أخبار النعمان بن بشير الأنصاري - رضي الله عنه -
من روايات أبي الفرج الأصفهاني
في ميزان النقد العلمي
أ. محمد علي كاتبي
مدرس لغة عربية بالمدينة المنورة
وقفت أثناء مصاحبتي النعمانَ بنَ بشير رضي الله عنهما ،
- لدراسة حياته وشعره - على كثير من أخباره في مرويات أبي الفرج الأصفهاني في كتابه : ( الأغاني ) ، فهالني ما رأيت من غمز الأصفهاني النعمانَ ، والنيل منه ، بروايات عجائب وغرائب يخرج قارئها بصورة شوهاء لهذا الصحابي الجليل .
وقد ساق الأصفهاني مروياته مُسْنََدة ، وهذا ما يوهم القارئ بالثقة والسلامة ، فإذا أنعم الباحث نظره في تلك الروايات ؛ وجد أخبارًا واهية ، وقصصًا متهافتة ، لا تستحق أن تروى ؛ بَلْهَ أن تروى بالإسناد ، وإذا ما وُضِع السند على المحك ظهرت نكارته ، وبان اضطرابه وتلفيقه .
وقد تتبعتُ تلك الروايات ، فوجدت معظمها مما كان بين النعمان بن بشير ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهم - .
فمن هو النعمان ؟
هو : النعمان بن بشير بن سعد بن الجلاس ... الأنصاري الخزرجي(1) ، وأمه : عَمْرَة بنت رواحة الخزرجية الأنصارية ، أخت عبد الله بن رواحة ؛ الصحابي الشاعر ، أمير جيش مؤتة وشهيدها .
ولد النعمان في السنة الثانية للهجرة ، وهو من صغار الصحابة الذين لازموا النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق ، وسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما روى عن كبار الصحابة .
__________
(1) انظر تحقيق نسبه في البحث المنشور في العدد السابع من هذه المجلة للكاتب نفسه تحت عنوان : من أعلام المدينة ، بشير بن سعد ( أبو النعمان ) ، 187-206 .(1/1)
وقد نشأ على الفضائل ؛ فاجتمعت له كثير من الخلال الحميدة ، فأثنى عليه العلماء والمؤرخون ، وعدُّوهُ رجلاً رشيدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر ابن عبد البر وابن الأثير(1) أنه كان كريمًا ، جوادًا ، شاعرًا ، شجاعًا ، أميرًا حصيفًا ، وسفيرًا مُسَدَّدًا ، وحليمًا ناسكًا .
وقد رُبِّيَ على عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وشَبَّ في خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، واستعمله عثمان على الصدقات ... ، فكان هذا أول عمل يليه ، ثم التحق بالشام عقب استشهاد عثمان - رضي الله عنه - ، فأفاد معاوية - رضي الله عنه - من كفاءته ، وعلمه ، وشجاعته ، فولاَّه على اليمن والكوفة ، ثم استقدمه إلى دمشق ، فولاَّه قضاءها ، فكان على مقربة منه ، ثم أعاده على الكوفة ثانية ، ومات معاوية ؛ والنعمان أمير الكوفة ، فأثبته يزيد عليها ، ثم نزعه عنها ، فولاه حمص ، وحين مات يزيد ، واضطربت الأمور بعده ، بايع النعمان لابن الزبير ، فلما انتصر مروان بن الحكم في ( مرج راهط ) ، وانكسر فريق ابن الزبير ، خرج النعمان من حمص خائفًا يترقب ، فقتل بين حمص وحماة ، سنة أربع وستين .
روى النعمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا من الأحاديث(2) .
وقد عُرفت حياة النعمان بن بشير في كنف معاوية رضي الله عنهما بالتَّوادِّ ، والإخلاص ، ورفع معاويةُ النعمانَ مكانًا يليق بمنزلته ، (( فكان النعمان كريمًا عليه ، رفيقًا عنده ... ))(3) .
__________
(1) الاستيعاب 3/552 ، وانظر : أسد الغابة 5/538 .
(2) انظر في ترجمته : ابن سعد ، الطبقات 6/53 ، ابن الأثير ، أسد الغابة 5/326 ، ابن عبد البر ، الاستيعاب 3/551 ، ابن عساكر ، تاريخ دمشق 26/160 ، الذهبي ، سير أعلام النبلاء 3/411 ، ابن كثير ، البداية والنهاية 8/247 ، ابن حجر ، الإصابة 3/559 ، الزركلي ، الأعلام 8/36 .
(3) الأغاني 14/115 .(1/2)
وكان النعمان لا يألو معاويةَ نُصحًا وإرشادًا حين يفزع لاستشارته ، وعلى هذه تَسرَّدَتْ أيامُهما ، وما زال النعمان حتى عُدَّ أقربَ خاصَّةِ معاويةَ الأَدْنَينَ ، وأحدَ خَمسةٍ شهدوا وفاته ، ووصيته ليزيد(1) ؛ (( فقد كان النعمان كبيرًا ، أثيرًا ، مكينًا عند معاوية ))(2) .
لكنا نجد في بعض روايات الأصفهاني غير ما تقدم ، نجد روايات يلوح من خَلَلِها المخاتلة والكراهية بين معاوية والنعمان ، وصراعًا مختلقًا بين الأمويين والأنصار ، ومن تلك الروايات :
أورد أبو الفرج الأصفهاني الرواية التالية في موضعين من الأغاني ، وفي كل موضع بسند ، فأما الأول فقال : (( أخبرني عمي ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي سعد ، قال : حدثني محمد بن الحسن بن مسعود ، عن أبيه ، عن مشيخة من الأنصار ، قال : (( حضرت وفود الأنصار باب معاوية بن أبي سفيان ، فخرج إليهم حاجبه أبو درة ، فقالوا له : استأذن للأنصار ، فدخل إليه وعنده عمرو بن العاص ، فاستأذن لهم ، فقال له عمرو : ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين ؟ ارددِِ القومَ إلى أنسابهم . فقال معاوية : أخاف من ذلك الشُّنَعَة ، فقال عمرو : هي كلمة ؛ إن مضت عرَّتهم ونقصتهم ، وإلا فهذا الاسم راجع إليهم . فقال له : اخرج فقل : من كان هاهنا من ولد عمرو بن عامر فليدخل . فقالها الحاجب ، فدخل ولد ( عمرو بن عامر ) كلُّهم إلا الأنصار ، فنظر معاوية إلى عمرو نظرَ مُنكرٍ ، فقال له : باعدتَ جدًا ، فقال : اخرجْ فقلْ : من كان هاهنا من الأوس والخزرج فليدخل . فخرج فقالها ، فدخلوا يَقْدُمُهُمُ النُّعمانُ بن بشير وهو يقول :
__________
(1) أبو حاتم السجستاني ، المُعَمَّرُون والوصايا 158 ، والخمسة هم : 1 - النعمان بن بشير ، 2 - الضحاك بن قيس الفهري ، 3 - مسلم بن عقبة المري ، 4 - ثور بن معن السلمي ، 5 - زياد بن عمرو العقيلي .
انظر : الطبري 2/185 .
(2) الأغاني 14/118 .(1/3)
يا سعدُ لا تُجبِ النِّدَاءَ(1) فما لنا ... نَسَبٌ نُجيبُ به سوى الأنصارِ
نَسَبٌ تَخَيَّره الإلهُ لقَومِنا ... أَثْقِلْ به نَسبًا على الكفارِ
إِنَّ الذين ثَوَوا ببدرٍ منكمُ ... يومَ القليبِ هُمُ وقودُ النارِ
جج
فقال معاوية لعمرو : قد كنا لأغنياء عن هذا ، ثم بعث إلى النعمان يترضاه
ويقضي حوائجه ، وحوائج من معه من الأنصار ))(2) . انتهى .
وأما السند الثاني ، فقال : (( أخبرني محمد بن خلف وكيع ، قال : حدثني أحمد بن الهيثم الفراسي ، قال : حدثني العمري ، عن الهيثم بن عدي !! قال : (( حضرت وفود الأنصار ... الخ الرواية )) .
سبقت الإشارة إلى أن هذه الرواية قد وردت في موضعين ، وبسندين مختلفين ، فأما الأول : قوله : (( أخبرني عمي )) ، فهذا مجهول العين ، ولم أقف له على اسم ولا ترجمة .
وأما (( عبد الله بن سعد )) ،ويقال له : عبد الله بن بشر الوراق ، أبو محمد البلخي ، فليس فيه توثيق لمعتبر(3) .
وأما (( محمد بن الحسن بن مسعود )) ، فقد ورد له ذِكْرٌ في ( تاريخ بغداد ) ، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً ، إلا أنه قال : (( وكان حسنَ الفهم ، وكان يخضب ))(4) .
وأما قوله : (( عن مشيخة من الأنصار )) فهذه جهالة كما ترى .
ومثل هذا السند ، الذي بدأ بمجهول ، وانتهى بمجهول ؛ سند ضعيف لا يصح اعتماده .
وأما السند الثاني للرواية فقال فيه : (( أخبرني محمد بن خلف وكيع )) ، قال ابن المنادي : (( فيه لين ))(5) .
__________
(1) في بعض الطبعات من الأغاني : ( لا تعد النداء ) .
(2) الأغاني 16/50 ، 55 .
(3) انظر : الخطيب البغدادي ، موضح أوهام الجمع والتفريق 2/226 . وبعض الوارقين متهم بالكذب ، قال ابن النديم : (( وصنف الوراقون وكذبوا .... )) . وانظر الفهرست ، ص 121 .
(4) تاريخ بغداد 2/185 .
(5) انظر : الذهبي ، المغني في الضعفاء والمتروكين 2/576 ، ميزان الاعتدال 3/538 ، لسان الميزان 5/156(1/4)
وأما (( أحمد بن حسن الفراسي )) ، فلم أقف له على ترجمة .
وأما (( الهيثم بن عدي الطائي )) ، فقد ولد عام 114هـ ، وتوفي عام 207هـ ، صاحب أخبار ومثالب وأكاذيب ، أمه من سبايا منبج ، نشأ وأقام في الكوفة ، في أصله ونسبه مطاعن ، حتى شاع القول فيه :
إذا نسبت عديًا في بني ( نُفَلٍ ) فَقَدِّمِ الدَّال قبلَ العَيْنِ في النسب
ويروى البيت : في بني ( ثُعَل ) .. ، مات في واسط . وأجمع علماء الرجال على جرحه وتكذيبه ونبذه ، قال فيه البخاري ويحيى بن معين والساجي : (( كان يكذب )) . وقال عنه أبو داود والعجلي : (( كَذَّاب ))(1) . وقال عنه الإمام أحمد : (( صاحب أخبار وتدليس )) .
قالت جاريته : (( إذا أصبح مولاي جلس يكذب ))(2) .
قال النَّسائي : (( متروك الحديث ))(3) .
فهذه أسانيد أبي الفرج الأصفهاني ، وعن أمثال هؤلاء كل روايته .
ثم ما هذا الأمر الجسيم الذي يستدعي الأصفهاني أن يورد هذه القصة مرتين ، وفي كل مرة بسند مختلف ؟!!
ولعل قائلاً يقول : قد شاع عن العلماء أنهم قالوا : (( إذا روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحلال والحرام تشدَّدنا في الأسانيد ، وإذا روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضائل الأعمال ، وما لا يضع حكمًا ولا يرفعه ، تساهلنا في الأسانيد ))(4) .
وهذا في الدين وعقائده ، وأحكامه من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف والأمر - هنا - لا يتعدى أخبار الأدب وطرائف السمر ؟
__________
(1) ميزان الاعتدال 4/324 .
(2) النسائي ، الضعفاء والمتروكين 3/179 .
(3) انظر : ابن حجر ، لسان الميزان 6/209 ، الذهبي ، المغني في الضعفاء والمتروكين 2/717 ، النسائي ، الضعفاء والمتروكين 3/179 ، ابن حبان ، المجروحين 3/92 ، ابن أبي حاتم ، الجرح والتعديل 9/85 .
(4) انظر : الخطيب البغدادي ، الكفاية في الرواية ، ص 212 وما بعدها .(1/5)
وجوابنا عن ذلك : إن اعتقاد هذا القول - على إطلاقه - محل نظر ونقاش بين العلماء ، وليس هنا موضع تفصيل الكلام عليه ، وهذا القول نفسه لا يخلو من مقال .
والحق ؛ إن العلماء رحمهم الله قد بذلوا الجهود المضنية في الرواية ، وميزوا الصحيح من السقيم ، وكشفوا عن حال الرواة المجروحين ، واطَّروحهم فلم يعتدُّوا بروايتهم ، ولم يَرووا عنهم أي شيء ، وشددوا النكير على من يروي عنهم ، وعدُّوا من روى عنهم - وهو عالم بحالهم - آثمًا ، غاشًا المسلمين ، بل هو أحد الكذبة(1) .
وإن من اجترأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكذب ، فهو على من سواه أجرأ ، ولو كانت تلك الأباطيل ، فيمن تضم مجالس السمر واللهو ، أو مجالس ( الأدب !! )
- كما يقولون - من أمثال الأصفهاني ، وآخرين من شكله ، ما بالينا بهم ، ولم نعبأ ، وبعد ؛ فإن الذي يقرأ تلك الرواية يحسب أن القيامة قامت على باب معاوية ، فاجتمع عليه أحياء العرب ، فقد نادى الحاجب : (( من كان هنا من ولد
( عمرو بن عامر ) فليدخل ، فدخل ولد ( عمرو بن عامر ) إلا الأنصار )) ، وهذا كله تهويل وتلبيس ؛ إذ الأنصار هم ولد ( عمرو بن عامر ) ؟!!
وإننا لنتساءل ، ماذا يريد هذا الأصفهاني وأضرابه من إيراد هذه الافتراءات ؟؟
لا ريب أنهم يسعون إلى تشويه صورة رجال القرن الأول المفضل في أذهان من يصدقهم ونفوسهم .
__________
(1) انظر : مقدمة الإمام مسلم لصحيحه .(1/6)
فأية إحن كانت بين الأنصار وعمرو بن العاص حتى يشير على معاوية بذلك ليحرِّش بينه وبين النعمان وقومه الأنصار ؟ وتاريخ الرجلين أنقى وأتقى من أن يتدلى إلى هذا الدَّرْك ، وثقات العلماء أجمعوا : أن عَمْرًا - رضي الله عنه - كان أتقى لله وأخلص ، فقد (( روى مجالد عن الشعبي عن قبيصة بن جابر قال : صحبتُ عمرَو بنَ العاص ، فما رأيت رجلاً أبينَ أو أنصعَ رأيًا ، ولا أكرم جليسًا منه ، ولا أشبه سريرة بعلانية منه ))(1) .
فهل كريم المجالسة يشير على جليسه بذلك ؟؟ وهل هذه المحارشة من سلامة الصدر والسريرة ؟؟
وحَسْبُ عمرو بن العاص - رضي الله عنه - شهادةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له : بأنه من صالح قريش ومؤمنيهم ؛ بَلْهَ كونَه رجل قريش رأيًا وحزمًا ودهاءً ، ومنْ به يضرب المثل في الفطنة والألمعية(2) .
أفمن كانت هذه من صفاته ؛ يعمد إلى تلك التُّرَّهَات ، التي يزجيها الأصفهاني في مروياته ؟!!
ولماذا يهيِّج عمرو معاوية على الأنصار ؟ وهو - بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صالح المؤمنين ، ولم يُعْهَد عنهما غير صادق المودة ، وصفاء الأخوة ؟! ولننظر الآن في هذه الرواية :
أولاً : مِن أين علم النعمانُ ما دار بين أمير المؤمنين معاوية وجليسه عمرو ، حتى يدخل عليهما مغضبًا متوفزًا ؟ ثم يفتح الله عليه بهذا الشعر : ( يا سعدُ لا تجب النداء ... ) الأبيات ؟؟ وما معنى أن يعيِّرَهم ببدر وقد أسلموا وحسن إسلامهم ، واستوثق الإيمان
منهم ، وغدوا من أئمة المسلمين ؟؟ ومَنْ يعني بقوله : (( أثقلْ به نسبًا على الكفار ؟؟ )) ، ومن هم الكفار ؟ أيعني : الفُرسَ ؟ أم الروم ؟ أم اليهود والنصارى والمشركين ؟ لا ، وإنما يعني - صانعُ هذه الأبيات - بالكفار : عمرَو بنَ العاص ، ومعاوية ، بدليل البيت الذي يليه :
__________
(1) سير أعلام النبلاء 3/57 ، 74 ، وانظر : مع الرعيل الأول 116 ، 117 .
(2) السابق 3/55 ، 59 .(1/7)
إِنَّ الَّذِينَ ثَوَوا بِبَدْرٍ مِنْكُمُ ... يَومَ القَلِيبِ هُمُ وَقُودُ النَّارِ
ثانيًا : قد أشرتُ في مطلع هذا المبحث إلى صدق العلاقة بين معاوية والنعمان ، ومتانتها ، وأثبتُّ في رأس هذا البحث كلمةً للأصفهاني نفسه تؤكد متانة الصلة بين الرجلين ، وإخلاصهما ، حيث قال : (( كان النعمان كريمًا على معاوية ، رفيقًا عنده ... ))(1) . فهل هذا من كرم الرجل على أخيه ، ورِفْقِهِ به ؟؟ أو أن كلام الأصفهاني يَرُدُّ بعضه بعضًا .. ويُسقط آخره أوله ؟!!
ثالثًا : وهذه الأبيات التي ذكرها الأصفهاني ، ليست في أصل شعر النعمان الصَّحيحِ النِّسْبَةِ إليه(2) ، وإنما اخترعها ( الأصفهاني ) ، أو ساقها له رواته غير الثقات ، وعلى رأسهم شيخه الهيثم بن عدي !!
وشبيه بتلك الرواية عجيبة ثانية ، وغريبة أخرى أزجاها الأصفهاني ، ورواها هذه المرة عن شيخ شعوبي كان (( يبغض العرب ، وقد صنف في مثالبهم الكتب ... ))(3) ، هو أبو عُبَيْدة ؛ مَعْمَر بن المثنى ، حيث ساق الأصفهاني بسنده عنه ، قال : (( أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي ، قال : حدثنا أبو غسان داماذ ، قال : حدثنا أبو عبيدة ، قال : نظر معاوية إلى رجل في مجلسه ، فراقه حسنًا وشارة وجسمًا ، قال : فاستنطقه ، فوجده سديدًا ، فقال له : ممن أنت ؟ قال : ممن أنعم الله عليهم بالإسلام ، فاجعلني حيث شئتَ يا أمير المؤمنين ، قال : عليك بهذه الأزد ؛ الطويلةِ العريضةِ الكثير عددها ، التي لا تمنع من دخل فيهم ، ولا تبالي من خرج منهم .
فغضب النعمان بن بشير ، ووثب من بين يديه ، وقال : أما والله ، إِنَّك - ما علمتُ - لسيئ المجالسة لجليسك ، عاقٌّ بزورك ، قليل الرعاية لأهل الحرمة بك .
__________
(1) الأغاني 14/115 .
(2) انظر : د. يحيى الجبوري ، شعر النعمان بن بشير 69 ، 133 ، 147 .
(3) انظر : ابن حجر ، تهذيب التهذيب 4/126 ، الأعلام 7/272 .(1/8)
فأقسم عليه إلاَّ جلس ، فضاحكه معاويةُ طويلاً ، ثم قال له : إن قومًا أوَّلُهم غسانُ ، وآخرهم الأنصارُ لكرامٌ . وسأله عن حوائجه فقضاها حتى رضي )) انتهى(1) .
ساق الأصفهاني هذه الرواية عن (( هاشم بن محمد أبو دلف )) ، وليس فيه توثيق لمعتبر .
وأما (( أبو غسان داماذ )) ، فهو لغوي ، واسمه : رفيع بن سلمة ، صاحب أبي عبيدة ، وليس فيه توثيق لمعتبر(2) .
وأما (( أبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى )) ، مولى بني تيم فهو أخباري لغوي عالم ، ولد في البصرة سنة 110هـ ، وكان شعوبيًا ، نُقل عن ابن قتيبة : أن معمرًا كان يبغض العرب ، ويصنف في مثالبهم الكتب . ذكر ابن حجر أن أبا عبيدة عمل كتابًا في المثالب ، يطعن فيه على بعض أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
كما نقل الذهبي عن الدارقطني : أن معمرًا هذا كان يتهم بشيء من رأي الخوارج ، ويتهم بالأحداث ، (( وكان لا يقبل أحد من الحكام شهادته لهذه التهمة )) ، وكان مع سعة علمه ربما أنشد البيت لم يقم وزنه ، ويخطئ إذا قرأ القرآن في المصحف .
مات في البصرة بين سنة 209هـ و 211هـ، ولم يحضر أحد جنازته ؛ لسوء أثره لدى الناس(4) .
ذكر السيوطي : (( أن رجلاً قال له : يا أبا عبيدة ؛ قد ذكرت الناس ، وطعنت في أنسابهم ، فبالله إلا عرفتني ؛ من أبوك ؟ وما أصله ؟ فقال : حدثني أبي أن أباه كان يهوديًا ببَاجَرَان ))(5) .
وهذا السند فيه انقطاع بين أبي عبيدة ومعاوية ، فهو إسناد ضعيف ، ومثله لا يحتج به .
__________
(1) الأغاني 16/48 .
(2) انظر : ابن حجر ، نزهة الألباب 1/266 .
(3) تهذيب التهذيب 4/126 .
(4) انظر : ميزان الاعتدال 4/155 ، تهذيب التهذيب 4/126 ، بغية الوعاة 2/294 ، الأعلام 7/272 .
(5) بغية الوعاة 2/295 .(1/9)
ولعل الأصفهاني قد أراد أن يبين ما طفح به صدره من حقد على السلف ورجالاته بشتم معاوية - رضي الله عنه - ، فساق هذه الرواية المفتراة ليدير الشتم بلسان النعمان بن بشير ، وليظهِرَ صورة المجتمع الإسلامي مشوهة دميمة - كما هي في نفسه - وليست كما هي على حقيقتها .
ولسنا نزيد في هذه على ما قلناه في سابقتها من التعليق ، ولكن المؤسف حقًا ، أن يجعل بعض الباحثين أمثالَ هذه الأقاصيص الواهية ، روايات مُسَلَّمًا بها ، فيتخذها قاعدة يمضي منها إلى أحكام خاطئة جائرة في جيل من الرعيل الأول ، فيزعم : أن معاوية - رضي الله عنه - (( لم يستطع أن يتغلب على هذه ( العصبية القرشية ) ضد الأوس والخزرج ، في الجاهلية ، وضد الأنصار ، في الإسلام ))(1) .
ولو كلَّف هذا ( الباحث ) نفسه السؤال عن أصل هذه الرواية ، لما صار فيما انتهى إليه .
وهذه رواية ثالثة في ( الأغاني ) ، أسوقها بسندها أيضًا ؛ لنقف على شيء مما امتلأت به نفس الأصفهاني من تِرَةٍ على السلف ، كدأبه في ثلبهم ، قال :
(( أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، قال : حدثنا عمر بن شبَّة ، قال : حدثنا الأصمعي ، قال : حدثنا شيخ قديم من أهل المدينة .
وأخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي ، قال : حدثنا عمر بن شبة ، قال : حدثنا أبو غسان عن أبي السائب المخزومي .
وأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي ، عن حماد بن إسحاق ، عن أبيه ، قال : ذُكِرَ لي عن جعفر بن محرز الدوسي قال :
دخل النعمان بن بشير المدينة في أيام يزيد بن معاوية وابن الزبير ، فقال : والله لقد أَخفَقتْ أذناي من الغناء ، فأسمعوني .
__________
(1) د. يحيى الجبوري ، شعر النعمان بن بشير 29 .(1/10)
فقيل له : لو وَجَّهتَ إلى عزة الميلاء(1) ، فإنَّها من قد عرفتَ .
فقال : إي وربِّ الكعبة ؛ إنها لممن تزيد النفس طيبًا ، والعقل شحذًا ، ابعثوا إليها عن رسالتي ، فإن أَبَتْ صِرْتُ إليها . فقال له بعض القوم : إن النُّقْلة تشتد عليها ، لثقل بدنها ، وما بالمدينة دابة تحملها .
فقال النعمان بن بشير : وأين النجائب عليها الهوادج ؟ فوَجَّه إليها بنُجُبٍ ، فذكرتْ عِلَّةً . فلما عاد الرسول إلى النعمان قال لجليسه : أنت كنت أخبر بها ، قوموا بنا .
فقام هو مع خواصِّ أصحابه حتى طرقوها . فأَذِنَتْ وأَكرمتْ واعتذرتْ ، فقبل النعمان عذرها ، وقال لها : غني ، فغنت :
أَجَدَّ بعمرَةَ غُنْيَانُهَا فَتَهْجُرُ أَمْ شَانُنَا شَانُهَا
وَعَمْرَةُ مِنْ سَرَوَاتِ النِّسَا ءِ تَنْفُحُ بِالمِسْكِ أَرْدَانُهَا
قال : فأُشِير إليها ؛ أنها أُمُّهُ ، فأمسكت . فقال : غَنِّي ، فوالله ما ذكرتِ إلا كرمًا وطيبًا ، ولا تغني سائر اليوم غَيرَهُ . فلم تزل تغنيه هذا اللحن فقط ، حتى انصرفَ ))(2) .
__________
(1) بالغ الأصفهاني في صفة عزة الميلاء هذه ، وأنها من أقدم مغنيات المدينة ( كذا ) ، فهي - عنده - أستاذة الكل في الغناء ، وليس في ترجمتها غير إفاضة المديح عليها ... ، ولم أجد أحدًا ذكرها غير الأصفهاني ، وعنه أُخِذَتْ أخبارها ، فقد نسخ عمر رضا كحالة في أعلام النساء 3/275 أخبارها من الأغاني .
وكذا فعل الزركلي في الأعلام 4/230 ، وفيه رفع سنها ورجح أنها عاشت إلى ما بعد سنة 115هـ ، وقد انفرد الأصفهاني بهذه الترجمة ذات الأوصاف الغائمة الفضفاضة .
(2) الأغاني 16/40 .(1/11)
ألف الأصفهاني لهذه الرواية ثلاثة أسانيد ؛ فأما الأول ، وهو قوله : (( أخبرني (( أحمد بن عبد العزيز الجوهري )) ، فهذا ليس فيه توثيق لمعتبر ... قال : حدثنا عمر بن شبه ، قال : حدثنا الأصمعي ، قال : حدثني (( شيخ قديم ))(1) من أهل المدينة ... )) ، فهذا - كما ترى - مجهول العين ، فلا يصح الاعتماد عليه .
وأما السند الثاني ، وهو قوله : (( وأخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي ، قال : حدثنا عمر بن شبه ، قال : حدثنا أبو غسان ، عن أبي السائب المخزومي ... )) ، ففيه : (( إسماعيل بن يونس الشيعي )) ، وهو مجهول الحال . قال الدارقطني : (( لا أعرف حاله ))(2) .وذكره الخطيب البغدادي ، ولم يعرض له بجرح ولا تعديل(3) .
وفيه أيضًا : (( أبو غسان )) ، وهذا لم أعرفه ، إلا أن يكون أبا غسان ( داماذ ) ، وهو كما ورد(4) ليس فيه توثيق لمعتبر .
وفيه أيضًا (( أبو السائب المخزومي )) ، وهو مجهول(5) .
ومثل هذا الإسناد الضعيف لا يصح اعتماده أيضًا .
وأما السند الثالث ، وهو قوله : (( وأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي ، عن حماد بن إسحاق ، عن أبيه ، قال : ذُكِرَ لي عن جعفر بن محرز الدوسي ، قال : دخل النعمان ... الخ )) ؛ ففيه : (( الحسين بن يحيى المرداسي )) ، وهو مجهول الحال ، ولم أقف له على ترجمة .
وفيه أيضًا مجهول العين ؛ كما هو ظاهر قوله : (( ذُكِرَ لي ... )) .
فهذه أسانيد ساقطة من جهاتها كافة ، ومثلها لا يعتمد عليه ، والله أعلم .
وقبل أن نخوض في هذه الرواية ، أحبُّ أن أعرض لرواية أخرى - في الأغاني أيضًا - ذات صلة بروايتنا هذه ، أقدِّمُ بها :
__________
(1) وردت في بعض الطبعات : شيخ قادم من المدينة ، وكلا اللفظين يدل على مجهول .
(2) ميزان الاعتدال 8/58 ، لسان الميزان 1/446 .
(3) تاريخ بغداد 6/299 .
(4) انظر ص 146 .
(5) الذهبي ، المغني في الضعفاء والمجروحين 2/686 .(1/12)
فقد زعم الأصفهاني : أن زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - (( ختن ابنته ( كذا ) ، فأولم ، فاجتمع إليه المهاجرون والأنصار ، وعامَّة أهل المدينة ، وحضر حسان بن ثابت وقد كُفَّ بصره - يومئذ - ، وثَقُلَ سمعه ، وكان يقول إذا دُعِيَ : أعرس أم عِذَار ؟ فحضر ، ووُضِعَ بين يديه خِوان ، ليس عليه إلا عبد الرحمن ؛ ابنه ، فكان يسأله : أطعام يَدٍ أم يَدَيْن ؟ فلم يزل يأكل حتى جاؤوا بالشواء ، فقال : طعامُ يَدَيْن ، فأمسك يده ، حتى إذا فُرِغَ من الطعام ، ثُنِيَت وسادةٌ ، وأقبلت [ عزة ] الميلاء ، وهي يومئذ شابَّة فوضع في حجرها مزهر ، فضربت به ، ثم تغنت ، فكان أول ما ابتدأت به شعر حسان :
فَلاَ زَالَ قَبْرٌ بَينَ بُصْرَى وَجِلَّقٍ عَلَيهِ مِنَ الوَسْمِيِّ جُودٌ وَوَابِلُ
فطرب حسان ، وجعلت عيناه تنضحان وهو مُصْغٍ لها ... ))(1) .
__________
(1) الأغاني 17/167 .
فانظر ؛ كم مَقْتَلٍ أصاب الأصفهاني بهذه الرَّمْيَةٍ ؟!! وكم فيها من مجافاة عن الحق والحقيقة ، فقد كانوا لا يحتفلون بختان الذكور ، ولم تكن لهم تلك عادة ، فضلاً عن الإناث .
فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده 9/436 (17908) : أن الصحابي عثمان بن أبي العاص دُعِيَ إلى ختان ، فأبى أن يجيب ، فقيل له ، فقال : (( إنَّا كُنَّا لا نأتي الختان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نُدْعَى له . وعلى هذا الحديث بنى الفقهاء وفَرَّعُوا ؛ فقد ذكر ابن قدامة في المُغْنِي 8/116 في مسألة دعوة الختان ، فقال : (( لا يعرفها المتقدمون . ولا على من دُعِيَ إليها أن يجيب ، وإنما وردت السنة في إجابة من دُعِي إلى وليمة تزويج .)) ، وانظر ذيول المسألة لدى ابن عبد البر في التمهيد ، وابن حجر في فتح الباري 10/343 ، ففيهما تفصيل . =
= ولم يرض الأصفهاني حتى جعل صاحب الحفل ؛ زيد بن ثابت - رضي الله عنه - ، وبسبب ابنته أيضًا ، ولم يكتف كذلك حتى جمع لها كبار المهاجرين والأنصار ، وعامة أهل المدينة لسماع غناء مغنية ( كذا ) ، وزيد هذا هو الذي قَدَّمَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأعطاه راية قومه يوم تبوك .. ، وزيد هذا هو الذي قيل فيه : (( ما رُئِيَ رجل أوقر منه في مجلسه من زيد )) . الإصابة 1/562 .
وقد روى أبو معاوية عن الأعمش ، عن ثابت بن زيد ، قال : (( كان زيد بن ثابت من أفكه الناس إذا خلا مع أهله ، وأزمته إذا جلس مع القوم )) . الاستيعاب 1/533 .
وزيد هذا هو الشاب العاقل ، الذي جمع القرآن الكريم ؛ يقول عنه الأصفهاني : بأنه جمع جلة الصحابة من المهاجرين والأنصار ، وعامة أهل المدينة لمجلس سماع غناء قينة .. ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) .
ثم إن ألفاظ هذا البيت ليست من الرِّقَّة ، ومما ينشد في ليالي الأنس وساعات الصفاء ، بل هي ألفاظ جاسية قوية ، لا تصلح للغناء والسمر .
وقد أورد الأصفهاني قصة شبيهة بهذه الرواية في موضع آخر من (أغانيه) .
ولم أعثر على هذا البيت ، ولا على القصيدة من هذا الروي في هذا المعنى في شعر حسان ...(1/13)
والذي يؤخذ من هذه الرواية ما يلي :
1 - أن هذه القصة أو الوليمة كانت في أواخر حياة حسان بن ثابت ، فهو قد طعن في السن - كما في الرواية - حتى لا يدري ما حوله !! ويحضر دعوة لا يعلم أهي عرس أم عِذَارٌ !! ، ويمد يده إلى طعام لا يدري أيؤخذ بيد واحدة أم باثنتين !! ، وفي كل ذلك دليل على أنه قد بلغ أقصى مدته ، أو كأن قد(1) .
فإذا كان حسان - كما هو معلوم - قد عاش ستين سنة في الجاهلية ، ومثلها في الإسلام ، على أشهر أقوال العلماء - كما ذكر ابن حجر(2) - عن ابن سعد ؛ فهذا يعني على رأي هذه الرواية ؛ أن هذه القصة قد وقعت حوالي سنة خمس وخمسين ، أو فوقها قليلاً(3) .
__________
(1) مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دعا لحسان بن ثابت في أكثر من مرة - كما هو مشهور معلوم - بالتأييد ، وألا يَضِلَّ ، ولا يُهْتَرَ ، ولا يُخْتَلَطَ .
(2) الإصابة 1/326 . وانظر : الاستيعاب 1/343 .
(3) مع أن زيد بن ثابت - المفترى عليه في هذه القصة - مات سنة خمس وأربعين على أرجح الأقوال .
انظر : الاستيعاب 1/554 ، والإصابة 1/562 .(1/14)
2 - وكانت عزة الميلاء - وقتذاك - حسنة شابة - كما ذكر الأصفهاني(1) - وإذا تذكرنا أن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قد دخل المدينة كما في الرواية الأولى (( أيام يزيد بن معاوية وابن الزبير )) ، وأن ذلك كان حوالي سنة ثنتين وستين تقريبًا ، فيكون بين الحادثتين - كما في الأغاني - بضع سنين . فلا يعقل أن تشيخ قينة شابة فيترهل جسمها (( وتَشْتَدَّ عليها النُّقْلَة )) ، ويثقلَ بدنُها ، حتى (( ما بالمدينة دابة تحملها ... )) ( كذا ) كل هذا في بضع سنين ، وإذا كانت ( عزة الميلاء ) قد أَسَنَّتْ وتَرَهَّلَتْ - من غير مرض ولا عاهة - في هذه السن المبكرة - وهي شابة - ، فإلى أية حال قد صارت لما بلغت الثمانين وما فوقها ، فقد ذُكر أنها عاشت حتى رُدَّت إلى أرذل العمر ، وماتت سنة مئة وخمس عشرة(2) أو ما بعدها .
3 - والأصفهاني قد طالما أطنب في وصف عَزَّة وظرفها وذكائها ، وأنها عبقرية لَمَّاحة فطنة ، فكيف غاب عن نباهتها فتَغَنَّتْ بما فيه إساءة لبعض الحاضرين وتعريض بهم ؟!! فضلاً عن أن يكون هو النعمان بن بشير ؛ الأمير السفير ، وأن يكون هذا التعريض بأُمِّهِ ؟!! ، والمغنية ( عَزَّة ) تعرف النعمان ، وتعرف أُمَّه ، فهم - كما يزعم الأصفهاني - أبناء مدينة واحدة .
4 - ثم ما هذا الأمر الجسيم ، والخطب الجليل الذي يجعل النعمان بن بشير سفيرَ الخلافة - في أحرج أوقاتها - إلى أسخن بقعة في الدولة الإسلامية - آنذاك - وأَشَدِّهَا توترًا ؛ إذ هاجت فيها فتنة كادت تعصف بالخلافة كلها ، فأي أمر جلل يجعل النعمان يقيم وادعًا هانئًا رخيًا - يومًا كاملاً ليسمع غناء بيت واحد فقط ، ولا تغني إلا به سائر اليوم ؟!!
وهذا البيت يقول :
__________
(1) الأغاني 17/167 .
(2) الأعلام 4/230 ، وهذا استنباط الزركلي وتخمينه ، نقلاً عن الأصفهاني .(1/15)
إن عَمْرَة امرأة كريمة شريفة ، تفوح رائحة الطيب من ثيابها ، كل هذا وهو في قمة الأحداث الثائرة ، وفي معترك صراعها .
5 - لقد دخل النعمان بن بشير المدينة وهي مضطربة تغلي مراجلها ، ويموج بعضها في بعض ، وكان الذي هَيَّجَ الحِجَازَ ؛ عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، فأراد الخليفة ؛ يزيدُ بنُ معاويةَ - في دمشق - أن يُسَكِّنَ الفتنة ، فأوفد إلى المدينة ابْنَها ؛ النعمان ؛ يُكَفْكِفُ من غلوائها ..
روى خليفة بن خياط(1) بسنده (( عن الحسن بن بقية بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، قال : (( لمَّا بلغَ يزيدَ بنَ معاوية : أَنََّ أهل مَكَّة أرادوا ابن الزبير على البيعة ، أرسل النعمان بن بشير وهمام بن قبيصة الأنصاريين ( إلى ابن الزبير ) ؛ يدعوانه إلى البيعة ليزيد ، على أن يجعل له ولاية الحجاز ، وما شاء وما أحب لأهل بيته من الولاية .. ، فقدما على ابن الزبير .. ))(2) .
وقد دخلا المدينة إذ جعلاها طريقهما إلى مكة . ولما لم تنجح سفارتهما ، جَهَّزَ يزيدُ جيشًا ، عليه : مسلمُ بنُ عُقْبَة المُرِّيُّ ، لإخضاع ابن الزبير ، على أن يتخذ المدينة طريقه ، فإن تركوه ولم يحاربوه ، مضى إلى ابن الزبير ، وإلا قاتلهم(3) .
__________
(1) خليفة بن خياط بن خليفة الشيباني ؛ أبو عمرو ، بصري ، محدث ، نسابة ، أخباري ثقة ، ترك بعض الآثار والتصانيف ، منها : التاريخ ، والطبقات ، وغير ذلك ، ومات في حدود سنة 240هـ على الأرجح .
انظر : الذهبي ، سير أعلام النبلاء 11/472 ، الأعلام 2/312 .
(2) تاريخ خليفة بن خياط ، 252 .
(3) سير أعلام النبلاء 3/322 .(1/16)
عند ذلك قام النعمان بن بشير ، يستشفع لأهل المدينة ، ويشير على يزيد باللين والترفق ، قائلاً : (( اللهَ ، اللهَ يا أميرَ المؤمنين في عشيرتك ، وأنصار نَبِيِّكَ .. )) ، فسَكَنَ يزيدُ وهدأَ ، ثم قال : يا نعمان ؛ إن عدد الناس بالمدينة قومك ، فإنهم ما يمنعهم شيء عما يريدون ، وإنهم إن لم ينهضوا في هذا الأمر لم يجترئ أحد على خلافي .. ، ثم قال له : قُمْ ، فَسِرْ إِليهِم ، واكفُفْهُم عن الفتنة ، وانْهَهُم عن الشِّقَاق ، وأْمُرْهُم بلزوم الجماعة ، والسمع والطاعة .. ))(1) ، فسار النعمان بن بشير حتى دخل المدينة .
وقد امتدت سفارة النعمان بين يزيد وأهل الحجاز أكثر من مرة ؛ ينصح لهؤلاء ، ويَفْثَأُ حِدَّةَ يزيدَ ، ويُرَقِّقُهُ(2) .
وقد بلغ الجهد بأهل المدينة - آنذاك - مبلغًا ، جعلهم يحدثون أنفسهم بالخروج منها ، والرحيل عنها .
فعن يُخَنَّس مولى آل الزبير بن العوام أنه كان جالسًا عند عبد الله بن عمر في الفتنة ، فأتته مولاة له تسلم عليه ، فقالت : إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن ؛ اشتد علينا الزمان .
فقال لها : اقعدي لكاع ؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيدًا ، أو شفيعًا يوم القيامة ))(3) .
__________
(1) ابن الأثير ، الكامل في التاريخ 3/307 ، ابن كثير ، البداية والنهاية 8/218 .
(2) الطبري 2/402 .
(3) رواه البخاري في التاريخ الكبير 7/190 ، ومسلم في الصحيح برقم 1377 .(1/17)
وعن أبي سعيد مولى المَهْري ، أنه أصابهم بالمدينة جهد وشدة ، وأنه جاء أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - ليالي الحرة ، فاستشاره في الجلاء عن المدينة ، وشكا إليه أسعارها ، وكثرة عياله ، وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها ، فقال له : ويحك ؛ لا آمرك بذلك ؛ إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( لا يصبر أحد على لأوائها فيموت ، إلا كنت له شفيعًا ، أو شهيدًا يوم القيامة ، إذا كان مسلمًا ))(1) .
فهذه حال المدينة لما دخلها النعمان بن بشير (( في أيام يزيد وابن الزبير )) ، ولا مكان - ألبتة عقلاً - في مثل هذه البلدة وأحوالها وظروفها لإقامة أمثال هذه المجالس اللاهية ...
6 - وعمرة هذه المذكورة في هذا الشعر ليست - على كل حال - هي عمرة بنت رواحة أم النعمان بن بشير ، بل ربما كانت عمرة بنت صامت بن خالد زوج حسان بن ثابت الأنصاري .
والأصفهاني نفسه قد أشار إلى ذلك ، ولكن في موضع آخر ، وبطريقة ملتوية ، وبلمحة خاطفة ، وذلك في ذكر مقتل قيس بن الخطيم - صاحب الأبيات(2) - حيث قال : (( وهذا الشعر - أعني - : أَجَدَّ بِعَمْرَةُ غُنْيَانُهَا ... ، فيما قيل يقوله قيس في عمرة بنت رواحة ، وقيل : بل قاله في عمرة ؛ امرأة كانت لحسان بن ثابت ، وهي : عمرة بنت صامت بن خالد .. ))(3) .
فانظر ؛ كيف أزجى الخبر - هنا - بصيغة الشك والتمريض ، في حين ساقه هناك بصيغة اليقين المؤكد .
__________
(1) صحيح مسلم ، برقم 1374 .
(2) بين الخبرين أربعة عشر مجلدًا من الأغاني .
(3) الأغاني 3/13 .(1/18)
فهي في هذه الرواية عمرة بنت صامت بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف ؛ زوج حسان بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - ، وقد جرى بينهما كلام فيما شجر بين الأوس والخزرج - في الجاهلية - ، فغضب منها ، وفارقها ، ثم ندم ، واتبعتها نفسه . وقد كان سبب ذلك (( أن حسان بن ثابت مَرَّ بليلى بنت الخطيم - وقيس بن الخطيم أخوها بمكة حين خرجوا يطلبون الحلف في قريش - فقال لها حسان : اظعني ، فالحقي بالحَيِّ ، فقد ظعنوا ، وليت شعري ؛ ما خلفك ؟ وما شأنك ؟ أَقَلَّ ناصركِ ، أم رَاثَ رافدك ؟ فلم تكلمه ، وشَتَمَهُ نِساؤُها ، فذكرها في شعره في يوم الربيع ، الذي يقول فيه(1) :
لَقد هَاجَ نفسَكَ أشجانُهَا ... وعَاوَدَهَا اليومَ أَدْيَانُهَا
تَذَكَّرْتَ لَيلَى وأَنَّى بِهَا ... إذا قُطَعَتْ مِنْكَ أَقرانُهَا
وَحَجَّلَ في الدَّارِ غُرْبَانُهَا ... وخَفَّ مِنَ الدَّارِ سُكَّانُهَا
وغَيَّرَهَا مُعْصِرَاتُ الرِّيَاحِ ... وَسَحُّ الجَنُوبُ وتَهْتَانُهَا
مَهَاةٌ مِنَ العِينِ تَمْشِي بِهَا ... وَتَتْبَعُهَا ثَمَّ غُزْلانُهَا
وَقَفْتُ عَلَيهَا فَسَاءَلْتُهَا ... وَقَدْ ظَعََنَ الحَيُّ : مَا شَانُهَا ؟
فَعَيَّتَ وَجَاوَبْنَنِي دُونَهَا ... - بِمَا رَاعَ قَلْبِيَ - أَعْوَانُهَا
وهي طويلة .
فأجابه قيس بن الخطيم بهذه القصيدة التي أولها :
أَجَدَّ بِعَمْرَةَ غُنْيَانُهَا ... القصيدة
وفخر فيها بيوم الربيع ، وكان لهم ، ومن هذه القصيدة قوله :
وَنَحْنُ الفَوارِسُ يَومَ الرَّبيـ ... ـعِ وقَدْ عَلِمُوا كَيفَ فُرْسَانُهَا
حِسَانُ الوُجُوهِ حِدَادُ السُّيو ... فِ يَبْتَدِرُ المَجْدَ شُبَّانُهَا
وهذه القصيدة - كما ترى - نقيضة قصيدة حسان ، وعلى نفس الروي والمعنى والوزن ، وهي طويلة أيضًا .
__________
(1) ديوان حسان بن ثابت ، 256 .(1/19)
فلعل هذه عمرة التي ذكرها قيس ، وليست هي أم النعمان ، ولكن نحيزته ودِخْلَتَه تبدو في جل مروياته ، وتأبى عليه إلا أن يُعِرَّ البيوتات العربية ، وأعيانها المسلمين ، فينال من رجالهم ، ويصم نساءهم ، وقد كانت جُلُّ مروياته صناعة وتلفيقًا - كما أورد الخطيب البغدادي - حيث قال : (( حدثني أبو عبد الله ؛ الحسن بن محمد بن طباطبا العلوي ، قال : سمعت أبا محمد ؛ محمد بن الحسن بن الحسين بن النوبختي ، كان يقول : كان أبو الفرج الأصفهاني أكذَبَ النَّاس ؛ كان يشتري شيئًا كثيرًا من الصحف ، ثم تكون كل مروياته منها ))(1) .
فهو إذن يعمد إلى أشعار العرب ، وإلى صُحُفِهِ تلك (( فإذا وجد فيها اسمًا من أسماء النساء ، وقف عنده ، وبحث عن عمرة ، أو ليلى ، أو لبنى ، أو أي الأسماء ، فبنى عليها ما شاء من الحكايات ))(2) ، والأقاصيص ، ثم يضع لها الأسانيد الملفقة ، فأما اسم عائشة في أي شعر ، فهو يعني ( عنده ) : عائشة بنت طلحة ، وزينب ، يعني : زينب بنت سعد ، أو زينب ؛ أخت الحجاج ، أو ابنته ، وسُكَيْنَة ، يعني بنت الحسين ، وأما فاطمة ؛ فهي بنت عبد الملك بن مروان ، ومغامرات الشاعر الغزلي عمر بن أبي ربيعة معها ... ( كذا ) ، وأما اسم ( هند ) في أي شعر غزلي ، فهو - عنده دون توقف ولا تردد - يعني : أُمَّ معاوية ، ورَمْلَة أُخْتُهُ أو ابنته ، وهكذا ...
وهذا إن صحت نسبة الشعر إلى قائله ، ولم يكن مكذوبًا على صاحبه ومنحولاً له .
وهذا كله إذا كان السند صحيحًا ، قويًا ؛ فكيف وهو كما رأيت ؟!!
وثمة رواية تفيد حبس النعمان بن بشير الزيادة في أعطيات الكوفيين ، وقد أمر لهم بها أمير المؤمنين معاوية - رضي الله عنه - ، قال الأصفهاني(3) :
((
__________
(1) تاريخ بغداد 11/398 . قال النديم في الفهرست 128 : (( وأكثر تعويله في تصنيفه على الكتب ... الخ )) .
(2) السيف اليماني في نحر أبي الفرج الأصفهاني ، 256 .
(3) الأغاني 16/37 .(1/20)
أخبرني محمد بن خلف وكيع ، قال : حدثنا محمد بن سعيد ، قال : حدثنا العمري ، عن الهيثم بن عدي ، عن مجالد ، عن الشعبي ، قال : أمر معاوية لأهل الكوفة بزيادة عشرة دنانير في أعطياتهم ، وعامله - يومئذ على الكوفة وأرضها - النعمان بن بشير ، وكان عثمانيًا ، وكان يبغض أهل الكوفة ؛ لرأيهم في علي ( - عليه السلام - ) ، فأبى النعمان أن ينفذها لهم ، فكلَّموه وسألوه بالله ، فأبى أن يفعل ( كذا ) ، وكان إذا خطب أكثر من قراءة القرآن ، وكان يقول : لا ترون على منبركم هذا بعدي أحدًا يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فصعد المنبر يومًا ، فقام إليه أهل الكوفة ، فقالوا : ننشدك الله والزيادة ، فقال : اسكتوا ! فلما أكثروا عليه قال : تدرون ؛ ما مثلي ومثلكم إلا مثل الضبع ، والضب ، والثعلب ... ) ؟!!
ثم راح يسرد الحكم والأمثال ... فقال عبد الله بن الهمام السلولي :
زِيَادَتَنَا نعمانُ لا تحرمَنَّنَا ... خَفِ اللهَ فِينَا وَالكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو
فَإِنَّكَ قَدْ حُمِّلْتَ منَّا أَمَانَةً ... بِمَا عَجَزَتْ عَنْهُ الصَّلاَخِمَةُ البُزْلُ
فَقَدْ نِلْتَ سُلْطَانًا عَظِيمًا فَلاَ يَكُنْ ... لِغَيرِكَ جَمَّاتُ النَّدَى وَلَكَ البُخْلُ
وَأَنْتَ امْرُؤٌ حُلْوُ اللِّسَانِ بَلِيغُهُ ... فَمَا بَالُهُ عِندَ الزِّيَادَةِ لاَ يَحْلُو
وَقَبْلَكَ قَدْ كَانُوا عَلَينَا أَئِمَّةٌ ... يُهِمُّهُمُ تَقْويمُنَا وَهُمُ عُصْلُ(1)
يَذُمُّونَ دُنْيَانَا وَهُمْ يَرْضَعُونَهَا ... وَلَكِنَّ حُسْنَ القَولِ خَالَفَهُ الفِعْلُ
أَفَاوِيقُ حَتَّى مَا يَدُرُّ لَهَا ثُعْلُ(2)
__________
(1) عصل : أي فيهم التواء واعوجاج .
إِذَا أَنْصَتُوا لِلقَولِ قَالُوا فَأَحْسَنَوُا ... انظر : لسان العرب ، مادة (عصل) .
(2) الثعل : خِلْفٌ أو حلمة زائدة وراء ضرع بعض النوق أو الشياه .
قال ابن منظور : قال ابن همام السلولي يهجو بعض العلماء :
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها أفاويق حتى ما يدر لها ثعل
والثعل لا يَدُرُّ ، وإنما ذكره للمبالغة في الارتضاع .
انظر : لسان العرب ، مادة (ثعل) .(1/21)
فقال النعمان بن بشير : والله لا أجيزها ، ولا أنفذها أبدًا ))(1) انتهى .
في سند هذه الرواية : (( محمد بن خلف بن وكيع )) ، قال فيه ابن المنادي : (( فيه لين ))(2) .
وفيه : (( محمد بن سعيد )) : لم أقف له على ترجمة(3) .
قال : (( حدثنا العمري )) ، وهذا أيضًا لم أقف له على ترجمة .
( عن الهيثم بن عدي ) ، وهو مجروح شديد الجرح ، بل كذبوه ، وقد سبق الكلام فيه(4) .
( عن مجالد ) ، قال ابن حجر : ليس بالقوي(5) .
ففي هذا السند - كما ترى - كَذَّاب ، ومجهول ، ومتروك ، فهو سند ضعيف ساقط ، لا يصلح الاحتجاج به ، ولا يدل على صحة الرواية .
__________
(1) الأغاني 14/115 وما بعدها .
(2) المغني في الضعفاء 2/576 .
(3) في كتاب الضعفاء الصغير للإمام البخاري ، ص 100 : محمد بن سعيد الشامي المصلوب ، قتل في الزندقة ، وصلب ، متروك الحديث .
وعند النسائي في كتاب الضعفاء والمتروكين ص 94 : محمد بن سعيد الشامي المصلوب ، قال فيه : متروك الحديث .
وفي ميزان الاعتدال 3/561-566 ، ولسان الميزان 5/176-180 بضعة عشر رجلاً باسم محمد بن سعيد ، وكلهم مجروح ، ما بين مجهول وكذاب ووضاع ومتروك .
(4) انظر ص : 142 من هذا البحث .
(5) تقريب التهذيب ، برقم (6520) .(1/22)
ونلاحظ دهاء الأصفهاني ومكره ؛ حيث يورد بعض صفات النعمان الحسنة ، من مثل قوله : (( وكان إذا خطب أكثر من قراءة القرآن ... )) ويُنَوِّه كذلك بمكانته ، حيث يقرر قوله : (( لا ترون بعدي أحدًا على منبركم يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) . وسوى ذلك ؛ ليأنس القارئ منه الموضوعية ، والتحقيق العلمي ، ويوهمه بالنزاهة أو الميل إلى النعمان ، حتى إذا تمكَّن من قارئه ، راح يَبُثُّ طُعُونَهُ ، وينفث سمومه ؛ فالقوم - كما في الرواية - يسألون النعمان بالله ، وهو يأبى عليهم ، ولا يقيم لذلك وزنًا ، والنعمان عثماني يكره أهل الكوفة - في نظر الأصفهاني - لرأيهم في علي ( - عليه السلام - ) . ثم يختم روايته بأبيات السلولي .
وأبيات السلولي نَحَتْ منحى الرواية نَفْسَهُ ، فقد أثبتت جملة من الصفات الحسنة ، لكنها شيبت بغمزات وغمزات .. كقوله :
فَقَدْ نِلْتَ سُلْطَانًا عَظِيمًا فَلاَ يَكُنْ ... لِغَيرِكَ جَمَّاتُ النَّدَى وَلَكَ البُخْلُ
وَأَنْتَ امْرُؤٌ حُلْوُ اللِّسَانِ بَلِيغُهُ ... فَمَا بَالُهُ عِندَ الزِّيَادَةِ لاَ يَحْلُو
جج
وكقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وَلَكِنَّ حُسْنَ القَولِ خَالَفَهُ الفِعْلُ
وهذه الصفات - كلها جميعًا - تعريض بالنعمان ، وافتراء عليه ، والصفات الثابتة الصحيحة للنعمان وردت من طريق الرواة الأمناء المعروفين بالصدق والعدل والضبط ، وكلها مناقضة لما أزجاه الأصفهاني .
فقد ثبت أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حَنَّك النعمان ودعا له بالخير ، وأنبأ أنه يعيش حميدًا ، وَيُقْتَل شهيدًا ، ويدخل الجنة(1) .
__________
(1) الاستيعاب 4/362 ( ترجمة عمرة بنت رواحة ) ، وانظر : ابن عساكر ، تاريخ دمشق 26/161 . البداية والنهاية 8/247 .(1/23)
وذَكر معاويةُ بن أبي سفيان - رضي الله عنه - : أن النعمان (( والٍ رشيد من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ))(1) .
وأما عند الرواة والمؤرخين ، فقد ذكر الطبري : (( أن النعمان بن بشير كان حليمًا ، ناسكًا ، يحب العافية ))(2) .
وينقض ابن عبد البر وابن الأثير قول الأصفهاني وما جاء في الأبيات ، حيث قررا أن النعمان (( كان كريمًا جوادًا ))(3) .
ومما يردُّ الأبياتَ أيضًا قول الشاعر أعشى همدان :
وَلَم أَرَ للحَاجَاتِ عِنْدَ انْكِمَاشِهَا ... كَنُعْمَانَ أَعْنِي : ذَا النَّدَى ابنَ بَشِيرِ(4)
إِذَا قَالَ أَوْفَى بِالمَقَالِ وَلَمْ يَكُنْ ... كَمُدْلٍ إِلَى الأَقْوَامِ حَبْلَ غُرُورِ
مَتَى أَكْفُرِ النُّعْمَانَ لَمْ أَكُ شَاكِرًَا ... وَلاَ خَيرَ في مَنْ لَمْ يَكُنْ بِشَكُورِ(5)
ج
وكذا ما قاله فيه الشاعر ابن أحمر :
الخَزْرَجِيُّ الهِجَانُ الفَرْعُ لاَ تَرِعٌ ... ضَيْقُ المَجَمِّ وَلاَ جَافٍ وَلاَ تَفِلُ
يَهْدِي الجُيُوشَ وَيَهْدِي اللهُ شِيمَتَهُ ... في طَرْمَسِ البِيدِ سَامِي الطَّرْفِ مُعْتَدِلُ
كَالكَوْكَبِ الأَزْهَرِ انْشَقَّت دُجُنَّتُهُ ... في النَّاسِ لاَ عَقَقٌ فِيهِ وَلاَ بَخَلُ
هَادٍ ضِيَاءٌ مُنِيرٌ فَاضِلٌ فَلِجٌ ... قَضَاؤُهُ سُنَّةٌ وَقَولُهُ مَثَلٌ
هَذَا الثَّنَاءُ وَأَجْدِرْ أَنَّ أُصَاحِبَهُ ... وَقَدْ يُدَوِّمُ رِيقَ الطَّامِعِ الأَمَلُ(6)
وأما هو - النعمان نفسه - فقد قال :
وَإِنِّي لأُعْطِي المَالَ مَنْ لَيسَ سَائِلاً ... وَأُدْرِكُ لِلمَوْلَى المُعَانِدِ بِالظُّلَمِ
__________
(1) تاريخ الطبري 2/189 .
(2) السابق 5/356 .
(3) الاستيعاب 3/552 ، أسد الغابة 5/358 .
(4) وفي رواية : ( كنعمان ؛ نعمان الندى ابن بشير ) .
(5) الاستيعاب 3/553 ، أسد الغابة 5/329 .
(6) انظر : د. حسين عطوان ، شعر ابن أحمر الباهلي .(1/24)
وَإِنِّي مَتَى مَا يَلْقَنِي صَارِمًا لَهُ ... فَمَا بَيْنَنَا عِنْدَ الشَّدَائِدِ مِنْ صَرْمِ
فَلا تَعْدُدِ المَوْلَى شَرِيكَكَ في الغِنَى ... وَلَكِنَّمَا المَوْلَى شَرِيكُكَ في العُدْمِ(1)
فهذه بعض أقوال الثقات في النعمان بن بشير .
ثم إن النعمان من قوم قال الله تعالى فيهم : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } (2) .
فأي الفريقين أحق بالتصديق والاعتماد ؟!!!
وكيف يمكن للنعمان أن يمنع أهل الكوفة زيادتهم ، ويحبسها عنهم ، ويأبى إخراجها وقد أمر بها الخليفة معاوية ، ولم يكن معروفًا في ذاك الحين الاستقلال بالولايات ، بل كان ما يسمى بـ ( المركزيَّة ) في الحكم هي المهيمنة ، وهيبة الخليفة وسطوته ثابتة مستقرة ، مانعة من أي إخلال أو تراخٍ أو تباطؤ في تنفيذ أوامر الخلافة ، بل كان للخليفة من الهيبة في قلوب الولاة ما يمنع من ذلك ، وهذا الحجاج بن يوسف الثقفي - مع كل ما أُشيع عنه من قسوة وعنف - قد ارتاع وهلع عندما أَنَّبَهُ الخليفة عبد الملك بن مروان حينما بدرت من الحجاج بادرةٌ نحو أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، فلما قرأ الحجاج كتاب الخليفة اضطرب وفَزِعَ ، وقلق ليله فلم ينم حتى أسفرَ الصَّبَاحُ ، فتَرَضَّى أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، واستعتبه حتى صفح عنه وأعتبه(3) .
كل هذا مع منزلة الحجاج لدى عبد الملك ودالته عليه .
ولم يكن معاوية بأقل من عبد الملك قوة وحزمًا وهيبة ، ولم يكن النعمان أقسى من الحجاج وأكثر عنفًا ، بل كان النعمان - كما سلف - حليمًا ، ناسكًا ، يحب العافية ، سمحًا ، كريمًا .
ومما يرد الرواية ما قاله الدكتور محمد ضياء الدين الريس : ولقد (( زاد معاوية العطاء للجند عما كان عليه في دولة الخلفاء الراشدين ))(4) .
__________
(1) شعر النعمان بن بشير ، ص 159 .
(2) الحشر : 9 .
(3) عبد الملك بن مروان ، تأليف عمر أبو النصر ، 227 .
(4) الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية ، ص 194 .(1/25)
ومما ينقض روايته كذلك ، ما عُرِفَ عن عهد معاوية من الخير والرخاء ، فقد كان مناديه يصيح كل صباح في الأمصار الإسلامية كافة (( ويدور على المجالس فيقول : هل وُلِدَ الليلةَ فيكم مولود ؟ وهل نزل لكم نازل ؟ فيكتب أسماءهم ))(1) ليزيد في عطائهم .
فهذه السيرة الحسنة التي اتبعها معاوية - رضي الله عنه - تَرُدُّ ما أزجى الأصفهاني من أن النعمان أبى أن ينفذ أوامر الخليفة ، وأَنْ يزيد في أعطيات الكوفة .
وأما ما ذكرته رواية الأصفهاني من أن (( النعمان كان عثمانيًا ، وكان يكره أهل الكوفة ؛ لرأيهم في علي ( - عليه السلام - ) ))(2) فهذا أيضًا غير صحيح ، فليس كذلك النعمان بن بشير ، وهو تلميذ النبوة ، الذي يُحِبُّ في الله ، ويكره في الله ؛ بَلْهَ جليلَ حبِّه وعظيمَ تقديره لآل بيت نبيه الطاهرين ، وقد كان ما بين النعمان بن بشير وآل البيت الأبرار رضي الله عنهم أجمعين ، من المودة والإخاء والتقدير والإخلاص ، ما يقطع على هؤلاء الرواة ... ، وقد كان النعمان تِربَ الحسين ، ومن لِدَاتِه ، ومن طبقته ، كما صرح بذلك ابن حزم(3) وغيره فما كان الحسين بن علي يرى النعمان رضي الله عنهما إلا هشَّ له ، وبادره باشًا ، وكَنَّاه تكرمة ، وكثيرًا ما كان يداعبه فيناديه : (( أبا نصار ... )) ويحيِّه بأحسن التحية ، وكذلك كان النعمان .
__________
(1) السابق ، 195 .
(2) الأغاني 14/115 .
(3) جوامع السيرة ، ص 320 .(1/26)
أخرج ابن عساكر عن محمد بن علي بن الحسين قال : (( خرج الحسين وأنا معه ، وهو يريد أرضه التي بظاهر الحرة ، فبينما نحن نمشي إذ أدركنا النعمان بن بشير وهو على بغلة له ، فقال للحسين : يا أبا عبد الله اركب ، فقال : بل أنت [ أبا ] نصار اركب دابتك ، فإن فاطمة رضي الله عنها حدثتني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك(1). فقال النعمان : صدقتْ فاطمةُ ، ولكن أخبرني أبي بشير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : (( إلا من أُذن له )) قال : فركب حسين وأردفه الأنصاري ، يعني النعمان ))(2) .
فهذا بعض ما كان بين النعمان وعلي وآله من المودة والمباسطة .
وبعد ؛ فهل صحيح - حقًا - أن النعمان كان يبغض أهل الكوفة لرأيهم في علي وآله رضي الله عنهم أجمعين ؟؟! ولكن ما حيكت هذه الرواية إلا للطعن على النعمان - رضي الله عنه - بأنه : (( كان عثمانيًا ، يبغض أهل الكوفة لرأيهم في علي ( - عليه السلام - ) )) . فهذه الرواية ( .. زيادة أعطيات أهل الكوفة ) لا أزيد فيها على أن ( الهيثم بن عدي ) أحد شيوخ الأصفهاني فيها ، وحسبك .
__________
(1) يعني : أن الرجل أحق وأولى بركوب دابته من غيره ، وتعقيب النعمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا إن أذن صاحب الدابة ... والله أعلم .
(2) ابن عساكر 3/262 ، 10/284 . انظر : شعر النعمان ، ص 19 . وانظر : فتح الباري 10/411 .(1/27)
وهذا كله إذا كان السند قويًا صحيحًا ، أو حسنًا مقبولاً ، فكيف والسند منكر مضطرب ، خلط الأصفهاني بين الصالح والطالح ، وجمع فيه الكَذَبَةَ والوضَّاعين ، وفي هذا دليل على صحة ما ذهب إليه بعض الدارسين لأسانيد أبي الفرج في ( أغانيه ) ، (( بأن حرصه على الإسناد لا يتلاءم وتساهله في المرويات وأَخْذِهِ عن الكَذَبة وتدوينه للمصنوعات ، لأن الإسناد ما وجد إلا ليحول بين الرواة وبين أن يخدعوا ، فيرووا الأكاذيب أو الموضوع من الأخبار والأقاصيص ))(1) .
فماذا يريد أبو الفرج الأصفهاني من هذه الأسانيد ، التي حكم عليها أهل العلم بالضعف والجرح الشديد ؟
ولعل أشهر ما أذيع في هذا الموضوع ؛ قصة التهاجي بين بعض الأنصار وبعض الأمويين .. وهي قصة لفَّقوا لها أسبابًا شتى ، مما يدل على وضعها ، فأحيانًا يجعلون سببها : ما شجر بين عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري(2) ، وعبد الرحمن بن أبي الحكم الأموي ، ومرة يخترعون غزلاً برملة بنت معاوية بن أبي سفيان ، ينحلونه عبد الرحمن الأنصاري ... ، ومرة يجعلون هذا الغزل بأخت معاوية ، وليس بابنته(3) .
ورابعة يزعمون مقاولةً بين يزيد بن معاوية نفسه ، وبين عبد الرحمن الأنصاري(4) ، وهكذا ... الخ .
وكل ذلك مما يدعو للشك في هذه القصة .
وفي كل مرة يجعلون النعمان بن بشير يدخل على معاوية غاضبًا ، متهددًا متوعدًا ، حتى يسترضيَه معاوية ، ويضاحكه ، ثم يقضي حوائجه وتنتهي القصة ، وتسكن الزوبعة بردًا وسلامًا !!!
__________
(1) وليد الأعظمي ، السيف اليماني ، ص 23 .
(2) الأغاني 13/143 ، 14/118 . طبقات الشعراء .
(3) السابق .
(4) السابق نفسه .(1/28)
فأما الرواية الأولى في هذا الموضوع ، فقد قال أبو الفرج : أخبرني محمد بن الحسن بن دريد ، قال : حدثنا أبو حاتم ، عن أبي عبيدة ، عن أبي الخطاب ، قال : (( لما كثر الهجاء بين عبد الرحمن بن حسان ، وعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص وتفاحشا ، كتب معاوية إلى سعيد بن العاص - واليه على المدينة - أن يجلد كل واحد منهما مئة سوط ، وكان ابن حسان صديقًا لسعيد ، وما مدح أحدًا غيره قط ، فكره أن يضربه ، أو يضرب ابن عمه ( كذا ) ، فأمسك عنهما ، ثم ولي مروان المدينةَ ، فلما قدم أخذ ابنَ حسان ، فضربه مئة سوط ، ولم يضرب أخاه ( كذا ) ، فكتب ابن حسان إلى النعمان بن بشير - وهو بالشام - وكان كبيرًا أثيرًا ، مكينًا عند معاوية ، يقول :
لَيتَ شِعْرِي أَغَائِبٌ أَنْتَ بِالشَّا ... مِ خَلِيلِيَ أَم عَاتِبٌ نُعْمَانُ
أَيَّةً مَّا يَكُنْ فَقَدْ يَرْجِعُ الغَا ... ئِبُ يَومًا وَيُوقَظُ الوَسْنَانُ
إِنَّ عَمْرًا وَعَامِرًا أَبَوينَا ... وَحَرَامًا قِدْمًا عَلَى الحَقِّ كَانُوا
أَفَهُمْ مَانِعُوكَ أَمْ قِلَّةُ الكُّتَّا ... بِ أَمْ أَنْتَ عَاتِبٌ غَضْبَانُ
أَمْ جَفَاءٌ أَمْ أَعْوَزَتْكَ القَرَا ... طِيسُ أَمْ أَمْرِي بِهِ عَلَيكَ هَوَانُ
يَومَ أُنْبِئْتَ أَنَّ سَاقِيَ رُضَّتْ ... وَأَتَتْكُمْ بِذَلِكَ الرُّكْبَانُ
ثُمَّ قَالُوا : إِنَّ ابنَ عَمِّكَ يُلْوَى ... مِنْ أُمُورٍ أَتَى بِهَا الحدثان
إِنَّمَا الرُّمْحُ - فَاعْلَمَنَّ - قَنَاةٌ ... أَو كَبَعْضِ العِيدَانِ لَولا السِّنَانُ(1)
ج
وهي قصيدة طويلة ، فدخل النعمان بن بشير على معاوية ، وأنشأ يقول(2) :
يَا بْنَ أَبِي سُفْيَانَ مَا مِثْلُنَا ... جَارَ عَلَيهِ مَلِكٌ أَو أَمِيرُ
اذْكُرْ بِنَا مَقْدَمَ أَفْرَاسِنَا ... بِالحُنُوِّ إِذْ أَنْتَ إِلَينَا فَقِيرُ
__________
(1) السابق ، وقد وردت هذه القصيدة في أكثر من موضع في الأغاني باختلاف بعض الألفاظ ...
(2) الأغاني 14/122 . شعر النعمان بن بشير 144 .(1/29)
وَاذْكُرْ غَدَاةَ السَّاعِدِيِّ الَّذِي ... آثَرَكُمْ بِالأَمْرِ فِينَا بَشِيرُ
فَاحْذَرْ عَلَيهِمْ مِثْلَ بَدْرٍ وَقَدْ ... مَرَّت بِكُمْ يَومَ بَدْرٍ عَسِيرُ
وَمِثْلَ أَيَّامٍ لَنَّا شَتَّتْ ... مُلْكًا لَكُمْ أَمْرُكَ فِيهَا صَغِيرُ(1)
إِنَّ ابْنَ حَسَّانَ لَهُ ثَائِرٌ ... فَأَعْطِهِ الحَقَّ تَصِحُّ الصُّدُورُ
أَمَا تَرَى الأَزْدَ وَأَشْيَاعَهَا ... تَجُولُ خُزْرًا كَاظِمَاتٍ تَزِيرُ
يَصُولُ حَولِي مِنْهُمُ مَعْشَرٌ ... إِن صُلْتُ صَالُوا وَهُمْ لِي نَصِيرُ(2)
فقال النعمان : يا أمير المؤمنين ، إنك أمرت سعيدًا أن يضرب ابن حسان وابن الحكم ، مِئَةً مِئَةً ، فلم يفعل . ثم وَلَّيتَ مروان ، فضرب ابن حسان ، ولم يضرب أخاه .
__________
(1) قائل هذه الأبيات ليس هو النعمان بن بشير - كما يبدو . وليس ذلك لأنها لم ترد في أصل شعره الصحيح النسبة إليه فحسب ، وإنما جبرها د. الجبوري فألحقها بمجموع شعره نقلاً عن الأصفهاني عن شيوخه !!! كما مر بنا آنفًا . وليس لركتها وضعف صياغتها أيضًا . وليس لرائحة الشعوبية الماكرة ، التي تنبعث منها لشق صف المسلمين كذلك ؛ بل لأن قائل هذه الأبيات أحد رجلين ؛ جاهل أو غير عاقل... ، وإلا فمتى استصرخ معاوية الأنصار فأغاثوه بأفراسهم ورجالهم ؟ وما شأن معاوية بالساعدي وسقيفته ؟ ومتى وكيف شتت الأنصار ملك معاوية أو قريش ؟ إلا إذا كان يعني حروب المسلمين وفيهم الأنصار - رضي الله عنهم جميعًا - قريشًا قبل إسلامهم ، وهو يعيره ببدر ، أيعيِّر مسلمٌ مسلمًا بجاهليته وما كان عليه ؟! فأين ما جَبَّه الإسلام إذن ؟؟ أم كان النعمان وأبوه وقومه مسلمين - في نظر الأصفهاني - قبل الإسلام ؟؟! .
(2) وعلى العادة - كما عند الأصفهاني - يقوم معاوية يضاحك النعمان ويسترضيه ، ويقضي حوائجه ، فتخمد هذه الثورة العارمة بسلام .(1/30)
قال : فتريد ماذا ؟ قال : أن تكتب إليه بمثل ما كتبت إلى سعيد ، فكتب إليه معاوية يعزم عليه ( كذا ) أن يضرب أخاه مئة ... ، فضرب أخاه خمسين ، وبعث إلى ابن حسان بِحُلَّةٍ ، وسأله أن يعفو عن خمسين ، ففعل ، ثم قال لأهل المدينة : إنما ضربني حَدَّ الحُرِّ ، وضرب أخاه حدَّ العبد ، فشاعت الكلمة ، حتى بلغت ابن الحكم ، فبعث إليه مروان ؛ لا حاجة لنا فيما تركتَ ، فهلمَّ فاقتصَّ من صاحبك ، فحضر فضربه مروان خمسين أخرى ))(1) ثم تقاولا بأشعار بذيئة(2) ...
في سند هذه الرواية : (( أبو عبيدة ؛ معمر بن المثنى )) ، قال فيه ابن حجر : إنه عمل كتابًا يطعن فيه على بعض أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) ، وقد سبق الكلام عليه في رواية سابقة .
وفي سندها أيضًا : (( أبو الخطاب )) : قال عنه الذهبي : مجهول(4) ، وقال ابن حجر : مجهول(5) .
فسند هذه الرواية ضعيف ، لوجود (( أبي عبيدة )) ، وهو مطعون فيه ، و (( أبي الخطاب )) ، وهو مجهول . وساقط ؛ لانقطاعه ، ومثل هذا السند لا يؤبه له ، ولا يعتد به لإثبات وقوع هذه القصة .
__________
(1) الأغاني 13/146 ، 14/119 .
(2) تنم عن ما في صدور واضعيها .
(3) تهذيب التهذيب 4/126 . . وانظر : السيوطي ، بغية الوعاة 2/294 . وقد سبق الكلام عليه في ص 146 من هذا البحث .
(4) ميزان الاعتدال 4/520 .
(5) لسان الميزان 7/42 . وقد ورد في ( الميزان واللسان ) ذكر عدة رجال بهذه الكنية : ( أبو الخطاب ) ، وكلهم : مناكير مجاهيل .(1/31)
ونتساءل ؛ أهكذا كانت الحياة في صدر الإسلام ، ولم يمض على وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى نحو من ثلث قرن ؟؟ أكذلك كان معاوية ، الصحابي الجليل ، وكاتب الوحي ، والعاقل الحازم ، يتدلى إلى مثل هذه السفاسف ؟؟ وهو قد شغل نفسه - رضي الله عنه - بتوطيد الخلافة ، وإعادة هيبتها لدى الفرس والروم ، وجهادهم في البر والبحر ، وهو قد شغل نفسه - أيضًا - بمغازي الصوائف والشواتي ، وإعداد العدة لفتح القسطنطينية !!
فليس هذا هو معاوية ، الداهية الكيس الفطن ، الذي عدَّه أميرُ المؤمنين الفاروق : رجلَ العرب !! أَوَ معاوية يأمر واليه على المدينة فلا ينفذ أمره ، ثم يعود حتى يرجوه ويعزم عليه ؟!!
وهل هذا هو النعمان بن بشير ، الصحابي الأمير المجاهد ، ابن الصحابي الأمير المجاهد ؟!! ، والإجابة عن ذلك - حقًا - : لا .
لا جرم هذه بعض افتراءات الرواة الكذبة .(1/32)
فلم تكن كذلك حياة المسلمين في القرن الأول ؟ وهم بقية الصحابة الكرام ، وخيرة التابعين الأجلاء ، ولم يكن ابن حسان بن ثابت ليعفوَ عن صاحبه ، ثم يرجعَ فيُشَنِّعَ عليه ، ويشيعَ عنه قالة السوء(1) !!
الرواية الثانية في الموضوع : وقد اخترع الأصفهاني سببًا آخر لهذه الملاحاة ، فقال : أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، وحبيب بن نصر المهلبي ، قالا : حدثنا عمر بن شبه ، قال : حدثنا يحيى الزبيري ، قال : حدثني ابن أبي زريق ، قال : شبب عبد الرحمن بن حسان برملة بنت معاوية ، فقال من أبيات فيها :
رَمْلَ هَلْ تَذْكُرينَ يومَ غَزَالٍ ... ... إِذْ قَطَعْنَا مَسِيرَنَا بِالتَّمَنِّي
__________
(1) نحن لا ندعي العصمة لأحد - حاشا الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه ، لا لفرد ولا مجتمع - ، وكل ابن آدم خطاء ، وقد وقع في عصر النبوة من الكبائر والصغائر واللمم ، وكذا فيما تلاه من العصور ، ولكن كل ذلك كان - كما يقال - حالات فردية ، أي لا تتعدى الندرة ، وبخاصة في العهد النبوي والراشدي ، وقد كان وقوع تلك الأحداث - والله أعلم - حكمة من الله لاستنباط الأحكام الشرعية ، والقياس عليها ، في حين أن السمة الغالبة على المجتمع عامة هي الطهر والنقاء في العهد النبوي والخلفاء الراشدين وما تلاه ، في حين أن من يطالع روايات الأصفهاني يخرج بانطباع تام أن العصر كله عصر لهو ومجون ، وغناء وفسق وعهر ، لم يسلم من ذلك - حسب مرويات الأصفهاني - صحابي ، ولا تابعي ، ولا خليفة ، ولا فقيه ، ولا عالم ، ولا عابد ...(1/33)
فبلغ ذلك يزيد بن معاوية(1) فغضب ، ودخل على معاوية ، فقال : يا أمير المؤمنين ؛ ألا ترى إلى هذا العلج من أهل يثرب ( كذا ) يَتَهَكَّمُ بأعراضنا ، ويتشبب بنسائنا ؟ قال : ومن هو ؟ قال : عبد الرحمن بن حسان ، وأنشده ما قال . فقال : يا يزيد ؛ ليست العقوبة من أحد أقبح منها من ذوي القدرة ، ولكن أمهل حتى يقدم وفد الأنصار ، ثم ذكِّرني ، قال : فلما قدموا ذكَّره به ، فلما دخلوا عليه ، قال : يا عبد الرحمن ؛ ألم يبلغني أنك تشبب برملة بنت أمير المؤمنين ؟ قال : بلى ، ولو علمت أن أحدًا أُشرِّفُ به شعري أشرفَ منها لذكرته ( كذا ) . قال : وأين أنت عن أختها هند ؟ قال : وإن لها لأختًا .؟ قال : نعم - وإنما أراد معاوية أن يشبب بهما جميعًا ، فيكذب نفسه . قال : فلم يُرضِ يزيدَ ما كان من معاوية في ذلك ، فأرسل إلى كعب بن جعيل(2) ، فقال : اهجُ الأنصار . فقال : أَفْرَقُ من أمير المؤمنين ، ولكن أدلك على الشاعر الكافر الماهر ؛ الأخطل ، فدعاه ، فقال له : اهْجُ الأنصار . فقال : أفرق من أمير المؤمنين . قال : لا تخف شيئًا ؛ فأنا لك بذلك ، فهجاهم فقال :
وَإِذَا نَسَبْتَ ابنَ الفُرَيعَةِ خِلْتَهُ ... كَالجَحْشِ بَينَ حِمَارَةٍ وَحِمَارِ
لَعَنَ الإِلَهُ مِنَ اليَهُودِ عِصَابَةً ... بِالجِزْعِ بَينَ صُلَيْصِلٍ وَصُدَارِ
__________
(1) في رواية أخرى عند الأصفهاني - نفسه - كذلك ، أن التشبيب كان بأخت معاوية وليس بابنته ، وأن معاوية راح يخفِّفُ عن ابنه يزيد ، ويفثأ حدته ، وبأن الشاعر لم يقل ما يعرُّ ... الخ . الأغاني 13/143 .
(2) كعب بن جعيل التغلبي ، زعموا له صحبة ، لكن ابن حجر ذكره في القسم الثالث من الإصابة ، وهو شاعر مخضرم مفلق ، وكان مع أهل الشام وشاعرهم ، وكان مكرمًا ، توفي حوالي سنة خمس وخمسين هجرية .
الإصابة 3/314 ، وانظر : الزركلي ، الأعلام 5/225 .(1/34)
قَومٌ إِذَا هَدَرَ العَصِيرُ رَأَيْتَهُمْ ... حُمْرًا عُيونُهُمُ مِن المِصْطَارِ
الأبيات ...
جمع أبو الفرج لهذه ( الملحمة الروائية !! ) عدة روايات بأسانيدها كما سبق ، فقال : أخبرني (( أحمد بن عبد العزيز الجوهري )) ، وهذا من شيوخ الطبراني ، ولم أقف له على جرح أو تعديل ، فيما بين يدي من كتب الرجال .
وأما : (( حبيب بن نصر المهلبي )) فهو مجهول .
وفيه : (( يحيى الزبيري )) ورد في ( تاريخ بغداد ) ، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً ، إلا أنه قال : (( عالم بالنسب ))(1) .
وفيه : (( ابن أبي زريق )) ، وهو مجهول .
ومثل هذا السند ، الذي ضم المجاهيل لا يعتدُّ به ، ولا يعتمد عليه في إثبات صحة رواية .
الرواية الثالثة : قال حدثني عمي ، قال : حدثنا أحمد بن الحارث الخراز ، عن المدائني ، عن أبي بكر الهذلي ، قال : لما أمر يزيد بن معاوية كعب بن جعيل بهجاء الأنصار قال كعب بن جعيل : أراديَّ أنت إلى الكفر بعد الإسلام ؟!! أأهجو قومًا آووا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصروه ؟!
وفي رواية : قال كعب بن جعيل : والله ما تلتقي شفتاي بهجاء الأنصار ، ولكني أَدُلُّكَ على الشاعر الفاجر الماهر ؛ فتى منا يقال له : الغوث ، خبيث الدين نصراني . كأن لسانه لسان ثور ، فذلك حين يقول(2) :
وإذا نَسَبْتَ ابنَ الفُريعَةِ خِلْتَهُ ... كَالجَحْشِ بَينَ حِمَارَةٍ وَحِمَارِ
خَلُّو المَكَارِمَ لَسْتُمُو مِنْ أَهْلِهَا ... وَخُذُوا مَسَاحِيَكُمْ بَنِي النَّجَّارِ(3)
ذَهَبَتْ قُرَيشٌ بِالمَكَارِمِ وَالعُلاَ ... وَاللُّؤْمُ تَحْتَ عَمَائِمِ الأَنْصَارِ
__________
(1) تاريخ بغداد 13/112 .
(2) الأغاني 14/118 .
(3) مساحيكم : جمع مسحاة ، وهي آلة العمل والزراعة ، وفي هذا غمز فيهم بأنهم من أهل الحرف والامتهان ، وكانت العرب تعير بذلك ، وهي من صفات العبيد ..(1/35)
فبلغ ذلك النعمانَ بن بشير ، فدخل على معاوية ، فحسر عمامته عن رأسه وقال : يا أمير المؤمنين ؛ أترى لؤمًا ؟ قال : لا ، بل أرى كرمًا وخيرًا . فماذا ؟ قال : زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائم الأنصار . قال : أوَ فعل ذلك ؟ قال : نعم . قال : لك لسانه ، وكتب فيه أن يؤتى به .
وفي رواية ( عن خالد بن كلثوم(1) ) : لما هجا الأخطل الأنصار ، دخل النعمان بن بشير على معاوية ، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول(2) :
معاويَ إلا تُعْطِنَا الحَقَّ تَعْتَرِفْ ... لِحَيّ الأَزدِ مَشْدُودًا عَلَيهَا العَمَائِمُ
أَيَشْتُمُنَا عَبْدُ الأَرَاقِمِ ضَلَّةً ... وَمَاذَا الَّذِي تُجْدِي عَلَيكَ الأَرَاقِمُ
فَمَا لِيَ ثَأرٌ دُونَ قَطْعِ لِسَانِه ... فَدُونَك مَن يُرضِيهِ عَنْكَ الدَّرَاهِمُ
فَإنْ كُنْتَ لَمْ تَشْهَدْ بِبَدْرٍ وَقِيعَةً ... أَذَلَّتْ قُرَيشًا وَالأُنُوفُ رَوَاغِمُ
أَلَمْ تَبْتَدِرْكُمْ يَومَ بَدْرٍ سُيوفُنَا ... وَلَيلُكَ عَمَّا نَابَ قَومَكَ نَائِمُ
فَمَا أَنْتَ وَالأَمْرُ الَّذِي لَسْتَ أَهْلَهُ ... وَلَكِنْ وَلِيُّ الحَقِّ وَالأَمْرِ هَاشِمُ
وهي قصيدة طويلة ، أقول فيها ما قلته في سالفتها ، التي نُحلت النعمانَ بن بشير - رضي الله عنه - ، وهو من هذا ... براء ، فهذه والقصيدة السابقة(3) من مصدر واحد .
ونلاحظ تأكيد الروايات على تعيير الأمويين بيوم بدر ، فلماذا الإلحاح على بدر ؟ وهل خاضها الأمويون في جاهليتهم أو في إسلامهم ؟
وما معنى هذا ؟؟ وهل يعيِّر عاقل الصحابيَّ بما فعله في جاهليته ؟؟ وقد جاء الإسلام فطوى تلك الصفحة ؟ ووضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دماء الجاهلية ورباها وفخرها وكل خصائصها ... وضعها تحت قدمه ، فألغاها ؟!!
__________
(1) لم أقف له على ترجمة فيما بين يدي من كتب الرجال .
(2) الأغاني 13/142 .
(3) انظر الحاشية 2 ، ص : 145 من هذه البحث .(1/36)
وإذا كان النعمان يعلم أن ولي الأمر هاشم فلماذا لم يتبعه ؟؟ وما لهاشم ، أو عبد الدار .. وهذه الزوبعة المريبة ؟؟
وناسج هذه الرواية يرمي إلى أكثر من غرض ؛ من ذلك : نبش الجاهلية البائدة ؛ بالتحريش بين قريش والأنصار في قوله : (( أذلت قريشًا ... )) مع أنه لم يكن بينهما في الجاهلية حروب وثارات ، وإنما يريد أن تشويه صورة المجتمع الإسلامي الأول ، وإهاجة الشر ...
وآخر أنكى من الأول ، وهو يريد أن يقرر : أن الإسلام لم يستطع نزع الجاهلية واجتثاثها من النفوس ، وبالتالي فأثر الإسلام ضئيل في النفس ... وعليه فالإسلام - في زعمه - ليس بشيء .
وساق الأصفهاني رواية عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، وحبيب بن نصر المهلبي ، قالا : حدثنا عمر بن شبه ، قال : حدثنا يحيى الزبيري ، قال حدثنا ابن أبي زريق ، قال : لما أُتي بالأخطل ، سأل الرسولَ أن يُدخله على يزيد أولاً ، فأدخله عليه ، فقال : هذا الذي كنت أخاف . قال : لا تخف شيئًا ، ودخل على معاوية ، فقال : عَلامَ أُرْسِلَ إلى هذا الرجل ، وهو يمدحنا ويرمي من وراء جمرتنا ؟ قال : هجا الأنصار . قال : ومن زعم ذلك ؟ قال : النعمان بن بشير . قال : لا يُقْبَل قوله عليه ، وهو يدعي لنفسه ، ولكن تدعوه بالبينة ، فإن أثبتَ شيئًا آخذته به له ، فدعاه بالبينة فلم يأت بها(1) ، فخَلَّى سبيله ، فقال الأخطل يمدح يزيد(2) :
وإِنِّى غَدَاةَ اسْتَعْبَرَتْ أُمُّ مَالِكٍ ... لَرَاضٍ مِنَ السُّلْطَانِ أَن يَتَهَدَّدَا
__________
(1) وكيف يأتي بها ؟؟ وما هذه البينة أوَ ليست قصيدة ذاعت وشاعت ؟؟ وفي هذه الفلتة ما يدل على كذب القصة كلها ... ومحال - قطعًا - أن يقول رجل كالأخطل - في أنصار سول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نُحِلَ في ذلك العهد ...
(2) ديوان الأخطل 74 .(1/37)
وَلَولاَ يَزِيدُ بنُ المُلُوكِ وَسَيْبُهُ ... تَجَللَّتُ حِدْبَارًا مِنَ الشَّرِّ أَنْكَدَا(1)
أَبَا خَالِدٍ دَافَعْتَ عَنِّي عَظِيمَةً ... وَأَدْرَكْتَ لَحْمِي قَبْلَ أَن يَتَبَدَّدَا
وَأَطْفَأْتَ عَنِّي نَارَ نُعْمَانَ بَعْدَمَا ... أَغَذَّ لأَمْرٍ عَاجِزٍ وتَجَرَّدا
وَلَمَّا رَأَى النُّعْمَانُ دُونِي ابْنَ حُرَّةٍ ... طَوَى الكِشْحَ إِذْ لَمْ يَسْتَطِعْنِي وعَرَّدَا(2)
ج
وقيل : إن يزيد لما علم بخبر قطع لسان الأخطل ركب إلى النعمان ، فاستوهبه منه ، فوهبه إياه(3) .
وفي رواية : كان عبد الرحمن بن حسان ويزيد بن معاوية يتقاولان ، فاستعلاه ابن حسان ، فقال يزيد لكعب بن جعيل : أجبه عني واهجه
فقال : والله ما تلتقي شفتاي بهجاء الأنصار ، ولكني أدلك على الشاعر الفاجر الماهر ، فتى منا يقال له : الغوث ، نصراني ، فأرسل إليه يزيد لهجاء الأنصار ... الخ(4) .
وعند الأصفهاني : أن كَعب بن جُعَيْل أجاب يزيد بن معاوية حينما وجهه لهجاء الأنصار :
أراديَّ أنت إلى الكفر بعد الإسلام ؟ كيف أهجو قومًا آووا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصروه ؟ ولكني أدلك على رجل منا خبيث الدين ، نصراني ، لسانه كلسان الثور . فدله على الأخطل ... الخ الخ )) .
أورد أبو الفرج تلك الرواية من طريق عمه ، فقال : (( حدثني عمي )) ، وعمه هذا - كما سبق - مجهول ، لم يُعْرَف له اسم ولا رسم .
عن (( أحمد بن الحارث الخراز )) ، وهذا ليس فيه توثيق لمعتبر(5) .
عن (( المدائني )) ، واسمه : علي بن يحيى ؛ قال عنه الذهبي : قال ابن عدي : (( ليس بالقوي ))(6) .
__________
(1) وفي رواية : حدباء ، أي شديدة منكرة .
(2) عرد : ذهب وانحرف وشرد ..
(3) د. جميل مصري ، أثر أهل الكتاب في الفتنة والجمل 460 .
(4) الأغاني 14/118 .
(5) انظر : الفهرست ، ص 117 .
(6) فتح القدير 2/335 .(1/38)
عن (( أبي بكر الهذلي )) قيل : اسمه سُلْمَى بن عبد الله ، وقيل : رَوْح ، أخباري متروك الحديث ... ))(1) .
ومثل هذا السند الذي ضم الضعفاء والمجاهيل والمتروكين - كما رأيت - سند ضعيف جدًا ، لا تثبت به صحة رواية .
ونحن نعجب لهذا الورع البارد ، والنزاهة السمجة عن هجاء الأنصار وتحاشي إيذائهم من قبل كعب بن جُعيل ، ثم يدل - في الوقت نفسه - يزيدَ (( على الشاعر النصراني الخبيث الدين ، الماهر الفاجر ؛ الأخطل )) ؟؟؟ فمَثَل هذا كمثل من يقول : أنا لا أسرق ، لأن السرقة حرام ، ولكنني أدلك على سارق عيار شاطر(2) !!!
وثمة ملاحظة ؛ وهي : أن جُلَّ تلك الأشعار الواردة في هذه الروايات ليست في ديواني النعمان بن بشير والأخطل في شعرهما الذي تصح نسبته إليهما ، ويغلب على الظن أن الأصفهاني أو بعض الرواة الذين ذكرهم نحلوها إياه لاستكمال تفاصيل هذه الملحمة .
نقرر هذا ؛ لأن أبا الفرج الأصفهاني ، صاحب الأغاني ، ليس ثقة ولا مأمونًا ، وقد أكثروا الطعن عليه(3) ، وعامة الرواة الذين ينقل عنهم مجروحون وكذبة ووضاعون ومجهولون(4) ، ومثل هذه العظائم من الأحداث لا تؤخذ أو تستيقن عن أمثال أولئك الرواة الذين أوردهم أبو الفرج ، فلا تثبت بهم حجة .
يقول الأستاذ محمد كرد علي : (( ثم إن روايات الأغاني ليست مما يعتمد عليه في تحليل أخلاق خليفة ؛ لأن العقل يرد الأقاصيص الموضوعة على ( يزيد بن عبد الملك ) ، وكذا خبر تشبيب عبد الرحمن بن حسان برملة بنت معاوية ، وما إلى ذلك ... ))(5) ...
__________
(1) تقريب التهذيب 2/410 .
(2) يعني يسرق الكحل من العين - كما يقولون - وهذه العبارة هي معنى : لسانه كلسان ثور ...
(3) ميزان الاعتدال 3/123 ، 4/231 .
(4) السابق 270 وما بعدها . وانظر د. زكي مبارك ، النثر الفني في القرن الرابع 1/288 وما بعدها .
(5) مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق ، المجلد الثامن ،آذار ، 1928م .(1/39)
وأما أبو الفرج الأصفهاني نفسه ؛ فإليك بعض أقوال علماء الرجال فيه :
قال الإمام البخاري : صاحب عجائب . وقال أبو حاتم والعقيلي : ضعيف الحديث ، منكر الحديث ، عنده عجائب . قال الحاكم : ليس بالقوي . قال ابن عدي : ليس بمعروف . قال ابن حبان : لا تحل الرواية عنه ... ))(1) .
قال أبو الفرج الأصفهاني : (( إن أصل المثالب زياد ... ، عمل كتاب المثالب ، فألصق بالعرب كلها كل عيب وعار ، وحق وباطل ، ثم بنى على ذلك : الهيثم بن عدي ، وكان دعيًا ... فأراد أن يعرَّ أهل البيوتات تشفيًا منهم ، وفعل ذلك : أبو عبيدة
( معمر بن المثنى ) ، وكان أصله يهوديًا ، فجدد كذب زياد ، ( وكان مدخول الدين ، مدخول النسب ... ) ، وزاد فيه ، ثم نشأ : غيلان الشعوبي ... [ فألصق ] بسائر العرب كل كذب وزور ، ووضع عليهم كل خبر باطل ، فأعطاه طاهر بن الحسين على ذلك مئتي ألف درهم فيما بلغني ...الخ ))(2) .
روى الخطيب البغدادي عن الحسن بن النوبختي ، قال : (( كان أبو الفرج الأصفهاني أكذب الناس ، كان يشتري شيئًا كثيرًا من الصحف ، ثم تكون كل رواياته منها ... )) .
وقال ابن الجوزي عنه : (( ... ومثله لا يوثق بروايته ... ومن تأمل كتاب الأغاني ، رأى كل قبيح ومنكر .... )) .
وقال الذهبي عنه : (( كان يأتي بأعاجيب بحدثنا وأخبرنا ... ))(3) .
وصفوة القول : إن الروايات التي أوردها أبو الفرج الأصفهاني عن النعمان بن بشير لا يؤخذ بها ، لتهافتها سندًا ومتنًا ، ولا يمكن للباحث الجاد أن يطمئن إليها أو يعتمد عليها ؛ لأن الركون إليها لا يؤمن عثاره .
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم .
- أثر أهل الكتاب في الفتنة والجمل ، د. جميل المصري ، ط1 ، 1410هـ/1989 ، مكتبة الدار ، المدينة المنورة .
__________
(1) انظر : ميزان الاعتدال 3/123 ، ولسان الميزان 4/231 .
(2) الأغاني ...
(3) ميزان الاعتدال 3/132 ، لسان الميزان 4/231 .(1/40)
- الاستيعاب ، ابن عبد البر ( على حاشية الإصابة ) ، مصورة عن الكتبخانة الخديوية المصرية ، ط1 ، 1328هـ .
- أسد الغابة في معرفة الصحابة ، ابن الأثير الجزري ، تحقيق محمد إبراهيم البنا ورفيقيه ، كتاب الشعب ، القاهرة ، 1970م .
- الإصابة في تمييز الصحابة ، ابن حجر ، مصور عن الكتبخانة الخديوية المصرية ، ط1 ، 1328هـ .
- الأعلام ، خير الدين الزركلي ، طبعة دار العلم للملايين ، ط5 ، بيروت ، 1399هـ .
- أعلام النساء ، عمر رضا كحالة ، ط5 ، مؤسسة الرسالة ، 1404هـ/1984م ، بيروت ، لبنان .
- الأغاني ، أبو الفرج الأصفهاني ، دار الفكر ، الطبعة الأولى ، 1407هـ ، بيروت ، لبنان .
- البداية والنهاية ، الحافظ ابن كثير ، تحقيق د. أحمد أبو ملحم ورفاقه ، ط4 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1408هـ .
- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ، الحافظ السيوطي ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، المكتبة العصرية ، صيدا ، لبنان .
- تاريخ الأمم والرسل والملوك = ( تاريخ الطبري ) ، الطبري ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف ، القاهرة ، ط5 ، 1987م .
- تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان .
- تاريخ دمشق ، ابن عساكر ، ط1 ، 1421هـ/2000م ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان .
- تقريب التهذيب ، ابن حجر ، تحقيق عبد الموجود عبد اللطيف ، ط2 ، 1395هـ/1975م ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان .
- تهذيب التهذيب ، ابن حجر ، مصورة عن الطبعة الأولى ، دائرة المعارف النظامية ، حيدرآباد ، 1325 ، الهند .
- جمهرة أنساب العرب ، ابن حزم ، تحقيق عبد السلام هارون ، ط5 ، دار المعارف ، 1982م ، القاهرة .
- الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية ، د. محمد ضياء الدين الريس ، ط4 ، 1977م ، دار الأنصار ، عابدين .
- دلائل النبوة ، البيهقي ، تحقيق د. عبد المعطي قلعجي ، ط1 ، دار الريان ، القاهرة ، 1408هـ .(1/41)
- ديوان الأخطل ، دار الكتاب العربي ، 1414هـ / 1994م ، بيروت ، لبنان .
- ديوان حسان بن ثابت ، وضعه وصححه عبد الرحمن البرقوقي ، 1401هـ/ 1981م ، دار الكتاب العربي ، بيروت لبنان .
- الروض الأنف ( تفسير سيرة ابن هشام ) ، للسهيلي ، ط. عبد الرؤوف سعيد ، ط منقحة ، 1398هـ/1978م ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان .
- سنن البيهقي ، تحقيق محمد عبد القادر عطا ، ط1 ، 1414هـ-1994م ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان .
- سير أعلام النبلاء ، الذهبي ، أشرف على تحقيقه الشيخ شعيب الأرناؤوط ، ط7 ، 1410هـ-1990م ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان .
- السيرة الحلبية ، العلامة برهان الدين الحلبي ، إحياء التراث العربي ، بيروت .
- السيرة الشامية ، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ، للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي ، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود ، والشيخ علي محمد معوض ، ط1 ، 1414هـ/1993م ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
- السيرة النبوية ، ابن هشام ، اعتنى بها د. عمر عبد السلام تدمري ، ط1 ، 1408هـ ، دار الريان ، القاهرة .
- السيف اليماني في نحر أبي الفرج الأصفهاني ، وليد الأعظمي ، ط1 ، 1408هـ /1988م ، دار الوفاء ، المنصورة ، مصر .
- شعر ابن أحمر الباهلي ، د. حسن عطوان ، دمشق .
- شعر النعمان بن بشير الأنصاري ، جمعه وقدم له د. يحيى الجبوري ، ط1 ، مطبعة المعارف ، بغداد 1388هـ/1968م .
- الصحابة من الأنصار ، د. حسين مؤنس ، ط1 ، 1989م / 1409هـ ، رابطة الجامعات الإسلامية .
- صحيح مسلم بشرح الإمام النووي ، المسمى : المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ، تحقيق الشيخ خليل مأمون شيحا ، دار المعرفة ، بيروت ، ط6 ، 1422هـ .
- الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، دار صادر .
- عبد الملك بن مروان ، تأليف عمر أبو النصر ، ط1 ، 1926 ، منشورات المكتبة الأهلية ، بيروت ، لبنان .
- الفهرست ، النديم الوراق ، ط3 ، 1988م ، دار المسيرة .(1/42)
- الكامل في التاريخ ، ابن الأثير ، عني به نخبة من العلماء ، دار الكتاب العربي ، ط6 ، بيروت ، 1406هـ .
- لسان العرب ، مصورة عن الطبعة الأولى ، دار صادر ، بيروت .
- لسان الميزان ، ابن حجرة ، مصورة عن طبعة مجلس المعارف النظامية ، حيدرآباد الدكن ، 1329هـ .
- مجلة المجمع العربي ، المجلد الثامن ، آذار ، 1928 ، دمشق .
- مسند الإمام أحمد ، تحقيق مجموعة من المحققين ، بإشراف الشيخ شعيب الآرناؤوط 1/1409هـ/1999م ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان .
- المعمرون والوصايا ، أبو حاتم السجستاني ، تحقيق عبد المنعم عامر ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، 1961م .
- المغازي ، الواقدي ، محمد بن عمر ، تحقيق د. مارسدن جونس ، ط3 ، 1409هـ/1989م ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت .
- المنتظم ، ابن الجوزي .
- ميزان الاعتدال ، الذهبي ، تحقيق علي محمد بجاوي ، ط1 ، 1382هـ/1962م ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان .
- النثر الفني في القرن الرابع ، د. زكي مبارك ، دار الجيل .
- نسب قريش ، الزبيري ، عني به إ. ليفي بروفنسال ، ط3 ، 1982 ، دار المعارف ، القاهرة .
-(1/43)