، ورحمه الله وبركاته.
وكتب في يوم الخميس السادس والعشرين لشهر صفر المبارك من عام خمسة وأربعين وسبع مئة، صورة خط أبي الحسن المريني صاحب فارس.
وكتب في التاريخ المؤرخ.
وكنت أنا إذ ذاك في القاهرة فرسم لي بكتابة الجواب فكتبته بخطي من إنشائي، في سادس شهر رمضان المعظم سنة خمس وأربعين وسبع مئة بعد البسملة في قطع النصف بقلم الثلث:
عبد الله ووليه
صورة العلامة الشريفة ولده إسماعيل بن محمد.
السلطان الملك الصالح السيد العالم المؤيد المجاهد المثاغر المظفر المنصور، عماد الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، ملك العرب والعجم والترك، فاتح الأقطار، واهب الممالك والأمصار، إسكندر الزمان، مملك أصحاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، مالك البحرين، خادم الحرمين الشريفين، سيد الملوك والسلاطين، جامع كلمة الموحدين، ولي أمير المؤمنين، أبو الفداء إسماعيل ابن السلطان الشهيد السعيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين، أبي الفتح محمد ابن السلطان الشهيد السعيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، خلد الله سلطانه، وجعل الملائكة أنصاره وأعوانه.
يخص المقام العالي الملك الأجل الكبير المجاهد المؤيد المرابط المثاغر المعظم المظفر المعمر الأصعد الأوحد الأمجد الأنجد السني السري، المنصور أبا السحن علي ابن أمير المسلمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أمده الله بالظفر، وقرن عزمه بالتأييد في الآصال والبكر، بسلام وشت البروق وشائعه، وادخرت الكواكب ودائعه، واستوعب الزمان ماضيه ومستقبله ومضارعه، وثناء اتخذ المسك الأذفر طلائعه، ونبه للتغريد في الروض سواجعه، وجلا في كأسه من الشفق الأحمر مداماً ومن النجوم فواقعه.
عبد حمد الله على نعم أدت لنا الأمانة في عود سلطنة والدنا الموروثة، وأجلستنا على سرير مملكة زرابيها بني النجوم مبثوثة، وأحسنت بنا الخلف عن سلف عهوده في الأعناق غير منكورة ولا منكوثة.
وصلاه على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه الذين بلغ بجهادهم في الكفرة غاية أمله وسوله، صلاة تنحط بالرضوان سيولها، وتجر بالغفران ذيولها، ما تراسل أصحاب، وتواصل أحباب وسلامه.(2/63)
ونوضح لعلمكم الكريم ورود كتابكم الكريم، وخطابكم الفائق على الدر النظيم، تفاخر الخمائل سطوره، ويصبغ خدود الورد بالخجل منثورة، وتحكي الرياض اليانعة فالألفات غصونه، والهمزات عليها طيوره، ويخلع على الآفاق حلل الأيام والليالي، فالطرس صباحه والنقس ديجوره، لفظه يطرب، ومعناه يعرب فيغرب، وبلاغته تدل على أنه آية لأن شمس بيانها طلعت من المغرب.
فاتخذنا سطوره ريحاناً، ورجعنا ألفاظه ألحاناً، ورجعنا إلى الجد فشبهنا ألفاته بظلال الرماح، وورقه بصقال الصفاح، وحروفه المعرقة بأفواه الجراح، وسطوره المنتظمة بالفرسان المزدحمة في يوم الكفاح، وانتهينا إلى ما أودعتموه من اللفظ المسجوع، والمعنى الذي يطرب طائره المسموع، والبلاغة التي فضح المتطبع فيها بيانها المطبوع.
فأما العزاء بأخيكم الوالد، قدس الله روحه وسقى عهده، وأحسن لسلفه خلفنا بعده، فلنا برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
ولولا الوثوق بأنه في عدة الشهداء ما رأى القلب قراره ولا رأى الطرف وسنه. عاش سعيداً يملك الأرض، ومات شهيداً يفوز بالجنة يوم العرض، قد خلد الله ذكره يسير مسير الشمس في الآفاق، ويوقف على نضارة حدائقه نظرات الأحداق، وورثنا منه حسن الإخاء لكم والوفاء بعهود مودة تشبه في اللطف شمائلكم.
وأما لهناء بوارثة ملكه، والانخراط مع الملوك في سلكه، فقد شكرنا لكم منحنا هذه المنحة، وقابلناها بثناء يعطر النسيم في كل نفحة، ووقفنا عليها حمداً جعل الود علينا إيراده، وعلى أنفاس سرحة الروض شرحه، وتحققنا به حسن ودكم الجميل وكريم إخائكم الذي لا يميد طود رسوخه ولا يميل.
وأما ما ذكرتموه من أمر المصحفين الشريفين اللذين وفقتموهما على الحرمين الشريفين، وأنكم جهزتم كاتبكم الفقيه الأجل الأسنى الأسمى أبا المجد ابن كاتبكم أبي عبد الله بن أبي مدين، أعزه الله تعالى، لتفقد أحوالهما والنظر في أوقافهما فقد وصل المذكور بمن معه في حرز السلامة وأكرمنا نزلهم، وسهلنا بالترحيب سبيلهم، وجمعنا على بذل الإحسان إليهم شملهم، وحضر المذكور بين أيدينا وقربناه وسمعنا كلامه وخاطبناه، وأمرنا في أمر المصحفين الشريفين بما أشرتم، ورسمنا لنوابنا في نواحي أوقافهما بما ذكرتم، وهذا الوقف المبرور جار على أحسن عادة ألفها وأثبت قاعدة عرفها، مرعي الجوانب، محمي المنازل والمضارب آمن من إزالة رسمه، أو إدالة حكمه، بدره أبداً في مطالع تمه، وزهرة دائماً يرقص في كمه، لا يزداد إلا تخليداً، ولا إطلاق ثبوته إلى تقييداً ولا عنق اجتهاده إلا تقليداً، جرياً على عادة أوقاف ممالكنا وقاعدة تصرفنا في مسالكنا، وله زيادة الرعاية، وإفادة الحماية، ووفادة العناية.
وأما ما وصفتموه من أمر الجزيرة الخضراء وما لاقاه أهلها، ومني به من الكفار حزنها وسهلها، فإنه شق علينا سماعه الذي أنكى أهل الإيمان وعدد به ذنوب الزمان كل قلب بأنامل الخفقان، وطالما فزتم بالظفر، ورزقتم النصر على عدوكم، فجر ذيل الهمزية وفر، ولكن الحروب سجال، وكل زمان لدائه دولة ولرجائه رجال، ولو أمكنت المساعدة لطارت بنا إليكم عقبان الجياد المسومة، وسالت على عدوكم أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقومة، وكحلنا عيون النجوم بمراود الرماح، وجعلنا ليل العجاج ممزقاً ببروق الصفاح، واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات، وفرجنا مضائق الحرب بتوالي الكرات، وعطفنا عليهم الأعنة، وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة، وفلقنا الصخرات بالصرخات، وأسلنا العربات بالرعبات، ولكن أين الغاية من هذا المدى المتطاول، وأين الثريا من يد المتناول، وما لنا غير إمدادكم بجيوش الدعاء الذي نرفعه نحن له ورعايانا، والتوجه الصادق الذي تعرفه ملائكة القبول في سجايانا.
وأما ما فقدتموه من الأجفان التي طرقها طيف التلاف، وأم حرم فنائها الفناء وطاف به بعد الإلطاف، فقد روع هذا الخبر قلب الإسلام، ونوع له الحزن على اختلاف الإصباح والإظلام، وهذه الدار ما يخلو صفوها من كدر القدر، وطالما أنامت بالأمن أول الليل، وخاطبت بالخطب في السحر، ولكن في بقائكم من خطب العطب ومع سلامة نفسكم الكريمة فالأمر هين، لأن الدر يفدى بالذهب، وأما ما رأيتموه من الصلح فرأي عقده مبارك، وعقده ما فيه فارط عزم، وإن كان فيتدارك.(2/64)
والأمر يجيء كما يجب لا كما يحب، والحروب يزور نصرها تارة ويغب، ومع اليوم غدا، وقد يرد الله الردى، ويعيد الظفر بالعدا.
وأما عودكم إلى فاس المحروسة طلباً لإراحة ما عندكم من الجنود، وتجهيزاً لمن يصل من عندكم إلى الحجاز الشريف من الوفود، فهذا أمر ضروري التدبير، سروري التثمير، لأن النفوس تمل وثير الجهاد فكيف ملازمة صهوات الجياد، وتسأم من مجالسة الشرب فكيف بممارسة الحرب، وتعرض عن دوام اللذة، فكيف بمباشرة المنايا المغدة، وهذا جبل طارق الذي فتح الله به عليكم، وساق هدى هديته إليكم، لعله يكون سبباً إلى ارتجاع ما شرد، وحسماً لهذا الطاغية الذي مرد، ورداً لهذا النازل الذي قدم ورد الصبر لما ورد، فعادة الألطاف الإلهية بكم معروفة، وعزماتكم إلى جهات الجهاد مصروفة، وقد تفاءلنا لكم من هذا الجبل بأنه طارق خير من الرحمن يطرق. وجيل يعصم من سهم يمر من قسي الكفار ويمرق.
وأما ما منحتموه من الخيل العتاق والملابس التي تطلع بدور الوجوه من مشارق الأطواق، والأموال التي زكت عند الله تعالى ونمت على الإنفاق، فعلى الله عز وجل خلفها، ولكم في منازل الدنيا والأخرى شرفها وشرفها، وإليكم تساق هدايا أثنيتها وتحفكم تحفها، وإذا وصل وفدكم الحاج، وأنار له بوجه إقبالنا عليهم ليلهم الداج، كانوا مقيمين تحت ظل إكرامنا، وشمول إسعافنا لهم وإنعامنا، يتخولون تحفاً أنتم سببها، ويتناولون طرفاً في كؤوس الاعتناء بهم تنضد حببها، وإذا كان أوان الرحيل إلى الحج فسحنا لهم الطريق، وسهلنا لهم الرفيق، وبلغناهم بحول الله مناهم من منى، وسؤلهم ممن إذا زاروا حجرته الشريفة حازوا الراحة من العنا، وفازوا بالغنى، وإذا عادوا عاملناهم بكل جميل ينسيهم مشقة ذلك الدرب، ويخيل إليهم أن لا مسافة لمسافر بين الشرق والغرب، وغمرناهم بالإحسان في العود إليكم، وأمرناهم بما ينهون شفاهاً لديكم، وعناية الله تعالى تحوط ذاتكم، وتوفر لأخذ الثأر حماتكم، وتخصكم بتأييد تنزلون روضة الأنضر، وتجنون به ثمر النصر اليانع من ورق الجديد الأخضر، وتتحفكم بسعد لا يبلى قشيبه، وعز لا يمحو شبابه مشيبه، وتحيته المباركة تعاديكم وتراوحكم، وتناوحكم أنفاسها المعنبرة، وتنافحكم، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
علي بن عبد الله بن ريان
ابن حنظلة السيناني، بالسين المهملة وياء آخر الحروف ونون بعدها ألف ونون، نور الدين الحضرموتي.
أخبرني العلامة أثير الدين قال: ولد المذكور بدمريط، بال مهملة وميم ساكنة وراء مكسورة وياء أخر الحروف ساكنة وطاء مهملة، قرية من الشرقية بالديار المصرية.
تولى القضاء بجهات من الشرقية، وله معرفة بالنسب ومشاركة في الفقه. وحفظ جملة من الحديث، وله أدب ونظم على طريق العرب. وسينان الصحيح أنها من حمير وأنشدني لنفسه:
لقي الفؤاد مذ نأوا تلهبا ... وصارمته الغيد ربات الخبا
نار أسى تضرم في أحشائه ... تشب من وقد الغرام ما خبا
يا راكب الوجناء من خزاعة ... يرقلها طوراً وطوراً خببا
كأنها إذا انبرت بارقة ... تقطع أجواز الفلا والحدبا
حي أبيت اللعن دار زينب ... إن جزت بالربع وحي زينبا
ما أنصفت زينب لما أن نأت ... وغادرتني دنفا معذبا
أسامر النجم إذا جن الدجا ... شوقاً إلى غيد كأمثال الظبا
بيض حسان خرد كواعب ... إذا رنوا عجباً رأيت العجبا
يسفرن عن مثل الشموس أوجهاً ... ويختلبن القانت المهذب
توفي رحمه الله تعالى...
ومولده سنة أربع وأربعين وست مئة.
علي بن عبد الله بن عمر
نور الدين القصري.
أخبرني العلامة أثير الدين قال: وقع المذكور لبعض القضاة. وله نظم ونثر جيدان، أنشدني له يصف فرساً:
لما جرى شوطاً بعيد المدى ... ألف بني الغرب والشرق
فات ارتداد الطرف ثم انثنى ... يهزأ بالريح وبالبرق
قلت: أنا: اختصره من قول ابن حجاج من أبيات:
قالت له البرق وقالت له ال؟ ... ريح جميعاً وما ما هما
أأنت تجري معنا قال لا ... إن شئت أضحكتكما منكما(2/65)
هذا ارتداد الطرف قد فته ... إلى المدى سبقا فمن أنتما
قلت: وأنشدني لنفسه في روضة مصر:
ذات وجهين فيهما قسم الحس؟ ... ن فأضحت بها القلوب تهيم
ذا يلي مصر فهو مصر وهذا ... يتولى وسيم فهو وسيم
قد أعادت عصر التصابي صباها ... وأبادت فيها الغموم الغيوم
قال الشيخ أثير الدين وزدت أنا بيتاً وهو:
فبلج البحار يسبح نون ... ويفج القفار يسنح ريم
ومن نثره: جفن علمه الغرام كيف يكف، ودمع أبي حين وقف بالربع أن يقف انتهى.
وقال كمال الدين الأدفوي: وكان فيه مروءة ومكرمة.
أخبرني بكتوت مولى قاضي القضاة معز الدين الحنفي: أن ابن الكيلج تحدث له مع مولاه في العدالة ورسم بكتابة أسجال. قال بكتوت: فاستأذنته في أن يكتبه ابن القصري، وأعطاني ابن الكيلج أربعة دنانير للكاتب، فركبت وتوجهت إليه، ووضعت الدنانير بين يديه، فقام وفتح صندوقه، فأخرج منه ورقاً وكتب الأسجال، وأخرج من عنده دينارين وأضافهما إلى الأربعة، وقال: هؤلاء ضيافتك لدخولك إلى منزلي.
وتوفي نور الدين بالقاهرة سنة ست أو سبع وتسعين وست مئة.
علي بن عبد الله بن عمر
ابن أبي القاسم البغدادي الحنبلي، أخو الإمام رشيد الدين، وهو الشيخ زين الدين أبو الحسن.
أجاز له ابن العليق وجماعة. وسمع من فضل الله الجيلي ثلاثة أجزاء أبي الأحوص. ومن علي بن محمد بن خطاب بن الخيمي جزء التراجم للنجاد، ومن ابن تيمية أحكامه، ومن محيي الدين بن الجوزي كثيراً من تواليف أبيه.
وتفرد في وقته، وكتب في الإجازات، لكن كان عامياً، يتهاون في الدين، وكان أخوه يزجر عن السماع منه.
قال السراج القزويني: تركته لما فيه مما لا يليق.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
علي بن عبد الله بن أبي الحسن
ابن أبي بكر الإمام، العلامة، المفتن، المفتي، المتكلم، تاج الدين، الأردبيلي المولد، التبريزي الدار، الشافعي، الصوفي. قال: سمعت من جامع الأصول على القطب الشيرازي، وبعض الوسيط على شمس الدين بن المؤذن. وأخذت النحو والفقه عن ركن الدين الحديثي. وعلم البيان عن النظام الطوسي، والحكمة والمنطق عن السيد برهان الدين عبيد الله، وشرح الحاجبية عن السيد ركن الدين المؤلف، وأجازني شمس الدين العبيدي، وعلم الخلاف عن علاء الدين النعمان الخوارزمي، وإقليدس وأوطاوقس وبادوسيوس، والحساب والهيئة. عن فيلسوف الوقت كمال الدين حسن الشيرازي الأصبهاني، والوجيز في الفقه عن شيخ الزمان، حمزة الأردبيلي، وعلم الجبر والمقابلة والمساحة والفرائض عن الصلاح موسى، وشرح السنة والمصابيح عن فخر الدين جار الله الجندراني والبستي تاج الدين الملقب بالشيخ الزاهد عن الشيخ شمس الدين التبريزي عن الركن السجاسي عن القطب الأبهري عن أبي النجيب السهروردي، عن أحمد الغزالي عن أبي بكر النيسابوري عن محمد النساج عن الشبلي عن الجنيد.
وأدركت كمال الدين أحمد بن عربشاه بأردبيل، دعا لي، ولقنني الذكر عن أوحد الدين الكرماني، وأدركت شيخاً كبيراً أجاز لي، أدرك الفخر الرازي. وأدركت ناصر الدين الببيضاوي، وما أخذت عنه شيئاً، وجالست ابن المطهر الحلي، وما أخذت عنه لتشيعه.
واشتغلت وأنا ابن عشرين إلى تسع وعشرين سنة، وأفتيت ولي ثلاثون سنة، ووليت الخانقاه والتدريس وأنا ابن ثلاث وثلاثين، وخرجت إلى بغداد بعد ست عشرة وسبع مئة، وأتيت المشهد والحلة والسلطانية ومراغة، وحججت، ثم دخلت مصر سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة.
قال شيخنا شمس الدين الذهبي: هو عالم كبير شهير، كثير التلامذة، حسن الصيانة، من مشايخ الصوفية، كاتبن ي غير مرة، وحصل نسخة بالميزان، وذكرني في تواليفه.
وقال الشيخ تقي الدين بن رافع: قديم فسمع علي بن عمر الواني، ويونس الدبابيسي ويوسف الختني، وابن جماعة. وكتب الطباق، وحصل جملة من الكتب الحديثية، وشغل في فنون ودرس بالطرنطائية، وناظر، وكثرت طلبته، وصنف في التفسير والحديث والأصول، وأقرأ الحاوي كله في نصف شهر، رواه عن شرف الدين علي بن عثمان العتقي عن مصنفه، انتهى.
قلت: كان الشيخ تاج الدين من أفراد زمانه، وأنجاب عصره وأنجاد أوانه، بحراً يتموج علوماً، وحبراً يتأرج طيباً بالفوائد مستديماً.(2/66)
أخذ عن جماعة وانتفعوا وترقوا من حضيض الجهل وارتفعوا، وأقرأ الناس المنقول والمعقول، وتفرد بفنونه، فلو شاء لم يدع قائلاً يقول، وحضرت دروسه للطلبة، وسمع عبارته إلا أنها في عجمتها تورد من الدر مخشلبه، واعتراف المشايخ بفضله، وأصاب الأغراض والشواكل بنبال نبله.
ولم يزل بمصر على حاله إلى أن سكنت تلك العبارات، وبطلت تلك الإشارات.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان المعظم سنة ست وأربعين وسبع مئة.
وتوجهت إليه يوماً، وهو بالمدرسة الطرنطائية، ومعي كتاب كشف الحقائق لأثير الدين الأبهري، وطلبت الاشتغال فيه عليه فقال: ما عندي عليه شرح، وكلامه عقد، ففارقته، وسمعت غير واحد من المصريين أنه أقرأ الحاوي من أوله إلى آخره في شهر واحد تسع مرات.
وكان يشغل في هذه العلوم التي ذكرها كلها، وعلى الجملة، فكان في عصره عديم النظير.
وقلت أنا فيه لما مات رحمه الله تعالى:
يقول تاج الدين لما قضى ... من ذا رأى مثلي بتبريز
وأهل مصر بات إجماعهم ... يقضي على الكل بتبريز
علي بن عبد الله بن عبد القوي
ابن الحسن بن أبي المجد بن ناجي بن سليمان المدلجي، الشافعي، المعروف بالعصلوجي.
كان فقيهاً مدرساً بمصر، روى كتاب الشهاب للقضاعي عن الحافظ رشيد الدين العطار القرشي، وسمع منه أمين الدين الواني وغيره. وناب في الحكم عن ابن دقيق العيد بمصر.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع شهر الله المحرم سنة سبع عشرة وسبع مئة.
ومولده في صفر سنة ست وأربعين وست مئة.
وان ينعت بالقاضي جلال الدين بن أبي الحسن.
علي بن عبد الله بن مالك
الشيخ الصالح الإمام الفاضل نور الدين أبو الحسن الدمديطي، بضم الدال المهملة الأولى وبعدها ميم ساكنة ودال ثانية مفتوحة وياء آخر الحروف ساكنة وطاء مهملة، الشافعي.
كان يعرف قطعة صالحة من أنساب العرب، ويذاكر بذلك، وله شعر.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة، ودفن بمقابر الصوفية خار باب النصر في آخر صفر سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
علي بن عبد الحميد بن محمد بن وفاء
الفقيه الفاضل، علاء الدين بن التركيشي، الحنبلي.
كان من أعيان الحنابلة، فاضلاً نبيهاً نبيلاً، يبحث ويناظر ويجادل.
توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في سابع عشري شوال سنة تسع وسبع مئة، ودفن خارج باب النصر، وكان قد سمع جزء ابن عرفة على ابن أبي الخير.
علي بن عبد الرحمن بن عبد المنعم
ابن نعمة بن سلطان بن سرور المقدسي، فخر الدين، مفتي نابلس.
كان من العلماء الأتقياء، أفتى نحواً من أربعين سنة، وارتحل، وسمع من ابن الجميزي، وسبط السلفي، وابن رواج، ومحيي الدين بن الجوزي.
وكتب شيخنا الذهبي عنه، وهو والد عماد الدين مفتي نابلس.
وتوفي رحمه الله تعالى في مستهل المحرم سنة اثنتين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاثين وست مئة بنابلس.
واجتمع خلق كثير في جنازته، وحضر أهل القرى من البر، وكان شيخاً صالحاً، كثير التواضع، محبباً إلى الناس.
علي بن عبد الرحمن
القاضي نور الدين بن المغيزل، الحموي، الكاتب.
كان بحماة له وجاهة، وعنده أبوة ونزاهة، وحظي عند المنصور بحماه، ولاذ القاصدون لها بحماه، وكتب الدرج للمنصور، وأصبح وممدود جاهه عليه مقصور. وبعده توجه إلى طرابلس صحبة أسندمر النائب، فلم تطل مدته، وحلت به النوائب ففارق مغنى العيش، ولم يغن عنه ثبات ولا طيش.
وتوفي رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنة إحدى وسبع مئة. وهو من نسل بنات شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري.
حضر إلى دمشق أول سنة إحدى وسبع مئة، وتوجه مع نائبها الأمير سيف الدين اسندمر كاتب درج، وتقدم عنده، وحظي لديه، وأقام من بعض صفر إلى جمادى الآخرة، وتوفي. وكان قد رتبه عوض ابن رواحة، فأعيد لموته ابن رواحة إلى مكانه.
علي بن عبد الرحمن بن أبي بكر الواني
الأمير علاء الدين، مقدم البريدية بدمشق المعروف بابن الفرا.
كان حظياً عند الأمير سيف الدين تنكز، يسوق في المهمات، ويجهزه إلى باب السلطان في المعضلات، إلا أنه كان ينبسط معه بالفعل المؤذي والقول الفاحش، وتارة يدنيه كالمحبوب، وتارة يبعده كالوارش.
أعطاه السلطان الملك الناصر طبلخاناه وحضر بها، فأنكر ذلك عليه، وحبسه مرة بسببها.(2/67)
ولم يزل يقع معه ويقوم، ويسف تارة ويحوم إلى أن أمسك فخلص، وزاد من فرحه ما كان نقص، وأقام بعده مدة إلى أن عقر سمعه، وطفيء من الحياة شمعه.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة تسع وأربعين وسبع مئة. في طاعون دمشق، وولده شهاب الدين أحمد، ولما مات كان أمير عشرة لا غير.
علي بن عبد الرحيم
كمال الدين بن الأثير الأرمنتي.
كان فقيهاً شافعياً، قاضياً بليغاً لا تجد فيه عيا، من بيت أصالة في الصعيد، ورئاسة ذكرها باق لا يبين ولا يبيد، وكان أبوه حاكماً بأعمال قوص، واسم سؤدده فيها صحيح غير منقوص.
وكان هذا كمال الدين قد تولى قضاء الشرقية وأحاديث سيرته فيها تقية، وتولى قضاء أشموم الرمان، وذكره فيها باق على مر الزمان.
ولم يزل إلى أن طوحت به الطوائح، وقامت عليه النوائح وتوفي رحمه الله تعالى سنة ست وسبع مئة بمصر.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: أخبرني القاضي أبو الطاهر إسماعيل بن موسى بن عبد الخالق السفطي قاضي قوص قال: كان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قد عزل نفسه، ثم أعيد إلى القضاء فولاني بلبيس، وقال لا تعلم أحداً، وتوجه إليها عجلاً، فتوجهت ثاني يوم الولاية إليها ولم يشعر أحد، فلما جلست للقضاء بلغ الكمال الأرمنتي، وكان قاضياً بها، فأرسل إلى أصحاب الشيخ يسألهم، فسألوا الشيخ هل عزله، فقال: ما عزلته، فكتبوا إليه فأخذ في الحديث في الحكم، فلما بلغ الشيخ، قال: أنا ما عزلته وإنما انعزل بعزلي ولم أوله.
علي بن عبد الرحيم بن مراجل
الصدر علاء الدين الحموي الأصل الكاتب.
كان والده شهاب الدين عبد الرحيم يتصرف في جهات الديوان بحلب ودمشق، وكان علاء الدين له إلمام بالأدب، وله فيه تحصيل وطلب.
وكان ينظم ويقدم على ذلك ولا يعظم، إلا أنه كان للشر يتسرع، ويقلد الجهل في أموره ولا يتشرع.
ولم يزل يغير وينجد في البلاد، ويتقلب بين ظهراني العباد، إلى أن غلت مراجل المنية لابن مراجل، وعجل أجله الآجل.
وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق سنة ثلاث وسبع مئة.
وكان قد باشر عدة جهات من مشارفة ونظر، وباشر أخيراً استيفاء النظر بدمشق، وتوجه إلى مصر بعد السبع مئة، وتأخر مقامه بها شهوراً فقال:
أقول في مصر إذ طال المقام بها ... وساء من سوء ملقى أهلها خلقي
يا أهل مصر أجيبوا في السؤال عسى ... يسكن الله ما ألقى من القلق
هل فيكم من يرجى للنوال ومن ... يلقى لوفد بوجه ضاحك طلق
أم عندكم لغريب في دياركم ... بقية من ندى أو عارض غدق
فقيل ذلك مما ليس نعرفه ... وإنما سفننا تجري على الملق
فبلغ ذلك الصاحب تاج الدين بن حنا، فأرسل طلبها منه، فزاد فيها علاء الدين بن مراجل:
لكن رأيت بها مولى خلائقه ... أعاذها الله بالإخلاص والفلق
السيد الصاحب المولى الوزير ومن ... فاق الورى كلهم بالخلق والخلق
تاج المعالي وتاج الدين قد جمعت ... فيه المكارم تأتي منه في نسق
ستر على أهل مصر لم يزل أبداً ... مغطياً منهم للويل والحمق
فالنيل من جود كفيه يفيض بها ... كالسيل لكنه ينجي من الغرق
فلما وقف عليها أرسل له شيئاً له صورة.
علي بن عبد العزيز
الخطيب الكبير عماد الدين ابن قاضي القضاة عماد الدين بن السكري.
كان فيه وجاهة وصدراه، وحشمة ترشحه للوزارة، جهز إلى التتر رسولاً وبلغ برسالته مآرب وسولا، وأحسن السفارة فيما توجه فيه، ورغب أولئك القوم في تلاف من عانده وتلافيه، وعاد إلى القاهرة، وصارت له بذلك ترجمة نادرة.
ولم يزل على حاله إلى أن قال له داعي الموت حيهل، ونهل من حوض المنايا مع من نهل.
وتوفي رحمه الله تعالى في أواخر صفر في السادس والعشرين منه سحر يوم الجمعة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده خامس عشري المحرم سنة خمس وثلاثين وست مئة.
وكان يدرس بمشهد الحسين بالقاهرة، وبمدرسة منازل العز بمصر. وكان خطيباً بالجامع الحاكمي، وولي إمامة مشهد السيدة نفيسة والنظر على أوقافه. وكان مشهوراً بين رؤساء الديار المصرية، وعنده عقل وافر وديانة.(2/68)
قال شيخنا البرزالي: روى لنا عن جده لأمه الشيخ بهاء الدين بن الجميزي، وحدث بالقاهرة وبدمشق، وأظنه كان مفتي دار العدل.
علي بن عبد الغني
الفقيه المعمر العدل علاء الدين بن تيمية ابن خطيب حران ومفتيها، الشيخ مجد الدين.
كان هذا علاء الدين شروطياً بمصر.
روى عن الموفق عبد اللطيف وابن روزبه، وكان شاهداً عاقلاً عاقداً مرضياً.
توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده بحران سنة تسع عشرة وست مئة. حمل عنه المصريون.
علي بن عبد الكافي
ابن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن علي بن مسوار بن سوار بن سليم: الغمام العالم العامل الزاهد العابد الورع الخاشع البارع، والعلامة شيخ الإسلام، حبر الأمة، مفتي الفرق، المقرئ، المحدث، الرحلة، المفسر، الفقيه، الأصولي، البليغ، الأديب، المنطقي، الجذلي، النظار. جامع الفنون، علامة الزمان، قاضي القضاة أوحد المجتهدين تقي الدين أبو الحسن الأنصاري الخزرجي السبكي الشافعي الأشعري.
يا سعد هذا الشافعي الذي ... بلغه الله تعلى رضاه
يكفيه يوم الحشر أن عد في ... أصحابه السبكي قاضي القضاة
أما التفسير فيا إمساك ابن عطية، ووقوع الرازي معه في رزية.
وأما القراءات فيا بعد الداني، وبخل السخاوي بإتقان السبع المثاني.
وأما الحديث فيا هزيمة ابن عساكر، وعي الخطيب لما أن يذاكر.
وأما الأصول فيها كلال حد السيف، وعظمة فخر الدين كيف تحيفها الحيف.
وأما الفقه فيا وقوع الجويني في أول مهلك من نهاية المطلب، وجر الرافعي إلى الكسر بعد انتصاب علمه المذهب في المذهب.
وأما المنطق فيا إدبار دبيران وقذى عينه، وانبهار الأبهري وغطاء كشفه، بمينه.
وأما الخلاف فيا نسف جبال النسفي، وعمى العميدي، فإن إرشاده خفي.
وأما النحو فالفارسي ترجل له يطلب إعظامه، والزجاجي تكسر جمعه وما فاز بالسالمة.
وأما اللغة فالجوهري ما لصحاحه قيمة، والأزهري أظلمت لياليه البهيمة.
وأما الأدب فصاحب الذخيرة استعطى، وواضع اليتيمة تركها، وذهب إلى أهل يتمطى.
وأما الحفظ فما سد السلفي خلة ثغره، وكسر قلب الجوزي لما أكل الحزن لبه وخرج من قشره.
هذا إلى إتقان فنون يطول سردها، ويشهد الامتحان أنه في المجموع فردها، واطلاع على معارف أخر، وفوائد متى تكلم فيها قتل بحر زخر، وإذا مشى الناس في رقراق علم كان هو خائض اللجة. وإذا خبط الأنام عشواء سار هو في بياض المحجة.
وأما الأخلاق فقل أن رأيتها في غيره مجموعة، أو وجد في أكياس الناس دينار على سكتها المطبوعة؛ فم بسام، ووجه بين الجمال والجلال قسام، وخلق كأنه نفس السحر على الزهر نسام، وكف تخجل الغيوث من ساجمها، وتشهد البرامكة أن نفس حاتم في نقش خاتمها، وحلم لا يستقيم معه الأحنف، ولا يرى المأمون معه إلا خائناً عند من روى أو صنف، ولا يوجد له فيه نظير ولا في غرائب أبي محنف، ولا يحمل حلمه بل، فإنه جاء بالكيل المكنف.
لم أره انتقم لنفسه مع القدرة، ولا شمت بعدو هزم بعد النصرة، بل يعفو ويصفح عمن أجرم، ويتألم لمن أوقد الدهر نار حربه وأضرم، ورعاية ود لصاحبه الذي قدم عهده، وتذكر لمحاسنه التي كاد يمحوها بعده، طهارة لسان لم يسمع منه في غيبة بنت شفة، ولا تسف طيور الملائكة منه على سفه. وزهد في الدنيا وأقلامه تتصرف في الأقوال، وتفضها على مر الأيام والجمع والأشهر والأحوال، واطراح للملبس والمأكل، وعزوف عن كل لذة، إعراض عن أغراض هذه الدنيا التي خلق الله النفوس إليها مغذه.
وهذا ما رآه عياني، وختم عليه جناني، وأما ما وصف لي من قيام الدجى، والوقوف في موقف الخوف والرجا، فأمر أجزم بصدقه، وأشهد بحقه، فإن هذا الظاهر لا يكون له باطن غير هذا، ولا يرى غيره حتى المعاد معاذا:
عمل الزمان حساب كل فضيلة ... بجماعة كانت لتلك محركه
فرآهم متفرقين على المدى ... في كل فن واحداً قد أدركه
فأتى به من بعدهم فأتى بما ... جاؤوا به جمعاً فكان الفذلكة
وتصانيفه تشهد لي بما ادعيت، وتؤيد به ورويت، فدونك وإياها، وترشف كؤوس حمياها، وتناول نجومها إن وصلت إلى ثرياها.(2/69)
ولما توفي قاضي القضاة جلال الدين القزويني بدمشق في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة طلبه السلطان الأعظم الملك الناصر محمد، وطلب الشيخ شمس الدين بن عدلان بحضور قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، وقال له: يا شيخ تقي الدين قد وليتك قضاء الشام، وألبسه تشريفاً عظيماً وخرج صحبة الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى. وكنت أنا في خدمته طول الطريق فالتقطت الفوائد، وجمعت الفرائد التي ظل في طلبها ألف رائد، وسهلت بسؤاله ما كان عندي من الغوامض الشدائد، ووددت أن النوى لم تلق لها عصا، وأن اليعملات في كل هاجرة تنفي يداها الحصا.
يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر
ودخل دمشق، فقل في روض حياه الغمام، ومادت غصونه بالطرب لما غنى عليها الحمام. أحيا الله به معالم علومها، وأطلع في آفاقها للهدى نيرات نجومها، وباشر قضاءها بصلف زاد، وسلوك ما حال عن جادة الحق، ولا حاد، منزه النفس عن الحطام منقاداً إلى الزهد الصادق بخطام، مقبلاً على شأنه في العلم والعمل، منصرفاً إلى تحصيل السعادة الأبدية فما له في غيرها أمل، ناهيك به من قاضي حكمه في هذه الإقليم متصرف الأوامر، وحديثه في العفة عن الأموال علالة المسامر، ليس في بابه من يقول لخصم هات، ولا من يجمجم الحق أو يموه بالترهات.
ومات الأمير سيف الدين تنكز وهو يعظمه، ويختار أكبر الجواهر للثناء عليه وينظمه:
وعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
ولم يزل على حاله إلى أن حصل له من المرض ما حصل، وتماثل من سقمه ونصل، ونزل عن منصبه لولده قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب، فتلقت الدولة ذلك منه بالترحاب، وقالوا سمعاً لما قاله وكرامة، وأهلاً بهذا النهر الذي غادرته تلك الغمامة.
ولما استقر الأمر لولده وثبت، ورأى غصنه الذي تفرغ عن أصله ونبت توجه إلى الديار المصرية شوقاً لأرض أول ما مس جلده ترابها، وأول ما ضمه جناتها واتسع له جنابها، فقال النيل: مرحباً بغمام الشام، وقالت نجومها: أهلاً بهذا القمر التام، فأقام بها ريثما بل صداه، ورد برؤية ربوعها رداه، ونقله الله إلى حضرة قدسه.
ومواطن رحمته وأنسه. فلبى المنادي، وخلا من نداه النادي، وقام الناعي فأسمع. وأوجد القلوب حزنها فأوجع.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الاثنين ثالث جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وسبع مئة.
ومولده أول يوم من صفر سنة ثلاث وثمانين وست مئة.
وتفقه في صغره على والده رحمه الله تعالى، ثم على جماعة آخرهم فقيه العصر نجم الدين بن الرفعة، ورأيته رحمه الله يثني عليه ثناء كثيراً، ويعظمه تعظيماً زائداً.
وقرأ الفرائض على الشيخ عبد الله الغماري المالكي.
وقرأ الأصلين وسائر المعقولات على الشيخ الإمام النظار علاء الدين الباجي، وكان يعظمه ويصفع بالدين.
وقرأ المنطق والخلاف على الشيخ سيف الدين البغدادي.
وقرأ النحو على الشيخ أثير الدين أبي حيان.
وقرأ التفسير على الشيخ علم الدين العراقي.
وقرأ القراءات على الشيخ تقي الدين بن الصائغ.
وتخرج في الحديث على الحافظ شرف الدين الدمياطي.
وصحب في التصوف الشيخ تاج الدين.
ورحل في طلب الحديث إلى الإسكندرية والشام، ومن مشاهير أشياخه في الرواية ابن الصواف، وابن جماعة، والدمياطي، وابن القيم، وابن عبد المنعم، وزينب، وهؤلاء بالإسكندرية وبمصر. والذين بالشام: ابن الموازيني، وابن مشرف، والمطعم، وغيرهم.
والذين بالحجاز: رضي الدين إمام المقام وغيره.
وخرج له شهاب الدين الدمياطي معجماً لشيوخه.
جلس بالكلاسة جوار الجامع الأموي بدمشق، وحدث به قراءة عليه الإمام أقضى القضاة تقي الدين أبو الفتح السبكي، وسمعه عليه خلائق منهم الحافظ الكبير جمال الدين المزي، والحافظ أبو عبد الله الذهبي، وروى عنه شيخنا الذهبي في معجمه.
وتولى بدمشق مع القضاء خطابة الجامع الأموي وباشرها مدة، وذلك في سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، فقال شيخنا الحافظ شمس الدين الذهبي: ما صعد هذا المنبر بعد ابن عبد السلام أعظم منه ونظم في ذلك:
ليهن المنبر الأموي لما ... علاه الحاكم ابر التقي
شيوخ العصر أحفظهم جميعاً ... وأخطبهم وأقضاهم علي(2/70)
وتولى بعد وفاة شيخنا المزي رحمه الله تعالى مشيخة دار الحديث الأشرفية. فالذي نقول: إنه ما دخلها أعلم منه، ولا أحفظ في الرجال من المزي، ولا أورع من النووي وابن الصلاح، ولا يورد زين الدين الفارقي فإنه أفقه منه رحم الله كلاً.
وتولى تدريس الشامية البرانية بعد موت مدرسها قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب رحمه الله في أوائل سنة ست وأربعين وسبع مئة.
وكتبت له بذلك توقيعاً هو مذكور في الجزء الخامس والعشرين من التذكرة التي لي.
ثم إنه ولي تدريس المسرورية بعد الشيخ تاج الدين المراكشي، وكتبت له توقيعاً بذلك هو في الجز الثاني من التذكرة التي لي.
وكان قد طلب في نهار الجمعة بعد الصلاة سادس عشري جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة إلى الديار المصرية، جاء البريد بطلبه ليجعل قاضي القضاة بالديار المصرية، فتوجه. ثم إن القضية فترت، وأقام بها قليلاً وعاد إلى دمشق على منصبه.
ومن مسموعاته الحديثية: الكتب الستة، والسيرة النبوية، وسنن الدار قطني، ومعجم الطبراني، وحلية الأولياء، ومسند الطيالسي، ومسند الحارث بن أبي أسامة، ومسند الدارمي، ومسند عبد، ومسند العدني، ومسند الشافعي رضي الله عنه، وسنن الشافعي، واختلاف الحديث للشافعي، ورسالة الشافعي، ومعجم ابن المقرئ، ومختصر مسلم، ومسند أبي والشفاء للقاضي عياض، ورسالة القشيري، ومعجم الإسماعيلي، والسيرة للدمياطي، وموطأ يحيى بن يحيى، وموطأ القعنبي.
وموطأ ابن بكير، والناسخ والمنسوخ للحازمي، وأسباب النزول للواحدي، وأكثر مسند أحمد، ومن الأجزاء شيء كثير.
ولقد كان عمره بالديار المصرية وجيهاً في الدولة الناصرية يعرفه السلطان الأعظم الملك الناصر ويوليه المناصب الكبار، مثل إدريس المنصورية وجامع الحاكم والكهارية. والأمير سيف الدين أرغون النائب يعظمه، والقاضي كريم الدين الكبير يقربه ويقضي أشغاله، والأمير سيف الدين قجليس، وأما الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار فكان لا يفارقه ويبيت عنده في القلعة غالب الليالي، ونائب الكرك والأمير بدر الدين جنكلي بن البابا والجاولي والخطيري وغيرهم جميعهم يعظمونه ويحترمونه ويشفع عندهم ويقضي الأشغال للناس.
وجاء إلى الشام قاضي القضاة من سنة تسع وثلاثين إلى بعض سنة ست وخمسين هذه المدة كلها، وجاء في أيامه الطاعون فلو شاء هو وولده أقضى القضاة جمال الدين حسين أخذا في إثبات الوصايا ودعاوى القرابات وما يرث الناس بأسبابه ثلاث مئة ألف دينار وأضعافها، وكان ينفرد هو رحمه الله تعلى بولايات الوظائف بنصف ذلك، ولم يقدر أحد يقول إنه وزن ديناراً ولا درهماً ولا أقل ولا أكثر. وأما لبسه الذي يكون عليه في غير دور العدل والمحافل فيما أظنه كان يساوي ثلاثين درهماً.
وإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل
وبعد هذا جميعه يموت فيوجد عليه دين مبلغ اثنين وثلاثين ألف درهم، ولو لم يكن له داران بمصر اشترى الواحدة، وورث الأخرى مع مجلداته التي قناها في عمره، أبيع الجميع فكمل ثلثي الدين، والتزم ولداه مد الله في عمرهما بوفاء البقية، هكذا هكذا وإلا فلا لا.
ينسب إلى الشافعي أنه قال: من ولي القضاء ولم يفتقر فهو لص، قدس الله روحه، ونور ضريحه، والذي استقر في ذهني منه أنه كان إذا أخذ أي مسألة كانت من أي باب كان، من أي علم كان عمل عليها مجلداً أو مصنفاً لطيفاً، أعني في علوم الإسلام من الفروع والأصلين والحديث والتفسير والنحو والمعاني والبيان. وأما العقليات فما كان في آخر وقته فيها مثله.
وأما فن الأدب فما احتاج مع أسماء كتبه وتصانيفه إلى بيان، هي تشهد له بأدبه وذوقه. وأما الهجاء وفن الكتابة فكان ما يلحق فيه. وأما صناعة الحساب فرأيت أئمتها يعترفون له فيها، ولم أره في مدة ولايته القضاء يستكثر على أحد شيئاً والعلة في ذلك إعراضه عن الدنيا وإلقاؤها وراء ظهره، حتى لم تكن له ببال حتى إنني قلت فيه:
لم يلتفت يوماً إلى زهرة الد ... نيا وإن كانت له زاهره
رئاسة العلم التي حازها ... تكفيه في الدنيا وفي الآخرة(2/71)
ولم نر أحداً من النواب الذين هم كانوا ملوك الشام ولا من غيرهم تعرض له فأفلح بعدها، إما يموت فجأة أو يغتال أو يعطل ويستمر في عطلته إلى أن يموت، جربنا هذا غير مرة مع غير واحد، وهذا شاع وذاع. ولقد جئت إليه يوماً، وقلت له يا سيدي هذه قضية حديثاً، بالله دع أمرها فإنك قد أبلغت فيها عذراً، وهذا ملك الأمراء وغيره في ناحية وهم بمعزل، وأخشى يحصل بسببها شر، فما كان جوابي إلا أن أنشد:
وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
فعلمت أنه لا تأخذه في الحق لومة لائم.
ومن حين نافسه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي ما قر له قرار ولا هناه عيش بدمشق، وجرى له ما جرى، وعزل منها، وتولى حلب، وقاسى بها شدائد، ثم إنه عزل ونقل إلى مصر، ثم إنه أمسك واعتقل بالإسكندرية، ثم حضر إلى القدس. ولم يزل يدخل في مرض ويخرج منه إلى أن توفي رحمه الله تعالى، ولما طلب إلى مصر خوفوه من أمره، فقال: يروح إليها ومما يفلح، ويموت والله ولده قاضي القضاة تاج الدين حيث قال في ترجمته لما ذكره في طبقات الفقهاء:
وما علي إذا ما قلت معتقدي ... دع الحسود يظن السوء عدوانا
هذا الذي تعرف الأملاك سيرته ... إذا ادلهم دجى لم يبق سهرانا
هذا الذي يسرع الرحمن دعوته ... إذا تقارب وقت الفجر أو حانا
هذا الذي يسمع الرحمن صائحه ... إذا بكى وأفاض الدمع ألوانا
هذا الذي لم يزل من حين نشأته ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
هذا الذي تعرف الصحراء جبهته ... من السجود طوال الليل عرفانا
هذا الذي لم يغادر سيل مدمعه ... أركان شيبته البيضاء أحيانا
والله والله والله العظيم ومن ... أقامه حجة في العصر برهانا
وحافظاً لنظام الشرع ينصره ... نصراً يلقيه من ذي العرش غفرانا
كل الذي قلت بعض من مناقبه ... ما زدت إلا لعلي زدت نقصانا
وصنف بالديار المصرية ودمشق ما يزيد على المئة والخمسين مصنفاً فمن ذلك: الدر النظيم في تفسير القرآن العظيم، عمل منه مجلدين كبيرين ونصفاً، وتكملة المجموع في شرح المهذب ولم يكمل، والابتهاج في شرح المنهاج في الفقه، بلغ فيه إلى آخر وقت والتحقيق في مسألة التعليق رداً على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الطلاق، وكان فضلاء الوقت قد عملوا ردوداً ووقف عليها، فما أثنى على شيء منها غير هذا، وقال ما رد علي فقيه غير السبكي، وكتاب شفاء الأسقام في زيارة خير الأنام رداً عليه في إنكاره سفر الزيارة، وقرأته عليه بالقاهرة في سنة سبع وثلاثين وسبع مئة من أوله إلى آخره وكتبت عليه طبقة جاء مما فيها نظماً:
لقول ابن تيمية زخرف ... أتى في زيارة خير الأنام
فجاءت نفوس الورى تشتكي ... إلى خير حبر وأزكى إمام
فصنف هذا وداواهم ... فكان يقيناً شفاء السقام
والرفدة في معنى وحده وكتبتها بخطي، وقرأتها عليه وكتبت عليها:
خل عنك الرقدة ... وانتبه للرفده
تجن منها علماً ... فاق طعم الشهده
والتعظيم والمنة في " لتؤمنن به ولتنصرونه " وكتبتها بخطي، وقرأتها عليه وكتبت عليها:
غالب ما صنفه الناس في ... مسببات المال والجاه
فللربا ذلك قد كان وال؟ ... تعظيم والمنة لله
والحلم والأناة في إعراب " غير ناظرين إناه " وكتبتها بخطي، وقرأتها عليه، وكتبت عليها:
يا طالب النحو في زمان ... أطول ظلاً من القناة
وما تحلى منها بعقد ... عليك بالحلم والأناة
والإغريض في الحقيقة والمجاز والكناية والتعريض كتبتها بخطي، وقرأتها عليه، وكتبت عليها:
قل لمن راح باحثاً عن كلام ... في كناياته وفي التعريض
لا تغالط، ما يشبه الدر شيء ... إن تأملته سوى الإغريض
وورد العلل في فهم العلل، وكتبتها بخطي، وقرأتها عليه، وكتبت عليها:
أيا من شفى ما بنا من علل ... ورد ردانا بورد العلل(2/72)
جزاك إلهك من محسن ... هدانا الصواب وروى الغلل
ونيل العلا في العطف بلا، وكتبتها بخطي وقرأتها عليه، وكتبت عليها:
يا من غدا في العلم ذا همة ... عظيمة في الفضل تملا الملا
لم ترق في النحو إلى رتبة ... سامية إلا بنيل العلا
ومن تصانيفه أيضاً رافع الشقاق في مسألة الطلاق، والرياض الأنيقة في قسمة الحديقة، ومنية المباحث في حكم دين الوارث، ولمعة الإشراق في أمثلة الاشتقاق وإبراز الحكم من حديث: رفع القلم، وإحياء النفوس في حكمة وضع الدروس، وكشف القناع في إفادة لو الامتناع، وضوء المصابيح في صلاة التراويح، ومسألة كل وما عليها تدل، وكتب عليها الفاضل سراج الدين عبد اللطيف بن الكويك ثلاثة أبيات أوردتها في ترجمته، والرسالة العلانية والتحبير المذهب في تحرير المذهب، والقول الموعب في القول بالموجب، ومناسك أولى ومناسك أخرى، وبيع المرهون في غيبة المديون، وبيان الربط في اعتراض الشرط على الشرط، ونور الربيع من كتاب الربيع، والرقم الإبريزي في شرح التبريزي، وعقود الجمان في عقود الرهن والضمان، وطليعة الفتح والنصر في صلاة الخوف والقصر، والسيف المسلول على من سب الرسول، والسهم الصائب في بيع دين الغائب. وفصل المقال في هدايا العمال، والدلالة على عموم الرسالة. والتهدي إلى معنى التعدي، والنقول البديعة في أحكام الوديعة، وكشف الغمة في ميراث أهل الذمة، والطوالع المشرقة في الوقوف على طبقة بعد طبقة، وحسن الصنيعة في حكم الوديعة، وأجوبة أهل طرابلس، وتلخيص التلخيص وتاليه، والإبهاج في شرح المنهاج في الأصول، بدأ فيه قدر كراسين، وكمله ولده قاضي القضاة تاج الدين.(2/73)
ورفع الحاجب في شرح ابن الحاجب في الأصول، والقراءة خلف الغمام، والرد على الشيخ زين الدين الكتاني، وكشف اللبس في المسائل الخمس ومنتخب طبقات الفقهاء، وقطف النوار في دراية الدور، والغيث المغدق في ميراث المعتق، وتسريح الناظر في انعزال الناظر والملتقط في النظر المشترط، وتنزيل السكينة على قناديل المدينة، ودفع من تغلبك في مسألة مدرسك بعلبك، وشي الحلى في تأكيد النفي بلا، الاعتبار ببقاء الجنة والنار، ضرورة التقدير في تقويم الخمر والخنزير، تقيدي التراجيح، الكلام على حديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. الكلام مع ابن الدارس في المنطق، جواب سؤال علي بن عبد السلام، رسالة أهل مكة، أجوبة أهل صفد، فتوى: كل مولود يولد على الفطرة، مسألة فناء الأرواح، مسألة في التقليد، النوادر الهمذانية، الفرق في مطلق الماء والماء المطلق، المسائل الحلبية، أمثلة المشتق، القول الصحيح في تعيين الذبيح، القول المحمود في تنزيه داود، الجواب الحاضر في وقف عبد القادر، حديث نحر الإبل، قطف النور من مسائل الدور، مسألة ما أعظم الله، مسائل في تحرير الكتابة، مسألة هل يقال العشر الأواخر، مختصر كتاب الصلاة لمحمد بن نصر المروزي، الإقناع في قوله تعالى " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " ، جواب سؤال من القدس، منتخب تعليقة الأستاذ في الأصول، عقود الجمان في عقود الرهن والضمان، مختصر عقود الجمان، وقف بني عساكر، النصر الناهد في لا كلمت كل واحد، الكلام في الجمع في الحضر لعذر المطر، الصنيعة في ضمان الوديعة، النقول البديعة في ضمان الوديعة، بيان المحتمل في تعدية عمل، القول الجد في تبعية الجد، تفسير يا أيها الرسل كلوا من الطيبات، المواهب الصمدية في المواريث الصفدية، كشف الدسائس في هدم الكنائس، حفظ الصيام عن فوت التمام، جواب سؤال ورد من بغداد، كتاب الخيل، جواب الأمير سيف الدين بيبغاروس ورد من حلب، كم حكمة أرتنا أسئلة أرتنا، جواب أهل مكة، جواب المكاتبة من حارة المغاربة، معنى قول الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، سبب الانكشاف عن إقراء الكشاف، وقف على وقف أولاد الحافظ، النظر المعيني في محاكمة أولاد اليونيني، موقف الرماة من وقف حماة، مركز الرماة، القول في التقوي في الوقف التقوي، القول المختطف في دلالة: إذا اعتكف، كشف اللبس عن المسائل الخمس، غير الإيمان لأبي بكر وعمر وعثمان، زكاة مال اليتيم، الكلام على لباس الفتوة، وهو فتوى الفتوة، بيع المرهون في غيبة المديون، الألفاظ التي وضعت بإزاء المعاني الذهنية أو الخارجية، أجوبة مسائل سأله عنها ولده قاضي القضاة تاج الدين في أصول الفقه، العارضة في البينة المتعارضة، مسألة تعارض البينتين، كتاب بر الوالدين، أجوبة أسئلة حديثية وردت من الديار المصرية، نصيحة القضاة الكلام على قوله تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن " .
ولما وقف على رد الشيخ تقي الدين بن تيمية على ابن المطهر في الرفض قال: وأنشدنيها من لفظه، وهي:
إن الروافض قوم لا خلاق لهم ... من أجهل الناس في علم وأكذبه
والناس في غنية عن رد إفكهم ... لهجنة الرفض واستقبال مذهبه
وابن المطهر لم تطهر خلائقه ... داع إلى الرفض غال في تعصبه
لقد تقول في الصحب الكرام ولم ... يستحي مما افتراه غير منجبه
ولابن تيمية رد عليه وفى ... بمقصد الرد واستيفاء أضربه
لكنه خلط الحق المبين بما ... يشوبه كدراً في صفو مشربه
يخالط الحشو أنى كان فهو له ... حثيث سير بشرق أو بمغربه
يرى حوادث لا مبدا لأولها ... في الله سبحانه عما يظن به
لو كان حياً يرى قولي ويفهمه ... رددت ما قال أقفو إثر سببه
كما رددت عليه في الطلاق وفي ... ترك الزيارة رداً غير مشتبه
وبعده لا أرى للرد فائدة ... هذا وجوهره مما أظن به
والرد يحسن في حالين واحدة ... لقطع خصم قوي في تغلبه
وحالة لانتفاع الناس حيث به ... هدى وربح لديهم في تطلبه(2/74)
وليس للناس في علم الكلام هدى ... بل بدعة وضلال في تكسبه
ولي يد فيه لولا ضعف سامعه ... جعلت نظم بسيطي في مهذبه
وقال: ما أنشدنيه من لفظه لما رد على ابن تميمة في الطلاق، وقد أكثر من الاحتجاج بيمين ليلى:
في كل واد بليلى واله شغف ... ما إن يزال به من مسها وصب
ففي بني عامر من حبها دنف ... ولابن تيمية من عهدها شغب
وكتب لابنه الأكبر محمد رحمه الله تعالى في سنة عشر وسبع مئة، وأنشدنيه من لفظه رحمه الله تعالى:
أبني لا تهمل نصيحتي التي ... أوصيك واسمع من مقالي ترشد
احفظ كتاب الله والسنن التي ... صحت وفقه الشافعي محمد
وتعلم النحو الذي يدني الفتى ... من كل فهم في القران مسدد
واعلم أصول الفقه علماً محكماً ... يهديك للبحث الصحيح الأيد
وأسلك سبيل الشافعي ومالك ... وأبي حنيفة في العلوم وأحمد
وطريقة الشيخ الجنيد وصحبه ... والسالكين طريقهم بهم اقتدي
وابتع طريق المصطفى في كل ما ... يأتي به من كل أمر تسعد
واقصد بعلمك وجه ربك خالصاً ... تظفر بسبل الصالحين تهتدي
واخش المهيمن وأت ما يدعو إلي؟ ... ه وانته عما نهى وتزهد
وارفع إلى الرحمن كل ملمة ... بضراعة وتمسكن وتعبد
واقطع عن الأسباب قلبك واصطبر ... واشكر لمن أولاك خيراً وأحمد
وعليك بالورع الصحيح ولا تحم ... حول الحمى واقنت لربك واسجد
وخذ العلوم بهمة وتفطن ... وقريحة سمحاء ذات توقد
واستنبط المكنون من أسرارها ... وابحث عن المعنى الأسد الأرشد
وعليك أرباب العلوم ولا تكن ... في ضبط ما يلقونه بمفند
فإذا أتتك مقالة قد خالفت ... نص الكتاب أو الحديث المسند
فاقف الكتاب ولا تمل عنه وقف ... متأدباً مع كل حبر أوحد
فلحوم أهل العلم سمت للجنا ... ة عليهم فاحفظ لسانك وابعد
هذي وصيتي التي أوصيكها ... أكرم بها من والد متودد
وكتب لولده قاضي القضاة تاج الدين وق رتب موقعاً بالدست الشريف بالشام في سنة خمس وسبع مئة:
أقول لنجلي البر المفدى ... مقالاً وثقت منه عراه
وليت كتابة في دست ملك ... رست أركانه وسمت ذراه
فلا تكتب بكفك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه
ولا تأخذ من المعلوم إلا ... حلالاً طيباً عطراً شذاه
ونصحك صاحب الدست اتخذه ... شعارك فالسعادة ما تراه
ثلاث يا بني بها أوصي ... فمن يأخذ بها يحمد سراه
وتقوى الله رأس المال فالزم ... فما للعبد إلا من براه
قلت: التزم رحمه الله فيها الراء والثالث تضمين، وهو بيت مشهور جاء في موضعه متمكناً، وتراه في هذا البيت من الرؤية، وفي الخامس من الرأي فلا يظن أنه إيطاء.
وأجابه رحمه الله تعالى ولده قاضي القضاة تاج الدين عن ذلك بقوله:
أتت والقلب في الغفلات ساه ... تنبه كل ساه من كراه
وصية والد برشفوق ... يقوم مع ابنه فيما عراه
رؤوف بابنه لو بيع مجد ... بمقدور لبادر واشتراه
ألا يا أيها الرجل المفدى ... ومن فوق السماء يرى ثراه
أنلت فنلت في الدنيا منالاً ... يسرك في القيامة أن تراه
وقال رحمه الله تعالى في معنى قول امرئ القيس: وما ذرفت عيناك ... البيت، وأنشدني ذلك من لفظه:
قلبي ملكت فما به ... مرمى لواش أو رقيب
قد حزت من أعشاره ... سهم المعلى والرقيب
يحييه قربك إن مننت به ولو مقدار قيب
يا متلفي ببعاده ... عني أما خفت الرقيب(2/75)
قلت: ليس لهذه القوافي خامس فيما أظن، وقد تلطف في القافية الثالثة حتى تركبت معه من كلمتين وامتزجت، وقيب لغة في قاب، وفي هذه الأبيات معنى من المعاني الأدبية، وهو مما يمتحن به الأدباء في قول امرئ القيس: وما ذرفت عيناك، البيت، لأن الأصمعي قال فيه ما هو باد لكل أحد، وهو أن عينيها سهمان ضربت بهما في قلبه المقتل الذي هو أعشار، أي مكسر، من قولك: برمة أعشار إذا كانت كذلك.
وأما ابن كيسان فقال ما هو أدق من هذا المعنى، فقال: ضربت بسهميك اللذين هما من سهام الميسر لتملكي أعشار القلب، وهي جميع ما يخص الميسر من القداح، فالمعلى له سبعة أسهم، والرقيب له ثلاثة أسهم، فيستغرق السهمان جميع الأعشار، وهذا وإن كان دقيقاً وفيه غوص ففيه تعسف، وتأويل فيه بعد، وأما هذا الذي نظمه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فهو صريح في هذا المعنى.
وكنت قد طلبت منه ما أستعين به على ترجمته لما وضعتها في تاريخي الكبير الوافي بالوفيات فكتب لي مسموعاته وأشياخه ومصنفاته، ولم يكتب شيئاً من نظمه، فكتبت إليه:
مولاي يا قاضي القضاة الذي ... أبوابه من دهرنا حرز
أفدتني ترجمة لم تزل ... بحسن أقمار الدجى تهزو
لبست منها حلة وشيها ... أعوزه من نظمك الطرز
فكتب الجواب رحمه الله تعالى:
لله مولى فضله باهر ... من كل علم عنده كنز
يا واحد الدهر ومن قد علا ... منه على هام العلا الغرز
تسألني النظم ومن لي به ... وعندي التقصير والعجز
قبل الداعي طرساً قد سما نوراً ونقساً، جمع أفانين العلوم في شبه الوشي المرقوم، ما بين خط إذا رمقته العيون قالت: هذا خط ابن مقلة، ونظم لا يطيق حبيب أن ينكر فضله، ونثر يرى عبد الرحيم عليه طوله، صدر عمن توقل ذروة البلاغة وسنامها، وامتطى غاربها وملك زمامها، وكملها من كل علم بأكمل نصيب، ضارباً فيه بالسهم المصيب، مشمراً فيه عن ساق الجد والاجتهاد، متوقداً ذكاء مع ارتياض وارتياد، إلى من هو عن ذلك كله بمعزل، ومن قعد به قصوره إلى حضيض منزل يطلب منه شيئاً مما نظم، ولعمري لقد استسمن ذا ورم، ومن أين لي النظم والرسائل إلا بنغبه من المسائل، على تبلد خاطر وكلال قريحه، وتقسم فكر بين أمور سقيمة وصحيح، فأنى لمثلي شعر ولا شعور، أو يكون له منظوم ومنثور، غير أني مضت لي أوقات استخفني فيها إما محبة التشبه بأهل الأدب، وإما ذهول عما يحذره العقلاء من العطب، وإما حالة تعرض للنفس فتنضح بما فيها، وأقول دعها تبلغ من أمانيها، فنظمت ما يستحيا من ذكره، ويستحق أن يبالغ في ستره، ولكنك أنت الحبيب الذي لا يستر عنه معيب، أذكر لك منه حسبما أشرت نبذاً، وأقطع لك منه فلذاً. وذكر أبياتاً أوردتها في ترجمته في تاريخي الكبير، ونقلت من خطه له وأنشدنيه من لفظه:
إن الولاية ليس فيها راحة ... إلا ثلاث يبتغيها العاقل
حكم بحق أو إزالة باطل ... أو نفع محتاج سواها باطل
ونقلت من أيضاً له:
مثال عم وخال ... بقول صدق وجيه
بني بأخت أخيه ... لأمه لا أبيه
وذاك لا بأس فيه ... في قول كل فقيه
فنجلة هو داع ... بذاك لا شك فيه
وكتب إلي وقد وقع ثلج بدمشق في أول شهر رمضان سنة أربع وخمسين وسبع مئة:
نطرت إلى أشجار جلق فوقها ... ثلوج أراها كالبروق تلوح
فشبهتها قضبان فضة اكتست ... وقابلها منا الغداة صبوح
ومن تحتها الأوراق خضر كأنها ... زمردة تغدو بنا وتروح
ومن بينها النارنج كالذهب الذي ... هواه به كل النفوس تبوح
فقلت: لقد أخطأت تشبيهي الذي ... يعز علي المعتز وهو فصيح
تشبه يبساً ذاوياً برطيبه ... وميتاً بمن فيه الحياة وروح
فول صلاح الدين هذا فإنه ... إذا قال تشبيهاً أقول صحيح
وبعده:
أقول للسرو قد كساه ... ثلج رواء عليه نور
زمرد أنت في لجين ... فقال مه إن ذا قصور(2/76)
تشبيه ذاو بلا حياة ... بمن له منظر نضير
وبعده أيضاً:
أقول للسرو قد كساه ... ثلج بدا نوره وأنهج
زمرد أنت في لجين ... فقال أبهى سنا وأنهج
فهل ذكي يطيق وصفي ... أريه طرق الهدى وأنهج
تقول لي ذائب المعاني ... فلا تراني لذا أنهج
وأنت يا واصفي بشعر ... بغير ردف سواه أنهج
فكتبت أنا الجواب إليه رحمه الله تعالى يقبل الأرض ويقول:
أتتني سطور كالدياجي مدادها ... وفيها المعاني كالنجوم تلوح
يغني بها الشادي إذا ما حسا الطلا ... ويخلو بها عاني الهوى فيبوح
فكل معانيها غريب مصنف ... كما لفظها بين الأنام فصيح
ملوكية التشبيه فيما تخيلت ... كذلك تشبيه الملوك مليح
فقابلت منها نسخة تقويه ... على كل سطر قد حوته صحيح
فأعملت فكري فانثنى متقاعساً ... وعهدي به عند القريض لحوح
وعاد فقيراً في زوايا أضالعي ... وما عنده في نظم ذاك فتوح
ثم إن أعقله بارحته، وصبر إلى اليوم حتى رأى نشاطه لما كن عليه وجانحته، وغالطه في نظم شيء في هذه المادة، وقال: ما ضرك أن تسير جوادك في هذه الجادة، فلا بد له من العرض بين يدي مولانا قاضي القضاة أدام الله تعالى أيامه، وإغضاؤه مضمون الدرك فيما كل السوانح غزلان رامة، فانفعل لذلك بعدما استحيا وخجل، وقال وهو ما بين الجذل والوجل:
الثلج يسقط فوق أوراق حوت ... نارنج بستان سبى بروائه
فكأنما تلك الثلاث سرقن من ... قاضي القضاة الحسن يوم لقائه
فابيض ذا كثنائه واخضر ذا ... من جوده وأنار ذا كذكائه
فشكرت له هذا التخيل وعلمت أنه لطيف التحيل، وقلت: ما بك ما يعوق، فالحق ببضاعتك السوق، فإذا به قد نظم واستعمل القلم، وقال:
نارنجنا في الغصون يحكي ... والثلج في بعضهن رقم
خدا تبدى به عذار ... عاجله بالمشيب هم
فقلت له: لا بد من الزيادة، فإن الخيرة عادة، فقال: أزيدك شيئاً من الاستعارة فإنها لقمر التشبيه داره. وقال:
قد سقط الثلج فوق دوح ... نارنجها يفرح الحزينا
كورد خد وآس صدغ ... لاح به السيب ياسمينا
فقلت له: حسن، ولكن التشبيه الملوكي فات وهو من أعظم الآفات فقال:
كأن سقيط الثلج في الورق التي ... تضمنت النارنج عند التضرج
لآلي مشيب في زمرد عارض ... تبدى على ياقوت خد مضرج
فقلت: هذا كاف، فانظم في السرو بلا خلاف، فقال بعدما نضج ولم يبق فيه عرق يختلج:
عاينت سروة دوحة قد أشبهت ... والثلج يسقط فوقها متوالي
حسناء زفت في ملاءة مخمل ... خضراء كللها سموط لآلي
فكتب هو رحمه الله تعالى الجواب إلي عن ذلك:
تراقصت الأشجار عند سماعها ... قريضك واختلت كنشوان يطرب
وقالت: ألم أخبرك أنك قاصر؟ ... فقلت لها: باب صحيح مجرب
وركبت أنا مغلطة من مغالط المنطق، ونظمته وكتبت به إليه وهو:
أيا قاضي القضاة بقيت ذخراً ... لتشفي ما يعالجه الضمير
فأنت إمامنا في كل فن ... ومثلك لا تجيء به الدهور
كأنك للغوامض قطب فهم ... عليك غدت دقائقها تدور
بلغت بالاجتهاد إلى مدى لا ... يخونك في معارفه فتور
وبابك عاصم من كل جور ... وعلمك نافع ولنا كثير
وقلنا أنت شمس علا وعلم ... فكيف بنوك كلهم بدور
إليك المشتكى من سوء فهم ... يعسر إذ يسير له اليسير
بليت بفكرة قد أتعبتني ... تحور إلي كسلى إذ تخور
مقدمتان سلمتا يقيناً ... ولكن أنتجا ما لا يصير
تقول البدر في فلك صغير ... وذلك في كبير يستدير(2/77)
فيلزم أن بدر التم ثاو ... بجانحة الكبير وذاك زور
فأوضح ما تقاعس عنه فهمي ... فأنت بحله طب خبير
وفهمك في الورى كضياء شمس ... وعلمك في الأنام هدى ونور
فكتب الجواب في ليلته وفرع عليه ثلاثة أجوبة، وهو:
سؤالك أيها الحبر الكبير ... سمت في حسن هالته البدور
وهمتك العلية قد تعالت ... فدون طلابها الفلك الأثير
ونظمك فوق كل النظم عال ... على هذا الزمان له وفور
فلو سمحت بك الأيام قدماً ... لقدمك الجحا جحة الصدور
سألت وأنت أذكى الناس قلباً ... وعندك كل ذي عسر يسير
وقلت المشتكى من سوء فهم ... وحاشى إن فهمك مستطير
وفكرتك الصحيحة لن تجارى ... ولم أرها تحور ولا تخور
ولا كسل بها كلا وأنى ... ودون نشاط أولها السعير
فهاك جواب ما قد سلت عنه ... وأنت بما تضمنه خبير
مقدمتان شرطهما اتحاد ... بأوسط إن يفت فات السرور
وهذا منه فالانتاج عقم ... وأعقبه عن التصديق زور
وذلك أن قولك في صغير ... هو المحمول ليس هو الصغير
وفي الكبرى هو الموضوع فاعلم ... فمن ذياك للشرط الثبور
وإن رمت التوصل باجتلاب ... مقدمة بها يقع العثور
على تحقيق مظروف وظرف ... فمشترك عن المعنى قصير
فمعنى البدر في فلك صغير ... يخالف ما تضمنه الكبير
فلم يحصل لشرطهما وجود ... لذلك أنتجا ما لا يصير
وفي التحقيق لا إنتاج لكن ... لأجلك قلت قولك لي عذير
وأما إن أردت عموم معنى ... وذلك فيهما معنى شهير
فينتج آمناً من كل شك ... وليس عليه إيراد يصير
فذاك جواب ما قد سلت يا من ... غدا في العلم ليس له نظير
وما عنه تقاعس منك فهم ... وكيف ومنك تنل الصخور
فأنت البدر حسناً وانتقالاً ... بأفلاك مضاعفة تسير
لحامله السريع وتالييه ... دليل أن خالقه قدير
يرى ذو الهيئة النحرير فيها ... عجائب ليس يحويها الضمير
فسبحان الذي أنشأه بر ... رحيم قاهر رب غفور
وصلى الله رب على نبي ... هو الهادي به قد تم نور
وكتبت أنا إليه سؤالاً من علم المناظر:
قاضي قضاة الشام يا من له ... فوائد كالديم الهاطلة
ومن له معرفة قد غدت ... لكل علم في الورى شاملة
ومن إذا حل بنا مشكل ... يلقا بالأجوبة الفاصلة
وهو إمام الناس في فنهم ... وفي فنون عنده حاصله
من كذب الحس فما عنده ... بينة تعضده عادله
لكن هذا القطر في جوه ... غدا خطوطاً للثرى نازله
كذلك النقطة فوق الرحى ... تبصرها دائرة جائله
فبين العلة في صدقنا ... أولا فدعواكم إذا باطله
وابق مدى الأيام في نعمة ... بدورها مشرقة كالمة
فكتب هو رحمه الله الجواب إلي مختصراً:
علتها السرعة مع وهمنا ... ومن خيال لم يزل خاتلة
يقضي بها الوهم ويأبى الحجى ... وهو الذي أحكامه عادلة
والحس مقصور على رؤية ... مبصرة للصورة الحاصلة
وكتب أيضاً رحمه الله تعالى جواباً مطولاً في ثلاثة وأربعين بيتاً وقد أثبتها بكمالها في كتابي ألحان السواجع بين البادي والمراجع، وقال لي يوماً: نظمت بيتاً مفرداً من ثماني عشرة سنة، وزدت الآن عليه بيتاً في هذه السنة، وكانت سنة سبع وأربعين وسبع مئة، وهما:
لعمرك إن لي نفساً تسامى ... الى ما لم ينل دارا بن دارا(2/78)
فمن هذا أرى الدنيا هباء ... ولا أرضى سوى الفردوس دارا
فأعجباني، وقلت في مادتهما، إلا أن بيتيه رحمه الله تعالى أحسن وأصنع من قولي:
لعمرك إن للباقي التفاتي ... ومالي نحو ما يغني طريقه
أرى الدنيا وما فيها مجازاً ... وما عندي سوى الأخرى حقيقه
وحصل له في وقت ما شرى، فكتب إليه جمال الدين محمد بن نباتة المصري:
يفديك يا قاضي القضاة عليهم ... من كل داء تشتكي كل الورى
شهد الشرى لك حين زارك بالتقى ... والصبر والصدقات لما خبرا
لا تعدم المدح الروائح سيداً ... هذي خلائقها بتخبير الشرى
فلما حضرت عنده أراني إياها، فلا وقفت عليها علمت ما أراده من خطأ التورية مع الناظم فمضيت من عنده وعدت إليه وقد كتبت أنا إليه بعد ذلك:
لما اشتكى قاضي القضاة فديته ... من كل سوء يشتكي منه الورى
عاينته لأذى الشرى متصبراً ... فعلمت حقاً أنه أسد الشرى
وربحت توريتي التي قعدت وما ... خسرت ولم أنطق بتخيير الشرى
فأعجبه ذلك وجبر على عادته معي، وفساد التورية مع الناظم الأول هو أن الشرى، بفتح الشين، مقصور؛ وهو المرض المعروف عند الأطباء بالماشرى، وهو الخراج الصغار التي تتولد من مادة دموية لذاعة، والشِرى بكسر الشين، مصدر شرت شرى، ففسدت توريته.
ووصل الخبر مع البريد من مصر بوفاته قدس الله روحه في يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة سنة ست وخمسين، فكتبت مرثية إلى ابنه قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب، وأنشدت في صبيحة العزاء بالعادلية، وهي:
أي طود من الشريعة مالا ... زعزعت ركنه المنون فزالا
أي ظل قد قلصته المنايا ... حين أعيا على الملوك انتقالا
أي بحر قد فاض بالعلم حتى ... كان منه بحر البسيطة آلا
أي حبر مضى وقد كان بحراً ... فاض للواردين عذباً زلالا
أي شمس قد كورت في ضريح ... ثم أبقت بدراً يضي وهلالا
مات قاضي القضاة من كان يرقى ... رتب الاجتهاد حالاً فحالا
مات من فضل علمه طبق الأر ... مسيراً وما تشكى كلالاً
كأن الشمس في العلوم إذا ما ... أشرقت أصبح الأنام ذبالا
كان كل الأنام من قبل ذا العص؟ ... ر عليه في كل علم عيالا
؟كان فرد الوجود في الدهر يزهى ... بمعالي أهل العلوم جمالا
فمضوا قبله وكان ختاماً ... بعدهم فاعتدى الزمان وصالا
كملت ذاته بأوصاف فضل ... علم البدر في الدياجي الكمالا
وأنام الأنام في مهد عدل ... شمل الخلق يمنة وشمالا
لمن بعده نشيد رحاباً ... ولمن بعده نشد رحالا
وهو إن رمت مثله في علاه ... لم تجد في السؤال عنه سوى لا
أحسن الله للأنام عزاهم ... فهم بالمصاب فيه ثكالى
ومصاب السبكي قد سبك القل؟ ... ب وأودى منا الجلود انتحالا
خزرجي الأصول لو فاخر النج؟ ... م علا مجده عليه وطالا
خلق كالنسيم مر على الرو ... ض سحيراً وعرفه قد توالى
ويد جودها يفوق الغوادي ... تلك ماء همت وذا صب مالا
أيها الذاهب الذي حين ولى ... صار منه عز الدموع مذالا
لو أفاد الفداء شخصاً لجدنا ... بنفوس على الفدا تتغالى
أنفس طالما تنفس عنها ... منك كرب يكظها واستحالا
أنت بلغتها المنى في أمان ... فاستفادت غنى غزت منالا
من لنا إن دجت شكوك شكونا ... من أذاها في الذهن داء عضالا
كنت تجلو ظلامها ببيان ... حل من عقلنا الأسير عقالا
من يعيد الفتوى إلى كل قطر ... منه جاءت جوابها يتلالا(2/79)
قد صببت الصواب فيها وأهدي؟ ... ت هداها وقد محوت المحالا
فيقول الورى إذا ما رأوها ... هكذا هكذا وإلا فلا لا
فليقل من يشاً ما شاء إن المو ... ت أردى الغضنفر الرئبالا
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا
قد تقضى قاضي القضاة تقي ال؟ ... دين سبحان من يزيل الجبالا
فالدراري من بعده كاسفات ... وإذا ما بدت تراها خجالى
كان طوداً في علمه مشمخراً ... مد في الناس من بنيه ظلالا
فبهاء بها ونعمت وتاج ... فوق فرق العلياء راق اعتدالا
هو قاضي القضاة صان حماه ... من عوادي الزمان ربي تعالى
وهداه للحكم في كل يوم ... فيه يرعى الأيتام والأطفالا
وحباه الصبر الجميل ووفا ... ه ثواباً يهمي سحابا ثقالا
ليبيد العدى جلاداً ويغدو ... فيفيد الندى ويبدي الجدالا
وكتبت بعد ذلك إلى ولده الشيخ الإمام بهاء الدين أحمد بمصر أعزيه:
؟وهكذا جيشه المعهود نصرته ... على أعاديه بعد اليوم ينهزم
أهكذا جبل الإسلام ينهدم ... وهكذا سيفه المسلول ينثلم
وهكذا مجده الراسي قواعده ... تنحط منه أعاليه وتنحطم
وهكذا البدر في أعلى منازله ... وسعده قد محت أنواره الظلم
وهكذا البحر يمشي وهو ذو يبس ... من بعد ما كان في عرنينه شمم
وهكذا كل ميت حل في جدث ... بكى له الفاقدان العلم والكرم
وقد نعى العدل منه سيرة كرمت ... يحفها الزاهران الحلم والنعم
والورق تملي لنا في وصفه خطباً ... يقلها المنبران البان والسلم
ولو أراد الأعادي كتمها اعترفت ... بفضلها الشاهدان العرب والعجم
قل للعدى إن جهلتم قدر رتبته ... فالبيت يعرفه والحل والحرم
والليل والذكر والمحراب شاهده ... والشرع والحكم والتصنيف والقلم
ومن يقل إنه يدري مكانته ... فما خفي عنهم أضعاف ما علموا
فكم كماة من النظار قد مهروا ... في البحث جاؤوا بما ظنوا وما زعموا
فكر فيهم بلا فكر وجد لهم ... جداله ثم لما سلموا سلموا
؟وقصروا عن مبادي غاية حصلت ... له وأين عقاب الجو والرخم
ولوا فراراً وقد ألقوا سلاحهم ... وهم أناس على التحقيق قد وهموا
عليه هزمهم في كل معركة ... وما عليه بهم عار إذا انهزموا
شكوا فتوراً رأوه في بصائرهم ... ولو ألموا به من قبل ما ألموا
ما الناس إلا سواء في بيوتهم ... ما الشأن في أمرهم إلا إذا التحموا
كل يرى أنه راح منفرداً ... ليث وأقلامه من حوله أجم
فإن تضمهم وقت الجدال وغى ... فغندها تظهر الأقدار والقيم
تزايد الحلم من زاكي سجيته ... فلم يكن من عداه قط ينتقم
موفق الحكم والفتوى على رشد ... ما ند منه على ما قد مضى ندم
كم بات ينصر مظلوماً رآه وقد ... أودى وجانبه بالضعف يهتضم
كان ابن تيمية بالفضل معترفاً ... وهو الألد الذي في بحثه خصم
يثني عليه وقد أبدى بفكرته ... أوهامه فيراها وهو يبتسم
وما أقر لمخلوق سواه وفي ... زمانه كل حبر علمه علم
قاضي القضاة تقي الدين حين قضى ... غدا أولو العلم لم يهناهم حلم
وكيف يهنأ عيش بعده وبه ... قد كان شمل الهدى بالحق يلتئم(2/80)
فاليوم أقفر ربع المكرمات وقد ... شط المزار وأقوت دونها الخيم
مات الذي كان إن تسأله غامضة ... خلاك من حلها في العلم تحتكم
يا سائراً فوق أعناق الرجال وكم ... سعت له في المعالي والهدى قدم
خدمت علمك وقتاً والأنام إلى ... يوم القيامة فيما قلته خدم
تركت فينا تصانيفاً تخاطبنا ... فأنت حي ولما تنشر الرمم
ما مثل سيرتك المثلى إذا ذكرت ... بالحمد تبدو وبالتقريظ تختم
أقمت في مصر والأخبار نافحة ... طيباً تسير بها الوخادة الرسم
ما كنت إلا إمام الناس قاطبة ... في النقل والعقل تقضي كلما اختصموا
وكل مشكلة في الدين معضلة ... يضيق فيها على سلاكها اللقم
تحل شبهتها من حيثما عرضت ... بالحق إذ لست في الترجيح تتهم
مطهر الذات من ريب تضيء لنا ... منك العوارف والأخلاق والشيم
يكاد من رقة فيه يهب صباً ... هذا وقد برحت أحداثه الحطم
من أجل ذا غدت أيامه غرراً ... بيضاً ولم يقض فيها أن يراق دم
كف على عدد الأنفاس في هبة ال؟ ... أموال ما سامها من بذلها الديم
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم
لكن صبرنا على التفريق وهو أذى ... وما لجرح إذا أرضاكم ألم
مهما نسيت فما أنسيت برك بي ... عند الظما ونداك البارد الشبم
وفرط جبرك إذ تثنيني علي بما ... لا أستحق وذاك الحفل مزدحم
حتى أغالط نفسي في حقيقة ما ... أدريه منها وفي علمي بها أهم
فعال من طبع الباري سجيته ... على مكارم منها الناس قد حرموا
وكاد دهري لياليه تسالمني ... وكاد يصرف عني الشيب والهرم
والله لا فترت مني الشفاه عن الد ... عا ولا افتر لي من بعد ذاك فم
فاصبر أبا حامد فالناس قد فجعوا ... فيمن مضى لم تخصص أنت دونهم
تشارك الناس في هذا العزاء كما ... نعمى أياديه فيها الناس تقتسم
وانظر وقس يا إمام الناس كلهم ... فإن سلمت فكل الناس قد سلموا
هذي المصيبة بالإسلام قد نزلت ... فانظر عرا الدين منها كيف تنفصم
ما مثل من قد مضى يبكى عليه ولا ... تجري على وجنتيك الأدمع السجم
فإنه في جنان الخلد في دعة ... لكفه الحور والولدان تستلم
فقدس الله ذاك الروح منه ولا ... أراه يوم اللقا والحشر ما يصم
يقبل الأرض وينهي ما عنده من الألم الذي أنكى، والحادث الذي ما يحيك في خلد ذي جلد ولا يحكى، والمصاب الذي عقد المناحات له بالمناجاة، فوقف واستوقف له، و بكى واستبكى:
ولو يغني البكا أو رد ميتاً ... بكيت فلم يساجلني الغمام
فإنا لله وإنا إليه راجعون، قول من فقد إمامه، وفجع بمن كان يهديه إلى رشده ويريه طرق السلامة، وأعدمته الأيام حبراً لم يلتفت معه إلى الدراري إذا سمع كلامه، وغيضت منه بحراً كان يقذف به من دره فذه وتوامه، وأخذت منه فريد عصره فما يدري ما يبكيه منه، أعلمه أم بركته أم لطفه أم جوده الذي فضح الغمامة، وابتزت منه شيخ الإسلام الذي ما يخلفه الوجود إلى يوم القيامة.
عمت فواضله فعم مصابه ... فالناس فيه كلهم مأجور(2/81)
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، كلمة تقولها الملوك لهذه المصيبة العظمى والرزية التي ما يجد الناس لها رحمى، ذهب والله من كان جمال الوجود، وإمام الأئمة وكعبة الجود، ومن كان بقاؤه بين ظهراني الناس رحمه، ومن بينه في العلوم وبين علو النجوم زحمه، ومن كان إذا كتب اهتزت من الطرب له الأقلام، وخضعت لأوامره السيوف، وسكنت خافقات الأعلام، وتملت بعلومه وتصانيفه الشريعة، فلما مات قال الناس أحسن الله عزاء الإسلام:
غدا طاهر الأثواب لم تبق روضة ... غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
ثوى في الثرى من كان يحيا به الثرى ... ويغمر صرف الدهر نائله الغمر
ويقسم المملوك أن مولانا وأخاه أدام الله أيامهما ما انفردا بهذه الرزية، ولا ابتليا دون الناس بهذه البلية، يا مولانا هذا ركن الإسلام قد انهدم، وهذا بحر الإيمان قد ارتدم فمصابه قد عم وما خص، وتحيف جناح الصبر وما حص، فالله يعين على ما أبلى ويمسك رمق القلوب فإنها عريت من جبة الصبر وما تطيق من الأحزان نبلاً، وما بقي غير الأخذ بالسنة في الصبر، والتمسك بآثار السلف الصالح ممن أودع أحبابه القبر:
أنت يا فوق أن تعزى عن الأحباب فوق الذي يعزيك عقلاً
وبألفاظك اهتدى فإذا عز ... اك قال الذي له قلت قبلا
ويقسم المملوك ثانياً أن فيكما خلفاً باقياً، وكلاكما، كلاكما الله، نير أصبح في درجات من درج السعد راقياً، وما السلوة إلا بهذا، وإلا كانت قلوب الأولياء قد أمست جذاذاً، فالله تعالى يمتع مصر والشام منكما بمطالع النيرين، ويديم للإسلام منكما من يحيي له سيرة العمرين، وقد جاء من مولانا قاضي القضاة تاج الدين ما نور الظلم، وبور أرباب السيف والقلم.
وقال الناس ليمن أيامه: " ومن يشابه أباه فما ظلم " . فمولانا يمده بالخاطر ولا ينسه من دعائه، فإنه في الأرض مثل الغمام الماطر، أنهي ذلك، والله الموفق بمنه وكرمه؛ إن شاء الله تعالى.
علي بن عبد الكريم
ابن طرخان بن تقي، الشيخ الإمام العالم علاء الدين أبو الحسن بن مهذب الدين الحموي الصفدي، وكيل بيت المال بصفد، المعروف بعلاء الدين الكحال.
كان شيخاً مليح الشيبة، ظاهر الهيبة، طاهر الحضرة والغيبة، أحمر المحيا، قد طال ريا وطاب ريا، له مطالعة واشتغال، وعنده على الطبة حنو واشتمال، جمع مجاميع حديثيه، وألف مؤلفات أدبية.
ولم يزل على حاله إلى أن كحل التراب أجفان الكحال، وغير بطن الأرض وجهه النير فاستحال.
وتوفي رحمه الله تعالى في حدود العشرين وسبع مئة، وكان قد تعدى السبعين.
رأيته بصفد مرات عديدة، وكان يركب فرسه ويقف على الخضري واللحام والخباز وغيرهم، ويشتري ذلك بنفسه ويخرج الفلوس من منديله وهو بعمة كبيرة وعذبة طويلة، إلا أنه كان خيراً لا شر فيه، ولا أعرف في صفد وكيل بيت مال غيره إلى أن مات.
وصنف كثيراً، من ذلك كتاب القانون في أمراض العيون، وكتاب الأحكام النبوية في الصناعة الطبية وكتاب مطالع النجوم في شرف العلماء والعلوم.
علي بن عبد الكريم بن أبي العدائر
العنبري ظهير الدين.
كان من الكتاب الكبار المعروفين، وله نظم، وهو خال الشيخ كمال الدين بن الزملكاني.
توفي في المحرم سنة اثنتين وسبع مئة ببعلبك.
علي بن عبد الملك
الأمير علاء الدين بن الملك القاهر بن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل.
توفي رحمه الله تعالى يوم السبت تاسع عشر شهر رجب الفرد سنة ست وسبع مئة. وكان يوماً مطيراً، ودفن بتربة والده، وعمل عزاؤه بكرة الأحد بتربة أم الصالح.
علي بن عبد المؤمن بن عبد العزيز
المسند نور الدين الشافعي.
سمع من جده لأبيه، ومن جده لأمه إسماعيل بن أبي اليسر، وأجاز لي بالقاهرة بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
علي بن عبد النصير
ابن قاضي القضاة نور الدين أبو الحسن المالكي.(2/82)
كان قيماً بمذهب مالك، عالماً بما فيه من الغوامض الدقيقة والمسالك، حج مرات وحج من ناظره فقطعه كرات، وكان متقشفاً، ظاهر التخلي عن الدنيا كأنه منها على شفا، يتردد على أصحابه ويتعهد أماكن لداته وأترابه، توجه إلى مصر آخر مرة، وتعرف بالأمير سيف الدين شيخو فأقسم أنه ما رأى مثله في عمره، وراج عنده لما راح، ونزل محادثته منزلة كأس الراح، فولاه قضاء القضاة بالديار المصرية ولبس التشريف لذلك، وفرح به أصحابه وقالوا: هذا مالك مذهب مالك.
فأقام على ذلك قليلاً، ثم اتخذ إلى ربه سبيلاً.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين رابع جمادى الأولى سنة ست وخمسين وسبع مئة ومولده ....
وكان قد ورد إلى دمشق صحبة قاضي القضاة فخر الدين أحمد بن سلامة المالكي، وناب له في دمشق، ثم إنه أقام بعده في دمشق، وكان بيده تصدير في الجامع الأموي، ولما توجه إلى مصر آخراً لازم الأمير سيف الدين شيخو فولاه القضاء في يوم الاثنين ثاني صفر سنة ست وخمسين وسبع مئة، وتوفي في التاريخ المذكور. فأقام في الحكم اثنين وسبعين يوماً، مرض منها مدة خمسين يوماً أو أقل، وما كان أقرب المأتم من العرس.
علي بن عبد الواحد بن الخضر
الرئيس علاء الدين بن السابق - بالسين المهملة وبعد الألف باء موحدة وقاف - الحلبي، نزيل دمشق.
كان شيخاً جليلاً متميزاً، من رؤساء الدولة الناصرية يوسف. خدم في الجهات وولي نظر البيمارستان، ومات وهو ناظر العشر.
توفي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وست مئة. وسيأتي بعده ذكر علاء الدين بن السايق، بالياء آخر الحروف ولكن ذاك علي بن عثمان بن السايق.
علي بن عبد الوهاب
ابن علي بن خلف بن بدر علاء الدين ابن القاضي تاج الدين بن بنت الأعز الشافعي.
كان مقيماً بمصر فنزح عنها هارباً من الشجاعي إلى أن وصل حلب وبلادها، وأقام في حماة مدة ثم حضر إلى دمشق وسعى أخوه القاضي تقي الدين في ترتيبه ناظراً بديوان الأمير حسام الدين طرنطاي بدمشق رفيقاً لبدر الدين المسعودي.
وحكى المسعودي قال: لما باشر علاء الدين عندنا في الديوان لم يكن له من الملبوس إلا ما هو عليه، وقد أخلق ولم يكن معه شيء، فأرسلت إليه جملة دراهم وقماشاً غير مفصل من مالي، وبحث فلم يجدني تعرضت إلى درهم واحد من مال مخدومي، قال وذكرني بكل سوء.
ولما تولى الشجاعي نيابة دمشق حضر عنده، وتوصل إليه بما يلائمه، وولاه نظر ديوانه، وبعد ذلك توجه إلى مصر، وتولى الحسبة بها.
توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وست مئة.
قال ابن الصقاعي: وكان فيه قلق وثلب للناس ومن شعره:
حماة غزالة البلدان أضحت ... لها من نهر عاصيها عيون
وقلعتها لها جيد بديع ... ومن سود التلول لها قرون
قلت: أخذه من قول ....
علي بن عتيق
ابن عبد الرحمن بن علي الشيخ الإمام العالم العلامة المفنن المحقق المدقق أبو الحسن المغربي القابسي المعروف بابن الصياد.
ورد إلى الشام وقدم علينا إلى صفد في سنة ست وعشرين وسبع مئة وقرأت عليه المقامات الحريرية كاملة، وقطعة من ديوان أبي تمام، وديوان أبي الطيب، وبعض كتاب أسرار العربية لابن الأنباري، وبعض درة الغواص للحريري، وكتاب العمدة في الأحكام، وبعض الحماسة لأبي تمام، وبعض المقامات اللزومية التي للسرقسطي، وذكرت إسناده لكل نسخة منها في النسخة المقروءة عليه. ثم إنني اجتمعت به في القاهرة سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ومن هناك عاد إلى بلاده وكان آخر العهد به. إلا أنه كان أحد الأشياخ الذين أخذت عنهم، واقتطفت در الفوائد منهم، كان عالماً بالعربية، والمواد الأدبية، وكان له يد في الأصول فقهاً وديناً، وحاصله في مذهب الإمام مالك متوفر، كأنه ليث ولج منه عريناً، وأما التفسير فكان فيه علامة، ونهجه فيه واضح الاستقامة، وأما أسماء الرجال والسيرة النبوية فكان في ذلك قد بلغ الغاية، وأطل فيه على النهاية، وكان مع ذلك فقيراً، وورد إلى هذه الديار فلم يكن فيها أثيراً. وعاد إلى بلاده بخفي حنين، مثقل الجوانح بالأحزان، فارغ اليدين، وكان وجهه يتوقد حمرة، ويظن به أن قد شرب كأس خمره. قال لي ما افتصدت عمري.
وكان ينظم نظماً عجيباً، أنشدني من لفظه لنفسه بالقاهرة:(2/83)
ما جاءك الوغد إلا كنت تكرمه ... ولا أتيتك إلا كنت منحرفا
كذلك الكلب لا يعبا بجوهرة ... ومن سجيته أن يألف الجيفا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
إنني من أرض فاسٍ ... كنت فيها كالقمر
فخرجنا فكسفنا ... هكذا جري القدر
علي بن عثمان
ابن يوسف بن عبد الوهاب الرئيس علاء الدين بن العدل، شرف الدين الدمشقي التغلبي الكاتب، ابن السايق، بالسين المهملة وبعد الألف ياء آخر الحروف وقاف، وقد تقدم ذكر ابن السابق، بالباء الموحدة، وكلاهما علي، ووفاتهما قريبة.
كان علاء الدين شيخاً له جلالة، و له مروءة وأصالة، يكتب خطاً بديعاً، ويوشي به الطرس فيخال روضاً مريعاً، نسخ كثيراً بخطه، ووشع بقلمه حاشية مرطه، وله أدب ونظم متوسط الرتبة، وإذا جلاه عروساً قوبل بالخطبة.
ولم يزل على حاله إلى أن حصل له صمم، ولمن يخاطبه ألم، وكان يكتب له في الهواء المراد فيفهم، وما يحوج الذي يخاطبه إلى أن يتكلم، أو أن يكتب له في الأرض ما يراد، فيعرف ذلك بالاقتصار والاقتصاد.
ثم إن الموت ساق ابن السايق، وقطع من دناه العلائق.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين ست مئة.
وروى عن الرشيد بن مسلمة كان قد تخلى عن الناس وانقطع.
علي بن عثمان بن عبد الواحد
علاء الدين المعروف بالطيوري، الحاسب.
كان رجلاً جيداً يشهد في القيمة، ويعلم الناس الحساب، وكان له مكتب وحلقة بالجامع الأموي.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثالث شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة.
علي بن عثمان
الشيخ العادل المقرئ الفاضل نور الدين أبو الحسن بن الشيخ المقرئ فخر الدين أبي عمرو بن الشيخ الصالح نفيس الدين بن عبد الرحمن بن الشيخ الصالح زهري بن فارس بن قضاعة بن مدلج، ينتهي إلى مذحج بن عبد مناف القرشي، المصري الفرسيسي - بالفاء مفتوحة وراء ساكنة وسينين مهملتين بينهما ياء آخر الحروف - الشافعي.
سمع من زينب بنت سليمان الإسعردي من الخلعيات، وكان متصدراً بالجامع الحاكمي بالقاهرة، وفيه خير وصلاح وانجماع عن الناس. وقرأ القراءات على نور الدين الشطنوفي. ولم يحدث.
توفي رحمه الله تعالى يوم الاثنين ثامن ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
علي بن عثمان بن محاسن
الفقيه العالم المقرئ المحدث علاء الدين أبو الحسن الدمشقي الشاغوري الشافعي ابن الخراط، معيد الباذرائية، ونائب الخطابة.
سمع من ابن علان، والقاسم الإربلي، والفخر علي. وأكثر، وقرأ بنفسه، وسمع المسند كله والكتب المطولة، وتلا بالسبع على برهان الدين الإسكندري، وشارك في الفضائل، وظهرت عليه للخير والصلاح دلائل. وكتب بخطه كثيراً واختصر، وجمع في ذلك وحشر، اختصر تفسير ابن جرير بخطه، ويشنف أذن قرطاسه بقرطه، وكان فيه انجماع، وبعد عن الشر وامتناع، مع ملازمة الجماعة، والإمامة بالناس على أجمل طاعة.
ولم يزل على حاله إلى أن ركب نعشه ومحا الدهر من الكون نقشه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وخمسين وست مئة.
قال شيخنا الذهبي: سمعنا منه وسمع مني.
علي بن عثمان بن إبراهيم
ابن مصطفى، الشيخ الإمام الفاضل المفنن علاء الدين قاضي القضاة بالديار المصرية، الحنفي، ابن التركماني، تقدم ذكر والده الشيخ فخر الدين، وذكر أخيه الشيخ تاج الدين أحمد.
اشتغل هذا الشيخ علاء الدين وأفنى في ذلك عمره، واجتمع بمن أخذ عنه زمرة بعد زمرة، وكتب ودأب وصنف في غير ما فن وأتى فيه بالعجب. وجمع المجاميع المفيدة، ونزل من العلوم بالقصور المشيدة. وكان هو وأخوه في سماء الديار المصرية قمرين، وفي جنة رياضها نهرين، ولكن أفل أخوه تاج الدين قبله، واقتضى عطف الدهر لهذا بالتراخي والمهلة، فتولى قضاء القضاة بالديار المصرية، ونال من ذلك سؤله ورضاه.
ولم يزل على حاله إلى أن غدت به أم حبو كرى، ونقلته من منصبه العالي إلى تحت الثرى.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر الله المحرم سنة خمسين وسبع مئة.
ومولده في شهور سنة ثلاث وثمانين وست مئة.(2/84)
وكانت ولايته القضاء بالديار المصرية في شوال سنة ثمان وأربعين وسبع مئة، ولبس تشريفه من قلعة الجبل، ونزل فلم يشعر به قاضي القضاة زين الدين البسطامي إلا ودخل عليه في تلك الصورة فبهت.
ومن تصانيف قاضي القضاة علاء الدين ابن التركماني بهجة الأريب لما في الكتاب العزيز من الغريب، والمنتخب في علوم الحديث، وكتاب المؤتلف والمختلف، وكتاب في الضعفاء، والمتروكين، وكتاب الرد على الحافظ البيهقي، ولم يكمل، مختصر المحصل في علم الكلام مقدمة في أصول الفقه الكفاية في مختصر الهداية مختصر رسالة القشيري. وشرع في كتب كثيرة وفي مقدمات في العلوم ولم تكمل.
ولما توفي رحمه الله تعالى تولى ولده قاضي القضاة جمال الدين عبد الله مكانه.
وله من قصيدة كتبها إلى الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار:
إذا شغل البرية فيك فاها ... فكل عنك بالخيرات فاها
فإنك في الشبيبة والمبادي ... بلغت من الفضائل منتهاها
وحزت جميع أنواع المعالي ... وفزت بها وجزت إلى مداها
وصمت عن الحرام على اقتدار ... وصنت النفس عنه في صباها
وملت بها إلى عمل وعلم ... فأضحى ذا الورى حقاً وراها
فلا برح الوجود لها مطيعاً ... ولا زال العدا أبداً فداها
علي بن عثمان بن أحمد
ابن هبة الله بن أحمد بن عقيل الحكيم، الفاضل بهاء الدين أبو الحسن القيسي المصري، المعروف بابن أبي الحوافر.
سمع من النجيب عبد اللطيف، والشريف العماد، وإبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب المنقدي، والشيخ شمس الدين بن العماد الحنبلي، ومحمد بن إبراهيم بن رسلان الكلي، وغيرهم. وسمع من قطب الدين القسطلاني، وابن الأنماطي، وحدث.
كان طبيباً فاضلاً حسن المعالجة، وبيته معروف ومشهور. وكان يكتب خطاً حسناً.
توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في تاسع عشري شعبان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة.
علي بن علي
ابن أبي الحسن الشيخ علي بن الشيخ علي الحريري.
كان شيخاً مشهوراً عند الناس مكرماً معظماً، له حرمة عند الدولة ووجاهة.
توفي رحمه الله تعالى في عشري جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسع مئة بقرية بسر من عمل زرع، وصلي عليه بجامع دمشق غائباً.
ومولده سنة ثلاث وأربعين وست مئة.
وتوفي والده سنة خمس وأربعين وهو طفل صغير.
علي بن علي
القاضي بهاء الدين بن أبي سوادة، كاتب سر حلب، تقدم ذكره في حرف السين.
علي بن عمر بن أبي بكر
الشيخ الصالح المعمر المسند نور الدين أبو الحسن الواني بن الصلاح المصري الصوفي.
سمع من ابن رواج أربعين الثقفي، ومن السبط أربعين السلفي وجزء ابن عيينة والسابع من أمالي المحاملي، والعاشر من الثقفيات. وسمع صحيح مسلم من المرسي والبكري، وحدث به خمس مرات، وسمع من يوسف الساوي.
كان شيخاً من أهل الصلاح وأرباب الخير والفلاح، سهل القياد لمن يقصد سماعه، مطيعاً لمن حاول منه انتفاعه، أكثر المصريون عنه وأخذوا كثيراً من الرواية منه. تفرد في عصره وتجرد سيفه الماضي في مصره، فالحق الصغار بأكابدهم، وجمعهم بالرواية عنه يغابدهم. وكان قد أضر بأخرة، وعولج فأبصر، وطول به عمده فما قصر.
ولم يزل على حاله إلى أن رأى الواني من سكرات الموت ألوانا، وترك مجاج الحياة مجاناً.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد ثامن عشر المحرم سنة سبع وعشرين وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة خمس وثلاثين وست مئة. وهو آخر من روى حديث السلفي بالسماع المتصل.
علي بن عمر بن أحمد بن عمر
ابن أبي بكر بن عبد الله بن سعد، الصدر العدل الكبير الشروطي بهاء الدين بن العز المقدسي الأنصاري.
سمع من ابن عبد الدايم، وعمر بن محمد الكرماني، وغيرهما.
كانت له دربة كبيرة بالشروط ومعرفة تامة بما هو باد إليها منوط، يكتب خطاً آنق من الحدائق، وأنقى من محاسن الغيد العواتق. وعاش عمراً عامر الربوع، وأقام يمد له حبل الدهر وهو يبوع، ومتعة الله بحواسه لم يتغير فيها بضره ولا سمعه ولا نقص حرصه ولا جمعه.
ولم يزل على حاله إلى أن انتبه له الدهر من سنته، وأمسكه في سنته.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء رابع عشر المحرم سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
ومولده في سنة ستين وست مئة.(2/85)
وكان يستخصر أسماء الناس وتواريخهم عجباً في ذلك. وعاش هذه المدة إلى آخر وقت وهو يقرأ الخطوط الدقيقة. وكان قد شهد على قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان ومن بعده من القضاة إلى آخر وقت.
قال لي شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى: إذا أشكلت علي قراءة كتاب امحى خطه أدفعه إليه فيقرأه بلا كلفة. وله مشيخة حدث بها، واجتمعت به غير مرة وكان يحضر إلى عندي وأملي عليه ما يكتبه من الأصدقة، وأجاز لي بخطه سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وفي سنة ثلاثين أيضاً بخطه.
علي بن عمر بن عبد الله
ابن عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل المقدسي الأصل، الآباري، الشيخ الصالح علاء الدين أبو الحسن بن الخطيب نجيب الدين بن الخطيب محب الدين بن الخطيب الزاهد بقية السلف أبي حفص.
سمع من جده لأبيه الخطيب عماد الدين داود وأخويه الضياء يوسف الموفق محمد، وهم أعمام والده، ومن النجيب نصر الله بن الصفار المحدث.
حدث وسمع منه الطلبة.
مرض آخر عمره مدة، وضعف وتغيرت أحواله، وانقطع بالكلية. وكان يؤذن ببيت الآبار.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة خامس شعبان سنة ثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة سبع وأربعين وست مئة.
علي بن عيسى
ابن سليمان بن رمضان بن أبي الكرم، الشيخ الرئيس الكاتب الفاضل المعمر بهاء الدين أبو الحسن ابن الشيخ الفقيه ضياء الدين ناظر الأوقاف، وصهر الوزير بهاء الدين بن حنا، التغلبي المصري الشافعي، ابن القيم.
سمع من الفخر الفارسي، وعبد العزيز بن باقا وسبط السلفي، وتفرد مدة عن الفارسي.
وكان فيه قوة، وهمة مرجوه، يركب الخيل ويتصرف في مصالحه، ويسعى في مناجحه. وعنده دين واف، وخير كاف، ولطف مع من يلقاه، وتواضع وهو في أعلى مرقاه.
ولم يزل على حاله إلى أن آن انصرام حبله، وحان انصراف حبله.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشري القعدة سنة عشر وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث عشرة وست مئة.
وسمع منه الدمياطي، والحارثي، وشيخنا ابن سيد الناس، وابن حبيب، وشيخنا العلامة قاضي القضاة السبكي، والواني، والنور الهاشمي، وابن سامة، وابن المهندس، والشيخ رافع، وولده الشيخ تقي الدين حضوراً، وابن الفخر، وابن خلف.
وقرأ عليه شيخنا الذهبي الأول من عوالي ابن عيينة للرئيس الثقفي.
وكان يركب الخيل، ويقوم لكل من يدخل عليه، ويمشي في أموره. وكان ناظر الأحباس. وولي أمر التركة الظاهرية. وصاهر الصاحب بهاء الدين بن حنا.
علي بن عيسى بن المظفر
ابن إلياس ابن الشيرجي الدمشقي.
حدث عن ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وطائفة.
وأجاز له الكمال الضرير، والرشيد بن العطار، وآخرون.
وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة أربعين وسبع مئة. عن ثمان وثمانين سنة.
وكان يدعى بهاء الدين.
علي بن عيسى بن داود
ابن شيركوه الأمير علاء الدين بن الملك المعظم بن الملك الزاهر، مجير الدين ابن أسد الدين.
كان أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، أقام بها مدة، ثم إنه تولى نيابة حمص بعد الأمير ناصر الدين محمد بن ألاقوش. جاء إلها في .... سنة ست وخمسين وسبع مئة. فأقام بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى في سابع عشر شهر رمضان سنة سبع وخمسين وسبع مئة.
وكانت وفاته بحمص في عصر هذا النهار. وفي بكرة هذا النهار توفي ابن عمه الأمير أسد الدين أبو بكر بن الأوحد بدمشق. وكان ذلك عجيباً.
وكان بيد الأمير علاء الدين نظر كثير من أوقاف البيت الأيوبي، وبيده أيضاً نظر المدرسة التقوية والغور التقوي بدمشق نيابة عن زوجته، لأنه انتقل ذلك إليها بشرط الواقف.
علي بن أبي القاسم
ابن محمد بن عثمان بن محمد الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة صدر الدين أبو الحسن بن الشيخ صفي الدين البصروي الحنفي قاضي دمشق.
سمع من ابن عبد الدائم، والصفي إسماعيل بن الدرجي، والقاضي ابن عطاء، وغيرهم.
وحج غير مرة، وحدث.
اشتغل على والده، ولازم القاضي شمس الدين بن عطاء، وتزوج بابنته، وأذن له في الفتوى في سنة أربع وستين وست مئة.
وكان ذا مال وثروة، وأموال لا ينفصم الدهر لها عروة.(2/86)
تقدم في آخر عمره على جميع أبناء مذهبه، وحاز الرئاسة عليهم بعلمه ومنصبه. وولي الحكم أكثر من عشرين سنة مسدد الأحكام، ينظف العرض من الآثام، عنيناً في ولايته، كفيفاً عن رؤية ما يشينه في ولايته، معظماً بين أهل دمشق إلى الغاية، موفور الجانب لا يصل أحد إلى ثلمه ولا ثلبه بسعايه.
ولم يزل على حاله إلى أن طحنته رحى المنون الدائرة، وأصبح بسياقه في أول طلائع الآخرة.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء بعد العصر ثالث شعبان سنة سبع وعشرين وسبع مئة. ودفن بسفح قاسيون بالقرب من المدرسة المعظمية.
ومولده في ثالث شهر رجب سنة اثنتين وأربعين وست مئة بقلعة بصرى، أيام الخوارزمية.
ولم يزل يترقى في المدارس الكبار إلى أن ولي قضاء القضاة بدمشق، وجمع بين تدريس المدرسة النورية والمقدمية والخاتونية البرانية.
وهو سبط القاضي شرف الدين عبد الوهاب الحوراني نائب الحكم، كان بدمشق.
وكان القاضي صدر الدين حفظة للحكايات والأشعار، حسن المحاضرة.
علي بن قراسنقر
الأمير علاء الدين بن الأمير شمس الدين.
لم يزل مقيماً بالديار المصرية في جملة أمرائها إلى أن تحقق السلطان الملك الناصر موت والده في البلاد الشرقية، فأخرجه السلطان إلى دمشق أمي طبلخاناه أيضاً في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، فيما أظن، أو في سنة تسع وعشرين في أوائلها.
ووصل الأمير علاء الدين من القاهرة إلى دمشق في أول شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
وكان الأمير سيف الدين تنكز يحبه أخيراً ويعظمه. ولما توجه الأمير سيف الدين تمر الساقي إلى مصر مع الفخري، أو لما أنه مات بمصر، أخذ الأمير علاء الدين تقدمته على الألف.
وكان مقدم ألف إلى أن توفي رحمه الله تعالى في عشية الأحد ثامن عشري جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
وكان هشاً بشاً بالناس، فيه ود وصحبة ورعاية للناس، يحضر العقود والمحافل للمتعممين وغيرهم، ويجمل الناس. وكان الأمير سيف الدين يلبغا يحبه ويعظمه.
وهو والد الأمير ناصر الدين محمد. ولما توصل الأمير علاء الدين إلى دمشق أعيدت أملاكهم إليهم، وكانت أولاً تحت الحوطة. وأعطي بدمشق خبز الأبو بكري، وأفرج عن الأمير علم الدين الجاولي، وأعطي إقطاع الأمير علاء الدين للذكور بزيادة تليق به.
علي بن قيران
علاء الدين أبو الحسن الكركي السكزي، بالسين المهملة والكاف والسزاي، الدمشقي الجندي ثم الصوفي نزيل القاهرة.
سمع الكثير سنة سبع عشرة، في الكهولة، وأخذ عن جماعة من أصحاب ابن الزبيدي. وحدث، ونسخ قليلاً.
قال شيخنا شمس الدين الذهبي: سمع معي.
قلت: ولد سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وسبع مئة.
كان يكتب أسماء السامعين في المواعيد، وكان مخلاً رحمه الله تعالى، رأيته غير مرة، وكتب اسمي في سماعاتي.
علي بن محمد بن إبراهيم
الشيخ الإمام الزاهد بدر الدين السمرقندي الحنفي، شيخ خانقاه خاتون والخانقاه الشبلية.
كان شيخاً مليح الهيئة، عليه سكينة ووقار. وكان فاضلاً وله كلام حسن، وخطه جيد، ونسخ بخطه كثيراً، وكان كثير الاشتغال والمطالعة، وهمته عالية في أمور دينه ودنياه.
توفي رحمه الله تعالى في ثاني شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبع مئة.
علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله
الشيخ الإمام المحدث الحافظ الفقيه المفتي، شيخ جماعته، شرف الدين، أبو الحسين، ابن الإمام البارع الشيخ الفقيه اليونيني البعلبكي الحنبلي.
سمع حضوراً من البهاء عبد الرحمن، وسمع من ابن صباح، وابن اللتي، والإربلي، وجعفر الهمداني، ومكرم، وموسى بن محمد صاحب دمشق. وفي الرحلة من ابن رواج، وابن الجميزي، والحافظ المنذري عبد العظيم، وعدة.
وعني بالحديث وضبطه، وبالفقه واللغة، وحصل الكتب النفيسة. وكان في وقته عديم النظير في بابه. ليس له مشارك في عشرته لأصحابه. حسن الملقى بلا ملق، جارياً في سجيته على المكارم كم انطلى لما انطلق. دينه متين، وهديه مبين. كثير الهيبة، يحفظ أصحابه في الحضور والغيبة.(2/87)
يحفظ كثيراً من الأحاديث بلفظها، ويفهم معانيها، ويعرف كثيراً من اللغة، كان أصمعي بواديها. وكان فصيح العبارة لطيف الإشارة. له قبول كثير من الناس، وعليه أنس زائد ولباس عار من الإلباس. ومن جملة ماله من السعادة، أنه أحرز في شهر رمضان الشهادة، لأن موسى الفقير المصري الناشف ضربه بسكين فقضى عليه. وتوجه وقد توجه علمه وعمله المبرور بين يديه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الجمعة من شهر رمضان سنة إحدى وسبع مئة.
ومولده ببعلبك في حادي عشر شهر رجب سنة إحدى وعشرين وست مئة.
قال شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى: انتفعت به، يعني بصحبته، وأكثرت عنه.
وقال شيخنا البرزالي: دخلت بعلبك أربع مرات، قرأت عليه فيها مسند الشافعي رضي الله عنه، والثقفيات العشرة، ومشيخة تخريج الشيخ شمس الدين بن أبي الفتح، وهي ثلاثة عشر جزءاً، وسنن الشافعي، رواية الطحاوي، وعمن المزني، ونحواً من عشرين جزءاً.
وكان يقدم دمشق، وفي كل مرة نسمع عليه ونستفيد منه. كان قد قدم دمشق في شعبان، فحصل الأنس به والسماع عليه. وتوجه إلى بلده في آخر الشهر، فوصل أول شهر رمضان وأقام أياماً، ولما كان يوم الجمعة خامس شهر رمضان الرابعة دخل إلى خزانة الكتب التي في مسجد الحنابلة، فدخل هذا الفقير موسى المصري، فضربه بعصا على رأسه ضربات، ثم أخرج سكيناً صغيرة فجرحه في رأسه، فاتقى بيديه. فأمسك وحمل إلى والي البلد، وضرب، فأظهر الاختلال في عقله وتجانن، وحمل الشيخ إلى داره، وأتم صومه يومه. ثم إنه حصل له حمى، واشتد مرضه إلى يوم الخميس، دخل إلى رحمه الله تعالى في الساعة الثامنة، ودفن بباب سطحاً، وتأسف الناس عليه.
علي بن محمد بن أبي بكر
بن عبد الله بن مفرج الفقيه شمس الدين الأنصاري الإسكندري الشافعي.
كان جيد القريحة، ذكي الفطرة الصحيحة. له مشاركات في أصول دين وفروع، ودخول في النحو وشروع، واختصر الروضة، وملأ من معرفتها حوضه، وكابد من الفقر أنواعاً، أفضت به إلى أن تجرد وصار عرياناً، ولبس من القطوع والشدائد ألواناً، إلى أن أحسن إليه قاضي سيوط أبو الحجاج يوسف، وأطلقه من فقر كن في قيده يرسف. وأقرأ ولده أبا مدين شعيباً، وكشف عن ذهنه ريناً وريباً، ثم إنه صحب فخر الدين ناظر الجيش، ففاز بلذة العيش، وولاه قضاء بلده فوه، وأبرز سعده إلى الفعل بعد القوة.
ولم يزل إلى أن توجه إلى مكة، فجاءه الأمر الذي قد حتم، وطبع عليه الوجود وختم.
فتوفي رحمه الله تعالى هناك، وقال له سعد القعة: فزت بما هناك.
وكان قد سمع من الدمياطي، ومن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، ولازمه، وأملى عليه شرح الإلمام. وقرأ الفقه والأصول والنحو على علم الدين العراقي.
وتوجه إلى قوص، وتولى إعادة مدرسة ابن السيد، ثم أعرض عنه، وحصل له فقر شديد مدقع مدة، ثم تعرف بخفر الدين ناظر الجيش، فأعطاه شهادة الكارم بعيذاب وحصل مالاً. وشفع فيه عند قاضي القضاة جلال الدين القزويني، فولاه قضاء فوه، وأجازه بالفتوى، ثم نقله إلى قضاء سيوط، ثم عزله، فتوجه إلى مكة، فتوفي هناك سنة أربعين وسبع مئة. وقد جاوز الستين.
وكتب بخطه كثيراً من الفقه واللغة والتصوف، ووقف كتبه على طلبة العلم.
ومن شعره رحمه الله تعالى:
يا سائلي عن شامة في أنف من ... فضح الغصون بميسه في عطفه
إن الذي برأ الحواجب صاغها ... نونين في وجه الحبيب بلطفه
فتنازع النونان نقطة حسنه ... فأقرها ملك الجمال بأنفه
قلت: وقد نظم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى في هذه المادة عدة مقاطيع، ومن أحسنها قوله:
ما خاله بأنفه ... كطابع الحسن فقط
بل إنه من كحل ... من مقلتيه قد نقط
وأنشدني من لفظه شيخنا الإمام العلامة أثير الدين أبو حيان لنفسه في هذا المعنى:
عجبت لخال حل في وسط أنفه ... وعهدي به وسط الخدود غدا وشيا
ولكنما خداه فيه تغايرا ... هوى، فابتغى من وجهه أوسط الأشيا
وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ... فكيف إذا ما الخال صار له حليا
علي بن محمد بن جعفر(2/88)
ابن محمد بن عبد الرحيم بن أحمد بن حجون، الشريف فتح الدين بن الشيخ تقي الدين بن الشيخ ضياء الدين.
سمع من أبي بكر بن الأنماطي وخاله قاضي القضاة ابن دقيق العيد، وغيرهما.
وجمع وألف وكتب وصنف واختصر الروضة، وخاض لجتها ألف خوضة.
وكانت له يد طولى في حل الألغاز، ونظم كثير يشهد له أنه في حربها وحربها أقوى مجاهد وأجل غاز، وشعره يطرب الثكالى، ويدع النجوم السائرات السافرات من حسنه خجالي. هذا إلى سكون وعفة، واتضاع لا يعادله معه أحد في كفه.
ولم يزل على حاله إلى أن انضم القبر على الفتح، وجرى عليه عقيق الدموع من السفح.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة ثمان وسبع مئة.
ومن شعره:
كم من خليلين دام الود بينهما ... دهراً وما داما على الإنصاف واتفقا
رماهما الدهر إما بالمنية أو ... بالبعد أو بانصرام الود فافترقا
ومنه:
ما بال ليلي أمسى لا نفاد له ... وكان قبل النوى في غاية القصر
ولم يخص النوى دون اللقا سهر ... حتى أعلل طول الليل بالسهر
وإنما عيشي الصافي بقربكم ... تبدل الآن منه الصفو بالكدر
ومنه لغز في كمون:
يا أيها العطار أعرب لنا ... عن اسم شيء قل في سومك
تبصره بالعين في يقظة ... كما يرى بالقلب في نومك
قلت: هكذا تكون صنعة الألغاز، لقد تخيل جيداً وتحيل على إيراده في هذه الصورة.
علي بن محمد بن محمود
ابن أبي العز بن أحمد بن إسحاق بن إبراهيم، ظهير الدين الكازروني البغدادي الشافعي. سمع الحديث من الأمير أبي محمد الحسن بن علي بن المرتضى وأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد، وأبي عبد الله محمد بن سعيد الواسطي.
كان فاضلاً حاسباً فرضياً متأدباً مؤرخاً شاعراً، مصنفاً ماهراً، كثر التلاوة والعبادة والإنابة، غزير الوقار والمهابة.
ولم يزل على حاله إلى أن أضمره الضريح، وغاب شخصه مع الموت الصريح.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع عشر شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة إحدى عشرة وست مئة. هكذا رأيت كمال الدين الأدفوي ذكر هذه الوفاة وهذا المولد، ووافقه على ذلك شيخنا الذهبي. والظاهر أن هذا هو الصحيح، لأن من يولد سنة إحدى عشرة وست مئة، يمكن وفاته سنة سبع وتسعين وست مئة.
ورأيت شيخنا البرزالي قد ذكر وفاته في تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبع مئة، والله أعلم.
وذكر أنه أضر، وأنه رتب صوفياً في خانقاه الطاحون بدمشق.
وقال شيخنا الذهبي: كتب لي بمروياته في سنة سبع وتسعين وست مئة.
ومن مصنفاته كتاب النبراس المضيء في الفقه، وكتاب المنظومة الأسدية في اللغة، مجلدة، وكتاب كنز الحساب في الحساب، مجلدة، وكتاب روضة الأريب في التاريخ، سبعة وعشرون مجلداً، وصنف في السيرة وفي التصوف، وله كتاب الملاحة في الفلاحة.
وله نظم، منه قوله:
زارني في الظلام أهيف كالبد ... ر بوجه منه يلوح النور
قلت: أهلاً لو كنت زرت نهاراً ... قال: مهلاً في الليل تبدو البدور
قلت: هو عكس قول أبي العلاء المعري:
هي قالت لما رأت شيب رأسي ... وأرادت تنكر وازورارا
أنا بدر وقد بدا الصبح في رأ ... سك والصبح يطرد الأقمارا
لست بدراً وإنما أنت شمس ... لا ترى في الدجا وتبدو نهارا
ومن شعر ظهير الدين الكازروني:
مقرطق بالجمال ذو هيف ... يضرب فيه بعشقي المثل
يرمي بسهم من غنج ناظره ... يا بأبي من نبالها المقل
أسهر طرفي فتور ناظره ... والعشق داء دواؤه القبل
ظلم ثناياه بارد شيم ... كأنه في مذاقه عسل
بدر جمال بقلب عاشقه ... عن لوم عذاله به شغل
تاه علينا بحسن صورته ... وغنج طرف يزينه الكحل
قلت: شعر مقبول، وقوله: " والعشق داء دواؤه القبل " ، ما له علاقة بنصفه الأول.
قال شيخنا الذهبي: كتب إلي بمروياته عام سبع وتسعين.
علي بن محمد بن خطاب
الشيخ الإمام العالم العلامة الفقيه الأصولي النظار علاء الدين الباجي الشافعي.(2/89)
سمع بدمشق من أبي العباس التلمساني جزء ابن جوصا.
كان في أهل مصر شامه، ولكل من أم في علم إمامه، قل من جاء بعده مثله ورأى أمامه. طلق العبارة، إذا أرسل سهم بحث لا يخطئ الإشارة. ناظر العلامة تقي الدين بن تيمية، وفاز دونه بالأولوية. وكان يباحث كل من قل وجل. ويسقي الوبل الغدق لا الطل. ولم يسمع منه بحث نازل، ولا خلت من فوائده ربوع الديار المصرية ولا المنازل.
وكان آية من الآيات، وغاية نأت عن لحاق شأوها من الغايات:
لا تجسر الفصحاء تذكر عنده ... بحثاً ولو كان الهزبر الباسل
ولم يزل يقرئ الطلبة ويفيد، ويبدي الغرائب لهم ويعيد، إلى أن ناجى الباجي حمامه وبكاه حتى على الأراك حمامه.
وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء سادس ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبع مئة بالقاهرة.
ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة.
صنف وأفتى وناب في الحكم بالشارع خار القاهرة، واشتغل الناس عليه طائفة بعد طائفة. واختصر المحرر في الفقه، والمحصول في الأصول، مختصرين: كبيراً وصغيراً، واختصر كشف الحقائق في المنطق، وصنف في الفرائض والحساب، ورد على ما بيد اليهود من التوراة، ورد على ذلك اليهودي الذي سأل الفتيا نظماً، وقد تقدمت في ترجمة الشيخ علاء الدين القونوي، وعمل رده نظماً.
وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد يقول: العلاء يطلق عليه عالم. وحضر درسه في المدرسة الصالحية، فوقع بحث في كلام الغزالي في الوسيط، فقال الباجي: الغزالي عدل في العبارة المقتضية كذا، حتى لا يرد عليه كذا. وهذا العبارة التي قالها يرد عليها خمسة عشر سؤالاً، وسردها. فقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: كم سنك؟ فقال: كذا، فقال: وهذا كله حصلته في هذا السن.
وقال الفاضل كمال الدين الأدفوي: قال شيخنا العالم الثقة نجم الدين الأصفوني: حضرت درس الشيخ تقي الدين، فقال: يا فقهاء جاء شخص يهودي، ويطلب المناظرة. فسكت الناس. وقال الباجي: أحضروه، فنحن بحمد الله مليون بدفع هذه الشبه. وقال لي رحمه الله تعالى لما أحضروا ابن تيمية، طلبت في جملة من طلب، فجئت لقيته يتكلم، فلما حضرت قال: هذا شيخ البلاد، فقلت: لا تطرني ما هنا إلا الحق، وحاقته على أربعة عشر موضعاً، وغير ما كان كتب به خطه.
وكان أخيراً قد نسب إليه كلام، واختفى بسببه مدة، وكان له ابنان فاضلان تكلما عنه، ثم إنه تقشف، وصار بفرجية مفتوحة لطيفة، وعمامة بكراثة لطيفة جداً لا تكاد تظهر.
وتولى تدريس السيفية، وكان معيداً بالمنصورية والصالحية.
ورأيت أنا شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي يعظمه كثيراً إلى الغاية، ويثني على فضائله المنوعة. وكان قد ولي وكالة بيت المال بالكرك في الأيام الظاهرية.
وقال شيخنا البرزالي: أجاز لنا جميع ماله روايته.
وأنشدني قاضي القضاة تقي الدين السبكي من لفظه أبياتاً رثاه بها، ومنها:
فلا تعذليه أن يبوح بسره ... على عالم أودى بلحد مقدس
تعطل منه كل درس ومجمع ... وأقفر منه كل ناد ومجلس
ومات به إذا مات كل فضيلة ... وبحث وتحقيق وتصفيد مبلس
وإعلاء دين الله إن يبد زائغ ... فيخزيه أو يهدي بعلم مؤسس
وكان شيخنا العلامة أثير الدين أبو حيان يثني عليه كثيراً. أخبرني قال: قرأ عليه يسيراً من مختصره في أصول الفقه، وسمعن عليه دروساً، وأنشدني من لفظه لنفسه:
رثى لي عذلي إذ عاينوني ... وسحب مدامعي مثل العيون
وراموا كحل عيني، قلت: كفوا ... فأصل بليتي كحل العيون
قلت: كأن الشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى نظر في هذا المعنى إلى قول السراج المحار:
شكوت الذي ألقاه من ألم الهوى ... وقلبي عن وصف الأطباء في شغل
وقالوا اشرب المغلي تجد فيه راحة ... فقلت: وذا أصل الذي بي من المغل
وأنشدني الشيخ أثير الدين قال: أنشدنا الباجي لنفسه:
بالبلبل والهزار والشحرور ... يسبى طرباً قلب الشجي المهجور
فانهض عجلاً وانهب من اللذة ما ... جادت كرماً به يد المقدور
وأنشدني شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي إجازة، قال: أنشدنا لنفسه:(2/90)
حياة وعلم قدرة وإرادة ... وسمع وإبصار كلام مع البقا
صفات لذات الله، جل، قديمة ... كذا الأشعري الحبر ذو العلم والتقى
علي بن محمد بن عبد الله
ابن عبد الظاهر بن نشوان، الصدر الكبير الرئيس النبيل الكاتب علاء الدين بن القاضي فتح الدين بن القاضي محيي الدين.
سمع بقراءة الشيخ شمس الدين الذهبي من ابن الخلال.
وكان القاضي علاء الدين كثير المكارم، بيته مجمع الفضلاء والأدباء، ومحله محط الخاملين والنبهاء والنبلاء، لا يزلا يراعي مصالح الناس ويساعدهم على بلوغ مآربهم البعيدة من القياس. يؤثر الواردين والصادرين بملابيسه ومراكيبه، وينتاشهم من ورطاتهم، ولو كانوا بني ما ضغي الدهر ومخاليبه.
وكان في أيام سلار هو المشار إليه، والمعول فيما يرسم به عن الدولة عليه. وكان هو الذي خرج بهاء الدين أرسلان وهذبه، وفقهه وكتبه، لأنه كان يهواه، ويغضي طرفه، ويطوي على جوانحه جواه.
ولما عاد السلطان من الكرك، وتولى أرسلان الدوادارية ما شك هو ولا غيره أن كتابة السر تتعداه، ولا أن الملك يضطلع بغيره ويتحداه، فما قدر الله له ذلك، ولم يجئ حساب الدهر هنالك، ولكنه كان يوقع في الدست بين يدي السلطان إلى آخر وقت، والسلطان يضمر له البغض والمقت، ويقول إذا رآه من بعيد: سبحان الرازق، هذا يأكل رزقه على رغم أنفي وأنف الخلائق.
وكان القاضي علاء الدين حسن الشكل ظريف العمامة نظيف الملبوس ظاهر الوسامة طيب الرائحة، يعم مجلساً يكون فيه بهباته الفائحة. يكتب خطاً فائقاً من أين للعقود اتساقه، وللروض اليانع زهراته التي تضمنها أوراقه. قل أن اجتمعت مفرداته في غيره، أو بلغ مترفع في الجو مطار طيره، وإليه كانت الرياسة في زمانه، وإياه عنى مداح عصره وأوانه.
ولم يزل في توقيع الدست إلى أن اجتث منه الدهر جرثومة الرئاسة، وأخلى مصره من السيادة والنفاسة. وتوفي رحمه الله تعالى يوم الخميس رابع شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ست وسبعين وست مئة.
وكتب الإنشاء في الدولة المنصورية، وعمره إحدى عشرة سنة، سنة ست وثمانين وست مئة.
وكان الملك الناصر يكرهه لكونه قد اختص بالأمير سيف الدين سلار.
أخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله، قال: قال لي السلطان الملك الناصر: ما كرهته لأجل شيء، وإنما خان مخدومه يعني سلار، لأنه استكتبه شيئاً واستكتمه إياه، فجاء إلي وعرفني به. وأخبرني أيضاً أن السلطان لما جاء من الكرك قال للأمير عز الدين الدوادار: الساعة يجيء إليك طعام من عند علاء الدين بن عبد الظاهر، فأقبله منه، فلم يكن قليل حتى جاءه ذلك فقبله. وعرف به السلطان، فقال له السلطان: الساعة يبعث إليك خرفاناً وأرزاً وسكراً، ويقول: يا خوند، أنا ما عندي من يطبخ ما يصلح لك، دع مماليك يشوون لك هذا، فما كان إلا عن قليل حتى جاء ذلك فأخذه وعرف السلطان به، فقال: الساعة يجهز إليك ذهباً ويقول: هذا أريده يكون وديعة في خزانة الأمير، فإنه أحرز عنده من بيتي، فما كان إلا أن جرى ذلك، وقال: يا خوند، قد بعت لي ملكاً، وأخاف أن يسرق ثمنه، وقد أرصدته للحجاز، وأريد أن يكون في خزائنك، فأخذ الورقة، وعرضها على السلطان، فقال له السلطان: اكتب في قفاها: يا علاء الدين، نحن ما نغير شرف الدين بن فضل الله، وإن غيرناه فما نولي إلا علاء الدين بن الأثير، فوفر ذهبك عليك، وخله عندك.
وكان القاضي علاء الدين كثير الرياسة والإحسان إلى من ينتمي إليه.
وللعلامة شيخنا شهاب الدين محمود فيه أمداح كثيرة، ولما مات رثاه بقصيدة طنانة كتب بها إلى ناصر الدين شافع رحمهم الله أجمعين أنشدنيها إجازة، وهي:
الله أكبر أي ظل زالا ... عن آمليه وأي طود مالا
أنعي إلى الناس المكارم والندى ... والجود والإحسان والإفضالا
ومهذباً ملأ القلوب مهابة ... والسمع وصفاً والأكف نوالا
حاز الرئاسة فاغتدى فيها به ... أهل المفاخر تضرب الأمثال
وحوى من الآدب ما أضحى به ... أهل البيان على علاه عيالا
طلق المحيا لو يقابل وجهه ال؟ ... أنواء ظل جهامها هطالا(2/91)
متمكن من عقله فكأنه ... قد شد فيه عن الهنات عقالا
رحب الندى تنسي بشاشة وجهه ... ما زاده أوطانه والآلا
طرقته أيدي الحادثات فزعزعت ... منه مآلاً للعفاة ومالا
وسطت على الشرف الرفيع فقلصت ... عن ذك الحرم المنيع ظلالا
فجعت يتامى من ذؤابة هاشم ... أمسى أباً لهم وإن يك خالا
فقدت أياماهم بفقد عليهم ... وكذا اليتامى عصمة وثمالا
ونضت مكلاءة كل مكرمة ضفت ... عنها فعاد لباسها الأسمالا
وأعادت المجد المؤثل بعده ... كأنا غدير حياً فعادا آلا
من للسماحة والفصاحة بعده ... قولاً يقال وكان قبل فعالا
من للوجاهة والنباهة بعده ... إن قال في نادي الندى أو قالا
من للفتوة والمروة أزمعا ... لما ترحل بعده الترحالا
من للكتابة حين أضحى جيدها ال؟ ... حالي بدر بيانه معطالا
قد كان فارسها الذي بيراعه ... كم راع قبل أسنة ونصالا
وجوادها إن رام سبقا حازه ... فيها وقرطس إن أراد نضالا
وخطيبها ما أم منبر كفه ... قلم فغادر للأنام مقالا
من للبلاغة رامها من بعده ... كل فكانت كالنجوم منالا
يا نجل فتح الدين أغلق رزئكم ... باب الرجاء وأوثق الأقفالا
لهفي على تلك البشاشة كم بها ... بسطت لوافد رفده آمالا
لهفي على تلك المكارم كم سقت ... ظامي الرجاء البارد السلسالا
لهفي على تلك المروءة كم قضت ... سولاً لمن لم يبد منه سؤالا
لهفي على آلائه كم ثقلت ... ظهراً وكم قد خففت أثقالا
لهفي على تلك المآثر لم تطع ... في فعلها اللوام والعذالا
أبكي عليه وقل مني أنني ... أبكي عليه وأكثر الإعوالا
أدعو دموعي والعزا فيجيبني ... ذا هاملاً ويصد ذا إهمالا
وإذا اعتبرت الحزن كان حقيقة ... وإذا اعتبرت الصبر كان محالا
وإذا غفلفت أقام لي إحسانه ... في كل وقت من سناه مثالا
وإذا هجعت فإنما زار الكرى ... ليروع قلبي أن أراه خيالا
قد كان يكرم جانبي ويجلني ... وإذا ذكرت أطابه وأطالا
ويجلني كأبيه في تبجيله ... حتى أقول قد استوينا حالا
فعلام لا أبكي وأستسقي له ... سحب القبول من الكريم تعالى
ولقد صحبت أباه قبل وجده ... وهما هما مجداً سما وكمالا
فوجدته قد حاز مجدهما معاً ... فرداً ونال من العلا ما نالا
ومضى حميداً طاهراً ما دنست ... أيدي الهوى لبروده أذيالا
عجل الحمام على صباه فلا ترى ... إلا دموعاً تستفيض عجالا
يا ناصر الدين ادرع صبراً فقد ... فارقت ثم صبرت ذاك الخالا
ورزيت قبل فراق خالك بابنه ... فحملت أعباء الخطوب ثقالا
وختام هاتيك الحوادث فقد ذا ... فأعاد حزناً كان مر وزالا
فاسلم لتبلغ بابنه العليا التي ... فسحت لهم فيها النجوم مجالا
فالأجر جم والعزاء طريقه ... فاصبر فلست ترى لها أمثالا
هي هذه الدنيا كشمس إن علت ... وافت عزوباً بعده وزوالا
كم خيبت أملاً وأتبعت الرجا ... يأساً وغادرت المصون مذالا
يسري بنا الآمال فيها غرة ... فيزيرنا ذاك السرى الآجالا
تباً لها من غفلة فإلى متى ... نرجو البقاء ونرجئ الآمالا
أو ما ترى فعل المنون بغيرنا ... نادتهم فتتابعوا إرسالا(2/92)
سيما لمن قد جاز معتك الردى ... وغدا لقطب رحى المنون ثفالا
عجباً لبال في غد تحت الثرى ... أنى يرى في اليوم ينعم بالا
كم تخطئ الأسقام من أضحى لها ... هدفاً وقد بعثت إليه نبالا
سيان من نزل القبور اليوم والسفر الذين غدوا غداً نزالا
مع أنهم قطعوا الطريق وخلفوا ... للخالف الأوجاع والأوجالا
فأعاننا الرب الرحيم على مدى ... بلغوا وحسن للجميع مآلا
وسقته من عفو الإله سحائب ... يتلو سرى غدواتها الآصالا
ومن إنشاء القاضي علاء الدين رحمه الله تعالى رسالة في المفاخرة بين الرمح والسيف، وهي: بعثت إليك رسالتي وفي ذهني أنك الكمي الذي لا يجاريك ند، والشجاع الذي أظهر حسن الائتلاف لو شك الضد، والبطل المنيع الجار، والأسد الذي لك الأسل وجار، والباسل الذي كم لخمر الغمود بتجريدك عن وجوه البيض انحسار. ولك معرفة في الحرب ولاماتها، والشجاعة وآلاتها، وإليك في أمرها التفصيل، ولديك علم ما لجملتها من تفصيل. وها هي احتوت على المفاضلة بين الرمح والسيف، ولم تدر بعد ذلك كيف فإن السيف قد شرع يتقوى بحده، ولا يقف في معرفة نفسه عند حده، والرمح يتكسر بأنابيبه ويستطيل بلسان سنانه، ولم يثن في وصف نفسه فضل عنانه. قد أطرقتهما حماك لتحكم بنيهما بالحق السوي وتنصف بين الضعيف والقوي: أما السيف فإنه يقول: أنا الذي لصفحتي الغرر، ولحدي الغرار، وتحت ظلالي في سبيل الله الجنة، وفي إطلالي على الأعداء النار، ولي البروق التي هي للأبصار والبصائر خاطفه، وطالما لمعت فسحت سحب النصر واكفه، ولي الجفون التي ما لها غير نصر الله من بصر، وكم أغفت فمر بها طيف من الظفر، وكم بكت علي الأجفان لما تعوضت عنها الأعناق غموداً، وكم جابت الأماني بيضاً والمنايا سوداً، وكم ألحقت راساً بقدم، وكم رعيت في خصيب نبته اللمم، وكم جاء النصر الأبيض لما أسلت النجيع الأحمر، وكم اجتني ثمر التأييد من ورق حديدي الأخضر، وكم من آية ظفر تلوتها لما صليت وانقد لهيب فكري فأصليت فوصفي هو لذاتي المشهور، وفضلي هو المأثور، فهل يتطاول الرمح إلى مفاخرتي وأنا لجوهر وهو العرض، وهو الذي يعتاض عنه بالسهام وما عني عوض، وإن كان ذاك ذا أسنة، فأنا أتقلد كالمنة، كم حملته يد فكانت حمالة الحطب، وكم فارس كسبه بحملاته فما أغنى عنه ما كسب، حدث ليس من جنسه، ونفعه ليس من شأن نفسه، وأين سمر الرماح من بيض الصفاح، وأين ذو الثعالب من الذي تحمى به أسود الضرائب. وهل أنت إلا طويل بلا بركة، وعامل كم عزلتك النبال بزائد حركة؟! فنطق الرمح بلسان سنانه مفتخراً، وأقبل في علمه معتجراً، وقال: أنا الذي طلت حتى اتخذت أسنتي الشهب، وعلوت حتى كادت السماء تعقد علي لواء من السحب. كم ميل نسم النصر غصني وميد، وكم وهى بي ركن للملحدين، وللموحدين تشيد. وكم شمس ظفر طلعت وكانت أسنتي شعاعها. وكم دماء أطرت شعاعها. طالما أثمر غصني الرؤوس في رياض الجهاد، وغدت أسنتي فكأنما صيغت من سرور فما يخطرن إلا في فؤاد، وكم شبهت أعطاف الحسان بمالي بمن ميل، وضرب طبول ظل قناتي المثل، وزاحمت في المناكب للرياح بالمناكب، وحسبي الشرف الأسنى أن أعلى الممالك ما علي يبنى، ما لمع سناني في الظلماء إلا خاله المارد من رجوم السماء، فهل للسيف فخر يطال فخري، أو قدر يسامي قدري، ولو وقف السيف عند حده لعلم أنه القصير وإن كان ذا الحلى، وأنا الطويل ذو العلا، وطالما صدع هاماً، فعاد كهاما، وقصر عن العدى، وألم بصفحته كلف الصدا، وفل حده، وأذابه الرعب فلولا غمده.. فهل يطعن في بعيب، وأنا الذي أطعن حقيقة بلا ريب، ومن ههنا آن أن أمسك عنك لسان سناني، ونرجع إلى من يحم برفعه شانك وشأني، ونسعى إلى بابه ، ونبث محاورتنا برحابه.
وقد أوردهما المملوك حماك، فاحكم بما بصرك الله وأراك.
ومن شعر علاء الدين، وقد رتبت معاليمهم على شطنوف:
يا أميراً له من الجود بحر ... فهو يجري لنا بغير وقوف
قد غرقنا في بحر هم وغم ... فطلعنا بذاك من شنطوف(2/93)
ولما دخلت أنا في سنة سبع وعشرين وسبع مئة وجدت جماعة قد لهجوا بالمقامة التي أنشأها القاضي علاء الدين وسماها مراتع الغزلان، فكلفني بعض أصحابي الأعزة أن أنشئ رسالة في مادتها، فأنشأت رسالتي عبرة اللبيب بعبرة الكئيب.
علي بن محمد بن سلمان بن حمائل
الشيخ الإمام الصدر الرئيس الكاتب الشاعر، صدر الشام، القاضي علاء الدين بن غانم.
كان حسنة من حسنات الزمان، وبقية مما ترك أول الفضل والإحسان، ذا مروءة فاتت الواصف، وجود أخجل هتانه الغمام الواكف. تأذى من الدولة مرات، وما رجع عما له من العصبية والخير من كرات، يسدي الجميل إلى من يعرف والى من لا يعرف، ويتكل على الله تعالى فيما يتصرف بقلمه ويصرف. وكان وجيهاً في الدولة يعرف الناس قدره، ويعلمون أن المروءة لا تنزل إلا في قلبه، ولا تسكن إلا صدره.
وكان حسام الدين لاجين وقبجق والأفرم ومن بعده إلى تنكز يرعون قدره ويراعونه، ويعلمون أنه ما يبخل أ، يعير ماعونه، لا يبخل بجاهه وماله على أحد من أبناء جنسه، ولو أن ما يف كفه غير نفسه.
ولم يزل على حاله إلى أن حج وعاد إلى تبوك، فغنم ابن غانم أجله، وراح إلى الله تعالى، ولم يقصر به كرمه ولا اعتراه خجله.
وتوفي رحمه الله تعالى في المحرم سنة سبع وثلاثين وسبع مئة. وله ست وثمانون سنة.
وكان الشيخ صدر الدين بن الوكيل رحمه الله تعالى يقول: ما أعرف أحداً في الشام إلا ولعلاء الدين بن غانم في عنقه مانة قلدها بصنيعة أو ماله أو جاهه.
وكان الشيخ كمال الدين بن الزملكاني رحمه الله تعالى يكرهه ويؤذيه ويحط عليه ويقول: كيف أعمل بهذا ابن غانم، أي من أردت أن أذكره عنده بسوء يقول: ما في الدنيا مثل ابن غانم، أو كما قال.
وكان وقوراً مليح الهيئة منور الشيبة، ملازم الجماعة، مطرح الكلفة.
حدث عن ابن عبد الدائم، والزين خالد، وابن النشبي، وجماعة.
وأجاز لي بخطه في سنة ثلاثين وسبع مئة، ولما دخلت ديوان الإنشاء اجتمعت به غير مرة، وأنشدني كثيراً من شعره، ووجدت منه خيراً وبراً رحمه الله تعالى.
وهو كان آخر من بقي من رؤساء دمشق، لأن بيته كان مقصداً لكل غريب وغياثاً لكل ملهوف.
كتب إليه الشيخ جمال الدين بن نباتة في بعض ما كتبه من أمداحه:
علوت اسماً ومقداراً ومعنى ... فيا لله من فضل جلي
كأنكم الثلاثة ضرب خيط ... علي في علي في علي
قلت: أخذ الثاني برمته من قول علاء الدين الوداعي رحمه الله تعالى نقلت ذل من خطه، وقد اجتمع بأصحابه، وكلهم يدعى علياً:
لقد سمح الزمان لنا بيوم ... غدا فيه السمي مع السمي
تجمعنا فكنا ضرب خيط ... علي في علي في علي
وكان ينظم وينثر، وله أعمال جيدة في شبيبته، وبين الشيخ علاء الدين وبين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وبين الشهاب محمود وغيره من أهل عصره محاورات ومكاتبات على عادة الأدباء، مليحة.
وكان قد طلب هو وأخوه شهاب الدين أحمد بن غانم إلى مصر على البريد في شهر رجب سنة سبع عشرة وسبع مئة، فرسم للشيخ علاء الدين بكتابه السر بحلب، فاستعفى من ذلك. وعرض عليه الإقامة بمصر، فاختار العود إلى بلده، ورسم لهما بزيادتين وخلعتين، وأعيدا إلى دمشق.
ومن نثره رحمه الله يصف قلعة: " ذات أودية ومحاجر لا تراها العيون لبعد مرماها إلا شزرا، ولا ينظر ساكنها العدد الكثير إلا نزرا، ولا يظن ناظر إلا أنها طالعة بين النجوم بمالها من الأبراج، ولها من الفرات خندق يحفها كالبحر إلا أن " هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج " ، ولها واد لا يقي لفحة الرمضاء ولا حر الهواجر، وقد توعرت مسالكه، فلا يداس فيه إلا على المحاجر، وتفاوت ما بين مرآه العلي وقراره العميق، ويقتحم راكبه الهول في هبوطه " فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق " .
ومنه في صدر كتاب:(2/94)
" وجعله لحقيقة العلياء نفساً وعيناً، ولا أعدم منه الملك ناظراً ولا عيناً. ولا زال على الأعداء يرسل من مهابته رقيبين، أذناً وعيناً وأغنى بمكارمه من أن نشيم من السماء خالاً وعيناً، أو نرد من الأرض منهلاً وعيناً، وأطلع طلعة لوائه في الخافقين حتى تخال الشمس عيناً، وسير ركائب ذكره في الآفاق لا تشتكي أينا ولا عيناً وأقام ميزان القسط بين الرعايا لا تجد فيه غبناً ولا عيناً " ، واستعبد بخدمته كل أصيد من الملوك، لكل جحفل قلباً ولك محفل عيناً، وأهلك كل عدو له وحاسد تارة فجأة وتارة عيناً، ومتعه بما خصه من استجلاء عرائس الحور العين بمجاهدته إذا شغل سواه عيناء من أسماء وعيناً، وسطر آثار مآثره محكمة على صفحات الأيام إذا لم يبق لمن سلف من الملوك أثراً ولا عيناً " .
وأنشدني من لفظه ما كتبه إلى شيخنا العلامة أبي الثناء محمود:
لقد غبت عنا والذي غاب محسود ... وأنت على ما اخترت من ذاك محمود
خللنا محلاً بعد بعدك ممحلاً ... به كل شيء ما خلا الشر مفقود
به الباب مفتوح إلى كل شقوة ... ولكن به باب السعادة مسدود
قال: فكتب الجواب:
أأحبابنا بنتم وشط مزاركم ... برغمي وحالت دون وصلكم البيد
وودعتم روض الحمى بفراقكم ... فشابت نواصي بانه وهو مولود
ومن لم تهجه الورق وجداً عليكم ... توهم أن النوح في الدوح تغريد
وكتب إليه شيخنا نجم الدين الصفدي:
شنف الأسماع بالدر الذي ... قد حكى الأنجم في ظلمائها
وبدا كالشمس إلا أنه ... زاد في الحسن على لألائها
فكتب الجواب إليه:
ليس للمملوك إلا مدحة ... في معاليك وفي آلائها
وبحار الفضل تجري منك لي ... فمقالي قطرة من مائها
ومن شعر:
سلب المهجة مني ... بالجفون الفاترات
لو يزور البيت لم ير ... م الحشا بالجمرات
وأخبرني من لفظه، قال: عتبني شهاب الدين محمود، وهو صاحب ديوان الإنشاء. وقال: بلغني أن جماعة من ديوان الإنشاء يذمونني، وأنت حاضر، ما ترد عني، فكتبت إليه:
ومن قال إن القوم ذموك كاذب ... وما منك إلا الفضل يوجد والجود
وما أحد إلا لفضلك حامد ... وهل عيب بني الناس أو ذم محمود
قال: فكتب إلي بأبيات منها:
علمت بأني لم أذم بمجلس ... وفيه كريم القوم مثلك موجود
ولست أزكي النفس إذ ليس نافعي ... إذا ذم مني الفعل والاسم محمود
وما يكره الإنسان من أكل لحمه ... وقد آن أن يبلى ويأكله الدود
قال: ولم يكن بعد ذاك إلا أيام حتى توفي رحمه الله تعالى وأكله الدود.
وكان القاضي علاء الدين رحمه الله تعالى قد طلب مني كتابي جنان الجناس وكتب علي:
لقد ضم أجناس فأطربا ... وأعجز من باراه فيها وأعجبا
صلاح لدين الله أبدي بدائعاً ... تروق بألفاظ أرق من الصبا
يراه بليغ جاء بالمدح سائلاً ... مجيباً مجيزاً قوله لا مخيبا
بإنشاده هذا وإنشائه لقد ... به فات من قد فاق فضلاً ومنصبا
فقس إياد عند ذي الفضل باقل ... ولفظ امرئ القيس البديع هنا هبا
فكتبت أنا أشكره على ذلك:
ألا هكذا من قال شعراً فأطربا ... ووشى بروداً باليراع فأعجبا
جبرت انكساري إذا أجزت مصنفي ... بأبيات شعر قد حكت رقة الصبا
فما كل من وافى بحسنى يجيدها ... ولا كل من أولى الندى يجزل الحبا
فأقسم لو جاراك في الفضل فارس ال؟ ... كتابة أعني الفاضل ابن علي كبا
ومن للعماد الأصفهاني أن يرى ... ببابك دهراً واقفاً متأدبا
لأنت الذي أنسى بألفاظ نظمه ... ورونقها عصر الشبيبة والصبا
طريقتك المثلى التي اجتهد الورى ... على مثلها واستحسنوا منك مذهبا
ولم ير أحلى من يراعك أحمرا ... علت دهمة جاري من الطرس أشهبا(2/95)
بقيت لنا ذخراً مآثر فضله ... يضوع لها في كل يوم لنانبا
وأنشدني من لفظه لنفسه:
وكم سرحة لي في الربا زمن الصبا ... أشاهد مرأى حسنها متمليا
ويسكرني عرف الصبا من نسيمها ... فأقضي هوى من طيبه حتف أنفيا
وأسأل فيها مبسم الروض قبلة ... فيبرز من أكمامه لي أيديا
فلله روض زرته متنزهاً ... فأبدى لعيني حسن مرأى بلا ريا
غدا الغصن فيه راقصاً ونسيمه ... يكر على من زاره متعديا
ترجلت الأشجار والماء خر إذ ... نسيم الصبا أضحى به متمشيا
يغني لديك الورق والغصن راقص ... فيعرق وجه الأرض من كثرة الحيا
فأنشدته أنا لنفسي في هذا المعنى:
حسدت نسيم الروض في كل حالة ... ولا سيما يوم قطعناه بالحمى
فكم م عطفاً للغصون مرنحا ... وعانق قداً للقضيب مقوما
وقبل خد الورد وهو مضرج ... وثغر الأقاحي في الربا إذا تبسما
وكم بات يستجلي عذار بنفسج ... سقته الغوادي صوبها فتنمنما
ولما أمال القضب نقش ظلها ... وكبت كفا للغدير ومعصما
وفتح أجفاناً من الزهر أغمضت ... ونبه قمري الحمي فترنما
ولم أنسى وجه الروض يسفر ضاحكاً ... بأزهاره كالدر لما تنظما
فمذ فتحت فيه البروق جفونها ... تبرقع منها بالحيا وتلثما
علي بن محمد بن علي
ابن وهب بن مطيع، الإمام الفاضل محب الدين بن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد.
سمع من أبيه، وحضر عند عبد الوهاب بن عساكر، وسمع من الزاهد عمر الحريري القوصي.
وحدث بالقاهرة، وسمع منه أمين الدين محمد بن الواني الدمشقي وغيره.
كان فاضلاً فقيهاً في مذهب الشافعي، يعترف له بذلك كتاب الروضة والرافعي. قوي النفس عزيزاً، قل أن يرى للذل مجيزاً. اتصل بابنة الخليفة الحاكم، فأصبح لذلك وهو حاكم. وناب عن والده في الدروس، وسمعت فيه فوائده، وكانت زاكية الغروس.
ولم يزل على حاله إلى أن لحق أباه، وأجاب داعية وما أباه.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده بقوص سنة سبع وخمسين وست مئة.
علق على التعجيز شرحاً جيداً، ولم يكمله، وناب في الحكم في أيام والده.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: ذكر لي بعض أقاربه أن الخليفة هو الذي ولاه النيابة عن والده، فإنه كان تزوج بنت الخليفة أبي العباس أحمد.
ودرس بالفاضلية والمدرسة الصالحية نيابة عن والده، ودرس بالكهارية والسيفية. وكان عزيز النفس مترفعاً.
قال كمال الدين: حكى لي القاضي سراج الدين يونس بن عبد المجيد الأرمنتي قال: كنت حاكماً بإخميم من جهة والده تقي الدين، فصحب محب الدين شخصاً من أهلها، فطلب منه كتاباً إلي في حاجة لذلك الشخص، فرسم بكتابته إلي، فلما كتب، قال له ذلك الشخص: إن أراد سيدنا أن شغلي ينقضي، يكتب له المملوك، فلم يوافق، فحلف عليه بالطلاق، فكتب: المملوك لله.
وكان يقال: إنه كان يأخذ الهدية في حال نيابته، ويأخذ معلوماً على السعي في الحاجات عند والده.
علي بن محمد بن علي
هذا علي هو أحد الأخوين التوأمين الملقبين بالحن والبن، وهما حفيدا الشيخ علي الحريري الكبير المشهور.
وكان هذا وأخوه قد دخلا في أذية الناس أيام قازان، وغرق هذا علي في جامع بعلبك بالسيل الذي جاء في سنة سبع عشرة وسبع مئة.
علي بن محمد بن علي
الشيخ الصالح الزاهد العابد بقية السلف، أبو الحسن البغدادي، الملقن بالجامع في الصالحية.
كان صالحاً خيراً، مجمعاً على صلاحه وحسن طريقته.
روى الحديث عن ابن الزبيدي، وابن اللتي، والناصح بن الحنبلي، وابن صباح، والقاضي ابن الشيرازي، ومحمد بن غسان، والجمال أبي حمزة، وعلم الدين بن الصابوني، وكريمة القرشية، وغيرهم. وخرجت له مشيخة وحدث بها.
وتوفي رحمه الله تعالى في رابع شوال سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومولده سنة ثلاث عشرة وست مئة.
وخرج جماعة من البلد لحضور جنازته والتبرك بها.
علي بن محمد بن علي بن أبي القاسم(2/96)
علاء الدين أبو الحسن بن العدل بدر الدين العدوي الصالحي المعروف بابن السكاكري الشروطي.
أجاز له عبد العزيز بن الزبيدي، وابن العليق، وعبد الخالق النشتبري، وابن خليل. وسمع من ابن عبد الدائم، ومحيي الدين بن الزكي وجماعة.
حدث وتفرد ببعض شيوخه، وكانت له معرفة بإتقان المكاتيب، وعلم بغوامضها، وشهد على الحكام.
وكان قوي النفس، ثم إنه كبر وعجز، اعتراه نسيان وغفلة، وافتقر، وكان يلازم الجماعة.
ومولده سنة ست وأربعين وست مئة.
علي بن محمد بن عمر
ابن عبد الرحمن بن هلال الصدر الكبير العالم نجم الدين أبو عبد الله الأزدي الدمشقي.
من أعيان رؤساء الدماشقة الأقدمين في الرئاسة، وقد ذكرهم ركن الدين الوهراني في أول منامة، فقال: " على أنه وجد من جوانح الخادم من نار الشوق أجيجاً، لو أن النار التي كلست الكلاسة واشتملت على الحائط الشمالي، وعرست في مئذنة العروس، وأذنت بهلاك المؤذنين وأهلت لغير الله بدار ابن هلال تكون مثلها لما اقتصرت على المقصورة، ولا بردتها البرادة حتى تصحن الصحن، وتنسر النسر " .
وكان قد أجاز له بهاء الدين بن الجميزي، وسمع من ابن البرهان وابن أبي اليسر والكرماني وطائفة. وطلب بنفسه وحصل أصولاً ودار على المشايخ. وقرأ عليه شيخنا الذهبي بكفر بطنا موافقات الموطأ.
وكان يذاكر بأشياء حسنة، وقاله سادته لسنه، وفيه مكارم، وعنده بالجود مساجلة للغمائم، تعمل في بيته الحلوى التي تفرد بإتقانها، وتعاهدت الناس من هديتها بإدمانها، وبيتهم في الدماشقة مشهورون بعمل القرن يا روق، وإذا أهدي منه شيء يعتقدون أنه ترياق الفاروق.
والى هذا نجم الدين رحمه الله تعالى كتب الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة. وقد طال نجاز وعده بذلك:
أصم حديث القرن يا روق مسمعي ... بتأخيره يا حابسين الندى عني
فلا تجعلوني في العفاة نعامة ... غدت تبتغي قرناً فعادت بلا أذن
ولم يزل نجم الدين المذكور على حاله إلى أن انكدر نجمه، وأصبح وقد ضمه تحت الأرض رجمه.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة تسع وأربعين وست مئة.
وكان على ذهن شيء من التواريخ، وكان يدعي أنه حفظ المتسظهري على ما قيل. وحدث بدمشق والقاهرة والقدس. وحج وسمع بمكة من أمين الدين بن عساكر في سنة خمس وثمانين وست مئة. وجمعت شيوخه فبلغوا مئة وخمسين شيخاً. وله إجازة في سنة خمس وخمسين وست مئة، فيها ابن خطيب القرافة، وجماعة من أصحاب الثقفي الخشوعي وغيرهم.
وكتب في الإجازات، و جمع فيها جماعة من أقاربه، وباشر نظر الأيتام غير مرة. وكان فيه نهضة وكفاية. وأمر أن يكتب على قبره: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمه الله " ... الآية. ودفن بتربته قبالة تربة ابن قوام، رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن غالب بن مري
العدل الفقيه المحدث، كاتب الحكم، علاء الدين أبو الحسن ابن الإمام نصير الدين ابن القاضي كمال الدين الأنصاري الشافعي الدمشقي.
روى الشاطبية بسماعه بقوله من الكمال الضرير. وسمع بدمشق من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وعدة. وطلب الحديث، وقرأ النحو على ابن مالك، وقرأ كتباً وأجزاء. وكان يعرف نحواً وحساباً وشروطاً، وحصل من الشروط مالاً كثيراً.
وتوفي رحمه الله تعالى في سابع صفر سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وأربعين وست مئة.
علي بن محمد بن فرحون
الأديب الفاضل نور الدين أبو الحسن اليعمري المدني المالكي.
قدم علينا دمشق، ورأيته بها مرات في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
وكان إنساناً شكله حشن، وعنده رواء وفيه لسن، حسن المحاضرة، لطيف المذاكرة، يحب الأدب، ويكثر منه الطلب.
وأقام بدمشق يجمع وينتقي، ويصعد في طلب العارية ويرتقي، إلى أن آن رحيل الراكب، وجرى على فراقه الدمع الساكب، فقفل معهم إلى وطنه، وحن إلى عطنه.
ولم يزل على حاله بالمدينة إلى أن أصبح في البقيع مزوراً، وأودع فيه ثم تولوا عنه نفوراً.
وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وأربعين وسبع مئة.
كتب إلي يطلب مني شرح لامية العجم:
قد طال هذا الوعد يا سيدي ... فانظر لمقصودي وكن مسعدي(2/97)
أنت صلاح الدين حقاً فكن ... صلاح دنياي التي تعتدي
وجد بغيث الأدب المنتقى ... واسق رعاك الله قلباً صدي
بدأت بالإحسان فاختم به ... يا خاتم الخير ويا مبتدي
فكتبت أعتذر عن تجهيزه، لأنه في العارية:
أقسمت لو كان الذي تبتغي ... عندي لم أمنعه من سيدي
يا من له نظم علا ذروة ... وهادها تعلو على الفرقد
لقد تطولت ولم تقتصر ... ومن بدا في فضله يزدد
وأين من نال نهاياته ... ممن كما قلت له مبتدي
وكان قد ركب أعجازاً وصدوراً على قصيدة الطغرائي لامية العجم، فجهزها إلي لأقف عليها، وأولها:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وشرعة الحزم ذادتني عن المذل
وحلة العلم أغنتني ملابسها ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيراً ومجدي أولاً شرع ... وسؤددي ذاع في حلي ومرتحلي
وهمتي في الغنى والفقر واحدة ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... دان ولا أنا في عيش بها خضل
وليس لي أرب فيها ولا خول ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
وهي كلها على هذا النمط، يأتي إلى كل بيت فيجعل لكل صدر عجزاً، ولكن عجز صدراً، وقد أثبتها بكمالها في الجزء العشرين من التذكرة التي لي، فأعدتها بعد ما كتبت عليها تقريظاً وهو حسبما قصده مني والتمسه: " وقفت على هذا النمط الغريب والأسلوب الذي ما سلك شعبه أديب، والألفاظ التي تجيد الجيد، وما تريب أنها حلي التريب، والعبارة التي هي أشهى من عصر شباب ما شيب بمشيب، والنظم الذي شاب منه رأس الوليد، ونقص أبو تمام فليس بحبيب، والمعاني التي هي أوقع في النفوس من وصل حبيب، نزهته اللذة عن الرقيب القري، والسطور التي هي جداول الروض والهمزة فيها على ألفها حمامة على قضيب " .
وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها ... ويزعم أن يأتي لها بضريب
لقد أمتع ناظمها أمتع الله بفوائده ومحاسنه، وحلى جيد الزمن يدره الذي يثيره من معادنه، فجعل لآفاقها مشارق ومغارب، ولبيوتها في شعاب القلوب مراكز ومضارب، كيف أفادها أعجازاً وصدوراً، وكيف تنوع في الحسن حتى أفاد الحضور أردافاً، وركب على الأرداف حضوراً، وكيف اقتدر على البلاغة فأطلع في أفلاكها شموساً وبدوراً، فلو عاينها الطغرائي، رحمه الله تعالى جعلها لمنشور ديوانه طغره، وعلم أن روض نظمه إن كان فيه زهرة فهذا أفق أطلع في كل منزلة منه شمساً وبدراً وزهرة، فالله يعز حمى الأدب منه بفارس الجولة، ويديم لأيامه بفوائده خير دولة، ويلم شعث بنيه الذين لا صون لهم ولا صولة، ويمتعهم بمحاسنه التي لا يذكر معها أبيات عزة، ولا أطلال خولة، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
وطلاب مني عارية المقامات الجزرية ليقف عليها، فجهزتها إليه، فأعادها بعد ما كتب عليها بخطه يقول الفقير إلى الله تعالى علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون اليعمري المدني عفا الله عنه: لما نظرت مقامات الجزرية رأيت ألفاظها حوشية، وحلل أسجاعها غير مطرزة ولا موشية، لم يسق روضها ماء البلاغة المستعذب، فما أنبتت أرضها زهر اللفظ المهذب، ومع هذا فطالما كلف نفسه فيها وعذب، وعندي أن من لم يستحسن كذبها لم يكذب:
ظن الفصاحة في الغريب فآثره ... فلكم له من فقرة هي فاقره
قرحت قريحته وفات قبولها ... يا كرة من بعد ذلك خاسره
وقد أثبت عندي منها المقامة الأولى، ورأيت أن ترك ما سواها أولى:
إذا الأسلوب في المجموع واحد ... وليس على كتابتها مساعد
علي بن محمد بن قلاوون
الملك علاء الدين بن السلطان الملك الناصر بن الملك المنصور.(2/98)
أخبرني الأمير شرف الدين حسن بن جندر بك، قال: جهزني السلطان الملك الناصر لإحضاره من الكرك، ولم يكن له في ذلك الوقت ولد ذكر غيره. قال: وجاءه الخبر بوفاته ونحن معه في الصيد، وكنت أنا والأمير علاء الدين أيدغدي شقير والأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، فانكمش وأطرق ولم ينشرح ولم يكلم أحداً. قال: فقلت له: يا خوند الله يطول عمرك، تريد تفرح بموته، فقال: لأي شيء؟ قلت: إذا كنت وحدك دام ملكك، وطالت دولتك، ففهم مقصودي، وساق وانشرح، وأخذ الجارح مني وحمله، أو كما قال.
وكانت وفاته رحمه الله تعالى في شهر رجب سنة عشرة وسبع مئة.
علي بن محمد بن بن محمد نصر الله
ابن المظفر بن أسعد بن حمزة الصدر الكبير الرئيس القاضي علاء الدين أبو الحسن بن القلانسي التميمي الدمشقي الشافعي، تقدم ذكر أخيه القاضي جمال الدين أحمد بن محمد.
سمع الحديث من ابن البخاري وزينب بنت مكي وعبد الواسع الأبهري. وحدث واشتغل وحصل وتفرغ في المباشرات وتأصل، وبلغ المعالي وتوسل بعقله إلى أن توصل. وكتب في ديوان الإنشاء، وأذن له بالإفتاء، ودرس بالمدارس الكبار، وصار به في الدولة الاعتناء والاعتبار.
وكان مليح الكون، صحيح اللون، ذا نفس متضعه، وهمة لأفاويق السكون والاقتصاد مرتضعه، علا إلى الثريا ثم هبط إلى الثرى، وحصلت له مصادرة مشيت معها سعادته القهقري.
وكان قد أسره التتار، وخلص منهم عند الفراغ بالفرار.
ولم يزل على حاله إلى أن زاره أبو يحيى فجأه، وعدم حواسه فلم يسمع له نبأه.
وتوفي رحمه الله فجاءة بدمشق في بكرة السبت خامس عشري صفر سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
باشر كتابة الإنشاء مدة زمانية، وكان قد أخذه التتار في نوبة قازان هو والقاضي بدر الدين محمد بن فضل الله وابن شقير وابن الأثير رهينة إلى بلاد أذربيجان، وبقي عندهم معتقلاً مدة، ثم إنه تنكر محتالاً، وهرب. فنودي عليه، فاختفى بتبريز شهرين، وسمى نفسه يوسف، وتوصل إلى البلاد في زي فقير، ووصل إلى حلب، فأكرمه نائبها، وبعثه على خيل البريد إلى دمشق، وسربه أهله، وكان قدومه إلى دمشق في جمادى الأولى سنة إحدى وسبع مئة.
وتولى نظر ديوان الأمير سيف الدين تنكز، ونظر البيمارستان النوري مع توقيع الدست بدمشق في يوم الجمعة ثاني شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، فلما توفي أخوه القاضي جمال الدين أخذ وظائفه مضافة إلى ما بيده، وهي: نظر الظاهرية ودرسها، وتدريس العصرونية، ووكالة بيت المال، وقضاء العسكر، وتدريس الأمينية، فأعطى لابن أخيه القاضي أمين الدين نظر الظاهرية وتدريس العصرونية، وانفرد هو بالباقي.
وقلت له يوماً: يا مولانا أنت اليوم توقع عن الله تعالى وعن السلطان وعن ملك الأمراء وعن نور الدين الشهيد، وعن الملك الظاهر، فضحك وأعجبه ذلك.
وكان هشاً بشاً لم يتغير عما يعرفه أصحابه، ولا زاده هذا العلو إلا ضعة. وكان أخيراً يراعي الإعراب في كلامه المسترسل، ثم إن تنكز تنكر عليه، وصادره وصادر رفاقه، وأخذ منه جملة، ولم يكن خانه، وإنما دخل في شيء لم يكن يدريه، وذلك في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وأفرج عنه، ولم يبق بيده بعد هذه الوظائف كلها إلا تدريس الأمينية والظاهرية.
علي بن محمد بن محمد
الشيخ للسند المقرئ المجود الزاهد العابد أبو الحسن البغدادي الرفا، سبط الشيخ عبد الرحيم بن الزجاج، فسمعه كثيراً.
سمع جامع المسانيد من ابن أبي الدنية وجزء الأنصاري من عبد الله بن ورد صاحب ابن الأخضر، ومن البخاري على أبي الحسن الوجوهي، وبعض مسند الإمام أحمد من الشيخ عبد الصمد بن أحمد ومن جده. وأجاز له من واسط الشريف الداعي صاحب ابن الباقلاني، وحدث بجامع المسانيد ثلاث مرات، وأول ما سمع منه في سنة ثلاث وسبع مئة.
فر من رؤية المنكرات ببغداد إلى قرية برقطا، واشترى أرضاً كان يستغل منها كفايته، فلقن هناك خلقاً كثيراً كتاب الله عز وجل، وقد أكثر عنه نجم الدين سعيد الدهلي وأهل بغداد.
وتوفي رحمه الله تعالى ببرقطا في وسط سنة أربعين وسبع مئة، وحمل إلى مقبرة الإمام أحمد بن حنبل فدفن بها.
وكان يعرف القراءات السبع.
ومولده سنة اثنتين وستين وست مئة، أو في سنة ثلاث وستين.(2/99)
كان مقرئاً مجيداً، وعالماً مفيداً، عارفاً بالقراءات، قريباً من المحاسن بعيداً من الإساءات. سمع الحديث، وروى عن القديم والحديث، وحظي أهل بغداد ببركته، وتألموا بعده لسكون حركته.
ولم يزل على حاله من الخير الصريح إلى أن ضمه الضريح، وأصبح بعد التعب وهو مستريح.
علي بن محمد بن ممدود
ابن جامع بن عيسى الشيخ الصالح المسند المعمر شمس الدين أبو الحسن بن الإمام المحدث العدل، محب الدين بالندنيجي البغدادي الصوفي.
كان بخانقاه الشميساطي بدمشق، كان والده من المحدثين العدول، سمعه صحيح مسلم على أحمد البادسني عن المؤيد الطوسي، وأسمعه جامع الترمذي على العفيف بن الهني، وحدث بالكتابين غير مرة، وله إجازة من النشتبري، ومحمد بن علي بن السباك، وإبراهيم الزعبي، ومحمد بن الحصري، وعبد الله بن عمر بن أبي السعادات البندنيجي، وعلي بن عبد اللطيف بن الخيمي، وهؤلاء الستة من أصحاب ابن شاتيل، وأجاز له إلياس الحجبي من أصحاب خطيب الموصل. وأجاز له جماعة من بغداد، وذكر أن عمره في الواقعة اثنتا عشرة سنة، وكان ببغداد بواب الحجر، والحجر هي دار الوكالة، وقدم الشام، وأقام بالقدس ودمشق نحو سبع عشرة سنة.
وكان طويلاً له مهابة، وعلى ذهنه من أخبار بغداد والواقعة شيء كثير، وكان سماع لجامع الترمذي سنة تسع وأربعين وست مئة، وسماعيه لصحيح مسلم سنة خمسين وست مئة، كلاهما بدار الخلافة ببغداد.
وتوفي رحمه الله تعالى في ليلة الأحد سابع المحرم سنة ست وثلاثين وسبع مئة، ودفن بمقابر الصوفية بدمشق، وله ثلاث وتسعون سنة.
وكان قد سمع مسند ابن راهوية من العز أحمد بن يوسف الأكاف بإجازته من ابن الخير بن الطالقاني، وقيل: سمع من ابن الخير. سمعت عليه صحيح مسلم بكماله بدار الحديث الأشرفية بقراءة المحدث ناصر الدين محمد بن طغريل بحضور جماعة من الأشياخ، منهم شيخنا المزي وغيره. أجاز لي بخطه، وكان سماع صحيح مسلم في مدة آخرها سادس عشر شهر رجب سنة خمس وثلاثين وسبع مئة. وكان يجلس للإسماع والقارورة مشدودة على وسطه للبول، لأنه كان ضعفت قوته الماسكة رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن نبهان
الشيخ ابن الشيخ المشهور، شيخ البلاد الحلبية، وسوف يأتي ذكر والده إن شاء الله تعالى في المحمدين.
لما توفي والده رحمه الله تعالى جلس هو مكانه، وقدم إلى دمشق، وحج، وزرته واجتمعت به صادراً ووارداً في سنة ثمان وأربعين أو في سنة سبع وأربعين، وعاد إلى بيت جبرين قريتهم.
ولم يزل بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب.
علي بن محمد بن هارون
ابن محمد بن هارون بن علي بن أحمد الثعلبي الدمشقي، نزيل القاهرة، الشيخ المحدث الصالح المعمر المسند نور الدين أبو الحسن.
كان قارئ العامة.
سمع حضوراً في الرابعة وفي الخامسة من ابن صباح، وابن الزبيدي، والناصح بن الحنبلي. وسمع من الفخر الإربيلي والمسلم المازني ومكرم بن أبي الصقر، وعدة. وروى الكثير، وتفرد في وقته، وأكثر الطلبة عنه والرحالة.
وكان خيراً ناسكاً متواضعاً حسن القراءة محبباً إلى العامة.
خرج له شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى مشيخة. وسمع منه شيخنا أبو الفتح، وشيخنا البرزالي، وشيخنا الذهبي، وهو آخر من حدث وسمع من ابن صباح.
وتوفي رحمه الله تعالى سابع عشر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة ست وعشرين وست مئة.
علي بن محمد بن علي بن عبد القادر
الإمام الشيخ نور الدين ابن الإمام كمال الدين أبي عبد الله الهمداني.
كتب لي في إجازته ولأخي إبراهيم ولأختي يواش، ومن ذكر اسمه في الإجازة، بخطه في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة:
من بعد حمد الله ذي الإحسان ... ثم الصلاة على الرضي المنان
لهم أجزت جميع مالي أن أرو ... يه على من نص أهل الشان
وأنا علي بن محمد بن علي ابن ... الشيخ عبد القادر الهمداني
وإلى تميم نجل مر نسبتي ... لأبي وأمي قال ذا الجدان
وولدت عام اثني ثمانين التي ... بعد المئين الست في رمضان(2/100)
قتل: قوله: المنان في وصف النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب الجزاء على بلاغ الرسالة، ولم يمن على أحد بذلك، كيف وقد قال له الله تعالى " ولا تمنن تستكثر " " بل الله يمن عليكم أن هداكم " .
ثم كتب بعض الفضلاء بخطه في النسخة التي بخط المصنف المنقول منها هذه النسخة ما صورته: " المنان هو ذو المن، سواء امتن بها أم لا، والنبي صلى الله عليه وسلم له المنن الجسيمة والأيادي التي لا تحصى، فإطلاق لفظ المنان عليه عندنا لا يمتنع، فإنها صفة مدح، ولذلك كانت من جملة الأسماء الحسنى، وهي قائمة به صلى الله عليه وسلم، فأي مانع من إطلاقها عليه، وأما قوله تعالى: " ولا تمنن تستكثر " فهو في غير ما نحن فيه " .
علي بن محمد
الشيخ الإمام علاء الدين أبو الحسن الشافعي المعروف بابن الرسام، وكيل بيت المال والمدرس بصفد.
كان حسن الود، جميل التحية والرد، ليس فيه شر، ولا عنده أذى، إذا كر وإذا فر، يرعى عهود أصحابه، ويؤويهم إلى رحابه، ذا مروءة زائدة، وفتوة لمباني المجد شائدة.
وكان قد حفظ التعجيز، وطالع عليه شرح الوجيز، يكتب بيده اليسرى خطاً كأنه العقود المنظومة، أو حلل الوشي المرقومة، يعجب كل من يراه، ويجعل كل أحد إليه سيره وسراه.
لم يزل على حاله إلى أن جعل الموت ربع ابن الرسام رسماً، وعدم الوجود منه جسماً لا اسماً.
وتوفي رحمه الله تعالى في العشر الأواخر من شهر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون صفد.
وقلت لما بلغتني وفاته بعد وفاة جماعة من الأصحاب في صفد:
لما افترست صحابي ... يا عام تسع وأربعينا
ما كنت والله تسعاً ... بل كنت سبعاً يقيناً
كان والده جندياً، واشتغل في مبادي أمره على شيخنا نجم الدين بن الكمال خطيب صفد، ثم إنه نزل إلى دمشق، واختص بالشيخ صدر الدين بن الوكيل بدمشق وبمصر، وقرأ عليه وعلى غيره، وسمع الحديث بدمشق وبمصر، وصحب الأمير بكتمر الحاجب، وتوكل له. ولما حضر إلى صفد نائباً جاء إليه فأعطاه بها التدريس بالجامع الظاهري، ثم فيما بعد أخذ وكالة بيت المال.
وكان عنده مشاركة في العربية والأصولين، وكان يلثغ في الجيم يجعلا كافاً، يشمها شيناً معجمة، وكان لو أكل فسقتة واحدة عرق لها من فرقة إلى قدمه.
وكنت قد قرأت عليه في صفد كتاب التعجيز وهو الذي نقلني إليه بعد ما حفظت ربع التنبيه، ولم يقطع عني مكاتباته في مصر ولا في الشام. رحمه الله تعالى.
علي بن محمد بن عبد العزيز بن فتوح
ابن إبراهيم بن أبي بكر بن القاسم بن سعيد بن محمد بن هشام بن عمرو. الصدر الرئيس الفاضل العالم النحرير المدقق المفنن الفريد الخواجة تاج الدين أبو الحسن بن الصاحب موفق الدين بن عز الدين بن موفق الدين أبي الفتح الثعلبي الشافعي المعروف بابن الدريهم الموصلي، مصغر درهم، والدريهم لقب لسعيد أخي محمد بن هشام، قال في وقت: دريهماً، فلزمه ذلك، وهو ابن أخت الشيخ بهاء الدين الحسين الموصلي المعروف بابن أبي الخير المقدم ذكره في حرف الخاء.
كان أعجوبة من أعاجيب الزمان في ذكائه، وغريبة من غرائب الدهر تشرق سماء الفضل بذكائه، دقيق الغوص على المعاني شديد التنقيب على ما يتصف به من العلوم ويعاني، خاض بحار المنقول، وقطع مفاوز المعقول، خصوصاً فن الرياضي وما يتشعب فيه، والكلام على أسرار الحروف وما يلائم طبعه أو ينافيه. له قدرة على تأليف المناسبات واستحضار الأشباه والنظائر في المطارحات والمقايسات، تام الشاكلة، وافر الجلالة:
أدب لم تصبه ظلمة جهل ... وهو كالشمس عند وقت الطلوع
ويد لا يزال يصرعها الجو ... د ورأي في الخطب غير صريع
وله تصانيف كثيرة في غر ما فن، وتواليف قنصت ما شرد فيه وما عن، وكانت له نعمة طائلة فذهبت، وسعادة خدمته أياماً، فانجلت وما أنجبت، وسعى فأخفق، ولم بارق حده وما حقق.
وتوجه إلى مصر غير مرة فما أجدى، وكد حظه فأعطى قليلاً وأكدى، واستشار حتفه بسعيه الذي نبشه.
وآخر ما أولاه أن توجه رسولاً إلى الحبشة، فقطع الحين عليه الطريق قبل وصوله، ولم يقبض ابن الدريهم فيه فلساً من وصوله.
وجاء الخبر بوفاته رحمه الله تعالى في صفر سنة اثنتين وستين وسبع مئة.(2/101)
ومولده ليلة الخميس منتصف شعبان سنة اثنتي عشرة وسبع مئة بالموصل.
سألته عن مولده فأخبرني بما أثبته، وقال لي: قرأت القرآن بالروايات على الشمس أبي بكر بن العلم سنجر الموصلي، وتفقهت على الشيخ زين الدين ابن شيخ العوينة الشافعي.
وحفظت الهادي وبحثت الحاوي الصغير على الأشياخ، منهم القاضي شرف الدين عبد الله بن يونس من شرح والده كمال الدين الصغير.
وحفظت في العربية الملحة وألفية ابن معط وألفية ابن مالك، وبحثت في التسهيل.
وقرأت شيئاً كثيراً من الرياضي على الشيخ زين الدين ابن الشيخ العوينة.
وسمع بالديار المصرية على الشيخ علاء الدين بن التركماني، وشمس الدين بن الأصفهاني، ونور الدين الهمذاني صحيح البخاري، وسمعت بها صحيح مسلم وسنن أبي داود وبعض الترمذي.
وأجازني الشيخ أثير الدين أبو حيان، وقرأت عليه بعض تصانيفه، وأجازني جماعة أشياخ انتهى.
وتوفي والده وهو صغير، خلف نعمة طائلة، فاستولى عليها بيت شيخ البلد بالموصل كمال الدين، ومعين الدين بن الريحاني ولم يطلعوه منها إلا على القليل، وانتشأ يتيماً وهو بنفسه وهمته يجتهد ويشتغل في العلم، ولم يكن له من يحرضه على ذلك، ثم إنه لما اشتد تسلم مقداراً يسراً من ماله من بيت شيخ البلد، وسافر به إلى الشام ومصر، وحصل من ذلك ثروة عظيمة، ثم ذهبت.
قلت: أول قدومه إلى مصر في متجر في زي الخواجية سنة اثنتي أو ثلاث وثلاثين وسبع مئة، ثم إنه عاد إلى البلاد، وتردد بعد ذلك إلى الشام ومصر غير مرة، ولم أر أحداً أحد ذهناً منه في الكلام على الحروف وخواصها، وما يتعلق بالأوفاق، وأوضعها. ورأيت منه عجباً، وهو أنه يقال له ضمير عن شيء يكتبه السائل بخطه، فيكتبه هو حروفاً مقطعة، ثم يكسر تلك الحروف على الطريقة المعروفة عندهم، فيخرج الجواب عن ذلك الضمير شعراً ليس فيه حرف واحد خارجاً عن حروف المضير، وكونه يخرج ذلك نظماً قدرة على تأليف الكلام، وله مشاركة في غير ما علم من فقه وحديث وأصول دين وأصول فقه وقراءات ومقالات ومعرفة فروع من غير مذهب وتفسير، وغير ذلك، يتكلم فيه جداً كلام من ذهنه حاد وقاد، وأما الحساب والأوفاق وخواص الحروف وحل المترجم والألغاز والأحاجي فأمر بارع، وكذلك النجوم وحل التقويم.
اجتمعت به غير مرة، وكتبت إليه:
نصحتك عن علم فكن لي مسلماً ... إذا كنت مشغوفاً بحل المترجم
تتلمذ لتاج الدين تظفر بكل ما ... أردت ورد بحر الفضائل واغنم
فلابن دنينير تصانيف ما لها ... نظير ولكن فاقها ابن الدريهم
وكانت له خصوصية بالملك الكامل شعبان وبغيره من أمراء الدولة الخاصكية وغيرهم من المتعممين أرباب الدولة، إلى أن أغري به الملك المظفر حاجي فأخرجه إلى الشام قبل قتله بقليل، فوصل إلى دمشق بعد شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبع مئة.
وذكر لي أن له في ديوان الخاص أثمان مبيعات وغيره ما يزيد على المئتي ألف درهم، وتوجه مرات إلى مصر لخلص له في ذلك شيء، فتعذر عليه الحال، ولما وصل إلى دمشق سنة ثمان وأربعين وسبع مئة أقام بها قليلاً، فورد كتاب الأمير سيف الدين قرابغا دوادار الأمير سيف الدين أرغون شاه نائب الشام بإخراجه من دمشق، فكبس بيته، وأخذت كتبه، وأخرج من دمشق في إحدى الجماديين سنة تسع وأربعين وسبع مئة.
فتوجه إلى حلب. وتوفي بعده دوادار بيبغاروس، فعاد إلى دمشق في سنة خمسين عازماً على الحج، فلم يقدر له، ثم عاد إلى حلب.
ثم إنه حضر إلى دمشق، وأقام بها قليلاً، ثم توجه إلى مصر بطلب من هناك، ثم عاد إلى دمشق، ثم إنه رتب مصدراً بالجامع الأموي، ثم بعد قليل رتب في صحابة ديوان الجامع الأموي، فباشره وعرفه جيداً، فانحصر المباشرون منه، وناكدوه، فبطل المباشرة، ورتب في استيفاء ديوان الأسرى، ثم إنه توجه في أواخر سنة تسع وخمسين وسبع مئة أو أوائل سنة ستين إلى الديار المصرية. فأقام هناك سنتين أو أكثر، ثم إن السلطان الملك الناصر بعثه رسولاً إلى ملك الحبشة، فتوجه غير منشرح، وجاء الخبر إلى الشام بوفاته رحمه الله تعالى في قوص ذاهباً.
ونظمه فيه تكلف وتعسف. وكتب إلي بعدة أحاج، وأجبته عنها، وكتبت أنا إليه بمثل ذلك، وأجابني عنها. وقد أودعت ذلك في كتابي المسمى نجم الدياجي في نظم الأحاجي.(2/102)
وكان ابن الدريهم ديناره في العلم كامل، وغمام فضائله في فضاء الطروس هام هامل، فلو عاصره البوني لقال: هذا الذي يبرني ويحبوني، أو ابن الدنينير لقال: ما أنا كابن الدريهم عند لمح الطرف، وهو في عمله يفوق ويفوت وإن تفاوت فيما بيننا الصرف.
وعلى الجملة فكان في هذه العلوم آية وقدره قد تجاوز فيها كل حد، وانتهى إلى كل غاية، وعاكسته في مراده الأقدار، ولم يرفع له في المناصب مقدار، خلة ألفها الأفاضل من الدهر، وطريقة عوملوا بها في السر والجهر.
ومن تصانيفه ما نقلته من خطه: النسمات الفاتحة في آيات الفاتحة، وإشراق النفس في الحمدلات الخمس، الدراية في " ما ننسخ من آية " ، السبيل الأوطا في الصلاة الوسطى، لطائف الأحكام على " هو الذي يصوركم في الأرحام " مدة البحور على " إن عدة الشهور " ، إضاءة يوح على " ويسألونك عن الروح " ، مثاني الكتاب المبين على أن قلب القرآن " يس " ، الآثار الرائعة في أسرار الواقعة، منام النصوح في الكلام على سورة نوح، أسرار البدر في ليلة القدر، الافتحاص على سورة الإخلاص، العبارات في اختيار القراءات، مناسبة الحساب في أسماء الأنبياء المذكورين في الكتاب، نظائر الآيات والكلمات المكررات، النخب في التصاديق والخطب، كنز الدرر في حروف أوائل السور، سبر الصرف في سر الحرف، الزين في معاني العين، المناسبات العددية في الأسماء المحمدية، غاية المغنم في الاسم الأعظم، البرهان على عدم النسخ للملتين من القرآن، مداحض الإكراه في تناقض التوراة، تعريف التبديل في تحريف الإنجيل، نظم نفائس عقود الدرر الزاهرة في هدم كنائس اليهود بمصر والقاهرة، الإنصاف بالدليل في أوصاف ماء النيل، مكافأة الأقدار للأخيار والأشرار، بوادر الحلوم في نوادر العلوم، اليقين لمن به ندين في الدليل على خلافة الخلفاء الراشدين، زجر السفهاء بآداب الفقهاء، اختيار الراغب في اختيار المذاهب، أسرار العبادات بتفصيل الإعادات، شرح نظم الحاوي ولم يكمل، فائدة الأبحاث بأحوال الوالدة في الميراث، منسك الحج، الرد على تقي الدين الإخنائي المالكي في مسائل متفرقة، المعلم بمعاضدات مسلم، الخيرة في حسن مسائل الفال وكراهية الطيرة، نفع الجدوى في الجمع بين أحاديث العدوى، وشائع النوار في شرح لوامع الأنوار، ولم يكمل، تعريف الإفراد للمقتدي لتتمة الذهبي والصفدي، خلاصة الخلاصة، نحو خمس مئة بيت، تسهيل التسهيل، العروض المجملة من المسموعة والمهملة، الزناد القادح في اختيار الصادح، ذات القوافي، القصيدة الألفية، المبهم في حل المترجم، مختصر المبهم في حل المترجم، مفتاح النوز في حل الرموز، غاية الإعجاز في الأحاجي والألغاز، مشاجرة من انتصر في المفاخرة بين السمع والبصر، رسالة التراضي بين الأمين والقاضي، سيادة الخيم، والبصارة في أدب الأكل والزيارة، نظم السلوك في آداب الملوك، إيقاظ المصيب في الشطرنج والمناصيب، تنويل الراثي في تأويل المراثي، تنآئي المناظر في المنائي والمناظر، سلم الحراسة في علم الفراسة، الإنافة على الضيافة، تصاريف الدهر في تعاريف الزجر، افتقاد الخرائد المواهر في انتقاد فرائد الجواهر، تقرير الأبحاث في خواص المولدات الثلاث، اختباء الاختبار، الإساة بأدواء النسا والباه، اقتناع الحذاق في أنواع الأوفاق، بسط الفوائد ي شرح حساب القواعد، شرح الإسعردية في الحساب، المناسخات المصرية، الأجوبة القاهرية، المناسخات الحلبية، الأجوبة الحلبية، المسألة الحجموية، الأجوبة الحموية، الأجوبة الموصلية، الترسلات الشامية، الأجوبة الشامية، لم تكمل رسالة النصح العلوي على لسان الجامع الأموي، إخلاص الخواص. تمت.
وأنشدني رحمه الله تعالى من لفظه لنفسه:
صد عني فلم تلم يا عذولي ... لست أسلو هواه حتى الممات
لا تقل قدأسا ففي الوجه منه ... حسنات يذهبن بالسيئات
علي بن محمد
الصاحب علاء الدين بن الحراني(2/103)
جاء إلى دمشق عوضاً عن الصاحب أمين الدين، فما أقبل عليه الأمير سيف الدين تنكز، ولا توهم فيه أنه لمثل درة الشام يحرز، ولا أن معرفته لإظهار سرائرها تبرز، فتركه واقفاً وما أجلسه، واستوحش منه فما أنسه. وكأن نفسه رحمه الله تعالى استشعرت بشؤمه، وأن هذا يستخرج مخبوء ماله ومكتومه، فما كان بعد قليل حتى أمسكه السلطان، وحكم أيدي العيث والفساد فيما عمره من الأوطان، وعرضت على الصاحب علاء الدين حواصله وأمواله، وآلات بيوته وغلاله، فلم يدع خبيثاً إلا أظهره، ولا مكتوماً إلا استخرج مضمره، حتى قال مماليكه: أين كان لنا هذا مخبوءاً، وما نرى هذا الصاحب إلا عدواً.
ثم إنه استمر بدمشق إلى أن جاء الفخري وملكها، وسلك تلك الطريق التي سلكها، فتلقى الصاحب علاء الدين ذلك المهم الأعظم بصدره ونهض بعبئه الذي يعجز غيره عن دفع شره، وأراد ذلك المهم أموالاً يفوت الحصر عدها ونفقات يخجل البحار نقدها، ثم إنه استعفى من نظر الشام فأجيب، وخلص من الأمر العجيب، ثم إنه تولى أيام الكامل شعبان فعاد إلى دمشق ثانياً، واتفق خروج يلبغا على السلطان وأصبح عن طاعته نائياً، فكلفه إلى نظير ذلك المهم. وعاوده ذلك الخطب الملم:
وإذا خشيت من الأمور مقدراً ... وفررت منه فنحوه تتوجه
ولما انقضى ذلك الخطب الذي عرى والحادث الذي دهم الورى، استعفى فأعفي، وحظه لا يمكن طرفه أن يغفي. ثم لما أن قتل يلبغا حضر الحوطة على موجوده، وضبط ما في أغوار حاصلة ونجوده، فقضى هذا المهم وأكمله، وفصل طلب الإعفاء من أمر دمشق وأجمله. وقال: ما أدري حظي من دمشق ما هو؟، والناس بمثل حسنها لم يضاهوا:
أظمتني الدنيا فلما جبتها ... مستمطراً مطرت علي مصائبا
ولكنه في هذه المرات الثلاث، والكرات الخباث، يباشر بصلف زائد، وعفاف غضه بنسيم النزاهة مائد، لم يخن في قليل ولا كثير، ولا تعرض إلى فتيل ولا نقير. واشتهر بالأمانة عند الملوك، وصار خبره في ذلك كالشمس عند الدلوك.
وما زال بالقدس منقطعاً إلى أن نزل به ضيف المنية، وطفئت قناديله المضية.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة بالقدس.
وأول ما عرفت من أمره أنه كان يكتب الدرج عن الأمير فخر الدين أقجبا الفارسي مش الدواوين بصفد، وكان يعرف إذ ذاك بعلاء الدين بن المقابل، لأن أباه كان مقابل الاستيفاء بصفد، ثم إنه خدم كاتباً للأمير عز الدين أيدمر الشجاعي نائب قلعة صفد. وكان فيه إذ ذاك كيس ولطف وذوق وانهماك على عشر المطابيع والفضلاء، وبيته مجمع الأصحاب والعشراء، وفيه مكارم وخدمة للناس، ثم إن الشجاعي توجه إلى البيرة نائباً فلم يتوجه معه.
ثم إن الشجاعي جاء إلى القدس ناظر الحرمين، وكان الصاحب علاء الدين عنده، ثم إنه ترك ذلك جميعه، وتجرد ولبس زي الفقراء، ودخل اليمن بالكجكول والثوب العسلي، وغاب هناك مدة، وجرت له أمور شاقة، حكاها لي من الأمراض والوحدة والفقر.
ثم إنه حضر إلى دمشق، وتوجه إلى مصر في أواخر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، ثم إنه خدم كاتباً عند الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب ولما مات خدم عند الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي الوزير. ولما مات خدم عند الأمير سيف الدين طغاي تمر، صهر السلطان الملك الناصر، واشتهر في مصر بالكفاية والأمانة. ولما مات جهزه السلطان إلى الكرك ناظراً فتقلق من ذلك، وحضر إلى مصر، فخدم عند الأمير سيف الدين قوصون مدة يسيرة. ثم إن السلطان جهزه إلى دمشق وزيراً عوضاً عن الصاحب أمين الدين، فباشرها مباشرة حسنة بعفة وصلف زائد، وجاء الفخري، وجرى ما جرى، فقام له بكل ما أراد، ومنعه من أشياء كان يريد فعلها من مصادرة الناس فقال له: مهما أردت عندي. وتوجه معه إلى مصر، وطلب الإقالة، فرتب له مرتب، وأقام مدة على ذلك.
ثم إن الكامل شعبان طلبه جهزه إلى دمشق وزيراً ثانياً، فلما وصل إليها اتفق خروج يلبغا على الكامل، وحضر إليه النواب من أطراف الشام وأراد لهم نفقات وكلفاً كثيرة فقام لهم بذلك المهم وسده، ولم يمكن يلبغا من التعرض إلى أموال الناس، وتوجه لمصر، وعمل تقديراً للشام، وحضر وهو على يده، فلم يمش له حال، فطلب الإقالة وتوجه إلى القدس، وانقطع به.
ثم حضر للحوطة على موجود يلبغا، فضبطه، وحرره، وعاد إلى القدس منقطعاً إلى الله تعالى.(2/104)
وكان به فتق فعظم وتزايد، وكان في عانته، فلم يزل ينمو إلى أن كان يعلقه في فوطة إلى عنقه، وتفاقم أمره في ذلك الفتق إلى أن قتله، رحمه الله تعالى.
وفي هذه المرات التي يحضرها إلى دمشق لم يوسع له دائرة، ولا اتخذ مماليك ولا جواري ولا خدام ولا فعل ما يجب لمثل هذه الوظيفة من البذخ والخدم والحشم، بل له غلام يحمل الدواة وغلام للخيل، وغلام يطبخ له ويغسل لا غير، وإذا خلا سمع الحديث، أو طالع في مجلدات عنده.
ولما أن توفي السلطان الملك الناصر جلس ولده المنصور أبو بكر، وحلف عسكر دمشق، وقد كانت العادة أنه في مثل هذا الواقع يخلع على الموقعين وعلى كتاب الجيش كما فعل في كل مرة قبل هذه، فتحدث الجماعة معه في ذلك، فوعد بذلك، واجتمعت أنابه في ذلك، فقال: أنا ما ألبس تشريفاً حتى يلبس الجماعة تشاريفهم. فكتبت أنا إليه بعد ذلك:
مماليك مولانا الوزير جماعة ... لهم بتشاريف المليك غرام
ولا غرو أن هاموا بها في حدائق ... لأنهم بالمدح فيك حمام
علي بن محمد بن يوسف الموصلي
الشيخ المعروف بالبالي، بالباء الموحدة.
كان رجلاً مباركاً ينوب في الإمامة بمشهد عثمان بالجامع الأموي.
سمع من ابن البخاري مشيخته، وكتب في الإجازات، وحفظ التنبيه واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري.
توفي رحمه الله تعالى يوم السبت سادس عشر رمضان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن في مقابر باب الفراديس.
علي بن محمد بن عبد القادر
العدل الرضي، علاء الدين ابن قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ، أخو القاضي بدر الدين بن أبي اليسر بن الصائغ.
توفي علاء الدين بسكنه بالمدرسة العمادية، جوار قلعة دمشق سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
كان شهد على الحكام، والقضاة يعتمدون عليه في شهاداته، وأكثر أهل البلد يكتبون عنده.
علي بن محمدابن الكلاس
وبابن الريس، وكان هو يكتب على المجلدات: علي الدواداري، الفاضل الأديب الماهر علاء الدين.
كان يتوقد ذكاؤه، وتشرق في سماء الأدب ذكاؤه. جمع مجاميع أدبية، وعلق نكتاً حديثية، واقتنى من الكتب جمله، وأثقل بها حمله.
وسمع من المشايخ وعلق، ووفى نبل أدبه وغلق. وكان خطه يتحدر كالسيل ويتألق كالبرق في الليل، يدل على قوة يده وتسرعها، وملاءتها من القدرة وتضلعها.
وكان جندياً في حلقة جلق، وحرفته من أرباب السيوف التي هو بها متعلق.
ولم يزل على حاله إلى أن انطفأ ابن الكلاس، ولم يضئ له جلاس بين الجلاس.
وتوفي رحمه الله تعالى بقرية حطين من بلاد صفد، قبل الثلاثين وسبع مئة، أو ما بعدها.
ورأيته بدمشق غير مرة. و كان قد وقع بينه وبين صاحبنا زين الدين الصفدي، وعبث به، وصنع فيه مقامة. ومن شعره:
خليلي ما أحلى الهوى وأمره ... وأعرفني بالحلو منه وبالمر
بما بيننا من حرمة هل رأيتما ... أرق من الشكوى وأقسى من الهجر
ومنه:
سقطت نفوس بني الكرام فأصبحوا ... يتطلبون مكاسب الأنذال
ولقلما طلب الزمان إساءتي ... إلا صبرت وإن أضر بحالي
نفسي تطالبني وتأبى همتي ... أن استفيد غنى بذل سؤال
قلت: وقد أولع الشعراء بهذا المعنى، ومما قلت أنا فيه مضمناً قول المعري:
قضت لي أن لا اشتكي الدهر همتي ... ولو ساورتني أسده والأساود
وأن لا أنال الرزق في دار ذلة ... ولو أنني في هالة البدر قاعد
ومن شعر ابن الكلاس:
تقدمت فضلاً من تأخر مدة ... بوادي الحيا طل وعقباه وابل
وقد جاء وتر في الصلاة مؤخراً ... به ختمت تلك الشفوع الأوائل
ومنه:
فكرت في الأمر الذي أنا قاصد ... تحصيله فوجدته لا ينجح
وعلمت من نصف الطريق بأن من ... أرجوه يقضي حاجتي لا يفلح
ومنه يلغز في القلم:
ما اسم له في السماء فعل ... والأرض فيها له مكان
ينطق بين الأنام حقاً ... بصمته إذ له لسان
فأعجب له ناطقاً صموتاً ... له على الصمت ترجمان
ومنه يلغز في الرغيف:
ومستدير الوجه كالترس ... يجلس للناس على كرسي(2/105)
يدخل فيه البدر حمامه ... وبعدها يخرج كالشمس
يواصل السلطان في دسته ... واللص في هاوية الحبس
لو غاب عن عنترة ليلة ... وهت قوى عنترة العبسي
ومنه:
من مبلغ غبريل أن رحيله ... جلب السرور وأذهب الأحزانا
والناس من فرط الشماتة خلفه ... كسروا القدور وأوقدوا النيرانا
ومنه:
وأهيف تحكي البدر طلعة وجهه ... وإن لم يكن في حسن طلعته البدر
خلوت به ليلاً يدير مدامة ... وجنح الدجا دون الرقيب لنا ستر
فلما سرت كاس الحميا بعطفه ... ومالت به تيهاً ورنحه السكر
هممت برشف الثغر منه فصدني ... عذار له في منع تقبيله عذر
حمى ثغره المعسول نمل عذاره ... ومن عجب نمل يصان به ثغر
وكان المجير الخياط قد كتب إلى علاء الدين بن الكلاس أبياتاً كتب بها إلى غيره أولاً وأولها:
علاء الدين إن تنسى الودادا ... وتمنحنا القطيعة والبعادا
فأجابه علاء الدين عنها بأبيات أولها:
مجير الدين فت الناس نظماً ... ونثراً واختياراً وانتقادا
ثم إن علاء الدين علم أن المجير كان قد كتب بها إلى غيره، فكتب المجير إليه، ومن خطه نقلت الأصل والجواب:
يا علاء الدين يا من ... طاب بالآداب ذكره
وله عرف ثناء عطر ... الأقطار نشره
نظمه فاق الدراري ... ونظام الدر نشره
أيها الصدر الذي حا ... ز علوم الناس صدره
والأديب الشهم قنا ... ص المعاني الغر فكره
والجواد الجائد الحا ... وي بحار الجود شبره
عندنا منك حياء ... جل عند الناس قدره
إذ بعثنا نحوك الشعر الذي فصل شذره
وبه غيرك من قبلك قد قلد نحره
فاغتفر هفوة هاف ... جاء بالأعذار شعره
وليفز منك بعفو ... وليقم عندك عذره
فكتب علاء الدين الجواب عن ذلك:
يا مجير الدين يا من ... أعجز الألسن شكره
وله بحر نوال ... عغمر العافين غمره
والذي يحلو بأفوا ... ه ذوي الألباب ذكره
والذي بذ فحول الشعر في المضمار شعره
والذي فوق السماكين وفوق النسر قدره
كل مفضال أياديه بها قلد نحره
أيها الحبر مجير الدين والمحمود خبره
جاءني منك قريض ... يسكر الألباب خمره
جامع در المعاني ... عونه فيه وبكره
حل في القلب كما حل بروض الحزن قطره
بل كما ضاء لساري الليل في الظلماء بدره
نحو من يطلب من جو ... دك أن يبسط عذره
عبد إخلاص تساوى ... سره فيك وجهره
وإلى رؤيا محيا ... ك فني والله عمره
علي بن محمد بن أحمد
ابن سعيد بن سالم بن عمر بن يعقوب، القاضي علاء الدين أبو الحسن المعروف بابن الفامي، المحتسب بدمشق.
اشتغل بمذهب الشافعي ودرس، وأدلج في طلب العلم وعرس، وسهر ودأب، ومهر لما طلب، واشتغل بالشام ومصر، وتوجه إلى الإسكندرية، ولم يؤخذ له على السعي إصر. وتولى تدريس المدرسة الأمينية، وصفا ظاهره في ذلك والنية. ثم باشر الحسبة، ووفر الله تعالى منها كسبه، وأقام فيها مدة وعزل، وكان قد طلع بدره فيها كاملاً، ثم أفل لا بل خسف وخزل، وتمر فيها أموالاً، ولم يبل بالدهر أعاداه أم والى. وعمر أملاكاً لها صورة، وذخائر غير محصور. ثم إنه وليها ثانياً، ورد الدهر عنان سعده ثانياً، إلا أنه أخنى عليه بعد مدة يسيرة، وجعل عين تطلعه إليها حسيرة. ولكنه جبر وقته مع الله بالتوبة منها، وترحل عن امتطاء صهوتها، ونزل عنها، وخف منها حاذه، وأقلع غيم وابله وقل رذاذه. وكان قد أنهكه المرض، وزال عن أعاديه إليه الغرض.
ثم إن ابن الفامي ألفى مي المنية، وسددت إليه سهام الحين من تلك الحنية.
وتوفي رحمه الله تعالى في بكرة السبت سادس عشري صفر سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
ومولده في سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.(2/106)
كان قد حفظ التنبيه في الفقه، والعمدة في الأحكام ومقدمة ابن الحاجب، ومختصر ابن الحاجب، وسمع من زينب بنت الكمال، وأبي عمر وعثمان بن سالم بن خلف، ومحمد ابن إسماعيل بن الخباز، والحافظ أبي الحجاج المزي، وزينب بنت الخباز، ومن بهاء الدين بن إمام المشهد، وعليه اشتغل بالعلم وبه تخرج.
وكان أولاً قد تزوج بابنة القاضي زين الدين بن النجيح الحنبلي نائب قاضي القضاة علاء الدين بن المنجا، وكان يكتب الحكم عنه بالمدرسة الجوزية، وكان تولى الأمينية مدرساً بها في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة لما كان السلطان الملك الصالح صالح بدمشق في واقعة بيبغاروس بعد وفاة ابن عمه بهاء الدين بن إمام المشهد، ثم إنه تولى حسبة دمشق في أوائل سنة أربع وخمسين وسبع مئة في أيام الأمير علاء الدين أمير علي المارديني، ثم تزوج زوجة ابن عمه أيضاً وهي الحموية، فورثه في مدرسته وفي الحسبة وفي الزوجة.
وعزل من الحسبة سنة تسع وخمسين بالقاضي عماد الدين الشيرجي، ثم تولاها في شوال سنة اثنتين وستين وسبع مئة، ثم إنه لما أثقل حاله في المرض نزل عنها من ذاته، وخلف عدة من الأولاد الذكور وغيرهم، واشتملت تركته على ثلاثة مئة ألف درهم ما بين عين وأملاك ومجلدات وغير ذلك.
كان لي تنور قد تعطل في أيام حسبته الأولى، فكتبت أنا إليه في ثامن شهر ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وسبع مئة:
يا سيداً هو بالإحسان محتسب ... أجراً يوازنه في الحشر ثهلان
أشكو إليك من التنور عطلته ... وأنت في العلم والإفضال طوفان
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك:
يا سيداً هو في الإفضال مبتدأ ... وفي البلاغة والآداب سحبان
أشكو إليك من التنور عطلته ... وأنت في العلم والإفضال طوفان
علي بن محمود بن إسماعيل بن معيد
الأمير علاء الدين البعلبكي.
كان شكلاً طوالاً، جسيماً لم ير له مثالاً، بديناً إلى الغاية، بديلاً من الفيل في العظم والنهاية؛ إلا أنه كان من رجالات الناس رياسة، ودربة وخبرة ومعرفة وسياسة، خبيراً بالأمور ومعالجة الجمهور، دون دهاء وخداع، وملقه ملق واتضاع، خدم الناس وتقدم، وتقرب إليهم فأحمد عقبى ذلك وما تندم، فانتقل من الجندية إلى إمرة العشرة، ثم إلى الطبلخانات والولايات المشتهرة، وولي نظر الأوقاف بدمشق مدة، ثم تولى القبلية ويده إلى أعلى من ذلك ممتدة.
وكان تنكز يحبه لمعرفته، ويقربه ويوليه لدرايته ودربته.
ولم يزل في صعود، ومراقي سعود، إلى أن مرض بالقبلية، وقدم إلى دمشق فطالت علته، ولم تستد بالعلاج خلته، ونشرت له من الكفن حلته.
وتوفي رحمه الله تعالى في خامس عشري ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة ودفن بالمزة.
وكان قد ليس للإمرة بدمشق في ثامن عشر جمادى الأولى سنة خمس وسبع مئة. هو وعز الدين خطاب وسيف الدين بكتمر ومملوك الأمير سيف الدين بكتاش.
وولي البر بدمشق عوضاً عن الأمير شرف الدين بن البرطاسي في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبع مئة. ثم إنه ولي شد الأوقاف في سابع عشري شهر رجب سنة عشرين وسبع مئة مضافاً إلى ولاية البر، ثم إنه عزل منهما وتولى القبلية بحوران يوم الخميس ثالث عشر شوال سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، عوضاً عن الأمير سيف الدين بكتمر والي الولاة، وتولى أخوه الأمير بدر الدين بن معبد شد الأوقاف، وتولى ولاية البر علم الدين الطرقجي.
وكان أبوه شرف الدين تاجراً ببعلبك من عدولها، فنشأ ولده هذا وتعلق بالدول وخدمها إلى أن تولى شد الأوقاف بدمشق، وتولى البر مدة، ثم جهز إلى القبلية، فقلق فيها، ومرضن وحضر إلى دمشق إلى أن مات رحمه الله تعالى.
وكان قد سمع من المسلم بن علان ببعلبك في سنة سبع وسبعين وست مئة قطعة من مسند الإمام أحمد.
قال شيخنا البرزالي: وسمع بقراءتي ببعلبك سنة إحدى وثمانين وست مئة.
وسيأتي ذكر أخيه الأمير بدر الدين محمد بن معبد في مكانه إن شاء الله تعالى.
وكان من سمنه إذا نام يحرسه اثنان، فإذا غط أنبهاه، فيقال إنهم غفلوا عنه فنام فغط فمات، والله أعلم. كذا جرى للأمير سيف الدين كشلي الآتي ذكره في مكانه إن شاء الله تعالى.
علي بن محمود بن حميد
العلامة البارع علاء الدين أبو الحسن القونوي الحنفي الصوفي، المدرس بالقليجية.(2/107)
سمع من الحجار، والجزري، وعدة. ودار على المشايخ قليلاً وحببت إليه الآثار، وخرجت له مشيخة، ولازم الكلاسة يقرئ العلوم فيها، وينفع من كان طالباً نبيهاً، مع ديانة لا تجهل، وصيانة لا يسمع أحد بذكرها إلا ويذهل، وتواضع على علو قدره، وسمو بدره، ودنو غيثه في العلم وقطره، أقام على ذلك برهة، ولأهل العلم بفوائده في كل وقت نزهة.
ولما توفي شيخ الشيوخ القاضي بدر الدين المالكي تولى هو مكانه، وقال له المنصب باستحقاقه،: كن، فكانه.
وأقام فيه قليلاً إلى أن حشرج صدره، وأفل من سماء الحياة بدره.
وتوفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعو دمشق.
وكان يعرب لديوان الإنشاء الكتب التي ترد عليه بالعجمية من البلاد الشرقية. وكان يقرئ الطلبة في البزدوي وابن الساعاتي وفي منهاج البيضاوي، وفي مختصر ابن الحاجب، وفي الحاجبية، وربما أقرأ في الحاوي الصغير للشافعية.
ولما توفي قاضي القضاة شرف الدين المالكي تولى هو مشيخة الشيوخ مكانه، وكان القاضي شرف الدين يأخذ من كل خانقاه في الشام في كل شهر عشرة دراهم، وفي كل يوم نصيبين. ولما تولى القونوي ذلك أبطله ولم يتناوله.
وكان فيه سكون زائد إلى الغاية رحمه الله تعالى. وممن قرأ عليه أخي إبراهيم رحمه الله تعالى في المنهاج للبيضاوي.
علي بن محمود بن إبراهيم
الشيخ الصدر الرئيس علاء الدين بن جوامرد الفراء.
كان رجلاً جيداً مشكور السيرة، يقصده الناس، ويقضي حوائجهم، قارب التسعين، وكان تاجر الخزانة، وله على ذلك معلوم.
توفي رحمه الله تعالى في سادس عشري المحرم سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، ودفن بجبل قاسيون.
علي بن مخلوف
ابن ناهض بن مسلم النويري، قاضي القضاة زين الدين أبو الحسن المالكي.
حكم بالديار المصرية نيفاً وثلاثين سنة.
سمع المرسي، وروى عنه. وسمع الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وغيرهما.
كان كثير المروة، غزير الفتوة، وافر الاحتمال، كثير الإحسان إلى أهل العلم والاشتغال، يكرم العدول، ولا يرى له عن تعظيمه عدول، قد درب الأحكام فصار ابن بحدتها وخبر فصل القضايا، ما تخفي علي وهدتها من نجدتها، وكان به لمصر فخار، وللمنصب به اشتهار.
ولم يزل على حاله إلى أن اعترف أجله بما جحد، وأصبح ابن مخلوف، ولم يخلفه أحد. وتوفي رحمه الله تعالى في حادي عشري شهر جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وسبع مئة.
ومولده بالنويرة من أعمال البهنسة أربع وثلاثين وست مئة. وأظن الشيخ صدر الدين بن الوكيل فيه يقول:
إلى مالك يعزونه ونويرة ... فلا عجب إن كان يدعى متمما
ولولا أن هذا البيت من المرقص لم أذكره هنا.
وتولى القاضي زين الدين بن مخلوف رحمه الله تعالى قضاء الديار المصرية في أواخر سنة خمس وثمانين وست مئة عقيب وفاة ابن شاش. ولما توفي هو رحمه الله تعالى تولى المنصب بعده قاضي القضاة تقي الدين ابن الأخنائي.
وكان السلطان الملك الناصر في سنة إحدى عشرة وسبع مئة قد عزل ابن مخلوف وأمر القاضي الشافعي أن يتخذ قاضياً مالكياً نائباً له من جهته ففعل ذلك ثم أعيد القاضي زين الدين بن مخلوف إلى مكانه.
علي بن مسعود بن نفيس بن عبد الله
الفقيه المحدث الصالح الزاهد نور الدين أبو الحسن الموصلي الحنبلي الحلبي نزيل دمشق.
سمع من أبي القاسم بن رواحة وغيره بحلب، ومن إبراهيم بن خليل.
قال شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى: وحدثني أنه سمع من يوسف بن خليل، ولم يظفر بذلك، وسمع بمصر من الكمال بن الضرير، والرشيد، ومن أصحاب البوصيري، وعني بالحديث ودرب قراءته، وكانت مفسرة نافعة، وحصل الأصول ثم ارتحل إلى دمشق، فأكثر عن ابن عبد الدائم والكرماني وابن أبي اليسر والموجودين.
وكان يجوع ويشتري الأجزاء ويقنع بكسرة فيسوء خلقه مع التقوى والصلاح، وقرأ كتباً مراراً.
وتوفي رحمه الله تعالى ثالث عشر صفر سنة أربع وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وثلاثين وست مئة.
ومات رحمه الله تعالى بالبيمارستان الصغرى.
علي بن المظفر
ابن إبراهيم بن زيد، الأديب البارع الكاتب الفاضل، المقرئ، المحدث، المنشئ، الناظم، علاء الدين الكندي الإسكندراني ثم الدمشقي المعروف بالوادعي، كاتب ابن وداعة.(2/108)
وتلا بالسبع على علم الدين القاسم، وشمس الدين بن أبي الفتح. وطلب الحديث، ونسخ الأجزاء. وسمع من عبد الله الخشوعي، وعبد العزيز الكفرطابي، والصدر البكري، وعثمان ابن خطيب القرافة، وإبراهيم بن خليل، والنقيب بن أبي الجن، وابن عبد الدائم، ومن بعدهم. ونظر في العربية.
وكان ناظماً غواصاً على المعاني، شاعراً قادراً على إحكام ما للأبيات من المباني. جود المقاطيع دون القصائد، وأتى في كل بدر العقود وجواهر القلائد، يغوص على المعاني ويغور، ويفوح أرج نظمه ويفور.
وكتب المنسوب الذي أزرت لآليه بياقوت، وأذكر الناس بما يروى من السحر عن هاروت وماروت، ما كأن طروسه إلا حدائق، ولا كأن حروفه إلا رياض بين العذيب وبارق، ولا كأن مداده إلا شعرات في صدغي غلام مراهق.
جمع المجاميع الأدبية، وانتقى الأحاديث النبوية، وله التذكرة الكندية التي بخانقاه الشميساطي تشهد بفضله، وتعترف بنباهته ونبله، وديوانه يدخل في مجلدين كبيرين، وقفت عليهما فأطرباني، وقلت للدف والشبابة بعدهما لا تقرباني، ولملكتهما فملكا قلبي، ووضعتهما بين كتبي، وقد سكنا خلبي وقد انتقيت منهما ما راق نظمه، و كمل بدره تمه، ومن ذلك قطعة وافرة في الجزء الثالث والثلاثين من التذكر التي لي.
إلا أنه كان يتشيع، ويتوعر بذلك في ألفاظه وما يتورع.
وكتب الدرج موقعاً بالحصون مدة طويلة، ثم دخل آخر عمره ديوان الإنشاء بدمشق، على رأي العوام، بألف حيلة، وكان هجاماً على الأعراض، هجاء للجواهر والأعراض، وكان الناس ينفرون منه لذلك، ويرون فضائله المضيئة كأنها الليل الحالك، ومع تفنن فضائله وتوسع رسائله لما دخل الديوان لا راح ولا جا، ولم يره الجماعة في باب الكتابة ولا جا، كما جرى لبعض الناس، وقال الجماعة للمتعجب: " ما في وقوفك ساعة من باس " ، حتى قلت أنا:
لقد طال عهد الناس بابن فلانة ... وما جاء في الديوان إلا إلى ورا
فقلت كذا كان الوداعي قبله ... ولا شك فيه أنه كان أشعرا
ولم يزل على اله إلى أن تحقق الوداعي من الحياة وداعة، واسترجع الأجل ماله عنده من وداعة.
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الأربعاء سابع عشر رجب سنة ست عشرة وسبع مئة.
ومولده سنة أربعين وست مئة تقريباً.
وتوفي ببستانه عند قبة المسجف.
قال شيخنا الذهبي: كان يخل بالصلوات فيما بلغني.
وكان شاهداً بديوان الجامع الأموي، وولي مشيخة الحديث بالنفيسية، وتولى نظر الصبية وبانياس فيما أظن، وأنشدني من لفظه القاضي شهاب الدين بن فضل الله ما كتبه على ديوان الوداعي رحمهما الله تعالى:
بعثت بديوان الوداعي مسرعاً ... إليك وفي أثنائه المدح والذم
حكى شجر الدفلى رواء ومخبراً ... فظاهره شم وباطنه سم
ولما شاع عنه كثرة الهجو تطلب القاضي نجم الدين بن صصرى ديوانه، و تذكرته من خانقاه الشميساطي، وكشط من ذلك أهاجي الناس، ولم يقدر على استيعاب ذلك، فإنني وجدت له بعد ذلك بخطه كثيراً.
وكان شيخاً مسناً، وله ذؤابة بيضاء إلى أن مات، ونقلت من خطه له:
يا عائباً مني بقاء ذؤابتي ... تالله قد أفرطت في تعييبها
قد واصلتني في زمان شبيبتي ... فعلام أٌطعها أوان مشيبها
قلت: نقل هذا من الحكاية التي تحكى عن بعض الوعاظ أنه طلع المنبر ووعظ والسلطان قد حضر ميعاده على كراهية له وهو يتكلم والمقص إلى جانبه والطواقي، والناس يصعدون إليه ويتوبون على يديه، فيقص شعورهم ويلبسهم الطواقي، فما كان إلا أن طلع إليه بعض خواص السلطان ممن يحبه ويهواه، وله ذؤابة سوداء مليحة طويلة، فتغير السلطان، و قال لمن يعز عليه: والله إن قطع شعر هذا المملوك لأقطعن يده، فلما صعد إلى الواعظ علم أنه قد وقع في خطر، فأخذ شعره في يده، وأخذ يفكر في خلاصه من تلك الورطة، وشغل المجلس بأشعار وحكايات، ثم قال: يا جماعة! أتدرون ما يقول لسان حال هذه الذؤابة، فقالوا له: ما يقول؟ قال: يقول: أنا كنت معه في زمن المعصية بالله لا تفرق بيني وبينه في زمن الطاعة، انزل روح يا سيدي، فأعجب السلطان ذلك والناس، ووقع كلامه منهم بموقع جد.
وإنما سمي علاء الدين الوداعي، لأنه كان يكتب للصاحب علاء الدين بن وداعة، ولذلك قال، ونقلته من خطه:(2/109)
ولقد خدمت الصاحب ابن وداعة دهراً طويلاً
فلقيت منه ما التقى ... أنس وقد خدم الرسولا
وأنشدني شيخنا شمس الدين الذهبي، قال: أنشدنا المذكور من لفظه لنفسه، ونقلته أنا من خطه:
من زار بابك لم تبرح جوارحه ... تروي محاسن ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والأذن عن حسن
ونقلت منه ما كتبه لبعض أصحابه بمصر:
رو بمصر وبسكانها ... شوقي وجدد عهدي البالي
وصف لي القرط وشنف به ... سمعي وما العاطل كالحالي
وارو لنا يا سعد عن نيلها ... حديث صفوان بن عسال
فهو مرادي لا يزيد ولا ... ثورا وإن رقا وراقا لي
ونقلت منه:
وزائر مبتسم ... يقول لما جا: أنا
فقال أيري منشداً ... أهلاً بتين جاءنا
قلت: يشير إلى قول الشاعر:
أهلاً بتين جاءنا ... مفتح على طبق
كسفرة من أدم ... مجموعة بلا حلق
ونقلت منه له:
لله ما أرشقه من كاتب ... ليس له سوى دموعي مهرق
يميس رقصاً في قباء أسود ... فقلت: هذا ألف محقق
ونقلت منه له:
وذي دلال أحور أجحر ... أصبح في عقد الهوى شرطي
طاف على القوم بكاساته ... وقال: ساقي، قلت: في وسطي
ونقلت منه له:
ولم أرد الوادي ولا عدت صادراً ... مع الركب إلا قلت: يا حادي النوق
فديتك عرج بي وعرس هنيهة ... لعلي أبل الشوق من آبل السوق
ونقلت منه له:
سقيا لكرم مدامة ... أنشت لها النشوات ليلا
خلعت علينا سكرة ... بدوية كما وذيلا
ونقلت منه له:
ويوم لنا بالنيربين رقيقة ... حواشيه خال من رقيب يشينه
وقفنا فسلمنا على الدوح غدوة ... فردت علينا بالرؤوس غصونه
ونقلت منه له:
ذكرت شوقاً وعندي ما يصدقه ... قلب تقلبه الذكرى وتقلقه
هذا على قرب دارينا ولا عجب ... فالطرف للطرف جار ليس يرمقه
قلت: أخذه من قول الأول، والأول أحسن:
لئن تفرقنا ولم نجتمع ... وعاقت الأقدار عن وقتها
فهذه العينان مع قربها ... لا تنظر الأخرى إلى أختها
ونقلت من خطه له:
الغرب خير وعند ساكنه ... أمانة أوجبت تقدمه
فالشرق من نيريه عندهم ... يودع ديناره ودرهمه
وقال أيضاً:
حوى كل من الأفقين فضلاً ... يقربه الغبي مع النبيه
فهذا مطلع الأنوار منه ... وهذا منبع الأنوار فيه
قلت: أخذ الوداعي معناه الأول وبعض الثاني من قول القاضي الفاضل رحمه الله تعالى: " وتلك الجهة وإن كانت غربية فإنها مستودع الأنوار وكنز دينار الشمس ومصب أنهار النهار " .
ونقلت من خطه له:
رمتني سود عينيه ... فأصمتني ولم تبطي
وما في ذاك من بدع ... سهام الليل ما تخطي
ونقلت منه له وظرف:
لنا صاحب قد هذب الطبع شعره ... فأصبح عاصية على فيه طيعا
إذا خمس الناس القصيد لحسنه ... فحق لشعر قاله أن يسبعا
ونقلت منه له:
قل للذي بالرفض أتهمني أضل الله قصده
أنا رافضي لاعن الشيخين والده وجده
ونقلت منه له:
ولا تسألوني عن ليال سهرتها ... أراعي نجوم الأفق فيها إلى الفجر
حديثي علا في السماء لأنني ... أخذت الأحاديث الطوال عن الزهري
ونقلت منه له:
امرؤ القيس بن حجر جدنا ... كان من أعجب أملاك الزمان
ضل لما ظل يبغي ملكهم ... وهدى الناس إلى طرق المعاني
ونقلت منه له:
كم رمت أن أدع الصبابة والصبا ... فثنى الغرام العامري زمامي
بذوائب ذابت عليها مهجتي ... ومناطق نطقت بفرط سقامي
ونقلت منه له:
تأمل إلى الزهر في دوحه ... ومن زاره من ملاح الفتون(2/110)
تظن الوجوه التي تحته ... تساقطن من فوقه من عيون
ونقلت منه ما قاله في رأس العين ببعلبك:
لله در العين ليلة زرتها ... فوجدتها راقت ورقت مشرعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا
ونقلت منه له:
يا عاذلي في وحدتي بعدهم ... وأن ربعي ما به من جليس
وكيف يشكو وحدة من له ... دمع حميم وأنين أنيس
ونقلت منه له:
قسماً بمرآك الجميل فإنه ... عربي حسن من بني زهران
لا حلت عنك ولو رأيتك من بني ... لحيان لا بل مني بني شيبان
ونقلت منه له:
قلت وقد ماس في الكسا رشاً ... يخجل بدر التمام حين بدا
إن الكسائي لم يمل أبداً ... أحسن من قده إذ أبدا
ونقلت منه له:
أدام الله أيام العذار ... وبارك في لياليه القصار
وأغنى الله روضة كل خد ... إذا استحيت من الديم الغزار
ولا زالت مباسم كل ثغر ... لشائم برقا ذات افترار
ولا برحت على العشاق تصفو ... ثياب العار في خلع العذار
قلت: قد حذا حذو شمس الدين بن العفيف التلمساني حيث قال وهو ألطف:
أعز الله أنصار العيون ... وخلد ملك هاتيك الجفون
وضاعف بالفتور لها اقتداراً ... وإن تك أضعفت عقلي وديني
وأسبغ ظل ذاك الشعر يوماً ... على قد به هيف الغصون
وصان حجاب هاتيك الثنايا ... وإن ثنت الفؤاد إلى الشجون
وخلد دولة الأعطاف فينا ... وإن جارت على قلبي الطعين
وقول شمس الدين محمد أيضاً:
أدام الله أيام الجمال ... وخلد ملك هاتيك الليالي
وأسبغ ظل أغصان التداني ... وزاد قدودها حسن اعتدال
ولا زالت ثمار الأنس فيها ... تزيد لطافة في كل حال
ولا برحت لنا فيها عيون ... تغازل مقلتي خشف الغزال
ونقلت من خطه له:
تعجبوا من أدمعي إذ غدت ... بيضاً وكانت من دم قان
لا تعجبوا طرفي رب الهوى ... وكل يوم هو في شان
ونقلت منه له:
قلت للعاذل المفند فيها ... حين وافت وسلمت مختاله
قم بنا ندعي النبوة في العشق فقد سلمت علينا الغزاله
ونقلت منه له أيضاً في شاهد:
قضيت نجبي في هوى شاهد ... أصبح عدل القد بين القدود
وليس لي من أمره مخلص ... وهكذا القاضي أسير الشهود
قلت: كان ينبغي أن يأتي بالتوطئة بذكر القاضي ليكون المثل كاملاً.
ونقلت منه له:
متى أرى النفس التي ... من بعدهم قد نحلت
تفتح أبواب الهنا ... إن هي إليهم قفلت
علي بن معالي
الصدر الفاضل علاء الدين الأنصاري الحراني ثم الدمشقي المعروف بابن الزريزير الكاتب الحيسوب. كان مشكوراً، وانتفع به جماعة.
مات عن نحو أربعين سنة فجأة بدمشق في ثالث عشري صفر سنة خمس وسع مئة، ودفن بسفح قاسيون.
علي بن مقاتل
علاء الدين التاجر الحموي، صاحب الأزجال المشهورة.
تفرد بنظم الأزجال في آخر عمره، وتحكم في فنها نبهية وأمره، وأتى بغرائب الصنعة واللزومات التي تضيق فيها على العوالي الرقعة، بحيث إنه أكثر من أنواعها، واستعمل أعوانها في مد أبواعها، وله شعر أيضاً إلا إنه في ذاك أمهر، وأزجاله أشهى إلى القلوب وأشهر.
اجتمعت به في حماة وفي دمشق غير مرة، وجلا علي من بنات فكره كل خريدة كأنها للشمس ضره، وديوانه يدخل في مجلدين، ويراهما أرباب هذا الفن في جنات الصدور مخلدين.
ولم يزل على حاله إلى أن قتل ابن مقاتل، ولم يقدر في معرك المنية على أن يخاتل.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل سنة إحدى وستين وسبع مئة بحماة المحروسة.
ومولده بها في سنة أربع وستين وست مئة.
أنشدني كثيراً من أزجاله وأشعاره، ونقلت من خطه:
ومليح عمه الحسن بخال مثل حظي
وقع البحث عليه ... بينه وبين لفظي
قال هذا خال خدي ... قلت بل ابن أخت لحظي(2/111)
ونقلت منه له:
إن الخراساني لما حوى ... حلاوة الإيمان من خوفه
فضله الله على غيره ... أما ترى قلبين في جوفه
ونقلت منه له:
إن كانون في الكوانين أمسى ... وبه حفلة من النيران
كصديق له ثلاث وجوه ... كل وجه منها بألف لسان
ونقلت منه له:
يا مرقصاً يا مطرباً غنى لنا ... أنعم لإخوان الصفا بتلاقي
فلقد رميت مقاتل الفرسان بين يديك عند مصارع العشاق
ونقلت منه له:
خدود وأصداغ وقد ومقلة ... وةثغر وأرياق ولحن ومعرب
ورود وسوسان وبان ونرجس ... وكأس وجريال وجنك ومطرب
ونقلت منه له الأول تصحيف الثاني:
شفائي وجناتي حبيب بسربه ... لعوب بمرج تفرج البأس شيمته
سقاني وحياني حييت بشربة ... لغوت بمزح تفرح الناس سيمته
ونقلت منه له:
أسهرتني مليحة أسهرتني ... طول ليلي ظلامه الطرف يعشي
والسهى خيفة الغراق من السقم مسجى على بنيات نعشي
والثريا كأنها راحة تلطم خد المريخ والجو مغشي
ونقلت منه له:
فضوا كتابي واعذروا فأناملي ... منها اليراع إذا ذكرتم يسقط
والقلب يخفق لا ضطراب مفاصلي ... والخط يشكل والمدامع تنقط
قلت: أحسن منه وأجزل وأمتن قول ابن الساعاتي:
بتنا وعمر الليل في غلوائه ... وله بنور البدر فرع أشمط
والطل في سلك الغصون كلؤلؤ ... نطم يصافحه النسيم فيسقط
والطير يقرأ والغدير صحيفة ... والريح تكتب والغمام ينقط
ونقلت منه له:
لا تنكروا حمرة خطي وقد ... فارقت من أحباب قلبي جموع
فإنني لما كتبت الذي ... أرسلته رملته بالدموع
ونقلت منه دوبيت في كل كلمتين قلب نفسها:
الخل خلا من نمعانق بقناعقانع بعناقألف لا عاد وداع
ما دام معانق ناعمعاش شاعألمى يملا ما أمعاطى وأطاع
ونقلت منه له موالياً:
على وفاكي وفاكي كم ذهب من عين ... وفي شفاكي شفاكي للذي بوعين
ما أحلى وماكي وماكي نبع أعذب عين ... وقد حماكي حماكي أن تراكي عين
ونقلت منه له موالياً:
قال الذي من يراه الطرف ما يسني ... أنا الذي إن نظرت بالبدر ما يسني
والغصن يا خجلتو إن قام ما يسني ... وعاشقي إن هجوتو شهر مايسني
ونقلت منه له أيضاً:
كلمت من لو بقلبي ألف تكليمة ... بسيف لحظو الذي ما فيه تثليمه
وقلت بعد الوفا تبخل بتسليمة ... أرخصت دمعي وما تغلى بتعليمه
وكان قد أنشدني لنفسه بحماه زجلاً وهو:
قلبي يحب تياه ... ليس يعشق إلا إياه
فاز من وقف وحياه ... يرصد على محياه
بدر السما ويطبع ... من راد وصالو يعطب
صغير بحير في أمرو ... غزال قمر بشحرو
ليث الهوى ونمرو ... فاعجب لصغر عمرو
ريم ابن عشر وأربع ... أردى الأسود وأرعب
نذكر نهار تبعتو ... وروحي كنت بعتو
خيب ما كان طمعتو ... وقال كلام ما سمعتو
ارجع ولي لا تتبع ... نخشى عليك لا تتعب
كم قدامو وخلفو ... مشيت مطيع لخلفو
وقصدي لثم كفو ... قال دع مناك وكفو
فلثم كل إصبع ... من الثريا أصعب
ما زلت لو نداري ... حتى حصل في داري
ناديت ودمعي جاري ... أيش لو تكون يا جاري
تدعني من فيك أشبع ... قال أيش يكون لك أشعب
من في الجمال فريدو ... للصب من وريدو
يذبح وهو يريدو ... وكم ذا شيخ مريدو
خلاه ودمعو يبلغ ... وهو بعقلو يلعب
من حاز في حسنو خدجو ... لحظو لقتلي حدو(2/112)
وورد خدو ندو ... ما في الرياض شي ندو
روض بالحيا مبرقع ... عليه سياج معقرب
كم خصم في المقاتل ... صابو ابن مقاتل
وكم ذا في المحافل ... قد أنشا غصن حافل
من كل بيت في مربع ... ملحون بألف معرب
فأعجبني هذا الذي فيه من قلب البعض في أغصانه وبعد حين خطر لي نظم شيء في هذا فقلت أنا وجعلت جميع قوافيه مقلوب البعض:
قلبي لو صلو ترقب ... وبالخضوع لو تقرب
وربع صبري تعرقب ... حين رأى عذار وتعقرب
ترجم جمالو وعبر ... وزان لشكو وعرب
في حسن حبي غرايب ... للعشق فيها رغايب
سرت إليها النجايب ... من الصبا والجنايب
رآه عاذلي فيه كبر ... وقام لعذري وركب
جيدو على الظبي راجح ... واللحظ من طرفو جارح
تراه إلى الصد جانح ... وعاشقو ليس هو ناجح
من صغر سنو تكبر ... وعاشقو قد تكرب
حكم الهوى منو قاسط ... وحظي من وصلو ساقط
مانا من الرحمة قانط ... والدمع من فوق خدي ناقط
لمن طغى أو تجبر ... يندم وهذا تجرب
غدا بوصلو مبخل ... خلاني كيف ريت مخبل
وأسرع في قتلي ما أمهل ... وعم سقمي وما أهمل
والدمع في الخد بحر ... والصدر للهم رحب
تراه يزيد في جمالو ... مالو نظير في مجالو
رأى ابن يعقوب لجالو ... كونو فريد في جلالو
في طلعة الشمس غبر ... وفي السيادات غرب
وفا وعودو تعود ... وما يفي إن توعد
كم راحة من كفو أوجد ... لنو من الغيث أجود
أبطل حسودو وأبطر ... ومدحو للسمع أطرب
لفن الإنشا ضراعه ... لو من زمان الرضاعه
وفي كلامه صناعه ... فيها بديع ونصاعه
ترسلو الحلو بور ... غيرو وعن مثلو ورب
كم من طويل فصل لخص ... ومن عق لفظ خلص
والخير كم فيه ترخص ... والحق قال ما تخرص
والملك بو قد تدبر ... والدهر بوقد تدرب
راح للحجاز وترفق ... بالناس ومالو تفرق
وحوض سيلو مروق ... وأمسى وجفنو مورق
يتلو وصار أشعث أغبر ... وعزمو أكبر وأرغب
شيخ الشيوخ لو مخايل ... تقول رياض أو خمايل
لو جاد في قفر ما حل ... كان تبصر السيل حامل
من أبصر وراح مبشر ... بوجه أبيض مشرب
ولما نظمت هذا الجزل كان في دمشق في أوائل سنة ست وخمسين وسبع مئة، وسمع بي، فجاء إلي وطلب الوقوف عليه، فأوقفته، فبهت له، وأنشدني له أشياء من هذا النوع، ولكنه لم يلتزم ذلك في جميع القوافي.
ولما وقف عليه الإمام مجير الدين محمد بن الحسن بن الشهرزوري كتب لهو إلي:
دمعي بأسراري خبر ... وربع سلواني خرب
في من لهجرو تبشر ... وللأعادي تشرب
خبر بأسرار دمعي ... ولم يجبيني وما ادعي
في حب أصلي وفرعي ... أعليه وما يهوى رفعي
عن مقلتي شخصو بذر ... ونطقو في مقتي ذرب
يا من هو لي مني سالب ... صدغيك عقربها لاسب
يا ولدي خالقك راقب ... فيا وسادد وقارب
سيف هجرك القلب هبر ... وعسكر الصبر هرب
يا أحلى الخلائق وأملح ... شخصك ترى يوم ألمح
ولي تجود وتسمح ... وأرضك أجفاني تمسح(2/113)
هجرك بترني وتبر ... وخدي بالذل ترب
يا أحصف الناس وأفصح ... عن زلتي بالله أصفح
واغنم ثوابي واربح ... فعن هواك ليس أبرح
ما دام خدك معبقر ... وشعر صدغك معقرب
ازي رأى حبي أمرد ... ما ارجع يرى طرفو أرمد
الآس ترى أو زمرذ ... عذار هذا المزرد
طرز خدودو وحبر ... وحير الناس وحرب
أي من تصبح بخالو ... يزول عنو خبالو
لو رآه مشبه لخالو ... سيدي خليل في خلالو
لما غدا قدرو أكبر ... قلوب حسادو أكرب
أبو الصفا خير منشي ... إليه على رأسي نمشي
ترسلو الحلو حوشي ... من حشو ولفظ وحشي
فيه كيف أقبل وأدبر ... من سائر الناس هو أدرب
لو عاين ابن المقفع ... بيانو أضحى مفقع
وفي الكلام ما تشبع ... وكان بروح تبشع
لفظو في الآذان أغبر ... وأقعد فصاحة وأغرب
شعرو على الشعرى باسق ... وفحلو في النظم سابق
ما يلحقو قط لاحق ... قد اعتلى فوق حالق
مية ألف نظام يقبر ... ما يطيق منو يقرب
ولو رأى ابن هلالو ... خطر المعجز لهالو
للبحتري أو لخالو ... لوجا مكانو خلالو
لنو للأوزان أسبر ... وفي قوافيها أسرب
بقى إلى ظلو يهرب ... ودام يرجا ويرهب
ومن يجاريه يتعب ... وما ينالو ويعتب
ومن يعاديه يغبر ... ومن يواليه يرغب
عبدو المجيرحين تشرف ... ومن كلامو ترشف
زبب وما بعد نصف ... وجاز حدود وصنف
دمعي بأسراري خبر ... وربع سلواني خرب
وأنشدني علاء الدين بن مقاتل لنفسه:
يا من قطع أوصالي ... ولي نار فراقو صالي
يوسف بالجمال أوصى لك ... وأبوه بالحزن أوصي لي
ما أصبرني عليك من عاشق ... وما أقساك عليه معشوق
حاجبك بقوسو راشق ... وقلبي بنبلو مرشوق
فسبحان تبارك ما شق ... ألف ذا القوام الممشوق
قد أخلصت فيك أعمالي ... وعلقت بك أمالي
وذل الجمال راس مالك ... والصبر الجميل راس مالي
يا من خلى دمعي جاري ... وأوقف حالي الله جارك
ارعى لي الوداد يا جاري ... بالذي من السوء جارك
وقلبي بوصلك داري ... ولو فرد يوم في دارك
تستفيد شيء من أشغالي ... يا غريز عليه غالي
قال إياك يكون أشغالك ... بحال تاجر البرغالي
إن كان المعاشق جندك ... فأنا العاشقين من جندي
ولي حاجة سهلة عندك ... رقاد ليله تنتين عندي
وفوق عنقي تجعل زندك ... ومن تحت عنقك زندي
وأنشدك شيء من أغزالي ... في جدي وفي أهزالي
قال من حالك رقيق أغزالك ... قلتو جفنك الغزالي
قال فمن ذا حلاً لفظك ... قلت من ما أحلى لفظو
فيا ترى إيش حال حظك ... قلت يا سعيد في حظو
فيه شوي سواد من لحظك ... يا من حد صارم لحظو
فولاد ومجوهر حالي ... ولفظو مكرر حالي
ما دام سعد حالك حالك ... عن وصلي فحالي حالي
ارحم يا من الله حبو ... مجنون في سلاسل حبك
مسكين قد تفطر لبو ... وما ذاق خميرة لبك(2/114)
ودمعو عليك قد صبو ... لهذا يسمى صبك
ولو كنت بالنار سالي ... قلبو ما هو عنك سالي
فقل ليمن فيه سالك ... ما لو خرجه من سلسالي
عندي لك فعال مخصومه ... وعندك فعالي خصه
وروحي معك مغصوصة ... وتجرعت فيك كم غصه
وأخباري عليك مقصوصه ... ولا بد لي من قصه
ترفع للجناب العالي ... وأشكو للقوي المتعالي
عسى بصلاح أفعالك ... يمتزج فساد أفعالي
زرني يا مليح بحياتي ... قال لا والله فوق وحياتك
قلت أنا أعشقك من ذاتي ... قال واش كنت أنا من ذاتك
قلت ما تطيب أوقاتي ... بغير ساعة من أوقاتك
فاجعل الوصال متوالي ... وكن في علي موالي
قال ما أقدر أجي لك والك ... قلت أيوه تجي بالوالي
علي بن مقلد
علاء الدين حاجب العرب في أيام الأمير سيف الدين تنكز، كان راجلاً طويلاً، أسمر اللون كحيلاً، يتحنك بعمامته، ويتقلد بسيفه طول قامته، ويلبس الثياب الطويلة المفرجة، ويسلك الطريقة التي هي عن العربان فحرجه، يتبادى في كلامه، ويتباده في معاجلة تحيته وسلامه.
قربه تنكز وأدناه، ومكنه فعناه وأغناه، وصارت له في الدولة وجاهة زائدة، ومكانة؛ إلا أنها كانت إلى الهلاك قائده، وزاد في طغواه، وأرخى له الدهر أعنة هواه دون تقواه، فطار في غير مطاره، ونال نهايات أمانيه، وأوطاره، إلى أن تنكر تنكز له، فلبس له جلد النمر، وصبحه بصوب من سوط عذاب منهمر، فقتله بين يديه بالمقارع إلى أن تهرا، وتفصل جلده وتفرى، ثم كحله فأعماه، وقطع لسانه فأصماه.
فما كان بأسرع من ولوج الحمام حماه، ونفاذ السهم الذي قصده الحتف به ورماه.
وتوفي رحمه الله تعالى في أوائل شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة.
حكى لي علاء الدين بن مقلد من لفظه، قال: توجهت إلى الرحبة في شغل، فعدت وقد حصل لي ثمانية عشر ألف درهم، أو قال: خمسة عشر ألف درهم، من العربان، ولم أذكر أنا هذا القدر إلا أن هذا في أيام الأمير سيف الدين تنكز، كان فرطاً عظيماً لا يصل إليه أحد في أيامه. وكان ابن مقلد رحمه الله تعالى قد زاد في التعاظم والتيه والكبرياء، فلو جاءه علي بن مقلد صاحب شيزر لقال: هذا شي زري لا شيزري، ولكنه أقام على هذا القدم مدة طويلة، وكان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى يسأل عنه من دواداره ناصر الدين، ويقول له: هذا ابن مقلد ما يعجبني حاله، وربما أنه يشرب النبيذ. فيقول ناصر الدين الدوادار: ما أظن ذلك ولا يقدر يفعله وحاجه فيه مرات، فلما كانت واقعة حمزة التركماني المقدم ذكره ودخوله في أمر ناصر الدين الدوادار، وما أوحاه في حقه وحق جماعته، خرج لوالي المدينة وقال له: أريد منك أن تكبس ابن مقلد، فكبسه تلك الليلة، وعنده جماعة نسوة وحرفاؤهن، ولما أصبح دخل حمزة إلى تنكز وعرفه الصورة، فأحضر الدوادار وأنكر عليه ووبخه وعنفه، وكان ذلك سبب الإيقاع به، وأحضر ابن مقلد وقتله بالمقارع قتلاً عظيماً إلى الغاية، وكحله، واعتقله في قلعة دمشق، فبلغه عنه كلام لا يليق، فقطع لسانه من أصله، وأحضر إليه على ورقة، فمات فيما أظن من ليلته بعد ما سلب نعمة عظيمة، ورتبة مكينة، وجاهاً طويلاً عريضاً، نسأل الله خاتمة خير في عافية.
علي بن منجا
ابن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي، الشيخ الإمام الفقيه البارع، قاضي القضاة علاء الدين أبو الحسن ابن الشيخ زين الدين أبي البركات ابن القاضي عز الدين أبي عمرو بن وجيه الدين أبي المعالي الحنبلي، قاضي دمشق.
ذكرت جماعة من أهل بيته في هذا التاريخ، وحدث عن ابن البخاري، وابن شيبان، وطائفة.
هو من بيت سعادة وحشمة، وسيادة ونعمة، وفتوى وفتوة، ومكارم للناس مرجوه، وأياد متلونة الأنواع متلوه.
من تلق منه تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يس بها الساري(2/115)
وكان هذا القاضي علاء الدين كثير الرئاسة، غزيز السياسة، لا يكاد أحد يسبقه إلى عزاء ولا هناء، ولا ينزل من مضارب الرئاسة إلا في خباء مروءة وحياء، يود من يعرفه ومن لا يعرفه، ويسعف الخصم في الحق ولا يعسفه:
منجذ من بني المنجا ... نال من الفضل ما ترجى
أسرع في نيل كل مجد ... وهم في قصده ولجا
فصار بحراً في العلم يصفو ... ولم ير الوصف منه لجا
ولم يزل على حاله المرضية، وأوامره المقضية، إلى أن وقع ابن المنجا في شرك المنية وما نجا، وكاد النهار يكون لقده دجا.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الخميس سابع شعبان سنة خمسين وسبع مئة.
وتولى القضاء بعد قاضي القضاة جمال الدين المرادوي الحنبلي.
نقلت مولده من خطه ليلة نصف شعبان سنة سبع وسبعين وست مئة.
وكان قد لبس تشريفه بقضاء قضاة الحنابلة بدمشق يوم الأربعاء حادي عشر شهر رجب الفرد سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة.
وكان رحمه الله تعالى كثير الرئاسة والحشمة، قل أن يسبقه أحد إلى هناء أو عزاء، ويشارك أهل العزاء والهناء في شأنهم. ولما توفي فتاي مراد حضر إلي إلى البيت وعزاني فيه، وتوجه إلى الجامع، وصلى عليه في الجامع الأموي، وتوجه إلى مقابر الصوفية، ووقف على قبره حتى دفن. ولما انصرف الناس وقف لهم، وشيعهم، وتشكر لهم حتى أخجلني من كثرة إحسان وتوجعه وتفجعه، ولذلك قلت أنا فيه:
لم لا أسح دموعي في رزية من ... قد كان يزهى على بدر السما تيها
وقد رماني القضا فيه بنائبة ... قاضي القضاة أراه نائبي فيها
علي بن منصور بن محمد بن المبارك
شمس الدين بن الإسنانئ المعروف بابن شواق الطبيب، بالشين المعجمة والواو المشددة، وبعدها ألف وقاف.
اشتغل بالطب، وناب في الحكم بأصفون وغيرها، وأخذ الطب عن ابن بيان، ومهر فيه واشتهر بالمعرفة، وكان يتبارك بطب المكرم دون شمس الدين هذا، فقيل له في ذلك، فقال: المكرم يطلب في ابتداء الأمراض، وفي الأمور السهلة، وأنا ما أطلب إلا إذا أيس من المريض، وإذا كان المرض مخوفاً.
وكان حسن الخلق.
توفي رحمه الله تعالى بعد التسعين وست مئة.
علي بن نصر الله
ابن عمر بن عبد الواحد القرشي المصري الشافعي، الشيخ الإمام الفاضل الخطيب المعمر المسند نور الدين أبو الحسن.
كان خطيب قرية بظاهر القاهرة، روى أكثر صحيح النسائي عن عبد العزيز بن باقا، وسمع أيضاً من جعفر الهمذاني، والعلم بن الصابوني، وأجاز له أبو الوفا بن مندة، وأبو سعيد المديني، وعدة.
وتفرد، ورحل الناس إليه، وكان خاتمة من سمع شيئاً من ابن باقا.
وسمع منه شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى والواني، وابن خلف، وابن المهندس، وابن حرمي، وعدة. وظهر للناس بعد رحلة شيمها الذهبي من مصر، وأثنى الناس عليه.
وتوفي رحمه الله تعالى ثاني عشري شهر رجب سنة اثنتي عشرة وسبع مئة عن نيف وتسعين سنة.
علي بن هبة الله
ابن أحمد بن إبراهيم بن حمزة نور الدين بن الشهاب الإسنائي.
كان فقيهاً مفتياً، سمع الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والحافظ عبد المؤمن، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة. وحفظ مختصر مسلم للحافظ المنذري، وأخذ الفقه عن الشيخ بهاء الدين هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل القفطي، والشيخ جلال الدين أحمد الدشناوي.
وبرع في الفقه وأفتى وسلك في العلم طريقاً " لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً " وكتب الروضة في مكة بخطه، واجتهد في ذلك فحصل له المراد على شرطه، وكان يستحضر أكثرها وغالبها، ويرغب بمعرفته فيها طالبها.
وهو أول من أدخل الروضة إلى قوص، وجعل قدرها بذلك صحيحاً غير منقوص، ودارت عليه الفتوى، وكان فيها مسدداً، ودر علومه مجموعاً في ذهنه لا مبدداً.
وكان أماراً بالمعروف ونهاء عن المنكر، كم وعظ غافلاً عن نفسه وكم ذكر.
وكان مهيباً مع اتضاعه، سامياً في قدره، يرى النجم في أفقه أنه دون ارتفاعه، يتهجد في دياجيه، ويخاطب من يعلم سره ونجواه فيناديه ويناجيه.
ولم يزل على حاله إلى أن تسجى، وانقطع ما أمل وترجى.
وتوفي رحمه الله تعالى بقوص سنة سبع وسبع مئة.(2/116)
ودرس بالعزية بقوص والمدرسة المجدية ورباط ابن الفقيه نصر. ودرس بدار الحديث بقوص، وتزوج بأخت الصاحب نجم الدين الأصفوني.
ولما توفي الصاحب طلب أصحابه فهرب الشيخ وتغيب سبعين يوماً، فحفظ فيها المنتخب في الأصول.
وكان بعض النصارى قد أسلم وله ولد نصراني وأولاد ولد أطفال، فقام في إلحاقهم بجدهم، وأفتى بذلك متبعاً ما حكاه الرافعي عن بعضهم، و قال إنه الأقرب، وجرى في ذلك صراع كثير، وألحق بعضهم بجده، فقيل إن النصارى تحيلوا وسقوه سماً، فحصل له ضعف وإسهال، فمات رحمه الله تعالى.
علي بن يحيى
ابن علي بن محمد بن أبي بكر، الشيخ الفقيه المقرئ العالم المسند علاء الدين، أبو الحسن التجيبي الشاطبي الدمشقي الشافعي الشاهد.
سمع من الرشيد بن مسلمة، والمجد الإسفرايني، والرشيد العراقي، والنور البلخي، واليلداني، والجمال الصوري، وعدة، وأجاز له ابن الجميزي وغيره، وخرج له الشيخ صلاح الدين العلائي، وطال عمره، وتفرد، وروى الكثير، وكان له مسجد وحلقة ومدارس، وعجز آخراً وانقطع، وكان يسمع في القباقبيين.
وتوفي رحمه الله سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة.
ودرس بالعزية بقوص والمدرسة المجدية ورباط ابن الفقيه نصر. ودرس بدار الحديث بقوص، وتزوج بأخت الصاحب نجم الدين الأصفوني.
ولما توفي الصاحب طلب أصحابه فهرب الشيخ وتغيب سبعين يوماً، فحفظ فيها المنتخب في الأصول.
وكان بعض النصارى قد أسلم وله ولد نصراني وأولاد ولد أطفال، فقام في إلحاقهم بجدهم، وأفتى بذلك متبعاً ما حكاه الرافعي عن بعضهم، وقال إنه الأقرب، وجرى في ذلك صراع كثير، وألحق بعضهم بجده، فقيل إن النصارى تحيلوا وسقوه سماً، فحصل له ضعف وإسهال، فمات رحمه الله تعالى.
علي بن يحيى
ابن علي بن محمد بن أبي بكر، الشيخ الفقيه المقرئ العالم المسند علاء الدين، أبو الحسن التجيبي الشاطبي الدمشقي الشافعي الشاهد.
سمع من الرشيد بن مسلمة، والمجد الإسفرايني، والرشيد العراقي، والنور البلخي، واليلداني، والجمال الصوري، وعدة، وأجاز له ابن الجميز وغيره، وخرج له الشيخ صلاح الدين العلائي، وطال عمره، وتفرد، وروى الكثير، وكان له مسجد وحلقة ومدارس، وعجز آخراً وانقطع، وكان يسمع في القباقبيين.
وتوفي رحمه الله سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست وثلاثين وست مئة.
علي بن يحيى بن عثمان
ابن أحمد بن أبي المنى محمد بن نحلة، الشيخ علاء الدين بن نحلة.
كان مدرس الدولعية بدمشق والمدرسة الركنية. وباشر نظر ديوان بيت المال إلى أن مات رحمه الله تعالى في ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وكان صدراً عاقلاً رئيساً، حفظ المحرر في الفقه للشافعيه، ولازم الشيخ زين الدين الفارقي مدة، وكان مواظباً على لزوم الجماعة والتردد إلى الفقراء والصالحين، وله ورد من التلاوة. وروى جزء ابن الفرات عن ابن عبد الدائم، وسمع من غيره. وعمر داراً مليحة إلى جانب الركنية، ومات بعد فراغها بمدة يسيرة.
علي بن يحيى بن إسماعيل بن القيسراني
القاضي علاء الدين ابن القاضي شهاب الدين ابن القاضي الصدر الكبير عماد الدين.
نشا في حياة والده، ودخل ديوان الإنشاء في دمشق في أواخر أيام سيف الدين تنكز، وقطع بعده، ثم إنه استخدمه الفخري.
وكان شاباً عاقلاً، ساكناً متثاقلاً، كثير الصمت، بهي السمت، كتب جيداً في قلم الرقاع، وروض به الطروس، فكانت كالزهر النابت في أخصب البقاع، واشتغل وحصل، واجتهد في طلب الأدب وأصل.
وكان والده يجتهد عليه، ويود لو ساق الفضائل بأزمتها إليه. وكان في ذهنه وقفة تقصر به عن اللحاق، وتجعل بدر فضله مخصوصاً بالمحاق؛ إلا أنه حفظ الحاجبية والمعلقات بعد القرى، العظيم، وأحرز غير ذلك في عقده النظيم.
ولم يزل على حاله إلى أن أذوى الموت زهرته الغضة، وجعل الدموع من الحزن عليه مرفضة.
وتوفي رحمه الله تعالى.... من شعبان سنة ثلاث وخمسين وسبع مئة.
كان قد مرض مرضة طول فيها، وأقام قريباً من سنة، ثم إنه حصل له استقاء، ولوالده رحمهما الله تعالى، ومات والده قبله بشهر، وأفاق هو، ثم إنه نقض الاستسقاء عليه ومات.(2/117)
وكان بعد إمساك تنكز، قد منع من مباشرة كتابة الإنشاء بدمشق، ولما جلس الفخري في القصر الأبلق استخدمه، فكتبت له توقيعاً ارتجالاً، ونسخته:
رسم بالأمر العالي لا زال وليه علياً، وحفيه بكل خير ملياً، وصفيه تقر به السيادة من الدول نجياً، أن يعاد المجلس السامي القضائي العلائي إلى كتابة الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة، لأنه من قوم كل منهم كريم. وكاتب ورئيس، إذا ابتدع في المعالي طريقة لم يكن له فيها تابع ولا عاتب، ومدبر لم يرتب الزمان أن ذكر مجدهم المؤثل فيه راتب، نشأت أصولهم في رياض بلاغة ووزارة، وسارت محامدهم في الآفاق فأخجلت الكواكب السيارة، وجرت بسعودهم التي ورثوها من جدودهم الأفك المدارة. وسكن الزمان بجبال حلومهم الراسخة بعد الطيش، واستغنى الملوك بكتبهم عن تجهيز الكتائب إلى كل جيش، وطابت أنفاس السحر برياهم؛ لأن بني مخزوم ريحانة قريش، وضربت أعراقهم حتى اتصلت بخالد بن الوليد، ونظر الناس منهم كل كفو غناه كالذهب عتيد، وباسه كالحديد شديد، وتجمل الدهر منهم بمدبر كان موفقاً في خدمة نور الدين الشهيد، طالما جالسوا الملوك على أسرتهم، وجاودوا الغيوث فعموا الأنام بمبرتهم، ونادموا النجوم فعاطوهم كؤوس مسرتهم، كما أغاث قلمهم ملهوفاً، وكان بمعرته جارماً، وكم حلب في حلب وغيرها رزقاً، وفي غيرها، وما كان حارماً.
فليباشر ذلك مقتدياً بما لأبيه أدام الله تعالى نعمته في هذه الوظيفة من الآثار الحميدة، والمناقب التي أخذت أياديها على المحامد عهوداً أكيدة، والآثار التي لا يطاول الزمان قصورها المشيدة، والفضائل التي هي في الديوان بيت القصيدة، حتى تجملت به الدنيا، وأقسم الفضلاء أن القاضي الفاضل لم يقض نحباً، وأنه يحيا، مهتدياً بسمت عمه خلد الله سعوده، فإنه لهذه الدنيا شرف، ولهذه الأيام من أقلامه غاب لا يدخلها ليث خطب إلا انهزم وانصرف، ولهذه الأيام من تواقيعه جنات فيها حور الأرزاق، تأوي إلى غرف، وليدبج بأقلامه المهارق التي تمطرها البلاغة، وتعلم الناس بمعانيها كيف يكون السحر وبألفاظها صناعة الصياغة. والوصايا عنهم يؤخذ بيانها، ومنهم يشير إلى الهدى بنانها فما ينبه عليها، ولا يدل على الطريق الآخذة إليها، وتقوى الله هي العمدة، والذخر العتيد عند الشدة، فلا ينسى فيها نصيبه، ولا يقدم غيرها في المهمات كتيبة، والخط الكريم أعلاه حجة في العمل بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وكتب إليه رحمه الله تعالى وقد عرض علي من حفظه المعلقات السبع وملحة الإعراب للحريري: أما بعد حمد الله تعالى حق حمده، وصلاته على سيدنا محمد نبيه وعبده وسلامه، فقد عرض علي الجناب الكريم العلائي ابن المقر الشريف الشهابي بن القيسراني:
مولى إذا أعمل أقلامه ... لم يبق في الجود لغيث حصص
فالبرق من حرقته يلتظي ... والرعد في السحب كثير الغصص
لذا ألو الحاجات في بابه ... تطرب إن وقع فوق القصص
جميع المعلقات السبع من أولها إلى آخرها، وملحة الإعراب للشيخ أبي محمد القاسم بن الحريري رحمه الله تعالى في مجلس واحد عرضاً عن ظهر قلب، وهذا يتعدى إلى اللب بهمزة السلب، كالسيل إذا تحدر على الحقيقة من علي، والجود إذا أتى من كريم ملين والحق إذا توضح من جليل جلي:
فما رآه ناظري عارضاً ... لكنه صاحب ديوان
وما تفاءلت له كاتباً ... بل حاكماً في صدر إيوان
وقد شهدت له فراستي أنه ينزل من العلم الشريف في أعلى ربع، ويعرف اللغة، فلا يغيب شيء من غابها عنه، لأنه قد حفظ السبع، ويترقى في سماء الفضائل بدراً لا يغيب عنها، ولا يغرب، ويخرس الفصحاء ببيانه حتى لا يعرب كلامه يعرب، والله يسعده سعادة يزين الدياجي بسرجها، وتصعده رتباً، رقي أهل بيته في درجها، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
علي بن يحيى
ابن محمد بن عبد الرحمن السلمي، الحنفي، الرئيس، القاضي، علاء الدين أبو الحسن بن جمال الدين بن الفويرة.
كتب هذا علاء الدين الخط المنسوب الباهر، وجود النسخ الذي يفضح الروض إذا كان بإزاء الأزاهر، وأتى بخطه في قوائم الحساب، كأنه عقود الجواهر، ونبغ بعد والده ورأس، واحترز من مطاعن السيادة. واحترس.(2/118)
وكان بيده شهادة الخزانة ونظر الأسرى، ووجد من ألم هذا النظر ما رجعت به عينه حسرى، وخرج عنه مرات، وعاد إليه، ولكن بعد ما أتى على ما لديه، ثم خرج عنه آخراً، وعدم منه على ما قيل بحراً زاخراً.
ثم إنه رسم له بتوقيع الدست في الشام، فباشره دون نصف العام، وجاءه حينه، وملئت بالتراب عينه.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأربعاء ثالث عشري شوال سنة أربع وخمسين وسبع مئة.
كان في نظر الأسرى فسلط عليه القاضي علاء الدين بن الأطروش محتسب دمشق، فأخذها منه في أيام الأمير سيف الدين يلبغا، فاحتاج إلى كلفة حتى بطلت القضية. ثم إنه أخذها مرة أخرى فيما أظن أو غيره، فاحتاج إلى كلفة، ثم أخرجت عنه، فاحتاج إلى كلفة، ثم إنها خرجت عنه للأمير ناصر الدين بن المحسني، وبقي منها بطالاً إلى أن حضر القاضي علاء الدين بن فضل الله إلى دمشق صحبة السلطان الملك الصالح، فسأله أن يكون في الدست موقعاً، فوعده بذلك إذا وصلوا إلى مصر. ولما وصلوا جاءه التوقيع، وباشر، وجرى عليه ما لم يجر على غيره لكونه دخل في هذه الوظيفة، وليس من أهلها، ونظم الشاميون والمصريون في ذلك، فمن ذلك قول القاضي شمس الدين محمد بن قاضي شهبة، وأنشد فيه من لفظه:
توقيع مملكة الدست الشريف غدا ... يقول من حنق الأنفاس مغبون
صبرت للقط لما لم يكن نجساً ... صبر المؤمل من حين إلى حين
وبالفويرة قد أصبحت ذا نجس ... بالله يا أولياء الأمر كبوني
وأنشدني لنفسه أيضاً:
توقيع دست المسلمين يقول لم ... أذنب ولم أجرم ففيم قصاصي
في الشام تقرض بالفويرة حلتي ... والقط في مصر فكيف خلاصي
وأنشدني من لفظه لنفسه نجم الدين أحمد بن غانم:
أدست الملك أنت عظيم قدر ... وأنت كبدر أفق وسط داره
فما لك بالقذارة يا مفدى ... أهنت وحط فيك اليوم فاره
وأنشدني آخر:
توفيع ديواننا ينادي ... يا رب ما للأنام غيره
اضربي القط والزغاري ... وقد تنجست بالفويره
وكان الأمير علاء الدين ألطنبغا وهو نائب دمشق قد رسم له بصحابة ديوان الجامع الأموي في سابع شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
وكتبت له توقيعاً بذلك ونسخته: " رسم بالأمر العالي لا زال علياً وليه، نجياً صفية، ملياً إحسانه إلى من يرى به المنصب وفيه وفيه، أن يرتب المجلس السامي القضائي العلائي في كذا، لأن الكاتب الذي راحت براحته الطروس مدبجة، والسطور شفاها، وحروفها لاختلاف وضعها ثغور مفلجة، والمداد مسكاً لأن المعاني به نافجة نافحة، ولا يقال نفجة، والحاسب الذي لو شاء لقط النيل على أصابعه، وحرر حركات البرق بعقود أنامله التي هي أسرع من لوامعه، وضبط حاصل الجامع حتى أصبح مأسوراً في جوامعه، والأصيل الذي تتردد الرئاسة خلال خلاله، وتتعدد السيادة من معاطفه إذا خطر في حلة كماله، وتشهد له المحاسن فإن الناس طالما شاهدوا إحسان جماله " .
فليباشر ذلك مباشرة تليق برئاسته، وتضمن له الفضل الذي يديم الله له ملابس تناسته، حتى يقول الناس: إن الليث قد فاز بمدح شبله، والغيث حاز المنح بوبله، ويقسم المجد بهذا البلد ووالد وما ولد إن الفضل به اتحد، واشتمل عليه وبه انفرد، وهذا الجامع عمره الله تعالى بذكره يتحقق أنه ذو حسن ورونق يطرب من يلقها ومن ذا الذي لم يطرب لمعبد أمواله جمة، وأحواله مهمة، ولياليه بوقودها متوضحة إذا كانت أيام غيره مدلهمة، عليه جملة من الرواتب، وعدة من الجوامك تدرها سحائب النفقات من يد كل كاتب، يسترفده حتى بيت المال، وناهيك بذلك وتستجديه بقية المساجد، فينير لياليها الحوالك.
فليعمل جهده في حراسة ماله، وصيانة ما يساق لزينته وجماله، وليجتهد فيما هو لازمه من وظيفة جملت الأوان، ويعتمد على السداد، فما له رفيق إلا وله بيت وهو صاحب الديوان. والوصايا كثيرة، وتقوى الله عز وجل أفضل ما شرحه لسان قلم، وخفق له في العمل الصالح عذبات علم، فليجعلها له حرماً، ويستدر بها من الله عز وجل نعماً.
والحظ الكريم أعلاه، حجة العمل بما اقتضاه، إن شاء الله تعالى.
علي بن يعقوب بن أحمد
ابن يعقوب علاء الدين ابن الشيخ شرف الدين بن الصابوني.(2/119)
كان شاباً ابن ثلاثين سنة، وسمع الكثير بدمشق، والقاهرة.
توفي بكرة الجمعة تاسع عشري جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة، ودفن بمقابر باب النصر بالقاهرة.
علي بن يعقوب بن جبريل
الشيخ الإمام العالم نور الدين أبو الحسن البكري المصري الشافعي.
كان يذكر له نسباً يتصل بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، منه إليه عشرون اسماً.
قرأ بنفسه مسند الشافعي على وزيرة بنت المنجا.
وكان يطرح الكلف، ويمشي على طريق من سلف، ينهى عن المنكر، ويأمر بالمعروف، ويبالغ في ذلك وهو به موصوف. ووثب مرة على العلامة ابن تيمية، وأنكر عليه أموراً والله أعلم بالنية، وأنكر على الدولة أمراً لم يجد من يساعده، وتولى ذلك أجانبه وأباعده، فرسم السلطان بقطع لسانه، وكاد الأمر ينفصل في شانه، ولولا صدر الدين بن الوكيل صدر هذا الأمر إلى الخارج، وألقي النور من النار في مارج، فتلطف له مع السلطان، فرسم بنفيه من القاهرة، وعدت هذه المنقبة لابن الوكيل في الأمثال السائرة.
ولم يزل البكري على حاله إلى أن بكرت عليه مغيرة المنايا، وأصابت حبة قلبه منها بنات الحنايا.
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وسبعين وست مئة.
وكان له تواليف، ولما استعيرت البسط والقناديل من جامع عمرو بن العاص بمصر لبعض كنائس النصارى في يوم من أعيادهم، ونسب هذا الأمر إلى القاضي كريم الدين الكبير، وفعل ما فعل، طلع البكري إلى السلطان وكلمه في ذلك، وأغلظ له القول، وكاد ذلك يحوز على السلطان لو لم يحل بعض القضاة الحاضرين عليه، وقال: ما قصر الشيخ، كالمستهزئ به، فحينئذ أغلظ السلطان في القول للبكري، فخارت قواه، وضعف ووهن، فازداد تأنيب بعض الحاضرين عليه، فأمر السلطان بقطع لسانه، فجاء الخبر إلى الشيخ صدر الدين، وهو في زاوية السعودي، فركب حماراً وصعد إلى القلعة، فرأى البكري وقد أخذ ليمضي فيه ما أمر به، فلم يملك دموعه أن تساقطت، وفاضت على خده، وبلت لحيته، فاستمهل الشرطة عليه، ثم إنه صعد الإيوان والسلطان جالس فيه، فتقدم إليه بغير إذن وهو باك، فقال له السلطان: خير يا صدر الدين! فزاد بكاؤه ونحيبه، فلم يزل السلطان يرفق به، ويقول: خير يا صدر الدين! إلى أن قدر على الكلام، فقال له: هذا البكري من العملاء الصلحاء، يرفق به، وما أنكر إلا في موضع الإنكار، ولكنه لم يحسن التلطف. فقال السلطان: إي والله، أنا أعرف هذا إلا حطبة، ثم انفتح الكلام، ولم يزل صدر الدين يلاطف السلطان ويرققه حتى قال له: خذه وروح، إلا أنه يخرج من القاهرة.
وكان البكري بعد ذلك يقيم بدهروط وبغيرها، وجرى هذا كله والقضاة حضور وأمراء الدولة ملء الإيوان، وما فيهم من ساعد الشيخ صدر الدين غير أمير واحد.
وكان نور الدين هذا فيه كرم مع الفاقة، وكانت له جنازة حافة إلى الغاية.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: وصى له ابن الرفعة أن يكمل شرحه على الوسيط، وصنف كتابً في البيان، وكتب على الفاتحة مجلدة.
علي بن يوسف بن حريز
بالحاء المهملة والراء والياء آخر الحروف الساكنة والزاي.
الشيخ نور الدين أبو الحسن الشطنوفي، شيخ القراء. قرأ القراءات على تقي الدين الجرائدي، وعلى ابن القلال، وقرأ النحو على صالح إمام جامع الحاكم.
وسمع من النجيب الحراني، وتولى التفسير بجامع ابن طولون، وتصدر للإقراء بجامع الحاك، وكان القضاة يكرمونه، والعلماء يعظمونه، ويعتقد الناس صلاحه، ويرون انه ممن جعل الدعاء سلاحه، وقرأ عليه جماعة وخلائق، وصفت منه له البواطن والخلائق.
ولم يزل على حاله إلى أن شط المزار من الشطنوفي، وبطل ما كان يسنده منه إلى البصري والكوفي.
وتوفي رحمه الله تعالى بالقاهرة تاسع عشر ذي الحجة سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
وصنف كرامات الشيخ عبد القادر الجيلي، وذكر فيها عجائب وغرائب، وطعن الناس عليه في أسانيدها وفيما حكاه.
علي بن يوسف بن الحسن
الإمام المحدث الأديب نور الدين أبو الحسن الزرندين بفتح الزاي والراء وسكون النون، وبعدها دال مهملة، ثم المدني الحنفي.
تفقه وشارك في الفضائل، وكان عليه للعلم مخايل ودلائل، وله فهم ورزانة، ولكلامه رونق ورصانة، ونظم ونثر، وقرأ بنفسه الحديث والأثر.(2/120)
ولم يزل على حاله إلى أن دثر، ودخل في خبر كان وغبر وتوفي رحمه الله تعالى....
ومولده بطيبة قبل السبع مئة.
قال شيخنا الذهبي: رحل إلى العراق مع أخيه، وسمع ببغداد، ودخل إلى خوارزم ودمشق، ومصر، وعني بالحديث والرواية، وسمع مني وأعجبتني فضائله، وله نظم ونثر.
علي بن يوسف
الشيخ علاء الدين أبو الحسن ابن الشيخ الإمام المحدث الكاتب مجد الدين أبي الفضل بن المهتار محمد بن عبد الله المصري الأصل، ثم الدمشقي الشافعي.
سمع كثيراً بإفادة والده علي ابن أبي اليسر والضياء يوسف بن خطيب بيت الآبار، والبدر عمر بن محمد الكرماني، والمجد بن عساكر، والقاضيين شمس الدين بن أبي عمر الحنبلي، وشمس الدين بن عطا الحنفي وجماعة غيرهم.
ومن مسموعاته على ابن أبي اليسر صحيح البخاري وسنن النسائي والحبانيات وأكثر من عشرين جزءاً.
قال شيخناً علم الدين البرزالي: وجمعت من شيوخه ستين شيخاً، سمع منهم، وكان إماماً بمسدد الرأس، ويشهد تحت الساعات وله حلقة يقرئ فيها القرآن بالجامع.
ثم إنه ضعف بصره، وانقطع، وحدث هو وأبوه وأخوه.
وتوفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر المحرم سنة ست وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وست مئة.
علي بن يوسف أمير علي بن أمير
صلاح الدين بن الملك الأوحد شادي بن الزاهر، ابن صاحب حمص.
كان هذا أمير علي صورة أبدعها الخلاق، وأفرغ عليها من الجمال ما لاق، كأن الشمس قد طلعت من قده على رمح، والبدر قد طلع من أطواقه وبدا من جبينه الصبح، كأنما صب النديم على وجناته رحيقه، أو الورد لما ورد روضها شق من الغيظ شقيقه، أو المحب لما لمحها أودعها حريقه، بقوام كأنه غصن بانه، أو قضيب ريحانه، وثغر تحكيه الأقحوانة، وشفاه هي على در مبسمة أصداف مرجانة:
يفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب
وعيون تنفث السحر في عقد الحشا، وتفعل في القلوب ما يريده الغرام وما يشا، جفونها سيوف في جفون، وأهدابها سهام يرميها حاجب قوسه كنون، وبشرة رقت فما مثلها في البشر، وشفت كأنها الجوهر إذا صفا، وانقشر، يرى الناظر وجهه غريقاً في مائه، ويقابله الهلال فينطلع في لألائه:
فانقش لما شئت على خاتم ... وحاذه تقرأه من خده
هذا إلى حياء كأنه مريب، وإطراق لا يملأ معه عينه من أحد، كأنه رقيب قريب، وصيانة كأن الجنيد من جندها، وتقوى كأن السري سرى إلى عندها.
وعلى الجملة فقل أن رأت العيون نظيره، أو دخل معه كفؤ في حظيره.
توجه إلى الحجاز، واحتفل بأثقاله، وبالغ في حمول جماله، فلم يزل إلى أن قارب المدينة النبوية، فتغير مزاجه، وتصعب عليه علاجه، واصطفاه ربه، وضم ذاك الجمال البارع تربه:
ما أنت يا قبر لا روض ولا فلك ... من أين جمع فيك الغصن والقمر
وتأسف الناس على شبابه كيف اختطف، وعلى زهر حسنه كيف اقتطف، ودفنته أمه في البقيع، وأودعته كنف الشفيع.
وكانت وفاته في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وسبع مئة فرحم الله شبابه، وكرم مآله ومآبه.
وكان أحد الأمراء العشرات بدمشق، ولم يكن في زمانه في موكب دمشق أحسن منه، ومات رحمه الله تعالى، ولم يبقل وجهه، وكان تقدير عمره ثمان عشرة سنة فما دونها.
الألقاب والأنساب
ابن العماد المقدسي: أحمد بن عبد الحميد.
وعماد الدين بن عماد الدين: أحمد بن محمد.
ابن العماد الكاتب: عز الدين حسن بن علي.
عمر بن إبراهيم
ابن حسني بن سلامة بن الحسيني، الإمام الأديب المسند المعمر جمال الدين أبو حفص الأنصاري العقيمي الرسعني.
ذكر أن الكندي أجاز له، وأن الاستدعاء كان بخط الموفق، وإنما ذهب منه أيام هولاكو.
سمع عليه شيخنا الذهبي والجماعة.
وسمع من المجد القزويني وابن روزبة وأبي القاسم بن رواحة، وقدم دمشق في شبيبته، وسمع من ابن الزبيدي، وعبد السلام بن أبي عصرون، ومحمود بن قرقين، والضياء الحافظ.
وقرأ العربية، ونظم جيداً، وكان يذكر في الأيام الناصرية الصلاحية يوسف، ويعد في الشعراء، وكتب عنه الصاحب كمال الدين بن العديم، وتنقل في الخدم، وكان يوصف بالديانة والعفة والأمانة. وانتهت إليه رئاسة الشعر، وغلا به من القريض السعر، وحصلت له رئاسة، واشتهر في خدمة بالنفاسة.(2/121)
ولم يزل على حاله إلى أن درج إلى باريه، وراح ولك من بعده مباريه.
وتوفي رحمه الله تعالى في شوال سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده برأس العين سنة ست وست مئة.
وروى عنه الدمياطي في معجمه وابن الصيرفي والمقاتلي وطائفة.
وعقيمة: قرية من سنجار.
وكان قد اتفق حضور شخص من مصر يعرف بشهاب الدين بلاخصى، وولي نظر العمائر والسكر، وكان مطيلساً، وكان يحمل دواته شاب ملح، وكان يسكن جوار الملك الزاهر، فأفسد الزاهر الشاب المذكور، ووعده بخبز، فترك شهاب الدين بلا خصى، وخدم الزاهر، فلقي عنده كل سوء ولم يشبع الخبز، فقال جمال الدين العقيمي فيه:
يا شادناً ضل السبيل لرشده ... وعصى العذول سفاهة فيمن عصى
قد كنت عند بلا خصى في نعمة ... فتركتها سفهاً وجئت إلى خصى
ومن شعره:
عيون المها مني إليك رسول ... نسيم سرى بالواديين عليل
إذا ما انبرى يوري عن الروض نشره ... تقبل برديه صباً وقبول
وإن هب معتلاً لبث صبابتي ... تفهم حديث الوجد فهو يطول
وإن بان بان السفح عن أيمن الحمى ... فما مال إلا أنه ليقول
حديثاً رواه البان عن نسمة الصبا ... ومن حزني أن النسيم رسول
قلت: عكس هذا الشاعر المعنى، لأن الصبا تروي عن البان، وعن غيره مما تمر عليه.
عمر بن إبراهيم بن عمران
نجم الدين البهنسي.
اشتغل بمصر، وحضر مع أخيه من أمه عماد الدين المهلبي إلى قوص، وتولى الحكم بهو وبإسنا وأدفو، وكان فقيهاً له أدب وخط حسن، و درس بالمدرسة العزية بإسنا، وأقم بها حاكماً، وبأدفو أكثر من سبع سنين.
قال الفاضل كمال الدين الأدفوي: على طريقة مرضية، ووقعت بأسنا تركة عبد الملك بن الجبان الكارمي، فطب بسببها إلى القاهرة، فحصل له خوف شديد، ومرض بالبلينا، فرجع إلى قوص، وتوفي بها سنة عشر وسبع مئة، عن ثمانية وأربعين سنة.
عمر بن أحمد بن الخصر بن ظافر
سراج الدين الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي.
سمع من الرشيد العطار، وتفقه أولاً على ابن عبد السلام، ثم على النصير بن الطباع، وأجاز له المرسي والمنذري.
وسمع منه شيخنا البرزالي وابن المطري، وخطب بالمدينة أربعين عاماً، وولي القضاء بعد ذلك ومرض، فسار إلى القاهرة، ليتداوى، فأدركه الموت بالسويس في العشر الأواخر من المحرم سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ست أو سبع وثلاثين وست مئة.
عمر بن أحمد بن أحمد بن مهدي
عز الدين المدلجي النسائي الشافعي.
سمع من شرف الدين الدمياطي وغيره.
برع في الفقه ودقق، ونظر في الأدلة وحقق، وقاس ورجح وفرع وفرق، مع معرفة بالأصول وتوفير مواد ومحصول، وله على الوسيط إشكالات جودها، وبيض بها وجه المذهب لما سودها.
وكان زاهداً قانعاً برزقه عابداً، يحضر السماعات ويطيب، ويحصل له حال يأخذ من الوجد بنصيب.
ولم يزل على حاله إلى أن حج، فادلهم له ليل الحياة ودج.
وتوفي بمكة رحمه الله تعالى في ثاني ذي الحجة سنة عشر وسبع مئة.
وإشكالاته على الوسيط في مجلدين. وكان يدرس بالفاضلية والكهارية، ويعيد بالمدرسة الظاهرية.
عمر بن أحمد بن عبد الدائم
ابن نعمة المقدسي، الشيخ الصالح أبو حفص.
عذبه التتار بالصالحية عذاباً شديداً، ثم حمل إلى داخل البلد، فأقام أياماً يسيرة، ومات في درب القلي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وست مئة. ومولده سنة خمس وعشرين وست مئة. وحضر على الحافظ أبي موسى بن عبد الغني في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وست مئة.
وسمع من ابن الزبيدي والهمداني والإربلي، وابن صباح، والناصح بن الحنبلي، وغيرهم.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: وآخر ما قرأت عليه الثالث والرابع والخامس من الخلعيات لسماعه من ابن صباح.
عمر بن أحمد
زين الدين بن الصدر شهاب الدين بن قطينة الزرعي التاجر.
توفي رحمه الله تعالى بدمشق في ثامن عشر صفر سنة خمس وسبع مئة.
عمر بن أحمد
القاضي زين الدين، رئيس ديوان الإنشاء بطرابلس، الصفدي، المعروف بابن حلاوات.(2/122)
كتب الإنشاء أولاً بصفد، وفاز من الدهر بالحظ والصفد، ثم نقل إلى طرابلس، فنال فيها الحظ والوجاهة والسيادة، وباهى فيها الكواكب بمعاليه وباده.
وكن من رجال الزمان إقداماً، وممن يتعب أعاديه إرغاماً، لا يهاب الأسود إذا فغرت فاها، ولا الأيام إذا أدبرت وأولته جفاها، خبيراً بمداخلة النواب، ومشاكلة الأنواع والأضراب، ما كتب قدام نائب إلا وخلبه، ونهب عقله وسلبه، وأصبح طوع مرامه، وقوساً في يده يرمي بها إلى غرضه بسهامه، ولا يرجع في المملكة لغيره في كلمة، و لا لصاحب وظيفة حركة في النفاد مصطلحة، ولا تجد في بلده أحداً يذكره إلا وهو يقول.
ذاك خليلي وذو يواصلني ... يرمي ورائي بأسهم وامسلمه
أطاعته المقادير وساعدته، وتأخرت عنه الخطوب وباعدته، ولو أخره الأجل تقدم، ولم يغادر للرؤساء غيره من متردم، فإن القاضي علاء الدين بن الأثير كان يطوي حشاه على محبته، ويرى أنه يستحق التقدم لرتبته، ولكن تقدم بين يديه فرطاً، وسطع له بارق السعد ثم سطا.
وكان فيه خدمة للناس في قضاء أشغالهم، ومبادرة إلى تلقي حوائجهم، وتمشية أحوالهم، لا يتوقف في أمر يقصد فيه، ولا يبالي إن كان تلافه فيه أم تلافيه. وكان يدعي معرفة علوم شتى، وربما تجاوز في بعض الأوقات وأفتى. وينظم وينثر، ويجري في حلبة الشعراء، وما يرى أنه يعثر، ولكنه كان بالنجامة مغرى، ويرى أنه هو بمفرده منها أكبر من أبي معشر قدراً، وهي أجود ما يعرفه، وخيار دينار يخرجه من كيس معرفته ويصرفه، والحظوظ ما تعلل، والدنيا ما تحتاج إلى تاج بالفضائل مكلل.
ولم يزل في إسعاف وإسعاد وإلطاف وإصعاد، إلى أن وصل إلى غاية ما قدر له من عمره وأعرب بعد رفعه ونصبه بجره.
وتوفي رحمه الله تعالى بطرابلس بكرة السبت رابع شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبع مئة.
كان هو أولاً بصفد، وله أخوان تاجران، أحدهما برهان الدين إبراهيم، وهو أوجه تاجر كان في صفد، والآخر يدعى يونس تاجر سفار، وتعلق هذا زين الدين بهذه الصناعة، وتردد إلى شيخنا نجم الدين بن الكمال الصفدي، وقرأ عليه بعض شيء في العربية وتدرب به، وكان ذهنه جيداً، وصار يكتب الدرج عنده، فلما ورد الأمير بتخاص إلى صفد نائباً كان معه الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم، فانضم زين الدين إليه في الباطن، واستبد شهاب الدين بالوظيفة، وانفرد الشيخ نجم الدين بالخطابة، ثم اتفقوا عليه وأخرجوه من صفد، فتوجه إلى دمشق، وما كان إلا قليلاً حتى اتفق القاضي شرف الدين محمد بن النهاوندي الحاكم بصفد هو وزين الدين علي شهاب الدين بن غانم، وأوقعا بينه وبين النائب، وكتب النائب إلى مصر، وأحضر لزين الدين توقيعاً بكتابة سر صفد، وانفرد بالوظيفة.
وكان فيه مروءة وعصبية، وسعة صدر في قضاء أشغال الناس والمبادرة إلى نجاز مرادهم ومساعدتهم على ما يجادلونه، وأنشأ جماعة في صفد من أجنادها، وغيرهم، وكان ذا خبرة، وسياسة ومداخلة في النواب واتحاد بهم حتى لم يكن لأحد معه حديث. وكان هو المتصرف في المملكة، وتقدم، ورزق الوجاهة، وحظي ونال الدنيا، وجمع بين خطابة القلعة والتوقيع بصفد.
وانتمى إلى القاضي علاء الدين بن الأثير فمال إليه، ولما جاءه خبره من طرابلس بكى عليه، ولو أن زين الدين كان حياً لما انفلج ابن الأثير ما كان كاتب السر في باب السلطان غيره. ولما قال له السلطان من يصلح لهذا المنصب؟ قال: أما في مصر فما أعرف أحداً، وأما في الشام فما كنت أعرف أحداً غير ابن حلاوات وقد مات.(2/123)
وكان ابن حلاوات قد داخل نواب صفد كثيراً، ويقع بين النواب وبين تنكز، وعزل جماعة منهم، ثم لما جاء إليها الأمير سيف الدين أرقطاي نائباً وقع بينهما، واتصلت القضية بالسلطان وهي واقعة طويلة، فرد فيها الأمر إلى تنكز، فطلب ابن حلاوات إلى دمشق وقد امتلأ غيظاً عليه، ولما دخل عليه رماه بسكين كان في يديه لو أصابته جرحته أو قضت عليه، ورسم علي وصادره، فوزن ثمانية آلاف درهم، فسعى له الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب والقاضي علاء الدين بن الأثير مع السلطان، واتفق أن مات موقع طرابلس في تلك الأيام فما كان بعد ثمانية أيام تقريباً حتى جاء ابريد بالإفراج عنه، وإعادة ما أخذ منه، وهذا أمر ما اتفق لغيره في تلك الأيام، وتجهيزه إلى طرابلس موقعاً، وكان المرسوم مؤكداً، فما أمكن تذكر إلا اعتماد ما رسم به في حقه، وتوجه إلى طرابلس رئيس ديوان الإنشاء، ودخلها في مستهل جمادى الأولى سنة تسع عشرة وسبع مئة، وأقام بها في وجاهة ورياسة وحرمة وافرة إلى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور.
وكان يعرف النجامة وعلم الرمل جيداً، ويدعي أنه من جماعة الشيخ محيي الدين بن عربي، وينتمي إلى مقالته، ويرى رأيه في الوحدة، ولم يتفق لي به اجتماع خاص، بل رأيته غير مرة، وسمعت خطبه كثيراً.
وأخبرني من رآه أنه كان يتعذر علي كتابة اسمه عمر، فيكتب صورة نمر، ثم بعد ذلك يركب عليها حرف العين، لتتكمل له صورة عمر.
ولما ورد في تلك المدة إلى دمشق دخل الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم إلى الأمير سيف الدين تنكز، وشكى منه شكوى بالغة، وقال: يا خوند! هذا فعل بي، هذا اعتمد معي، هذا حبس أولادي في قلعة صفد، وقيدهم، وزاد في ذلك، ثم إنه بعد ذلك اجتمع بقاضي القضاة نجم الدين بن صصرى، فقال له: يا شيخ شهاب الدين! أنت من بيت فقراء وصالحين، وهذا الذي فعلته بهذا المسكين ابن حلاوات بين يدي هذا الملك الجبار، ما كان يناسب طريقك، فقال له: يا مولانا قاضي القضاة لا تكن حليماً عند غضب غيرك، هذا حط رجلي في المعصار وعصرني، ولو كان ذلك على حوافر بغلتك ضرطت ناراً.
وكان قد كتب إليه شيخناً نجم الدين كتاباً يحرضه عليه فيه ويغريه به، ومنه:
ألا طعان ألا فرسان عادية ... إلا تجشوكم بين التنانير
فكتب الجواب إليه عن ذلك، ومنه أبيات وهي: ....
ودخل زين الدين بن حلاوت في تلك النازلة وهو بدمشق إلى الصاحب شمس الدين، وقال: يا مولانا الصاحب أنا ما بقيت أعمل صنعة التوقيع، اعملوا إلي معلوماً ودعوني في هذا الجامع الأموي أشغل الناس في ستة عشر علماً، وكان شهاب الدين بن غانم حاضراً. فقام وقال: يا مولانا الصاحب هذا غلط منه، وإنما يعرف ثمانية عشر علماً لأنها اثنا عشر برداة وست أواذات في علم النغم، وهذا إلا والده مشبب وهو مطنكل، وأنشده أبياتاً منها:
وإذا رأى المزمار هزت عطفه ... نسب إلى الأجداد والآباء
ومن شعر زين الدين بن حلاوات:
ولابسة البلور ثوباً وجسمها ... عقيق وقد حفت سموط لآلي
إذا جليت عاينت شمساً منيرة ... وبدراً حلاه من نجوم ليال
قلت: هذا القول فاسد؛ لأن البلور جسمها وهو الزجاج، ولباسها العقيق، وهو الخمرة، وأحسن من قول زين الدين رحمه الله تعالى قول الأول:
وكأنها وكأن حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على الندماء
شمس الضحى رقصت فنقط وجهها ... بدر السما بكواكب الجوزاء
ووجدت منسوباً إلى زين الدين رحمه الله تعالى:
خصت يداك بستة محمودة ... ممدوحة بالبأس والإحسان
قلم ولثم واصطناع مكارم ... ومثقف ومهند وسنان
وأنشد له يوماً بيتاً القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر لما فتح الأشرف قلعة الروم، وهما:
ألا أيها الحصن المنيع جنابه ... تطهرت من بعد النجاسة والشرك
وأمسيت تجلى بالخليلين دائماً ... خليل إله العرش والبطل التركي
فقال زين الدين رحمه الله تعالى:
قلعة المسلمين حزت كمالاً ... وجمالاً ورفعة بهاء
بالخليلين صرت تجلي مساء ... كعروس زادت سنا وسناء
قلت: ما كفاه أنه ما قال شيئاً يسمع حتى لحن وحذف النون من تجلين.
عمر بن آقوش(2/124)
الشاعر زين الدين أبو حفص الشبلي الدمشقي الذهبي الشافعي المعروف بابن الحسام الافتخاري.
رأيته في صفد، واجتمعت به في دمشق غير مرة، وأنشدني كثيراً من شعره، وسمع الحديث على الحجار وغيره. وكان فيه تودد وتقرب، وحسن صحبة وطهارة لسان.
وكان بعضهم يلقبه براطيش، وبعضهم يسميه شراشط.
ولم يزل على حاله إلى أن توفي رحمه الله تعالى في ثاني شهر رمضان سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون دمشق.
وسألته عن مولده، فقال لي: في سنة أربع وثمانين وست مئة.
أنشدني من لفظه لنفسه يودعني عند توجهي إلى الرحبة سنة تسع وعشرين وسبع مئة:
ولما اعتنقنا للوداع عشية ... وفي القلب نيران لفرط غليله
بكيت وهل يغني البكا عند هائم ... وقد غاب عن عينيه وجه خليله
وكتبت أنا إليه من الرحبة:
كتبت والدمع قد غطى على بصري ... وبت فيك نجي الهم والفكر
وأشتهي من جوى قلبي وحرقته ... لو أشتري ساعة بالعمر من عمر
وأنشدني له:
قد أثقلتني الخطايا ... فكيف أخلص منها
يا رب فاغفر ذنوبي ... واصفح بحلمك عنها
وأنشدني له:
يا من عليه اتكالي ... ومن إليه مآبي
جد لي بعفوك عني ... إذا أخذت كتابي
وأنشدني له:
يا سائلي كيف حالي في مراقبتي ... وما العقيدة في سري وإعلاني
أخاف ذنبي وأرجو العفو عن زللي ... فانظر فبين الرجا والخوف تلقاني
أنشدني له:
يا سيد الوزراء دعوة قائل ... من بعد إفلاس وبيع أثاث
أبطت حوالتكم علي كأنها ... تأتي إذا ما صرت في الأجداث
فإذا أتت من بعد موتي فاحسنوا ... بوصولها للأهل في ميراثي
وأنشدني ما كتبه للصاحب شرف الدين يعقوب يشتكي من أيوب:
بليت بالصبر من أيوب حين غدا ... ينكد العيش في أكلي ومشروبي
وزاد يعقوب في حزني لغيبته ... فصبر أيوب لي مع حزن يعقوب
وأنشدني له:
إذا ما جئتكم للغناء فقري ... تقول أبشر إذا قدم الأمير
وقد طال المطال وخفت يأتي ... أميركم وقد مات الفقير
وأنشدني من لظفه له في الحمى:
زارتني الحمى فقلت لها ابعدي ... فغدت تخادعني بلثم شفاهي
قالت أروح فقلت هاذ بغيتي ... قالت أعود فقلت لا بالله
وأنشدني من لفظه له:
أمر على المنازل وهي تشكو ... من الأحباب ما أشكو إليها
كلانا يشتكي لهم فراقاً ... فما عطفوا علي ولا عليها
وأنشدني من لفظه له:
لي حبيب ما زال يتعب قلبي ... فرأيت السلو عين الصواب
تبت لله عنه توبة صدق ... واستراحت عواذلي من عتابي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
إذا أضمر المحبوب هجري وجفوتي ... وعاد ولم يجز المحبة بالبغض
أقول له أحسنت فيما فعلته ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
عمر بن أبي الحرم
ابن عبد الرحمن بن يونس، الشيخ الإمام العلامة شيخ الشافعية زين الدين أبو حفص الدمشقي المعروف بابن الكتاني..
حدث عن ابن عبد الدائم بالإجازة.
وسمع إسماعيل بن أبي اليسر، وإسماعيل بن المظفر، وعمر بن حامد القوصي، وإسرائيل بن أحمد، ومظفر بن أبي الدل الصالحي، والقاضي حسين بن علي القرشي وغيرهم.
تفقه وناظر، وبرع في الأصول والفروع، وذاكر وحاضر، وتحول من دمشق إلى مصر بعلم جم، وورد القاهرة، فأخجل اليم الذي ثم، وحل بأفقها فاستحيا من كماله البدر الذي تم.
وكان جيد الذهن كثير النقل لمذهبه، بارعاً في التفقه، لا يثبت له أحد إن ناظره أو تمسك بسببه، مائلاً إلى الدليل والحجة، قائلاً بالبحث لا يرى التقليد من عظيم المحجة، يوهي بعض المسائل لضعف دليلها، وخفاء صحتها، وظهور عليلها، يلقي دروساً مفيدة، ويأتي بأشياء فوائدها عتيدة، لا يحتمل أن أحداً يعارضه أو يراسله أو يقارضه، فينفر فيه ويزبره، يكسره بالقول ولا يجبره.(2/125)
وكان في خلقه زعارة وشراسة، وحدة لا ينكس الكبر لها رأسه، لا يخضع لأمير ولا لقاض، ولا ينفعل لإبرام ولا لانتقاض، وله في ذلك حكايات مشهروة، ووقائع بين أهل مصر مأثورة، إلا أنه فرط في علم الحديث من حيث الرواية، وأهمل أمره، ولم يكن له فيه عناية، فكان صغار الطلبة يحضرونه دروسه، ويعيبونه عليه كثرة تصحيفه، وما يقع له من الخلل في أسماء الرجال، ولا يجسرون على تعنيفه، وكان به وسواس في تكبيره الإحرام، وتطويل حتى يفوته بالركون الإمام.
ولم يزل على حاله إلى أن دخل في العدم، وكثر عليه التأسف والندم.
وتوفي رحمه الله تعالى في سادس عشر شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة بالقاهرة.
مولده سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
وكان قد اشتغل بالفقه والأصولين على ابن أبي الثنا محمود بن عبيد الله المراغي، والعلامة الشيخ تاج الدين الفزاري، وغيرهما.
ودخل إلى مصر، فولاه قاضي القضاة ابن بنت الأعز قضاء الحكر مدة، ثم استنابه العلامة ابن دقيق العيد في مصر، وولاه دمياط الشرقية، ثم استنابه في القاهرة، ثم إن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ولاه الغربية، ثم إنه وقعت له بالمحلة واقعة، فعزل نفسه، وأقام بالقاهرة، وترك الاجتماع بقاضي القضاة ابن جماعة، وصار يتكلم فيه ويأسى إليه، وصارت الإساءة له عادة، فاستعملها مطلقاً، وتعدى إلى الأموات، ونفر الناس منه.
وتصدر بالجامع الأموي الحاكمي مدة، وأعاد بالقراسنقرية، ثم ولي تدريس المنكوتمرية.
ولما مات أبو الحسن بن جابر ولاه الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك درس الحديث بالقبة المنصورية، وذلك في شهر رجب سنة خمسة وعشرين وسبع مئة، فتكلم الناس في ذلك. وكان الطلبة الصغار يضحكون منه، ويجيؤون إلى العلامة شيخنا أبي الفتح، ويقولون: صحف اليوم في كذا. وهم في كذا، وقال في ذلك الفاضل كمال الدين الأدفوي:
بالجاه تبلغ ما تريد فإن ترد ... رتب المعالي فليكن لك جاه
أوما ترى الزين الدمشقي قد ولي ... درس الحديث وليس يدري ما هو
وولي مشيخة خانقاه طيبرس التي على البحر، وشكا منه بعض أولاد الواقف إلى الحاجب، فعزل منها، وكان و قد فهم من الناس هذا الحال، فيقول: ولونا ما يضحك فيه الصبيان علينا، ومنعونا ما نضحك فيه على الأشياخ.
وكان شيخنا فتح الدين إذا ذكروا أمر وسوسته يقول: هذا تصنع. ولما ولي خطابة جامع الصالح برا باب زويلة ترك الوسوسة ضرورة.
وكان في القضاء محمود السيرة، ظاهر العفة، طاهر الكف، وكان كثير الاشتغال، دائم المطالعة، وأولع في آخر عمره بمناقشة الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى، وكتب على الروضة حواشي، ولما وقف عليها شيخنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى أجاب عما وقف عليه من ذلك قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في الروضة: وإذا وقعت في الماء القليل نجاسة. وشك هل هو قلتان أو لا، الذي جزم به صاحب الحاوي وآخرون أنه نجس، لتحقق النجاسة، ولإمام الحرمين فيه احتمالان والمختار، بل الصواب الجزم بطهارته، لأن الأصل طهارته وشككنا في نجاسة منجسه، ولا يلزم من النجاسة التنجيس.
قال الشيخ زين الدين الكتاني رحمه الله تعالى: وإذا وقع في الماء القليل نجاسة وشك هل هو قلتان أو لا لفظ متناقض، وحكمه بالطهارة باطل إذ فرض الماء قليلاً، والقليل دون القلتين، وإلا فإن كان قلتين فهو كثير، وإن كان الماء دون القلتين وحصل فيه نجاسة غير معفو عنها فهو نجسن لا خلاف فيه، فعلم من هذا ا، قوله: الصواب الجزم بطهارته باطل، وكان صوابه أن يقول: ما شك في كثرته ووقعت النجاسة فيه، ولو فرضه لذلك، وهو مراده بحكمه بأن الصواب الجزم بطهارته غير صواب، بل الصواب: الحكم بالنجاسة، لأن النجاسة محققة، وبلوغ الماء قلتين الأصل عدمه، ولا يجوز للآخذ بالاستصحاب مع نفس ما يعارضه، وهو نفس وقوع النجاسة، إذاً لا خلاف في أن شرط الاستصحاب عند القائلين به أن لا يقطع بوجود المنافي له.(2/126)
وقوله: لا يلزم من النجاسة التنجيس، إنما هو في نجاسة معفو عنها لاقت ماء كثيراً، ولم يتغير، وليس الكلام في ذلك إذ كثرة هذا الماء مشكوك فيها، بل ملاقاة النجاسة سبب للتنجيس، وقضية السبب إعماله إلا لمانع والأصل عدم المانع، وهو الكثرة، فصار في جانب التنجيس أصلان: عدم بلوغ الماء قلتين، وإعمال السبب الثاني الذي هو النجاسة، ومن جانب الطهارة أصل مستصحب مع يقين ما يعارضه، واستصحاب مثل هذا ممنوع، فصار الظاهر الحكم بالنجاسة وملاقاة النجاسة محسوسة، فتصير هذه الصورة كالغدير مع الظبية التي بالت فيه، ووجد الماء متغيراً، واحتمل التغير بول الظبية، وطول المكث، وقد نص الشافعي على نجاسته، وقطع به جمهور الأصحاب، ومع هذا البحث الراجح الواضح كيف يقول: الصواب الجزم بالطهارة، فلا الصواب الجزم بالطهارة، ولا الظاهر، فضلاً عن الجزم، وقد قال الغزالي في الوسيط: الأصل بقاء النجاسة إلى أن يتبين الكثرة الدافعة، أو يقال الأصل طهارة الماء إلى أن يستيقن الصنان.
والاحتمال الأول أظهر، فلو أصاب النووي لم يعتقد الجزم بالطهارة؛ بل لو تردد معذوراً مع أن الصواب الجزم بالنجاسة؛ لكنه وقف به نظره أو وقفه، وإنما بسطت وأسهبت لئلا يغلو فيه غر.
قال شيخنا العلامة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين السبكي، رحمه الله تعالى: أما المناقشة في لفظ قليل فصحيحة، وكان الأولى حذفها، لكنه تجوز فيها، واستصحب اسم القليل مع الشك، أو لأنه يعد في العرف قليلاً وإن لم يكن في الشرع كذلك، والإمعان في الحكم بنجاسته إذا كان قليلاً لا معنى له، إذ لا نزاع فيه، وليس بمراد، وأما كون الصواب الحكم بنجاسته ما شك في كثرته فيرد عليه أنه حكم بالنجاسة مع الشك إذ الأصلان متعارضان، وهما طهارة الماء وقتله المقتضية للتنجيس، وهنا إذا تعارض أمران متضادان وجب التوقف، فكيف والقلة ليست مضادة للطهارة؛ بل مقتضية لضدها في هذه الصورة، وهذا معنى يصلح لترجح الطهارة، لأن المعارض لها أضعف منها، لكونه مقتضياً للضد لا نفس الضد، وإنما كان أضعف لكون المقتضي قد يتخلف المقتضى.
وقوله: إن أصل الطهراة تيقناً ما يعارضه مع يقين ما يعارضه ممنوع إذ الغرض الشك، ومع الشك كيف يدعي اليقين.
وقوله: في جانب الطهارة أصل مستصحب مع يقين ما يعارضه، إن أراد ما يرفعه ممنوع، وإن أراد ما يعارضه ويقاومه فيحصل الشك ويمتنع الحكم بالنجاسة، على خلاف غرضه، فإنه متى تقاومت المعارضة لا يجوز الحكم بالنجاسة، ويبقى الحال على ما كان عليه من الطهارة.
وقوله: في جانب التنجيس أصلان، عدم بلوغ الماء قلتين، وإعمال السبب الذي هو النجاسة، أعلم أن عدم بلوغ قلتين وحده ليس بأصل معارض للطهارة بل بما ضم إليه من السبب، والسبب وحده لا يسمى أصلاً، وإنما يسمى ظاهراً، فإما أن يجعله مع عدم بلوغ الماء قلتين سبباً واحداً في التنجيس، وحينئذ يعارضه أصل الطهارة، وإما أن يجعله سبباً، والقلة شرط أو الكثرة مانعة وحينئذ يقال: إن الشرط أو انتقاء المانع يكتفي فيه بالأصل إذا لم يعارضه أصل آخر وهنا عارضه أصل آخر، والسبب وحده بدون شرطه أو انتفاء مانعه لا يعمل، وإما أن يجعل وقوع النجاسة محل الحكم ويقاوم، عليها أمران: أحدهم يقتضي التنجيس، والآخر ضده، فيقف الحكم. وعلى كل تقدير فيجب أن لا يحكم بالنجاسة، فخرج من هذا أن دعواه في جانب التنجيس أصلان ليس بصحيح، ولو قال: أصل وظاهر لكان أصح في العبارة، ويتوجه عليه المنع بأن ذلك إنما يكون في أصل مستقل بظاهر مستقل، وليس هنا كذلك؛ لأن القلة ليست بأصل، بل بما ضم إليها، على ما تبين.
وأما مسألة الظبية فإنما حمنا بالنجاسة لأن بول الظبية محقق، و استناد التغيير إليه ظاهر مستقل، لأن الأصل المعارض له معارض بالأصل النافي لطول المكث، ولا لما يقاوم الأصل إن علمنا بالسبب الظاهر المجرد الذي لا معارض له، فأين هذه المسألة من تلك، وقد جزم الصميري بالتنجيس متمسكاً بأن الأصل القلة، وسبق الغزالي دعوى ظهور التنجيس لتمسك بالقلة للتنجيس إمام الحرمي، فاقتصار الكتاني على كلام الغزالي دليل على أنه لم يقف على غيره.(2/127)
قال كمال الدين جعفر الأدفوي: كان منازعة في النقل، قلت له يوماً: قال الرافعي إن أكثر الأصحاب على جواز النظر إلى الأجنبية في الوجه والكفين إذا أمن الفتنة، فأنكر ذلك، ثم اجتمعت به ثاني يوم بالمدرسة القراسنقرية، فقال: الرافعي قال ما قلت، ولكن من أين للرافعي هذا، وشرع يغالب ويتغلب. قال: وقلت له يوماً: قال النووي: الأصح العفو عن الكثير من دم البراغيث، ونحوها مطلقاً فنازع، وحضر منهاج النووي فرآه، فشرع يؤول.
وكان بعض الطلبة يقرأ عليه يوماً في أن المعير إذا رجع والذرع قائم، ولم يكن يحصد قصيلاً فإ(نه يبقى إلى الحصاد، فقال هو: واختلف ههنا: هل عليه الأجرة، وما قالوا بمثل ذلك فيما إذا باع مالك الأرض وفيها زرع فإنه يبقى ولا أجرة، وطلب الفرق. فقلت: الفرق أن البائع لما زرع تصرف في ملكه، والمشتري دخل على الإبقاء، والتصرف كان في الملك، فلا يناسب أجره، والمستعير تصرف في ملك غيره، والمالك بصدد الرجوع في كل وقت، لكن التصرف كان الإذن، فلا يناسب قلع الزرع وضياعه، ولا إشغال أرض المالك مجاناً، فجمعنا بني المصلحتين، فأبقيناه حتى لا يفسد، وألزمناه الأجرة حتى لا يشغل أرضه مجاناً، فنازع نزاعاً طويلاً، لا بالرد النظري، إلا بالإساءة. قال: فتركت الاجتماع به. ومع ذلك فكان محققاً مدققاً كثير النقل، يستحضر النظائر والأشباه، لم يكن في الفقه في زمنه مثله، انتهى.
قلت: ما صنف شيئاً ولا انتفع به أحد من الطلبة، وكان قل أن يفتي أحداً، ويقول لمن يأتيه بالفتوى: أنا ما أكتب لك عليها، روح إلى القضاة والى الذين لهم في الشهر من المعلوم كذا وكذا، وربما تحيل عليه بعض الناس فيما يرومه منه بأن يستصحب معه شاباً حسن الصورة فإنه كان يميل إلى ذلك لكن مع دين وعفاف وتصون كثير.
ولما دخلت إلى الديار المصرية قلت للأمير ناصر الدين محمد بن جنكلي رحمه الله تعالى: أريد أن أرى الشيخ زين الدين، وأجتمع به، فقال لي: ما تنتفع به ولا تنال منه مقصودك، ولكن اصبر، أنا أروح معك إليه، فتوجهنا إليه إلى داخل باب السعادة إلى دار الفارقاني، فصعد بي في سلم حجر أعلاه طبقة، فطرق الباب، فقال من؟ قال: محمد بن حنكلي فقال: ومليحك معك؟ قال: نعم، فقام، وفتح الباب، وبش بنا وأجلسنا، وانشرح، وأحضر شراب ليمون، وفيه قلب فستق، وشراب حماض، وفيه قلب بندق، وأطعمنا من ذلك، وأحضر طعاماً شهياً طيباً وانشرح لنا مدة إقامتنا عنده لما كان معنا بعض مماليك الأمير، وهو وضيء الوجه، وفارقنا رحمه الله تعالى.
وكان الشيخ كمال الدين بن الزملكاني رحمه الله تعالى يثني عليه.
وقلت أنا فيه:
يا من يروم الفقه برد أصوله ... رقمت حواشيه بكل بيان
عرج بزين الدين تلق دروسه ... حللاً محررة من الكتاني
عمر بن حسن بن عمر بن حبيب
العالم المحدث الفاضل زين الدين أبو حفص الدمشقي، محتسب حلب.
سمع من ابن البخاري، وابن شيبن، وعلي بن بلبان، وطائفة. وعني بالحديث، ورحل وسمع من ابن حمدان، والأبرقوهي، وسدة بنت درباس، وخلق، ونسخ وحصل الأجزاء، وخرج له شيخنا الذهبي معجماً عن أزيد من خمس مئة شيخ بالسماع.
وكان كثير الأسفار، فدخل في آخر عمره إلى الروم، ثم إلى مراغة، فتوفي هناك رحمه الله تعالى في .... سنة ست وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة ثلاث وستين وست مئة تقريباً.
عمر بن داود بن هارون بن يوسف
القاضي زين الدين أبو حفص الصفدي، كاتب الإنشاء بالشام ومصر أصله من نين قرية من مرج بني عامر من صفد، بنونين، بينهما ياء آخر الحروف على وزن بين ودين.
كان كاتباً ذكياً، فاضلاً سرياً، يقع على المقاصد، ويرقب المجرات ويراصد، إذا أخذ كتاباً تأمل فضوله، وتصور محصوله، وأجاب عنه بأجوبة بليغة ساده، دالة على غزارة المادة، وكان قلمه بليغاً إذا كتب مسترسلاً من غير سجع، واتكل على ما عنده في ذلك من الطبع، لأنه يأتي بما يكتبه، بليغ المعاني، مستوفي المقاصد، تام المراد، غير مخل ببيان ولا فاسد.(2/128)
أما نظمه فكان قليلاً مرذولاً، بطيئاً مهزولاً، ونثره كان أجود منه؛ إلا أنه كان وعر الجادة، ناب عن الطبع غير سار في المادة، وخطه أيضاً قوي منسوب، لكن ما عليه حلاوة، ولا له ما لخط غيره من اللطف والطلاوة؛ إلا أنه كان صبوراً على الكتابة، لا يسأم تواترها، ولا يمل تكاثرها، يقوم بتنفيذ ما في الديوان، ويسد مهماته على أحسن ما يكون وأسده، ولو بلغت إلى كيوان.
تنقل من صفد إلى دمشق إلى غزة إلى الرحبة، ثم إلى دمشق، ثم إلى مصر إلى دمشق إلى مصر كرتين هبة بعد هبة، مع عطلة تخللت ذاك، وكاد الأمر يكون حتماً بغير انفكاك، ولكنه لطفت به المقادير، وأعادت اسمه إلى الدساتير.
ولم يزل على حاله إلى أن بتر الله عمر عمر، وانقبض ابنساطه في الحياة وانقبر.
وتوفي رحمه الله وسامحه بالقاهرة في ثامن عشري صفر سنة تسع وأربعين وسبع مئة، بعد مرض طويل قاسى منه شدة.
ومولده في سنة ثلاث وتسعين وست مئة.
قدم من قريته إلى صفد، وقد عذر في عام ستة عشر وسبع مئة فيما أظن أو قبل ذلك بقليل، ولازم شيخنا نجم الدين الصفدي، وأقام في بيته يبيت ويصبح، واشتغل عليه وكتبه وهذبه ودربه، فكان شيخنا في تلك المدة كاتب سر صفد، فاستكتبه عنده، وتخرج. وكان ذكياً فذاق هذه الصناعة، ومهر فيها. ولما بطل الشيخ نجم الدين من التوقيع كتب زين الدين الدرج للأمير علم الدين سنجر الساقي مشد الدواوين بصفد ووالي الولاة، ولما هرب الأمير علم الدين سنجر الساقي من صفد فاراً من نائبها الأمير سيف الدين أرقطاي توجه زين الدين معه، فأقام بدمشق مدة يتردد إلى شيخنا شهاب الدين أبي الثناء محمود والى القاضي شهاب الدين بن فضل الله، وعرف بين أهل دمشق، وعامل أهلها معاملة جيدة إلى أن أجمعوا على الشكر منه والتوجع له في بطالته، فأقام بها مدة، وحضر شمس الدين الجاولي إذ ذاك نائب غزة، فرأى خط زين الدين وعبارته فأعجبه ذلك. وكان زين الدين شديد المداخلة للناس، لطيف المؤانسة جريا في الإدلال والكلام والمشاركة مع صاحب المجلس والانخراط في سلكه، فخاف ابن منصور من تقدمه، فعمل عليه وأعاده إلى دمشق. ثم إن الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى، جهزه إلى الرحبة موقعاً بإشارة القاضي شمس الدين محمد بن شيخنا شهاب الدين محمود رحمه تعالى بعد ما أقام بدمشق بطالاً تسع سنين فأقام بها قريباً من سنتين.
ولما توجه القاضي محيي الدين وولده القاضي شهاب الدين إلى مصر قال الأمير سيف الدين تنكز لهما: ما بقي في الديوان أحد، فذكراه له، وقالا: يا خوند، كاتب الرحبة زين الدين الصفدي يصلح أن يكون في باب مولانا ملك الأمراء. وكان قد خلا مكان القاضي جمال الدين بن رزق الله من ديوان الإنشاء بدمشق لتوجهه إلى توقيع غزة، فرسم بإحضار زين الدين إلى دمشق، فجاء إليها، وأقام بها دون السنة، ثم إن القاضي شهاب الدين بن فضل الله طلبه إلى الديار المصرية، فأقام يكتب بين يديه قريباً من ثماني سنين إلى أن رسم السلطان الملك الناصر محمد للقاضي شهاب الدين بن فضل الله بأن يلزم بيته، فعمل عليه هو الآخر، وأخرجه السلطان من الديوان، وأقام في القاهرة مدة ملازم بيته، ثم إن طاجار الدوادار أخرجه من القاهرة إلى صفد بطالاً، فأقام فيها إلى أن حضر القاضي شهاب الدين بن فضل الله إلى دمشق بعد إمساك الأمير سيف الدين تنكز، فتحدث له القاضي شهاب الدين وأحضره من صفد إلى دمشق، فبقي فيها بطالاً إلى أن توفي السلطان الملك الناصر محمد فتحدث له القاضي شهاب الدين بن فضل الله مع الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب الشام، فأمر له بالدخول إلى ديوان الإنشاء، فأقام به إلى أن رسم السلطان الملك الصالح بإبطال من أحدث عبد أبيه السلطان الملك الناصر، فبطل، ولازم بيته مدة، ثم إنه دخل مع من دخل فيما بعد.
ولم يزل يكتب في ديوان الإنشاء بدمشق إلى أن حضر القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله، فسلم إليه الأمر، ورأى من السعادة ما لا رآه في عمره مدة ثلاث سنين. ثم إن القاضي علاء الدين بن فضل الله طلبه إلى الديار المصرية، فتوجه هو ووالده القاضي شهاب الدين أحمد في البريد يوم عيد الأضحى سنة سبع وأربعين وسبع مئة، فأقام بها موقعاً في الدست، وولده في جملة كتاب الإنشاء، إلى أن توفي رحمه الله تعالى في التاريخ المذكور.
وكنت قد كتبت إليه إلى دمشق من صفد:(2/129)
عن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهى
بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها
وكتبت إليه مع غلام حسن الوجه وهو بغزة:
يا نازحاً صورته في خاطري ... فرميت للتصوير بالنيران
إن لم يبلغك النسيم تحيتي ... فلقد أتاك بها قضيب البان
وكتب هو إلي من دمشق وأنا بصفد سنة ست عشرة وسبع مئة:
أشتاق من دون الأنام خليلا ... فلذاك أصبو بكرة وأصيلا
مولى رحلت وسرت عن معروفه ... فعدمت من إحسانه تنويلا
لو كان في عصر مضى لم يعتمد ... إلا على ألفاظه الترسيلا
هو فارس في فنه كم جدل الأقران في ميدانهم تجديلا
ليس اليراع بكفه في طرسه ... إلا حساماً هزه مصقولا
فإذا ترسل خلته من لطفه ... أضحى يدير على الأنام شمولا
نبت الكتابة عن سواه فلم تجد ... إلا بضافي الظل عنه بديلا
فلذاك وجه الدهر راح بفضله ... لمن اجتلاه أو رآه جميلا
أرجو اجتماع الشمل منه لأنه ... قد لا يكون به الزمان نحيلا
والله ما لاحت بروق في الدجا ... إلا تجدد لي بكى وعويلا
ولربما سمح الزمان بعودتي ... فأبل من شوقي إليه غليلا
لا زال جودك بالمرام كفيلا ... ولطيف صنعك بالأنام جميلا
أنس قريضك مذ تطلع نيراً ... بسما البديع كثيراً وجميلاً
قط اليراع لسانه عن وصفه ... مذ مد باعاً في البديع طويلا
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك:
يا سيداً أضحى عظيم فخاره ... أبداً على هام العلا إكليلا
وكسا برود النظم من ترصيعه ... غرر البيان وزادها تحجيلا
لاحت تباشير الصباح بطرسه ... من أسطر أفنيتها تقبيلا
راقت محاسنه ورق شمائلا ... فغدا يمج من البيان شمولا
أما التشوق والحنين فلا تسل ... فالخطب منه لا يزال جليلا
مذ غبت عني فالدموع على الولا ... لو كن سيلاً ما وجدن مسيلا
وتلهب الزفرات في طي الحشا ... خلى محل الصبر عنك محيلا
فاسعف بقربك إنه جل المنى ... لتكيد ضداً أو تسر خليلا
فالجسم في صفد أقام وقلبه ... بل قد تشحط في دمشق قتيلا
وكتبت أنا إليه من صفد:
يا بارقاً سال في عطف الدجى ذهبا ... أذكرتني زمناً في جلق ذهبا
لئن حكيت فؤادي في تلهبه ... فلست تحيكه لا وجداً ولا حربا
ويا نسمياً سرى والليل معتكر ... وهب وهناً إلى أن هزني طربا
أراك تنفح عطراً في صباك فهل ... تركت ذيلاً على جيرون منسحبا
أم قد تحملت من صحبي تحيتهم ... فكان ذلك في طيب الصبا سببا
قوم عهدت الوفاء المحض شيمتهم ... وإن شككت سل العلياء والأدبا
صرفت إلا عناني عن محبتهم ... وبت نضواً حيلف الشوق مكتئبا
لا الدار تدنو ولا السلوان ينجدني ... وعز ذلك مطلوباً إذا طلبا
أحبابنا إن ونت عني رسائلكم ... فلست أسأل إلا الفضل والحسبا
وحياتكم ما لنفسي عنكم بدل ... كلا ولا اتخذت في غيركم أربا
أعيذ ودكم من أن يغيره ... نأي ولو جردت من دون ذاك ظبا
لعل دهراً قضى بالبعد يجمعنا ... وقلما جاد دهر بالذي سلبا
أرضى بحكم زماني وهو يظلمني ... فيكم وأجني ببعدي عنكم التعبا
ولن يظفرني إلا بودكم ... يا حيرتي فيكم إن رد ما وهبا
نسيتموني ولم أعتد سوى كرم ... منكم يبوؤني من فضلكم رتبا
حاشاكم أن تروا هجري بلا سبب ... أو تجعلوا البين فيما بيننا حجبا(2/130)
عاقبتموني ولا ذنب أتيت به ... فقل عن الصخر إذ يقسوا ولا عجبا
عودوا إلى جبر كسري لا فجعت بكم ... فقد لقيت ببعدي عنكم نصبا
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك:
يا خير من خط في الأوراق أو كتبا ... وخير من حاول العلياء والأدبا
ومن علا فغلت فيه مودتنا ... وفاق فضلاً وفات العجم والعربا
أنت قصديك الغراء باسمة ... عن نقط أحرفها لما حكى الحببا
فرنحت أنفساً بالبعد قد تلفت ... وحركت كل عطف قد قسا طربا
فهل بعثت بعتب جاء عن قلق ... أو لطف نظمك قد أهدى نسيم صبا
حاشى المودة أن يعتادها ملك ... أو أن يكون النوى في مثله سببا
وإنما الدهر بالإزراء حاربني ... وجار في الحكم لما بت مغتربا
وما ترق على ذلي عواطفه ... ولا تمد إلى العلياء لي طنبا
وكلما قلت قد لينت شرته ... يزيد ناري على تأجيجها حطبا
فاعذز فإنك أولى الناس كلهم ... ببسط عذري إن لم أبعث الكتبا
فأنت تعلم أني قد جعلتك من ... دون البرية في الدنيا أخاً وأبا
فلا تؤاخذ إذا ما هفوة عرضت ... ممن يكون إلى علياك منتسبا
وكتبت أنا إليه من الرحبة أهنئه بمولود ذكر:
هناء به وجه الزمان تهللا ... وبشرى بها الإقبال وافى وأقبلا
فهنئت مولوداً أتى فتشوفت ... إليه عيون الفضل والمجد والعلى
وأكرم بنجم لاح فينا ومن يقل ... بنجل فحرف الميم باللام بدلا
إذا ضوأ الآفاق نور هلاله ... فكيف إذا ما صار بدراً مكملا
سيرضيك في أفعاله ومقاله ... إذا طال في أوج العلا أو تطولا
وترعف أقلام السيادة كفه ... ويرعف أعداء ويرعد ذبلا
ويستخدم البيض الرقاق يراعه ... إلى أن يرد الصعب سهلاً مذللا
ويسعى إلى أبوابه السعد صاغراً ... ويأتي إليه وهو طفل تطفلا
يقبل الأرض وينهي أنه جلس بهذه البشرى على سرر السرور، والتحف منها بحبر الحبور، وملأ كفه بالدرر من هذه الأفراح، وملأ طرفه بالبدور، ونطقته هذه المسرات بالمحامد فارتجل وارتجز، وأمكنته الفرصة من التهاني، فانتهب وانتهز، وقرن الهناء بالدعاء فابتهج وابتهل، تخير ساعات الإجابة فانتقد وانتقل، وكيف لا يبتهج المملوك بمخدوم تجدد، ويتمسك بفضل تعدد، ويسر بدوح تفرع، وإن كان أصله بالمزايا تفرد، وهو هذا إلا بيت تمد في العلياء أطنابه، ترفع في السيادة أعلامه وقبابه، وتتسع لبني الآمال ساحاته ورحابه:
وهذا هدية رب العلا ... فثق بهدايا هداياته
وما أقول إلا أن مولانا ليث وقد أشبل، وبحر زخر لجه حتى مد بجدول، ومن حرمان المملوك أنه ما شافه السمع الكريم بالتهاني، و لا فاز برصد هذا الهلال كيف يترقى إلى الإبدار على الدقائق والثواني، و لا عاين لسلوك المحبين إليه طريقة، ولا حضر لهذه الجوهرة النفيسة يوم عقيقة، وما ضر الأيام لو كنت لجوهره عرضاً أدنى، أو لو ساعفت بالقرب فأكون حاضراً بالصورة إذ قد حضرت بالمعنى، والله تعالى يمتع عينه الكريمة بهذه القرة، ويهبه أمثالها حتى يرى في كل ذرة من الزمان دره، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
فكتب هو الجواب عن ذلك:
أتاني كتاب منك كالبدر يجتلى ... فأصبحت أجلوه على سائر الملا
حكى الروض أمس بالأزاهر ناضراً ... أو العقد أضحى بالجمان مفصلا
يدير على سمع الأنام سلافة ... من القول فاتت منك مسكرة الطلا
لو أن أبا تمام أبصر حسنه ... لما قال في عصر تقدم أو خلا
تخال به برداً عليك محبراً ... وتحسبه عقداً عليك مفصلا
تهن به عبداً لعبدك قد أتى ... فناهيك من مولى به قد تطولا
لقد زاد عبد في عبيدك إذا أتى ... فتمم عداً حين جاء تكملا(2/131)
وإني لأرجو أن يفوء بخدمة ... يفوق بها فوق السماكين منزلا
تربيه مملوكاً وتنشيه خادماً ... ويكفيه هذا للمعالي توسلا
وكتب هو إلي من صفد وأنا مقيم بالديار المصرة بعد ما خرج إليها في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وقد ظن أن لي في خروجه مدخلاً، وعلم الله تعالى كاف:
إن كان ظنك أنني لك ظالم ... فارحم لأن تسمى لأنك راحم
حسب المسيء من القصاص بأنه ... جرح بجرح والسعيد مسالم
كم قد حرصت على التنصل عندما ... وقع العتاب فما أقال الحاكم
الله يعلم أنني عاذر ... والله عني بالبراءة عالم
ها قد جرى لي ما جرى لك قبلها ... ووقعت في صفد وأنفي راغم
إن صح لي فيها عليك جناية ... فجزاؤها هذا العقاب اللازم
فاقنع به واذكر قديم مودتي ... فالعهد فيما بيننا متقادم
أو لم يكن ذنب وحالي ما ترى ... فامدد إلي يداً وجاهك قائم
فلقد تأتى ما تريد فوالني ... منك الجميل فإنه لك دائم
جار الزمان على وليك واعتدى ... وإليك للزمن الألد يخاصم
من كان ليس بنادم مستدرك ... فأنا عليك إلى مماتي نادم
كانت هناة وانقضت ومن الذي ... منا وليس له تعد جرائم
إن الذي قسم الحظوظ كما يشا ... للرزق ما بين البرايا قاسم
قل وكثر ليس تبقى حالة ... والدهر بين الناس بان هادم
يا من له أخلصت كن لي مخلصاً ... فعلى مجازينا كلانا قادم
أعلنت بالشكوى لضر مسني ... لكن ودي في الحقيقة سالم
ولك السيادة خلة ومكارم ال؟ ... أخلاق منها في يديك خواتم
فاقبل أخوتي الجديدة إنني ... فيها لمجدك أو لودك خادم
وإلى الرضى عد بي وللحسنى أعد ... حتى تقوم على الصفاء علائم
والبس رياستك السنية حلة ... أبداً لها من نسج سعدك راقم
واجعل لها شكراً إقالة عثرة ... من صاحب قد صد عنه العالم
أنت الخليل بل الخلي من الهوى ... وأخوتي قد جرها لك آدم
فأعن أخاك بحسن سعيك مرة ... إن المغارم في الإخاء مغانم
قلت: الأجوبة التي تقدمت أصلحت أنا فيها أماكن حتى رقت ولطفت، وأما هذه الأبيات الميمية فهي شعره على صرافته لم أغير منها شيئاً، وهي بخط يده في التاريخ الكبير في ترجمته.
وكتبت أنا الجواب إلهي عن ذلك:
يا من تعرضني وقلبي سالم ... من إثمه والله إنك آثم
أتظن أني فهت فيك بفظة ... لا والذي هو بالسرائر عالم
ما الأمر فيك كما زعمت وإنما ... أنت امرؤ فيما أهمك واهم
أنسيت أن الله في أحكامه ... عدل وأنك في الحقيقة ظالم
فاقتص لي منك الغداة بمثل ما ... عاملتني والله عدل حاكم
كم قد قطعت الليل منك مسهداً ... والقلب ملتهب وطرفي ساجم
أستصرخ الأنصار فيك وكلهم ... في غفلة عما دهاني نائم
وإذا طلبت الروح من نفس الصبا ... جاءتني النسمات وهي سمائم
فأقمت في صفد ودمعي مطلق ... حزناً ومالي في البرية راحم
حتى إذا علم الإله ضرورتي ... نجى وطرفك بالغواية حالم
فأنب وتب لله وارض بحكمه ... واصبر فحكم الله أمر لازم
لعساك تؤجر أو ترى لك مخلصاً ... من ضيق حال ضره متفاقم
والله مالي في خروجك مدخل ... كلا ولا طبعي لذاك ملائم
فعليك بالصبر الجميل فإنه ... لجراح ناب النائبات مراهم
ما دام لي بخلاف قصدك شدة ... وكذاك ما تخشاه ما هو دائم(2/132)
أعزز علي بأن يسوءك حادث ... أو أن أنفك في الرزية راغم
ما احتجت للتذكار منك لأنني ... لك في الرخاء وفي الشقاء أقاسم
فلأبذلن عليك مجهودي إلى ... أن تنقضي البلوى وبالك ناعم
فتوخ في الأسحار أوقات الدعا ... إن الدعاء لدفع ذاك دعائم
فكأنني بك قد خلصت خلوص بد ... ر التم حيث سحابه متراكم
وصفوت كالإبريز يخرج من لظى ... والصبح قد أخفاه ليل عاتم
وأراك مسروراً ووجهك مسفر ... بشراً وثغرك بالأماني باسم
وكأنما قد كان من عبث الردى ... بك لم يكن ولك الزمان مسالم
وكان هو قد كتب بدمشق قبل الديوان كتاباً ببشارة النيل على وجه امتحان الخاطر، وجهز إلي نسخته، وهو: " أعز الله أنصار المقر ولا أخلاه من أثر رحمة يشاركه فيها الخلائق، وينبه ذوي الفضائل على التفكر في لطيف صنع الخالق، و يدخل في شمول عمومها وعموم شمولها الصامت والناطق، ويدل على إقبال الرخاء دلالة البرق المستطير على النوء الصادق:
حتى يكون مباركاً في نفسه ... وعلى الورى في سائر الأقطار
متقسم المعروف أحلى موقعاً ... عند النفوس من الخيل الساري
يحيكه مشبه كفه النيل الذي ... أغنى الثرى عن منة الأمطار
أربى عليها لونه لما جرى ... ما شانه الإرعاد بالأكدار
وهي نعمة تحدث عن عجائب بحرها على الحقيقة ولا حجر، ويتساوى في الانتفاع بها كل نام فضلاً عما دب ودرج. لقد أبرزت كنانة أرض الله في أثوابها القشب، وسرى ذكرها إلى الشام المرتقب، موسم الوسمي طليعة السحب تضمن ذلك المثال الشريف الوارد بخبر وفائه القائل من سمعه: هذا عذوبة ألفاظ ألبستها من حلاوة مائه. وإن المقياس أتى بتمام قياسه الثابت على عادة عدانه، ونادى وقد سقى الأرض غير مفسدها بالأمان من طوفانه. وإن أراقم غدرانه انسابت في ذلك الإقليم فابتلعت غدران أراقمه، ومحا سيله المتدفق معالمه المجهولة، فاستعمل الأقلام في إثبات معالمه. وإنه أحاط بالقرى كالمحاصر فضرب بينها وبين ضائقة المحل بسور، وأخذ الطرق على السالكين فلا مراكب في البر ولا عاصم إلا الجسور. ولم تنتقض قاعدة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. على أن لله الحفي في هذا لطفاً خفياً وما هو بالخفي، فنقصها جاء " تماماً على الذي أحسن " ، ونجاة بدنها الهالك للنبات آية المأمن. وكأني بهذا المخبر عنه، وقد بلغ الزبا من الربا، فطار النسر مبلول الجناح، ودنا حين أطلق فركضه من مشى بالأرجل، لا أن رفعه من قام بالراح.
ومولانا يأخذ من هذه الأنباء بأحسنها وكلها حسنة، ومن هذه البشائر المنتظر قدومها بأبينها يمناً وكلها بينة متيمنة، وقد علم حق نعم الله الشكر فيوفيها منه حقها. ويتوقع رزق بلاده من السماء كما وعد، فقد أخرج لتلك من خزائن غيبه رزقها، ويوفر الرعايا من الجباية ليتوفروا على الدعاء، ويعرفوا نزاهة هذه الدولة القاهرة عن القوة على الضعفاء.
فإن المرسوم الشريف نص على هذه الخاتمة الجلية، وطهر هذه الموارد من قذى الأذى لتنقى القلوب من السخط كما كانت في نفسها نقية، ومن وعى فواضل هذا الكرم الطاهر فليقل: يا مقيلات الجدود العواثر.
والله تعالى يجعل مولانا من المتوكلين عليه ليزيده إيماناً، ويرزقه كما رزق تلك الديار التي غدت من الظمأ خماصاً، وراحت من الري بطاناً، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
ولما كنت أنا بالديار المصرية سنة تسع وعشرين وسبع مئة ألزمني القاضي شهاب الدين بن فضل الله رحمه الله تعالى أن أنشئ كتاباً في المعنى، فكتبت، وبالله التوفيق: ضاعف الله تعالى نعمةالجناب وسر نفسه بأنفس بشرى، وأسمعه من الهناء كل آية هي أكبر من الآخرى، وأقدم عليه من المسار ما يتحرز ناقله ويتحرى، وساق إليه كل طليعة إذا تنفس صبحها تفرق ليل الهم وتفرى، وأورد لديه من أنباء الخصب ما يتبرم به محل المحل ويتبرا.(2/133)
هذه المكاتبة إلى المجلس العالي تخصه بسلام يرق كالماء انسجاماً، ويروق كالزهر ابتساماً، وتتحفه بثناء جعل المسك له ختاما، وضرب له على الرياض النافحة خياما، وتقص عليه من نبأ النيل الذي خص الله الديار المصرية بوفادة وفائه، وأغنى قطرها عن القطر فلم تحتج إلى مد كافه وفائه، ونزهه عن منه الغمام الذي إن جاد فلا بد له من شهقة رعده ودمعة بكائه، فهي البلاد التي لا يذم للأمطار في جوها مطار، ولا يزم للقطار في بقعتها قطار، ولا ترمد الأنواء فيها عيون النوار، ولا تشيب بالثلوج فيها مفارق الطرق ورؤوس الجبال، ولا تبيت البروق ساهرة لمنع العيون من تعهد الخيال، ولا تفقد فيها حلى النجوم لاندراج الليلة تحت السحب بين اليوم وأمس، ولا يتمسك المساكين في شتائها كما قيل بحبال الشمس. وأين أرض يخمد عجاجها بالبحر العجاج، وتزدحم في ساحاتها أفواج الأمواج من أرض لا تنال السقيا إلا بحرب لأن القطر سهام والضباب عجاج قد انعقد، ولا يعم الغيث بقاعها، لأن السحب لا تراها إلا بسراج من البرق إذا اتقد، فلو خاصم النيل مياه الأرض لقال: عندي قبالة كل عين إصبع، ولو فاخرها لقال: أنت بالجبال أثقل وأنا بالملق أطبع.
والنيل له الآيات الكبر، وفيه العجائب والعبر، منها وجود الوفاء عند عدم الصفاء، و بلوغ الهرم إذا احتد واضطرم، وأمن كل فريق إذا قطع الطريق، وفرح قطان الأوطان إذا كسر والماء كما يقال سلطان، وهو أكرم منتمي، وأشرف منتدى، وأعذب مجتنى، وأعظم مجتدى. إلى غير ذلك من خصائصه وبراءته مع الزيادة من نقائصه، وهو أنه في ذا العلم المبارك جذب البلاد من الجدب، وخلصها بذراعه، وعصمها بخنادقه التي لا تراع من تراعه، وحصنها بسواري الصواري تحت قلوعه وما هي إلا عمد قلاعه.
وراعى الأدب بين أيدينا الشريفة في مطالعتنا الشريفة في كل يوم بخير قاعة في رقاعه، حتى إذا أكمل الستة عشر ذراعاً، وأقبلت سوابق الخيرات سراعاً، وفتح أبواب الرحمة بتغليقه، وجد في طلب تخليقه، وتضرع بمد ذراعيه إلينا، وسلم عند الوفا بأصابعه علينا، ونشر علم ستره، وطلاب لكرم طباعه جبر العالم بكسره.
فرسمنا بأن يخلق، ويعلم تاريخ هنائه ويعلق، فكسر الخليج وقد كاد يعلوه فرح موجه، ويهيل كثيب سده هول هيجه، ودخل يدوس زرابي الدور المبثوثة، ويجوس خلال الحنايا كأن له في هذا خبايا موروثة، ومرق كالسهم من قسي قناطره المنكوسة، وعلا زبد حركته ولولاه ظهرت في باطنه من بدور أناسه أشعتها المعكوسة، وبشر بركة الفيل ببركة الفال، وجعل المجنونة من تياره المتحدر في السلاسل والأغلال، وملأ أكف الرجاء بأموال الأمواه، وازدحمت في عبارة شكره أفواج الأفواه، وأعلم الأقلام بعجزها عما يدخل من خراج البلاد، وهنأت طلائعه بالطوالع التي نزلت بركاتها من الله عز وجل على العباد. وهذه عوائد الألطاف الإلهية بنا التي لم نزل نجلس على موائدها، ونأخذ منها ما نهبه لرعايانا من فوائدها.
ويخص بالشكر قوادمها فهي تدب حولنا وتدرج، وتخص قوادمها بالثناء والمدح والحمد فهي تدخل إلينا وتخرج.
فليأخذ الجناب العالي حظه من البشرى التي جادت المن والمنح وانهلت أياديها الغدقة بالسح والسفح، وليتلقاها بشكر يضيء به في الدجا أديم الأفق، ويتخذها عقداً يحيط به من العنق إلى النطق، وليتقدم الجناب العالي بأن لا يحرك الميزان في هذه البشرى بالجباية لسانه، وليعط كل عامل في بلادنا المحروسة بذلك أمانه، وليعمل بمقتضى هذا المرسوم الشريف حتى لا يرى في إسقاط الجباية خيانة.
والله تعالى يديم الجناب العالي لقص الأنباء الحسنة عليه، ويمتعه بجلاء عرائس التهاني والأفراح لديه، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وكتبت أنا إلى زين الدين المذكور، وقد أعارني نسخة الفلك الدائر:
فديت مولى خالني مقتراً ... فعمني بالنائل الغامر
لم يرض بالأرض على قدره ... فجاد لي بالفلك الدائر
فراح وصفي في علا مجده ... مشتهراً كالمثل السائر
وأنشدني من لفظه لنفسه في ضوء البدر بين الغصون:
نظرت للشهب وقد أحدقت ... بالبدر منها في الدياجي عيون
والروض يستجلي سنا نوره ... فتحسد الأرض عليها الغصون
وكلما صانته أوراقه ... نازعها الريح فلاح المصون(2/134)
فقلت حتى البدر لم تخله ... ريب الليالي في السما من عيون
فقلت له: والله حسن، ولكن أطلت فيه النفس في أربعة أبيات، ولو كان ذلك في بيتين لكان أحسن. وأنشدته لنفسي في ما بعد ذلك:
كأنما الأغصان لما انثنت ... أمام بدر التم في غيهبه
بنت مليك خلف شباكها ... تفرجت منه على موكبه
وسيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة جمال الدين يوسف النابلسي الصوفي شيء من هذا المعنى.
وأنشدته يوماً الأبيات التي أوردتها في ترجمة شيخنا نجم الدين حسن بن محمد خطيب صفد، وأولها:
ولقد ذكرتكم بحرب ينثنى ... غن بأسها الهزبر الأغلب
فأنشدني هو لنفسه في هذا المعنى:
ولقد ذكرتك عندما بلغ الزبا ... عرق الجياد وفاض ماء النيل
والبحر بر بالوحول وقد طمى ... بالبر بحر فرسخ في ميل
والناس قد خاضوا فأغرق بعضهم ... ونجا القليل بضجة وعويل
وقلوبهم من روعها في غمرة ... ويطب ذكرك بينهم تعويلي
ولما رسم بعوده إلى ديوان الإنشاء بدمشق في أيام الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب دمشق، كتبت أنا إليه توقيعاً، ونسخته: رسم بالأمر العالي لا زال يزيد الأولياء زينا، ويزين الأكفاء بمن إذا حل صدراً كان عيناً، ويرتجع لكل مستحق ما كان له في ذمة الزمان ديناً، أن يستقر المجلس العالي الزيني في كذا، لأنه الكاتب الذي دبج المهارق، ورقم طورسها فكان لها نظرات الحدق ونضارة الحدائق، وخط سطورها التي إذا رملها غدت من الحسن كالريحان تحت الشقائق، وصرع بها أطيار المعاني لأن دالات السطور قسي، والنقط بنادق، وزان آفاقها بنجوم أسجاعه فلم يصل أحد إلى درجات فصاحتها لما فيها من الدقائق، وأصدرها في الروح والروع يرجى الحيا منها وتخشى الصواعق، وأودعها نفائس إنشائه فأثنى عليها أئمة البلاغة، ولو سكتوا أثنت حقائب الحقائق. طالما كتب بالأبواب الشريفة تقليداً، وجهز في المهمات كتباً ملأت البحر حرباً والبر بريداً، ووشى أمثلة صدرت عنها فطارت في الآفاق، ولكن أوثقتها الأفهام تقييداً، وعاد الآن إلى الشام فنفس عنه خناق الوحشة بقربه، وتلقها بالرحب علماً بأنه يغني عن الكتائب بكتبه، وأحله في رتبة يشرفها الولي بسلمه ويسوء العدو بحربه، شوقاً إلى أنس ألفه من لطفه، وعرفه من عرفه في نفح عرفه، فطاب به الواديان كلاهما، وتنافسا في أخذ حظيهما من قربه، فما تساهلا تساهماً، فهو من القوم الذين تسقى البلاد بهم وتسعد، وإذا قربوا من مكان تخطاهم السوء للأبعد، وإذا قاموا بمهم كانوا فيه أقعد، وإذا باشروا المعالي كانوا أسعد الناس وأصعد، وإذا كتبوا كبتوا العدا، لأن كلامهم لمع فأبرق وطرسهم قعقع فأرعد.
فليباشر ذلك على ما عهد من أدواته الكاملة، وكلماته التي تركت محاسن البرايا بائرة وأزاهر الخمائل خاملة. والوصايا التي تملا كثيرة، وكم شرع لها قرطاسه وشرعها بأقلامه، ونضد عقودها بإحكام أحكامه، وملأ بجيوشها صدور مهامه. فما يلقى إلى بحره منها دره، ولا يذكر لطود فضله منها ذره، ولا يطلع القلم في أفق فضل كله شموس من ذلك بدره، ولا يدل مثله على صواب، فقبيح بالعوان أن تعلم الخمرة، ولكن لا بد للقلم من لفتة جيد، وفلتة نفث تكون كالخال في الوجنة ذات التوريد.
وهي الذكر بتقوى الله تعالى التي من عدمها فقد باء بخسران متين، ومن لزمها فقد جاء بسلطان مبين.
والله يتولى رفعة مجده وسعة رفده. والخط الكريم أعلاه حجة بالعمل بمقتضاه. والله الموفق بمنه وكرمه. إن شاء الله تعالى.
وقد أوردت كثيراً من كلامه في ترجمته في التاريخ الكبير الذي أسميته الوافي بالوفيات.
؟؟عمر بن سعد الله
الإمام زين الدين الحراني الحنبلي، المعروف بابن بخيخ، بباء موحدة وخاء معجمة مفتوحة، وياء آخر الحروف ساكنة، وخاء ثانية.
سمع الكثير، وحضر على الفخر، وكان بالفقه بصيراً، وبالنحو خبيراً، تخرج بالعلامة الشيخ تقي الدين بن تيمية وبغيره ممن ساد بعلمه في البرية. وناب في الحكم لابن المنجا، وخلص الحقوق ونجى، وكان يقول برأي الشيخ تقي الدين في المسائل التي انفرد بها ووقع له ما وقع بسببها، ويحكم بها وتسطر، ويذيب بها قلوب المخالفين فتفطر.(2/135)