الكتاب : بحر الفوائد المشهور بمعاني الأخبار
|المؤلف : أبو بكر محمد بن أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكلاباذي البخاري
|[ت : 384 هـ]
|المحقق : محمد إسماعيل أحمد فريد
|الناشر : دار الكتب العلمية بيروت / لبنان
|الطبعة : الأولى ، 1420هـ 1999م
|عدد الأجزاء : 1(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
|الحمد لله بجميع محامده لجميع آلائه ، ونعمائه ، والسلام والتحية والإكرام على سيد المرسلين خاتم النبيين ، وعلى جميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين من أهل السماوات وأهل الأرضيين وغيرهم كلهم أجمعين ، وعلى جميع الصحابة والخلفاء الراشدين والتابعين والصالحين وعلماء الدين والشهداء والفقهاء والمتعلمين وجميع المسلمين والمؤمنين من الجنة والناس أجمعين في كل لحظة ولمحة وخطرة من أول الأزل إلى أبد الآبدين.
|يقول العبد الضعيف أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن الحسين السعدي احسن الله إليه وأسعد جده : ثنا الشيخ القاضي الإمام الأجل جلال الدين أبو المحامد حامد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن إملاء ، قال : أخبرنا الشيخ الإمام الأجل أبو اسحق إبراهيم بن إسماعيل الصفاري الانصاري ، قال : أخبرنا الشيخ والدي ، |(1/17)
@ 18@قال : أخبرنا الشيخ أبو حاتم إبراهيم بن أحمد المستملي ، قال : أخبرنا الشيخ أبو بدر ابن إسحق العارف الكلاباذي المصنف.
|قال رضي الله عنه : وأخبرني بهذا الإسناد الشيخ العالم الصالح الدين فخر الدين محمد بن هارون ، والشيخ الإمام زين الصالحين عمر بن أبي بدر عثمان الصابوني بقراءتي عليهما في الجامع ببخارى ، قال : أخبرنا بهذا الإسناد الشيخ الأستاذ ظهير الدين أبو المكارم الحسين بن علي المرغيناني ، والشيخ القاضي جمال القضاة أبو بكر محمد بن عمر الكرماني الزغافي في كثيرين آخرين.
|قال رضي الله عنه : وأخبرنا الشيخ القاضي الإمام( ... ) رحمه الله قال : أخبرنا الشيخ الإمام نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد النسفي قال : أخبرنا الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن أحمد البلدي قال : أخبرنا الشيخ أبو نصر أحمد بن علي المايمرغي المصنف رضي الله عنه.
|وأخبرنا أيضا بهذا الإسناد الشيخ الإمام الأجل الأستاذ ظهير الدين وجمال القضاة الكرميني في كثيرين آخرين . قال رضي الله عنه وقد أخبرنا الشيخ الإمام القاضي الأجل قاضي القضاة عماد الدين أبو حفص عمر بن أبي بكر بن محمد بن علي بن الفضل الزنجري بقراءة الشيخ الإمام الزاهد القطان المستملي في مسجده بعد إملائه ، قال : أخبرنا الشيخ القاضي الإمام الأجل الزاهد الوالد ، قال : سمعت معاني الأخبار وشرح الآثار من الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن أحمد التميمي في مسجد الشيخ الإمام شمس الأئمة أبي محمد عبد العزيز بن أحمد الحلواني وهو حاضر يسمع في شهر رمضان سنة ست وثلاثين وأربعمائة رواه عن المصنف.
|قال رضي الله عنه وأخبرنا أيضا بهذا الإسناد الشيخ الإمام الأجل الأستاذ ظهير الدين ، والشيخ الإمام الدين فخر الأئمة محمد بن هارون والشيخ القاضي الإمام أبو عمر ، وعثمان بن أبي بكر المطوعي ، وجمال القضاة الكرميني ، وكثير من المشايخ يكثر تعدادهم قدس الله أرواحهم.(1/18)
قال رضي الله عنه وقد أخبرنا الشيخ القاضي العالم الأجل الأستاذ بهاء الدين مفتي الشرق والغرب أبو المحامد محمد بن أحمد بن يوسف المنسوب إلى إسبيجاب بقراءتي عليه من أوله إلى آخره في المسجد الجامع ببخارى أعمرها الله وخلص أهلها وأئمتها في أوائل ذي الحجة سنة أربع وستين وخمسمائة ، قال : أخبرنا الشيخ القاضي الإمام الزاهد اللدني قال . أخبرنا الشيخ القاضي الإمام صدر الإسلام أبو اليسر محمد بن محمد بن الحسين البزدوي قال : أخبرنا الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة فخر الإسلام أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحمن بن الحسين الكاتب قال : أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد العارف أبو بكر محمد بن إبراهيم ابن يعقوب الكلاباذي البخاري المصنف إملاء بدرب الجديد في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة . قال رضي الله عنه : وأخبرنا الشيخ الإمام الأجل الأستاذ ظهير الدين محمد ابن أحمد المحبوبي ، والشيخ الإمام الاجل الأستاذ ظهير الدين المرغيناني ، والشيخ القاضي الإمام جمال القضاة الكرميني ، والشيخ القاضي الإمام أبو عمر المطوعي وغيرهم ، قالوا : أخبرنا الشيخ القاضي الإمام الزاهد عماد الدين أبو بكر محمد بن الحسن بن منصور النسفي رحمه الله ، وقد توفي سنة خمس وخمسمائة ، قال : أخبرنا شمس الأئمة الحلواني عن أبي محمد الكاتب عن المصنف . قال رضي الله عنه : وقد أعرضت عن إيراد الأسانيد ، وذكر المشايخ تحرزا عن الملال للأحباب والأصحاب قدس الله أرواح الماضين ، وحصل آمال الحاضرين بفضله ورحمته ، وهو أرحم الراحمين.
|وبهذه الأسانيد التي ذكرناها : قال الشيخ الإمام الزاهد العارف أبو بكر بن أبي إسحق وهو محمد بن إبراهيم ابن يعقوب الكلاباذي البخاري رحمه الله : |(1/19)
@ 20@حدثنا أبو الفضل محمد بن أحمد بن [مروك] قال : حَدَّثَنا محمد بن عيسى الطرسوسي ، قال : حدثني يحيى بن معين ، وعلى بن بحر قالا : حدثنا هشام بن يوسف ، عن عبد الله بن سليمان النوفلي ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحبو الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي.
|قال الشيخ الإمام الزاهد أبو بكر بن أبي إسحق رحمه الله : يجور أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم : أحبوا الله خبرا عن محبتهم إياه ، وإن كان لفظه لفظ الأمر ، وقد جاء مثله في كلام العرب مثل قولهم : عش رحبا تر عجبا ، أي لأن العيش ليس إلى الإنسان فيؤمر بأن يعيش.
|ومثله ما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : وجدت الناس أخبر تقله . معناه : إن خبرتهم قليتهم ، يدل عليه قوله : وجدت الناس ، كأنه قال : وجدت الناس صفتهم إن خبرتهم قليتهم.
|وكذلك قوله أحبوا الله معناه إنما تحبون الله لأنه أنعم عليكم فأحبكم فأحببتموه لحبه لكم قال الله عز رجل : ! يحبهم ويحبونه [المائدة : 54] أخبر عن حبه لهم قبل حبهم له.(1/20)
@ 21@وقوله : أحبوني لحب الله أي إنما تحبونني لأن الله تعالى أحبني فوضع فيكم محبتي كما جاء في الحديث : إذا أحب الله عبدا أمر جبرائيل عليه السلام فنادى في السماء ألا إن الله أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع حبه في الأرض.
|وفي بعض الحديث : ويقع على الماء فيشربه البر والفاجر فيحبه البر والفاجر وإذا بغض عبدا فمثل ذلك.
|حدثناه أحمد بن علي بن عمرو قال . حدثنا علي بن إسحق الماذراني ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا أبو مسعود الزجاج واسمه عبد الرحمن بن حسين ، عن معمر ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل إذا أحب عبدا وذكره.
|فأخبر أن الله تعالى إذا أحب عبدا وضع محبته في كل شيء حتى في الجماد ، وإنما حملنا معنى الخبر علي ما قلناه لان المحبة إذا كانت بشرط النعمة كانت معلولة ناقصة وكان رجوعها إلى حظ المحب لا إلى المحبوب في النعم كلها أو أكثرها ملاذ النفوس ومرافق الأبدان أو ما يؤدي إليها ، ومن أنس لللذة والرفق تغير للألم والمكروه وفوات حظوظ النفس ، قال الله تعالى : {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه [الحج : 11].
|وقد قالوا في محبة زليخا ليوسف صلوات الله على سيدنا وعليه : أنها لم تكن محبة حقيقية ، وإنما كانت معها شهوة ومطالبة حظ النفس ألا ترى إلى قوله عز وجل : {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه} [يوسف : 23] الآية فلما لم يطاوعها وفاتها حظها فيه آثرت المر على ألمها فقالت : {ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من |(1/21)
@ 22@الصاغرين} [يوسف : 32] . وأما النسوة فغبن عن حظوظ الغيرة وآلامهن حتى قطعن أيديهن ولم يحسسن بالألم ، وزليخا لم تمكن الحب منها قالت : {الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه ) {يوسف : 51] أقرت على نفسها وشهدت له بالبراءة ، هذا ظهر دليل أن محبت النعمة محبة لذة ومطالبة حظوظ النفس فإن حملنا هذا الحديث على ظاهر اللفظ كان أمرا معلولا والمحبة نهاية الأحوال المعلوات الذين جازوا كثيرا منها فمثل هؤلاء لا يخاطبون بالمعلول من الأمر كما قال الله تعالى ، وقد قالت رابعة أو غيرها : والله لو قطعتني بالبلاد إربا إربا ازددت لك إلا حبا ، فمثل هذا لا يحمل على المحبة رؤية النعم التي هي حظوظ النفس ، ونحمل أيضا معنى الحديث إذا حمل على ما قلنا تنبيها لهم على ما من الله عليهم . . . . . أوصافهم معرضين كما نبههم الله عز وجل بقوله . {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} [الأنفال : 17].
|وأما قوله وأحبوا أهل بيتي لحبي أي إنما تحبونهم لأني أحببتهم ، وأحببتهم لأن الله تعالى أحبهم ، ويجوز أن يكون أمرا أن تحبونهم فيكون تصديقا لحبهم النبي صلى الله عليه وسلم ويكون معنى الحب لهم إيثارهم على غيرهم.
$حديث آخر$
حدثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي الخلوتي الجيدموني قال : حَدَّثَنا عبد العزيز ابن حاتم ، قال : حَدَّثَنا الحارث بن مسلم ، قال : حَدَّثَنا زياد بن ميمون ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : علامة حب الله حب ذكر الله ، وعلامة بغض الله بغض ذكر الله.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : معناه إن شاء الله علامة حب الله عبده ذكره وذلك أنه إذا أحب عبدا ذكره ، وإذا ذكر الله عبدا حبب إليه ذكره فيذكر العبد ربه لذكر ربه له كما أحب ربه لحب ربه له قال الله تعالى : {يحبهم ويحبونه} [المائدة : 54] وقال عز وجل : {ولذكر الله أكبر} [العنكبوت : 45] يجوز أن يكون معناه ذكر الله عبده أكبر من ذكر العبد الله ، لأن ذكر الله للعبد يسر من العبد ذكره لله إذ علة كل |(1/22)
شيء صنعه ولا علة ما يصنعه ، والله تعالى إذا أحب عبدا أحب منه ذكره له كما جاء في الحديث قال جبرائيل صلوات الله عليه وسلامه : يا رب عبدك فلان اقض له حاجته ، فيقول الله تعالى : دعوا عبدي فإني أحب أن أسمع صوته . حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حَدَّثَنا عبد الرحيم بن عبد الله بن إسحق السمناني ، قال : حَدَّثَنا إسماعيل بن توبه ، قال : حَدَّثَنا عفيف بن سالم الموصلي ، عن بكر بن خنيس ، عن ضرار بن عمرو ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلي الله عليه وسلم.
|ويجوز أن يكون معناه على ظاهره فيكون علامة المحب لله كثرة ذكره له عز وجل لأنه قيل : من أحب شيئا أكثر ذكره ، لأن من أحب الله تعالى أحب أن يكون معه وعنده ، وكونه معه وعنده ذكره إياه كما جاء في الحديث : ( أنا جليس من ذكرني وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم : أنت مع من أحببت.
|حدثنا بكير بن مسعود بن مرواد قال : حَدَّثَنا أبو سليمان محمد بن منصور البلخي ، قال : حَدَّثَنا القعنيي ، قال : حَدَّثَنا مالك ، عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله متى الساعة ؟ فقال له |(1/23)
@ 24@رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أعددت لها قال : حب الله ورسوله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنت مع من أحببت.
|قال الشيخ رحمه الله : يجور أن يكون معناه إن كنت كذلك فأنت مع من أحببت شهودا له بالقلب ، وذكرا له باللسان ، وخدمة له بالجوارح ، فيكون علامة من أحب الله أن يحب ذكر الله ، وذكر الله من العبد بلسانه علامة شهوده له بقلبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : اعبد الله كأنك تراه ومن شهده بقلبه فهو معه ومن ذكره فكأنه جليسه ، وهكذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : من أحب لقاء الله أحب الله لقائه.(1/24)
@ 25@حدثنا أبر النضر محمد بن إسحق الرشادي قال : حَدَّثَنا علي بن عبد العزيز ، قال حَدَّثَنا أبو عبيد ، قال حدثني يحيى بن سعيد ، عن عامر عن شريح بن هانئ ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحب لقاء الله أحب الله لقائه ، ومن كره لقائه كره الله لقائه ، والموت دون لقاء الله عز وجل.
|أي إنما يحب العبد لقاء الله إذا أحب الله لقاء عبده لان المحبة صفة له ، والله تعالى بجميع صفاته قديم عند عامة الصوفية وكثير من المتكلمين من المثبتة ، فالمحبة من الله تعالى صفة له في ذاته وبه قال الأشعري وأصحابه ، وكذلك البغض والسخط والغضب والموالاة والرياض ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون محبة الله عبده تبعا لمحبة العبد الله أو موجبة لها.
|وقوله والموت دون لقاء الله يجوز أن يكون حبه معنى دقيقا أي أن دون لقاء الله من العبد شهودا له بالقلب إلا بعد موت النفس والغيبة عما دون الله كما قال حارثة : عزفت نفسي عن الدنيا فأظمأت نهاري ، وأسهرت ليلي ، فكأني انظر إلى عرش ربي بارزا أي إنما كان نظري إلى عرش ربي بارزا بعد تركي حظوظ النفس ، وإماتت الشهوات كلها.
$حديث آخر$
حدثنا أبو الفضل محمد بن حاتم بن الهيثم ، قال : حَدَّثَنا محمد بن بحير بن حاتم أبو جعفر ، قال : حَدَّثَنا محمد بن مخلد الحضرمي أبو عمرو البصري ، قال : حَدَّثَنا سلام أبو المنذر ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما حبب إلي من الدنيا ثلاث : الطيب ، والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة.(1/25)
@ 26@قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : يجوز أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ، في الدنيا فيكون من بمعنى في فكأنه قال : حبب إلي في الدنيا أي : مدة كوني فيها هذه الأشياء الثلاثة ، فيكون هذه الأشياء في الدنيا لا من الدنيا ، وإن كانت فيها ويكون قوله صلى الله عليه وسلم إنما حبب إلي في هذه الدنيا ما ذكر إخبارا منه عن بلوغه نهاية الكلام الكمال في العبودية لله عز وجل ، وذلك أن أصل العبودية لله تعالى ودوران أحوالها على شيئين ، تعظيم قدر الله تعالى وحسن معاملة خلق الله ، وما ذكر صلى الله عليه وسلم أنه حبب إليه بجميع هاتين الخصلتين وذلك أن الصلاة أجمع خصلة من خصال الدين لتعظيم قدر الله ، وأدل شيء على إجلاله عز وجل وذلك أن أولها الطهارة سرا وجهرا ، ثم جمع الهمة وإخلاء السر وهو النية ، ثم الإنصراف عما دون الله إلى الله بالقصد إليه وهو التوجه ، ثم الإشارة برفع اليدين إلى نبذ ما ربط به ، ثم أول أذكاره التكبير وهو النهاية في تعظيم قدر الله وهو قوله الله كبر ، ثم أول ثناء فيه ثناء لا يشوبه ذكر شيء سواه وهو قوله سبحانك اللهم وبحمدك إلى قوله ولا إله غيرك ، ثم قراءة كلامه لا يجوز غيره منتصبا قد زم جوارحه هيبة وخشوعا وإجلالا وتعظيما ، ثم تحقيق ما عبر بلسانه عن ضميره من التعظيم لله فعلا وحركة وهو الركوع والسجود ، وأذكارهما تنزيه الله وإجلاله وتعظيمه بقوله سبحان ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى ، ثم مع كل حركة تكبير وليست هذه الخصال بإجماعها في شيء من العبادات أجمل منها في الصلاة فكان قوله صلى الله عليه وسلم جعلت قرة عيني في الصلاة عبارة عن تعظيمه قدر الله تعالى.
|وأما حسن معاملة خلق الله فالنهاية فيه أن يوفر عليهم حقوقهم ويزيدهم ويرفعهم ويبذل لهم حظوظهم من نفسه ، ولا يستوفي منهم حق نفسه ولا يطالبهم بحظوظها فأخبر صلى الله عليه وسلم عن كماله في هذه الخصلة بقوله الطيب والنساء وذلك أن الطيب من حظ الروحانيين من خلق الله وهم الملائكة صلوات الله عليهم أجمعين وليس لهم في شيء من عرض الدنيا غير الطيب حظ ، فأحب صلى الله عليه وسلم الطيب إيفاء لحقوقهم وحسن معاملة لهم مع غناه عنه لأنه صلى الله عليه وسلم كان أطيب ريحا من كل طيب في الدنيا.(1/26)
@ 27@حدثنا أبو منصور محمد بن نعيم بن ناعم ، قال حَدَّثَنا أبو حاتم الرازي : قال : حَدَّثَنا الأنصاري ، حدثني حميد ، عن أنس رضي الله عنه قال : ما مسست حريرة ولا خزا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة قط مسكا ولا عنبرا أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
|فمن كان بهذه الصفة لم يستعمل الطيب لنفسه وكان بلغ من حبه للطيب.
|حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا خالد بن عبد الله ، عن المنذر بن ثعلبة ، عن علباء بن أحمد ، أن عليا تزوج فاطمة على أربعمائة درهم وثمانين درهما فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ثلثها في الطيب.
|فهذا حظ الروحانين من الخلق وبلغ النهاية فيه من حبه له ، فكأنه أحب أن يوفر عليهم حظوظهم إذ ليس لهم في شيء من عرض الدنيا غير الطيب حظ ، ثم عشرة النساء ومعاملتهن أصعب وأعسر لأنهن أضعف تركيبا وأقل عقلا وأرق دينا وأغلب على ألباب الرجال ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه حببن إليه فحبب إليه معاملتهن وعشرتهن مع ضيق أخلاقهن فعاملهن أحسن معاملة حتى جمع بين الضراير ، وهو سبب المشاقة والتشاج وتغير الأخلاق حتى بلغ من حسن معاملته إياهن أن تحاببن وتواصلن وبلغ من رفقه بهن أن عاتبه الله تعالى : {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك} [التحريم : 1] فمن كانت معاملته النساء هذه المعاملة فما ظنك في معاملته الرجال ، وكان من حسن معاملته صلى الله عليه وسلم ما :
|ح حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحمى الحماني ، قال : حَدَّثَنا مندل ، عن الحسن بن الحكم النخعي ، عن أنس رضي الله عنه قال : خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء صنعته : لم صنعته ؟ ولا قال لشيء لم أصنعه : ألا صنعته ؟ ولا رأيت ركبته قدام ركبة جليسه قط ، ولا عاب طعاما قط ، ولا صافحه أحد قط فانتزع يده من يده حتى يكون المصافح هو الذي ينزع يده ، ولا أصغى إليه أحد برأسه فنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم |(1/27)
@ 28@رأسه حتى يكون المصغي هو الذي ينحي رأسه ، ولقد شممت ريح طيب النساء والرجال فما شممت ريحا قط ولا رائحة أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عرقه.
|وبلغ من حسن معاملته خلق الله أن أسلم له الشيطان.
|ما # حدثنا حاتم قال : حَدَّثَنا يحمى ، قال : حَدَّثَنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن . قالوا . وإياك يا رسول الله ؟ قال : وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم.
|واختلف في معنى قوله : أسلم فقيل : استسلم ، وقيل : اسلم أنا منه ، وقيل : صار مسلما ، فإن كان استسلم فهذا غاية حسن المعاملة حتى انقاد له العدو واستسلم وإن سلم صلى الله عليه وسلم منه فبحسن معاملته بعد عصمة ربه عز وجل فسلم منه لأنه غاية الرفق والتوقي ، وإن أسلم ودخل على الإسلام فلا يستنكر إسلام قرين من بين الجميع كما لم يستنكر كفر واحد من بين جميع الملائكة وهو إبليس لعنه الله مع قوله عز وجل : {لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم : 6] وعصيان اثنين هاروت ومارت ، ويكون الواحد مستثنى من بين الجميع وان لم يعلم وجه الاستثناء فهذا من حسن المعاملة منه إياه أن أسلم الشيطان . فقوله صلى الله عليه وسلم : إنما حبب إلى من الدنيا الطيب ، والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة ، عبارة عن بلوغ الغاية في العبودية كما قلنا ، ولما كان |(1/28)
@ 29@أصل العبودية الخصلتين اللتين ذكرهما من تعظيم قدر الله وحسن معاملة خلق الله وكان أحد الخصلتين أعظم من الأخرى وهي تعظيم قدر الله ، فلذلك زيد في تحبيبها إليه حتى صارت قرة عينه ، فإن قرة العين غاية المحبة ، فكأنه قال : إنما حبب إلي في الدنيا العبودية لله لا غير ، وفي بعض الروايات من دنياكم فيكون فيه إشارة إلى أنه ليس له فيها حظ ، ولا إليها نظر ، ولا لها عنده حظ ، وأنها بغيضة رأسا والذي حبب إليه فيها ما هو لله عز وجل.
$حديث آخر$
ح أبو الليث نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عيسى بن سورة ، قال : حَدَّثَنا قتيبة ، عن مالك ، وح نصر قال : وح أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا إسحق ابن موسى الأنصاري ، قال : حَدَّثَنا معن قال : ء مالك ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن أنس بن مالك رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال : هذا جبل يحبنا ونحبه ، اللهم إن إبراهيم حرم مكة وأنا أحرم بين لابتيها أي طرفيها.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : يجوز أن يكون معنى قوله : هذا جبل يحبنا أهله ونحبهم ، فكأنه قال : أهل هذا الجبل يحبوننا ونحبهم وهم أهل المدينة كما قال الله تعالى . {وسئل القرية التي كنا فيها والعير} [يوسف : 82] الآية أي أهل القرية والعير ، ويجور أن يكون ذلك إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى حب الله إياه وأنه حبيب الله أحبه الله فأسكن حبه ما اختار من خلقه من حيوان وجماد ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أحب الله تعالى عبدا أمر جبرائيل صلوات الله |(1/29)
@ 30@عليه وسلامه ينادي في أهل السماوات ألا إن الله تعالى أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع محبته في كل شيء وذكر الماء.
|قال : حَدَّثَنا أحمد بن علي بن عمرو ، قال حَدَّثَنا علي بن إسحاق الماء رآني ، قال . حَدَّثَنا علي بن حرب ، قال : حَدَّثَنا أبو مسعود الزجاج واسمه عبد الرحمن بن الحسن ، عن عمر ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى إذا أحب عبدا نادى جبرائيل عليه السلام : أني أحب فلانا فأحبوه ، فينادي جبرائيل عليه السلام في السماء : ربكم عز وجل يحب فلانا فأحبوه ، فعند ذلك يلقى عليه القبول في الأرض ويقع على الماء فيشربه البر والفاجر فيحبه البر والفاجر ، لم إذا بغض عبدا فمثل ذلك.
|فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه تعالى أحبه فأ سكن محبته كل شيء حتى أسكن محبته أبعد الأشياء من صفة المحبة وهو الجبل فيكون ذلك إبلاغا في المحبة فيه له كما ذكر الله عز وجل الحجارة وأخبر أن منها ما يتفجر منه الأنهار ويشقق فيخرج منه الماء ، ويهبط من خشية الله مع بعدها عن أوصاف اللين والرطوبة مبالغة في ذكر قسوة قلوب الكافرين ، فكذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم محبة الجبل إياه مبالغة في محبة الله له حتى وضع في الجبل محبته ، وقد وضع الله تعالى محبته في الجذع حتى حن لما فارقه شوقا إليه ومحبة له.
|حدثنا نصر قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا محمود بن غيلان ، قال : حَدَّثَنا عمر بن يونس ، عن عكرمة بن عمار ، عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب إلى لزق جذع فاتخذوا له منبرا فخطب عليه فحن الجذع حنين الناقة ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسه فسكن . وفي رواية أخرى فاحتضنه فسكن.(1/30)
@ 31@فأخبر أن من محبته إياه حن ، ألا ترى يقول فأحتضنه فسكن فكان سكونه حين مسه أو احتضنه ، وقوله صلى الله عليه وسلم ونحبه يجور أن يكون محبة النبي صلى الله عليه وسلم الجبل على المجازاة ، وذلك أن من أحب شيئا فقد آثره ، ومن الحق أن تؤثر من يؤثرك ، ويجوز أن يكون معناه أن من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبه الله ، قال الله عز وجل : {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران 310] فإذا كان اتباعه موجبا محبة الله فكيف بمحبته ، ومن أحبه الله أحب أحباء الله ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد أحباء الله فهو أحق أن يحب من يحبه الله ، ويجور أن يكون معناه ه إشارة منه إلى حبه لله لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن أقدر موضع الإشارة إلى محبة الله إياه فكأنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن محبة الله له بقوله يحبنا وأخبر عن محبته له عز وجل بقوله ونحبه ، والجبل واسطة بين الحبيبين الله ورسوله كما كانت الشجرة واسطة بين الكليمين الله وموسى.
$حديث آخر$
ح محمد بن اسحق الرشادي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن الضو قال : حَدَّثَنا كثير العبدي قال : حَدَّثَنا سيفان بن سعيد الثوري ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : اللهم إني أسالك الصحة ، والعفة ، والأمانة ، وحسن الخلق ، والرضا بالقدر.
|قال الشيخ رحمه الله : الصحة في إقامة الأوامر ، والعفة الانتهاء عن الزواجر ، والأمانة ذم الجوارح ، وحسن الخلق تحمل أثقال الخلق ، وهو بتحقق العبودية ، والرضا بالقدر مشاهدة الربوبية.(1/31)
@ 32@$ حديث آخر$
ح محمد بن إسحق الرشادي ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن داود السجستاني ، قال : حَدَّثَنا عبد الواحد بن غياث ، قال : حَدَّثَنا صالح المري ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب لاه.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله . معنى قوله وأنتم موقنون بالإجابة أي . كونوا على حالة تستحقون الإجابة أي بحضور السر وصحة الحال ، حتى يكون معروفا في الملكوت حتى يقال : صوت معروف ، وهو أن يكون تعرف إلى الله تعالى في أداء أوامره ، واجتناب مناهية ، وقبول أحكامه غير متسخط ، ثم يدعوه ولا يكون في سره غيره إلا سواه بقوله تعالى : {رجاء بقلب منيب} [ق : 33] أي راجع إليه عما سواه ، ثم يكون مضطرا إليه فقد انقطع رجاءه عما سواه لا يرجع إلى حوله وقوته ولا إلى أفعاله تعالى ، قال الله تعالى : {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} [النمل : 62] قال بعضهم : المضطر الذي إذا رفع إليه يده لم ير لنفسه عملا ، فإذا كذلك أيقن بإجابة دعوته لان الله عز رجل وعد إجابة من دعاه وهذه شرائط من يجيب دعاؤه ومن أتى بها فالله منجز له وعده والله لا يخلف الميعاد.
$حديث آخر$
ح عبد الله بن محمد بن يعقوب ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل بن الحسن الهمداني ، قال : حدثنا خالد بن يزيد العمري ، عن ابن أبي ذئب ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أي الدعاء خير ، أدعو به في صلاتي ؟ فقال : نزل علي جبريل عليه السلام فقال : إن خير الدعاء أن تقول في صلاتك : اللهم |(1/32)
@ 33@لك الحمد كله ، ولك الملك كله ، ولك الخلق كله ، وإليك يرجع الأمر كله ، أسالك من الخير كله ، وأعوذ بك من الشر كله ،.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : قوله ( لك الحمد كله ) موضع الصفاء والانقطاع إليه . و لك الملك كله موضع الكفاية به والتوكل عليه . و لك الخلق كله موضع الأمن به والسكون . و إليك يرجع الأمر كله موضع الإخلاص له والتبرى إليه . أسألك من الخير كله موضع الوقوف معه والالتجاء إليه . و أعوذ بك من الشر كله الرجوع إلى نفسك وأوصافها.
$حديث آخر$
حدثنا أبو أحمد عبد العزيز بن محمد الدهقان ، قال : حَدَّثَنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم البكري ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل بن جعفر المدني ، قال : حَدَّثَنا موسى بن جعفر ، قال : حَدَّثَنا عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال . من أذن له بالدعاء منكم فتحت له أبواب الرحمة ، وما يسأل الله شيئا قط أحب إليه من أن يسأل العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : في هذا الحديث تعظيم قدر الدعاء والتنبيه لعظيم المنة ، وشرف المنزلة أعطى العبد ما سئل أو منع ، وذلك أن من أذن له بالدعاء فقد جذبه الحق عز وجل إليه ، وصرفه عن غيره ، وألجأه إلى كنفه ، وضمه إليه ، واختصه به ، وشغله به عمن سواه لانه صرف قلبه بالرغبة إليه ، وشغل لسانه بالثناء عليه ، وذم جوارحه بالمثول بين يديه ، فما تدر ما صنع عندما أعطى فلانا أعطي الملك كله لمكان ما ، أعطي في الدعاء اكثر على أن الداعي لا شك يجاب لقوله تعالى : {ادعوني استجب لكم} [غافر : 60] هذه سين التوكيد ، وهو يقوم مقام القسم عند |(1/33)
@ 34@أصحاب المعاني وقوله : {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} [النمل : 62] فيه إضمار أن الله تعالى يجيبه لا غيره ، وقال عز وجل : {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الاعراف : 80] فإذا دعي بأسمائه ، وأثني عليه بصفاته ، لا بد أن يجيبه لان في ترك الإجابة رجوع العلة إليه جل وعلا لا إلى العبد ، ويتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
|وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة ، وكيف لا يجيبه وهو يحب صوته ولولا ذلك ما فتح عليه الدعاء له ، والإجابة نوعان ، قد يكون بالمراد ، وقد لا يكون ، والاستجابة ليس إلا إجابة عن المراد.
$حديث آخر$
حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن عبد الله بن إسحاق ، قال : حَدَّثَنا إسماعيل بن توبة ، قال : حَدَّثَنا عفيف بن سالم الموصلي ، عن بكر بن خنيس ، عن ضرار بن عمرو ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أحب الله تعالى عبدا صب عليه البلاء صبا ، وسحبه عليه سحبا ، فإذا دعا قالت الملائكة : صوت معروف وقال جبريل صلوات الله عليه : يا رب عبدك فلان ، اقض له حاجته ، فيقول الله تعالى : دعوا عبدي فاني أحب أن أسمع صونه ، فإذا قال : يا رب ، قال الله تعالى : لبيك عبدي وسعديك لا تدعوني بشيء ألا استجبت لك ، ولا تسألني شيئا إلا أعطيتك ، إما أن أعجل لك ما سألت ، وإما أن أدخر لك عندي أفضل منه ، وإما أن أدفع عنك من البلاء ما هو أعظم من ذلك.(1/34)
@ 35@قال في الحديث : لا تدعوني لشيء إلا استجبت لك ، كما قال الله تعالى : {ادعوني أستجب لكم} [غافر : 60] . وقال بعض علماء اللغة : الإجابة نوعان ، قد يكون بالمراد وقد لا يكون ، والاستجابة ليس إلا إجابة عن المراد فقد صح قول أصحاب المعاني أن هذه السين تقوم مقام القسم والله عز وجل لا يخلف الميعاد فما ظنك إذا أكد بالقسم ، وفي بعض الروايات : أن الله أوحى إلى داود عليه السلام أن قل لظلمة بني إسرائيل : لا تدعوني فأني أليت على نفسي أن لا يدعوني أحد إلا أجبته ، وأنهم إن دعوني أجبتهم باللعنة هذا معنى الرواية والله أعلم بلفظه ، فقد أخبر أنه يجيب من دعاه وكفى به شرفا أن تدعوه فيجيبك ، فأما السؤال فقد شرط الاختيار لك كما قال : إما أن أعجل لك أو أدخر أو أدفع عنك فحسبك شرفا أن يختار لك مولاك عز وجل ، ولأن تمنع ما سألت أعظم وأشرف لأنه قال : أو أدخر لك عندي هاه لو علمت قوله عندي لهان عليك إن يسلخ جلدك وأنت حي ، فكيف بما صرف عنك ، وأما قوله : {ما يسأل الله شيئا أحب إليه من أن يسأل العفو والعافية في الدنيا} أما العفو : فإن يختصك لنفسه ويسرك عن غيره ، فيعفى على أثرك فلا يفطن بك ولا يعرف مذهبك ، فيفوت عدوك إن أرادك وسائر الخلق أن يفتنوك ، ونفسك أن يطالبك بحظوظها . والعافية أن يعصمك عما سواه فلا يكون لك إلى غيره رجوع ولا إلى سواه نظر.
|قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله : الدعاء مثل قوله : يا الله ، يا رحمن فمن كان مؤمنا دعاه ووصفه كما هو لم يحرم الإجابة ، وهذا معنى قوله : {أدعوني استجب كم} [غافر : 60] وأما الكفار إذا دعوا فلم يصفوه كما وصف نفسه فلا شك أن الإجابة تكون اللعنة ، وللمؤمنين لبيك ، وقوله : اللهم اغفر لي ، لا يكون دعاء ، وإنما هو سؤال ، والسؤال غير الدعاء والله أعلم.(1/35)
@ 36@$ حديث آخر$
حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي ، قال : حَدَّثَنا ابن أبي العوام ، قال : حَدَّثَنا يزيد بن هارون ، قال : حَدَّثَنا عبد الرحمن بن أبي بكر بن مليكة ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، فعليكم عباد الله بالدعاء.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : معنى قوله : ينفع مما نزل ومما لم ينزل هو ما قلناه إن شاء الله أنه قد جعل لك شرف الإذن في الدعاء وفتح أبواب الرحمة ، وأن يكون داعيا له مفتقرا إليه مثيبا عليه ذاكرا له ، وهذا خير لك من كثير مما تسأل ، ويجوز أن يكون الدعاء يسهل على الداعي تحمل ما نزل من البلاء والمصيبة ، ويضاعف له ثواب ما نزل لانه يجور ثواب للمصيبة ، والبلاء ، وثواب الافتقار والاضطراب إليه وشرف الدعاء له ، ويكون الدعاء بعد نزول البلاء سبب الصبر والرضا وسبب العصمة عن الجزع الذي لم يحرم الثواب ، ومما لم ينزل بان يصرف عنه أو يخفف عليه أو ينزل معه توفيق الصبر ، والرضا والشكر ، ويعطيه العوض عليه في الدنيا والآخرة ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم.
$حديث آخر$
حدثنا عبد العزيز بن محمد بن المرزبان ، قال : حَدَّثَنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل بن جعفر ، قال : حدثني أبو حمزة ، عن ابن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الكافر يأكل في سبعة أمعاء ، والمؤمن يكل في معي واحد.(1/36)
@ 37@قال الشيخ رحمه الله : هذه إن شاء الله عبارة عن كثرة الأكل وقلته ، وذلك أن الكافر يأكل للشهوة ، والمؤمن يأكل للضرورة ، ألا ترى إلى ما روي عن بعض الصحابة أو التابعين أنه قال : وددت أن الله تعالى جعل رزقي في حصاة ألوكها حتى أموت ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من وعاء إذا ملىء شر من البطن ، فإن كان لا بد فثلث للطعام ، وثلث للشراب ، وثلث للنفس . وهذا نهاية ما صح من أكل وهو ثلث البطن لأنه قال : فإن كان لا بد فإنه بقوله لا تملأن بطونكم فإن كنتم لا بد مالئيه فاملأوا ثلثه بالطعام ولا تزيدوا عليه ، جعل النهاية ثلث البطن فيجب أن لا يزاد عليه ، وإذا كان النهاية ثلث البطن جاز أن يكون الاختيار نصف ذلك وهو السدس ، ثم ينقص المؤمن من هذا الحد شيئا فيصير سبع البطن فكأنه يأكل سبع ما يأكل الممتلئ جوفه الذي يصير بطنه شر وعاء ملئ ، والكافر يملأه فيكون بطنه شر وعاء كما أنه شر الخلق ، وأحرى أن شهوات الطعام تنقسم على سبعة أقسام منها : شهوة الطبع ، وشهوة النفس ، وشهوة العين ، وشهوة الفم ، وشهوة الأذن ، وشهوة الأنف ، والضرورة سابعها.(1/37)
@ 38@فالطعام يؤكل للضرورة وهو الجوع الذي لا بد من تسكينه ، ويرى الإنسان الطعام فيشتهيه فيأكل وليس له إليه حاجة ، ويشم رائحة الطعام فيشتهيه فيأكل ، ويستلذ الطعام فيأكل ، ويسمع بذلك الطعام فيشتهيه فيأكل ، وكل ذلك بعد أن يكون قد استوفى من الطعام ، ويشتهي الحامض والحلو والمر والمز فيأكل بشهوة طبعه ، فأما شهوة النفس فإنها لا تقف ، وذلك أن المرء ربما يعاف الطعام لامتلائه ويشتهي ما يشتهيه ، ويهيء الطعام لوقت مستقبل فالذي يأكل للشهوة ربما جمع بهذه الشهوات كلها ، والمؤمن لا يأكل للشهوة ، ولكن يأكل للضرورة فهو سبع ما يأكل الكافر.
$حديث آخر$
حدثنا أبو حاتم سهل بن السري بن الخضر الحافظ ، قال : حَدَّثَنا سهل بن شاذويه ، قال : حَدَّثَنا عمر بن محمد بن الحسين ، قال : حَدَّثَنا أبي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن زياد بن مروان ، عن محمود بن راشد شيخ من أهل مرو ، عن أبي أمية عبد الكريم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما من مؤمن إلا وفيه حسد وسوء ظن وطيرة ، فذهاب حسده ألا يبغي أخاه غائلة ، وذهاب سوء ظنه أن لا يحقره بقول يقوله ، وذهاب طيرته أن يمضي لحاجته ولا ترده الطيرة.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : المؤمنون متفاوتون في أحوالهم ومقاماتهم ودرجاتهم ، فمنهم الضعيف في إيمانه ، ومنهم القوي ، ومنهم العالي ، ومنهم الداني ، وقوله صلى الله عليه وسلم ما من مؤمن إلا وفيه كذا وكذا عم الجميع من المؤمنين إلا أن لكل واحد منهم من هذه الخصال التي فيها هذا الخبر تحمل على ما يليق به وبحاله ، فالذي وصف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحديث حالة المتوسطين من المؤمنين بقوله ذهاب حسده ألا يبغي أخاه غائلة فحسد الذي يبغي صاحبه أخاه غائلة هذا هو الحسد المذموم الذي يعرفه المؤمن من نفسه فيجاهدها بأن لا يبغي أخاه غائلة ، لأن صفة الحسد أن يغتال الحاسد محسوده ، فكأن نفسه تطالبه بأن يبغي أخاه غائلة فهو مجاهدها ، وكذلك إذا ساء ظنه بأخيه فإن نفسه تطالبه بأن يبغي أخاه غائلة فهو مجاهدها ، والطيرة تمنع صاحبها عن المضي في حاجاته فهو يجاهد |(1/38)
@ 39@نفسه ولا تثنيه الطيرة عن وجهه بل يمضي فيه . هذه صفة أوساط المؤمنين فأما من علت رتبته وارتفعت منزلته وجلت صفته ، فإنه يكون فيه هذه الخصال غير أنها لا تكون مذمومة وذلك أنها تكون في أسباب الدين لله تعالى لا في أسباب الدنيا ولا لنفسه ، وهو أن يكون حسده في فضيلة يراها في أخيه وخلة من خلال الخير يجدها فيه فيتمناها لنفسه كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما :
|ح نصر بن فتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا ابن أبي عمر ، قال : حَدَّثَنا سفيان قال : حَدَّثَنا الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حسد إلا في اثنتين ، رجل آتاه الله تعالى مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله تعالى القرآن فهو يقوم به آلاء الليل وآناء النهار.
|فيسمى هذا حسدا فهذا حسد من علت رتبته في الدين عن درجة أولئك ، وسوء ظنه يكون بنفسه لا بغيره من المؤمنين فهو لسوء ظنه بنفسه يخاف عليها مع حسن عمله كما قال الله تعالى : {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} [المؤمنون : 60] أي يفعلون من الخير والطاعة والبر وقلوبهم وجلة أنها لا تقبل منهم ، ويرد عليهم لسوء ظنونهم بأنفسهم أنهم قصروا في الذي وجب عليهم من ذلك ، كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما :
|ح خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن محمد بن الفضل ، وأحمد بن عمر ، قالا : حَدَّثَنا ابن أبي عمر ، قال : حَدَّثَنا سفيان ، عن مالك بن مغول ، عن عبد الرحمن بن سعد بن وهب الهمذاني ، عن عائشة رضي الله عنها ، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} هم الذين |(1/39)
@ 40@يشربون الخمور ويسرقون ؟ قال : لا يا بنت الصديق ، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ، وهم يخافون أن لا تقبل منهم ، أولئك الذين يسارعون في الخيرات.
|وأما الطيرة فإنها تكون لهم في أسباب الدنيا إذا فتحت عليهم تطيروا أنها لهم فتنة . وسبب الاشتغال عن الله عز وجل ، ويرون أنها سبب المقت ، كما قال الله تعالى . {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة} [الأنعام : 44] ، وفي بعض الأخبار إذا رأيت الغناء مقبلا فقل : ذنب عجلت عقوبته فهذه طيرة هولاء ، وسوء ظنهم ، وحسدهم في الدين فإن الذين اصطفاهم الله تعالى لنفسه وانتخبهم لولايته وجعلهم في قبضته كل خصالهم محمودة وجميع حركاتهم على ما يجب ، وعامة صفاتهم صفات المدح ، وإن كانت غلبة أحوال الآدميين لا تكون على حالة واحدة.
$حديث آخر$
حدثنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا محمد بن سليمان بن الحارث الباغندى ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عمران بن محمد بن أبي ليلى ، قال : حَدَّثَنا سليمان بن رجاء ، عن صالح المري ، عن الحسن ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أو غيره قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبدال أمتي لم يدخلوا الجنة بالأعمال ، ولكن دخلوا الجنة برحمة الله تعالى وسخاوة الأنفس وسلامة الصدور ورحمة للمسلمين.(1/40)
@ 41@قال الشيخ رحمه الله : إنما سموا أبدالا لأنهم بدل من النبي صلى الله عليه وسلم والصديقين والشهداء الذين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم من المهاجرين السابقين الأولين والأنصار في أن يصرف الله بهم العذاب عن أهل الأرض بعصيانهم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمانا في أمته قال الله تعالى : {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال : 33] ، ثم أصحابه من بعده ، وأهل بيته ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أهل بيتي أمان لأمتي ، وقال عليه السلام : أصحابي أمنة لأمتي ، إذا ذهب أصحابى أتى كذلك أمتى ما يوعدون ، فلما قبض الله هؤلاء إلى رحمته جعل منهم في كل عصر وحين بدلا منهم على حسب ما ينبغي بأهل ذلك العصر فيدفع بهم عنهم العذاب . قوله : لم يدخلوا الجنة بالأعمال يعني بالحركات الظاهرة فإنهم عسى أتوا بأكثر صلاة وصياما وجهادا ونفقة من غيرهم من صالحي المؤمنين ، ولكن دخلوها بهذه الصفات التي تفردوا بها عن غيرهم ، فقد يجور أن يكون في عصرهم من هو أكثر عملا منهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي بكر رضي الله عنه إنه لم يفضلكم بكثرة صلاة ولا صيام ، ولكن بشيء وقر في صدره.
|وقوله سخاوة الأنفس أي بسخاوتها بفوات ما دون الله وسلامة الصدور من السكون إلى غير الله قال الله تعالى : {إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء : 89] قيل : سليم عما دون الله.
|وقوله ورحمة للمسلمين بالشفقة على خلق الله في تحمل أثقالهم وتخفيف مؤنهم عنهم.(1/41)
@ 42@$ حديث آخر$
حدثنا أبو الفضل محمد بن حاتم بن الهيثم ، قال : حَدَّثَنا الحسن بن مكرم ، قال : حَدَّثَنا روح بن عبادة ، قال : حَدَّثَنا شعبة ، قال : سمعت أبا التياح ، قال : سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يسروا ولا تعسروا ، وسكنوا ولا تنفروا.
|قال الشيخ : معنى قوله صلى الله عليه وسلم يسروا إن شاء الله أي : اصرفوا وجوه ؟ الناس إلى الله تعالى في الرغبة إليه وردوهم في طلب الحوائج إلى الله تعالى ، وردوهم في جميع أحوالهم على الله تعالى فإن اليسر كله عند الله تعالى : {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة 280] وقال : {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} [المائدة : 6].
|ولا تعسروا أي : لا تردوهم إلى المخلوقين في طلب الحوائج منهم ، وقضائها من عندهم فإنهم محتاجون إلى مثل ما يحتاج إليهم فيه ، فكأنهم يتجاذبون شيئا بينهم كل يريده لنفسه فيعسر عليكم الوصول إلى ما يتجاذبونه بينكم.
|وقوله سكنوا تصديقا لما قلنا بأن السكون هو الطمانينة ، وقد قال الله تعالى : {ألا بذكر الله التطمئن القلوب ) {الرعد : 28] فلا يزال قلب المؤمن في اضطراب في نيل ما يرجوه وكذلك ما يريده حتى يرد إلى الله تعالى ، فهناك يسكن اضطرابه ضرورة واختبارا.
|وكذلك قوله لا تنفروا أي : لا تفرقوهم في دلالتهم على غير الله ، وردهم إلى من سواه فيتفرق بهم المذاهب ، ويختلف عليهم المسالك والطرق في طلب ما يريدونه فالتنافر فرقة ، والسكون جمع ، فكان معنى قوله : يسروا ، أي : ردوهم إلى اليسر ، |(1/42)
@ 43@ولا تعسروا ، أي : لا تردوهم إلى العسر ، وسكنوا : أي اجمعوهم ، ولا تنفروا : أي لا تفرقوهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه أمره ، ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله له شمله هذا فيمن أراد الدنيا والآخرة ، فما ظنك فيمن أراد بهما . يدل على صحة هذا التأويل ما :
|حدثنا محمد بن اسحق الخزاعي ، قال : حَدَّثَنا سعيد بن مسعود ، قال : حَدَّثَنا جعفر بن عون ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار الذي هو أيسر . يجوز أن يكون معناه : اختار الذي هو لله تعالى ، وأنه إذا اختار ما أراد الله تعالى فقد اختار اليسر لأن الله تعالى يريد اليسر.
$حديث آخر$
حدثنا أبو الحسن محمد بن عمر البجيري ، قال : حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حَدَّثَنا هشام ، وهمام ، قالا : حَدَّثَنا يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث دعوات مستجابات لا يشك فيهن دعوة الوالد ، ودعوة المسافر ، ودعوة المظلوم . وروي دعوة الولد على والده ، والولد مخلص في دعاء والديه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى استجاب دعوة الصبيان لوالديهم . لطهارتهم ولأنه ربما يكون أطهر منهما وأقلهم ذنبا جئنا إلى الحديث.(1/43)
@ 44@قال الشيخ رحمه الله : فيه إشارة إلى التبرئ عما سوى الله ، والانقطاع إلى الله ، والشفقة على خلق الله ، وذلك أن المسافر مستوفز مضطرب الحال قل ما يساكن شيئا أو يوافق حالا ، لأنه منتقل في المكان مختلف العشرة من الأحزان ، على وجل من حوادث الزمان ، كثير الرجوع إلى الله إلى الرحمن ، قدر ما انفصل سره من الاعتبار اتصل سره من الخيار ، صفا سره فأسرعت الإجابة إليه إذا دعاه ، والمظلوم مضطر قال الله تعالى : {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} [النمل : 62] والمضطر منقطع إلى الله تعالى ، والوالد مشفق على ولده مؤثر لحظه على حظ نفسه ، فصحت شفقته فأجيبت دعوته.
$حديث آخر$
حدثنا أبو الفضل علي بن الحسن بن أحمد إمام جامع سرخس ، وأبو محمد أحمد بن محمد بن رجاء السرخسيان ، قالا : حَدَّثَنا أبو عبيد محمد بن إدريس السامي ، حَدَّثَنا أبو جعفر أحمد بن صالح المخزومي ، قال : حدثني عبيد الله بن عمر ، قال : حَدَّثَنا يوسف بن خالد السمتي ، قال : حَدَّثَنا عمر بن إسحق أنه سمع عطاء بن يسار يحدث عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى : من آذى لي وليا فقد استحل محارمي ، وما تقرب إلي عبدي في مثل لآداء فريضتي ، وأن العبد ليتحبب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت رجله التي يمشي بها ، ويده التي يبطش بها ولسانه الذي يتكلم به ، وقلبه الذي يعقل به ، إن سألني أعطيته ، وان دعاني أجبته ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن موته ، وذلك أنه يكرهه وأنا أكره مساءته.
|قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون معنى قوله كنت رجله ويده والله أعلم ، أي : كنت حافظا له أعصمه وأعصم جوارحه ظاهرا وباطنا أن يتصرف إلا في نجاتي ، لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما يكرهه منه.(1/44)
@ 45@وقوله : ما ترددت يجوز أن تكون هذه عبارة عن الفعل بالصفة ، فيكون المراد منه والله أعلم : ما رددت شيئا مما أريد أن أفعله بعبدي كما رددت عليه في إزالة كراهة الموت عنه ، و ذلك أن المؤمن إذا كره الموت ردد الله عليه أحوالا مختلفة حالا بعد حال ومرة بعد أخرى ، مما يحدثه في نفسه من عجز يجده وضعف يراه في نفسه ، وأسباب تحدث له في مدة عمره حتى يسأم لذلك حياته فيتمنى الموت ، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : يوشك أحدكم أن يسعى إلى قبر قرابته أو ذي رحمه فيقول : يا ليتني مكانك ولا أعاين ما أعاين.
|حَدَّثَنا به محمد بن أحمد البغدادي ، قال : حدثني محمد بن سليمان بن الحارث الواسطي ، قال : حدثني أبو نعيم النخعي ، قال : حَدَّثَنا أبو الغبيش ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغ من تمنيه الموت ما يسأل الله ذلك . حتى ورد النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به.
|ألا ترى ما روي عن علي رضي الله عنه أنه أخذ بلحيته فقال : ما يحبس أشقاها أن يخضب هذه من هذا ، وأشار بيده إلى رأسه . فهذا تمنيه للموت لاختلاف رعيته عليه وإذا هم له في أحوال مختلفة مرة يقاتل الناكثين ، ومرة يقاتل القاسطين ومرة يقاتل المارقين من الجمل إلى صفين ومنها إلى النهر ، ثم مخالفة رعيته له ، وكل هذا يردده الله تعالى عليه حتى بلغ من تمنيه الموت ما ذكر ، وقد يحدث الله تعالى في قلوب عباده من الرغبة فيما عنده والشوق إليه والحب للقائه مما يشتاق إلى الموت فضلا عن زوال الكراهة عنه له ، فأخبر أنه يكره الموت ويسؤه ، ويكره الله تعالى مساءته فيزيل عنه كراهة الموت بما يردده عليه من الأحوال فيأتيه الموت وهو له مؤثر ، إليه مشتاق.
|وتردد : قد يجوز أن يكون في اللغة بمعني ردد إن شاء الله كما ذكرنا ، فقد جاء عنهم تفكر وفكر ، وتدبر ودبر ، وتهدد وهدد ، فيكون تردد بمعنى ردد والله أعلم بالصواب.(1/45)
@ 46@$ حديث آخر$
حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد القاضي ، قال : حَدَّثَنا أبو سعيد العدوى ، قال : : حَدَّثَنا الحسن بن علي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حَدَّثَنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ، وأما قوم يريد الله بهم الرحمة ، فإذا ألقوا فيها أماتهم حتى يأذن بإخراجهم فيدخلهم الجنة بفضل رحمته إياهم . قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون أماتهم عبارة عن تغيبه إياهم عن ألامها فيها ، ولا يكون ذلك موتا على الحقيقة فإن النوم قد ينيب عن كثير من الآلام والملاذ ، وقد سماه الله تعالى وفاة فقال جل جلاله : {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر : 42] فهي وفاة وليس بموت في الحقيقة الذي هو خروج الروح عن البدن ، وكذلك الصعقة قد عبر الله عن الموت بها فقال : {فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} [الزمر : 68] ، وأخبر عن موسى صلوات الله عليه أنه خر صعقا ، ولم يكن ذلك موتا على الحقيقة غير أنه لما غيب عن أحوال الشاهد وعن الملاذ والآلام جاز أن يسمى موتا ، فيجوز أن يكون معنى قوله : أماتهم ، أي : غيبهم عن الآلام وهم أحياء بلطيفة يحدثها الله فيهم كما غيب النسوة اللاتي قطعن أيديهن بشاهد ظهر لهن فغبن فيه عن آلامهن ، ويجوز أن يكون ذلك موتا على الحقيقة وأنه يميتهم فيها بخروج أرواحهم فيكونوا أمواتا على الحقيقة مع قوله : {لا يموت فيها ولا يحيى} [طه : 74] لان أهل النار أحياء في الحقيقة ، وليسوا بأموات ، لأن الحيوان إذا لم يوصف بالحياة فهو موصوف بالموت ، ولما لم يكونوا فيها موتى فهم أحياء . فإذا جاز أن يكونوا أحياء مع قوله : لا يحيى ، جاز أن يكون الموحدون فيها أمواتا مع قوله : {لا يموت فيها ولا يحيى} [طه : 74] ، ومعنى قوله : لا يموت فيها ولا يحيى ، أي : لا يموت فيستريح ، ولا يحيى فينتفع بحياته.(1/46)
@ 47@فإن قيل : فما معنى إدخالهم النار وهم فيها غير متألمين ؟ قيل : أن يدخلهم النار تأديبا لهم وإن لم يعذبهم فيها ، ويكون صرف نعم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم كالمحبوسين في السجون فإن الحبس عقوبة وإن لم يكن معه غل ولا قيد ، ويجوز أن يكونوا متألمين غير أن آلامهم تكون آخف من آلام المغيبين وهم موتى أخف من عذابهم وهم أحياء ، قال الله تعالى في قصة آل فرعون : {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر : 146] فأخبر أن عذابهم إذا بعثوا يكون أشد من عذابهم وهم موتي وهم في حالة الموت معذبون ، فكذلك الموحدون يميتهم في النار ويكونون معذبين متألمين وهم موتى ، ويكون عذابهم وآلامهم أخف من عذاب الكفار ، على أن قوله : {لا يموت فيها ولا يحيى} في صفة الكفار لأنه قال : {ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا عوت فيها ولا يحيى} [الأعلى : 11 13] والأشقى هو الذي بلغت شقاوته نهايتها ، وهو الذي لا يسعد أبدا ، وهو الذي يخلد فيها ، فأما الموحد وإن شقي بدخوله فيها فإنه يسعد بخروجه منها فهو وإن شقي فليس بالأشقى ، وإذا كان قوله لا يموت فيها ولا يحيى في الكفار خرج الموحدون منها ، فيجوز أن يموتوا ولا يكون ذلك خلافا للآية.
|وإن قيل بأن المخلدين فيها ليسوا بصفة الأحياء ولا الموتى لم يبعد فإن الجماد لا يوصف بالحياة ولا بالموت ، وهم وإن لم يكونوا بأحياء ولا موتى بخلق الله تعالى فيهم الآلام الشديدة ويكونون معذبين أبد الأبد بأشد العذاب ، وتد خلق الله تعالى في الجماد الألم وهو الجذع الذي كان يخطب النبي صلى الله عليه وسلم عنده لما اتخذ له المنبر من حنين الناقة حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتضنه فسكن ، وإنما حن حزنا على مفارقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحزن ألم.
|وخلق الله الكلام في الجماد بقوله : {قالتا أتينا طائعين} [فصلت : 11] فإذا جاز هذا فيما لا يوصف بالموت ولا بالحياة جاز أن يخلق في أهل النار الذين هم الكفار الآلام والعذاب أبد الأبد ، وليسوا بإحياء ولا موتى ، والله أعلم بالصواب.(1/47)
@ 48@$ حديث آخر$
حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا الحماني ، قال : حَدَّثَنا عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن أبي حميد ، عن إسماعيل بن محمد ، عن أبيه ، عن جده سعد بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سعادة لابن آدم ثلاثة ، وشقاوة لابن آدم ثلاثة ، فمن سعادة ابن آدم ، المرأة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والمركب الصالح ، وشقاوة ابن آدم ؟ المسكن السوء ، والمرأة السوء ، والمركب السوء.
|قال الشيخ رحمه الله : هذه والله أعلم سعادة الدنيا دون سعادة الدين ، والسعادة سعادتان : مطلقة ومقيدة ، فالمطلقة : السعادة في الدين والدنيا ، والمقيدة : فيما قيدت به ، وهذه سعادة مقيدة لأنها ذكرت أشياء معدودة فكان من رزق امرأة صالحة ، ومسكنا واسعة ، ومركبا صالحا ، طاب عيشه ، ويهنأ ببقائه ، وثم رفعة بها لأن هذه الأشياء من تراخي الأبدان ، ومتاع الحياة الدنيا ، وقد يكون السعيد في الدين ومن عباد الله الصالحين ولا يكون له شيء من هذه الأشياء ، وإن كانت أي الشقاوة فعلى ضد هذا المعنى من الشقاوة ، ومعني الشقاوة ههنا : التعب قال الله تعالى {لا يخرجنكما من الجنة فتشقى} [طه : 117] قيل : فتتعب ومن ابتلى بالمرأة السوء ، والمسكن السوء ، والمركب السوء تعب في أكثر أوقاته ، ويجوز أن يكون أكثر السعداء مبتلين بهذا التعب ، فإن الأولياء مرادون بالبلاء . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، وقد كان لنوح ولوط |(1/48)
@ 49@صلوات الله عليهما امرأتا سوء فهما في غاية الشقاوة ، ولوط ونوح في غاية السعادة ، وأمرأة فرعون أسعد أهل زمانها ، وفرعون أشقى الخلق ، وقد كان لموسى صلوات الله عليه عريش يأوي إليه ، وكذلك أكثر الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء رضوان الله عليهم ، فدل أنه أراد السعادة المقيدة التي هي سعادة الدنيا دون السعادة المطلقة التي تعم الدين والدنيا.
$حديث آخر$
حدثنا محمد بن عبد الله بن يوسف المعروف بالعماني ، قال : حَدَّثَنا أبو إسحق إبراهيم بن سعيد القشيري ، قال : حَدَّثَنا محمد بن الأزهر ، قال : حَدَّثَنا عبد الرحمن بن قيس ، قال : حَدَّثَنا سكين بن السراج ، قال : حَدَّثَنا المغيرة بن السويد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . من سعادة المرء خفة لحيته.
|قال الشيخ رحمه الله : اللحية للرجل زينة ، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقسم فتقول : لا والذي زين الرجال باللحى ، والزينة إذا كانت تامة وافرة ربما أعجب المرء نفسه ، والعجب هلاك ، والهلاك شقاء ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث مهلكات ، شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه.
|وسئل النبي صلى الله عليه وسلم : ما خير ما أعطي المسلم ؟ قال : حسن الخلق قال : فما شر ما أعطى ، قال : قلب سوء في صورة حسنة ، فإذا نظر إلى نفسه أعجبته.(1/49)
@ 50@حدثناه أبو بكر محمد بن مهرويه الرازي بالري ، قال : حَدَّثَنا أبو حاتم محمد بن إدريس سنة ست وسبعين ومائتين ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن مروان أبو شيخ الحراني ، قال : حَدَّثَنا زهير ، قال : حَدَّثَنا أبو إسحق ، عن المزني أو الجهني أن رجلا أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير ما أعطي المسلم فذكره . . ..
|فإذا كانت الزينة سبب إعجاب المرء بنفسه لإعجابه بها من المهلكات ، والهلاك شقاء ، كانت الخفة في الزينة سبب ازدرائه بها ، فكان ذلك فوزا ونجاة ، وهو السعادة.
|ففي هذا الحديث دلالة على الاختيار في التوسط في التزين وترك المبالغة فيها من لباس ، ودار ، ومركب ، وكلام ، ومشي ، وفي جميع ما يتزين المرء به ، وقد ورد في كل شيء من هذا أخبار.
|روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : بينا رجل من بين إسرائيل لبس حلة فاختال فيها في مشيته فخسف الله الأرض به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
|قال حَدَّثَنا محمد بن محمد أبو جعفر الجمال ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن رزيق المعروف بابن الأعجم بصنعاء ، قال : حَدَّثَنا أبو سالم بن جعشم ، حَدَّثَنا ابن أبي رواد ، عن حنظلة ، عن طاووس ، عن أبي هريرة رضي الله عنه لا يعلمه إلا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينا رجل من بني إسرائيل لبس حلة فأعجبته نفسه فاختال فيها في مشيته فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.(1/50)
@ 51@وقال عمر رضي الله عنه . : اخشوشنوا واخشوشبوا ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فكرهه وقال : وجدته عجرا.
|وكان عمر رضي الله عنه ينهى عماله عن ركوب البراذين لكراهيتها ، ولين متونها ، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ كأنما يمشي في صبب.
|كل هذه الأخبار دالة على كراهة المبالغة في الزينة ، وكره للرجال ما ظهر لونه من الطيب ، فكل ما أدى إلى الإعجاب بالنفس فهو شقاء ، والسعادة بخلافه ، ففي خفة اللحية خفة الزينة ، وفي خفة الزينة السعادة ، والله أعلم.
|وفي أصل آخر بعد قوله : ( ما ظهر لونه من الطيب فإذا كذلك كان قوله من سعادة المرء خفة لحيته ، معناه ما ذكرنا من الأسباب بعد المرء عن الإعجاب بنفسه وهو سعادة ، والله أعلم.
$حديث آخر$
حدثنا عصمة بن محمود بن إدريس البيكندي ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن إسماعيل البيكندي ، قال : حَدَّثَنا سويد ، حَدَّثَنا بقية بن الوليد ، عن معاوية بن يحيى ، عن أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العطسة عند الحديث شاهد عدل.
|حدثنا أحمد بن محمد بن رجاء ، وأبو الفضل علي بن الحسين بن أحمد السرخسيان قال : حَدَّثَنا محمد بن إدريس الشامي أبو لبيد ، قال : حَدَّثَنا سويد بن سعيد الحدثاني ، قال : حَدَّثَنا بقية بن الوليد بإسناده مثله.
|قال الشيخ رحمه الله : الشاهد الحاضر والشهود الحضور ، والكذب ضد الصدق.(1/51)
@ 52@وروي أن الملك يتباعد عن العبد عند الكذب.
|حدثنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن موسى ، قال : قلت لعبد الرحيم بن هارون الغساني : حدثكم عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا كذب العبد تباعد منه الملك ميلا من نتن ما جاء به.
|قال يحيى : فأقر به عبد الرحيم بن هارون ، فٌال : نعم ، فإذا غاب الملك عند الكذب حضر عند الصدق فشهد ، والملك حبيب الله عز وجل لأنه كريم عليه قال الله جل وعلا : {وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين} [الانفطار : 10 11] أي كراما على الله كاتبين لأعمالكم ، وقال الله عز وجل : {كرام بررة} [عبس 60] وقال : {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم : 6] فهذه صفات من يحبهما الله فإذا فالملك حبيب الله ، ومن كان بهذه الصفة فهو لله عز وجل حبيب ، وورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يحب العطاس ويكره التثاؤب.
|حدثنا محمد بن عبد الله بن يوسف العماني ، قال : حَدَّثَنا محمد بن أحمد البراء أبو الحسن ، قال : حَدَّثَنا المعافي بن سليمان ، قال : حَدَّثَنا القسم بن القاسم ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . إن الله تعالى يحب العطاس ويكره التثاؤب.(1/52)
@ 53@فإذا شهد العطاس الذي هو حبيب الله عند الحديث صدقه ، فكان شاهدا لأنه حضر ولم يغب ، وعدلا لأنه حبيب الله ، والله أعلم.
|فإذا دل حضور أحد الحبيبين وهو الملك عند الحديث الصدق دل حضور الحبيب الآخر الذي هو العطاس عند الحديث على صدقه ، والله أعلم.
$حديث آخر$
حدثنا أبو إسحق إبراهيم بن بشروية بن علي ، قال : حَدَّثَنا أبو علي صالح بن محمد ، قال : حَدَّثَنا علي بن الجعد ، قال : حَدَّثَنا مسلم بن خالد الزنجي ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حسب الرجل دينه ومروءته عقله.
|قال الشيخ رحمه الله : الحسب في الأباء ، والشرف في الولادة ، وأشرف الأحساب حسب العرب ، والعرب إنما شرفوا بالدين ، وذلك أن خيار الناس وأفضلهم في الدين وأقربهم زلفى عند الله تعالى كانوا من العرب ، وذلك النبي محمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق كلهم ، وسيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين غير النبيين والمرسلين أبو بكر ، وعمر رضي الله عنهما ، وسيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وسيدة النساء خديجة وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين ، فإذا كان هؤلاء الذين هم خيار الخلق من الأولين والآخرين وأفضلهم من العرب صار للعرب شرفا بذلك.
|أما أوائلهم فبأنهم كانوا سببا لكونهم ولدوهم ، وأما من بعدهم فلأنهم من نسل هؤلاء الخيار ، فصح أن علة الشرف الدين ، فكان الحسب في الجاهلية هو الشرف بالولادة إذ لم يكن لهم دين ، فلما أظهر الله الدين وأخرج الأخيار والأفاضل الذين هم ودائعه في الأصلاب والأرحام سقط شرف الماضين منهم ، إذ كان شرفهم بهم فصار الشرف في الأصل الذي كان سببا لشرف العرب ومهد الدين ، فصار الانتماء والافتخار |(1/53)
@ 54@الذي كان بالآباء بالدين ، ألا ترى إلى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه كيف قال فيمن انتمى بالآباء فيما :
|حدثنا به عبد العزيز بن محمد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إبراهيم ، قال : حَدَّثَنا أبو ثابت ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن وهب ، حَدَّثَنا هشام بن سعيد ، عن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله اذهب عنكم عبية الجاهلية ، وفخرها بالأباء ، مؤمن تقي ، أو فاجر شقي ، أنتم بنوا آدم عليه السلام ، وآدم من تراب.
|نبه عن رجال فخرهم بأقوام وإنما هم فحم من فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن ، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشرف بأولئك قد سقط ، ثم كانت العرب قبائل فكل كان ينتمي إلى أحدها فصار نعوت المؤمنين بدل قبائل العرب ، ومراتب الدين بدل شعوبها ، قال الله تعالى : {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود لله وبشر المؤمنين} [التوبة : 112] ، وقال الله تعالى : {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات} [الأحزاب : 35] ، فالإنتماء إلى هذه الأوصاف والشرف بهذه أنسب دون الآباء والسلف.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : ومروءته عقله ، ظاهر المروة عند الناس حسن الزي ، وجمال الحال ، والتوسع في الطعام والإطعام ، وهذه أحوال من اتسع في المال فيمكنه ذلك ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المروة هو العقل ، وقد يكون العاقل موسعا عليه ومقدرا له ، فإذا كمل عقل المرء تمت مروته ، وذلك أن المروة اشتقاقها من المرء ، والمرء الإنسان ، والإنسان إنما شرف على سائر الحيوانات |(1/54)
@ 55@بالعقل ، وكمال العقل التنزه عن كل خلق ذميم ، وكف النفس عن شهواتها الردية ، وطباعها الدنية ، ووضع كل شيء موضعه ، وإيفاء كل ذي حق حقه.
|فالعاقل ، يوفي حق الربوبية لربه جل جلاله على قدر وسعه وطاقته ، ويوفي حق العبودية من نفسه ، ويوفي حقوق الله من فصيح وأعجمي ، ويوفي حقوق نفسه فإن لها عليه حقا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لنفسك عليك حقا فمن كانت فيه هذه الخصال التي يجمعها العقل فقد تمت مروته ، وظهرت إنسانيته ، ومن لم يكن بهذه الأوصاف فلا فرق بينه وبين سائر الحيوان ، بل هو شر الحيوان ، قال الله تعالى . {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل} [الفرقان : 44].
$حديث آخر$
حدثنا أبو بكر محمد بن مهروية الرازي بالري ، قال : حَدَّثَنا أبو يحيى جعفر بن محمد الزعفراني ، قال : حَدَّثَنا موسى يعني ابن محمد النخعي ، قال : حَدَّثَنا ابن لهيعة ، عن مشرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكثر منافقي أمتي قراؤها.
|قال الشيخ رحمه الله : والله أعلم ، هذا نفاق العمل لا نفاق الاعتقاد ، وذلك أن المنافق هو الذي أظهر شيئا وأضمر خلافه ، أظهر الإيمان بالله لله ، وأضمر عصمة ماله ودمه ، والمراءي بعمله الدار الآخرة ، وأضمر ثناء الناس وعرض الدنيا ، والقارئ أظهر أنه يريد الله بعمله ووجهه لا غير ، وأضمر حظ نفسه وهو الثواب ، ويرى نفسه أهلا لذلك ، وينظر لعمله بعين الإجلال ، فلأن كان باطنه خلاف ظاهره صار منافقا إذ المنافق بإيمانه قصد حظ نفسه ، والقارئ بعمله قصد حظ نفسه فاستويا في القصد ، ومخالفة الباطن والظاهر فاستويا في الإثم لاستوائهما في القصد والصفة ، |(1/55)
@ 56@فالمنافق راءى الإمام والسلطان وعوام المسلمين ، والمرآئ راءى الزهاد والعباد وأرباب الدين ، والقارئ راءى الله عز وجل فصال بعمله ، وأعجب بنفسه ، وتمنى على ربه.
$حديث آخر$
حدثنا أبو جعفر محمد بن جعفر ، قال : حَدَّثَنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدى قال : حَدَّثَنا أحمد بن يحيى الصوفي ، قال : حَدَّثَنا زيد بن حباب ، قال : حَدَّثَنا سفيان الثوري عن حجاج بن فرافصة ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كاد الفقر أن يكون كفرا وكاد الحسد يغلب القدر.
|قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون أراد كفر النعمة الذي هو ضد الشكر لا كفر الجحود الذي هو ضد الإيمان ، وهو أن الفقر نعمة من الله تعالى على العبد لأنه سبب الرجوع إلى الله تعالى ، والالتجاء إليه ، والطلب منه ، وهو حلية الأنبياء ، وزي الأصفياء ، وشعار الصالحين ، وزينة المؤمنين ، فقد روي في الحديث : إذا رأيت الفقر مقبلا فقل . مرحبا بشعار الصالحين ، وروي أن الفقر أزين بالعبد المؤمن من العوار الجيد على خد الفرس ، وما كان كذلك فهو نعمة جليلة غير أنه مكروه مؤلم شديد التحمل فقال : كاد ، يكفر نعمة الفقر لثقل تحملها على النفوس.
|وقوله كاد الحسد يغلب القدر أي كاد الحسد في قلب الحاسد أن يغلب على رؤية القدر ، فلا يرى أن النعمة التي حسده عليها إنما صارت له بقدر الله وقضائه فلا تزول عنه إلا بقضاء الله وقدره ، وغرض الحاسد ومراده وشهوته زوال نعمة المحسود.(1/56)
@ 57@ألا ترى إلى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مؤمن إلا وفيه حسد ثم قال فذهاب حسده أن لا يبغي أخاه غائلة ، فأخبر أن الحاسد يعمل في إزالة النعمة من المحسود ، ولو تحقق معرفته بالقدر لم يحسده ، ولرجع إلى الله تعالى في الاستسلام له ، والانقياد لحكمه ، ورضي بقدره الذي يعلم أنه لا يرده أحد.
|قال : ويجوز أن يكون المراد منه الفقر من العلم ، وهو الفقر الأعظم ، فإن الجهل أقرب شيء إلى الكفر ، فإن برصيصاء ظن لجهله أن سجوده للمخلوق ينجيه فكفر.
$حديث آخر$
حدثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي ، قال : حَدَّثَنا عبد الصد بن الفضل ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن شريح ، قال : حَدَّثَنا سالم بن غيلان أنه سمع دراجا أبا السمح ، قال : سمعت أبا الهيثم ، قال : سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تعوذوا بالله من الكفر والدين فقال رجل : يا رسول الله أيعدل الكفر بالدين ؟ قال : نعم.
|قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون المعنى فيه إذا جحد المديون الدين وأنكره ، لأن الكفر جحود حق الله تعالى ، والإنكار لصاحب الدين جحود حق العباد ، فعادل جحود حق العباد جحود حق الله تعالى ، ويكون إتلاف أموال الناس وإن لم ينكرها جحودا ، لان المعنى في الجحود الإتلاف ، فمن أي وجه أتلف فكأنه جحده.
|ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على من مات وعليه دين ولم يترك وفاء ، ويصلى عليه ، إذا ترك وفاء أو ضمن الدين ضامن.(1/57)
@ 58@فأما من لم يجحد الدين ، ولم يرد إتلافه ، فإنه لا يعادل الكفر إن شاء الله ، يؤيد ذلك :
|ما حدثنا عامر بن محمد ، قال : حَدَّثَنا أبو الحسن علي بن صالح ، قال : حَدَّثَنا عبد السلام بن عاصم الرازي ، قال : حَدَّثَنا جرير بن عبد الحميد ، عن منصور بن المعتمر عن زياد بن عمرو بن هند ، عن عمران بن حذيفة قال : كانت ميمونة تدان فتكثر ، فقال لها أهلها في ذلك ، ولاموها ووجدوا عليها ، فقالت : لا أترك الدين ، وقد سمعت خليلي وحبي صلوات الله عليه وسلامه يقول . ما من أحد يدان دينا يعلم الله أنه يريد قضاؤه إلا أداه الله عنه في الدنيا.
|قال : سمعت منصور بن عبد الله الهروي يقول : سمعت محمد بن حامد الترمذي يقول . كنت عند أحمد بن خضرويه ، وقد احتضر ، فتقدم بعض تلاميذه فسأله عن مسألة ، ففتح عينيه وهما تذرفان بالدموع فقال : يا بني باب كنت أدقه منذ خمسة وتسعين سنة الآن يفتح لي ، فلا أدري أبشر بالسعادة أم بالشقاوة ، ثم التفت عن يمينه ويساره فإذا غرماؤه جلوس ، فرفع رأسه إلى السماء ، وقال : اللهم إنك جعلت الرهاين توثقة لأرباب الأموال في الدنيا ، وانا رهن بين أظهرهم ، فإن كنت تريد أخذ الرهن منهم فأد إليهم حقوقهم ، فإذا داق يدق الباب ، ففتحوا فإذا رجل على بغلة ومعه جراب فنزل فدخل ، وقال : أين غرماء أحمد ؟ فقالوا : نحن ، فأدى إلينا ما كان عليه وخرج ، ومات أحمد رحمه الله وكان الدين عليه سبعمائة دينار.
|فمن أدان على الله أدى الله عنه في الدنيا ، ومن ترك وفاء بما عليه وهو غير جاحد ولا مطول خرج من هذا الوعيد ، والله تعالى أعلم.(1/58)
@ 59@$ حديث آخر$
حدثنا عصمة بن محمود بن محمد الكندي أبو محمد ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا محمد بن بشار ، قال : حَدَّثَنا قيس بن ربيع ، عن أبيه عبد الرحمن ابن عوسجة ، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : زينوا القرآن باصواتكم.
|قال الشيخ رحمه الله : معناه زينوا أصواتكم بالقرآن ، فإن القرآن يزين صوت المؤمن ، لقوله حين سئل من أحسن الناس صوتا بالقرآن يا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ؟ قال : من إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله تعالى.
|وبرواية أخرى :
|حدثنا محمد بن حامد قال : حَدَّثَنا محمد بن رجاء ، قال : حَدَّثَنا صيار بن عبد الله بن خارجة ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن عمرو ، قال : حَدَّثَنا يونس بن يزيد ، عن الزهري ، قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله تعالى.(1/59)
@ 60@فقراءة القرآن من الخاشي زينة لصوته ، فكأنه يقول : زينوا قراءتكم بالخشية لله ، وحسنوا أصواتكم بقراءة القرآن على خشية من قلوبكم ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك نصا ، كما ذكرناه من المعنى ، وهو ما :
|حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن حماد ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن بكير ، قال : حَدَّثَنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا ، وزينوا أصواتكم بالقرآن ، فإن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة.
$حديث آخر$
حدثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب الفقيه الحارثي رحمه الله قال : حَدَّثَنا أبو بكر محمد بن تمام بن عيسى ، قال : حَدَّثَنا إسحق بن محمد بن إسحق العمي ، قال : حَدَّثَنا أبي عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس.
|قال الشيخ رحمه الله : التودد الإتيان بالأحوال التي يودك الناس ويحبونك من أجلها ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس.(1/60)
@ 61@فمن زهد فيما في أيديهم ، وبذل لهم ما عنده وتحمل أثقالهم ، ولم يكلفهم حملها من نفسه ، وكف أذاهم عنهم ، وتحمل أذاهم ، وأنصفهم ولم ينصف عنهم ، وأعانهم ولم يستعن بهم ، ونصرهم ولم ينتصر منهم ، فهذه أوصاف العقلاء ، أي هذه وأمثالها ، فمن أتى بهذه الأوصاف ، وتخلق بهذه الأخلاق ، فقد تودد إليهم ، فلأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى التخلق بهذه الأخلاق ، واكتساب هذه الأفعال ، فمن تخلق بها ، وعاشر الناس عليها ، وعاملهم بها ، وده الناس وأحبوه ، وهذه أوصاف العقلاء من الناس ، وليس معناه على أنه يريد محبتهم له وودهم إياه ، بل يفعل ما يفعله لله تعالى ، ولوجوب حق العباد عليه لا لمطالبة الود منهم ، فإذا فعل العبد ذلك لله تعالى ، أودع الله وده قلوب المؤمنين لأنه تعالى يوده ، فيجعل وده في قلوب عباده المؤمنين قال الله تعالى : {سيجعل لهم الرحمن ودا} [مريم : 96] ، قيل : أي في قلوب أوليائه.
$حديث آخر$
حدثنا أبو عمرو الحسين بن علي بن الحسن العطار ، قال : حَدَّثَنا أبي عبد الله أبي ميسرة ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن محمد الحارثي ، قال : حَدَّثَنا عبد العزيز بن محمد عن أسامة ابن زيد ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما يقرأون القران في المسجد فقال : أقرءوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه.
|قال الشيخ رحمه الله : معناه والله أعلم ، يريدون به العاجلة عرض الدنيا وحطامها ، والرفعة فيها ، ولا يتأجلونه أي : لا يريدون به الدار الآخرة وما عند الله فمعناه : أنهم لا يقرأون القرآن للأجلة بل يقرأونه للعاجلة ، فمن أراد به الدنيا ، وترسل في قرأته ورتله فهو متعجل ، ومن أراد به الآخرة ومر فيه متعجلا قراءته بعد أداء الحروف حقها فهو متأجل.
|الدليل على ذلك ما روي عن ختم عثمان رضي الله عنه في ليلة.(1/61)
@ 62@$ حديث آخر$
حدثنا محمد بن عبد الله العماني ، قال : حَدَّثَنا محمد بن هشام هو ابن أبي الدميك ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن خباب ، قال : حَدَّثَنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بشروا خديجة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
|قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون معنى قوله لا صخب فيه أي : هو مخصوص لها لا يشاركها فيه أحد ، لأن الغالب في أحوال الناس التنازع في الشيء المشترك بينهم ، والمنازعة تفضي إلى الصخب ، وما انفرد لأحد شيء لم ينازع فيه ، فلم يكن هناك صخب ، فعبر عن انفرادها بهذا البيت الذي هو من درة جوفاء بزوال الصخب فيه ، وإن لم يكن هناك صخب.
|وقوله : لا نصب ، أي : ليس ذلك جزاء لنصبها ولا تكلفها من الأعمال التي أتيت عليها ، لكن هذا زيادة وفضل من الله تعالى لها بعد ما أعطاها من الثواب على أفعالها وأضف لها منه ، والله أعلم.
$حديث آخر$
حدثنا أبو الحسن محمد بن عمر البختري قال : حَدَّثَنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري ، قال : حَدَّثَنا سليمان بن حرب ، قال : حَدَّثَنا شعبة ، حَدَّثَنا واقد جده عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.(1/62)
@ 63@قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون معنى قوله كفارا أي : كفارا لنعمة الإسلام تاركين الشكر فيه ، فإن من الشكر على نعمة الإسلام مواصلة أهله وموافقتهم واجتماع الكلمة فيه ، والتحاب لأجله ، وترك التقاطع ، وبغي بعض على بعض لأن من أحب شيئا أحب أهله ، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : لا تؤمنون بي حتى تحابوا.
$حديث آخر$
حدثنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا على بن حجر ، قال : حَدَّثَنا أبو الوليد بن محمد الموقري ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . إذ طلع أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم . هذان سيدا كهول أهل الجنة من ، الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين ، يا علي لا تخبرهما.
|قال الشيخ رحمه الله : معنى توله صلى الله عليه وسلم : يا علي لا تخبرهما يجوز أن يكون ذلك على معنى لا تخبرهما قبلي كأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكون هو المخبر لهما ، والمبشر لهما بهذه البشارة ، ليكون ذلك أجل قدرا ، وأعظم موقعا ، ويكون فضل السبق بالبشارة له ، وتكون هذه الفضيلة من الفضائل التي لا تكون إلا له صلى الله عليه وسلم . وليس ذلك إن شاء الله على مخافة الفتنة عليهما ، فقد أخبرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وبما هو أعظم منه بقوله : إن أهل الجنة ليرون أهل |(1/63)
@ 64@عليين ، كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء ، وان أبا بكر ، وعمر رضي الله عنهما منهم وأنعما.
|وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد وأبو بكر ، وعمر أحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله ، وهو أخذ بأيديهما وقال : هكذا نبعث يوم القيامة.
|وقد تبين في هذا الحديث وغيره من الأخبار أنه أخبرهما فلو كان قوله : يا علي لا تخبرهما ، حفظا لمواضع الفتنة عليهما لم يخبرهما ، وكيف يخاف عليهما الفتنة ، وهو يعلم أنهما بهذه الصفة ، والمفتون لا يستحق هذه الفضيلة ولا ما هو دونها ، ومن بلغت رتبته هذه الرتبة عصم من الفتنة ، والإعجاب بالنفس ، لأن الإعجاب بالنفس من المهلكات ، ومن كان بهذه الصفة لا يجوز أن يهلك ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما أخبرهما به من هو دونهما في الفضيلة مثل عكاشة ، حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب فقال عكاشة رضي الله عنه : ادعو الله أن يجعلني منهم ، فقال : أنت منهم.
|وقال لبلال : سمعت خشخشتك في الجنة بين يدي.(1/64)
@ 65@وكثيرا من أصحابه بشرهم بالجنة ، ولم يخف عليهم الفتنة ، لعلمه أنهم يعصمون عن الفتنة ليتم مراد الله فيهم ، فكيف بهما ، وهما رضي الله عنهما بحيث لا يدانيهما في الفضل أحد من الناس من الأولين والآخرين بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم.
$حديث آخر$
حدثنا أحمد بن عبد الله الهروي ، قال : حَدَّثَنا أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي ، حَدَّثَنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حَدَّثَنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن عبد الرحمن بن أيمن ، عن أبية ، قال : قلت لجابر رضي الله عنه يعني ابن عبد الله : حدثني بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرويه عنك ، فقال جابر : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق نحفر فيه فلبثنا ثلاثة أيام ، لا نطعم شيئا ، ولا نقدر عليه ، فعرضت في الخندق كدية ، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : هذه كدية قد عرضت في الخندق ، وقد رششت عليها الماء ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبطنه معصوبة بحجر ، فأخذ المعول ، ثم سملها ، ثم ضرب ، فعادت كثيبا آهيل.
|قال الشيخ رحمه الله : معنى عصب النبي صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه عند الجوع : يجوز أن تكون العادة عند العرب أو لأهل المدينة أنهم كانوا يفعلون ذلك إذا خلت أجوافهم ، وغارت بطونهم ، فشدوا عليها حجرا يعتمدون عليه ، وكان أصابهم الجوع ففعلوا ذلك ، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لهم ، وليعلم أصحابه أنه ليس عنده طعام استأثر به دونهم ، وأراهم خلاء جوفة كخلاء أجوافهم ، فإن كان هو صلى الله عليه وسلم محمولا في الجوع عن الضعف الذي يلحقهم عنده ، فإنه قال صلى الله عليه وسلم حين واصل فواصل أصحابه فنهاهم عن ذلك ، فقالوا : إنك لتواصل ، فقال صلى الله عليه وسلم : إني لست كأحدكم إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقني.(1/65)
@ 66@فأخبر أنه محمول فيما يرد عليه من الله ، وما يغنيه من الطعام والشراب ، فإنما عصب الحجر على بطنه على معنى المساوات بهم والموافقة معهم.
|الدليل على ذلك ما روي في الحديث الذي :
|حدثنا به نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن أبي زياد ، قال : حَدَّثَنا سيار ، عن سهل بن أسلم ، عن يزيد بن أبي منصور ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن أبي طلحة رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين.
|ألا ترى أنهم لما شكوا إليه الجوع أظهر لهم ما أظهروا له ، وقال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما لما خرجا إلى المسجد ليلا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآهما فقال لهما : ما أخرجكما هذه الساعة فقال الجوع ، فقال : والله ما أخرجني إلا ، الذي أخرجكما أخبرهما بما شكوا إليه من نفسه تطيبا لنفوسهما ونفوس أصحابه ، وأنه لم يجد طعاما كما لم يجدوا ، فيكون ذلك أسهل عليهم وأطيب لنفوسهم وأرضى لهم بأحوالهم.
|ويجوز أن يكون معنى عصب الحجر منه على بطنه : إشارة منه لهم إلى أن القوام الذي بالطعام ليس هو من الطعام ، ولكن القوام بالله عز وجل ، لان الطعام إنما يكون |(1/66)
@ 67@منه القوة والقوام بما يصل منه إلى الجوف ، فعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبعد الأشياء من معاني الفداء به ، فربطه من خارج يريهم أن هذا يقوم له مقام الطعام الذي يصل إلى الأجواف ، فيكون منه القوام ليقطعهم ذلك عن الاعتماد في حال الجوع على الطعام ، ويصرفهم إلى الله تعالى في التقوية بما شاء من طعام أو غيره فيكون اعتمادهم على الله عز وجل درن اعتمادهم على الأسباب ، ويكون هو أول من فعل ذلك ، ويكون ذلك ممن فعله تأسيا به وقدوة ، فيحملهم تركه الإسوة عن الجوع الذي حل بهم ، ولم يأت في الأخبار أن عيون أصحابه فعلوا ذلك لأنهم أدركوا إشارته في ذلك ، فلذلك لم يربطوها على بطونهم.
|ويجوز أن يكون ربط الحجر منه مقابلة أصحابه بما أظهروه من الضعف والعجز والحاجة إلى الطعام ، فقابلهم بمثله من نفسه من ضعف البشرية ، وعجز صفة الإنسانية وأنه يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من الطعام على جلالة قدره ، وعلو درجته ، وارتفاع منزلته عند ربه جل جلاله ، كما قال جل جلاله : {وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام} [الأنبياء : 8] ، وقال عز وجل : {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام} [الفرقان : 20] الآية ، ثم لما أظهروا القوة من نفوسهم من الوصال أراهم ضعفهم في أحوالهم ، وعجزهم في نفوسهم ، فنهاهم عنه ، فقالوا : إنك لتواصل ، فقال : لست كأحدكم إن ربي يطعمني ويسقيني ، ثم واصل صلى الله عليه وسلم حتى انسلخ الشهر فقال : لو غم علي الشهر لواصلت ، قال في الحديث كالمنكل لهم حين أظهروا قوة من نفوسهم ، وأعلمهم أنه محمول على ضعف أوصاف البشرية وعجزها بالوارد عليه من ربه عز وجل ، ألا تراه يقول : إني لست كأحدكم ، صلى الله عليه وسلم.(1/67)
@ 68@$ حديث آخر$
حدثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن يعقوب ، قال : حَدَّثَنا الحسين بن علي العطار ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن عبد الله العيسى ، قال : حَدَّثَنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
|كل عمل ابن آدم يضاعف ، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله تعالى : إلا الصوم فانه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشهوته من أجلي ، للصائم فرحتان : فرحة عند إفطاره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من رائحة المسك ، الصوم جنة ، الصوم جنة.
|قال الشيخ رحمه الله : معنى إضافة الصوم إلى نفسه جل اسمه ، يجوز أن يكون لبعده من الرياء والسمعة ، لأنه يكاد يقع عليه أبصار الناظرين ، فيدخل فيه الرياء ، ويجوز أن يكون على معنى : أن الصائم لا يطعم ، والله تعالى وصف نفسه فقال : {وهو يطعم ولا يطعم} [الأنعام : 14] ، فكأن الصائم اتصف بصفة من صفات الله تعالى على قدر ما يليق من البشرية ، وكماله لله على استحقاق الربوبية ، كما أن العالم منا والكريم والرحيم متصف بصفة يستحقها الله ، وللعبد فيها نسبة على قدر البشرية ، فلما كان كذلك يجوز أن يكون خصوص الإضافة إلى نفسه لذلك . وقوله أنا أجزي به أي على كرم الربوبية لا على استحقاق العبودية ، كأنه تعالى يقول : إن الذي أتيت به من الإمساك عن الطعام ليس من صفتك ، إنما هو من صفتي ، فإني أنا الذي لا أطعم غير أنك تكلفت من أجلي ، وتركت طعامك وشرابك لي ، فأنا أجزيك على قدري.
|وقال الشريف أبو الحسن العلوي الهمداني : اختص بالصوم لنفسه ليسلم من العدو أن يفسده لأنه لا يطمع فيما لله ، ويسلم من الخصوم أن يأخذوه عند الحساب ، فإذا |(1/68)
@ 69@استوفى الخصوم أعمال المؤمنين ، ولم يبق له عمل أخرج الله تعالى ديوان صومه الذي هو لله تعالى دون العبد ، فيجزيه على ذلك على استحقاق الربوبية ، لأنه له ، وثوابه على قدره.
|وقال أبو الحسن بن أبي ذر رحمه الله معنى قوله : أنا أجزي به ، أي : أن الجزاء به له . قال أبو الحسن : أي معرفتي هي الجزاء له به ، وحسبه ذلك جزاء ، فما شيء يدانيها ولا يبلغها.
|وقول صلى الله عليه وسلم : للصائم فرحتان فرحة عند إفطاره ، يجوز أن يكون فرحه على حصول صومه فلم ينقطع عليه بموت ، أو علة ، أو آفة ، فهو يسر بذلك ، ويجوز أن يفرح أنه حصل له شيء هو لله خالص لأن الله حكم بذلك فقال : الصوم لي ، ومنهم من يفرح بتوفيق ربه إياه على صومه ، فلن يكون عمل إلا به فيكون فرحة من الله إليه دون ما جاء منه.
|ويجوز أن يريد بإفطاره يوم خروجه من الدنيا فإن المؤمن قد صام عن جميع لذاته وشهواته المحرمة عليه أيام ( ) أفطر الصائم وإن لم يأكل ، فالمؤمن إذا غربت شمس حياته في الدنيا أفطر من صيامه عن شهواته وذلك حين فرحه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم : تحفة المؤمن الموت :
|حدثناه حاتم بن عقيل ، قال : : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن الحماني قال : حَدَّثَنا ابن مبارك ، عن يحيى بن أيوب ، عن بكير بن عمر ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن أبي عبد الرحمن الحبلى ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -.(1/69)
@ 70@وفرحة عند لقاء ربه وهو النظر إليه جل جلاله لأنه قال له : أنا أجزي به أي أنا أجزيك النظر إلي لا أن يكون ذلك جزاء لعملك ، ولكني أجزيك فضلا ومنة والله أعلم.
|وقوله : وخلوف فمه أطيب عند الله تعالى من ريح المسك أي من ريح المسك عند الخلق ، أي كما أنهم يحبون ريح المسك ويؤثرونه ويرضون به ، ويختارونه كذلك الله عز وجل يحب خلوف فم الصائم ويؤثره ويرضى به ويختاره.
|وقوله : الصوم جنة يجوز أن يكون جنة في الدنيا من المعاصي والسفه على الناس ، والغيبة لهم ، ومجازاة من أساء إليهم قولا وفعلا ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن جهل على أحدكم جاهل وهو صائم فليقل إني صائم اليوم ، معناه والله أعلم : أن لا يجاز به على جهله ، وليقل لنفسه إن طالبته مجازاته . إني صائم ، ولا ينبغي للصائم أن يجهل ويسفه ، ويمنعه عن الغيبة ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة بأن يدع طعامه وشرابه ، أخبر أن الصيام ترك ما ينهى الله تعالى عنه من قول وعمل ، |(1/70)
@ 71@وليس هو بترك الطعام والشراب فقط ، فالصيام جنة تستره وتحول بينه وبين المعاصي ، وهو جنة في الآخرة من النار ، فيجوز أن لا يكون للناس سبيل على الصائم كما أنه لا سبيل لها على مواضع الوضوء من العبد ، لان الصوم يعم جميع البدن ، فلا يكون للنار سبيل فهو له منها جنة ، والله أعلم.
|ومعنى آخر في تخصيص الصوم وهو : أن في الصوم معنى الإعراض عن النفس طلبا لمرضاة الله ، والإعراض عن النفس ترك حظوظها ، وحظوظ النفس هو الطعام والشراب والرفث إلى النساء.
|فمن ترك هذه الأشياء فقد ترك حظوظ النفس وشهواتها ولذاتها ، ومن ترك ذلك فقد أعرض عن نفسه ، ومن أعرض عن نفسه ابتغاء وجه الله لم يبق بينه وبين الله حجاب ، لأن الحجب ثلاثة : الخلق ، والدنيا ، والنفس ، فالخلق والدنيا إنما يحجبان إذا كانا لحظ النفس ، فمن أعرض عن نفسه فقد أعرض عن الدنيا والخلق فحصل الصوم إعراضا . عن النفس ، والإعراض عنها وصول إلى الله.
|فلذلك قال : ( الصوم لي وليس هذا المعنى في شيء من الفرائض غير الصوم والصلاة ، لأن وقت الصلاة وقت يسير ، فهو إذا فرغ منها رجع إلى جميع حظوظه ، ووقت الصوم يمتد لأنه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس . وجملة الشرائع الإسلام ، والذي بني عليه الإسلام خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ..
|وليس معنى الإعراض عن النفس على طول المدة إلا في الصوم ، الدليل على هذا قوله يدع طعامه وشهوته من أجلي ، أخبر أن تركه طعامه وشهوته هو شيء لله لا لغيره ، والله تعالى أعلم.(1/71)
@ 72@$ حديث آخر$
حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتاكم أهل اليمن ، هم ألين قلوبا ، وأرق افئدة الإيمان يمان ، والحكمة يمانية ، رأس الكفر قبل المشرق.
|قال الشيخ رحمه الله . : وصفهم صلى الله عليه وسلم بلين القلوب ورقتها ، ثم نسب الإيمان والحكمة إليهم ، كأنه أخبر أن بناء الإيمان على الشفقة على خلق الله عز وجل ، والرقة عليهم ، إذ كان ذلك صفة من نسب الإيمان إليهم بقوله : الإيمان يمان.
|والحكمة هي : الإصابة لما يرضى به الله ، وما يحبه ، وترك ما يسخطه ويكرهه ، ولا ينال ذلك إلا برقة القلب وصفائه ، فيشهد فيه زواجر الحق ، لأن زواجر الله في قلب كل مؤمن ، فمن كان أصفى قلبا فإنه أحسن إدراكا لذلك الزاجر ، وأشد إصابة له لذلك نسب الحكمة إلى من رق قلبه ، ويكون ذكر القلب والفؤاد عبارة عن شيء واحد ، ويجوز أن يكون الفؤاد عبارة عن باطن القلب فإن الحكماء قالوا : الصدر خارج القلب ، والفؤاد داخله ، فوصف القلب باللين ، والشيء اللين ينثني وينعطف وهو التقلب ، وسمي القلب قلبا لأنه متقلب ، قال ابن عباس رضي الله عنهما . إنما سمي القلب قلبا لأنه يتقلب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض تقلبها الرياح ظهرا لبطن والمتقلب يتقلب إلى كذا ، فكأنه وصف أهل اليمن بأن قلوبهم ألين وأكثر تقلبا وتثنيا ، وأن تثنيها وانقلابها |(1/72)
@ 73@إلى الإيمان والحكمة أكثر منهما إلى غيرهما ؟ لأن أفئدتهم أرق فهي أكثر شهودا للغيب ، لأن الشيء الرقيق أنفذ في خلال الأشياء المانعة ، والحجب الساترة من الشيء الغليظ ، ومن خرق الحجب أدرك الإيمان وحقيقته ، والحكمة التي هي التكلم عن الله عز وجل . ويجوز أن يكون أشار بلين القلب أي خفض الجناح ، ولين الجانب ، والانقياد والاحتمال ، وترك العلو والترفع ، لأن هذه الأفعال إنما تظهر ممن لان قلبه ، وهي أوصاف الظاهر ، وأشار برقة أفئدتهم إلى شفقتهم على الخلق والرحمة لهم ، والرأفة بهم ، والتعطف عليهم ، و النصح لهم ، وأن يحبوا لهم ما يحبون لأنفسهم ، وهذه أوصاف الباطن ، فكأنه أشار إلى أنهم أحسن أخلاقا ظاهرا وباطنا ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا.
|فقوله : الإيمان يمان أي أهل اليمن اكمل الناس إيمانا ، وتكون الحكمة من أوصاف من كمل إيمانه ويقينه ، ويجوز أن يكون وصفه لهم بلين القلوب إشارة إلى قبول الحق ، لأن أهل اليمن أجابوا إلى الإسلام بالدعوة دون المحاربة والقتال ، فقبلوا الحق للين قلوبهم ، لأن من قسا قلبه لا يقبل الحق وإن كثرت دلائله وقامت حججه ، وقال الله تعالى : {فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون . ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} [البقرة : 73 74] أخبر أن من قسا قلبه لا يرجع إلى الحق وإن ظهرت أعلامه ، والآيات إنما يعقلها من كانت صفته ضد صفة القاسية قلوبهم ، ولذلك نسب الإيمان إليهم لأنهم قبلوه من غير عنف ، ونسبهم إلى الحكمة لأن الحكمة هي الإصابة للحق ، فأصابوا الحق فآمنوا للين قلوبهم ومواتاتهم وقبولهم الحق.
|ويجوز أن يكون معنى قوله : أرق أفئدة إشارة إلى توسطهم في مشاهدات القلوب ، ومنازلات الأسرار ، وذلك أنهم قالوا . إن الفؤاد عين القلب ، فكأنه أشار |(1/73)
@ 74@إلى أن في نظرهم إلى أحوال الغيوب رقة ، وأنهم في هذه الصفة ليسوا بذلك ، وبذلك تشهد أحوالهم ويعرفها من شاهدهم ، كأنه أشار إلى أنهم في الأحوال الظاهرة أقوى منهم في الأحوال الباطنة ، والله تعالى أعلم . ويدل على ذلك ما حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا محمد بن إبراهيم السكندي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسحق العدوى ، قال : حَدَّثَنا ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : آتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا ، وأرق أفئدة ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية.
|ويدل على ذلك إجابة الكثير منهم : الأسود العنسي ، وطليحة الأسدي لما تنبآ بعد النبي صلى الله عليه وسلم فذلك لرقة أفئدتهم ، وضعف رؤية أفئدتهم ، لأن الفؤاد عين القلب لما ضعف إبصار قلوبهم لم يشاهدوا ما أجابوا إليه أول مرة من صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلما دعاهم غيره أجابوه ، وهذه صفة عوامهم فأما خواصهم فرقت أفئدتهم فنفذت في خلال الحجب فخرقتها فشاهدت العيوب فقوي إيمانهم فثبتوا عليه.
|قوله صلى الله عليه وسلم : رأس الكفر قبل المشرق يجوز أن يكون المراد فيه كفر النعمة ، لا كفر الجحود ، وذلك أن أكثر الفتن التي كانت في الإسلام ظهرت من قبل المشرق ، وهو العراق وما وراءه ، فإن الجمل وهو أعظم الفتن التي كانت في الإسلام بعد قتل عثمان رضي الله عنه كان بالعراق ، وكذلك الصفين والنهروان ، وقتل الحسين رضي الله عنه بالعراق ، وفيها كانت فتنة ابن الزبير تسع سنين ، وفتنة الجماجم ، قالوا : قتل فيها خمسمائة من قراء التابعين ، ثم فتنة أبي مسلم كان ظهوره من قبل المشرق ، هذا وغيرها من الفتن والأحداث أكثرها كانت من قبل المشرق ، وسبب الفتنة وإراقة دماء المسلمين كفران نعمة الإسلام.(1/74)
@ 75@ويجوز أن يكون المراد فيه الكفر الذي هو ضد الإيمان ، ويكون ذلك خروج الدجال ، فإن أكثر الروايات على أن خروجه يكون من قبل الترك.
|حدثنا حاتم بن يحيى ، حَدَّثَنا الحماني ، حَدَّثَنا علي بن مسهر ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن أعور الدجال مسيح الضلالة يخرج من قبل المشرق في حديث ساقه.
$حديث آخر$
حدثنا حاتم بن عقيل ، حَدَّثَنا يحيى بن حماد ، حَدَّثَنا يحيى الحماني ، حَدَّثَنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بى ، وأنا معه حين يذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا ، وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة.
|قال الشيخ : يجوز أن يكون معنى قوله أنا عند ظن عبدي أي : بالكفاية إذا استكفاني ، والكلاءة له إذا استكلأني ، والإقبال عليه إذا أناب إلي ، والإجابة له إذا دعاني ، والقبول منه إذا عمل لي ، والمغفرة له إذا استغفر لي ، لأن هذه الأوصاف لا تظهر من العبد إلا إذا أحسن بالله ظنه ، وقوي يقينه.(1/75)
@ 76@وقوله : فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي يجوز أن يكون معناه : إن خلا بذكري اخليت ستره عن سواي ، وإن أخفى ذكره لي إجلالا لقدري ، وتعظيما لحقي وغيرة على الذكر لي اخفيته في غيبي فلا اطلع عليه إلا احبائي غيرة عليه مني ، وأغيبه في غيب غيبي فلا يكون لشيء إليه طريق فيشغله عني فيكون سري بين خلقي كما كنت سره في خلقي.
|وفي بعض الروايات من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي فيجوز أن يكون معناه : من ذكرني في نفسه هو الذي ذكرته في نفسي كأنه يقول : من ذكرني في نفسه هو الذي ذكرته في نفسي ، أي : في غيبي قبل ايجادي له ، وقبل ذكره لي وقبل كل قبل في أزل الآزال ، وسابق العلم والله أعلم.
|وإن ذكرني في ملأ افتخارا بي وإجلالا بين خلقي ، ذكرته في ملأ خير منهم مباهاتا به ، وتعظيما لقدره بين ملائكتي اللذين هم افضل ممن ذكرني فيهم وهم المؤمنون مباهاة كقوله {إني جاعل في الأرض خليفة [البقرة : 30] الآية ، فأجاب : إني أعلم ما لا تعلمون.
|ويجوز أن يكون معنى قوله : في ملأ خير منهم أي خير منهم حالا لأن الملائكة أحوالهم حالة واحدة ، وهي الحالة المرضية لقوله تعالى : {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء : 20] وقال : {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم : 6 ) ، والمؤمنون يتفاوت أحوالهم ، ويختلف اوقاتهم بين طاعة وضدها ، وفتور وتقصير ، وجد وتوفير ، فأولئك الملأ الذين هم الملائكة في أحوالهم خير من الملأ الذين هم المؤمنون ، وإن لم تكن الملائكة خيرا منهم في الفضل.
|ومعنى قوله وإن اقترب إلي أي بالقصد والنية شبرا قربته مني توفيقا وتيسيرا ذراعا ، وإن اقترب إلي بالعزم والاجتهاد ذراعا قربته مني بالهداية والرعاية باعا ، وإن اتاني معرضا عما سواي يمشي آويته إلى كنفي فيفوت من سواي آثرا فيه ، أو طريقا إليه كأنه يقول : من اعرض عما سوى الله ، وأقبل على الله مسرعا خوفا أن يدركه شيء فيقطعه عن سيره إلى الله ، وإقباله على الله آويته إلي وحلت بينه وبين كل قاطع وسبقت به كل مانع ، والله أعلم.(1/76)
@ 77@وعلى الرواية الأخرى وهي ما روي : من اقترب إلي شبرا ، ومن اقترب إلي ذراعا ، ومن أتاني يمشي ، فمعناه إن شاء الله : إن الذي اقترب مني شبرا بالطاعة هو الذي اقترب منه ذراعا بالتوفيق ، والذي اقترب مني ذراعا بالإخلاص هو الذي اقترب منه باعا بالجذب ، ومن أتاني مشاهدا لي هو الذي هرولت إليه برفع أستار الغيوب بيني وبينه ، فيكون بمعنى : من الذي ، ويكون قوله : اقتربت إليه خبرا ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، معناه علي مولى من كنت مولاه ، كذلك قوله : من اقتربت إليه ، أي : اقتربت إلى من اقتربت إليه ، ويجوز أن تكون معاني هذه العبارات كأنه سؤال وجواب كما قال عز وجل : {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر : 16] فكأن الجواب من الذي منه السؤال.
$حديث آخر$
قال :
|حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إبراهيم البكري ، قال : حَدَّثَنا إسحق الفروي ، قال : حَدَّثَنا ابن أبي الزناد ، عن موسى بن أبي عثمان ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا.
|قال أبو الزناد : ولا أعلم إلا أن الأعرج حدثني بذلك.
|قال الشيخ : ومعنى قوله : خلق الله آدم على صورته التي كان عليها يوم قبض ، أي : لم يكن علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما ، ثم مكسوا لحما ، ثم طفلا ، |(1/77)
@ 78@ثم بالغا أشده ، ثم شيخا ، أي لم يخلق اطوارا ، بل خلق على الصورة التي كان بها ، ويقال : خلق على صورته فكان في الأرض حين اهبط إليها على صورته التي كان في الجنة عليها لم تتغير صورته التي اهبط فيها إلى الارض ، ولم ينتقص طوله ، ولا سلب نوره ، يدل عليه قوله طوله ستون ذراعا ، أي على هذا الطول خلق ، ولم يكن في الجنة اطول منه في الأرض ، ولا أقل نورا ، ولا أدنى حالا فيها منه في الجنة.
|ويجوز أن يكون معنى صورته : أي صورة حاله ، وأن يكون متفاوت الحال متغاير الوصف ، فيوصف مرة بالغوية ، ومرة بالهداية ، وبالعصيان والتوبة . قال الله تعالى : {وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} [البقرة : 121 122] ووصفه بالعلم مرة ، وبالجهل أخرى فقال : {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة : 31] وقال : {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب : 72].
|وهذا إلى سائر أحواله في تباينها ، وأوصافه في تغايرها ، ثم ما اكرمه به من فضله واختصه ، واصطفاه ، واستخلصه ، واجتباه ، وكان خليفته في أرضه وقبلة ملائكته ، وقسيم أهل ناره وجنته ، علمه الأسماء ، وألهمه الحمد والثناء ، فكان خلقه عز وجل بهذه الاوصاف ، وعلى صورة هذه الاحوال ، وهذا كما قال الله تعالى : {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} [هود : 118 119] ولذلك قيل خلقهم ليكونوا مختلفين.
|وقال جل جلاله : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات : 56].
|فلذلك خلق الله تعالى آدم ليكون على هذه الأوصاف ، وما لا يحصى من الحكمة فيه فكان معنى قوله : خلق آدم على صورته ، أي : خلقه ليكون صورة حاله هذه الصورة وخلق سائر الخلائق عل حالة واحدة ، خلق الله الملائكة للطاعة لا غير ، والشياطين للعصيان لا غير ، والبهائم وسائر الحيوان للتسخير لا غير ، وفي رواية أخرى أنه خلق آدم على صورة الرحمن.
|أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن أحمد البجلي ، قال : حَدَّثَنا منصور بن نصر ، قال : حَدَّثَنا أبو جعفر بن محمد بن محمد عبد الله ، قال : حَدَّثَنا إسحق بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا جرير بن عبد الحميد ، عن الاعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عطاء بن أبي رباح |(1/78)
@ 79@عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقبحوا الوجوه فإن آدم على صورة الرحمن.
|فإن كان محفوظا فيجوز أن يكون معناه أي خلقه على الصورة التي ارتضاها الرحمن أن تكون صورة لآدم إذ لم يكن في خلق الله خلق على صورته في البنية ، والحال إذ الملائكة على حالة واحدة والله أعلم بصورة بنيتهم غير أن الاخبار وردت بأنه لم يكن قبله شيء من المخلوقين على صورته وخلقته قال الله تعالى : {لقد خلقنا الإنسان في احسن تقويم} [التين : 4].
|وقيل : أن قوله خلق آدم على صورته كان عقيب قوله : لا تقولوا قبح الله وجهك فإن آدم خلق على صورته فإن الله خلق آدم على صورته أي على صورة هذا المقبح وجهه ، وقال : صلى الله عليه وسلم : إذا ضرب أحدكم خادمه فليتجنب الوجه ، ثم قال : فإن الله خلق آدم على صورته ، أي على صورة هذا المضروب والمقبح وجهه ، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم : تسمون أولادكم محمدا ثم تلعنونهم.(1/79)
@ 80@حدثناه محمود بن إسحق أبو إسحق الخزاعي ، قال : حَدَّثَنا حريث بن عبد الرحمن ، قال : حَدَّثَنا محمود بن غيلان ، قال : حد أبو داود الطيالسي ، عن الحكم بن عطية ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسمون اولادكم محمدا ثم تلعنونهم.
|إجلالا لاسمه صلى الله عليه وسلم وتكريما لصورة آدم صلى الله عليه وسلم$
حديث آخر$
حدثنا عبد العزيز بن محمد بن ابراهيم ، قال : حَدَّثَنا أبو ثابت محمد بن عبيد الله المدني ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن وهب ، قال : أخ أبو يحيى بن سليمان ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب.
|وفي حديث آخر : لا تفضلوني على أخي يونس.
|قال الشيخ رحمه الله : ويجوز أن يكون معنى قوله : من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب أي من قال : أنا خير منه في النبوة والرسالة ، ذلك أن الرسالة والنبوة معنى واحدا لا تفاضل فيها بين الأنبياء والمرسلين ، وإنما التفاضل في تفضيل الله من شاء منهم بعد النبوة والرسالة ، وما يحدث لهم من الأحوال التي تبين |(1/80)
@ 81@شرفهم وفضلهم عنده عز وجل ، ومعنى تخصيصه يونس بتسميته من بين سائر الأنبيا ، يجوز أن يكون لأن الله تعالى وصف يونس اوصاف يسبق إلى الأوهام إنحطاطه في الدرجة ، وانخفاضه في المنزل ، وذلك انه تعالى قال : {فظن أن لن نقدر عليه} [الأنبياء : 87] ، وقال : {إذ ابق إلى الفلك المشحون} [الصافات : 140] وقال {فالتقمه الحوت وهو مليم} [الصافات : 142] وقال {لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم} [القلم : 49] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن النبوة أثقالا ، وإن يونس تفسخ منها الربع.
|فحفظ صلى الله عليه وسلم موضع الفتة من أوهام بعض من يسبق إليها منه أن هذه الأوصاف خرجت في نبوئته ، أو اخلت برسالته ، أو قدحت في الاصطفاء القديم منه تعالى إياه ، أو حطت من رتبته ، أو أوهنت قوى عصمته كما حفظ صلى الله عليه وسلم موضع الفتنة على الأنصاري الذي مر به عشاء وهو قائم مع صفية فقال : أما إنها صفية بنت حيي فقال الأنصاري : سبحان الله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
|هذا معنى الحديث إن شاء الله ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه مع ما وصفه الله تعالى من هذه الأوصاف نبيه الكريم ورسوله المصطفى ، وهو من هذه الأوصاف ليس بأدون درجة مني في النبوة والرسالة مع أني سيد ولد آدم ، وأكرم الخلق على الله تعالى ، وأدناهم منزلة مني ، وأقربهم وسيلة اليه ، وأول شافع ، وأكرم مشفع ، إلى سائر فضائله صلى الله عليه وسلم التي وصفها وما عند الله له لم يعلمه إلا الله تعالى صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء.(1/81)
@ 82@$ حديث آخر$
قال حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن عبد الحميد ، قال : حَدَّثَنا شريك ، عن ابن وهب ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى يحب إذا انعم على عبده نعمة أن يرى اثرها عليه.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : يجوز أن يكون معنى أثرها عليه الشكر لله عز وجل بالعمل الصالح فيه ، والثناء عليه ، والذكر له ظاهرا وباطنا ، والإفضال منه ، والجود على الاغبار ، والعطف على الجار ، والإنفاق من فضل ما عنده ، والإنفاق منه في وجوه القرب ، كما قال الله تعالى في قصة قارون : {إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا واحسن كما أحسن الله إليك} [القصص : 76 77] ، وهو أن يبدأ بالإنفاق منه على نفسه ، ثم على عياله وولده ، فيرى أثر الجدة عليه زيا وانفاقا شكرا لله تعالى بالعمل الصالح ، والثناء عليه باللسان.
|هذا في النعمة التي هي سعة المال ، فأما النعمة الدينية فأولى واحق ، وهو ممن أوتي علما باستعمال علمه ، وذم جوارحه ، وتهذيب اخلاقه ، ورياضة نفسه ، ولين الجانب ، وخفض الجناح ، والحلم عن السفيه ، والإعراض عن الجاهل في خشيته من الله تعالى : قال الله عز وجل {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر : 28] ثم تعليم الجاهل ، وتأديب الغير ، وبثه العلم في اهله ، ووضعه في حقه في تواضع ولين وبر وإشفاق ، وممن انعم الله تعالى عليه بالولاية للمسلمين بالدفع عنهم ، والنظر لهم والإنصاف فيما بينهم ، وبسط العدل والحكم بالقسط إلى سائر ما يجب عليه ، وهذا يدخل أن الله تعالى في كل نعمة أنعم الله بها على العباد ومما يطول شرحه.(1/82)
@ 83@$ حديث آخر$
قال حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إبراهيم البكري ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثني أبو ضمرة ، عن ابن عجلان ، عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الدين النصيحة ، إن الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المؤمنين ، ولعامتهم.
|قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله : قال أبو الحسن بن أبي ذر رحمه الله النصح في الجملة عندي هو : فعل الشيء الذي به الصلاح والملائمة ، مأخوذ من النصاحة ، وهي السلوك التي يخاط بها ، وتصغيرها نصيحة ، يقول العرب : هذا قميص منصوح أي : مخيط ، ونصحته أنصحه نصحا إذا خطته ، وإنما اختلفت النصح في الأشياء لاختلاف أحوال الأشياء : فالنصح لله عز وجل هو : وصفه بما هو اهله ، وتنزيهه عما هو ليس بأهل له عقدا وقولا ، والقيام بتعظيمه والخضوع له ظاهرا وباطنا ، والرغبة في محابه ، والبعد من مساخطه ، وموالاة من اطاعة ، ومعاداة من عصاه ، والجهاد في رد العاصين إلى طاعته قولا وفعلا.
|وإرادة النصيحة لكتابه ، إقامته في التلاوة ، وتحسينه عند القراءة ، وتفهم ما فيه واستعماله ، والذب عنه من تأويل المحرفين ، وطعن الطاعنين.
|والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم : مؤازرته ونصرته ، والحماية من ذويه حيا وميتا ، وإحياء سنته بالطلب ، وإحياء طريقته في بث الدعوة ، وتأليف الكلمة ، والتخلق بأخلاقه الظاهرة.
|والنصيحة للأئمة معاونتهم على ما تكلفوا القيام به ، وفي بعض النسخ على ما تكلفوا القيام به في تنبيههم عند الغفلة ، وتقويمهم عند الهفوة ، وسد خلتهم عند |(1/83)
@ 84@الحاجة ، ونصرتهم في جميع الكلمة عليهم ، ورد القلوب الناضرة إليهم.
|والنصيحة لجماعة المسلمين : الشفقة عليهم ، وتوقير كبيرهم ، ورحمة صغيرهم ، وتفريج كربهم ، والسعي فيما يعود عليهم في الآجل ، ودعوتهم إلى ما يسعدهم ، وتوقي ما يشغل خواطرهم ، وفتح باب الوسواس عليهم ، وإن كان في نفسه حقا وحسنا.
|ومن النصيحة للمسلمين رفع مؤنة بدنه ، ونفسه ، وحوائجه عنهم والله أعلم.
$حديث آخر$
قال : حَدَّثَنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عمرو بن نبهان بن صفوان الثقفي البصري ، قال : حَدَّثَنا روح بن اسلم ، قال : حَدَّثَنا شداد أبو طلحة الراسبي ، عن أبي الوازع ، عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لأحبك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنظر ما تقول قال : والله إني لأحبك ثلاث مرات قال : إن كنت تحبني فأعد الفقر تجفاقا ، فإن للفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه.
|قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله يجوز أن يكون معنى قوله : فأعد للفقر تجفافا أي : إنك ادعيت دعوى كبيرة ، ومن ادعى شيئا طولب بالبينة عليه فكأنه قال : إنك مطالب بصحة دعواك بالاختبار لك بالصبر تحت اثقال الفقر ، وتحمل مكروهه ، وتجرع غصصه ، فاستعد لذلك فإن ذلك كائن ، ومما يدل على ذلك كذلك قوله صلى الله عليه وسلم له : انظر ما تقول ، كأنه ينهه على ما ادعاه من محبته إياه ظنه أمر له غور ، وليس ذلك بهين ، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما يقول ما يقول عن غفلة لعظم ما ادعاه ، وحسبان منه ، وسلامة صدر ، وليس بقوله على التيقظ والعلم وتحقق معناه.
|الا ترى أن في الحديث : أن رجلا أتاه دل على انه ليس من عليه أصحابه ، ومن الذين لهم فضل العلم بالله عز وجل.(1/84)
@ 85@قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله العارف المصنف رحمه الله : ويجوز أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : فأعد للفقر تجفافا تنبيها له ، وحثا على العمل ، واستعدادا لفقر يوم الحساب ، كأنه يقول له : لا تتكل على ذلك واعمل كي لا تأتي يوم القيامة وليس لك عمل ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا فاطمة ابنة محمد اشتري نفسك من الله تعالى فإني لا املك لك من الله تعالى شيئا ، يا صفية عمة رسول الله اشتري نفسك من الله تعالى فإني لا أملك لك من الله تعالى شيئا حثا لهم على العمل ، وترك التفريط فيه اتكالا على قرب النسب منه صلى الله عليه وسلم.
|ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم من الرجل نظرا إلى نفسه ، وإلى اوصافها بعين التعظيم ، فصرفه عن نظره إلى أوصافه بعين التعظيم والاتكال عليها وهو صلى الله عليه وسلم وإن دعاه إلى عمل لفقر يوم الحساب وعمله صفته ، فإنه دعاه إليه جدا واجتهادا فقد دعاه عنه إتكالا عليه وسكونا إليه ، ويدل على انه أراد به فقر يوم القيامة قوله صلى الله عليه وسلم : أعد للفقر تجفافا والتجفاف إنما يكون لرد الشيء ، والحول بينه وبينك ، وفقر الدنيا لمن احب رسول الله صلى الله عليه وسلم جائزة من الله وعطاء ، وعطاء الله وجائزته لا ترد ، فدل قوله صلى الله عليه وسلم أعد للفقر تجفافا أي لفقر يوم القيامة ليصرفه عنك ، أو يجوز أن يريد الفقر الذي هو قلة المال ، والضر وعدم المرافق ، وهو الفقر المعروف ، ويكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم فأعد للفقر تجفافا أي تجفافا تصونه به وتدفع عنه ما يقدح فيه من الجذع فيه والنكرة له والتشوق لمرادته ، فإن الفقر جائزة الله لمن احبني ، وخلعته عليه ، وبره به ، وإكرامه له ، وتحفته إياه ، وجزيل الثواب منه على جليل قدر هذه الصفة عنده ، وذلك أن الفقر زي أنبيائه ، وحلية اوليائه ، وزينة المؤمنين ، و شعار الصالحين ، فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول له : إن هذا كائن من الله عز وجل فاستعد لقبوله ، والاستقبال له ، والاستعداد لدفع ما يقدح فيه من الصبر فيه ، والشكر عليه ، والصون له ، والدفع عنه تعظيما له واجلالا لقدره ، فكأنه |(1/85)
@ 86@عليه الصلاة والسلام وإن ذكر الفقر من بين جميع المكاره ، فإنه لم يرد به خصوص الفقر الذي هو عدم الإملاك ، ولكنه أراد جميع المكاره وأنواع المحن والبلايا لأنه صلى الله عليه وسلم قال : إذا أحب الله تعالى عبدا صب عليه البلاء صبا ، وسحه عليه سحا ومن احب رسول الله صلى الله عليه وسلم احبه الله ، فالمراد من الفقر المكاره والبلايا من أي وجه كان ، وليس ذلك خصوص الفقر ، ولكنه لما كان من عظيم المكاره وجليل البلايا عبر عن البلاء والمكروه به ، والدليل عليه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأجلة منهم والكبار لم يكونوا مخصوصين بالفقر وعدم الإملاك ، ولم يكونوا مجانبين من البلايا العظام والمكاره الشداد ، قالت عائشة رضي الله عنها : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لها هيضها.
|حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي ، قال : حَدَّثَنا المدائني هو عبد الله بن روح ، قال : حَدَّثَنا ابن شبابة ، قال : حَدَّثَنا عبد العزيز الماجشوني ، عن عبد الواحد بن أبي عون ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها ، الحديث وقتل عمر ، وحوصر عثمان أربعين يوما ، وذبح ، ولقي علي رضي الله عنه ما لقي ، وكأنه كان مخصوصا بالبلاء مرادا به اكثر عمره ، ولقيت عائشة رضي الله عنها ما لقيت بالجمل ، وطلحة والزبير رضي الله عنهما قتلا ، وتوفي أبو ذر بالربذة وحيدا فريدا ، وعمران بن حصين اضنى على سرير منقوب ثلاثين سنة ، وخباب مرض مرضا طالت مدته فيها حتى اكتوى سبعا في بطنه ، وكذلك عامة أصحابه صلى الله عليه وسلم لقوا من البلايا والشدائد انواعا ، وهؤلاء هم المخصوصون بشدة المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبتلو كلهم بالفقر خاصة ، ولكن بأنواع البلايا ، وقد صرح بذكر البلايا خبر آخر.(1/86)
@ 87@حدثنا به أحمد بن سهل ، قال : حَدَّثَنا صالح بن محمد ، قال : حَدَّثَنا عبيد الله بن عمر ، قال : حَدَّثَنا يوسف بن يزيد أبو مشعر البراء ، قال : حَدَّثَنا شديد بن سعيد ، عن أبي الوازع ، قال : حَدَّثَنا جابر بن عمرو ، عن عبد الله بن مغفل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال رجل : يا رسول الله إني لأحبك ، قال : فإن كنت صادقا فأعد للفقر تجفافا فإن البلاء أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه .$
( حديث آخر )$
قال : حَدَّثَنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي ، قال : حَدَّثَنا عبيد الله بن محمد بن إبراهيم الكشوري الصنعاني ، قال : حَدَّثَنا عبد ربه بن عبد الله بن عبد ربه العبدي ، عن أبي رجاء ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي رضي الله عنه : أن جبريل صلوات الله عليه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقه مغتما فقال : يا محمد ما هذا الغم الذي أراه في وجهك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين اصابهما عين ، فقال : يا محمد صدق بالعين فإن العين حق وذكر الحديث إلى آخره.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : يجوز أن يكون معني العين : العين التي يجري منها الأحكام والامور في الخلق وهو القضاء القديم ، والقدر السابق ، والكتاب الأول الذي بين الله تعالى فيه ما حكم في خلقه وعلى عباده من المكاره والمحاب والآلام والملاذ ، وما يعملونه من الخير والشر ، وسائر احوالهم ، وما قضي في أرضه وسمائه فكأنه يقول له صلى الله عليه وسلم صدق ، وتحقق بأن الذي اصابهما بقضاء الله تعالى وقدره ، وأن ذلك شيء لم يحدث في الوقت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه حين قال له : أرأيت ما نعمل فيه انعمل على أمر مؤتنف أو أمر قد فرغ منه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم على أمر قد فرغ منه فكذلك قول جبريل صلوات الله عليه وسلامه له : صدق بالعين ، يعني : صدق بالقدر ، ومعنى قوله : صدق بالقدر ، كأنه يقول له : أنت مصدق بالقدر فما هذا الحزن الذي |(1/87)
@ 88@ظهر فيك ، وليس على انه يأمره بأمر لم يكن هو فيه ، وهذا كما يقول القائل لمن يعمل عملا ثم يعرض له ذكر شيء فيقول له : اعمل عملك ولا يهمنك هذا ، وكذلك قوله : صدق بالقدر الذي أنت به مصدق ولا يهمنك أمر الحسن والحسين ، فإن الله تعالى يعافيهما ، ويجوز أن يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم : اصابهما عين هي الآفة التي تصيب الإنسان عند استحسان أحد شيئا من فعله ، أو نفسه ، أو بدنه فيصيبه علة في ذلك الوقت ، وذلك بقضاء الله وقدره لا أن يحدث الناظر في المنظور إليه فعلا ، فإن المحدث لا يفعل في غيره وإنما يفعل في نفسه ومحل قدرته ، فقال له جبريل عليه السلام : صدق بتلك العين التي هي القضاء والقدر فإنها حق ، وهذه الآفة والعلة تزول عنهما ، وعوذهما بكذا ، وذكر في الحديث تسكينا لقلوب العباد ، وتحقيقا أن الذي أصاب المعين إنما أصابه من الله عز وجل ، ألا يرى انه قال : عوذ بالله تعالى.
|وقال بعض الناس : إن العين داء كانت العرب تعرضها ، وعلة كانت تسمى عينا ، ولذلك قال : إن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر أي هذا الداء يقتل.
|وقال بعضهم : إن الناظر إذا نظر إلى شيء فاستحسنه حتى شغل به عن ذكر الله عز وجل فلم يرجع إلى الله عز وجل وإلى رؤية صنعه ، أحدث الله تعالى في المنظور علة ويكون نظر ذلك الناظر سببها ، فيؤاخذه الله تعالى بجنايته بنظره إليه على غفلة من ذكر الله ، كأنه هو الذي فعلها به وهذا كالضرب من الضارب بالسيف فيحدث الله تعالى الجراحه في المضروب ، والألم فيه أو خروج الروح على أثره ويكون هو القاتل والجارح ، وإن كان موت المضروب وألمه فعل الله تعالى وليس بفعل الضارب ، ولكن لما كان الضارب منهيا عن الضرب بغير حق لحقه الوعيد الذي اوعده الله تعالى به واستحقه بجنايته وهو الضرب ، فكذلك الناظر منهي عن نظره إلى الشيء من الأشياء على غفلة ونسيان ذكر الله تعالى ، فكانت هذه جنايته فيجوز أن يحدث الله تعالى في المنظور علة يوخذ الناظر بجنايتها وذلك بقضاء الله وقدره ، يبينك هذا أن النظر على الغفلة اثر في المنظور ، فكيف لا يؤثر في الناظر من الوعيد ، والله الهادي.(1/88)
@ 89@$ حديث آخر$
قال : حدثنا محمد بن أحمد البغدادي ، قال : حَدَّثَنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، قال : حَدَّثَنا سعيد بن سلام العطار الاعور ، قال : حَدَّثَنا ثور بن يزيد الشامي ، عن خالد بن معدان ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه رفعه فقال : استعينوا على نجاح الحوائج بالكتمان ، فإن كل ذي نعمة محسود.
|قال الشيخ الإمام الزاهد المصنف رحمه الله : يجوز أن يكون معناه اكتموا حوائجكم ولا ترفعوها إلى الناس ، فإنكم إن رفعتموها إليهم ربما يكون المرفوع إليه بعض حسادكم ، فلا يجب قضاء الحاجة لكم فيحسدكم على نعمة القضاء فيمتنع عنه ، أو يحسدكم على النعمة بأن لا تكونوا محتاجين فإذا أظهرتم حاجتكم شمت بكم ، وانتظروا الفرج ونجاح الحاجة من الله تعالى ، فإنه يحب قضائها لكم إذا كنتم إليه منقطعين ، وبقضائه راضين ، وعلى كتمان حوائجكم وضروراتكم صابرين.
|ويجوز أن يكون معنى قوله : استعينوا على نجاح الحوائج بالكتمان أي : استعينوا بالله تعالى على نجاح الحوائج في حال الكتمان لها ، أي كونوا لها كاتمين واستعينوا بالله عز وجل على نجاحها ، ويكون الباء الموصولة بالكتمان بمعنى في كقوله عز وجل {استعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة : 153] أي استعينوا بالله تعالى في حال الصبر والصلاة أي : استعينوا بالله وكونوا صابرين مصلين وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الصبر والقناعة والرضا فإن كتمان الحاجة من أحد هذه الوجوه ، أما أن يكون راضيا فلا يرضى عنه حولا رضا منه بقضاء ربه ، أو يكون قانعا سهل عليه تحمل الألم فيه لأنه اختيار الله تعالى له ، أو صابرا يتجرع غصصه رجاء ثواب الله تعالى ، ومن كانت إحدى هذه الخصال فيه فإنه يقضي له حاجته لأنها من |(1/89)
@ 90@خصال من لو اقسم على الله لأبره ، بل تكون حاجته مقضية لأن الراضي إنما يريد موافقة الله تعالى وقد اصابها في رضاه ، والقانع إنما يريد ما اختاره الله تعالى له ، وقد أصاب ما اختار الله تعالى له في قناعته ، والصابر إنما يريد ثواب الله تعالى وقد أصابه في صبره ، قال الله تعالى : {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر : 10] . وكل هذه الأحوال نعمة من الله تعالى جليلة على عباده ، وهم عليها محسودون من العدو والولي ، أما العدو يريد زوالها عنه ، فيكتبه الله تعالى بإدامتها للمحسود ، وأما الولي فإنه يتمناها لنفسه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا حسد إلا في اثنتين .$
( حديث آخر )$
قال حدثنا أبو العباس أحمد بن سباع بن الوضاح الخطيب ، قال : حَدَّثَنا محمد بن الضؤر ، قال : حَدَّثَنا عمرو بن عون الواسطي ، قال : حَدَّثَنا خالد بن العلاء بن المسيب ، عن أبيه ، عن مصعب بن سعد ، عن ابيه ، رضي الله عنهم قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الناس اشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، ثم يبتلى الناس على قدر دينهم ، فمن تخن دينه تخن بلاؤه ، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه.
|قال الشيخ الإمام العارف رحمه الله : أكثر البلاء من وجهين ، سلب المحبوب ، وحمل المكروة ، والمحبوبات مسكون اليها ، ومن ساكن شيئا شغل به وأقبل عليه ، والمكاره مهروب منها ، ومن هرب من شيء ادبر عنه ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام |(1/90)
@ 91@والامثلون احباء الله ، فالله حبيبهم ، والحبيب يحب مواجهة حبيبه له بوجهه ، وإقباله عليه بكليته فيسلبهم المحبوبات والملاذ ليصرف بوجوهم إليه ، ويقبل بقلوبهم عليه ويحملهم المكاره ليهربوا منها إليه فيدبروا من الاشياء ، ويقبلوا عليه ، فإذا اقبلوا عليه ابلاهم به.
$حديث آخر$
قال : حَدَّثَنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن الفضل بن يوسف ، قال : حَدَّثَنا عبد الصمد قال : حَدَّثَنا خالد بن عبد الرحمن المخزومي ، عن خيرة بنت محمد بن ثابت بن سباع ، عن أبيها ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اطلبوا الحوائج إلى حسان الوجوه محاسن الأخلاق ، وقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله جميل يحب الجمال.
|قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون معنى حسان الوجوه أي الذين وجوههم طلقة مستبشرة بسطة ، فإن ذلك يدل على سعة صدورهم ، وحسن اخلاقهم ، وتحريهم مسرة الناس ، ومن اتسع صدره لا يصعب عليه قضاء الحاجة لأخيه ، ومن حسن خلقه استحيي من الرد ، ومن اتسع صدره يسخو بما في يديه ، فإن البخل من |(1/91)
@ 92@ضيق الصدر لأنه يخاف أن يحتاج إلى ما يطلب منه فيتمسك به ضنا به لحاجته إليه لضيق صدره عن تحمل الخصاصة إن دفع اليها ، ومن تحرى مسرة الناس يتسارع إلى قضاء حوائجهم ، لأن طلاقة وجهه وبسطه إنما يريد به مسرة الناس ، ويطلب محابهم وقضاء حوائجهم مسرتهم ومحابهم.
|الدليل على ذلك ما ذكر في الحديث محاسن الأخلاق ، وفي بعض الروايات اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه فيحوز أن يكون معناه : اطلبوا الحوائج إلى الله وكونوا عند حسان الوجوه ، أي : وجوه أحوالهم ، كأنه يقول : خالطوا الذين حسنت أحوالهم في معاملتهم عباد ربهم في تحمل أذاهم ، وطلب محابهم ، وكف الأذى عنهم ، كأنه يقول : كونوا عند الصالحين من عباد الله كما قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة : 119] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اطعموا طعامكم الأبرار ، كأنه يريد الخلطة ، أي : خالطوا الأبرار من الناس ، وكونوا معهم.
|يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : خالطوا الحكماء ، فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه أي : اطلبوا الحوائج من الله وكونوا عند حسان الوجوه ، أي : كونوا مع الصالحين.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله جميل يحب الجمال أي جميل الافضال بكم ، حسن النظر لكم ، مريد لصلاحكم ، جميل المعاملة معكم ، يرضى بالقليل ، ويثيب عليه الجزيل ، يقبل الحسنات المدخول عليها ، ويعفو عن السيئات المسكون إليها ، يكلفهم اليسير ويعينكم عليه ، ويعطيكم الجزيل ويشكركم عليه ، ولا يمن عليكم ، وتعطون القليل ويشكركم ، فهو يحب الجمال منكم ، أي : التجمل منكم في قلة إظهار الحاجة إلى غيره ، فإنه قام لكم بها ، وما روى عنكم زواها نظرا لكم |(1/92)
@ 93@وارادة الخير بكم ، فتجملوا فيما بينكم ، ولا تشكوه إلى غيره بإظهار حوائجكم فهو جميل الفعل بينكم يحب التجمل منكم.
|ويجوز أن يكون معنى قوله : إن الله تعالى جميل يحب الجمال انه جميل الفعل ، أي يخلقه كما قلنا ، من ذلك قضاء حاجات الخلق فيحب منكم هذه الصفة ، أي : يحب منكم قضاء حوائج إخوانكم ، وهو الجمال وبه الجمال لكم.
|ويجوز أن يكون معنى قوله : اطلبوا الحوائج إلى حسان الوجوه أي : اطلبوا حوائكم عند حسان الوجوه ، وجوه إخوانكم ، أي : إذا كنتم عند الصالحين من عباده بالحب لهم ، والتخلق بأخلاقهم ، شكرا لله عز وجل ذلك لكم فقضى حوائجكم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم هم قوم لا يشقى جليسهم.
$حديث آخر$
قال : حدثنا نصير بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا قتيبة ، قال : حَدَّثَنا عبد العزيز بن محمد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : قد ورد الخبر بأن جبريل صلوات الله عليه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة.(1/93)
@ 94@أما الكلاب فيجوز أن يكون تستقذرها الملائكة ، وهي اعني : الكلاب المؤذية للناس ، وليس في امساكها فائدة إلا الماشية أو صيد ، فما كان لغير ذلك فإمساكها مع قذرها ونجاستها من غير فائدة معصية لله تعالى ، وكذلك الصورة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بفاعل ، وفيها غخفاء لأن فيها منازعة الله تعالى إذ الله تعالى هو الخالق المصور ، وفيها إخبار في التشديد من الوعيد وهي معصية عظيمة ، فيكون تخلف الملائكة عليهم السلام عن البيت الذي فيه كلب وصورة لأجل معصية أهل البيت لله تعالى في ذلك.
|والجرس إنما يعلق على اعناق الجمال والدواب للرعاية والحفظ ليعرف بها سيرها ووقوفها ، وعدولها عن الطريق يمنة ويسرة ، أو سيرها على سنن الطريق ، وقد يسكن قلوب الرفقة إليها ما داموا يسمعون صوته ، ويتكلون على ذلك ، ويسكنون إليه والملائكة حفظة للمسلمين من الأوقات من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، قال الله تعالى : {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد : 11] ، إن استخفى السائر بالليل ، أو ظهر سائر بالنهار ، فإذا اطمأنت قلوب الرفقة وسكنت نفوسهم إلى صوت الجرس في الحفظ لهم في سير الجمال والدواب انقطعت بقدر سكونها إليه عن الله عز وجل ، فيجوز أن يكون الله عز وجل يكلهم إلى ما توكلوا عليه ، ويصرف عنهم حفظته ، إذا اتخذوا لهم من عند أنفسهم حفظة.
|والجرس ليس كسائر الأسباب التي يتخذها الناس من ذلك فيها حاجزا بينهم وبين الآفات كالأبواب والمغاليق والأوكية ، فإن اكثر ما يتخذها الناس من ذلك فيها فوائد أخرى سوى التحرز بها عن الآفات ، وليس الجرس كذلك لأن هذه الفائدة التي اتخذها الناس لها إن زالت عنه لم يبق فيه معنى غير التلهي بصوته لمن استلذه ، والذي يستلذه فليس بلبيب.(1/94)
@ 95@قال : حَدَّثَنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا سليمان هو ابن بلال ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الجرس مزمار الشيطان.
|قال الشيخ رحمه الله إذا فليس في الجرس معنى إلا التحرز من الآفات والاتكال عليه في التحرز من الآفة ، والتحرز منها يكون بصحبة الملائكة الذين هم المعقبات وسبب استحضارهم ذكر الله عز وجل ، والتوكل عليه ، والانقطاع عما دونه إليه ، وترك الاعتماد على ما سواه من حي وجماد.
$حديث آخر$
قال : حَدَّثَنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا ابن عيينة ، عن هشام بن عروة ، عن ابيه ، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله : اعتقت أربعين محررا في الجاهلية ، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اسلمت على ما سبق إليك من خير.
|قال الشيخ الإمام العارف المصنف رحمه الله : يجوز أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم : اسلمت على ما سبق لك أي أن ذلك مسابقة خير لك إلى ما بعده من إسلامك فتثاب على ما سبق لك من ذلك الخير ، ويجمع لك ذلك إلى ما |(1/95)
@ 96@تعمله في الإسلام ، ويجوز أن يكون اسلمت على ما سبق من خير ، أي : ببركة تلك السابقة من الخير هداك الله تعالى إلى الإيمان والاسلام له ، فيكون فيه إشارة إلى أن من ظهر منه خير كان ذلك دليلا على سعادة قدمت له من الله عز وجل ، وإن عاقبة من كان فيه فضل وخير وخلق حسن وفعل جميل يكون إلى خير ، وإن كان في الوقت ما كان يدل على ذلك ما.
|حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا عيسى بن يونس ، عن الاعمش ، عن أبي صالح فيما نعلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن تلك الفضيلة التي هي فيه ، وهي صلواته بالليل بشري من الله عز وجل على ما سبق له من السعادة وانه يرجع إلى الله ويتوب إليه.
$حديث آخر$
قال : حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا ابن المبارك ، عن الاوزاعي ، عن ربيعة بن يزيد الدمشقي ، عن عبد الله بن الديلمي ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من نور ذلك اليوم شيء فقد اهتدى ، ومن أخطأه فقد ضل . قال عبد الله بن عمرو : فمن ثم اقول : جف القلم على علم الله تعالى.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : يجوز أن يكون معنى التي تجري منها الأحكام والامور في الخلق ، وهو القضاء القديم.
|قوله : خلق خلقه في ظلمة أي جهالا عن معرفة الله تعالى ، فعبر عن الجهل بالظلمة ، أي : انهم لم يكونوا يهتدون إلى معرفة الله من حيث هم ، لأن العبودية لا تدرك الربوبية ، لأن المعروف من الأشياء ما يدخل تحت الحواس أو يدركه الأوهام ، |(1/96)
@ 97@والله تعالى يتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، إذا فليس للعبد أن يعرف الله من حيث العبد ، وإنما يعرفه بإحداث الله تعالى المعرفة له به ، ويتعرف إليه فيعرفه حينئذ ، وهو معنى قوله : ثم ألقى عليهم من نوره أي : هدى من شاء منهم ، فعبر عن الهداية بالنور . ألا تراه يقول : فمن أصابه من نور ذلك اليوم فقد اهتدى أخبر انه لا يهتدي إلى معرفة الله تعالى إلا بالله تعالى ، والدلائل والإعلام التي في الأقطار والأنفس لإلزام الحجة وليست بأسباب للهداية بمجردها ، ولو كانت أسبابا للهداية لاهتدى كل من نظر إليها وقد نظر إليها كل من له عقل سليم ، ولم يهتدي إلا من شاء الله تعالى ، قال الله تعالى : {والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [يونس : 25] وقال عز وجل : {يضل من يشاء ويهدي من يشاء} [النحل : 93]$
حديث آخر$
قال : حَدَّثَنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا أبو الاحوص ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استقيموا ولن تحصوا ، واعملوا أن خير أعمالكم الصلاة.
|وفي بعض النسخ من خير أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الطهور إلا مؤمن قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله روي في التفسير في قوله تعالى : {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [فصلت : 30] لا إله إلا الله ، فالاستقامة هي الإقامة على قول لا إله إلا الله بإيفاء حقه ، ورعاية حده ، وأولى حقه إسقاط تعظيم ما سوى |(1/97)
@ 98@الله تعالى عن شرك ، وهو أن لا نخاف غيره ، ولا نرجوا سواه ، ولا نراعي إلا حقه وكل حق أوجبه الله تعالى فهو من حق الله ، وأدنى حدوده إقامة ما أوجبه حق هذا القول ، وهو أداء أوامره ، والانتهاء عما نهى عنه ، والرضا بما يكون منه.
|وقوله : ولن تحصوا قيل : لن تحصوا ثوابها ، وقيل : لن تطيقوا أي لا تستطيعوا أن تستقيموا ، ومعناه لا تستطيعون بحولكم وقوتكم ولا باجتهادكم واستطاعتكم بل لن تطيقونه وأحرى أن لا تطيقوه وإن بذلتم مجهودكم ايهم عجزهم في أداء حق الله تعالى ، ويحوز أن يكون معنى قوله : واستقيموا على ما أقررتم في الذر الأول حين احببتم ربكم عز وجل بقولكم على حين قال لكم ألست بربكم أي استقيموا على قولكم بلى بمراعات الانفاس ومراقبة الاهجاس ، ولن تحصوا عدد انفاسكم ولا تطيقون مراقبة خواطركم ، فكيف تستقيمون صرفهم عن اوصافهم في رؤية الاستقامة منهم وإقامتهم مقام الاضطراب لعجز البشرية ، ودلهم على الافتقار إلى الله تعالى في طلب الاستقامة.
|وقوله : واعملوا أن من خير أعمالكم الصلاة يجوز أن يكون معناه أن من افضل أعمالكم وأتمها دلالة على الاستقامة الصلاة وذلك انها( ... ) الله والانقطاع إليه عما سواه ، وفيها ذم الجوارح وجميع الشر ، والإقبال على الله تعالى والانصراف عما سواه والاشتغال به عمن دونه.
|وقوله ولن يحافظ على الطهور إلا المؤمن يجوز أن يكون المراد به الطهارة من الحدث وهو الوضوء ، وفي رواية أخرى : ولن يحافظ على الوضوء إلا المؤمن وهي رواية الأعمش عن سالم عن ثوبان.
|حدثناه أحمد بن محمد بن زكريا ، قال : حَدَّثَنا إسحاق بن أحمد ، قال : حَدَّثَنا يعلي ، عن الاعمش ، عن سالم ، عن ثوبان ولن يحافظ على الوضوء إلا المؤمن وقال : افضل أعمالكم.
|قال : ويجوز أن يكون معنى قوله الطهور ظاهرا وباطنا ، وهو أن يحافظ على طهارة سره من النظر إلى غير الله تعالى كما يحافظ على طهارة ظاهرة من الحدث.(1/98)
@ 99@وقوله : لن يحافظ دليل على صحة تاويل قوله : ولن تحصوا أي لن تطيقوا لأن المحافظة عل وزن المجاهدة وهو أن تجاهد مرة يجاهدك ، أي تكون غالبا مرة ومغلوبا اخرى ، وأنت تجهد وتبذل مجهودك في الجهاد وكذلك المحافظة ، وذلك انك تتحفظ جهدك وطاقتك في تطهير سرك ثم تغلب عليهم ثم تحفظ ثم تضيع ، مرة حفظ ومرة ضيعة ، وأنت باذل مجهودك في حفظ سرك ، أي : لن تطيق الاستقامة ولكن تبذل مجهودك فيه فيكون مرة كذا ومرة كذا ، كما أن المحافظة على الوضوء ليس أن لا تحدث لكن كلما احدثت تطهر ، فيكون المؤمن بين هاتين الحالتين في الاستقامة بين عجز البشرية وبين استظهار الربوبية ، فيكون بين رعاية وإهمال ، وبين تقصير وإكمال ، وبين مراقبة وإغفال ، وهو بين جد وفتور ، كما انه بين حدث وطهور.
$حديث آخر$
قال حدثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي رحمه الله قال : حَدَّثَنا داود أبي العوام أبو حاتم ، قال : حَدَّثَنا عبد الصمد بن نعمان ، قال : حَدَّثَنا عبد الملك بن حسين هو النخعي ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي جحيفة ، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : جالس الكبراء وسائل العلماء وخالط الحكماء.
|وقال مسعر ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي جحيفة وخالل الحكماء.
|حدثنا به محمد بن علي بن الحسين ، قال : حَدَّثَنا أبو عوانة الاسفراييني ، قال : حَدَّثَنا أبو عمر الإمام ، قال : حَدَّثَنا مخلد بن يزيد ، قال : حَدَّثَنا مسعر.
|قال الشيخ الإمام الزاهد المصنف رحمه الله : يجوز أن يريد بقوله صلى الله عليه وسلم جالس الكبراء أي : ذو الأسنان والشيوخ الذين لهم تجارب ، |(1/99)
@ 100@وقد كملت عقولهم ، وسكتت حدتهم ، وكملت آدابهم ، وفي بعض النسخ : اراؤهم وزالت عنهم خفة الصبي ، وحدة الشباب ، واحكموا التجارب ، فمن جالسهم تأدب بآدابهم ، وانتفع بتجاربهم ، فكان سكونهم ووقارهم حاجزا لمن جالسهم ، وزاجرا لهم عما يتولد من طباعهم ، ويتبرك بهم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : البركة مع اكابركم وقد أمر بتوقيرهم بقوله صلى الله عليه وسلم : من لم يوقر كبيرنا فليس منا.
|ويجوز أن يريد بقوله جالس الكبراء أي : الكبراء في الحال ، ومن له رتبة في الدين ، ومنزلة عند الله ، وإن لم يكن كبير في السن ، والكبير في الحال هو جميع علم الوراثة إلى علم الدراسة . فقد قيل جاء في الحديث : من عمل بما علم ورثة الله تعالى علم ما لم يعمل فقد شرط لوراثة هذا العلم العمل بعلم الدارسة الذي هو علم الاكتساب ، وهو علم الأحكام بعد أحكام التوحيد ، وهذا علم الدراسة وعلم الوراثة : علم آفات النفس وآفات العمل ، وخدع النفس ، وغرور الدنيا ، واخبر أن من عمل بعلم الاكتساب ورثة الله تعالى علم ما لم يعلم وهو علم الإفهام ، واخبر أن من عمل بعلم الاكتساب ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم وهو علم الإفهام ، وفي نسخة علم الإلهام والفراسة الذي هو النظر بنور الله عز وجل ، فإنه قال صلى الله عليه وسلم : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل.(1/100)
@ 101@وقال صلى الله عليه وسلم : ومن ورثه الله تعالى هذا العلم فهو الذي شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : النور إذا دخل القلب انشرح وانفتح فقيل : وما علامة ذلك ؟ فقال : التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل دخوله ، ومن تجافى عن الدنيا كشف عن سره الحجب فصار الغيب له شهودا.
|قال حارثة رضي الله عنه : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأظمأت نهاري ، وأسهرت ليلي ، فكأني انظر إلى عرش ربي بارزا ، وهو الحديث الذي :
|حدثناه خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا صالح بن محمد ، قال : حَدَّثَنا إسماعيل بن إبراهيم الترجماني ، قال : حَدَّثَنا يوسف بن عطية الصفار ، قال : حَدَّثَنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ استقبله شاب من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : كيف أصبحت يا حارثة فقال : أصبحت مؤمنا بالله تعالى حقا ، قال : انظر إلى ما تقول فإن لكل قول حقيقة ، فقال : يا رسول الله$
عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، فكأني بعرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعارون فيها ، فقال النبي$
: أبصرت فالزم وفي رواية : أصبت فالزم ، فالزم ، عبد نور الله تعالى الإيمان في قلبه فقال : يا رسول الله ادعو الله تعالى لي بالشهادة ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي يوما في الخيل : يا خيل الله اركبي ، فكان أول فارس ركب ، وأول فارس استشهد ، فبلغ امه ، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : أخبرني عن ابني فإن يك في الجنة فلن ابكي ، ولن اجزع ، |(1/101)
@ 102@وإن يكن غير ذلك بكيت ما عشت في الدنيا ، قال : أم حارثة إنها ليست بجنة ، ولكنها جنة في جنان ، والحارثة في الفردوس الأعلى فرجعت وهي تضحك وتقول : بخ بخ لك يا حارثة.
|فأخبر في هذا الحديث أن من عمل بما علم نور الله تعالى قلبه ، ومن نور الله تعالى قلبه كوشف عن كثير من أحوال الغيب ، وعلم ما لم يتعلم من جهة اليقين ، فيما تعلم لا أنه يعلم أشياء من الأحكام وغيره من غير اجتهاد في تعلمه حتى يعلم القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وأحكام الدين من غير تعلم ليس كذلك ، ولكن يكاشف وينهتك الحجب بينه وبين كثير من أحوال الغيب ، فلا يتعرضه الشكوك ، ولا ينازعه الخواطر في الحق ، وبيانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الحق ينطق على لسان عمر فهذه أوصاف الكبراء ومن كان بهذه الصفة تجلى على قدر زمانه ، وفي بعض النسخ تجلى قدره على أهل زمانه فإنه يجالس في التوقير ، والإجلال ، والتعظيم ، وذم الجوارح ، ومراقبة الخواطر ، فإن أهل الصدق لهم نور يقفون على كثير من أحوال الناس.
|قال عبد الله بن محمد الانطاكي : إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون في اسراركم ، ويخرجون من هممكم ، ومن جالسهم فلا يجب أن يتعرض عليهم في أحوالهم ولا يبادرون بشيء ، وفي بعض النسخ ولا يبادون ، ولا ينكر عليهم حال ، ولكن يبصر عليهم حتى يكونوا هم الذين يكشفون لهم ما التبس عليهم من احوالهم ، ألا يرى إلى ما قال العبد الصالح لموسى عليهما السلام : {فلا تسألني عن شيء حتى احدث لك منه ذكرا} [الكهف : 70] وإنما يجالس الكبراء في أوقات يكون منهم البداية والأذن ، ولا يداخلون كل وقت فإن اوقاتهم لهم فيما بينهم وبين الله تعالى لا يحملهم فيها غيره ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لي مع الله عز وجل وقت لا يسعي فيه غيره هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم وحاله ارفع من أن يعلم ، أو يعبر عنه ، وأحوال سائر الكبراء على |(1/102)
@ 103@قدر ما يليق بهم إذا فهولاء يجالسون تبركا بهم وتيمنا بروائح احوالهم ، فهم ملحاء المريدين ولهفتهم بهم يتخررون عن كثير مما يخافونه من فتن الزمان وشر أهله ومكائد العدو وبلاء النفوس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الشيطان ليفرق من ظل عمر ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه جل جلاله : هم القوم لا يشقى جليسهم.
|وقوله وخالط الحكماء أي داخلهم واختلط بهم ، وكن معهم في كل وقت فإن الحكيم هو المصيب في اقواله ، والمتقن لأفعاله والمحفوظ في أحواله فمن خالطهم وداخلهم اخذ محاسن اخلاقهم ، وانتفع بإصابتهم في اقوالهم ، وتهذب بهم في مختلف أحوالهم.
|وقوله : سائل العلماء تنبيه منه صلى الله عليه وسلم على أحكام الأمور ، وإصلاحها فيما بينك وبين الله تعالى ، وفيما بينك وبين خلق الله تعالى ، كأنه يقول : قدم العلم على العمل لتكون اعمالك على تقدمه العلم بها فتصح.
|وقوله : سائل العلماء لم يجعل له وقتا دون وقت كأنه يقول : كن أبدا عالم سائلا ومتعلما ، والعلماء إذا اطلقوا فهم الفقهاء لأن العلم إذا أطلق أريد به علم الفقه الذي هو علم الاحكام ، ومعرفة الحلال والحرام ، وأما سائر العلوم فإنها مقيد يقال : علم الكلام ، وعلم القرآن ، وعلم الحديث ، وعلم اللغة ، وكذلك جميع العلوم ، فإنها تقيد بذكر يخصه به ، وكذلك العلماء إذا أطلق كان المفهوم به الفقهاء ، فأما سائر العلماء سائر العلوم ، فإنما يقال هذا قول المتكلمين ، وقال فيه المفسرون : وكذا يقول اللغويون ، وقال النحويون : وبه قرأ في القرآن ، ينسب أهل كل نوع من العلم إلى ما ينتحله ، فالعلماء اسم يختص به الفقهاء عند الإطلاق.
|فيجوز أن يكون قوله سائل العلماء أراد به ما قلناه من علم الاحكام ، فإن البلوى به اكثر ، والحاجة إليه آمن ، والله أعلم.(1/103)
@ 104@$ حديث آخر$
قال حدثنا بكير بن محمد بن حمدان ، قال : حَدَّثَنا أبو جعفر أحمد بن علي الخزاز ، قال : حَدَّثَنا أسيدة بن زيد الجمال ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عبد الله العوني ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينبغي لمسلم ولا يصح له أن يجنب في المسجد إلا أنا وعلي.
|قال الشيخ إلامام المصنف رحمه الله : يجوز أن يكون ذلك لأن بيت النبي صلى الله عليه وسلم كان في المسجد ، وبيت علي رضي الله عنه كان كذلك ، وإن كان البيتان لم يكونا من المسجد ، ولكن كانا متصلين بالمسجد وابوابهما كانت في المسجد فيجعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فقال : ما ينبغي لمسلم أن يجنب في المسجد إلا أنا وعلي ، وإن اجنبنا فيه فإنا في بيوتنا.
|فيكون معناه لا ينبغي لمسلم أن يجنب في المسجد ، ونحن إنما نجنب في بيوتنا ، ليس في المسجد ، والذي يدل على أن بيت علي رضي الله عنه كان في المسجد ، كما كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد.
|حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن ابراهيم ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل بن جعفر المدني ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن سلمة ، عن ابن شهاب ، عن سالم ابن عبد الله ، قال : سأل أبي رجل عن علي ، وعثمان رضي الله عنهما ايهما كان خيرا ؟ فقال له عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشار إلى بيت علي إلى جنبه ، لم يكن يكون في هذا المسجد غيرهما . . وذكر الحديث.
|إذا فلم يكونا يجنبان في المسجد ، وإنما كان يجنبان في بيوتهما ، وبيوتهما في المسجد ، إذ كان ابوابهما فيه وكان يستطرقانه في حالة الجنابة قال :
|حدثنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا علي بن المنذر ، قال : حَدَّثَنا أبو فضيل ، عن سالم ، بن أبي حفصة ، عن عطية ، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : يا علي ، |(1/104)
@ 105 @ لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك قال نصر ، قال أبو عيسى قال علي بن المنذر : قلت لضرار بن صرد : ما معنى هذا الحديث ؟ قال : لا يحل لأحد أن يستطرقه جنبا غيري وغيرك.
|فدل هذا على أن ابوب بيت النبي صلى الله عليه وسلم وعلي كانا في المسجد ، فكان يستطرقان المسجد إذا خرجا من بيوتهما في حالة الجنابة.
|قال الشيخ الامام المصنف رحمه الله فيجوز أن يكون معنى قوله ذلك تخصيصا لهما ، كأن النبي صلى الله عليه وسلم خص بأشياء فيكون هذا مما خص به ، ثم خص عليا رضي الله عنه فرخص له فيما لم يرخص به غيره ، وإن كانت ابوب بيوتهم في المسجد فإنه كانت في المسجد أبواب لبيوت غير بيوتهما حتى أمر بسدهما إلا باب علي رضي الله عنه.
|حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن اسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن الحماني ، قال : حَدَّثَنا أبو عوانة ، عن أبي بلج ، وفي بعض النسخ عن أبي صالح ، عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : سدوا أبواب المسجد كلها إلا باب علي رضي الله عنه.
|قال حدثنا أبو الفضل المروكي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عيسى الطرسوسي ، قال : حَدَّثَنا أبو جعفر النفيلي ، قال : حَدَّثَنا مسكين بن بكير ، عن شعبة ، عن أبي بلج ، عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : سدوا الأبواب إلا باب علي رضي الله عنه.(1/105)
@ 106@فخصه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يترك بابه في المسجد مفتوحا فكان يجنب في بيته ، وبيته في المسجد ، وأما الحديث الآخر انه قال : لا يبقين في المسجد باب إلا سد غير باب أبي بكر رضي الله عنه.
|قال : حدثنا به المروكي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عيسى ، قال : حَدَّثَنا إسماعيل بن أبي اويس قال : حَدَّثَنا مالك بن انس ، عن أبي النضر ، عن عبيد بن حنين ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
|فإن ذلك كانت ابوابا تطلع إلى المسجد خوخات ، وأبواب البيوت خارجة من المسجد ، فأمر بسد تلك الخوخات فلم يكن مطلع في المسجد ، وترك خوخة أبي بكر رضي الله عنه تصديق ذلك في رواية أخرى قال : سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر رضي الله عنه.
|حدثنا القواريري ، قال : حَدَّثَنا حامد بن سهل ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عبد الرحمن أبو بكر بن أخي الحسين الجعفي ، قال : حَدَّثَنا زيد بن يحيى ، وفي نسخة يزيد بن يحيى ابن عبيد الخزاعي ، قال : حَدَّثَنا مالك بن انس ، عن حصين بن عبد الله ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر.
|وقال غيره : سدوا الأبواب ، لا لفظة إلى المسجد واتركوا باب أبي بكر.
|فذل هذا أن تلك الأبواب لم تكن أبواب البيوت التي تدخل فيها وتخرج منها ، وإنما كان خوخات تطلع إلى المسجد كالكوا والمشاكي ، وباب علي رضي الله عنهما كان باب البيت الذي يدخل فيه فيخرج منه ، كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين أشار إلى بيت علي رضي الله عنه إلى جنب بيت النبي صلى الله عليه وسلم |(1/106)
@ 107@وبيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فدل أن بيت علي رضي الله عنه كان فيه ، وقد فسر ذلك ابن عمر أيضا بقوله : لم يكن يكون في هذا المسجد غيرها.
$حديث آخر$
قال حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إبراهيم ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل بن جعفر ، قال : حَدَّثَنا الدراوردي ، عن يزيد بن عبد الله ، عن محمد بن ابراهيم ، عن عيسى بن طلحة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا استيقظ أحدكم من منامه فليتوضأ وليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه.
|قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله : يجوز أن يكون ذلك لبعده من مواضع التقيد فإن العين باب النظر إلى خلق السموات والارض ، قال الله تعالى : {إن في السموات والأرض لآيات} [الجاثية : 3] ، وقال الله تعالى : {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات : 21] ، وقال صلى الله عليه وسلم : النظر إلى الكعبة عبادة فهي باب العبرة ، والفم باب الذكر ، قال الله تعالى : {فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون} [الأعراف : 69] والأذن باب سماع ذكر الله تعالى وسماع العلم قال الله تعالى {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} [الزمر : 18] وليس في الخياشيم شيء من هذا المعنى ، فيجوز أن يكون اقتراب الشيطان من الإنسان وموضع مدخله فيه إما عن طريق الوسوسة ، أو جريانه فيه ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وقال في التثاؤب : التثاؤب |(1/107)
@ 108@في الصلاة من الشيطان ، فإذا تثاءت أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع وقال : فإن الشيطان يضحك في جوفه فأخبر أن الشيطان يدخل في جوف الإنسان فيجوز أن يكون مدخله فيه من طريق الخياشيم من طريق الوسوسة ، وهو باب ظاهر ويقول الناس لمن استخفه أمر أو ظهر فيه كبر : نفخ الشيطان في منخره.
|وقال الحجاج في خطبته : يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق والنفاق ، قد نفخ الشيطان في مناخركم حتى قلتم : ما بالحجاج فمه ، وهل يرجو الحجاج الخير كله إلا بعد الموت.
|وهو باب ظاهر يعني الخيشوم ليس له طبق والعين والفم لهما طبقان ، وما دون الإزار فمستور من المسلم ولا يجد العدو إليه سبيلا كما لا يجد إلى السقاء إذا أوكى وإلى الباب إذا غلق قال :
|حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا عمار بن شعيب ، عن أبي الزبير ، عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا نمت فأغلق الباب وأوك السفاء ، وخمر الإناء ، واطفى السراج ، فإن الشيطان لا يفتح غلقا سد ، ولا يحل وكاء ، ولا يكشف إناء ، وإن الفويسقة تضرم على الناس بيوتهم ، فإن لم تجد ما تخمره به فاعرض عليه ولو بعود ، واذكر اسم الله تعالى.(1/108)
@ 109@$ حديث آخر$
قال : حدثنا أبو سعيد حاتم بن عقيل ابن المهتدي ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل بن عثمان ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قال قيس : قال : حَدَّثَنا عمرو بن مرة عن أبي عبيدة ، عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه باسط يده لمسيء الليل أن يتوب إلى النهار ، وباسط يده لمسيء النهار أن يتوب إلى الليل ، يرفع عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل ، حجابه النار لو كشف عنها لاحترقت سبحات وجهه ما أدرك بصره ، ثم قرأ أبو عبيدة {أن بورك من في النار ومن حولها} [النمل : 8].
|وحدثنا محمد بن نعيم بن ناعم ، قال : حَدَّثَنا ابي ، قال : حَدَّثَنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : حَدَّثَنا عبيد الله بن موسى ، قال : حَدَّثَنا سفيان ، عن حكيم بن الديلمي ، عن أبي هريرة عن أبي موسى نحوه ، وقال : حجابه النهار.
|قال الشيخ الإمام المصنف رحمة الله قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى لا ينام نفى عنه النوم الذي هو الاستراحة من التعب والنصب والله تعالى يتعالى عن( ... ) استراحة له بصفة ، والنوم غفلة ، والله عز وجل يتعالى عن ذلك ، ونفى بقوله : لا ينبغي أن ينام جوازه عليه ، أي : لا ينام ، ولا يجوز النوم عليه لأنه آفة ، والآفة حدث ، وليس عز وجل بمحل للحوادث تعالى عز وجل عن ذلك علوا كبيرا.
|وقوله : يخفض القسط ويرفعه يجوز أن يريد به رفع أهل القسط وهو العدل ويضع أهل الجور أي برفع أهل العدل في الدنيا بين الناس بالثناء الحسن ، والحفظ لهم والعون ، وفي الآخرة بالثواب والدرجات ، ويضع أهل الجور في الدنيا بالبغض لهم من الناس والعاقبة الوبئة ، وفي الآخرة بالعقوبة وخفة الميزان ، فلا يقم لهم يوم |(1/109)
@ 110@القيامة وزنا فكأنه قال : يخفض أقواما لأجل القسط لأنهم تركوه ولم يعملوا به ، ويرفع أقواما لأجل القسط لأنهم عملوا به ، ويجوز أن يكون يخفض بالقسط ويرفع بالقسط ، ومعناه يرفع أقواما في الدين والدنيا بالعلم ، والقدرة ، والهداية ، والإيمان ومراتبه ، ويضع آخرين ، بالذل ، والجهل ، والضلال ، والكفر ، وهو في ذلك عادل غير ظالم لهم ولا جائر عليهم ، لأن الظلم لا يكون منه والجور لا يجوز عليه لأنه ليس تحت قدرة قادر ، ولا فوقه أمرا ولا زاجر فيكون ظالما بترك الأمر أو جائرا عن سنن الحق تعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا . ويجوز أن يكون معنى يخفض القسط أي : ينقص العدل في الأرض بغلبة الجور واهله ، ويرفعه بالبسط في الأرض بغلبة العدل واهله ، فقد كان القسط والعدل والإيمان غير موجود ، ولا معروف بغلبة فرعون وملائه ، ثم بسطه الله تعالى بإرسال موسى عليه السلام ، ثم ظهر الجور والكفر حتى أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم فبسط القسط واظهر الايمان ، ومحق الكفر ثم قال صلى الله عليه وسلم في شأن المهدي ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : باسط يده لمسيء الليل أن يتوب إلى النهار اليد صفة الله تعالى وصف بها نفسه ، ولو لم يرد السمع لم يجز القول لأنه من الصفات المتشابهة فلما ورد السمع به وجب التصديق له ، والإيمان به ، وتأويله على ما يليق به ، ونفي التشبيه ، وأوصاف الحدث عنه.
|قال أهل الحديث وسائر المثبتة : له يد لا كالأيدي ، كما انه موجود لا كالموجودين ، وشيء لا كالأشياء.
|وقال بعض المثبتة : إنها يد صفة ، وليست بيد جارحة ، ولا جزء ولا بعض كما أن ذاته ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، قال الله تعالى : {يد الله فوق أيديهم} [الفتح : 10] وقال عز وجل : {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص : 75] وقال تعالى : {يداه مبسوطتان} [المائدة : 64].(1/110)
@ 111@وورد الخبر بقوله باسط يده فصدقه القرآن فوجب تصديقه ، والقول به على ما قلنا وقوله صلى الله عليه وسلم : باسط يده لمسيء الليل إلى النهار يجوز أن يكون معناه أن لا يثبت إساءته في ديوانه ليلته ويمهله إلى النهار كما.
|حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حَدَّثَنا الحسين بن الفضل ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن بكر السهمي ، قال : حَدَّثَنا بشر بن نمير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل العبد الحسنة كتبها له عشر امثالها ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : أمسك ، فيمسك عنه سبع ساعات من النهار ، فإن استغفر لم يكتب عليه ، وإن لم يستغفر كتب سيئة واحدة.
|فأخبر انه يمسك عن إثباتها في ديوانه ليستغفر ، فمعنى باسط يده يعني بالرحمة والإمهال ليتوب فإن تاب ، تاب الله عليه وأثبتها حسنة في ديوانه ، قال عز وجل : {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} [الفرقان : 70] ، وإن لم يتب اثبتها في ديوانه سيئة واحدة ، والتوبة مبسوطة له إلى أن يغرغر بالموت ، والشفاعة يوم القيامة أن لم يتب منها ، والرحمة من الله تعالى التي وسعت كل شيء ، قال الله تعالى : {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة} [الأعراف : 156] الآية.
|وقوله : يرفع عمل الليل قبل النهار يجوز أن يكون معناه : تصعد ملائكة الليل بأعمال الخلق في الليل إلي السماء قبل النهار ، وملائكة النهار بأعمال الخلق في النهار قبل الليل ، ويجوز أن يكون معناه : يقبل أعمال المؤمنين المخلصين في ليلهم قبل النهار ، وفي نهارهم قبل الليل ، يكون فيه معنى تعجيل إجابته لمن دعاه ، وحسن قبوله لمن عمل له ، وسرعة إقباله على من أقبل عليه.
|وقوله : حجابه النار يجوز أن يكون معناه : أي حجب الخلق عن إدراكه والتوهم له ، والفكرة فيه بسلطانه وجبروته وكبرياءه فلا يحيطون به علما.(1/111)
@ 112@وقوله : لو كشف عنها يجوز أن يريد لو كشف الحجاب عن خلقه ، وهو حجاب لطفه عن أوليائه والمؤمنين به ، وحجاب الغفلة عن أعدائه ومن جحده وحجاب الرحمة عن سائر الأشياء من جميع خلقه من جماد وحي ، فظهر لهم جلاله وهيئته وقهره لتلاشت الأشياء كلها واضمحلت ، وفنيت وغابت ، قال الله عز وجل : {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} [الأعراف : 143] أي : بان له سلطانه وعظمته فصار ترابا ، بل تلاشى وذهب وفني ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى إذا تجلى لشيء من خلقه خشع.
|قال : حدثنا محمد بن علي بن الحسين أبو علي الاسفراييني ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن علي بن الحسن أبي شعيب المدائني ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي ، قال : حَدَّثَنا دحيم بن إبراهيم ، قال : حَدَّثَنا مؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن زيد ، عن ايوب ، عن أبي قلابة ، عن النعمان بن بشير ، وقبيصة بن المخارق رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت احد ، ولكن الله تعالى إذا تجلى لشيء من خلقه خشع ، فإذا انكسف واحد منهما فصلوا كأتم صلاة مكتوبة صليتموها.
|أخبر أن الأشياء في حجبه عنه ولو كشف الحجاب عنها تلاشت ، ومعنى التجلي إظهار الهيبة والجلال فعلى قدر ما يظهر من ذلك يكون ذهاب الاشياء ، وعلى قدر ما يحجبها يكون بقاءها.
|ومعنى قوله حجابه النار يجوز أن يكون النار عبارة عن الشغل ، أي : حجب الخلق عنه ليشغلهم بذاتهم وحاجاتهم من ضرورات وشهوات ، ولو كشف الحجاب عنهم فبان لهم هيئته وسلطانه تلاشوا وفنوا.(1/112)
@ 113@ومعنى سبحات وجهه يجوز أن يكون عبارة عن الجلال والهيبة لأن التسبيح تنزيه الله عز وجل وإجلاله وتعظيمه ، فمعنى قوله لاحترقت سبحات وجهه أي : أفنى جلاله وهيبته وقهره ما أدركه بصره.
|ومعنى ما أدركه بصره أي كل شيء خلقه وأحدثه من العرش إلى الثرى كأنه عبارة عن كل موجود سواء ، وليس قوله ما أدركه بصره على التجديد والتجزئة حتى يكون وراء ذلك شيء موجود ، بل هو مستوعب لكل موجود سواه ، وذلك انه مدرك لكل موجود لا يغيب عن بصره شيء ولا يستتر عنه مخلوق ، ولا يتوارى عنه محدث تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
$حديث آخر$
قال : حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : يحيى بن اسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا أبو معاوية ، قال : حَدَّثَنا إسحاق بن عبد الله بن عبد الله بن أبي فروة ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سألت الشفاعة لأمتي ، فقال : لك سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، فقلت : رب زدني ، فقال : لك مع كل ألف سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، فقلت : رب زدني ، فقال : لك هذا فيجيء بين يديه وعن يمينه وعن شماله وقال أبو بكر رضي الله عنه : حسبنا يا رسول الله ، فقال عمر رضي الله عنه : دع رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر لنا ما اكثر الله تعالى لنا ، فقال أبو بكر رضي الله عنه إنها حثية من حثيات ربنا عز وجل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق أبو بكر.
|قال الشيخ الإمام الزاهد المصنف رحمه الله : في حثية النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وشماله معنيان : الكثرة والاختلاط ، وذلك أن من حثي عن يمينه وشماله لا يميز ولا يختار فيأخذ شيئا ويدع آخر ، ولكنه يأخذ ما حصل في قبضته من أي شيء كان ، وعلى أي صفة كان ، وما كان من العدو فكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بحثية أن الذين شفعه الله تعالى فيهم يجوز العدد كثرة والصفة جميعا فكأنه يقول : شفعني الله تعالى في أمتي بغاية من الكثرة لا يحصى عددهم ولا يعرف |(1/113)
@ 114@أوصافهم مسيئين كانوا أو محسنين أصحاب صغائر كانوا أو كبائر ، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
|قال : حدثنا بكير بن حمدان ، قال : حَدَّثَنا محمد بن يونس الكديمي ، قال : حَدَّثَنا أبو عاصم النبيل ، قال : ابن جريج ، قال : حَدَّثَنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
|قال : وحدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا نوح بن قيس الجراني ، عن زبير الرقاشي ، عن أنس رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن تشفع ؟ قال : لأصحاب الدماء والعظائم.
|ففي هذا الحديث دليل على انه صلى الله عليه وسلم أشار بحثية إلى كثرة عددهم واختلاف احوالهم ، وتباين اوصافهم ، وقول أبو بكر رضي الله عنه : انها حثية من حثيات ربنا ، وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم إياه إخبار منه أن الكثير من النبي صلى الله عليه وسلم يجاوز العدد والإحصاء فكيف بالذي يعلم الله تعالى بكثرته ، ففي قول أبي بكر رضي الله عنه دلالة انه شفع في جميع أمته من أهل الإيمان ألا تري يقول حسبنا يا رسول الله ، أي : قد استوعبت ، وقول عمر رضي الله عنه : دع رسول الله يكثر لنا ما اكثر الله لنا ، يدل على انه لم يدرك من إشارة النبي صلى الله عليه وسلم ما أدركه أبو بكر ، لأن أبا بكر رضي الله عنه علم انه إخبار عن الجميع حتى لا يبقى منه شيء ، وليس وراء ذلك غاية ، والدليل على ذلك حديثه الآخر.(1/114)
@ 115@قال : حدثنا محمد بن حامد القواريري ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن نصر بن إبراهيم النيسابوري ، قال : حَدَّثَنا عمرو بن علي ، قال : حَدَّثَنا أبو معاوية عن الاعمش ، عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكل دعوة مستجابة فتعجل ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، وهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا.
|وحدثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب ، قال : حَدَّثَنا حمدان بن ذي النون ، وعبد الصمد بن الفضل ، واجيد بن الحسين ، قالوا : حَدَّثَنا مكي بن ابراهيم ، قال : حَدَّثَنا داود بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي ، قال : سمعت أبا بردة الاشعري يحدث ، عن أبي المليح البصري ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فنزلنا منزلا فكنا معه ففقدنا رسول الله$
فخرجنا نطلبه ، فاطلع علينا يتبسم ، فلما انتهى إلينا قلنا : يا رسول الله أين كنت ؟ قال : آتاني جبريل عليه السلام فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة ، وبين أن يتقبل شفاعتي فيهم ، قال : فاخترت الشفاعة فقلنا : اتشفع لنا ؟ قال : قد شفعت لكم فلما كثر عليه الناس ، قال : هي لمن قال لا أله إلا الله مخلصا.
|قال الشيخ الامام المصنف رحمه الله : فقد تخرج هذه الاخبار بما تضمنت إشارة النبي صلى الله عليه وسلم في حثيته وإنها اخبار منه صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل بأنه شفعه في جميع امته ، وانه لا يخرج منها أصحاب الكبائر والعظائم ، ومن لم يعمل سوى الإيمان خيرا حين أخبر إنها حثية من حثيات الرب عز وجل ، فمعنى الحثية من الله عز وجل عبارة عما قلناه.(1/115)
@ 116@$ حديث آخر$
قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله : قرأ علي أبي نصر محمد بن عمرويه ابن سهل المطوعي في المحرم سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة في دار بكار وهو ينظر في كتابه : حدثكم محمود بن آدم ، قال : حَدَّثَنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن زياد ، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عجبت من يوسف صلوات الله عليه ، ومن صبره وكرمه ، والله يغفر له لو كنت أنا مكانه حين آتاه الرسول لبدرته الباب ، ولكنه أراد أن كيون له القدر ، ولولا كلمة قالها ما لبث في السجن ما لبث.
|قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صبر الكريم ابن الكرام يوسف صلوات الله عليه وسكونه في حاله ورضاه ، وتمكنه وسكونه تحت مجاري اقضية الله تعالى وقلة اضطرابه وانتظارية حكم ربه عز وجل في الفرح عما هو فيه من غم السجن وكربه ، وعجب من شآنه في صبره وكرمه ، ورفع من قدره صلى الله عليه وسلم واخبر عن نفسه انه لو كان مكانه لبادر الباب وهو صلى الله عليه وسلم أرفع حالا ، واشد تمكنا ، وأجل قدرا ، فهو افضل الأنبياء ، وخير البشر فهو احرى بالصبر والكرم ، واحق بتمكين الحال فليس إخباره عن نفسه بمبادرة الخروج إن شاء الله تضجرا من الحال والاستبطاء للفرج ، ولا لعلة التمكن ولا لاضطراب منه في الحال التي رفع إليها ، ولكنه إخبار منه عن نفسه إيثار حق الله تعالى على حظ نفسه ، وذلك أن يوسف عليه السلام كان رسولا فقد بعثه إلى القوم الذين هم هو بين اظهرهم ، وكان يجب عليه الدعاء إلى الله تعالى ، وقد دعا أهل السجن ، قال الله تعالى : {يا صاحبي السجن أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف : 39] الآية ، دلهم على صدقة بالمعجزة عن الآية ، وهو علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ، ومن ارتضى من رسول الله فقال : {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} [يوسف : 37] الآية ، ولم يكن له طريق إلى دعوة الملك إلى الله تعالى لكونه في السجن ، فلما وجد السبيل إلى ذلك بإرسال الملك إليه أن يأتوه به تربص وقدم ، عذر نفسه وبراءتها مما نسب إليه من إرادة السوء الذي رمته امرأة العزيز به إذ تقول : {ما جزاء من أراد بأهلك سوءا} [يوسف : 25] فرد صلى الله عليه وسلم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن |(1/116)
@ 117@ايديهن} [يوسف : 50] الآية . فلما برأته {ما علمنا عليه من سوء} [يوسف : 51] وقالت امراءة العزيز : {أنا روادته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} [يوسف : 51] فعند ذلك اجاب الملك وخرج من السجن ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو كنت مكانه لبادرت الباب يعني الأصل إلى دعوة الملك إلى الله تعالى لوجوب حق الله تعالى وتأدبا بأدب الله عز وجل بقوله عز وجل : {فأصدع بما تؤمر} [الحجر : 94] وقوله عز وجل : {بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة : 67] فأخبر انه لو كان مكانه لآثر حق الله تعالى في دعوة الملك إلى الله تعالى على براءة نفسه إعراضا عنها وإقبالا على الله في أداء حقه وجعل ذلك من يوسف شبه التقصير ، ألا ترى إلى قوله وإقبالا على الله في أداء حقه وجعل ذلك من يوسف شبه القصير ، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : والله يغفر له ومما يدل على أن ذلك على الإشارة إلى التقصير قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر : لو لبثت في السجن ما لبث ثم جاءني الرسول اجبت ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : رحمة الله على لوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد ، قال فما بعث الله من بعده نبيا إلا في ذروة من قومه.
|قال حدثنا به نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا الحسين بن حريث الخزاعي ، قال : حَدَّثَنا الفضل بن موسى ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله صلى الله عليه وسلم إن كان ليأوي إلى ركن شديد كأنه يقول : قد كان يأوي إلى ركن شديد ، وهو الرسالة والبنوة ، وهي أعز من العشيرة ، فكذلك قوله : لو كنت أنا مكانه حين آتاه الرسول لبادرته وليس معنى التقصير تقصير في حال يوسف عليه السلام ، ولكنه تقصير في حال النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كان ذلك منه تقصير ، وإن لم يكن من يوسف عليه السلام تقصير لأنه ارفع حالا منه |(1/117)
@ 118@أبان صلى الله عليه وسلم عن ارتفاع درجته عن درجة يوسف صلى الله عليه وسلم وان ما كان من يوسف لو كان من النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك منه تقصيرا وإن لم يكن من يوسف تقصير ، لأن إظهار عذره عند الملك من واجب حق الله تعالى لأنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
|وكذلك قول لوط صلوات الله عليه إذ اوى إلى ركن شديد يمنعونني فلا أقتل لأصل إلى قضاء حق الله تعالى في الدعاء إليه ، ولم يكن ذلك منه ومن يوسف صلى الله عليه وسلم بمعنى طلب حظوظ النفس فيهما ، وإن لم يقصدا حظوظ نفسهما ، ففيه بعد أن انفسهما وخصومة عنهما ، وتقديم ذلك على الدعاء إلى الله تعالى يشبه التقصير من حال من سقطت عنه نفسه ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم وحظوظها.
|وقيل : لو خرج يوسف عليه السلام قبل أن يبراءنه لاحتاج إلى طلب العذر من الملك فيما رمى به ، فلما تربص حتى براءته اعتذر الملك إليه بقوله : {إنك اليوم لدينا مكين أمين} [يوسف : 54].
|وقوله صلى الله عليه وسلم : ولولا كلمة قالها ما لبث في السجن ما لبث فقيل الكلمة التي قالها قوله للذي نجا منهما ، أي : صاحبي السجن ، {اذكرني عند ربك} [يوسف : 42] # قال : حدثنا محمد بن عبد الله الفقيه ، قال : حَدَّثَنا أبو إسحاق الهسنجاني ، قال : حَدَّثَنا أحمد هو ابن أبي الحواري ، قال : حَدَّثَنا زهير بن عباد وعبد العزيز بن عمير ، قال : دخل جبريل عليه السلام على يوسف عليه السلام في السجن قال : فعرفه يوسف عليه السلام فقال له : يا أخا المنذرين ما لي اريك بين المنذرين ، أما تراني كأسير بين الخاطئين ؟ فقال جبريل : يا طاهر ابن الطاهرين إن الله كرمني بك وابائك وهو يقرأك السلام ، ويقول لك : ما استحييت مني أن استشفعت بغيري ، وفي رواية : استعنت بغيري وعزتي لالبثنك في السجن بضع سنين ، قال : فقال لجبريل : وهو عني راض ؟ قال : نعم ، قال : إذا لا أبالي.
|فإذا كان هذا صحيحا فهو الحق ، والقول بعده تكلف ، وإن كان غير ذلك فيجوز أن يكون الكلمة التي قالها.(1/118)
@ 119@قوله : {رب السجن احب إلي مما يدعونني إليه} [يوسف : 33] فقد روي في بعض الاخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن البلاء موكل بالقول ولو لم يقل : {رب السجن احب إلي} لم يسجن هذا ، أو كلاما هذا معناه ، فكأنه لما كان ذلك من قدر الله تعالى وكتبه على يوسف صلى الله عليه وسلم أجرى ذلك على لسانه لأن لا يسبق إلى الأوهام أن لبثه في السجن كان عقوبة له على ذنب ، أو معاتبة على تقصير ، ولكن على اختيار منه وانه آثر ألم نفسه وعنها على ارتكاب ما روود عليه من معصية الله عز عن وجل فهو تشكر منه وإظهار فضله عليه السلام ، ولبثه في السجن مدة ما لبث رفعة له وإظهار شرفه وعلو منزلته وارتفاع درجته ، فقد روي في بعض الاخبار انه حجة على من ابتلى بالرق والعبودية ، وفي بعض النسخ والعبودة إذا قصر في حق الله تعالى ، وأيوب عليه السلام حجة على أهل البلاء ، وسليمان عليه السلام حجة على الملوك.
|وليس ما جرى على الأنبياء والرسل ولا وما ابتلي به الأولياء والصديقون من المحن والبلايا وعقوبات لهم ، ولكن تحف وهدايا وخلع ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالامثل وقال صلى الله عليه وسلم : إذا احب الله تعالى عبدا صب عليه البلاء صبا وسجه سجا.
|وقد يكون معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : لولا كلمة قالها يصرف معنى الكلمة إلى القضاء ، والحكم والتقدير الأول في سابق علم الله أن يلبث يوسف عليه السلام في السجن ما لبث ، فيجوز معناه لولا كلمة قالها الحق عز وجل ما لبث يوسف عليه السلام ما لبث لقوله عز وجل : {ولكن حق القول مني} [السجدة : 13] فيجوز أن يكون معنى القول : {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم} [يونس : 19] ، وقوله : {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام : 19] |(1/119)
@ 120@وقوله : {ولكن حق القول مني} [السجدة : 13] فيجوز أن يكون معني القول مصروفا إلى الله تعالى وإن لم يتقدم قبله اسمه عز وجل كقوله تعالى : {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر : 1] فكانت الدعاء إشارة إلى القرآن وإن لم يسبق له ذكر فكذلك قوله : لولا كلمة قالها يعني قالها الله تعالى وإن لم يسبق ذكر قول الله تعالى ، ويجوز أن يصرف إلى قوله : والله يغفر له فيكون القول مصروفا إلى الاسم المذكور في قوله والله يغفر له ، ويكون الفائدة فيه أن لبث يوسف في السجن ما لبث لم يكن عقوبة لذنب كان منه ، وذلك سبقت ولا عتاب على تقصير في حق ، لكن لقضاء سبق وقدر مضى لما فيه من التدبير والحكمة منها ما ظهر ، والذي أستأثر الله تعالى بعلمه اكثر ، والله أعلم.
$حديث آخر$
قال : حدثنا علي بن محناج ، قال : حَدَّثَنا علي بن عبد العزيز ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قال : حَدَّثَنا جرير ، عن منصور ، عن أبي اسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى وتر يحب الوتر وأوتروا يا أهل القرآن.
|قال الشيخ الإمام الزاهد المصنف رحمه الله : الوتر : الفرد ، والفرد هو الذي لا يزدوج ، فالوتر هو الذي لا يشفع فالله عز وجل وتر لا يشفع بشيء من خلقه إذ هو الفرد الذي لا يزدوج بشيء ، وكل ما سواه من الأفراد يزدوج بشكل أو بضد ، وكل وتر غيره يشفع بخلاف أو وفاق ، فالله تعالى وتر إذ لا شكل له ولا ضد ، وكل وتر سواه فهو في نفسه ليس بفرد بل هو شفع لأنه مركب ويقبل التركيب ، والله تعالى |(1/120)
@ 121@يتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فهو فرد وتر واحد أحد لا يوصف بما يوصف به خلقه بوجه من الوجوه من جهة الفردية ، والوترية ، والوحدانية ، والاحدية ، فهو واحد متوحد ، فرد منفرد ، واحد متحد ، فيجوز أن يكون معنى قوله : إن الله تعالى وتر يحب الوتر أي : هو فرد واحد يحب من عباده كل فرد لا يزدوج بالمحدثات بمعنى السكون إليها ، والتشبث بها والاعتناق لها ، والعكوف عليها ، بل ينفرد عن الخلق فلا يسكن إليهم في معنى الضر والنفع ، وعن الدنيا فلا يميل إليها ، وعن حظوظ نفسه فلا يشغله عن واجب حق الله تعالى ، والله تعالى عز وجل أيضا وتر ، أي : فرد تفرد بخلق عباده ولم يكن له معين ولا ظهير ، وتفرد بهداية من هداه من غير شفيع ، ولا وزير ، وأنعم على المؤمنين بما لو عدوها لم يحصوها ، تفرد بكل ذلك وحده من غير علة فيجب من عباده كل وتر أي متفرد بعبادته له مقبل بكليته عليه قاصد بنيته وحده ناظر في جمع أحواله إليه مكتف عن جميع خلقه به لا يعرج في سره إليه عن شيء من الأشياء ولا يوافق حالا من الأحوال ولا يكون الدنيا منه على بال فيكون وترا لوتر وفردا لفرد.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : فأوتروا يا أهل القرآن يجوز أن يستدل خطر به على إيجاب الوتر ، كأنه يقول من كان أهل القرآن تلاوة له وإيمانا به فليوتر ، فأوجب الوتر كإيجاب قراءة القرآن ، ويجوز أن يكون معناه أفردوا الأعمال لله عز وجل ولا تشيبوها برياء ولا سمعة ، ولا تخلطوها بإرادة دنيا ولا همة حظ نفس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه.(1/121)
@ 122@وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل : أنا اغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل عملا واشرك فيه غيري فأنا منه براء وهو لمن عمل له.
|قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن ابراهيم ، قال : حَدَّثَنا إسحاق بن محمد الفروي ، وفي بعض النسخ الهروي ، قال : حَدَّثَنا ابن أبي الزناد ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل . . فذكر الحديث.
|فكان معنى قوله صلى الله عليه وسلم : أوتروا يا أهل القرآن أي : اخلصوا العمل لله تعالى ، ولا توتروا فيه ، وأفردوا له أعمالكم.
$حديث آخر$
قال حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن اسماعيل ، قال حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا إسحاق ، وهو حازم بن الحسين الحميسي ، وفي بعض النسخ الحمسي ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من قلب آدمي إلا وهو بين اصبعين من اصابع الله عز وجل فإذا شاء أن يثبته ثبته ، وإذا شاء أن يقلبه قلبه ، وإنما مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة في ريح عاصف تقلبها الرياح.
|قال الشيخ الإمام الزاهد المصنف رحمه الله : وصف النبي صلى الله عليه وسلم الرب بالأصابع كما وصف الله تعالى نفسه باليد والسمع والبصر ، فقامت |(1/122)
@ 123@الدلائل على أن يده وسمعه وبصره ليست بجوارح ، ولا أعضاء ولا أصابع ولا أجزاء ، إذ هو عز وجل واحد أحد صمد فرد بعيد عن اوصاف الحدث وعن شبة المخلوقين ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فعلينا الإيمان به والوصف له بما وصف نفسه به ونفي اوصاف الحدث عنه وتنزيهه عن التشبيه والكيفية والدرك إلا من حيث الإقرار به والإيمان والتصديق له ، فكذلك ما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإصبع فعلينا التسليم له ، وفي بعض النسخ الإسلام له ، والإيمان به والتصديق على انها صفة له على ما يستحقه ويليق به من غير كيفية ولا إدراك ولا تشبيه.
|أو هو صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق واعرفهم وأوصافه قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا اعلمكم بالله عز وجل ، وقال الله تعالى : {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [السجدة : 3 4] فالاصبع صفه لله عز وجل ، ومن صفاته العدل والفضل ، فيجوز أن يكون معنى قوله بين اصبعين أي : بين صفتين من صفات الله عز وجل ، ويعني الفضل والعدل وفي بعض النسخ ويعني بالصفتين العدل والفضل لقوله لقوله نقلبها فيكون التقليب عن حالتين مختلفتين ، وفي بعض النسخ بين حالتين مختلفتين مرة إلى كذا ، ومرة إلى كذا ، كما قال في حديث آخر : يقلبها الريح ظهرا لبطن ، فإذا قلب قلب عبد إلى هدي فهو فضل منه ، وإذا تقلبه إلى ضلال فهو عدل منه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ويسأله التثبيت ، فالله تعالى يقلب قلوب أعدائه بعدل ، والعدل صفة له ، فهو يقلب قلوبهم من حال إلى حال ، وكلها إرادة الشر بهم والضلال لقوله |(1/123)
@ 124@عز وجل : {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} [المائدة : 41] فهو يجعل في قلوبهم المرض ، ويقلبها من المرض إلى الزيغ ، ومن الزيغ إلى الدين ، والدين إلى أن يجعلها في اكنة ، ومنها إلى الطبع ، ومن الطبع إلى الختم ، وذلك عدل منه ، وهو يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، قال الله عز وجل {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} [البقرة : 10] ، وقال جل جلاله : {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف : 5] وقال عز وجل : {كلا بل ران على قلوبهم} [المطففين : 14] وقال جل جلاله : {وجعلنا على قلوبهم اكنة} [الإسراء : 46] وقال جل جلاله {بل طبع الله عليها بكفرهم} [النساء : 155] وقال عز وجل : {ختم الله على قلوبهم} [البقرة : 7] فهو عز وجل يفعل ذلك بالمنافقين والكافرين دون المؤمنين المخلصين ، وله أن يفعل ما يشاء إذ هو المالك لهم ، لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فعلى هذا يقلب قلوب أعدائه ومن سبق له من الله تعالى الشقاء فكفر وجحد وأشرك ونافق ، تعالى الله عن ظلم عباده علوا كبيرا ، ويقلب قلوب أوليائه بفضله من حال إلى حال إرادة الخير لهم ليهتدوا ويوفقوا ويزيدهم إيمانا قال الله تعالى : {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} [الفتح : 4] وتثبيتا لهم كما قال الله عز وجل {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [إبراهيم : 27] فقلوب أولياء المؤمنين المخلصين الذين سبقت لهم منه الحسنى تتقلب بين الخوف والرجاء ، واللين والشدة ، والوجل والطمأنينة ، والقبض والبسط ، والشوق والمحبة ، والأنس والهيبة ، والله تعالى يقلبها بفضله ، قال الله عز وجل : {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} [الانفال : 2] وقال الله تعالى : {ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر} [الزمر : 23] وقال تعالى : {أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} [الحجرات : 3] وقال الله تعالى : {ولا تأخذك بهما رأفة في دين الله} [النور : 2] وقال الله تعالى : {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد : 28] ، وقال {أفمن شرح الله صدره للإسلام} [الزمر : 22] وقال الله تعالى : {والذين آمنوا اشد حبا لله} [البقرة : 165] والله يقبض ويبسط ، يقبض قلوبهم بالخوف منه ، ويبسطها بالأنس به ، والذكر له ، فقلوب عباده تتقلب بين هاتين الصفتين العدل والفضل وهو يقلبها ، له الخلق والأمر |(1/124)
@ 125@بين الهدى والضلال ، ومنه التثبيت والإزالة ، له الحكم ، وإليه المصير ، وقلوب عامة المؤمنين تتقلب بين أحوال مختلفة بين يقين واضطراب ، وغفلة وتيقظ ، وسكون إلى الدنيا وميل إلى الآخرة ، مرة إلى هذا ومرة إلى هذا.
|قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : إنما سمي القلب قلبا لانه يتقلب.
|وقال بعض الحكماء : ما من شيء اشد على العبد من حفظ القلب بين ما يحول حول العرش حتى تراه يجول خوف [الجنس].
|وقال سهل بن عبد الله رحمة الله عليه : إنما على العبد ذم جوارحه ، وحفظ حدود الله ، وكف النفس عن شهواتها ، فإذا فعل ذلك حفظ الله تعالى قلبه ، واصلح سره ، وفي بعض الروايات : من صلح ربانيته اصلح الله تعالى جوانبه ، معناه من اصلح ظاهرة بذم جوارحه ، وحفظ حركاته ، اعانه الله تعالى على حفظ قلبه.
|وقال بعض الحكماء : استجلب نور القلب بدوام الحزن ، واستفتح باب الحزن بطول الذكر ، واطلب راحة البدن بإحجام القلب ، واطلب إحجام القلب بترك خلطاء السوء ، وقيل : موت القلب بالجهل ، وحياة القلب بالعلم.
|قال : حدثنا موسى بن محمد بن سماك الفقيه ، قال : حَدَّثَنا ابي ، قال : حَدَّثَنا الحسين بن سهل البصري ، قال : حَدَّثَنا عبد الرزاق ، قال : حَدَّثَنا أبو معمر ، عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن القلب يدثر كما يدثر السيف.
|وحدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا أبو بكر ، عن أبي المقلب ، عن عبيد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي امامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لقمان قال لابنه : يا بني عليك مجالس العلماء ، واستمع كلام الحكماء ، فإن الله تعالى يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر.(1/125)
@ 126@$ حديث آخر$
قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر الجزامي ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن موسى التيمي ، قال : حَدَّثَنا يعقوب بن عبد الله بن عمرو بن أمية الضمري ، عن جعفر بن عمرو ، عن أبيه عمرو بن أمية رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله أرسل ناقتي وأتوكل ، أو أقيد وأتوكل ، قال : بل قيد وتوكل.
|قال الشيخ الإمام الزاهد المصنف : اصل التوكل السكون على ما سبق من قضاء الله وقدره ، وهو أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وإذا تحقق العبد بذلك سكن منه الاضطراب ، وسقط عنه السكون إلى الأبواب.
|ومن صح توكله لم يلتفت إلى فوات حظه ، ولا إلى اصابته فيستوي فيه الامران جميعا ، لأنه إنما توكل على ما سبق وسكن إليه ، وهو لا يدري ماذا قضى الله تعالى له فوات حظه ، أو إصابته.
|فأما من توكل لتحرز من فوت ما عنده أو نيل ما ليس عنده فليس بمتوكل على الحقيقة ، أو قد يجوز في قدر الله تعالى فوت ما عنده وحرمان ما ليس عنده ، ولا مرد لقضاء الله ، ولا راد لحكمه فسواء توكل أو تمسك بالسبب واختلط في الطلب ، ألا يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما زرق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا . ومعلوم أن الطير لا توكل لها ، ولكنها لا تلتفت إلى فوات أو نيل ، فقال : لو كنتم كذلك غير ملتفتين إلى الأسباب ولا متعلقين بها ولا مضطرين فيما تكفل لكم من ارزاقكم لأدركتم ما قسم لكم من غير |(1/126)
@ 127@حرث ولا زرع ولا تكلف ، فأما التحرز لدفع المضار والمكاره ، وحفظ الحظوظ ونيلها فإنها ماذون فيها غير مدعو إليها إلا ما كان فيها منفعة للاغيار وصوتا للدين الوطني ، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة السابقين قال : هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ، ولا يكوون ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون.
|وقد رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم المعاوذ ، وكوى سعد بن الربيع غير انه قال : لا تلومن في أبي امامة ، يعني سعد بن الربيع فكوا ، يعني لأعزرن فيه ، فأخبر أن التوكل رفض هذه الاسباب ، لأن الرقي والكي إنما يستعملان رجاء العافية ، والمتوكل لا يبالي بالمرض والصحة ، وإنما يختار ما يكون ما لا يريد ويكون سكونه إلى ما سبق له من الله عز وجل من صحة أو مرض أو نيل أو فوات ، فإنها الأسباب التي جاء الترغيب فيها من المكاسب ، والحرف ، والتجارات فعلى شرط التعاون نصح ، والمتوكل يفعل هذه كلها لا يجتر بها نفعا إلى نفسه لكن لينفع الاغيار ، ويصون به عرضه ودينه.
|وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من طلب الدنيا حلالا استعفافا عن المسألة ، وسعيا على عياله ، وتعطفا على جاره ، لقي الله تعالى وجهه كالقمر ليلة البدر ، ومن طلبها حلالا مكاثرا مفاخرا ، لقي الله تعالى وهو عليه غضبان.
|فقد أخبر أن تناول الأسباب لصون الدين ، والعرض ، ونفع الغير ، فأما ما يتحرز به من الأفات فهو غير معول إليها إلا انه مأذون فيها إلا ما يتحرز به من آفات الأغيار.(1/127)
@ 128@وقوله صلى الله عليه وسلم قيد وتوكل إنما قال له ذلك لأنه كان يريد التوكل لأن لا تفوته فائتة ، وكان توكله لتحرز من الآفة لا سكون إلى المقدر فاحتاط له النبي صلى الله عليه وسلم والتحرر ، فقال : قيد لتبلى العذر في التحرز ، وتوكل لئلا تؤتى إن أتيت من جهة الخلاف وهو أن ترو إلى فعلك وتحرزك فيكون قد احكمت من الوجهين جميعا ، وكذا الواجب على كل مستشار أن يحتاط إلى المستشير ، ويدل على احكم الامور ، وأوثق الاسباب ، وأبعدها عن مواضع التلف ، لأن المستشير طالب للأرفق به مؤثرا له خائف من ضده لم يستكمل قوة التوكل والسكون إلى ما قدر له فهو كالمضطرب فيه.
|الا يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك : ابق عليك بعض مالك ، وقال لبلال : أنفق بلال ولا تخشى من ذي العرش إقلالا ، وقال له فيما خبأه له شيئا : أما تخشى أن يخسف به في نار جهنم ، وكان خبأ له شيئا من تحر لأنه صلى الله عليه وسلم كان مستكمل التوكل ساكنا إلى ما له عند الله عز وجل غير مضطرب فيه ، ولا ملتفت إلى نفسه ، بل كان نظره إلى ما يريد الله به سواء كان فيه رفقه أو غيره.
|وعلم من كعب بن مالك ميلا إلى رفقه وإيثارا لحظه ، فقال له : أبق بعض مالك لئلاء يضطرب سره ، وكذلك عمرو بن أمية حين قال : أقيد وأتوكل ، كأنه قال : يا أيها احتاط لنفسي بالقيد أو بالتوكل ، فقال : بكلا الأمرين ليتم سكونك ، ولا يضطرب سرك.(1/128)
@ 129@$ حديث آخر$
قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إبراهيم البكري ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل ابن جعفر ، عن عبد الله بن سلمة ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى لحذيفة المنافقين ، وقال : له : إياك أن تخبر أحد منهم حتى اذن لك فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لحذيفة في ذكرهم بذلك ، فلبث حتى كان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لي عمر : أنشدك الله عز وجل أنا فيمن سمى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لا والله ، والله لا أبرء منها رجلا بعدك.
|قال الشيخ الإمام الزاهد المصنف رحمه الله : يحوز أن يكون معنى قوله سمى لك ، أي : وصف لك صفتهم فأكون فيمن وصف ، أي هل في من اوصافهم شيء ، وقد يجوز أن يراد بالاسم الصفة لأن الاسم يدل على المسمى وكذلك الصفة ، وقد يعرف الشيء باسمه وصفته ، قلما كان كذلك جاز أن يوضع أحدهما موضع الآخر فكان عمر رضي الله عنه إنما استخبر حذيفة عن صفة المنافقين ليتوقيها ، وإن كانت فيه أزالها عن نفسه ، فأما النفاق فإنه قد كان متحققا متيقنا انه ليس فيه في الوقت ، ولا يجوز أن يكون منافقا فيما بعد بشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة فكيف يكون من بشر بالجنة منافقا ، والمنافق في الدرك الأسفل من النار.
|وخبر النبي صلى الله عليه وسلم يوجب التصديق والشك فيه كفر ، وقد يجوز أن يكون في المؤمن بعض أوصاف المنافقين ، وإن لم يكن منافقا ، وإنما أراد عمر رضي الله عنه أن يعرف صفة من أوصاف المنافقين ، وإن لم يكن منافقا ، وإنما أراد عمر رضي الله عنه أن يعرف صفة من أوصاف المنافقين التي اسرها النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين إلى حذيفة ، أو صفة علم حذيفة ممن سمي له النبي$
من المنافقين ، فإن كانت فيه أزالها عن نفسه وتحرز منها إن لم تكن فيه ، وهذا كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : رحم الله امرءا أهدى إلى عيوبي ، أي : يخبرني عيوبي فأتركها ، معنى هذا معنى الحديث.(1/129)
@ 130@$ حديث آخر$
قال : حدثنا علي بن محتاج ، قال : حَدَّثَنا علي بن عبد العزيز ، قال : مسلم بن ابراهيم ، قال : حَدَّثَنا هلال مولى ربيعة بن عمرو الباهلي ، قال : حَدَّثَنا أبو اسحق ، عن الحارث ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ملك زادا وراحلة يبلغه إلى بيت الله تعالى فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصراني ، وذلك أن الله تعالى يقول : {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران : 97] قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله معنى قوله فلا عليه يجوز أن يكون سواء عليه ، وقوله يهوديا أو نصرانيا معناه والله أعلم تشبيه وتقريب وليس بحكم كأنه يقول سواء عليه أن يموت على شريعة اليهود أو النصارى ، وذلك أن اليهود والنصارى لا يقرون الحج من شعائر دينهم ولا يتعبدون الله تعالى به إليه ، ويجحدون أن يكون الحج من فروض والطهارة وغيرها من شعائر الاسلام ، وإن كانت على خلاف ما عليه المسلمون ، فمن أقام من المسلمين شرائع الإسلام وترك الحج من غير عذر مع الاستطاعة إلى السبيل فكأنه جحده ، وإن أقر بلسانه فإنه بين الإقرار والجحود في الظاهر إلا إقامة ما أقر به وتركه ، فالتارك للحج مع الاستطاعة من غير عذر متشبه باليهود والنصارى ، ومن تشبه بقوم فهو منهم ، قول النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى قوله : فهو منهم أي يعد فيهم ومنهم لأن الناس إنما يعرفون ظواهر الخلق ولا يعلم سرائرهم وبواطنهم إلا الله ، ومن راؤه على فعل أو مع قوم رياء وفعلا عدوه منهم ، واجعلوه فيهم ، واحكموا عليه بحكمهم.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا يريد إن مات قبل أن يحج ولا عذر له فكأنه مات على شريعة اليهودي والنصارى وذكر الموت فيه على التوقيت فإن وقت الحج موسع وفواته بالموت . وإذا مات فقد فاته فكأنه تركه ترك جحود وإنكار ، لأنه قد أقام سائر الشرائع التي أقر بها فلما ترك هذا مع الإمكان |(1/130)
@ 131@فكأنه معرض عنه مستهين به مستخف بحقه ، فصار كالجاحد والمنكر له وهو اليهود والنصارى فتشبه بهم فعد منهم وفيهم . والله تعالى أعلم.
$حديث آخر$
قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن ابراهيم ، قال : حَدَّثَنا محمد ابن إسماعيل بن جعفر ، قال : حدثني أبو ضمرة ، عن ابن عجلان ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير مع أصحابه إذ سمع رجلا يلعن ناقته ، قال : فسار مع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم قال : أين اللاعن ناقته ، فقال الرجل : أنا هذا يا رسول الله ، قال : أخرجها عنا فقد اجبت فيها.
|قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله : يجوز أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم قد اجبت أي : حكم الله عز وجل عليك بطردها وإبعادها ، فإن اللعن هو الطرد عند أهل اللغة ، فكأن الرجل لما قال لناقته لعنك الله أوجب الله تعالى عليه طردها وإبعادها عقوبة له ، أو تأديبا لئلا يعود إلى مثله ، وهذا يدل على أن اللاعن ناقته كان له عند الله عز وجل حالة حسنة لأن في الحديث إذا لعن الرجل أخاه أو شيئا فإن كان ذلك أهلا له ، وإلا رجعت اللعنة إلى صاحبها أي : اللاعن ، هذا معنى الحديث . فلما لعن هذا الرجل ناقتة لم تكن الناقة أهلا للعن ، ولم ترجع على اللاعن لأنه لو كان أهلا لها لرجع عليه ، ولو رجع عليه لطرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه من بينهم ، فلما قال : اخرجها عنا ، علم انه لم يرجع عليه لقال له : اخرج عنا ، فلما لم يقل ذلك ، وقال : اخرجها ، فصار كأن الحكم وجب عليها ، وليست الناقة من أهل الخطاب فيقع عليها اللعن من الله تعالى ، وإنما وجب الحكم بطردها على الرجل ، فصارت متروكة مطرودة مبتعدة لا يجوز له الانقطاع بها من ركوب ، أو بيع ، أو نحر فحرم نفعها تأديبا له ، وقد قال بعض أهل اللغة : اللعن : الترك ، والملعون ، المتروك . % ( أفطتم هل تدرين كم من متلف جاوزت لامري ولا مسكون % غورية نجدية تصعيدة تصوية متشابه ملعون ) % |(1/131)
@ 132@يصف الطريق يقول انه متروك لا يسلك.
|وقوله صلى الله عليه وسلم قد اجبت فيها أي : أوجب الله تعالى عليك تركها والانتفاع بها ، قال : وأظن أن في بعض الروايات فحط عنها رحلة وكانت تسير لا ير فيها أحد ، أو كلاما هذا معناه قال :
|حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حماد ، عن ايوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض اسفاره إذ سمع لعنة ، فقال : ما هذا فقيل : فلانة لعنت راحلتها ، فقال : ضعوا عنها ، فإنها ملعونة قال : فوضع عنها . قال الراوي : فكأني انظر إليها ناقة ورقا.
|ففي هذا دليل انه حكم عليه بطردها وتركها والانتفاع بها فهي ملعونة ، أي : متروكة مخلا سبيلها.
$حديث آخر$
قال : حدثنا الفضل بن عمير بن عثمان المروزي ، قال : حَدَّثَنا إسماعيل بن أبي اويس ، قال : حَدَّثَنا ابي ، عن عاصم بن محمد ، عن عبد الله بن يسار مولى ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : اشهد لسمعت سالما يقول : قال عبد الله بن عمر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا ينظر الله تعالى إليهم يوم القيامة : الحالف بعد العصر كذبا ، ومدمن الخمر ، والمنان بما أعطى.
|قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله : يجوز أن يكون تخصيص الوقت للحلف كاذبا بعد العصر أراد به ختم عمله ، لأن بعد العصر آخر النهار ، وحلفه كاذبا في ذلك الوقت ختم عمل نهاره بعمل سيىء ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالخواتيم ، وفي رواية : خواتمها.(1/132)
@ 133@وقال : إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا قيد شبر ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ، فهذا الحالف في آخر نهاره قد ختم نهاره بعمل من أعمال أهل النار ، وعسى يكون هذا آخر نهار عمره فيكون آخره عمله عمل سيئ فلا ينظر الله إليه.
|وكذلك مدمن الخمر لأن من ادمن على عمل وأقام عليه أدركه الموت عليه ، وكان ذلك آخر عمله ، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : عاصر الخمر ومعتصرها ، والمدمن لها جامع لهذه الأوصاف فهو جامع لهذه الملاعن كلها ، وأقام عليها ولم ينتقل عنها فأدركه الموت فيختم له به.
|والمنان بما أعطى منازع لله تعالى صفته التي لا يستحقها غيره لأن المنة بالعطاء لا يستحقها إلا الله عز وجل وحده لأنه يعطي من ملك نفسه ، ويعطي ما يعطي من غير وجوب ، فإن الله عز وجل بواجب عليه فعل شيء إذ له أن يعطي وله أن يمنع ، فإذا أعطى من غير وجوب ، وأعطى من ملكه لا من ملك غيره استحق الامتنان ، فأما من دونه فإنه إذا أعطى أعطى من ملك غيره لا من ملك نفسه ، لأن ما في أيدي العباد فملكه على الحقيقة لله عز وجل ، وما أعطى أعطى بوجوب لأن الله تعالى أوجب عليه الاعطاء ، ومن أعطى ما أعطى من ملك غيره لم يجز له أن يمن على من اعطى ، ومن أعطى ما وجب عليه لم يستوجب المنة ، فهو إذا من بما أعطى كأنه أدعى لنفسه الملك والحرية وانتقى من العبودية ونازع الله تعالى في صفته فلا ينظر الله عز وجل إليه ، قال الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى} [البقرة : 264] |(1/133)
@ 134@وقوله : لا ينظر الله تعالى يفهم أي : لا يرحمهم ولا يتحنن عليهم ، ومعناه أن لا يرحم رحمة لا يعذبهم ، ولا يرحمهم رحمة لا يخلدهم في النار ، فيجوز أن لا يرحمهم عند الموت ، ولا يتحنن عليهم فينزل عليهم الملائكة بأن لا خوف عليكم ، ولا انتم تحزنون ، ولم يرحمهم إذا ادخلو حفرهم ، فقد قيل : ارحم ما يكون الله بعبده إذا دخل حفرته ، ورجع عنه مشيعوه ، ويجوز أن لا يرحمه في قبره ويرحمه في القيامة ، ويجوز أن لا يرحمهم في القيامة ويرحمهم بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أو يرحمهم بعد أن يدخلهم النار ، ثم يرحمهم بعد أن يدخلهم النار ، ثم يرحمهم بإيمانهم فيخرجهم من النار وقد امتحشوا على ما جاء في الحديث.
|وقوله في الخبر الآخر : فيعمل بعمل أهل النار إنما هو الكفر والجحود والشرك الذي لا يجوز أن يغفره الله تعالى ، لأن أهل النار على الإطلاق هم المخلدون فيها ، ولا يخلد في النار إلا كل كفار اثيم ، فأما أهل الصلاة فهم أهل الجنة على الحقيقة لأنهم إليها صابرون وفيها مخلدون ، ودخولهم النار تأديب لهم وتطهير ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أما أهل النار الذي هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ، وأما قوم يريد الله بهم الرحمة فإذا ألقوا فيها اماتهم الحديث ، فأخبر أن أهل النار هم الاشقون الذين يصلون النار الكبرى ، فلا يموتون ولا يحيون وهم الكفار ، وأما أهل الصلاة فليسوا من أهل النار بالحقيقة ، فإذا كان أهل النار هم الكفار كان عمل أهل النار على الإطلاق إنما يكون هو الكفر وسائر المعاصي دون الكفر فليس من عمل أهل النار على الإطلاق ، أو قد يجوز وقوعها من الأولياء وأفاضل المؤمنين ، ولا يجوز وقوع الكفر منهم إذ لا يجامع الكفر والإيمان وقد تجامع المعصية التي هي دون الكفر الايمان ، قال الله تعالى {خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} [التوبة : 102] وقال الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا توبوا توبة نصوحا} [التحريم : 8] وقال الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} [الصف : 2] وأمثالها في القرآن كثير.(1/134)
@ 135@$ حديث آخر$
قال حدثنا أبو العباس أحمد بن سباع بن الوضاج ، قال : حَدَّثَنا أبو عبد الله سليمان بن الاحوص ، قال : حَدَّثَنا أبو سعيد عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي ولقبه دحيم بن اليتيم ، قال : حَدَّثَنا الوليد قال : حَدَّثَنا الأوزاعي ، قال : حَدَّثَنا إسحق هو ابن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري ، قال ، حَدَّثَنا جعفر بن عياض ، قال : حَدَّثَنا أبو هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعوذوا بالله من الفقر ، والقلة ، والذلة ، وان تظلم وتظلم.
|قال الشيخ الإمام العارف رحمه الله : الفقر على وجوه منها عدم المال والمرافق ، وخلو اليد عن الاملاك ، ومنها عدم العلم وهو الجهل وهو الفقر الاعظم ، ومنها فقر الآخرة وهو الخسران المبين . فأما عدم المال وخلو الأيدي من الاملاك إذا قارنه الصبر وصح التوكل على الله والرضا بما قضى الله عز وجل فهو حلية الانبياء ، وزي الاولياء ، وشعار الصالحين ، وزين المؤمنين ، وفيما أوصى الله تعالى إلى موسى صلى الله عليه وسلم إذا رأيت الفقر مقبلا فقل : مرحبا بشعار الصالحين.
|وعن النبي صلى الله عليه وسلم : للفقر أزين للمؤمن من العذار الجيد على خد الفرس ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم من احبني فاقلل ماله وولده وإذاخلا الفقر عن هذه الخصال وكان معه التسخط على الله تعالى والتتبع لما نهى الله عنه والجزع فيه فهو الفقر المسيء الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمبادرته بقوله صلى الله عليه وسلم : بادروا بالأعمال خمسا ، هرما مقترا ، وسقما مفسدا ، وغنا مطغيا ، وفقرا مسيئا ، وموتا مجهزا ، والله تعالى أعلم بسياق الحديث ، فهذا يجوز أن يكون الفقر الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم |(1/135)
@ 136@بالاستعاذة منه ، وأما عدم العلم فهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم : كاد الفقر يكون كفرا فإن الجهل اقرب شيء إلى الكفر نعوذ بالله تعالى منه ، وأما فقر الآخرة فهو ما جاء في الحديث : اتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المفلس من أمتي يوم القيامة بصلواته وصيامه وزكاته ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، واكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيقعد فيقضى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن قضيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياه فطرح عليه ثم طرح في النار.
|قال : حدثنا نصر بن الفتح ، قال : أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا قتيبة بن سعيد ، قال : حَدَّثَنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتدرون من المفلس ؟ وذكر الحديث.
|فهو الفقر الذي يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عناه ، وامر بالتعوذ منه ، مع ما ذكرنا من القسمين . وأما القلة فيجوز أن يكون التكثر بالمال والاستغناء بالثروة والسكون إليه والاعتماد عليه فقد قال : عز وجل : {قل متاع الدنيا قليل} [النساء : 77].
|قال الحكيم رحمه الله : من استغنى بماله قل ، ومن اعتز بمخلوق ذل ، فمن أقل ممن استكثر بالقليل ، واستغنى من النذر الحقير.
|ويجوز أن يكون القلة القلة من الأعمال الصالحة ، وما عمل منها مدخول فيها ، فقد قال الله عز وجل في صفة قوم لا يذكرون الله إلا قليلا ، قال : قلت إذكارهم وما وقع منها فمراءاة ، والقليل مع الأخلاص كثير ، والكثير دون الإخلاص قليل ، وأما الذلة فالتعزز بالمخلوق ، والاستظهار بالنادي والعشير ، قال الله عز وجل : {فليدع ناديه سندع الزبانية} [العلق : 17 18] وقال عز وجل : {ليخرجن الاعز منها |(1/136)
@ 137@الأذل} [المنافقون : 8] فكأن الأذل هو الاعز عند نفسه نفسه بكثرة اتباعه وكثرة انصاره ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من اعتز بالمخلوق أذله الله ، وقال صلى الله عليه وسلم : من اعتز بمخلوق ذل ، ومن اهتدى برأيه ضل فالذلة هي التعزز بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا ، فهو كما قال الله عز وجل : {ضعف الطالب والمطلوب} [الحج : 73].
|ويجوز أن يكون الذلة الشذوذ عن الجماعة ، والاعتزال عن السواد الاعظم ، واتباع الهوى بمخالفة الكتاب والسنة والاتباع لغير سبيل المؤمنين فقد قال الله عز وجل : {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم} [النساء : 115] فلا أذل ممن رد إلى نفسه الأمارة بالسوء ، وانفرد في متابعة هواه وظلمه رأيه ، وانقطع عمن له العزة ، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فمن انقطع عن الله عز وجل بإعراضه عن كتاب الله عز وجل ، واعرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتركه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالف أولياء الله عز وجل باتباعه غير سبيلهم ، فهو الوحيد العزيز الشريد الطريد الحقير الذليل النذر القليل ، جليس الشيطان ، وبغيض الرحمن ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بالجماعة فإن الذئب يأخذ الشاة والعاصية.
|فيجوز أن يكون الذلة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعوذ منها متابعة الهوى في دين الله عز وجل ، والتعزز بما دون الله تعالى : {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان : 13].
|وقوله : إن تظلم أو تظلم والظلم أنواع منها : الشرك وهو اعظمه ، قال الله تعالى : {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان : 13] ، ومنها : ظلم عباد الله وهو الإفلاس بين يدي الله ، والمصير إلى عذاب الله تعالى ، ومنها ظلم المرء نفسه وهو الحيرة يوم القيامة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الظلم ظلمات يوم القيامة ، لأن من ظلم نفسه منعها حقها الذي أوجب الله تعالى عليه لها من |(1/137)
@ 138@إتيان ما أمر الله تعالى به فأتى يوم القيامة خلوا عن الأعمال التي نورها يسعى بين أيدي المؤمنين وبأيمانهم فبقي في ظلمة ، فإن قيل : أرجع وراءك فالتمس نورا ، فقد خاب وضر ، وأن تركه الله تعالى برحمته أضاء له إيمانه وأنار له توحيده فذلك فضل الله ، والله ذو الفضل العظيم ، فمن ظلم فاتته آخرته التي لها معاده فخسر خسرانا مبينا ، وضل في النار ضلالا بعيدا إذا ضر بها فنوقش وعذب أن يرحمه الله تعالى إن شاء برحمته التي وسعت كل شيء ، وإن ظلم احل بدنياه التي فيها معاشه فشقي وتعب ، أو يرفق الله تعالى به ، والله رؤوف رحيم.
|ففي أمره صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من أن تظلم أو تظلم إشارة إلى ضعف العبد وفقره ، وأنه لا بد له في الدنيا من مرافقة التي يصلح بها دينه ، وتقوم بها نفسه ، ويصون بها عرضه قال الله تعالى {وخلق الإنسان ضعيفا} [النساء : 28] ولا بد له في الآخرة مما يرجع إليه من رحمة الله ، وشفاعة رسول الله ، وعمل صالح قدمه لينال به ثواب الله عز وجل ، قال الله تعالى {يا أيها أنتم الناس الفقراء إلى الله . والله هو الغني الحميد} [فاطر : 15]$
حديث آخر$
قال : حدثنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا محمد ين عيسى ، قال : حَدَّثَنا سويد ، قال : حَدَّثَنا عبد الله ، قال : حَدَّثَنا خالد بن العلاء ، وفي بعض النسخ أبو العلاء ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كيف انعم وصاحب القرن قد التقم القرن ، واسمع الاذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا.(1/138)
@ 139@قال الشيخ الإمام العارف رحمه الله : في هذا الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه إلى الرجوع إلى الله تعالى ، والاعتماد عليه ، والتبرء من الحول والقوة والنظر إلى افعالهم ، والاعتماد على اعمالهم ، والسكون إلى شيء دون الله في احوالهم ، ألا يرى انهم لما غيروا وألقوا بأيديهم وتثاقلوا في نفوسهم لم يدلهم على عمل من أعمالهم يرجعون إليه ، ولا امرهم بفعل شيء من أفعالهم يعتمدون عليه بل ردهم إلى الله ، وصرفهم عما سواه إليه فقال : قولوا حسبنا الله إظهارا للافتقار ، وإقرارا بالاضطرار ، وانه لا نجاة من الله إلا بالله ، ولا مفر منه إلا إليه قال الله تعالى : {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين} [الذاريات : 50]$
حديث آخر$
قال : حدثنا محمد بن اسحق الخزاعي ، قال : حَدَّثَنا سعيد بن مسعود المروي ، قال : حَدَّثَنا اسحق بن منصور السلوي ، وعبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن عبد الرحمن ، عن المنهال ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن أبي هريرة إن شاء الله رضي الله عنه قال : قيل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل أنت شافع لأبويك ؟ قال : إني لشافع لهما اعطيت أو منعت وما ارجوا لهما النجاة عن النار بالكلية.
|قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله : يجوز أن يكون أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : إني لشافع لهما في الدنيا ، وذلك قبل أن ينهاه الله تعالى عن الاستغفار لهما بقوله : {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى القربى} [التوبة : 113] الآية . وهذا كما استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه بقوله : {واغفر لأبي إنه كان من الضالين} [الشعراء : 86].
|وقوله : وما ارجوا لهما لأن استغفاره لهما كان بعد موتها فلم يرج لهما إذا ماتا على غير الإسلام ، واستغفر لهما رقة عليهما وفي بعض النسخ رأفة وقضاء لحقهما إذ لم يدركمها فيحسن معاملتها ويصاحبهما في الدنيا معروفا وكان استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه في حياته لموعدة وعدها إياه بقوله : {سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا} [مريم : 47] فلما مات تبين انه عدو لله تبرء منه لأنه مات على شركة لم يتب منه تبرء منه وترك الاستغفار له ، والنبي عليه السلام علم من أبويه ما علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أبيه غير انه أراد قضاء حقهما فنهاه الله تعالى عنه فانتهى والله الموفق.(1/139)
@ 140@$ حديث آخر$
قال حدثنا نصر ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا محمد بن المسثنى ، قال : حَدَّثَنا أبو داود ، قال : حَدَّثَنا أبو سنان الشيباني ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : رجل : يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيسره فإذا اطلع عليه اعجبه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : له اجران اجر السر ، واجر العلانية.
|قال الشيخ الإمام العارف رحمه الله : يجوز أن يكون سروره الذي يؤجر عليه سروره بتوفيق الله عز وجل إياه على اصلاح سريرته ، وأن الله تعالى جعله من الذين حسنت سرايرهم وما ظهر منها لم يكن قبائح وقبائح ، فكثير من الناس يفتضحون إذا ظهرت سرايرهم لأنها تكون فيائح اسروها فيما بينهم وبين الله تعالى ، وإن حسنت ظواهرهم فهذا إذا ظهرت سريرته ووافقت علانيته واستويا في الحسن سر بذلك لأنها من أوصاف المؤمنين ، أعني موافقة السر والعلانية على ما يرضى الله تعالى ، فيكون سروره على حسن إيمانه وتوفيق الله عز وجل إياه بتحسن العمل في السر كتحسين عمله في العلانية ، فيكون ذلك امارة الإيمان.
|قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سرته حسنته فهو مؤمن فيكون سروره لله عز وجل دون أن يكون لحسن ثنائه من الناس أو تعظيم عندهم أو إجلال في اعينهم.(1/140)
@ 141@ويجوز أن يكون معناه أن العمل إذا صح في أوله لم يضره فساد يكون بعده لأن الرياء هو ما يفعله العبد من العلم ليرائي به الناس ، ويكون ذلك قصده ومراده ، ما كان كذلك لم يكن لله تعالى ، وما لم يكن لله تعالى فمحبط باطل ، قال الله تعالى : {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى} [البقرة : 264] فأما ما وقع من العمل لله تعالى وإرادة الدار الآخرة لم يلحقه فساد يكون بعده ولم يحبطه شيء دون الشرك نعوذ بالله تعالى منه عند أهل السنة والجماعة لقوله تعالى : {خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} [التوبة : 102] ولو كان الأمر على ما تزعم المعتزلة من إحباط الطاعات بالمعاصي لم يجز اختلاطهما واجتماعهما ، فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم أجران أي أن عمل السر قد خلص لله تعالى فلا يلحقه فساد ، وسروره بحسنته إذا ظهرت حسنة أخرى فصار له بذلك أجران.
$حديث آخر$
قال # حدثنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن نصر النيسابوري وغيره واحد ، قالوا : حَدَّثَنا أبو مسهر ، عن إسماعيل بن عبد الله بن سماعة ، عن الاوزاعي ، عن قرة ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
|قال الشيخ الإمام الأجل العارف رحمه الله : يجوز أن يكون معنى قوله : تركه ما لا يعنيه من أوصاف الناس وأقوالهم فلا يكاد يذكرهم ولا ينظر إلى عيوبهم ، ولا يعترض عليهم في أخلاقهم لأنه قد أسلمهم إلى الله تعالى ، فيكون الله عز وجل هو الذي يطالبهم بصدقهم في أفعالهم ، وصحة أعمالهم ، ويقيم أمر الله تعالى فيهم ويشفق عليهم وينصح لهم ، ويقبل منهم ظواهرهم ، ويوكل سرايرهم إلى الله تعالى فإنها ليست مما يعنيه ، فإذا كان كذلك سلم المسلمون من لسانه ويده ، فهو المسلم والإسلام له صفة والحسن لإسلامه صفة ، فهو لما حسن إسلامه في إسلام خلق الله تعالى إلى الله ترك ما لا يعنيه من البحث عن سرائرهم ومطالبة الصدق إذا صلحت |(1/141)
@ 142@ظواهرهم ، والإعراض عن مختلف أحوالهم إلا فيما يلزمه فرض أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر في رقيق بهم ، وشفقة عليهم ، وإرادة الصلاح لهم ويجوز أن يكون معنى حسن اسلام المرء حسن تسليمه وذلك أن الله تعالى قال : {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} [التوبة : 111] الآية ، فقد اشترى الله منهم نفوسهم فعليهم تسليم المبيع وقد بيع البايع الشيء ويلتوي في تسيلم المبيع حتى ينتزعه المشتري منه بحق البائع ، فأما من حسن تسليمه سلم المبيع أوفر ما كان وأتمه في سعة من صدره وطيبة من نفسه خاصة إذا علم انه استحق من الثمن أضعاف أضعاف القيمة ، فمتى حسن إسلام المرء حسن تسليم نفسه إلى الله عز وجل غير ملتو ولا متربص ، قال الله تعالى لخليله إبراهيم صلوات الله عليه : {اسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم ويعقوب} [البقرة : 131 132] ، ومن حسن تسليمه أن لا يعترض على الله تعالى في أحكامه عليه وقضاياه فيما ساء ، وسريان الاعتراض منه على الله تعالى في تسخط قضائه والتأتي لمعقول أحكامه هو الذي لا يعنيه ، لأن المشتري إذا أحدث فيما اشتراه من هدم بناء فيه أو تغيير شيء منه أو نقض فيه ، أو إبرام فاعترض البايع فيه مما لا يعنيه من قوله لم فعلت وإلا صنعت كذا ، ولو فعلت كذا وليتك صنعت كل ذلك مما لا يعنيه.
|فحصل معنى قوله صلى الله عليه وسلم : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه على هذا الموضع الرضا بأحكام الله تعالى ، والتلقي بالبشر والسرور ، ثم القضاء والصبر تحت أثقال ما يكرهه ، والاستسلام والانقياد بذل العبودية للملك القهار فيما يجريه من أحكامه في جميع خلقه من أرضه وسمائه وفي نفس العبد مما يؤلمه ويلذه أو يسره ويحزنه.
|قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما : وأيم الله ما هو إلا الفناء والفقر ، وما ابالي بأيهما ابتليت . وفي بعض النسخ : ابتديت.
|فهذا من حسن الإسلام أن لا يعترض على الله ولا يختار تسليما لنفسه إليه وتفويضا لأمره إليه كما ندب النبي صلى الله عليه وسلم إليه فيما.
|حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن اسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا شريك وأبو الاحوص ، عن أبي اسحق ، عن البراء ، قال الحماني : وح شريك ، عن عبد الله بن حبشي ، عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله |(1/142)
@ 143@صلى الله عليه وسلم قال لرجل : إذا آويت إلى فراشك فقل اللهم إني اسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك ، وألجأت ظهري إليك ، وفوضت أمري إليك رغبة ورهبة منك وإليك ، لا ملجأ ومنجا منك إلا إليك ، وفوضت أمري إليك رغبة ورهبة منك وإليك ، لا ملجأ ومنجا منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي ارسلت ، فإنك إن مت مت على الفطرة ، زاد أبو الاحوص وإن أصبحت أصبت خيرا.
|وقوله : أسلمت نفسي إليك تسليم المبيع إلى المشتري طوعا.
|وقوله : وجهت وجهي إليك هو الإقبال عليه والإعراض عما دونه.
|وقوله : ألجأت ظهري إليك هو الاعتماد عليه.
|وقوله : فوضت أمري إليك هو التوكل عليه رغبة إليه دون ما سواه من ملاذ النفس ومرافقها ورهبة منه لا من الآم النفوس ومكارهها ، لأن من سلم نفسه وفوض أمره فمطالبته حظوظ نفسه واتساق أموره مما لا يعنيه ، إذ ليس ذلك له وإليه ومن توجه إليه واقبل عليه لم يلتفت إلى شيء دونه ، ومن كان كذلك لم تكن رغبته في شيء دونه ولا يريد غيره ولا يطلب إلا رضاه ، والقربة منه والذلفى لديه ، ومن اعتمد في أحواله عليه وتوكل فيما يعامله به عليه فقد احترز من جميع المكاره ، بل تفرغ منها له فلا يخاف شيئا سواه ، ولا يرهب إلا منه لأنه ما عنده باق ، وإنما ينفذ ما عند غيره فهذا عبد لا يرى غير ربه ولا يطالع غير سيده ولا يراقب إلا مولاه ، فكأنه ليس في الدار غيره ولا للملك سوآه.
|قال الله تعالى : {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر : 16] ، فاليوم يوم ، وغدا يوم ، والأيام كلها يوم واحد ، لا مصرف لها إلا واحد ، ولا مدبر فيها إلا واحد ، فله الملك اليوم يفعل في خلقه ما يشاء من تعريف عباده وتغيير الأحوال في بلاده ، ويفعل فيهم ما يشاء ويحكم فيهم ما يريد له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ، وله الملك غدا إذا افنى عباده وطوى بلاده لا أحد ينازعه ولا مجيب يجاوره ، فالملك اليوم وغدا لله الواحد القهار لا ملجأ منه ولا منجا يخاطبه من الله إلا إليه منه المفر وإليه المقر ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين تبارك الله رب العالمين.(1/143)
@ 144@$ حديث آخر$
قال حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا الحسين بن علي بن الجعفي ، عن مجمع بن يحيى الأنصاري ، قال : سمعته يذكر عن سعيد بن أبي بردة ، عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب ثم قلنا لو انتظرنا حتى نصلي معه العشاء فانتظرناه فخرج علينا فقال : ما زلتم ههنا ؟ قال : قلنا : نعم يا رسول الله نصلي معك العشاء ، قال : أحسنتم أو احييتم ، ثم رفع رأسه إلى السماء ، وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء ، قال : النجوم أمنة لأهل السماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون ، وأنا امنة لاصحابي ، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون.
|قال الشيخ الإمام الزاهد المصنف رحمه الله : يجوز أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم : النجوم امنة لأهل السماء أي أنها لا تنفطر ولا تنشق ولا يموت أهلها ما دامت النجوم فيها باقية ، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون ، لقوله تعالى : {إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت} [التكوير : 1] ثم قال : {وإذا السماء كشطت} [التكوير : 11] وقال تعالى : {إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت} [الانفطار : 1] فهذا ذهاب النجوم وما يوعدون أهل السماء فقوله {فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا ما شاء الله} [الزمر : 68] وقوله تعالى : {كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران : 185] وقوله تعالى : {كل من عليها فإن ويبقى وجه ربك} [الرحمن : 26] فهذا الوعد إنما يأتيها إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات الآية فإذا انتثرت النجوم تفطرت السماء وصعق من فيها.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : إنا أمنة لأصحابي يجوز أن يكون من اختلاف قلوبهم ، والتقاطع بينهم ، والتشاجر فإنهم كانوا في حياته مؤتلفين متفقين |(1/144)
@ 145@متواصلين متبادلين ، قلوبهم على قلب واحد ، ليس فيها همة دنيا ، ولا عزة نفس ، ولا نظر إلى شيء فستوى لله تعالى ، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرت قلوبهم.
|قال : حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال حَدَّثَنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ما نفضنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي وأنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.
|قال الشيخ الإمام رحمه الله : وتغيرت أحوالهم ومالوا إلى الدنيا وافترقت آراءهم حتى تقاطعوا أو تشاجروا ، وتواثبوا على الملك حتى تقاتلوا وجعل بعضهم يضرب وجه بعض ، فهذا الذي وعدوا.
|فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.
|وقال ستلقون بعدي أثرة ، وأمورا تنكرونها.(1/145)
@ 146@وقال : الخلافة بعدي ثلاثون سنة.
|وقال : إن أمتي مرحومة إنما عذابها في القتل والزلازل والفتن.
|وذلك لأن العذاب لو كان في الآخرة لكان لا ينفعهم الندامة.
|قال حدثناه محمد بن نعيم بن ناعم ، قال : حَدَّثَنا أبي ، قال : حَدَّثَنا عثمان بن أبي سليم ، عن شيبة ، قال : حَدَّثَنا الحسن بن موسى ، قال : حَدَّثَنا سعيد بن زيد ، قال : حَدَّثَنا ليث بن أبي سليم ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
|فيجوز أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم أتى أصحابي ما يوعدون هو تغير قلوبهم وتفرق أهواءهم وتشاجرهم ، وما لا خفاء به بما ظهر فيهم مما أخبرهم به ووعدهم انه كائن فيهم ، كقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : لتقاتلن الناكثين والفاسقين والمارقين.
|وقوله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه : عسى يقمصك الله قميصا من بعدي فإذا أرادك المنافقون على خلفه فلا تخلفه ثلاث مرات.
|قال : حدثناه محمد بن أحمد البغدادي ، وفي بعض لنسخ أحمد بن محمد ، قال : حَدَّثَنا أبو العباس محمد بن طاهر بن أبي الدميك ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن زياد ، قال : حَدَّثَنا فرج بن فضالة ، عن محمد بن الوليد الزبيدي ، عن الزهري ، عن القاسم بن محمد عن النعمان بن بشير ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان ذلك.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : أصحابي أمنة لأمتي يعني من الاختلاف في الدين فظهور البدع والأهواء المردية فقد كانت الأمة في زمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على ما فارقوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحنفية السمحة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم : وأيم الله لأتركنكم على البيضاء |(1/146)
@ 147@ليلها ونهارها ، وكانت الأمة على ذلك في حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ذهب أصحابه ظهرت الأهواء والبدع ، واختلفوا في الدين ، وتفرقوا في الأراء والديانات ، فكفر بعضهم بعضا ، وتبرأ بعضهم من بعض ، فصاروا فرقا شتى ، وهو الذي وعدوا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم افترقت الأمم على واحد وسبيعن فرقة ولا تموت أمتي حتى تفترق على مثلها ، وقال صلى الله عليه وسلم تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، وقال صلى الله عليه وسلم : يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الاسنان ، سفهاء الاحلام ، يقولون من خير قول البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، وقال صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر ، وذراع بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن اليهود والنصارى ؟ قال : فمن الناس إلا اليهود والنصارى.
|قال حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن حماد ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن بكير ، قال : حَدَّثَنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي حازم ، عن عمرو بن شعيب ، عن ابيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لتتبعن سنن من كان قبلكم وذكره.
|فهذا إن شاء الله معنى أتاهم ما يوعدون فالذي وعد أهل السماء هو تفطرها وصعقهم ، ولا يكون ذلك إلا إذا تناثرت النجوم ، فالنجوم لها امنة ما دامت قائمة ثابتة مسيرة ، والذي وعد أصحابه الاختلاف بينهم ، والتنازع وقتال بعضهم بعضا ،.(1/147)
@ 148@وقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير لتقاتلنه وأنت له ظالم ، يعني عليا رضي الله عنه وقال لعائشة رضي الله عنها : كيف بك إذا نبحت عليك كلاب حوأب ، وقال لعمار : تقتلك الفئة الباغية فهذا الوعد الذي اتاهم ، ولم يأتهم إلا بعد ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم ، فكان صلى الله عليه وسلم أمنة لهم من ذلك حياته.
|والذي وعد أمته ظهر ، والأهواء والبدع ، فقد قال : صلى الله عليه وسلم : صنفان من أمتي لا ينالهم شفاعتي المرجئة والقدرية ، وقال صلى الله عليه وسلم : يخرج في آخر الزمان قوم نبزهم الرافضة.
|قال حدثنا علي بن محتاج ، قال : حَدَّثَنا علي بن عبد العزيز ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، قال : حَدَّثَنا عمران بن زيد ، قال : اخ الحجاج بن تميم ، عن ميمون ابن مهران ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : يكون قوم في آخر الزمان يسمون الرافضة يرفضون الإسلام يلفظونه فاقتلوهم فإنهم مشركون وأمثاله كثيرة ولم تظهر هذه الأهواء إلا بعد ذهاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا امنة للأمة من ذلك حياتهم والله الهادي.(1/148)
@ 149@$ حديث آخر$
قال : حدثنا محمد بن أحمد البغدادي ، قال : حَدَّثَنا أبو عبد الله محمد بن خلف المروزي ، قال : حَدَّثَنا كامل بن طلحة ، قال : حَدَّثَنا عباد بن عبد الصمد ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم طبقات أمتي خمس طبقات كل طبقة منها أربعون سنة ، فطبقتي وطبقة أصحابي أهل العلم والايمان ، والطبقة الثانية إلى الثمانين أهل البر والتقوى ، والطبقة الأخرى إلى العشرين ومائة أهل التراحم والتواصل ، والطبقة الأخرى إلى ستين ومائة أهل التقاطع والتدابر ، والطبقة الأخرى إلى المائتين أهل الهرج والهرب ، ثم تربية جرو في ذلك الزمان خير من تربية ولد.
|قال الشيخ الإمام الزاهد المصنف رحمه الله : العلم تبين الشيء كما هو ، والإيمان التيقن به وهو التصديق له ، فالعلم للقلب بمنزلة البصر للرأس فما أدركه البصر سمي رؤية ، وما أدركه القلب سمي علما ، واليقين للفؤاد بمنزلة العلم للقلب فما أدركه الفؤاد سمي يقينا ، والفؤاد داخل القلب وباطنه والقلب ظاهره والصدر ساحة القلب ، فيجوز أن يكون معنى قوله$
: فطبقتي وطبقة أصحابي أهل العلم والإيمان أي : هم ارباب القلوب ، وأصحاب المكاشفات والمشاهدات لأن العلم بالشيء لا يقع إلا بعد كشوف ذلك المعلوم ، فظهوره للقلب كما أن الرؤية للبصر لا يقع للبصر إلا بعد ارتفاع الموانع والسواتير بينه وبين المرئي إذ بعد شهود الفؤاد كما أن المرئي تعرض فيه الشكوك والخواطر واليقين شهود الفؤاد للشيء المعلوم ، فقد يجوز أن يعلم الشيء ويعترضه فيه الشكوك والخواطر لبعده عن البصر أو علة تحدث في البصر وكأن المرئي محدودا له كيفية ، فإذا شهد الرأي المرئي شهود حضور ولم يحدث في البصر علة رأى الشيء كما هو ، فاليقين للعلم بمنزلة الشهود للبصر فإذا شهد القلب المعلوم وأبصره بعين الفؤاد الذي هو اليقين زالت عنه العوارض والشكوك فصدق به ، فالعلم صفة للقلب السليم ، والقلب السليم هو الذي ليس له |(1/149)
@ 150@إلى الخلق نظر ولا للنفس عنده خطر ولا للدنيا فيه اثر قال لله تعالى : {إلا من أتى الله بقلب سليم} [طه : 69] ، واليقين صفة للفؤاد الشاهد قال الله عز وجل : {أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق : 37] قيل : شهيد الفؤاد أي : رأي له قال الله تعالى : {ما كذب الفؤاد ما رأى} [النجم : 11] . فوصف الفؤاد بالرأية الحقيقة التي لا يشهوبها خاطر شك ولا عارض ريب فالعلم والإيمان صفتان للقلوب السالمة والأفئدة الشاهدة ، فدل ذلك على قوله صلى الله عليه وسلم : أهل العلم والإيمان انهم أرباب القلوب السليمة التي كشفت لها استار الغيوب حتى صار الغيب لهم شهودا ، وأنهم أصحاب افئدة الشاهدة الحاضرة لما كوشف لها الموقنة بها المصدق لها كأنها لها حاضرة ، وهي لها شاهدة.
|فقد قال حارثة : عزفت نفسي عن الدنيا فكأني انظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتنعمون ، وإلى أهل النار يعذبون.
|وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : إنا كنا نترائى الله تعالى في ذلك المكان يعني في الطواف.
|وقال علي رضي الله عنه في ابن عباس رضي الله عنهما : كأنه ينظر إلى الغيب من دون ستر رقيق.
|فهذه أوصاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن ليس من عاينهم فما ظنك بالصديق الاكبر ، والفاروق ، وذي النورين الانور ، والعلي الازهري إلى سائر العشرة المشهود لهم وأصحاب الشجرة المرضي عنهم رضوان الله عليهم أجمعين.
|قال : حدثنا خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا صالح بن محمد ، قال : حَدَّثَنا علي بن الجعد ، قال : أخ أبو بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن ذر بن حبيش ، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال : إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب ، فبعثه نبيا فاصطفاه لنفسه واستخلصه وانبعث بالرسالة ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلب أصحابه خير قلوب العباد وفي رواية : خير قلوب المؤمنين فجعلهم وزراء لنبيه صلى الله عليه وسلم يقاتلون على دينه فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله |(1/150)
@ 151@حسن ، وما رآه المؤمنون سيئا فهو عند الله سيىء ، وفي بعض النسخ : المسلمون سيئا فهو عند الله سيىء.
|وقوله وأهل البر والتقوى أي : انهم ارباب النفوس ، والمجاهدات وأصحاب المعاملات والمكابدات ، فالبر هو صدق المعاملة لله تعالى ، والتقوى حسن المجاهدة في الله تعالى ، قال الله تعالى : {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر إلى قوله وأولئك هم المتقون} [البقرة : 177] فأخبر عز وجل أن البر هو صدق المعاملة لله تعالى ، وهذه أوصاف ارباب المعاملات ، وقد قال الله تعالى : {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت : 69] ، وقال الله تعالى : {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} [النازعات : 40].
|فهذا حسن التقوى فكأنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن الطبقة الثانية انهم ارباب المعاملات وأصحاب المجاهدات ، ووصفه للطبقة الثالثة بالتواصل والتراحم دليل على أنهم عاملوا الله تعالى بواسطة الدنيا في العزوف عنها والترك لها وواسطة الخلق بالشفة عليهم والبذل لهم ، سخطت الطبقة الثالثة بالنفوس فبذلوها لله تعالى بتحمل أفعاله وانصبوها في المثول بين يديه ، واتعبوها بالخدمة له ولم يبلغوا درجة الطبقة الأولى في مشاهدات القلوب ، وسخطت الطبقة الثالثة بالدنيا فبذلوها لخلق الله تعالى شفقة عليهم ونظر إليهم ولم يبلغوا درجة الطبقة الثانية في بذل النفوس ، فكانوا في سخاوة الدنيا على صنفين فصنف سخت عليها نفوسهم فتركوها لأربابها ، وصنف سخت بها أيديهم فبذلوها لطلابها ، فالصنف الأول أهل التواصل لأنهم لما تركوها واعرضوا عنها سلموا من التقاطع ، إذ كان سبب التقاطع مجاذبة الدنيا بينهم ومنازعتهم فيها ومقاتلهم عليها.(1/151)
@ 152@قال عمر رضي الله عنه : ووقف على من علا فأخذ من كان معه بالفهم ، فقال : ما لكم هذه دنياكم التي تنازعتم عليها ، فأخبر أن مجازتها بينهم سبب التقاطع فتركها لطلابها سبب التواصل ، والصنف الثاني أهل التراحم لأن الدنيا لما حصلت في أيديهم بذلوها شفقة عليهم ورحمة لهم ، فهم أهل التراحم فيما بينهم فكأنه صلى الله عليه وسلم وصف طبقته وطبقة أصحابه انهم ارباب القلوب ، وانهم أصحاب المكاشفات والمشاهدات ، ووصف الطبقة الثانية انهم ارباب النفوس ، وانهم أصحاب المجاهدات والمعاملات ، ووصف الطبقة الثالثة انهم أهل بذل وسخاء وشفقة ووفاء ، والطبقة الرابعة أهل تنازع وتجاذب فصاروا أهل تقاطع وتدابر ، لأنهم لما اقبلوا على الدنيا قطعتهم عن الآخرة وانقطعت الأخوة التي أوجبها الإيمان بتنابحهم على الدنيا وتنافسهم فيها وأدبروا عن الآخرة بإقبالهم عليها.
|قال حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حَدَّثَنا عبد الصمد بن الفضل ، وإسماعيل بن بشر قالا : حَدَّثَنا مكي بن إبراهيم ، قال : حَدَّثَنا هشام بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : والله ما الفقر أخاف عليكم ولكن أخاف عليكم أن يبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما اهلكتهم.
|قال : حدثنا محمد بن عبد الله الفقيه ، قال : حَدَّثَنا أبو يعلى بالموصل ، قال : حَدَّثَنا المؤمل ، قال : حَدَّثَنا أبو الربيع الزاهراني ، قال : حَدَّثَنا حماد ، قال حَدَّثَنا هشام ، والمعلا بن زياد ، عن الحسن رضي الله عنه قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الصفة فقال : السلام عليكم فقالوا : وعلبك السلام يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كيف انتم إذا غدى على أحدكم بقصعة وريح بأخرى ، وغدى في حلة وراح في أخرى ، وكيف انتم إذا نجدتم بيوتكم كما تنجد الكعبة قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على الاسلام ، قال : نعم قالوا : نحن يومئذ خير نعطى ونشكر . قال : بل انتم يعني اليوم خير لكم إذا كان كذلك تحاسدتم وتدابرتم وتباغضتم وتنافستم.(1/152)
@ 153@أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن التدابر والتقاطع سببه الدنيا ومنافستهم فيها ، والطبقة الخامسة يصير التقاطع والتدابر من اجلها تهارجا وتقاتلا حتى تقتل عليها بعضهم بعضا ويتهاربون ضنا بهم ، ويتدابحون حرصا عليها فتربية جرو خير من تربية ولد ، لأن الجرو يألف من يريبه ويحرس صاحبه ويذب عنه ، والولد إذ ذاك ينفر من أبيه ويقطعه ويجفوه ويخاصمه ، بل يقاتله إذا فتربية جرو يحرسك خير من تربية ولد ينهك وتربية من يذب عنك خير من تربية من يثب عليك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
$حديث آخر$
قال حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حدثنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا أبو الاحوص ، وأبي عن الاعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن الحارث بن سويد قال : سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لله افرح بتوبة عبده من رجل نزل بدوية مهلكة معه راحلته فأضل راحلته فطلبها حتى أدركه الموت ، فقال : ارجع إلى مكان رحلي فأموت فيه ، فرجع فنام فاستيقظ فإذا راحلته فوق رأسه عليه طعامه وشرابه.
|قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله : الفرح سرور يكون عقب حزن وكأبة وغم ، وأكثر ما ترد لفظة الفرح إنما ترد عقب اهتمام وحزن ، وكذلك قالوا ما من ترحة إلا وبعد فرحة ، وذكر في الحديث أن الله تعالى يفرح بتوبة العبد ، ودل الحديث على الذي قلناه لأن الذي اضل راحلته في دوية مهلكة فاضل طعامه وشرابه يكون في غاية من الحزن والأسف والغم ، فإذا وجدها سر بذلك غاية السرور فعبر عن عظم السرور الذي هو بعد عظم الحزن والكأبة والغم والفرح ، ثم كان السرور عبارة عن بسط الوجه وسعة الصدر واستنارة الوجه ، وإنما قيل سرور لأن المسرور بالشيء يستنير وجهه وبرق اسارير وجهه وهي عروقه ، والفرح معظم السرور وغايته ، والنبي صلى الله عليه وسلم وصف الله تعالى بالفرح فهو صفة الله تعالى علي ما يستحقه ويليق به بخلاف ما يعرف من الخلق وبخلاف ما يقع تحت اوهامنا وتدركه عقولنا ، ويجوز أن يكون ذلك عبارة عن بسط الرحمة من الله تعالى وإفاضتها على العبد وحسن القبول من الله لعبده وإقباله عليه وإكرامه له وبره إياه إذا اقبل عليه العبد ورجع إليه.(1/153)
@ 154@فمعنى الحديث والله أعلم إخبار عن كرم الله تعالى وفضله ومحبته لعبده المؤمن وكرامته عليه وعظم منزلته عنده وجليل قدره ومحله منه حتى يكره إعراضه وذهابه عنه ويحب منه إقباله عليه ودنوه منه وإيثاره إياه ، لأن من اضل راحلته وطعامه وشرابه ثم اصابها اقبل عليها وألزمها قربه وجعلها نصب عينيه ، وأوجب على نفسه حفظها وعماها عما ينفرها عنه ، فاخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى المحبة أن لعبده المؤمن بكره ذهاب عبده منه وإعراضه عنه مع غناه وحاجة عبده إليه ، وانه لا يتركه في عصيانه وإعراضه وذهابه عنه ، بل يرده إليه ويقبل به عليه ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم تطلبها إن شاء الله وانه إذا رجع إليه واعرض عما سواه واقبل عليه قبله الله عز وجل مكرما له معظما قدره مقبلا عليه مرضيا له وجعله في حفظه وكنفه ورعايته ، وعصمه عما ينفره عنه وعما يريد الذهاب به عن غرور الدنيا ومكايد العدو وخدع النفس وفتنة الخلق ، ويجعله من خواصه ويحول بينه وبين ما يرد به ، ومن محبته لعبده المؤمن يريد منه إقباله عليه ومواجتهه إياه ونظره إليه ، ولا يتعاظمه ذنبه وإن كثرة وعصيانه له وان عظم إذا رجع إليه وأقبل عليه أن يغفر له . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى حيث قال الله تعالى يحب المفتن التواب.
|قال حدثنا به بكر بن محمد بن حمدان ، قال : حَدَّثَنا محمد بن الفرج الأزرق ، قال : حَدَّثَنا الواقدي ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن إسماعيل ، عن عبد الله بن أبي سفيان ، عن يزيد بن ركانة ، عن محمد بن الحنفية ، عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى يحب المفتن التواب.
|والمفتن التواب مقبل على الله مواجه له راجع في كل وقت إليه كلما صرفته عنه فتنة ردته إليه توبة ، والتوبة هي الرجوع إلى الله تعالى ، وكذا الأوبة والإنابة غير أن التوبة يقال عند الرجوع من المناهي والمعاصي بالاستغفار ، والأوبة اكثر ما يقال عند الرجوع من حالة الطاعة إلى الله تعالى بالشكر والحمد والعبد بين حالتين حالة طاعة ، وحالة معصية ، وهما صنفان للعبد لا يكاد ينفك منهما والعبد مأمور بالرجوع إلى الله تعالى في كل وقت ، وفي كل حال ، قال الله تعالى : {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور : 31] فمن رجع إلى الله من صفته التي هي المعصية |(1/154)
@ 155@فهو تواب ، ومن رجع إلى الله تعالى من صفته التي هي الطاعة فهو أواب ، قال الله تعالى في قصة أيوب صلوات الله عليه وسلامه {نعم العبد إنه أواب} [ص : 30 ، 44] فالموصوف بالمعصية مأمور بالرجوع إلى الله تعالى بقول : استغفر الله ، والموصوف بالطاعة مأمور بالرجوع إلى الله تعالى بقوله : الحمد لله ، وذلك أن من أقام على صفته التي هي المعصية ولم يرجع منها إلى الله تعالى فهو مصر ، ومن سكن إلى صفته التي هي الطاعة ، ولم يرجع فيها إلى الله تعالى فهو إما مرائي أو معجب أو مشرك.
|فمن نظر إلى الخلق في حال الطاعة فهو مرائي ، ومن نظر إلى نفسه فهو معجب ، فمن أراد بها عوضا غير الله تعالى فهو مشرك ، ومن نظر من حال المعصية إلى الله تعالى بالخوف والرهبة والحياء فرجع إلى الله بالندم والاستغفار فهو حبيب الله ، قال الله عز وجل : {إن الله يحب التوابين ويجب المتطهرين} [البقرة : 222] ومن نظر إليه في حال الطاعة بروية المنة وشهود التوفيق بالشكر له والثناء عليه فهو حبيب الله محسن ، قال الله عز وجل : {والله يحب المحسنين} [آل عمران : 148] وفي هذا دليل على محبة الله للمؤمن لأن المحب يحب إقبال محبوبه عليه ، ونظره إليه ، ويكره إعراضه عنه ، واشتغاله بسواه بدونه ، ونظره إلى غيره فالله عز وجل من محبته لعبده المؤمن يكرن له نظره إلى غيره واشتغاله بسواه ، وان كان فيما أمر به وندب إليه ويحب له رجوعه وإقباله عليه ، وإن كان فيما نهى عنه وزجر منه قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن الله عز وجل : عبدي إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة لقيتك بمثلها مغفرة ، قال الله تعالى : {يا عبادي الذين اسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله أن الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم ، وانيبوا إلى ربكم} [الزمر : 53] الآية.
|قال حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا معلى بن منصور ، عن ليث بن سعيد ، عن محمد بن قبيس ، عن أبي ضمرة |(1/155)
@ 156@عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم أو بخلق يذنبون فيغفر لهم.
|دل هذا الحديث على ما قلناه من محبة الله تعالى للمؤمن لأنه إذا اذنب اعتذر إليه وتاب ، وأقبل عليه وتضرع واستكان وعلق له فالله تعالى يحب هذا من العبد وخبايته لا تقدح في محبته له ، لأن الخباية من العبد والمحبة من الله تعالى له ، ولا تقدح أوصاف المحدث الضعيف الحقير في أوصاف القديم اللطيف الخبير.
$حديث آخر$
قال حدثنا بكر بن حمدان المروزي ، قال : حَدَّثَنا احيد بن الحسين البامباني الشيخ الصالح ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن الجراح ، قال : حَدَّثَنا عبد الملك بن عمرو ، عن سفيان ابن سعيد ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الدنيا ملعونة معلون ما فيها إلا ما كان منها لله.
|قال الشيخ الإمام الزاهد المنصف رحمه الله : يجوز أن يكون معنى الدنيا في هذا الحديث ملاذ النفوس ، وشهواتها ، وجميع حطامها ، وزهرتها ، وما ذكر في قوله عز وجل : {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث} [آل عمران : 14] ، وحب البقاء فيها فتكون هذه الأشياء هي الملعونة إذا كانت للنفوس ، وشهواتها ، ولذة الطبع ، |(1/156)
@ 157@والتلهي بها ، والشغل فيها ، والحب لها ولم تكن لله تعالى ، ولا فيه لأن الدنيا في الحقيقة هي الحياة الأولى التي يليها الموت والفناء ، والآخرة هي الحياة الباقية التي ليس لها زوال ولا فناء.
|ويجوز أن يكون معنى قوله الدنيا ملعونة أي مرفوضة متروكة وما فيها ، أي : ما في الحياة الأولى من هذه الشهوات والملاذ والحطام وما ذكر في الآية ملعون ، أي : متروك يجب تركها ورفضها والإعراض عنها ، فإن الله عز وجل على هذا حث ، وإليه ندب وفي رغب ، وعنها زهد ، فقال الله عز وجل : {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء} [يونس : 24] ، وقال : {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} [محمد : 36] ، وقال الله تعالى {فلا يغرنكم الحياة الدنيا} [لقمان : 33] ، وقال تعالى : {ليبلوكم ايكم احسن عملا} [الملك : 2] ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيكم احسن للدنيا تركا ، وعنها إعراضا ، واللعن عند العرب الترك ، والمعلون : المتروك ، كذا قال بعض أهل اللغة وانشد يصف المغارة . % ( غورية نجدية تصعيده % تصويبه متشابه ملعون ) % يصف طريقا ترك سلوكه حتى اشتبه وصار ما ارتفع منه وانخفض شيئا واحدا.
|فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم الدنيا ملعونة أي : متروكة يجب تركها إلا ما كان منها لله وهو ما كان عدوه للطاعة لله عز وجل وعونا على إقامة ما أمر الله به ، ويجوز أن يكون معنى قوله متروك أي : هي متروك الأنبياء والأولياء والأفاضل من الناس فإنهم تركوها ، ورفضوها ، واعرضوا عنها ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن لهم الدنيا ولنا الآخرة ، وما أنا والدنيا أو ما مثلي ومثل الدنيا إلا كمثل راكب نزل تحت شجرة ثم سار وتركها.
|قال حدثنا محمد بن حبان ، قال : حَدَّثَنا الحسن بن سفيان ، قال : حَدَّثَنا أبو سعيد يحيى بن سليمان الجعفي ، قال : حَدَّثَنا عمرو بن عثمان بن عثمان بن أبي سعيد الجعفي ، قال : حَدَّثَنا عمي أبو مسلم عبيد الله بن سعيد بن مسلم الجعفي ، عن الأعمش ، عن |(1/157)
@ 158@حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
$حديث آخر$
قال : حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : أبو معاوية ، عن الاعمش ، عن أبي يحيى مولى جعدة بن هبيرة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قالوا : يا رسول الله فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها ، قال : هي في النار قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانة تصلي المكتوبات وتصدق بالاثوار من الاقط ولا تؤذي جيرانها ، قال : هي في الجنة.
|قال : حدثنا حاتم ، قال : يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى قال : حَدَّثَنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، عن أبي صالح فيما نعلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن فلانا يصلي الليل كله فإذا اصبح سرق ، قال : سينهاه ما يقول.
|قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله : يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم من التي تؤذي جيرانها إعجابا بعملها من صوم نهارها وقيام ليلها ، وأنها إنما كانت تؤدي جيرانها أزدراء بهم وتصغيرا لهم وتحقيرا إياهم برؤية الفضل لها عليهم فاستوجبت النار بذلك ، والذي كان يقوم الليل ويسرق إذا اصبح ينظر إلى نفسه بعين التقصير ، ويعلم أن ما يأتيه من السرقة معصية يجب عليه التوبة منها ، والرجوع عنها وان قيامه بالليل لرؤية افتقاره إلى الله تعالى وطلبا للخلاص مما يرى انه لو يستوجب بسرقته هذا من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وقد أوجب الله تعالى التوبة عليهم بقوله عز وجل : {عسى الله أن يتوب عليهم} [التوبة : 102] وعسى من الله |(1/158)
@ 159@واجب ، وأما التي تؤذي جيرانها فإنها لا يرى أذاها منها لهم معصية فترى عليها توبة منها ، لأنها إنما كان أذاها لجيرانها على معنى استدعائها منهم تعظيما ، ورفع قدرها ، وتحمل مؤنها لرؤية الفضل لها عليهم فباينها موتها ، وهي مصرة فتستوجب النار.
|فيجوز أن تكون المؤذية جيرانها إنما اعجبت بصلاتها وصيامها احبط أعمالها إعجابها فلم يحصل لها عمل يعود ببركته عنها فينهاها عن إيذائها جيرانها ، والذي يسرق إذا اصبح حصل له عمله افتقاره إلى الله تعالى ، وإشفاقه على نفسه فعادت بركة ما حصل له من صالح عمله الذي خلطه بسيئة ، فنهاه صالح عمله عن سيئة.
$حديث آخر$
قال : حدثنا محمد بن عمر المعدل ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن عبد الله بن مالك ، قال : حَدَّثَنا اسحق بن إبراهيم الشامي ، قال : اخ على بن حرب الموصلي ، قال : حَدَّثَنا موسى بن داود الهاشمي ، قال : حَدَّثَنا ابن لهيعة ، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عامر ابن عبد الله بن الزبير ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الصلاة قربان كل تقي ، والحج جهاد كل ضعيف ، وجهاد المرأة حسن التبعل ، الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر ، من أيقن بالخلف جاد بالعطية ، حصنوا أموالكم بالزكاة ، ما عال امرئ اقتصد ، التقدير نصف العيش وفي رواية نصف المعيشة ، والتودد نصف العقل ، والهم نصف الهرم ، وقلة العيال أحد اليسارين ، من احزن والديه عقهما ، من ضرب يده عند المصيبة حبط عمله ، لا يكون الصنيعة إلا عند ذي حسب ودين كما لا تطهر الرياضة إلا في التحبب ، ينزل الرزق على قدر المؤنة ، وينزل الصبر على قدر المصيبة ، ومن قدر رزقه الله تعالى ، ومن بذر حرمه الله تعالى ، الأمانة تجر الرزق ، والخيانة تجر الفقر ، ولو أراد الله تعالى بالنملة صلاحا ما انبت لها جناحا ، فهذه أحد وعشرون خصلة وهي من جوامع الكلم.
|قال الشيخ الإمام الزاهد المصنف رحمه الله : قول صلى الله عليه وسلم الصلاة قربان كل تقي من افضل الأعمال المقربة إلى الله تعالى ، قال الله تعالى : {واسجد واقترب} [العلق : 19] |(1/159)
@ 160@وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اقرب ما يكون العبد إلى الله تعالى إذا قال في سجوده رب ظلمت نفسي فاغفر لي والتقى تقيان تقي على الإطلاق ، وتقي على التقييد ، فمن اتقى الله في سره وعلانيته وبذل مجهوده في أداء فروضه واجتناب مناهيه فهو تقي على الاطلاق ، ومن لم يستكمل هذه الخصال واتقى الشرك فهو تقي على التقييد ، فالتقى المطلق مقبول عمله ، فعلمه قربة له فصلاة هذا التقي على الإطلاق لقوله تعالى : {إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة : 27] ومن قبل عمله فعمله قربة له فصلاة هذا التقي له قربان من غير شرط ، لأنه وعد من الله ، والله لا يخلف الميعاد ، والتقي المقيد هو الذي يقال له : اتق الشرك يقيد له قبول عمله بالمشيئة فإن قلبت صلاته كانت صلاته قربانا ، وإن ردت عليه لم تكن ، فالصلاة قربان كل تقي مطلق على الإطلاق لا محالة وعدا من الله صدقا ، ويجوز أن يكون قربان من اتقى الشرك أن قبل الله تعالى صلاته فضلا من الله ورحمة.
|ويجوز أن يكون معنى قوله الصلاة قربان كل تقي أي : أن الصلوة من التقي المعدم تقوم مقام الضحايا والنسائك لأن التقي إذا وجد تقرب إلى الله بكل وجه فهو يتقرب إلى الله تعالى بكل وجه فهو يتقرب إلى الله تعالى بالضحايا والنسائك والصدقات وإن لم يجد كانت تلك بنية إن وجد فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن العبد يهم بالحسنة فتكتب له حسنة وإن لم يعملها كتبت له عشرا ، فهذه صلاته تقوم له مقام القرآن لأنه بذل مجهوده في التقرب إلى الله تعالى.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : الحج جهاد كل ضعيف الجهاد تحمل الآلام بالبدن والمال دون بلوغ أقصى الغاية فيه إذ فيه بذل الروح وكل المال ، قال الله تعالى : {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله ويقتلون} [التوبة : 111] ومن ضعف عن هذا الجهاد لزمانة أو عذر فالحج له جهاد ، إذ فيه تحمل بعض الآلام ، وبذل بعض المال ، وحسن التقبل من المروءة تحمل الألام فيما تكرهها وتشق عليها ، فهو منها جهاد إذ لا جهاد عليها ، جهاد قتل.(1/160)
@ 161@وقوله : الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر والرامي بلا وتر متمن للترمي وليس برام ، إذ لا يمكنه الرمي من غير وتر فكأنه يتمنى أن يرمي فإن عزم على الرمي وأراده اعد الوتر ثم رمى ، فكذلك الداعي من غير عمل متمن بلوغ ما يدعو فيه ، وليس بمريد لما يدعو فيه ولا عازم على الطلب له ، فإن صحت إرادته لما يدعو فيه عزم على الطلب له وعزيمته عليه عمل صالح يقدم بين يدي دعوته.
|وقوله : من أيقن بالخلف جاد بالعطية الخلف خلفان ثواب في الأجل وعوض في العاجل ، والله عز وجل وعدهما جميعا {وما انفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ : 39] فهذا في عوض العاجل ، وقال عز وجل : {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة : 261] ، فهذا في ثواب الآخرة ، وعوض العاجل أن يخلف الله عليه عشرة لواحدة ، لقوله عز وجل {من جاء بالحسنة فله عشر امثالها} [الأنعام : 160] أو يبارك له في الباقي فيقوم الواحد مقام العشرة وينوب الواحد مناب عشرة ، فمن شاهد هذين الخلفين ببصر قلبه أسرع إلى العطية لأن اليقين بصر القلب.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : حصنوا أموالكم بالزكوة للمال مستحقان المساكين والحوادث ، فالطالب بحق المساكين هو الله تعالى ، والحوادث يأتي بها الاقدار وهي يد الله تعالى ، والمؤذي حق المساكين مرض لله عز وجل لمحو الله ما يشاء ، ويثبت ، أو يجريها على وقوع الحوادث فجعلها بهذه ، وقد قال الله عز وجل : {ما عندكم ينفذ وما عند الله باق} [النحل : 96] ، ويخلف منها ويلهم الصبر عليها ويعظم الثواب فيها ، فالزكوة حصن لها إن بقيت عنده ، وهي لها احصن إن حصلت عند الله تعالى.
|وقوله : ما عال امرئ اقتصد يجوز أن يكون معنى قوله اقتصد ، أي : قصد فيكون معناه من قصد الله عز وجل بالثقة به ، والتوكل عليه لم يحوجه إلى غيره ، بل قام بكفايته ، وسد خلته فقد قال الله تعالى : {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق : 3] وقال تعالى {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق : 3] ، يجوز أن يكون معناه من يتق الله في الإقبال عليه والإعراض عن من سواه يجعل له متسعا ويرزقه من عنده ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم |(1/161)
@ 162@: لو توكلتم على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير الخبر فمن قصد الله تعالى بالتوكل عليه والثقة به لم يصبه عيلة ، والعيلة اختلال الحال والحاجة إلى الناس.
|وقوله : التقدير نصف العيش كمال العيش شيئان مدة الأجل وحسن الحال في هذه المدة ، والتقدير هو التوسط بين التقتير والتبذير ، قال الله عز وجل : {والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا} [الفرقان : 67] ، وحسن الحال مهنأ ما يمكنه في عاجله ، والمسرف يحرم ثواب نفقته من آجله والبركة في عاجله ونبوات البركة ، والمهنأ فوات حسن الحال ، وبحصولهما حصول حسن الحال ، وحسن الحال أحد نصفي العيش وكماله استكمال مدة الأجل.
|وقوله صلى الله عليه وسلم التودد نصف العقل إقامة العبودية لله تعالى وحسن المعاملة مع خلق الله تعالى ، فإقامة العبودية لله تعالى شيئان ، الوفاء في الأمر بالأداء ، والرضا في الحكم والقضاء ، وحسن المعاملة كف الأذى وبذل الندي ، ومن كف أذاه وبذل نداه وده الناس ، فكأنه من احسن معاملة خلق الله فقد جاز نصف العقل فإن أقام العبودية لله عز وجل استكمل جميعه وقوله صلى الله عليه وسلم : اللهم نصف الهرم ضعف ليس وراءه قوة لأنه انحلال القوى ، وهي إذا انحلت لم تنعقد والهم يضعف ضعفا يجوز أن يكون وراءه قوة ما لم تحل القوى فإذا حل لهم القوى فهو الضعيف الذي ليس وراءه قوة ، فإن لم يحلها وزال الهم عادت القوة ، والهم إذا نصف الضعف الذي جميعه انحلال القوى وفسادها.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : قلة العيال أحد اليسارين اليسار خفض العيش واليسر فيه وهو زيادة الدخل على الخرج ، أو وفاء الدخل بالخرج ، فمن كثر دخله وقل أو كثر عياله فضل له من دخله ، أو وفي دخله بخرجه ، ومن قل دخله وقل عياله وفي دخله بخروجه ، أو فضل من دخله وخفض عيشه ويسر.(1/162)
@ 163@وقوله من احزن والديه فقد عقهما العقوق قصد الجفا للأبوين ، وفي الجفا لهما إدخال الألم عليهما والحزن ألم ، فمن احزنهما من غير قصد الجفاء فقد ألمهما ، والألم عقوق.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : من ضرب يده عند المعصية فقد حبط عمله ثمرة العمل ثوابه ، وثواب المصيبة في الصبر عليها ، قال الله تعالى : {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر : 10] وضرب اليد عند المصيبة جزع ، ومن جزع عند المصيبة لم يستحق الاجر ، فالجزع مبطل ثواب المصيبة ، ومن فاته الثواب على عمله فقد حبط عمله.
|وقوله : لا يكون الصنيعة إلا عند ذي حسب ودين كما لا تطهر الرياضة إلا في التحبب من الدواب وما ليس بتحبب فلا تقع فيه ، فرياضة لا تفيد معنى ويتعب الرايض والغرض من الضيعة ثواب الأجل وشكر العاجل ، فمن قصد بصنيعته ثواب الأجل اصطنع إلى ذي الدين فصان به دينه فيعظم ثوابه ، ومن قصد شكر العاجل اصطنع أي ذي حسب فصان بن عرضه ، فحسن شكره ، ومن اصطنع إلى غير هذين فكأنه يقصد الغرض من الصنيعة إذ لم يصبن بها دنيا ولا عرضا ، ومن لم يصبن بالصنيعة دينه ولا عرضه فكأنما لم يصطنع.
|وقوله ينزل الرزق على قدر المؤنة أن الله تعالى جعل لكل ذي روح رزقا من غداه ، أو ملك ، أو جميعهما فمن حصل عنده ذوو الأرواح حصل له ارزاقهم.
|وقوله : ينزل الصبر على قدر المصيبة صفة الإنسان الجزع ، قال الله تعالى : {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا} [المعارج : 19] فمن جوهره وصفته الجزع ، وأما الصبر فبالله يكون.
|قال الله تعالى : {واصبر وما صبرك إلا بالله} [النحل : 127] فمن عظمة مصيبته ينزل الصبر على قدرها ، وفيه تنبيه للصابر إن صبر على عظم مصيبته بالله تعالى ، لا به.
|وقوله من قدر رزقه الله تعالى ، ومن بذر حرمه الله تعالى قليل النفقة في المعصية تبذير وكثيرها في ضياعة تقدير ، فمن أطاع الله تعالى فوضع النفقة في حقها اتقاه ، ومن اتقاه رزقه من حيث لا يحتسب ، ومن لم يطع الله تعالى فأنفقه في غير حقه فقد |(1/163)
@ 164@عصاه ، ومن عصاه لم يخلف عليه في الدنيا ولا استحق الثواب في العقبى ، فقد حرم المبذر ثواب الاجل ، وخلف العاجل وزق المقدر الخلف في العاجل والثواب في الأجل.
|وقوله الأمانة تجر الرزق الأمانة ذم الجوارح ، وكف النفس عن الشهوات ، وهو التقى ، والتقي مرزوق ، لأن الأمانة تستجلب القلوب إلى نفسه ، والجناية تنفرها ، والجناية تجر الفقر ، والجناية تضيع الجوارح ، والانهماك في الشهوات ، والفقر والحاجة إلى غير الله تعالى ، وتضييع الجوارح ومتابعة الشهوات إعراض عن الله تعالى ، ومن اعرض عن الله تعالى أقبل على غير الله ، ومن اقبل على غيره افتقر ، لأن من دون الله فقير ، قال الله تعالى : {يا أيها الناس انتم الفقراء إلى الله} [فاطر : 15].
|وقوله صلى الله عليه وسلم : لو أراد الله تعالى بالنمة صلاحا ما انبت لها جناحا النمل مساكنها تحت الأرض واحترازها عن الآفات ، وفي لزوم مسكنها فإذا ظهرت على وجه الأرض تعرت للآفات ، قال الله عز وجل : {قالت نملة يا أيها النمل ادخلو مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده} [النمل : 18] ، فإذا نبت لها جناح نهضت للطيران على ضعف فسقطت في ماء فغرقت ، أو في نار واحترقت ، أو في فم طائر فابتلعها ، أو بعدت عن مساكنها فلم يهتد إليها ، وفي هذا فسادها وهلاكها.
|ويجوز أن يكون مثلا لكل متعد طوره ، ومجاوز قدر بنظره إلى نفسه بقوة يحدثها الله تعالى له من عمر ، أو الة.
|قال الله عز وجل {إنما نملي لهم ليزدادوا اثما} [آل عمران : 178] وقال الله عز وجل {أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} [المؤمنون : 55] وقوله لو أراد الله بالنملة صلاحا ما أنبت لها جناحا دليل على بطلان القول بالأصلح ، وان الله تعالى يفعل بمن شاء ما شاء من صلاح أو غيره ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.(1/164)
@ 165@$ حديث آخر$
قال حدثنا محمد بن محمد الازهري ، قال : حَدَّثَنا محمد بن يوسف ، قال : حَدَّثَنا سهل بن حماد أبو عتاب ، قال : حَدَّثَنا المختار بن نافع ، قال : حَدَّثَنا أبو حبان التيمي ، عن ابيه ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله عثمان تستحيه الملائكة.
|قال الشيخ الإمام العارف رحمه الله : كان عثمان رضي الله عنه مقامه مقام الحياء ، والحياء نزع يتولد من إجلال من يشاهده وتعظيم قدره ونقص يشاهده من نفسه فكأنه رضي الله عنه غلب عليه إجلال الحق عز وجل وتعظيمه وازدراء بنفسه ونظر إليها بعين النقص والتقصير ، وهما جليل خصال العباد الذين هم خصصاه ومن قربه الحق عز وجل إلى نفسه ، وأدنى منزلته منه فجل قدر عثمان ، وعلت رتبته فاستحيا منه خاصة الله تعالى من خلقه وخصائصه من عباده ، كما أن من احب الله تعالى احبه اولياءه ، ومن خاف الله تعالى خافه كل شيء فقد جاء في الحديث : إن الله تعالى إذا احب عبدا أمر مناديا ينادي في أهل السموات ألا إن الله تعالى احب فلانا فأحبوه فمن احبه الله احب الله عز وجل ، ومن احب الله عز وجل احبه خاصته وأولياءه ، فكذلك قيل من خاف الله تعالى خافته المخاوف ، وفي الحديث : إن النار تقول : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.(1/165)
@ 166@فكذلك من استحى من الله عز وجل استحي منه خاصة الله عز وجل وخالصته من خلقه ، ألا يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه عثمان رضي الله عنه وفخذه مكشوفة غطاها حياء من عثمان وقال : الا استحي ممن تستحي منه الملائكة.
|والحياء حياءان ، حياء من الله تعالى ، وحياء من الناس ، فالحياء من الله تعالى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه فيما :
|حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا مروان بن معاوية ، ويعلى بن عبيد ، عن ابان بن اسحق ، عن الصباح بن محمد ، عن مرة ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استحيوا من الله تعالى حق الحياء قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نستحي ، قال : ليس ذلك ولكن من استحى من الله تعالى حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى ، وليحفظ البطن وما وعى ، وليذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة فليترك زينة الدنيا ، فمن فعل ذلك فقد استحى من الله تعالى حق الحياء.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله فهذا الحياء من الله تعالى وسنفسره فيما بعد إن شاء الله تعالى ، أما الحياء من الناس فهو أن يتحصن عن إتيان ما يشينه وهو يجمع الأخلاق الحسنة ، ويحجز عن مساويها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستحي فاصنع ما شئت.(1/166)
@ 167@وقال : لكل دين خلق وإن خلق الإسلام الحياء ، وذلك لأن حقيقة الإسلام حسن الخلق ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، إذا فالحياء ترك القبايح والسيئات ، وإتيان المحاسن والخيرات ، وهذا خلق الإيمان والإسلام ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : الحياء خير كله.
$حديث آخر$
قال المصنف رحمه الله : جاء عبد الله بن محمد بن يعقوب ، قال : حَدَّثَنا محمد بن منصور البلخي والفضل بن عمير المروزي ، قال : حَدَّثَنا أبو الوليد الطيالسي ، قال : حَدَّثَنا أبو عوانة ، عن الاعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أتى إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا فادعوا له ، ومن سألكم بالله فأعطوه ، ومن استعاذكم بالله فأعيذوه ، ومن دعاكم فأجيبوه.
|قال الشيخ رحمه الله : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمكافأة من أتى إليك معروفا ، والمكافأة مقابلة بمثل ما أتى به إليك لأن المكافأة هي المساواة ، ومن أتى إليك من الناس معروفا فاصطنع إليك صنيعة فإنه محتاج إلى مثل ما أتى إليك كحاجتك |(1/167)
@ 168@إلى ما اصطنع عندك لأن اصطناعه إليك في نفع يجره إليك ، أو ضر يدفعه عنك ، أو خلة يسدها لك ، وهو ذو خلة مثلك ومحتاج إلى دفع ونفع كانت ، فإن قابلته بمثله أتيت إليه بمثل ما أتى إليك فقد ساويته ، والنعمة لله عليك في الأذن له باصطناع المعروف إليك ، فالمنعم عليك بها هو الله سبحانه ، والشكر لله عليك فمرض واجب ، والشكر رؤية النعمة من المنعم والتزام العبودية لله تعالى بالطاعة فيما أمر ونهى ، والحمد له بالثناء عليه ، والاعتراف برؤية التقصير في شكره ، لأن شكرك لله نعمة من الله عليك يجب عليك شكرها ، وهذه ليست لها غاية حد ، فالاعتراف بالتقصير لازم فيه فحق الله فيه الشكر له على هذه الشريطة ومن المصطنع مكافئته بمثله ، فإن عجزت من مكافأته فالإحالة على الله وهو الدعاء له ، فكأنك تقول : أنا عاجز عن مكافأته وأنت عليه قادر فكافئه عني وجازه به.
|وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا قال لأخيه : جزاك الله خيرا ، فقد بلغ في الثناء.
|حدثناه محمد بن عمر البجيري ، قال : حَدَّثَنا أبو مسلم الكجي ، قال : حَدَّثَنا سعيد بن سليمان العطار ، قال : حَدَّثَنا موسى بن عبيدة الربذي ، عن محمد بن ثابت ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قال الرجل لأخيه : جزاك الله خيرا ، فقد بلغ في الثناء.
|وقوله : من سألكم من الله فأعطوه إجلالا لله تعالى وتعظيما له ، وإيجابا لحقه.
|قال الشيخ الإمام رحمه الله : فيجوز أن يحمل معناه على معنى من سألكم في الله فأعطوه فيكون الباء بمعنى في أي من سألكم في طاعة الله ، وفي إقامة أمره ، وفي إظهار منار الدين وسبل الخير فأعطوه ، وليس يجب إعطاء السائل إذا كان في معصية ، أو فضول.(1/168)
@ 169@فمن سأل بالله فيما ليس عليه ولا عليك فريضة ، فإعطاك إياه لإجلال حق الله وتعظيمه ، وليس عليك بفرض ولا حتم من سال فيما وجب عليك ، وعلى السائل فرضة فإعطاؤك إياه فرض عليك ولازم لك لا يجوز منعه.
|وقوله ومن استعاذكم بالله عند ضرورة حلت به أو ظلم لحقه فاعيذوه ، فإن إغاثة الملهوف فرض واجب ، والإعاذة وإعطاء السائل من فروض الكفاية التي يسقط عنك إذا قام به غيرك.
|وقوله ومن دعاكم فأجيبوه يجوز أن يكون معناه من دعاكم للإستعانة بكم يجوز إعانته فأجيبوه كما قال تعالى : {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة : 2].
|ويجوز أن يكون معناه من دعاكم إلى طعام فأجيبوه كما :
|حدثناه حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا حفص ، قال : حَدَّثَنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه قال : إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب ، فإن كان مفطرا فليأكل ، وإن كان صائما فليدع وفي رواية فليصل.
|قال الشيخ الإمام رحمه الله : فهذا يتجه إلى وجهين : أحدهما : أن من دعي إلى طعام تكلف الداعي له ، وكان المقصود فيه المدعو فعليه إجابته ولا يسعه التخلف عنه ، لأن فيه إضرار بالداعي ، وربما أحزنه ، ولا يجوز إضرار المؤمن ولا تحزينه.
|وإن كان المقصود غيره والتكلف سواه وسع التخلف إن شاء الله تعالى.(1/169)
@ 170@$ حديث آخر$
قال المصنف رحمه الله قال : حدثنا محمد بن أحمد بن معروف ، قال : حَدَّثَنا أبو عبد الله بن أبي حفص ، قال حَدَّثَنا مسلم بن ابراهيم ، قال : حَدَّثَنا الربيع بن مسلم.
|قال الشيخ الإمام المصنف رحمه الله : وحدثنا الرشادي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن الضوء ، قال : حَدَّثَنا محمد بن كثير ، قال : حَدَّثَنا الربيع ، قال : حَدَّثَنا محمد بن زياد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يشكر الله من لا يشكر الناس.
|قال الشيخ رحمه الله : نعم الله على عباده لا تحصى قال تعالى : {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم : 34] فمن نعمه ما تفرد منها ، ومنها ما جعل بينه وبين المنعم عليه وسائط وأسبابا وأوجبه حق الوسايط وتعظيم الأسباب ، فأول ذلك الرسل والأنبياء عليهم السلام أوجب الله تعالى الإيمان بهم والطاعة لهم ولرسوله إن كنتم مؤمنين ، فهم الوسايط فيما بين الله وبين خلقه في الدعاء إليه ، والدلالة عليه والسفراء بينه وبينهم في البلاغ عنه ، وإيجاب الأوامر والنواهي والهداية إلى الله تعالى ليس إلى الرسل غير البلاغ والبيان ، كما قال : {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [النور : 54] ، وقال : {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص : 56] ثم قال : {وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم} [الشورى : 52] أي انك لتدعو إلى صراط مستقيم ، وأوجب حق الوالدين بقوله : {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} [لقمان : 14] إذ جعلهما سب الايجاد للولد ، وأوجب حق العلماء ، أو جعلهم سببا لما علمهم ، والمعلم في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى : {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} [البقرة : 151] وقال الله تعالى : {الرحمن علم القرآن} [الرحمن : 1 2] وأوجب حق السلطان إذ جعلهم سببا للأمن في بلاده والحكام بين عباده فقال : {اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء : 59] قيل : هم الأمراء ، وقيل : هم العلماء ، ولكل حق واجب ، وفرض لازم ، |(1/170)
@ 171@فكذلك إذا انعم الله تعالى عليك بواسطة عبد من عباده في نفع لك ، أو دفع عنك ، أوجب عليك بشكره ، والمنعم في الحقيقة هو الله تعالى ، قال الله تعالى : {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل : 53] فوجب عليه الشكر لله تعالى فيما انعم به عليك ، ووجب عليك شكر من جعله سببا لنعمة النفع ، والدفع كالشكر لله تعالى أوله رؤية النعمة بالقلب من الله تعالى.
|قال محمد بن علي الترمذي رحمه الله : الشكر انكشاف الغطاء عن القلب لشهود النعمة ، والكثير انكشاف الشفتين عن الأسنان لوجود الفرج ، فالشكر رؤية القلب النعمة من الله تعالى ، والثناء عليه باللسان ، والطاعة له بالأركان ، ثم الاعتراف برؤية التقصير عن بلوغ شكره ، لأن الشكر نعمة منه يجب الشكر عليها ، وحقيقة ذلك الحيرة منك وشهود حاصل الشكر عليك.
|قال بعض الكبار : % ( سأشكر إلى مجازيك منعما بشكري % ولكن كي يقال له : شكر ) % % ( وأذكر اياما لدي اضعتها % واعز ما يبقى على الشاكر الذكر ) % وقال بعض الكبار في مناجاته : اللهم انك تعلم عجزي عن شكرك فاشكر نفسك عني.
|فغاية الشكر رؤية العجز عن القيام بالشكر بعد بذل المجهود في أسباب الشهود ، والقيام بالوفاء ، والاستهتار بالثناء ، وشكر من جرت النعمة على يديه المكافأة له ، والثناء عليه.
|ومعنى الثناء نشر الجميل عنه ، وحسن الدعاء له فمن قدر كافئ ، ومن عجز دعا ، والمكافأة مع القدرة والدعاء عند العجز ايسر الشكرين شكر الله تعالى ، وشكر العباد ، ومن ضيع شكر العباد الذي هو ايسر الشكرين كان بشكر الله تعالى الذي هو اعظمهما قدرا ، واعسرهما مراما اضيع ، فكأنه قال : لا يكون قائما بشكر الله مع عظم شأنه من لم يقم بشكر الناس مع حقه مجمله.
|ويجوز أن يكون معناه على التنبيه على رؤية العجز عن القيام بشكر الله سبحانه وتعالى فيما انعم لمعان : |(1/171)
@ 172@أحدها : أن المعروف الذي يصطنعه الناس وإن كثر فمعدود متناه ، ونعم الله تعالى لا تحصى عدا ، ولا يتناهى حدا ، والإنسان وإن كافئ المصطنع إليه فللمصطنع فضيلة السبق ولم يدركه المكافئ أبدا ، فكأنه قال : لا يشكر الله تعالى ، أي : لا يقدر على شكر الله تعالى في نعمه التي لا تحصى من لا يقدر على شكر الناس في المعروف المحدود المعدود المحصي.
|وحدثنا محمد بن عبد الله بن يوسف العماني ، قال : حَدَّثَنا أبو اسحق إبراهيم بن هاشم البغوي ، قال : حَدَّثَنا الأزرق بن علي ، قال : حَدَّثَنا حسان ، قال : حَدَّثَنا عبد المنعم بن نعيم أبو سعيد ، قال : حَدَّثَنا الحريري ، عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشكر الناس لله تعالى اشكرهم للناس.
|قال الشيخ رحمه الله فمعناه أن القيام بشكر الله تعالى على قدر الوسع والطاقة بذل المجهود فيه والحد بمطالبته الشكر لله من نفسه في طلب مرضاته والوفاء بما أمر ونهى حتى يعفي به الأمر إلى بذل المجهود في شكر الناس لإيجاب الله ذلك له ، فمن كان للناس اشكر كان في أيفاء حق الشكر لله تعالى من نفسه أسعى.
$حديث آخر$
قال المصنف رحمه الله قال : حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا أبو اسحق هو حازم بن حسين الحميسي ، عن يزيد بن يعني الرقاشي ، عن انس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : أما قريش فاستبقوهم فإن لله فيهم حاجة وأما سائر الناس فحرورهم.
|قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون معنى قوله لله تعالى فيهم حاجة أي خصائص ونجباء وفيهم كرائم وفضائل فيما علمه منهم ، وغرزه فيهم وأودعها إياهم ، وإنهم لم يهونوا عليه فلما كانت قريش خيرة الناس ، فقد اخرج الله تعالى منها كل خبث كان فيها ، وكل خبيث كان منهم في المواطن التي اهلك الله منهم فيها خبيثهم |(1/172)
@ 173@كانت البقية هم الذين لله فيهم حاجة على ما قال : صلى الله عليه وسلم أي : هم صوفة من بقي ، ومن ورائهم الخير ممن هداهم للإيمان وطهر قلوبهم ، وصغ اسرارهم ، وأدناهم منه وقربهم إليه ، وإن أبطأ بهم القوت وتأخرت بهم المدة.
|الا يرى انه لم يكن منهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم منافق ، ولا بعد موته منهم مرتد ، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد العرب أو اكثرها ولم ترتد قريش ، ولا أحد منهم على كراهتهم في الدخول في الاسلام ، ونأى بهم عنه المدة الطويلة ، وتربصهم بعد الفتح حتى جعل لهم مدة أربعة اشهر ، قال تعالى : {فسيحوا في الأرض أربعة اشهر} [التوبة : 2] ، وكان صفوان بن أمية منهم ، ثم اسلم وحسن إسلامه ، وعكرمة بن أبي جهل ذهب على وجهه فرارا من الإسلام كراهة له حتى بلغ البحر وله قصة ، ثم بلغ من حسن إسلامه انه كان إذا نشر المصحف يقول هذا كلام أبي فيغشى عليه ، وسهيل بن عمرو وهو الذي كان منه يوم الحديبيه ما كان ، بلغ من حسن إسلامه أن هاجر إلى أرض الشام وقتل شهيدا وحث يوم اليرموك وخطب خطبة بليغة بلغت من الناس مبلغا كان سبب الفتح ، وكذلك صفوان بن أمية كان يسأل الله الشهادة في أغوار الدين ، وحكيم بن حرام باع داره من معاوية بستين ألفا ، فقالوا له : غبنك والله معاوية ، فقال : والله ما اخذتها في الجاهلية إلا بزق من خمر ، واشهدكم انها في سبيل الله ، والمساكين ، والرقاب فأينا المغبون ، وهاشم بن عتبة والمسور بن مخرمة ، وجميع مسلمة الفتح وإن أبطأت بهم المدة وتأخر دخولهم في الإسلام . فقد بلغ من حسن إسلامهم المبلغ العلي ، فهم الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإن لله فيهم حاجة ، أي : لله فيهم إرادة خير ومشيئة فضل ، وودائع يودعها الله تعالى أسرارهم وانوارا يجعلها في صدورهم كما قال الله تعالى : {فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} [الزمر : 22].
|وأما سائر الناس فأخذ الله تعالى منهم صفوتهم وجاءوا إلى الإسلام راغبين كما قال الله تعالى : {يدخلون في دين الله افواجا} [النصر : 2] وبقيت حثالة لا يعبأ الله بهم ، فقال : اقطعوهم قطعا . ألا يرى أن اكثر من انفلت ودخل في الإسلام كرها كما قال الله تعالى : {قولوا اسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات : 14] ، فلما قبض الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم ارتدوا حتى جذهم أبو بكر رضي الله عنه جذا.(1/173)
@ 174@$ حديث آخر$
قال المصنف رحمه الله قال : حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا أبو عوانة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن وراد ، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن سعد بن عبادة رضي الله عنه يقول : لو وجدت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف ، فقال صلى الله عليه وسلم : اتعجبون من غيرة سعد ، فوالله لأنا اغير من سعد ، والله اغير مني ، ومن غيرة الله تعالى أن الله تعالى حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا شخص أغير من الله تعالى ، ولا شخص احب إليه العذر من الله ، فمن اجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين ، ولا شخص احب إليه المدح من الله تعالى ولذلك وعد الجنة.
|قال الشيخ رحمه الله : ويجوز أن يكون معنى قوله : لا شخص أغير من الله أي : لا ينبغي لشخص أن يكون أغير من الله فمعناه ، أي : لا يكون العباد الذين هم أشخاص اغير من الله الذي ليس بشخص ، لأن الله تعالى لا يوصف بالشخص تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
|ويجوز أن يكون معناه كأنه يقول : ليس من حق من يترفع ويعظم قدره ويشرف مرتبته أن يكون لشرفه في الرتبة وعظم قدره وترفعه على غيره وان يكون أغير من الله تعالى ، والله تعالى جليل عظيم رفيع المكان ، وهو على جلالته وكبريائه وشدته شدة غيرته يمهل عباده في مواقعتهم الفواحش ولا يعاجلهم بالعقوبة عليها ، فلا ينبغي لعبد أن يرتفع عن الامهال ، وترك معاجلة العقوبة لغيرته فيقتل من يواقع الفاحشة ، ويأتيها ، ولكن يمهل إلى أن تطلق عنه الأمر من الله تعالى في قتله ، فإن أطلق الأمر وإلا مهل وتربص ، وإن كان شديد الغيرة ، وذلك أن سعدا كان سيد قومه وشريف قبيلته الخزرج وسيدها ورفيع القدر فيها وجليل الخطر عندها ، ومن كان كذلك فهو اقدر على معالجة العقوبة إذ يكاد يخاف تبعتها ، والشخص ما ارتفع ونما وتزايد فكأنه |(1/174)
@ 175@يقول من كان رفعته وشرفه وجلالة قدره بالنمو والتزايد والارتفاع من حالة الانخفاض ، فلا ينبغي أن يجاوز الحد الذي حد له ، والوقت الذي يجوز له أن يواقع بالعقوبة مواقع الفاحشة ، فإن الله أجل واعظم وأعلى جلالته وعظمته وعلوه ، لم يزل ولا يزال وغيرته اشد ، وهو مع هذا يمهل مواقع الفاحشة ولا يعاجله فالشخص أولى بترك معاجلة العقوبة . الدليل على هذا التأويل رواية أبي هريرة رضي الله عنه وهو : ما حدثناه حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا سليمان يعني ابن بلال ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال سعد بن عبادة رضي الله عنه : يا رسول الله لو وجدت مع امرأتي رجلا لم امسه حتي آتي بأربعة شهداء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم قال : كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لمعاجلة بالسيف قبل ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية : كفى بالسيف ساء في رواية قال : أسمعوا إلى ما يقول سيدكم : إنه لغيور ولأنا أغير منه ، والله أغير مني.
|فدل هذا الحديث على انه أراد معاجلة العقوبة قبل وقتها لغيرته ولم يخف التبعة فيها لشرفه في قومه ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر انه أغير من سعد وأشرف وأبلغ سؤددا منه وهو ينتهي إلى الحد في الغيرة ، فلا يعاجل بالعقوبة مواقع الفاحشة قبل وقته ، والله أغير مني وأعلى وأجل ، وهو لا يعاجل بالعقوبة ، والشخص الذي شرفه وسؤدده من جهة الشخص بالنمو والازدياد لإلزامه أحق وأولى ، ثم الأشخاص وهم المترفعون الأشراف ، ومن عظم قدره منهم لعمله من قوة للسلطان أو شرف بحال واتباع ويكون لشرفهم نموا وتزايد وبالعلل والأسباب فإنهم يحبون أن يعذروا في أفعالهم التي يجوز أن يلاموا عليها ويلزمهم التعبير فيها حد لا يجوز لهم مجاوزتها وأقدار ليس لهم تعديها ، فربما يفعلون الفعل الذي يلزمهم اللوم عليها لهذه العلل ، وهم يحبون أن يعذروا إلى الناس في أفعالهم لإزالة اللوم عنهم والتعبير لهم والنكير ممن فوقهم عليهم ، فالله تعالى في جلاله وعظمته وكبريائه وقهره لخلقه يبلى العذر فيما يفعل بخلقه من عدو يهلكه أو ولي يبليه فقال في أعدائه : {وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [آل عمران : 117] ، {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم |(1/175)
@ 176@الظالمين} [الزخرف : 76] وقال : {ذلك جزيناهم ببغيهم} [الأنعام : 146] واشباهه كثير ، وقال في أوليائه {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} [آل عمران : 152] الآية وقال تعالى : {وأوذوا في سبيلي} [آل عمران : 195] ، {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله} [آل عمران : 169] وقال : {إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم} [النور : 11] {وما اصابكم يوم التقى الجمعان] [آل عمران : 155] فهو جل جلاله وعز يبلى هذه الاغرار في فعله ، وقد بعث الأنبياء مبشرين ومنذرين {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء : 165] ولئلا يقولوا يوم القيامة : {إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف : 172] ، {أو تقولوا لو انزل علينا الكتاب لكنا اهدى منهم} [الأنعام : 157].
|وامثالها كثيرة فأبلى هذه الاغرار إلى خلقه واحب إبلاء العذر في فعله مع غناه عن ذلك ، إذ لا يلزمه تعالى في فعله لوم ، ولا يحلقه تغير ، ولا من غيره عليه نكير ، ولا حد له فيجاوزه ، وهو يفعل ما يفعل في ملكه ، وهو حكيم عالم قادر ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون وهو تعالى يحب العذر فضلا منه ، وكرما وإجلالا لعذر أوليائه وبرا بهم ، ولطفا بهم اكثر من محبة الاجلة والاشراب الذين هم أشخاص معلولون ، وعباد مربوبون ، وهو الجليل العظيم الرب الكريم.
|ويجوز أن يكون معناه انه يحب العذر من عباده إليه ، وهو أن يعتذروا إليه من خبائاتهم وتقصيرهم فيغفرها لهم ، وبعث المرسلين ليحثوا على ذلك عباده وليبلوا أعذار عباده ويشفعوا لهم كما قال : {الذين يحملون العرش ومن حوله} إلى قوله تعالى : {فاغفر للذين تابوا} [غافر : 7] الآية.
|وقوله ولا شخص احب إليه المدح من الله الاشخاص ، وهم المترفعون المتزايدون يحبون أن يمدحوا ويثنى عليهم في اوصافهم في أنفسهم وأفعالهم بمكان غيرهم وأوصافهم ، فهل غيرهم بهم وافعالهم بقوة يحدثها فيهم من له العذرة والقوة ويستحق عليهم الثواب منهم في المدح لهم والثناء عليهم وربما لم يثنو لروية فضل بدونه فيهم وهم بحبهم عنه عواري ، والله تعالى للمدح احب وللثناء عليه اشكر إذ هو المستحق للمدح وهو الله تعالى رفيع الأوصاف جميل الأفعال وهو المنعم المضل ، ذو الجلال |(1/176)
@ 177@والجمال فهو يحب المدح من عباد له ، والثناء منهم عليه ، والحمد والشكر له ليبثهم عليه افضل الثواب ، وينعم عليهم بأفضل النعم . وكذلك وعد الجنة ليمدح بالفضل واللطف والبر لأنه لا يستحق عليه شيء ، ولا يجب عليه فعل فهو متفضل فيما وعد من الجنة ونعيمها ، فاحب أن يمدح بما يمدح المتفضل الحسن الفعال الجميل الأوصاف ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فهو للمدح اشد حبا من الأشخاص المعلومين ، وهو بالمدح أولى وله أحق تبارك الله الممدوح في اوصافه ، المحمود على أفعاله ، المنعم على عباده ، المتفضل البر الرؤف.
$حديث آخر$
قال المصنف رحمه الله قال : حدثنا الشيخ أبو الليث نصر بن فتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا قتيبة ، قال : حَدَّثَنا أبو عوانة ، وعبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تسحروا فإن في السحور بركة.
|قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون معنى البركة الزيادة ، ومعنى الزيادة في السحور ينصرف على وجوه منها : أن يكون زيادة في القدرة على صوم النهار ، ومثله ما جاء في بعض الروايات أنه قوة على صوم النهار ، وهو ما.
|حدثنا أبو الفضل به محمد بن أحمد المروكي ، قال : حَدَّثَنا يعقوب بن أبي حيران ، قال : حَدَّثَنا الحارث بن مسلم ، عن عبد الكريم ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسحروا فإن في السحور بركة وقوة.(1/177)
@ 178@ويجوز أن يكون الزيادة في إباحة الطعام والشراب لمن أراد الصيام ، وذلك انه كان في بدء الأمر أن الصائم إذ نام حرم عليه الطعام ثم أباح الله تعالى الأكل والشرب إلى طلوع الفجر بقوله : كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام} [البقرة : 187] فإباحة الأكل والشرب في ليلة الصيام بعد النوم وهو السحور زيادة على إباحة الأكل والشرب عند الإفطار ، وهو رخصة من الله تعالى بقوله : {علم الله إنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم} [البقرة : 187].
|وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب أن يؤتى برخصه كما يحب أن يؤتى بعزائمه فيكون معنى الترغيب في السحور ترغيبا في قبول الرخصة التي حب الله إتيانها.
|ومعنى البركة الزيادة على الإباحة ، ويجوز أن يكون معنى الزيادة في العمر لأن العمر الحيوة فيها نوم الأجل الموقت الذي إذا جاء لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وهذه المدة فيها نوم ويقظة ، والنوم موت ، واليقظة حياة ، قال تعالى : {هو الذي يتوفاكم بالليل} [الأنعام : 60] ، وقال تعالى : {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر : 42] فسمى الوفاة التي هي النوم موتا ، واليقظة حياة ونشورا بقوله {ثم يبعثكم فيه} وفي مدة الحيوة معنيان : اكتساب الطاعة للمعاود ، واقتناء المرافق للمعاش ، ومن المرافق الأكل والشرب ، قال تعالى : {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} [المؤمنون : 51] وفي السحور يقظة وهي الحيوة فهو زيادة في الحيوة ، وأكل وشرب وهو زيادة في المرافق الحيوة ، وفيه في زيادة اكتساب الطاعة لأن من أراد السحور ربما تطهر وصلى فإن قصر سمى الله ودعا ، وإن غفل عن الذكر وكسل عن الصلاة ، فإن الأكل والشرب لنية الصيام طاعة ففيه زيادة الحيوة ، وزيادة الرفق ، وزيادة الطاعة ، وهذا هو العمر ففي السحور زيادة الرفق في العمر ، ويكون في السحور زيادة وقت السحور على الأوقات الفاضلة المرغوب فيها ، وهي أوقات الصلوات الخمس ، فإنها افضل |(1/178)
@ 179@أوقات الزمان في اليوم والليلة ، ويفتح فيها أبواب السماء ، وتنزل الرحمة ، ويستجاب فيها الدعاء ، وفي وقت السحور كذلك ، قال الله تعالى : {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران : 17] ، وقال : {وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات : 18].
|وقال صلى الله عليه وسلم إذا كان الثلث الأخير من الليل يقول الله سبحانه : هل من داع فأستجب له ، هل من مستغفر فاغفر له ، هل من سائل فأعطيه.
|وسئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الليل اسمع ؟ قال : الثلث الأخير من الليل وقد قال صلى الله عليه وسلم : من الفطرة تأخير السحور أراد إن شاء الله أن يقع في الثلث الأخير من الليل ليكون فيه دعوة واستغفار فيجاب ، وسؤال حاجة فتقضى ، فوقت السحور زيادة على الأوقات المرغوب فيها التي هي أوقات الصلوات الخمس ، إذا فالسحور زيادة في القوة ، وزيادة في إباحة الأكل والشرب ، وزيادة في الرخص التي يحب الله إتيانها ، وزيادة في الحيوة ، وزيادة في الرفق فيها ، وزيادة في اكتساب الطاعة ، وزيادة على الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء . وقد ورد في الحديث إن الرخصة بركة ، وهو انه لما نزلت آية التيمم وكان السبب فيه أن عائشة رضي الله عنها فقدت قلادة لها في بعض الغزوات ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على طلبها والناس على غير ماء ، فنزلت آية التيمم ، فقيل لعائشة رضي الله عنها : ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، فجعل الرخصة في هذا الحديث بركة يجوز أن يكون فيه بركة لأنه لا حساب فيه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أربع نفقات لا حساب للعبد فيهن ، نفقة على عياله ، وعلى والده ، وعلى إفطاره ، وعلى سحوره.(1/179)
@ 180@ثم في السحور فوائد ، قيل : فيه حصول النية للصوم من الليل ، فيزول الاختلاف في جواز صومه ، وفيه مخالفة لأهل الكتاب ، قال صلى الله عليه وسلم فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور.
|وقال بعض شيوخنا رحمهم الله : إن السحور وقت النجاة ، قال تعالى : {نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر} [القمر : 34 35] كأنه جعل وقت السحر ، وقت الزيادة نعمة ونجاة من نعمة ، والسحور يكون في هذا الوقت فتيقظ المتسحر في ذلك الوقت بهلاك من هلك ، ونجاة من نجا.
|وقيل فيه : قال صلى الله عليه وسلم : اللهم بارك لأمتي في بكورها فأجيب إلى ذلك فقال تسحروا فإن في السحور بركة أي : بركة البكور.
$حديث آخر$
قال المصنف رحمة الله : حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا وكيع ، وابن المبارك ، عن سفيان ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الله بن أبي الجعد ، عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الرجل يحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر.(1/180)
@ 181@قال الشيخ رحمه الله : إن لله تعالى لطائف يحدثها بعبده المؤمن ليصرف بها وجهه إليه ، ويقبل بقلبه عليه إذا شغل عنه باتباع شهوة والاشتغال بنهمة لأن الله تعالى يحب عبده المؤمن ، والمحب يحب إقبال محبوبة عليه ومواجهته له وانصرافه إليه ويكره شغله عنه بغيره ، وإعراضه عنه ، فالمؤمن إذا شغل بنهمته ورجع إلى شهوته وأقبل على غير مولاه حرمه مولاه رزقه الذي إليه ضرورية ، وبه حاجته مما به قوامه في معايشة ، وعوز على أمر معاده فيكون ذلك زجرا منه له ، وجذبا إليه مما اقبل عليه ، وصرفا له عما شغل به إلى من شغل عنه ، وتأديبا أن لا يعود إلى مثله كالطفل الذي تدعوه أمه فيعرض عنها ويعدو إلى لهو فيعثر فيقع يقوم فيعدوا إلى أمه باكيا ، ويتحلى إليها شاكيا.
|وكذلك المؤمن يصيب الذنب بشهوة تغلبه ، ونهمة لا يقاومها فيحرم ربه رفقه ويمنعه رزقه فينتبه فيعرض عن شهوته فيرفض نهمته ويقبل على مولاه ، والذي يبغضه الله ممن كفر به واشرك معه غيره واعرض بقلبه عنه ، فإنه يزيده مما يشغل به ويصرفه عنه بغضا له ومقتا ، قال الله تعالى : {إنما نملي لهم ليزدادوا اثما} [آل عمران : 178] ، وقال الله تعالى : {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون} [الزخرف : 33] ليشغلهم بها عنه ويباعدهم عنه ، فمن اقبل إليه كفاه حوائجه ، وسهل له مرافقه ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن يتق الله في الأشغال بما دونه عنه يكفيه مؤنة ، ويخرجه مما يصرفه عنه ويقوم بكفايته لئلا يشغله عنه شاغل ، بل يكون شغله به ووجهه إليه ، ومن شغل بشيء دونه أو به فحرمه رزقه ، ومنعه رفقه فيقبل عليه ، ويرجع عما شغل به إليه.
|والرزق الذي يحرمه الرفق مما يملكه أو زوال ملكه عنه وان يلتوى عليه أسباب رزقه فقدر عليه ، ويصير عليه مطلبه.
|وقد يجوز أن يكون معني الرزق الشكر ، قال تعالى : {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة : 82] قيل في التفسير : شكركم انكم تكذبون فيكون حرمان الرزق حرمان الشكر على النعمة فيحرم الزيادة بحرمان الشكر ، ومن لم يكن في الزيادة فهو في النقصان.(1/181)
@ 182@وقوله : لا يرد القدر إلا الدعاء يجوز أن يكون القدر سبق بالدعاء كما سبق بالقدر فيصرف المكروه المقدور بالدعاء المقدور ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وسئل أرأيت رقى نسترقها ودواء نتداوي هل يرد من قدر الله تعالى فقال : إنه من قدر الله ، هذا إذا كان القدر سبق بأن يرد المكروه من القدر بالدعاء ، وإن كان المكروه مقدورا أن يصيبه ويقع به فإن الدعاء يزيل تسخط ذلك المكروه ، ويكون الرضا به مقدورا كما كان المكروه مقدورا ، والمقدور إنما يكون مكروها لأنه مؤلم مسخوط شديد التحمل ، فإذا زال التسخط صار المكروه محبوبا فكان المكروه المقدور المؤلم قد صرف عنه ، وجرى عليه مقدور محبوب ملذ كالإنسان يسقى دواء فيتكرهه لمرارته وبشاعته فيذوقه ، فلا يجد له مرارة ، ولا بشاعة فيتلذذه ، وإنما يصير المكروه محبوبا بالدعاء لأن الدعاء تقرب إلى الله تعالى من قربة الله إليه قال صلى الله عليه وسلم : من أذن له بالدعاء لا يحرم الإجابة فالداعي مقرب فالمقرب مشاهد ، أما أن شاهد عاقبة المكروه بالثواب الموعود فيه في الاجل ، والمصروف عنه به من المكروه ما هو اشد منه في العاجل ، أو بشهود المقدر له.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : لا يزيد في العمر إلا البر يجوز أن يكون البر مقدورا للعبد أن يأتيه ويكون زيادة العمر مقدورا بالبر المقدور ، ولو لم يكن البر مقدورا لم يكن زيادة العمر مقدورا ، ويجوز أن يكون زيادة العمر حسن الحال في مدة الحيوة والاجل الموقت الذي لا يتأخر ولا يتقدم ، وطيب الحيوة في مدة الأجل كما قال الله تعالى : {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى} الآية [النحل : 97] وطيب الحياة بالارتفاق في معايشة ، واكتساب الطاعة لمعاده ، والبر هو الطاعة لله تعالى فيما امر ، والانتهاء عما زجر ، والرضا بما حكم وقدر ، قال الله تعالى : {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} الآية إلى قوله : {وأولئك هم المتقون} [البقرة : 177] فالتقصير من العمر واليسير من المدة ، وإذا حصل مع الطاعة لله تعالى في أمر الدين والرفق في المعاش من الكفاية في المؤنة وصون الوجه ، وكان العبد محمولا في المكان ميسرا له اليسرى معروفا عن العسرى صار التقصير من العمر طويلا . ويجوز أن يكون المراد بالبر بر الولد بوالديه ، وبر الرجل ولده ، وقرابته وجيرانه ومن يعاشرهم ، فمن حسنت عشرته خلق الله طابت حياته وفائدة العمر طيب الحيوة ، والله أعلم.(1/182)
@ 183@$ حديث آخر$
قال المصنف رحمة الله : حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن اسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا أبو معاوية ، عن الاعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أحد اصبر على أذى يسمعه من الله تعالى انه يشرك به ويجعل له ، وهو يرزقهم ويعافيهم.
|قال الشيخ رحمه الله : قال بعض العلماء : معنى الحليم والصبور واحد وهو من المتشابهة التي لولا ورود السمع به لما جاز وصف الله بها ، وقد سمى نفسه حليما ويوصف بالحلم ، ولا يجوز أن يسمى صبورا لأنه لم يرد السمع.
|وقال بعضهم : يجوز أن يسمى صبورا ويوصف بالصبر ، وروى الخبر في الصبور وفرق بين الحلم والصبر ، بعضهم قالوا : الحلم بنى على التجاوز والعفو مع القدرة على الانتقام كرما وفضلا ، والصبر يبنى على تحمل المكروه وتجرع الغصص ضرورة تكلفا وتجلدا ، والعفور والتجاوز والقدرة من صفات الله تعالى ، وليس التكلف والتجرع والضرورة من أوصافه تعالى عن ذلك فجوزوا وصفه بالحلم ، ومنعوا الصبر والصبر من الخلق حبس النفوس ومنعها عن شهواتها المحظورة فرضا حتما ، وعن شهواتها المباحة تطرفا وأدبا ورياضة ، وقد قال الحكيم : لا ينبغي أن يغفل قليل الشهوة ولا كثيرها فإن كثيرها تلف وقليلها دناءة وحبس النفس على تحمل المكاره وتجرع الغصص عند منازعة النفس إلى الاسترواح بالانتقام والجزع إما خوفا مما هو اشد في المكروه منه من العقوبة عليه ، أو حاجة إلى الثواب الموعود منه ، والأذى كل ما يكره ويسخط من قول ، ويؤلم ويغم من فعل.
|فمعنى الصبر من الله تعالى يجوز أن يكون حبس العقوبة عن المؤذى له بما يكره ويسخط وينقص من الإشراك به وجعل الأولاد له وهو قادر على الانتقام منهم ، |(1/183)
@ 184@والأخذ لهم ، والتدسر عليهم فهو يحبس عنهم عقوبته ، ويؤخر عنهم عذابة ولا يعاجلهم بالعقوبة التي استحقوها على شركهم به ، وافترائهم عليه وهو مع تأخير العقوبة يرزقهم ويعافيهم فهو اصبر على الأذى من الخلق ، لأن الخلق يؤذون بما قد يجوز أن يكون ذلك لهم وفيهم ، وما يؤذون الله تعالى به لا يجوز عليه بوجه من الوجوه حقيقة ولا مجازا ، ولا إضافة ، وهم إن صبروا صبروا ضرورة وتكلفا ورقا وعبودة ، ثم لا يحسنون إلى من يؤذيهم.
|ففي الحديث إبانة عن كرم الله تعالى وفضله في ترك معاجلة العقوبة وتأخير العذاب وإدرار الرزق على المؤذي له وعاقبته إياه ، فهذا كرمه في معاملة من يؤذيه ويكذب عليه وهو بغيضه وعدوه فما ظنك بمعاملته مع من يتحمل الأذى فيه ويثنى عليه وهو وليه وحبيبه ، قال الله تعالى {الله ولي الذين آمنوا} [البقرة : 257] وقال : {يحبهم ويحبونه} [المائدة : 54] سبحان الكريم الرحيم الرؤف الحليم.
|ففي الحديث أيضا حث على الصبر وتحمل الأذى فيما يصيب العبد مما يكرهه ويغمه ويؤلمه ويشق كأنه صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله تعالى يؤذي بالغاية من الاذى ، وهو قادر على الانتقام منهم ، وهو يؤخر عنهم عقوبته ، ويحبس عنهم عذابه مع تعاليه عن جر منفعة فيه ، أو دفع مضرة عنه ، فالعبد المضطر المحتاج إلى الثواب المودوع على الصبر والخوف من العقوبة المتوعد على الجذع على أدنى أذى يلحقه ، ثم يعتاض عليه ما هو خير منه أولى أن يصبر وأحق.
$حديث آخر$
قال الشيخ رحمه الله : حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا هشيم ، قال : حَدَّثَنا عمر بن أبي سلمة ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر ، أو ذكر لله.(1/184)
@ 185@قال الشيخ رحمه الله : إن الله تعالى أمر إبراهيم خليله صلوات الله عليه ببناء بيته فلما فرغ من بنائه أمره بأن يدعو إليه عباده فقال : {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم} [الحج : 27 38] فدعاهم فأجابوه فهم يأتونه في كل وقت وحين متوجهين نحوه قاصدين إليه يقولون : لبيك اللهم لبيك ، فإذا حلوا بفنائه واناخوا ببابه طوفوا حول بيته ، فقربهم وأدناهم وصافحهم بيده التي هي الحجر فقبلوها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحجر : هو عين الله تعالى التي يصافح بها خلقه.
|قال : أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن عبد الله الصائغ النيسابوري ، قال : حَدَّثَنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، قال : حَدَّثَنا الحسن بن محمد الزعفراني ، قال : حَدَّثَنا سعيد بن سليمان ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن المؤمل ، قال : سمعت عطاء يحدث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يأتي الركن يوم القيامة اعظم من أبي قبيس ، له لسان وشفتان يتكلم عمن استلمه بالنية ، وهو عين الله تعالى التي يصافح بها خلقه.
|قال الشيخ رحمه الله : ثم خرجوا إليه يتعرضون لما عنده ويطلبون ما وعدهم بقوله عز وجل : {ليشهدوا منافع لهم} [الحج : 28] فأعطاهم ما سألوه وبلغهم ما أملوه وزادهم من فضله انه لذو فضل عظيم ، وكل قد هدى على قدر وسعة ومبلغ طاقته توسلا إليه وقربة منه مرغبين ، أشعروا قلوبهم التقوى فذبحوا لنسائكم وأهدوا الهدايا فتقبلها منهم بتقوى قلوبهم فقال عز وجل : {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج : 37] فكانت التقوى هي الرافعة لتلك الهدايا إليه كما كان الكلم الطيب صاعدا بالعمل الصالح إليه ، فلما قبلها منهم وحازها لديه وصارت له وحصلت عنده اتخذ لهم ضيافة ، ونصب لهم ماءوه جمعهم عليها فأطمعهم مما عنده وهو ما تقربوا به إليه ، وقبله عنهم فصارت لهم مقبولة مطهرة اذهب |(1/185)
@ 186@عنها وخامة تصرفهم فيها ، ووباء مساكنتهم إليها فأطعمها إياهم ، وجاز بها عليهم فهم في ضيافة أيام منى التي أيام التشريق وهي ثلاثة أيام تمام الضيافة.
|قال : حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا ابن المبارك عن عبد الحميد بن جعفر ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الكعبي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للضيف جائزته يوم وليلة ، والضيافة ثلاثة أيام.
|فالله تعالى يوسع زواره وأهل ضيافته طعاما وشرابا ثلاثة ايام ، ثم هم بعد ذلك في عياله يجري عليهم مدة حياتهم ، ومن سنة الملوك أنهم إذا اتخذوا ضيافة اطعموا من علي الباب كما يطعمون من في الدار ، فالكعبة البيت ، والحرام الدار ، وسائر أقطار الأرض باب الدار ، فعم الله تعالى الجميع بضيافته فقال : {فكلوا منها واطعموا البائس الفقير} [الحج : 28] وقال جل جلاله : {فكلوا منها واطعموا القانع والمعتر} [الحج : 36] ، ثم الناس ابدان وأرواح فأطعم الله ضيفه ومن على بابه بقوله عز وجل : {فكلوا منها} فهذا غذاء الأبدان ، واوسع أرواحهم من غذائها بقوله عز وجل : {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله} [البقرة : 200] ، وقوله عز وجل : {وأذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة : 203].
|فالطعام والشراب غذاء الأبدان ، وذكر الله عز وجل غذاء الارواح ، لذلك امرهم بالأذكار ليكون غذاء لأرواحهم كما امرهم بالاكل والإطعام ، ليكون غذاء لأبدانهم ، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم أيام التشريق أيام اكل ، وشرب ، وذكر لله تعالى.(1/186)
@ 187@$ حديث آخر$
قال :
|حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا خالد ، عن سهيل ، عن صفوان يعنى ابن أبي يزيد ، عن القعقاع ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد ابدا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا.
|قال الشيخ رحمه الله : الشح اشد البخل ، فإن البخل اكثر ما يقال ، إنما يقال في البعقة وإمساكها ، قال الله عز وجل : {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} . [آل عمران : 180] وقال عز وجل : {ومن بخل فإنما يبخل على نفسه} [محمد : 38] وقال في الشح : {أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا} [الأحزاب : 19] ، وقال تعالى : {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [التغابن : 16] فالشح تنبيء عن الكزازة والامتناع والتأني وقلة المواناة فهو يكون في المال خاصة ، وفي جميع منافع البدن عامة فالإيمان هو التصديق ، ومن التصديق تصديق الله عز وجل فيما تكفل به من الأرزاق ، وفيما وعد من الخلف ، على الإنفاق والثواب في العقبى.
|والبخل يكون من سوء الظن بالله تعالى لأنه يخاف عليه أن لا يخلف ، ولم يمكن تحقيق الثواب من قبله فالبخل بالمال من سوء الظن بالله ، وسوء الظن يوهن التصديق والامتناع وقلة المواناة ، والتأني قد يكون فيما بين العبد وأوامر الله وفروضه وأقضيته وأحكامه ، وفيما بينه وبين خلق الله في ترك المعاونة لهم ، والشفقة عليهم ، والنصح لهم ، فالامتناع والتأني عند الأوامر يوهن التصديق بقبولها وصعوبة الانتقاء ، وقلة المواناة يوهن التصديق بالقدر فمن صدق بالقدر انقاد للأحكام ، ومن كان ممتنعا قليل المعاونة تاركا للنصح للمؤمنين غير مشفق عليهم فكأنه ليس منهم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : المؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضا.(1/187)
@ 188@وقال صلى الله عليه وسلم : والله لا تؤمنون حتى تحابوا فالشح من جميع وجوهه يخالف الإيمان وحقيقته ، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم : لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا والمعنى في الإيمان حقيقة الإيمان الذي هو حقه وموجبه كما أخبر حارثة عن نفسه من حقيقة الايمان ، وتمكن التصديق من قلبه بما أخبر الله تعالى عنه حتى صار كأنه يشاهده شهود عيان ، فمن تحقق في إيمانه ، وصدق الله تعالى عنه حتى صار كأنه يشاهده شهود عيان ، فمن تحقق في إيمانه ، وصدق بإيقانه سهل عليه ترك الدنيا والعزوف عنها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : {أفمن شرح الله صدره للإيمان فهو على نور من ربه} [الزمر : 22] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا دخل النور في القلب انشرح ، وانفتح قيل : فما علامة ذلك ؟ قال : التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله ، فأخبر أن من نور الإيمان قلبه ، وشرح الله للإسلام صدره سهل عليه الإعراض عن الدنيا ، فمن عكف عليها ، وبخل بها ، وسكن اليها ، وشح عليها لم يخامر حقيقة الإيمان قلبه شهودا ، وإن اقر بلسانه ، ولم يتطوع على تكذيبه عقدا فهو مؤمن ضعيف الايمان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاك اضعف الإيمان فوصف الإيمان بالضعف ولم ينفه كذلك إن شاء الله.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : لا يجتمع الشح والإيمان أي لا يجتمع الشح وقوة الإيمان في قلب عبد أبدا.(1/188)
@ 189@$ حديث آخر$
قال : حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا حاتم بن إسماعيل ، عن أبي بكر بن يحيى ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة فرجع فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ، وامر بقريتها فأحرقت النار ، فأوحى الله تعالى إليه فهلا نملة واحدة.
|وروي في حديث آخر : إنه مر نبي من الأنبياء بقرية أو بمدينة اهلكها الله تعالى وأهلها فقال : يا رب قد كان فيهم صبيان ودواب ، ومن لم يقترف الذنب فهو الذي نزل تحت الشجرة فلدغته نملة.
|قال الشيخ رحمه الله : إن كان هذا النبي الذي احرق قرية النمل هو هذا القائل فقد يجوز أن يكون الذي جرأ عليه من إحراق قرية النمل تشبيها له على إعراضه على الله عز وجل ، وذلك أن الله تعالى أن يفعل بعباده من رحمة وعذاب لأن الخلق خلقه والملك ملكه ، وليس أمر ولا له زاجر ، فلا يكون له أن يخالف أمره ويحدث في ملكه بغير إذن ، بل هو الله تعالى لا إله غيره خلق الخلق حين شاء لما شاء ، فإن رحمهم ونعمهم فهو المتفضل في ذلك ، وإن هو عذبهم وألمهم فهو العدل الذي لا يجور وله أن يفعل ما يشاء ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لو أن الله تعالى عذب أهل السماء والأرض لعذبهم وهو لهم غير ظالم فهو لا يسأل عما يفعل إنما يسأله من هو تحت قدره لغيره وفوقه أمر وله سان سن له سنة ، وبين له طريقه ، وأمره ونهيه وحد له حدودا ، فإن جاوزها أو عدل عما سن له من السنة ، وخالف الامر ، وارتكب النهي ، وقع عليه السؤال وكان في ذلك جابرا ظالما ، قال الله تعالى : {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء : 23].(1/189)
@ 190@فيجوز أن يكون هذا النبي صلى الله عليه وسلم لما قال ما قال في الآية التي اهلكها الله تعالى كان معني ذلك شبه الاعتراض على ربه عز وجل ، ولم يكن له ذلك ، وسأل عما لا ينبغي له السؤال عنه ، ابتلاه الله تعالى بالنملة التي عضته فأحرق قريتها ، فقال الله تعالى له : فهلا نملة واحدة ، كأنه تعالى قال له : إنك عبد مأمور منهي جنت عليك نملة واحدة فأحرقت أمة منها ، فكيف تعترض على ملك يفعل في ملكه ما شاء ليكون ذلك زجرا له عن مثل ما أتى من الاعتراض ، وتأديبا فيما تعدى عن طور العبودية ، ولم يستسلم لله الملك القادر الجبار القهار ، ويكون إحراقه إياها نوعا من الإفناء والقتل ، مع جواز ذلك في شريعته ، فلا يكون ذلك منه ارتكاب ذنب وجناية على أمة لا ذنب لها كما كان نتف الريش ، والتعذيب بالشمس للطير الذي ليس عليه أمر ولا نهي ، جائزا لسليمان صلوات الله عليه حين توعد الهدهد فقال : {لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه} [النمل : 21] ، وكما جاز في شريعته إتلاف الخيل الجياد التي ضرب اعناقها وسوقها لا للقربان ولا ذبحا كما يذبح البهائم للانتفاع بها ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل خمس في الحرم بغير جناية وهي : الفأرة والجنة والعقرب والغراب والكلب العقور ، وفي خبر آخر : والحداة ، وقال صلى الله عليه وسلم : من قتل حية فله كذا ، ونهى عن استحبابها.
|وقال : حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا زيد بن حباب ، قال : حَدَّثَنا زافر بن ابى الفرات ، عن محمد بن زيد العبدي قاضي خرسان ، عن أبي الاعين ، عن أبي الاحوص الجشمي ، انه سمع ابن مسعود رضي الله عنه |(1/190)
@ 191@قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قتل حية فكأنما قتل كافرا.
|قال : حدثنا محمد بن الحسن الارزكناني ، قال : حَدَّثَنا أبو مسلم الكجي ، قال : حَدَّثَنا أبو عاصم ، عن محمد بن عجلان ، عن ابيه ، عن أبيه هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحيات : ما سلمناهن منذ حاربناهن ، فمن ترك منهن خيفة فليس منا ، وأمر بقتل الكلاب . فكذلك يجوز أن يكون قتل النمل كان غير منهي ، عنه ، أو مأمورا به في شريعة ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الإحراق إذ ليس هو إلا هلاك والإفناء بالألم ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحراق بعض الكفار ثم نهى عنه ، وسمل أعين قوم ، فكان أمره به سابقا جائزا ، ولولا ذلك ما أمر به ثم نسخ ذلك بالنهي عنه ، وسمل أعين قوم ، وقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم في الشمس يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ، ثم نهى بعد ذلك عن المثلة.
|فكذلك يجوز أن يكون كان مباحا إهلاك هذه الأمة التي هي النمل ، كما انه مباح قتل أمم خمس وإهلاكهم فكذلك يجوز أن يكون كان مباحا إحراق ما جاز إهلاكه ، فيكون ذلك النبي أهلك وأفنى ما يجوز له إهلاكه وإفناؤه بألم النار كما جاز إهلاك هذه الأمم بألم القتل ، ومما يدل على ذلك قوله عز وجل : ألا نملة واحدة ، إنما نبه على انه فعل ذلك بأمة لم يجن عليه منها إلى واحدة ، فقوله : ألا نملة واحدة دليل على انه لو احرق واحدة منها لم يعاتب عليه ، وإنما عوتب إن شاء الله تعالى على انه فعل ذلك للانتقام لنفسه والتشفي منها لا لأمر سبق وكان الفعل مباحا غير منهي عنه.(1/191)
@ 192@$ حديث آخر$
قال : حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا عبد العزيز عن العلاء ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للكسب.
|قال الشيخ رحمه الله : معناه أن شاء الله إن اليمين الكاذبة في البيع انه أعطى بالسلعة كذا وكذا تنفق السلعة حسبان الحالف وظنه ، كأنه إذا حلف على ذلك صدقه المشتري واعطاه ما أراد ، فإن كان القدر قدر ، ويظن انه من الله تعالى قد سبق له بذلك وكان الله عز وجل جعل ذلك رزقا له نفقت سلعته ، فأما إن لم يكن سبق القضاء والقدر به لم يكن اليمين منفقة للسلعة ، وكذلك إذا حلف انه اشتراها بكذا وهو كاذب فإن يقدر أن يربح عليها ويحسب انه يصدق عليه ويظن أن يمينه على ذلك مما تطيب نفس المشتري فربما كان كما قدر وربما خالف تقدير الله عز وجل تقدير الحالف في نفسه ، فإن وافق تقدير الله ظنه ، وتقديره في نفسه فباع السلعة بما حلف عليه محق ذلك كسبه وأذهب بركة تجارته وكسبه ، إما بتلف يلحقه في ماله ، أو نفقته في غير ما يعود نفعة عليه في العاجل ويرجى ثوابه في الاجل ، وإن بقيت عنده حرم نفعه وورثه من لا يحمد ويقدم على من يقدره ، فأي محق للكسب اكثر من ذلك ، واشد تعوذ بالله من الخذلان.
$حديث آخر$
قال حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا عبد العزيز ، عن العلاء ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نقصت أحدا صدقة من مال ، وما زاد الله رجلا يعفو إلا عزا وما تواضع أحدا لله عز وجل إلا رفعه الله تعالى بها.(1/192)
@ 193@قال الشيخ رحمه الله : هذا تشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم للعبد فيما يهوله وتسهيل عنه فيما يعبر عليه وإزالة خلق السوء بالله عز وجل عن العبد وتكذيب للشيطان فيما يعد العبد من الفقر في الإنفاق والصدقة ، فقوله : ما نقصت أحدا صدقة من مال يجوز أن يكون معناه أن يراد بالصدقة الزكاة المفروضة ، فإخراج الزكاة لا ينقص من مال العبد شيئا لأنه إذا حال الحول على مائتي درهم في يده وجب حق المساكين في خمسة منه ، فكان ماله الذي يجوز له التصرف فيه ، ويطيب له إمساكه عنده مائة وخمسا وتسعين درهما ، لأن الخمسة منها حق المساكين فإخراج الخمسة لا ينقص من المال الذي هو نصيبه من المائتين وهو المائة والخمسة والتسعون ، والذي أخرج كأنه لم يكن ماله وإنما كان مال المساكين في يده فإخراجه إليهم ورده عليهم لم يكن ناقصا له من ماله شيئا.
|ويجوز أن يكون معناه أن الله تعالى يخلف عليه مما انفق وتصدق عنه بما هو خير منه واكثر وأطيب ، قال الله عز وجل : {وما انفقتم من شيء فهو يخلفه} [سبأ : 39] ويجوز أن يبارك له في الباقي فينوب الباقي عنده منابه ومناب ما انفقه وتصدق به ، فهو يخلفه وأضعافه ، فإنه خرج عن هذه الوجوه فقد حصل له عند الله ما أنفقه فهو له عنده مدخر فكأنه احرزه واستوثق في الحفظ له ، والصون مما يفنيه ويذهبه ، قال عز وجل : {ما عندكم ينفذ وما عند الله باق} [النحل : 96] إذا فالناقص ما ينفذ ويفنى لا ما يصان فيبقى ، والعفو هو التجاوز عن المسيء إليك والجاني عليك ، فسبق إلى وهم الإنسان أن ترك الانتقام ممن اساء إليه وعقوبة من جني عليه ذل وعجز ، وهوان يلحقه وليس كذلك ، بل الله تعالى يزيده بذلك عزا بأن ينتقم له من المسيء إليه ، فينتصر له من الجاني عليه ، ومن كان عز وجل منتقما له ، ومنتصرا مما جنى عليه فهو العزيز الذي لا اعز منه ، فإن فعل الله ذلك به في الدنيا فقد زاده عزا ، وهو اعز من اعتزازه في نفسه بالانتقام والعقوبة ، وإن آخر ذلك إلى الآخرة فاقتص له من حسنات الظالم له وطرح سيئاته على الجاني عليه ذل الظالم ذلا ، لا ذل مثله فيكون مثل الذر يطأ أهل المحشر ، ويطرح الظالم بدله من النار ، أو يستوهب الله منه جناية الجاني عليه وظلم الظالم له ، فأي عز يبلغ عز من يستوهب منه مالك الملوك ، وسيد السادات ، والحي القيوم ، ثم يعوضه علي ما جني عليه ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ومن تواضع لله في الدنيا رقا وعبودة في أئتمار أمره |(1/193)
@ 194@وانتهاء مناهيه ، والاستسلام لحكمه رفعه الله تعالى في الآخرة على سرير خلد لا يفنى ومنبر ملك لا يبلى ، ومن تواضع لله في احتمال مؤن خلفه كفاه الله تعالى كل مؤنة ، وتولى امره ، وتوكل له فأية رفعة تبلغ وأية مرتبة تكون فوق مرتبة من يكون الله تعالى وكيله وتولى أموره ، ومن تواضع لله في قبول الحق بمن دونه قبل الله منه دخول طاعته ، وجازاه بقليل حسناته رفيع درجاته ، ومن تواضع لله في حفظ عباده ، والذب عنهم رفعه الله بمعقبات يجعله بين يديه ومن خلفه يحفظونه بأمره ، ويحرسونه عن أعدائه ، ويتولى إذلال عدوه له بقوله تعالى : {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر : 42].
|ومن أرفع منزلة ، وأجل قدرا ممن يكون الله تعالى متولى الذب عنه ، والناصر له سبحانه ما ألطفه بعباده المؤمنين ، وأجزل ثوابه للمحسنين ، وأحسن تجاوزه عن المسيئين.
$حديث آخر$
قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد البغوي ، قال : حَدَّثَنا عيسى بن يونس ، قال حَدَّثَنا سعيد بن عثمان البلوي ، عن عروة بن سعد الأنصاري ، عن ابيه ، عن الحصين بن وحوح إن طلحة بن البراء رضي الله عنه مرض ، قال النبي صلى الله عليه وسلم يعوده ، فلما انصرف قال لأهله : إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فإذا توفى فأذنوني به حتى أشهده ، وأصلي عليه فلم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بني سالم بن عوف حتى توفي وجن عليه الليل ، وكان فيما قال طلحة : ادفنوني والحقوني بربي ، ولا تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أخاف عليه اليهود ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فوقف على قبره ، فصف الناس معه ، ثم رفع يديه وقال : اللهم الق طلحة يضحك إليك ، وتضحك إليه.
|قال الشيخ رحمه الله تعالى : الضحك شيء يختص به الإنسان من بين سائر الحيوان ، ومعناه استفادة سرور يلحقه فيبسط له عروق قلبه فيجري الدم فيها فيقبض إلى سائر عروق بدنه فتثور فيه حرارة فينبسط لها وجهه ، وتملأ الحرارة فاه فيضيق عنها فينفتح كشفتاه ويبدو له اسنانه ، فإن تزايد ذلك السرور ولم يكن في الإنسان ما يضبط نفسه استحفها الفرح فضحك حتى قهقه ، ولذلك قيل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وضحكه تبسم ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستحفه السرور فيغلبه |(1/194)
@ 195@فيقهقه ، وهذه الصفة عن الله تعالى منفية ، وجميع أوصاف الحدث تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وقد وردت الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصف الله عز وجل بالضحك من ذلك ما :
|حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماتي ، قال : حَدَّثَنا ابن أبي الزياد ، عن ابيه ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يضحك الله عز جل إلى رجلين يقتل أحدهما صاحبه كلاهما داخل الجنة ، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل فيستشهد ، ثم يتوب الله على هذا فيسلم فيقاتل في سبيل الله فيستشهد.
|وحدثنا أبو محمد عبد الله المزني ، قال : حَدَّثَنا يوسف بن موسى ، قال : حَدَّثَنا أبو هارون إسماعيل بن محمد ، قال : حَدَّثَنا حبيب كاتب مالك بن انس ، قال : حَدَّثَنا مالك بن انس ، عن مصعب بن محمد بن شرحبيل ، عن بكير بن عبد الله بن الاشج ، عن سليمان بن يسار ، أن عوف بن الحارث وهو أحد بني عفراء قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يضحك الرب عن عبده ؟ قال : غمسه يده في سبيل الله حاسرا قال : فنزع درعا كان عليه ثم شد على القوم فقتل بشرا كثيرا ثم قتل.
|فإذا وردت الاخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة وجب علينا الإيمان به والتسليم له ، ونفي أوصاف الحدث عن الله تعالى والتشبيه له بخلقه ، ووجب حمل معنى هذه الصفة على ما يليق به ، فيجوز أن يحمل معناه على الرضا من عبده واختصاصه له ، لأن الضحك إنما يكون من السرور ومن سره شيء رضي به ، واختصه لنفسه ، وأثره يدل على ذلك قوله : ما يضحك الرب عن عبده ؟ أي : ما يرضيه منه فيجعله أثرا عنده ، فدل صلى الله عليه وسلم ما يرضى به الله عز وجل |(1/195)
@ 196@من أفعال عباده ويجعلهم من خصائصه والمؤثرين له وهو الجهاد في سبيل الله تعالى وقتال في أعدائه معرضا عن نفسه مستحفيا بها ، وهو معنى قوله حاسرا وقد قال الله تعالى : {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران : 169] ، فأخبر انهم عنده ، وانه اختصهم بما لم يختص به غيرهم كما قال عز وجل : {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [القمر : 55] وكما قال الله تعالى : {آتيناه رحمة من عندنا} [الكهف : 65] ، وقال تعالى : {وإنه له عندنا لزلفى} [ص : 25] ، كل هذا إشارة إلى الاختصاص والإيثار ، فيكون معنى قوله يضحك إليك أي : يسر بقدومه عليك ، ويحب لقائك ، ويرضى ثوابك.
|وتضحك إليه ترضى عنه ، وتلقاه بالقبول وتحب لقائه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : من احب لقاء الله احب الله لقائه.
|ويجوز أن يكون معنى الضحك من الله تعالى التجلي لعبده ، وكشف الحجب عنه فيراه رؤية عيان ، كما وردت الاخبار به ، وكما قال الله عز وجل : {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة : 22 23] فيكون معنى الضحك إليه التجلي له ، وذلك أن الضحك يعبر به عن الظهور فيقال : ضحك الفجر إذا ظهر ، وضحك السحاب إذا انكشف فأبدى عن السماء ، وضحك الشيب برأسه ، أي : ظهر وبدا ، قال رغيل بن علي : لا تعجبي يا اسلم من رجل ضحك المشيب براسه فبكى.
|فيكون معنى قوله يضحك أي : يقدم عليك فرحا بلقائك مسروا بقدومه عليك ، وتضحك إليه ، أي : تجلى له وتكشف الحجب عنه فيراك وينظر إليك ، كما |(1/196)
@ 197@قال في حديث عمرو بن حزام ، حيث قال لجابر بن عبد الله : ما كلم الله تعالى أحدا إلا من وراء حجاب ، وانه أحيا اباك فكلمة كفاحا.
|ويجوز أن يكون معنى الضحك من الله عز وجل إدرار الرحمة على عبده كما تدر السماء المطر على وجه الارض ، فقد يقال : ضحك السحاب إذا صب ماءه ، وأمطر لأن الماء في السحاب كامن فإذا صبه ظهر وبدا ، وقد يقال : السحاب إذا مطر بكت السماء ، وقد يقال : ضحك وبكى إذا امطر ، قال الشاعر : % ( سحابة صادقة الأنواء % تعقب بين الضحك والبكاء ) % # قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إبراهيم أبو الفضل ، قال : حَدَّثَنا أبو ثابت محمد بن عبيد الله المدني ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم هو ابن سعيد ، عن ابيه ، قال : بينا أنا جالس مع حميد بن عبد الرحمن إذا عرض شيخ جليل في مسجد رسول الله في بصره بعض الضعف من بني غفار ، فبعث إليه حميد ، فلما قال لي : يا ابن أخي أوسع له بيني وبينك فإنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم في بعض اسفاره بيني وبينه ، ثم قال الحديث الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحاب ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله تعالى ينشئ السحاب فيضحك احسن الضحك وينطق احسن النطق.
|قال الشيخ رحمه الله : فضحك السماء صبة الماء فقد عبر عن صب الماء بالضحك ، وعن استبشار العبد وسروره بنعمة الله وإدرارها عليه وفرحة بها بالضحك منه وإن كان الضحك المفهوم فيما بينا صفة للعبد وليس ذلك صفة لله عز وجل تعالى الله عن صفات المحدثين.
|ويجوز أن يكون معنى الضحك من الله عز وجل قبول عمل عبده ورضاه به ، وضحك العبد إليه فرحه بثواب ربه وسروه به ، كما قال الله تعالى : {ارجعي إلى ربك راضية مرضية} [الفجر : 28] أي : راضية بثواب الله مرضية أفعالك عند الله.(1/197)
@ 198@ويجوز أن يكون معنى الضحك الحسن والبهاء والنضرة ، كما يقال : ضحكت الشمس إذا شرق ضوءها ، وضحك النهار إذا اضاء ، وضحكت الأرض إذا اهتزت بالنور والنبات.
|قال الأعشى : % ( يضاحك الشمس منها كوكب شر % ق مورز بعميم النبت مكتهل ) % فيكون المعنى فيه حسن الثواب من الله تعالى ونصرته كأنه يضحك إلى العبد ، وحسن عمل العبد ، وإخلاصه وطهارته عما يدنسه كأنه يضحك إلى الله تعالى ، ثم الله تعالى أعلم بما أراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنا بما قاله صلى الله عليه وسلم على ما اراده ، والله عز وجل يتعالى عن شبه المخلوقين ، وأوصاف المحدثين علوا كبيرا.
|وقد يكون الضحك بين المحبين إذا طال العهد بينهما وتقادم ، وأضمر المحب محبوبه ، وكتم محبته له وشوقه إليه وصبابته له ، ولم يبث حزنه ، ولا أفشى سره إلى غيره ، ومحبوبه يعلم ذلك منه ، ويجل لذلك قدره عنده ويعظم موقعه منه وكأنه يحدث إلى حبيبه ما يزيده شوقا إليه وصبابة به ، ومحبة له ، فإذا التقيا نظر المحبوب إليه ، وقد عرف له ما كان يضمره له ، ويحن ضلوعه عليه فيضحك إليه قبولا له ، وتعظيما لقدره ، ولا يزيده على ذلك ، ويضحك المحب سرورا برؤية محبوبه فيفشي بذلك سره الذي كان بينهما ، ويظهر الشوق الذي كان محن عليه ضلوعه وقد بدا له سرور محبوبه به كسروره به ، وقبوله له ورضاه عنه ، فلا يزيد على الضحك إلى محبوبه إجلالا له ، وهيبة منه ، وتعظيما له.
|فيكون معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم ألق طلحة يضحك إليك ، أي : يظهر لك ما كان يجنه من المحبة لك والشوق إليك ، وتضحك إليه تعلمه قبولك له ورضاك به ، وعظم موقع ما قاسى فيك ، وكتمه من الشوق إليك والمحبة لك في خفاء ، وستر عن الاغيار غيرة على الحال ، كما قال الله تعالى : {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة : 17].
|ويجوز أن يكون هذا مما أخفى لهم عن الاغيار الناظرة ، والأشخاص الشاهدة .(1/198)
@ 199@$ حديث آخر$
قال : حدثنا محمد بن أحمد القاضي ، قال : حَدَّثَنا أبو عاصم ، قال : حَدَّثَنا محمد بن حميد الرازي ، قال : حَدَّثَنا يعقوب القمي ، عن عيسى ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يصلي على صخرة بمكة فأتى ناحية مكة ، فمكث مليا ثم انصرف فوجد الرجل يصلي على حاله فجمع يديه ثم قال : أيها الناس عليكم بالقصد ثلاث مرات فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا.
|قال : وحدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يعقوب ، عن عيسى بن حارثة ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
|قال الشيخ رحمه الله : الملاك تكرره يعرض للإنسان من عمل يعمله ، وأذى يلحقه منه ، وتعب يصيبه فيصبر عليه ، ويتحمل التعب فيه حتى يضجر ويسأم فيترك ذلك العمل استثقالا له ، ويرفضه تضجرا منه وسأمة وهو شيء يعرض للطبع بعد إيثاره للشيء ورغبته فيه ، وهذه صفة الإنسان المطبوع على طبائع مختلفة وأوصاف ، ويتعالى عنها علوا كبيرا فالملال ليس بصفة له ، ولا يجوز معناه المفهوم عندنا من أوصاف يلحقه الملال من المحدثين عليه ، وهو صفة الإنسان المطبوع الذي يضعف من تحمل ما يعرض له ، ويثقل عليه ويؤده شيء ويؤذيه.
|فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يمل حتى تملوا ليس على الغاية والتوقيت ، ويوصف هو تعالى بهذه الصفة في وقت أو عند تغير بل هو على النفي عنه ، والتبرئة له منه ، فيجوز أن يكون معنى قوله : حتى تملوا وتملوا بل تملوا ، أي : لا يملون ولا يمل ، بل تملون ، كأنه يقول : الملال لكم صفة ، وهذه الصفة لاحقة بكم إذا تكلفتم الاعمال ، واكرهتم عليها نفوسكم ، وتحملتم ما يلحقكم من التعب فيه وصبرتم عليه ، فيوشك أن يضعف عنها قواكم تستثقلوها ، وتضجروا منها فترفضوا استثقالا لها ، واستعراضا منها ، وزهدا فيها ، ورغبة عنها وبغضا لها ، |(1/199)
@ 200@فلا تعودوا إليها ، والله تعالى جده لا يصيبه هذه الآفات ، ولا يعترض له هذه العوارض ، فلا يصرفكم عما تكلفون ، ولا ينهكم عما تعملون ، ولا يحول بينكم وبينها كراهة لها واستثقالا منه إياها وبغضا لها ، بل يصيبكم ذلك فتتركوا ، فتتركون عبادة ربكم ، وتستثقلون خدمة مولاكم ، وتبغضون طاعة ربكم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : إن هذه الدين متين فادخل فيه برفق ، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا ابقى.
|قال : حدثنا الحسين بن علي بن العطار ، قال : حَدَّثَنا أبي ميسرة ، قال : حَدَّثَنا خلاد بن يحيى قال : حَدَّثَنا يحيى المتوكل ، عن محمد بن السوقة ، عن المنكدر ، عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوله : عليكم بالقصد كره التعمق والغلو في الدين لما علم من جبلة الخلق على الضعف ، وما في طباعهم من الملل والسأمة خوفا عليهم أن يبغضوا عبادة الله ويستثقلوا طاعته ، وتملوا خدمته ، فأمرهم بالاستجمام والاستراحة لاسترجاع القوى ، وزوال الضجر ، وليكون ذلك ادعى لهم إلى حسن الطاعة لله تعالى ، ومحبة للخدمة له ، وألفة عبادته ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وآتي النساء ، ألا فمن رغب عن سنتي فليس مني.
|ألا وكل قليل في سنة خير من كثير في بدعة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو : إن لله عليك حقا ، ولبدنك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا.(1/200)
@ 201@وكتب سليمان إلى أبي الدرداء رضي الله عنهما : إني أنام وأقوم ، وأحسب نومتي كما أحسب قومتي ، وأحسب نومه طاعة لله تعالى هذا الحق فايفاءه إياه طاعة لله ولأن في نومته استجلاب القوة لقومته ، وتشحيذ الطباعة وحثا منه لنفسه على طاعة ربه عز وجل ، وحبب عبادة الله إلى نفسه لأن الله عز وجل احب من عباده أن يحبوه ويؤثروه ، ويقبلوا بها عليه ، ولذلك كلفهم الأعمال لتشتغلوا بها عما دونه ، وقبلوا بها عليه ، ويتوجهوا بأدائها إليه ، فإذا تحملوا منها فوق طاقتهم ملوا فتركوها ، وفي تركها ترك الإقبال عليه ، والتوجه إليه ، وهو غني عن أفعال عباده ، ولا يزيده طاعتهم ، ولا ينقصه معصيتهم ، وإنما أراد منهم إظهار فقرهم إليه ، ورؤية اضطرارهم إليه ، وعجزهم ليغنيهم ، ويقويهم ويجعلهم ملوكا خالدين ، وأغنياء لا يفتقرون ، وأقوياء لا يضعفون ، سبحان اللطيف بعباده والرؤف بهم.
|ويجوز أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى لا يمل حتى تملوا أي : لا يترك ثوابكم والإقبال عليكم ، وقبولا لأعمالكم المدخول فيها ما لم تملوا طاعته وتستثقلوا خدمته وتبغضوا عبادته ، كأنه يقول : إنه عز وجل يقبل عليكم وإن قصرتم في عبادته ، ويقبل يسير أعمالكم ويثيبكم عليها الجزيل ما دمتم فيها راغبين ، ولها مريدين ، وبنياتكم إليها قاصدين ، وإن لم تبلغوا إرادتكم فيها ومقاصدكم منها ، وإنما يترك ثوابكم والإقبال لكم إذا اعرضتم عنها ومللتموها.
$حديث آخر$
قال : حَدَّثَنا الشيخ الإمام عبد الله بن محمد الحارثي ، قال : حَدَّثَنا خلف بن عامر بن سعيد الهمداني ، ومبارك بن زيد المؤدب ، والليث بن خيرون النجاريون ، قالوا : حَدَّثَنا يحيى بن جعفر ، قال : حَدَّثَنا المحابتي ، قال : حَدَّثَنا الفضيل بن غزوان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا نبي الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فقلن ، والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا الماء ، ثم قال : ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه الله فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فدخل على أهله فقال : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : والله ما عندنا إلا قوة الصبية ، قال : فإذا ارادوا العشاء فنوميهم ، ولا تذكري ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ثم مري على السراج |(1/201)
@ 202@فاطفئيه ، وتعالى فلنطو بطوننا بضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت ، قال : فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد عجب الله من فلان وفلانة ، فأنزل الله عز وجل فيهما قوله تعالى : {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر : 9].
|قال الشيخ رحمه الله : العجب استعظام الشيء واستكباره لخروجه من العبادة وبعده من العرف ، قال الله عز وجل خبرا عن الجنة : {إنا سمعنا قرآنا عجبا} [الجن : 1] قيل : بديعا لم يسمع مثله ، وذلك انه لما كان خارجا عن أوصاف كلام الناس والعمود المعتاد منه وصفوة بالعجب ، وكل ما خرج من العبادة ، وبعد عن عرف الناس استعظم ذلك ، فالله عز وجل قد اعظم أشياء في كتابه فقال في ذكر القيامة : {ألا يظن أولئك انهم مبعوثون ليوم عظيم} [المطففين : 4] وقال تعالى : {رب العرش العظيم} [المؤمنون : 86] ، وقال تعالى : {سبحانك هذا بهتان عظيم} [النور : 16] والاستعظام من الله تعالى أن يسمي الشيء عظيما ولما كان العجب استعظام الشيء واستكباره ، وكان التعظيم للشيء جائزا على الله عز وجل أن يوصف الله تعالى بالعجب كما وصفه به رسوله ، وقد وصف الله تعالى نفسه بصفة العجب بقوله : {بل عجبت ويسخرون} [الصافات : 12] قرأها الأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وجماعة من القراء برفع التاء ، والقراءة سنة وكل ما قرأه القراء المشهورون فهي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا فقراءة هذه الحروف برفع التاء يجب أن يكون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وقراءته ترتل لله عز وجل لقوله صلى الله عليه وسلم : انزل القرآن على سبعة أحرف.(1/202)
@ 203@فالعجب إذا من الصفات التي ورد بها السمع في الكتاب والسنة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : عجب الله تعالى من اقوام يقادون إلى الجنة بالسلاسل.
|فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم : لقد عجب الله من فلان وفلانة ، يجوز أن يكون قد عظم الله تعالى ذلك منهما وعظمهما بهذا الفعل وعظم مقدارهما ، وأجل قدرهما بما فعلاه من بديع الامر ، وهو إيثارهما ضيف نبيه صلى الله عليه وسلم على أنفسهما ، وهو الفعل الخارج عن عادات الناس.
|ويجوز أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : عجب الله أي : قبل الله منهما ما اتياه ، ورضي عملاه وعظم ثوابهما على ما فعلاه.
|ويجوز أن يكون معنى التعجب منهما للمؤمنين كأنه يقول : أخبر الله تعالى انهما أتيا من الأمر العجيب البديع الذي لم يجر العادة فيستعظم ذلك على جهة المدح ، لمن جاء به والرضا به والاستحسان له ، وقد يستعظم الشيء على جهة الذم لمن اتي به واستقباح ذلك الفعل منه والإنكار على من فعله ، قال الله تعالى : {إن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفي خلق جديد} [الرعد : 5] أنكر الله تعالى ذلك القول ورسوله منهم ، وهو انهم أنكروا ما اقروا بما هو اعظم منه ، واستعظموا على جهة الإنكار ، ما جوزوا ما هو اعظم منه ، وهو ابتداء الخلق من الماء المهين ، وإخراج الشيء من العدم إلى الوجود ، وخلق الشيء لا من شيء ، ثم أنكروا عادته بعد إفنائه فاستعظم الله تعالى إنكارهم ذلك فعجب رسوله جحودهم قدرة الله عز وجل ، وإنكارهم ما هو موجود في فطر العقول.
|ويجوز أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : عجب الله من اقوام يقادون إلى الجنة بالسلاسل أي : اظهر عجب هذا الأمر لخلقه وبديع هذا الشأن وهو أن الجنة التي أخبر الله تعالى بما فيها من النعيم المقيم ، والعيش الدائم فيه ، والخلود في النعيم المقيم الذي من حكم من سمع به من ذوي العقول أن يسارع إليها ويبذل مجهوده في الوصول إليها ، وتحمل المكاره والمشقات لينالوها ، وهؤلاء يمتنعون عن ذلك ، |(1/203)
@ 204@ويرغبون عنها ، ويزهدون فيها حتى يقادون إليها بالسلاسل كما يقاد إلى المكروه العظيم الذي تنفر منه الطابع ويألم منه الأبدان وتكرهه النفوس.
|ويجوز أن يكون معنى قوله : عجب الله عز وجل من اقوام أي : رضي عن أقوام ، وقيل ناسا ورفع اقدار عباد وعظم مرتبة من صفتهم انهم يقادون إلى نعيم أنفسهم وقرات اعينهم بالسلاسل تأبيا منهم على الله تعالى ، وامتناعا منه ونفرة عنه ، يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يختار من خلقه من يشاء ، ويقبل من يريد ، ويصطفى بعمله من غير فعل يكون منهم ، ولا سابقة تقدمت منهم ، ويعود إلى الجنة من يمتنع منها ، وتنقذ من النار من هو على شفا جرف منها ، بل هو من يتهافت فيها تهافت الفراش في النار.
|قال النبي صلى الله عليه وسلم : مثلي ومثلكم كرجل استوقد نارا فجعل الفراش يتهافتون في النار فأنا آخذ بحجزكم ، وأنتم تتهافتون في النار.
|ويجوز أن يكون فيه إخبار عن عظيم فضل الله تعالى ، وجليل كرمه بني دارا جعل فيها أنواع النعيم ، وملاذ النفوس ، وقرأت الاعين ، ودعا إليها بألطف دعاء وبذلها بأيسر مؤنة ، فأعرض عنها أقوام ، وأبوها ونفروا عنها فقادهم إليها بالسلاسل فكان هذا فضله وكرمه مع أمثال هؤلاء ، فكيف يكون فضله وكرمه وبره وإحسانه بأقوام رغبوا في خدمته ، وتحملوا المشقات والمكاره في طلب مرضاته ، وسلوه ما اعد لهم بألسنة ، الافتقار ، ومدوا إليه طلبا أيدي الاضطرار ، واستعاذوا بوجهه الكريم من عذابه الاليم ، وناره التي يتهافت فيها اقوام فبرهم عنها رحمة عليهم ، ونظر إليهم فكيف يطرح فيها من يهرب منها ، ويسعيذ به من الوقوع فيها ، أو كيف يحرم من يسأل بألطف السؤال ويطلب إليه المجهود منه دارا يعود إليها بالسلاسل من يهرب منها ويعرض عنها أن ذلك لا يليق بفضله وكرمه ، إنه ذو فضل عظيم ، ومن كريم ، والمستعاذ به من شيطان رجيم.(1/204)
@ 205@$ حديث آخر$
قال : حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن اسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : اخ عباد بن زيد ، عن ثابت ، عن أبي بردة ، عن الأغر المزني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانت له صحبة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله تعالى في كل يوم مائة مرة.
|قال الشيخ رحمه الله : الغين شيء يغشى القلب فيغطية بعض التغطية ، ولا يحجبه عما يشاهده ، وهو كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء ، فلا يكاد يحجب عين الشيء ، ولا يمنع ضؤها ، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر انه يغشى قلبه ما هذه صفته ، وذكر انه يستغفر الله تعالى في كل يوم مائة مرة ، فتكلم شيوخ الصوفية وكبارهم في معنى هذا الحديث ، فمنهم من جعل هذه الحالة حالة تقمص ، وخفض وأشار إلى بعض الحجبة ، وورى بشيء منها ، ومنهم من اجل قدر المصطفى ، صلى الله عليه وسلم عن الحجبة ، وأشار إلى انه كان ينقل من حال إلى ما هو ارفع منه فإذا رفع إلى درجة ، رأى ما نقل عنها تقصيرا في واجب حق الله تعالى فرأي ذلك عيبا يجب له الاستغفار منه ، وتكلموا بما هو أدق من هذا ، وأكثر وأولى ، ولا يخرج أن شاء الله تعالى إشاراتهم فيه ورموزهم عن الصواب.
|والجملة أن النبي صلى الله عليه وسلم أرفع الخلق منزلة عند الله تعالى وأعلاهم درجة ، وأقربهم زلفى ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما # حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : أخ قيس ، عن الأعمش عن عباية بن ربعي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما فذلك قوله تعالى : {أصحاب اليمين} ، {وأصحاب الشمال} [الواقعة : 27] فأنا من أصحاب اليمين ، وأنا خير أصحاب اليمين ، ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في |(1/205)
@ 206@خيرها قبيلة فذلك قوله عز وجل : {وجعلناكم شعوبا وقبائل} [الحجرات : 13] فأنا أتقى ولد آدم ، واكرمهم على الله تعالى ولا فخر ، ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله تعالى : {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب : 33].
|فاخبر النبي صلى الله عليه وسلم انه خير الخلق كلهم.
|وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن الله تعالى فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على أهل السماء ، وعلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
|وما حدثنا بكر بن حمدان ، قال : حَدَّثَنا عبد الصمد بن الفضل ، قال : حَدَّثَنا جعفر بن عمر العدني بمكة ، قال : حَدَّثَنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : إن الله تعالى فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على أهل السماء ، وعلى الانبياء ، فقالوا : يا ابن عباس ، فما فضله على أهل السماء ، قال : إن الله تعالى قال لأهل السماء : {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} [الأنبياء : 29] وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم وسلم : {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح : 1 2] قالوا : يا ابن عباس فما فضله على الأنبياء ؟ قال : إن الله تعالى قال : {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) {[إبراهيم : 4] ، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم {وما ارسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} [سبأ : 28] ، فأرسله الله تعالى إلى الإنس والجن ، وفيما سماه الله تعالى دليل على فضله ، وهو قوله تعالى : {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران : 144] فسماه محمدا ، وهو المبالغة في صفة الحمد ، وسماه احمد ، قال الله تعالى يخبر عن روحه وكلمته : {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف : 6] فهو صلى الله عليه وسلم أفضل المحمودين ، فمن استحق من المخلوقين اسم الحمد ، فهو صلى الله عليه وسلم |(1/206)
@ 207@احمدهم ، ومن استوجب المدح من المربوبين فهو صلى الله عليه وسلم أولاهم بالمدح ، فمن كانت هذه صفته فجميع صفاته بصفة المدح أولى ونعومته بالحمد احرى ودرجته كل يوم وساعة أعلى ، ورتبته في كل حال اسنى وهو صلى الله عليه وسلم يرقى به كل وقت وساعة ، بل عند كل نفس ، وفي كل طرفة ، إذا فالغين الذي يغشى قلبه ، ويغطى سره صفة مدح ، ونعت شرف وليست فيه غضاضة ، ولا خفض ، بل فيه رفعة ومرتبة وعلو حال ، وحاله صلى الله عليه وسلم أعلى من أن يشرف عليها إلا الله تعالى ويعرف كنهها غيره عز وجل ، فالله أعلم بحقيقة ما اغان على قلبه صلى الله عليه وسلم وإنما يتكلم على قدر ما يكشف له ، وعلى مقدار حظه منه.
|فيجوز أن يكون ما يغان على قلبه فكره تغمه وخاطرا يغمه من أمرا عنه مما أخبر عن الاحداث الكائنة فيهم ، والفتن الواقعة منهم ، فيصير ذلك غينا على قلبه لشفقته عليهم ورأفته بهم ورحمته إياهم ، فقد كان صلى الله عليه وسلم خفيا عليهم رؤفا بهم ، عزيزا عليه عنتهم أخبر عما يغمه من امرهم فقال : اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي ، وقال مخبرا عن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم : إنهم يقولون نفسي نفسي ، ويقول النبي أمتي أمتي ، فكان صلى الله عليه وسلم إذا عرض سره أحوالهم اغتم لذلك يغشي ذلك الغم قلبه فيستغفر لهم الله عز وجل في كل يوم مائة مرة.
|ويجوز أن يكون الذي يغان على قلبه هي السكينة التي أخبر الله تعالى انه انزلها عليه لقوله جل جلاله : {فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها} [التوبة : 40] |(1/207)
@ 208@وقال : {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} [الفتح : 26] فالذي ينزل على المؤمنين الطمأنينة إلى موعود الله تعالى بالنصر لهم والظفر على عدوهم والثبات عند اللقاء والصبر عند البلاء ، والذي نزل على قلبه على ما يليق بحاله ، وما يحدث الله عز وجل به من اللطايف التي يحلها قلبه ويودعها صدره فقد قال الله تعالى {ما كذب الفؤاد ما رأى} [النجم : 11] ، وقال : {ولقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم : 18] اخرجها عن الأوهام بقوله : الكبرى ، ولقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم السكينة بالعظام فيما :
|حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا أبو بكر ، عن عاصم ، عن ذر ، عن أسيد بن حضير انه اتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنى كنت قرأت البارحة سورة الكهف فجاء شيء غطى فمي ، فقال صلى الله عليه وسلم : تلك السكينة جاءت تسمع القرآن.
|فوصف النبي صلى الله عليه وسلم السكينة بأنها تغطي الفم واخبر انه يغان على قلبه ، والغين مثل الغطاء ، واخبر الله عز وجل انه انزل على قلبه السكينة فجاز أن يكون الذي يغطى قلبه هو السكينة وتكون السكينة هي اودعها الله تعالى قلبه من اللطائف التي يحدثها فيه وينزلها على ستره لا يعلمها إلا منزلها عليه ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : لي مع الله وقت لا يسمعني فيه غيره فأخبر أن أوقاته خارجة عن أفهام الخلق ، وكانت السكينة في بني إسرائيل في التابوت فكانت إذا هرت هرير الهرة والظفر والنصر والفتح والعلو ، والذي ينزل على قلب المؤمنين يكون معها الطمأنينة والثبات وموعد الحسنى من الله عز وجل ، والتي نزلت على اسيد بن حضير استمعت القرآن فكذلك التي تنزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم يكون معها من اللطايف التي تجسر الافهام عن إدراكها ، ويعجز العقول عن كنه معرفتها ، وتحسن الافهام والفطن عن الوقوف عليها ، ويكون الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم عقيبها إظهار العبودية ورؤية الافتقار ، وإشارة إلى الافتخار بالعبودية لله الغفار لأن من احب أوصاف العباد إلى الله إظهار الفقر ورؤية الاضطرار إلى الله وهما سمة العبودية ، وكان استغفاره إظهار فقره والافتخار بالعبودية لسيد لا أن يمحو به ذنبا ، أو(1/208)
@ 209@ذنبه ، أو خطيئة اكتسبها ، ألا ترى إلي الله عز وجل لما خاطبه بأجل المخاطبة وأمره بأعلى الاوامر ، وهو العلم بالله تعالى اتبعه الأمر بالاستغفار فقال جل جلاله : {فاعلم انه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} [محمد : 19] فالعلم بلا إله إلا الله اجل احواله ، وأعلى مراتبه ، وارفع درجاته ، وهو فضل تفضل الله به عليه فكان علمه بلا إله إلا الله ، لأنه كما كان صبره بالله لا بذاته انه قال الله تعالى : {واصبر وما صبرك إلا بالله} [النحل : 127] فاتبع جليل هذا العطاء ، وكريم هذا الجباء ، الذي هو العلم بالله الاستغفار ليكون إظهار العبودية عند ظهور الربوبية.
|ألا ترى إلى ما روي في الحديث انه قال في ذكر القيامة : فيستقبلني الجبار فأخر له ساجدا ، فيقول : يا محمد قل تسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقول عز وجل : اذهب فمن وجدت في قلبه مثقال نصف حبة من شعير من إيمان فأدخله الجنة ، فأذهب وأميز وأدخل من شاء الله برحمته ، ثم اذهب فأخذ بحلقة الجنة فيستقبلني الجبار فأخر له ساجدا ذكر في الحديث مرة بعد أخرى.
|حدثنا به عبد العزيز بن محمد ، حَدَّثَنا محمد بن ابراهيم ، حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل بن جعفر ، حدثني عبد العزيز أبي حازم ، عن سهيل ، عن صالح ، عن زياد النميري ، عن انس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل : نسوقه فيما بعد عند الإخبار عن معناه إن شاء الله تعالى ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم لما احدث الله تعالى له كرامة احدث عندها خضوعا ، فكذلك إذا احدث الله له في لطائفه في إنزال السكينة على قلبه احدث عندها خضوعا بإظهار الافتقار بصفة الاستغفار ، وفي الاستغفار معنى آخر لطيف وهو استدعاء المحبة من الله لأن الله تعالى قال : {إن الله يحب التوابين} [البقرة : 222].
|فكان صلى الله عليه وسلم يحدث في كل حال توبة ، ليستوجب من ربه المحبة ، فكان استغفاره إظهار توبته ، وتوبته استدعاء محبته والله أعلم.
|ويجوز أن يكون معنى تغشى السكينة قلبه صلى الله عليه وسلم لسماع ما يناجي به الحبيب حبيبه كان تغشيها فم أسيد بن حضير لسماع القرآن ، كأن القرآن كان يسمع من أسيد بن حضير ، ومن غيره.(1/209)
@ 210@وما يناجي به النبي صلى الله عليه وسلم ربه تعالى لا يسمع من غيره ، فأستماع السكينة بمناجاة قلب النبي صلى الله عليه وسلم أولى من استماعها لقراءة أسيد ، ومما يجوز أن يكون مناجاة القلب منه صلى الله عليه وسلم ما روي : أنه كان إذا قام إلى الصلاة سمع له ازيز كأزيز المرجل فإذا جار أن يسمع الناس من قلبه جاز أن يسمع السكينة من قلبه فيكون تغشيها قلبه لسماع مناجاة حبيب الله كما كان تغشيها فم أسيد لسماع قراءة كلام الله تعالى.
$حديث آخر$
حدثنا حاتم ، حَدَّثَنا يحيى ، حَدَّثَنا الحماني ، عن عبد العزيز بن محمد ، عن يزيد بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سمعته يقول : ما اذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : إن الإنسان إذا أصابه غم فأحب أن يتسلى بشيء أو ضاق صدره من أمر فأراد أن يفرح ، أو اصابته وحشة فأحب إزالتها عنه ربما يغني ، وهو أن ينغم ويرجع صوته لشيء من الشعر ، والزجر ، والمنظوم من الكلام يطلب بذلك راحة وفرحة مما هو فيه من الوحشة ، أو الكرب والغم.(1/210)
@ 211@والأنبياء والرسل وأفاضل الأولياء والصديقون همومهم هم المعاد ، وكربهم كرب الدين ، ووحشتهم مما دون الله ، وضيق صدورهم عما يشغلهم عن الله ، فهم لا يتفرحون من كربهم إلا بذكر ربهم ، ولا ينسلون عن غمومهم وهمومهم إلا بمولاهم فيرجعون أصواتهم بقراءة القرآن الذي من محبوبهم بدأ ، وإليه يعود ، وبخشيته من قلوبهم ، ورقة من افواه افئدتهم ، ويزان محبته بين ضلوعهم ، وماء الاشتياق يجري على خدودهم ، فتحسن لذلك اصواتهم ، لأن حسن الصوت بالقرآن هو قرآته على خشية من الله.
|وسئل النبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله من احسن الناس صوتا بالقرآن ؟ فقال : من إذا قرأ رأيت انه يخشى الله تعالى.
|فاخبر أن حسن الصوت بالقرآن قراءته على خشية من الله.
|فقوله صلى الله عليه وسلم : حسن الصوت يتغنى بالقرآن يريد به إن شاء الله قراءته على خشيته من الله عز وجل وخشوع في نفسه ورقة من فؤاده ، وهي قراءة الأنبياء عليهم السلام وافاضل الأولياء ، ليس ترجيع الصوت والإلحان ، وتحريك الحنك ، كفعل من يتلهى بكلام المحدث الذي يريد به إثارة الشهوات الخفية بقلوب لاهية ، وأفئدة ساهية تتزين للناس ، ولا يطرد الخناس ، ويزيد في الوسواس ، فمن رزق حسن النعمة ، وخشية القلب ، ورقة الفؤاد فقرأ القرآن مترسلا له مرتلا حق حروفه ، فذلك الكامل الذي أوتي مزمارا من مزامير آل داود.
|كما قال صلى الله عليه وسلم حين سمع قراءة أبي موسى فقال : لقد اوتي أبو موسى مزمارا من مزامير داود صلى الله عليه وسلم.(1/211)
@ 212@وقال أبو موسى رضي الله عنه وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم : قد سمعت قراءتك فقال : أما لو علمت انك تسمع قراءتي لحبرتها لك تحبيرا.
|ومن لم يرزق حسن النعمة وأتي بما سواها من لم يخرج إن شاء الله تعالى من صفة من يأذن الله له بحسن صوته.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : ما أذن الله لشيء ما اذن لنبي أي : ما رضي من المسموعات شيئا هو ارضى عنده ، ولا احب إليه ، ولا اثر لديه من قراءة القرآن على خشية من الله ، والله تعالى موصوف بالسمع والبصر والرؤية والإدراك ، وهو السميع البصير ، والسمع صفة له على الحقيقة في ذاته بخلاف ما يفعل من استماع المحدثين الله تعالى عن صفات الحدث علوا كبيرا ، فهو سامع للمسموعات على الحقيقة ليستمع هو له صفة ، وليست بجارحة فإذن الله سماعه لقراءة القرآن ، وهو تعالى لا يوصف بأنه اسمع بشيء منه لغيره ولا يوصف بالاستماع الذي هو جمع الفكر وإحضار السر ، وإلقاء السمع.
|فلذلك حمل معنى تخصيص سماع القرآن منه على الرضا والمحبة والإيثار ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من لم يتغن بالقرآن فليس منا يجوز أن يكون معناه من لم يتفرح من عمومه ، ولم يكتف مما يلهيه عن كربه ، ويسليه عن همومه ، ويطرد وحشاته بقراءة القرآن والتفكر فيه والتدبر له فليس منا ، أي ليس ذلك من أوصافنا ، ولا تشبه بناصية وصفة ، وإن كان منا نحلة وملة هي قوله : من لم يتغن بالقرآن فليس منا له معنيان : أحدهما أن من لم يكن همومه هموم المعاد ووحشته من أوصاف المحدثين فليس منا ، لأن التسلي بكلام الله إنما يكون من كرب الدين والهموم |(1/212)
@ 213@التي تكون في الله فيكون التسلي منها بما من الله تعالى ، فأما هموم الدنيا من جهة فواتها ونيلها ، ووحشة الخلق من الاتزان والاخدان ، فإنما يطلب لها الملاهي وترجيع الأصوات بالاغاني.
|والمعنى الآخر : أن من لم يستأنس بالله واذكاره ، ولم يرجع إلى الله عند ضروراته ولم تكن صفاته جل وعز وحالة له عن وحشة صفاته فليس منا خلفا وسيرة ، وإن كان منا نطقا وسريرة . والله أعلم.
$حديث آخر$
حدثنا حاتم ، حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا الحماني ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن محمد بن سعد ، عن ابيه ، قال : استأذن عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه عالية اصواتهن على صوت النبي صلى الله عليه وسلم فلما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لعمر تبادرن الحجاب ، فدخل عمر والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك ، فقال : اضحك الله منك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وامي من أي شئ ضحكت ؟ قال : عجبت من هؤلاء النسوة التي كن عندي لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب فقال عمر رضي الله عنه : بأبي أنت وامي كنت أحق أن يهبن ، فأقبل عمر عليهن فقال : أي عدوات انفسهن تهببني ، ولا تهبن رسول الله ؟ فقلن لعمر : أنت أفظ واغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده يا ابن الخطاب ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : قال قائل ظاهر هذا الحديث يرى أن الشيطان كان يهاب عمر ، ولا يهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وان الشيطان حضر بحضور النسوة ، فلما ذهب الشيطان بحضور عمر تبادرت النسوة الحجاب ، والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد ، وهو ارفع درجة ، وأعلى رتبة من عمر فكيف لم يهبه الشيطان وهاب عمر رضي الله عنه ؟ |(1/213)
@ 214@فالجواب : انه ليس في الحديث ما يدل على حضور الشيطان حضرت النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه بعذرهن في هيبتهن إياه ، فقال : وكيف لا يهبنك والشيطان يهابك ، ولو كان الحال يوجب حضور الشيطان لكانت الحال حال معصية ، ولو كان كذلك لكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك وينكر عليهن ، فلما لم يفعل دل انها لم تكن حال عصيان الله فيحضر الشيطان.
|قال الشيخ : ومعنى قوله عالية اصواتهن ارفع من صوته ، ويجوز أن يكون ذلك قبل نزول النهي عن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم.
|قال الشيخ رحمه الله : ويجوز أن يكون الشيطان كان يخاف عمر ولا يخاف النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لو خاف النبي صلى الله عليه وسلم لم يخل خوفه منه وهيبته إياه من أحد وجهين ، إما خوف إجلال وتعظيم وهو فضله ، والشيطان ابعد شيء من الفضائل ، أو يكون خوف عقوبة يحلها به ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعاجل بالعقوبة استخقاقا به وقلة مبالاة ، إذ لم يكن صلى الله عليه وسلم يخاف فتنته ، ولا يهاب وسوسته ، وقد أيس الشيطان من ذلك فلا يوسوس إليه ولا يقرب منه ، وأمن عقوبته فلم يهبه اغترارا به وآمنا من مكر الله ، وهما من صفاته ، أغني الاغترار بالله والأمن مكره.
|وأما عمر رضي الله عنه فإنه كان يخاف الشيطان أن يفتنه ، ويوسوس إليه فكان يناصبه ويستعد له وينصر عليه ، فكان الشيطان يخافه لاستعداده له ومناصبته إياه فكان يترك فجه وسبيله حذرا منه . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يبالي به ولا يتفكر فيه استخفافا به واستصغارا له كأنه ليس بشيء.
|وقد قال أبو حازم : وما الشيطان حتى يهاب ، فوالله لقد أطيع فما نفع ، وعصي فما ضر.
|وعامر بن عبد الله كان الشيطان يتمثل له في صورة حية في موضع سجوده ، فكان إذا أراد أن يسجد نحاه بيده ويقول : والله لولا نتنك لم ازل أسجد عليك.
|وقال بعض الكبار : لولا أن الله تعالى أمر بالاستغاذة من الشيطان ما استعذت |(1/214)
@ 215@ولو ناصبوه واستعدوا له ، اتعبوه تعبا لا يقرب منهم ، إلا ترى إلى ما روي في الحديث إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله حصاص ، هذا فيمن لم يقصد فكيف بمن يقصد له ذاكرا لله مستعذا به منه ، غير أن الأنبياء عليهم السلام والأكابر ممن دونهم لا يبالونه ولا يتفكرون فيه ، فهو يأمنهم اغترارا بالله فيدنو منهم ويروم منهم ما يروم من غيرهم فلا يضرهم ، ويضر نفسه ، كمثل الفراش يأمن النار فيدنو ويروم منهم ما يروم من غيرهم فلا يضرهم ، ويضر نفسه ، كمثل الفراش يأمن النار فيدنو منها فيحرق نفسه ، الا ترى إلى ما روي في حديث عيسى ابن مريم صلوات الله عليه وهو ما :
|حدثنا محمد بن محمود ، قال : حَدَّثَنا نصر بن زكريا ، قال : حَدَّثَنا عمار بن الحسن ، قال : حَدَّثَنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن اسحاق ، قال : كان إبليس فيما ذكر لي : قد اعترض لعيسى ابن مريم ؟ فقال له عيسى : نعم ، أنا المسيح ابن مريم الطريق ، فقال له أنت المسيح ابن مريم ؟ فقال له عيسى : نعم ، أنا المسيح ابن مريم روح الله وكلمته من أسمائي اني عبد الله وابن أمته . فقال له ابليس : أنت إله الأرض بلغ من عظم ربوبيتك انك تخلق الطير من الطين وتشفي المرضي ، وتحيى الموتى ؟ فقال : بل العظمة للذين خلقني وخلق ما سخر لي وبإذنه اشفيهم ، ولو شاء امرضني ساق الحديث إلى أن قال له : هلم اعبد لك الشياطين وآمرهم بالاعتراف والسجود لك فيراهم بنو آدم فيعترفون لك بالسجود ، فتكون إله الأرض . فأعظم عيسى ذلك من قوله فقال : سبحان الله عما يقول وبحمده ، سبحان الله وبحمده ملأ سمائه وأرضه ، وعدد خلقه ورضا نفسه ، ومبلغ علمه ، ومنتهى كلماته ، وزنة عرشه . فلما قال عيسى ، نزل جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام فثبت جبريل مع عيسى ، ونفخ ميكائيل إبليس نفخة ذهب يطم منها على وجمه نحو مطلع الشمال لا يملك من نفسه شيئا حتى صدم عين الشمس عند طلوعها فخر وحيدا محترقا ، واتبعه اسرافيل حثيثا فصدمه صدمة أخرى نحو مغربها ، فذهب يطم لا يملك من نفسه شيئا ، حتى إذا مر بحال عيسى حيث فارقه ، قال : لقيت منك يا ابن مريم نصبا ، ثم لم يك |(1/215)
@ 216@له ناهية حتى وقع في العين الحامئة التي تغرق فيها الشمس ، فغرق فيها سبعة أيام لا يقدر على أن يتخلص منها ، كلما اطلع منه شيء عجبت الملائكة حتى تخلص بعد السبع ، وما كاد فيما رام عيسى بعد ذلك ، ولا زال له هابيا.
|فدل على أن دنوه من عيسى عليه السلام كان اغترازا منه به ، وآمنا من مكر الله لقلة التفات عيسى إليه ، واكثراثه واشتغاله به فأمنه فدنا منه ، فأهلك نفسه وكل من آمن شيئا ثقة بالله وخوفا منه وتوكلا عليه ، فلم يلتفت إلى المخوف ، ولم يشتغل به ، أمنه ذلك المخوف إما ثقة واستئناسا كلما تأنس الطير والوحوش إلى من لا يتعرض لها والسباع والاسد ، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما انه خرج في سفر فإذا الجماعة على ظهر الطريق ، فقال ابن عمر : ما هذا ؟ قالوا : أسد قطع الطريق على الناس ، فنزل ابن عمر فمشى حتى اخذ بأذنه ثم نفاه ، ثم قال : ما كذب عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لو أن ابن آدم لم يخف غير الله ما سلط الله عليه غيره ، وإنما وكل ابن آدم لما رجا أبن آدم ، ولو أن ابن آدم لم يرج غير الله لم يكله الله إلى غيره.
|حدثناه عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي رحمه الله حدثنا محمد بن صالح أبو بكر البلخي ، حَدَّثَنا عمرو بن عثمان ، حَدَّثَنا بقية ، حدثنا ابن حزيم ، حدثني ابن أبي وهب القريشي ، عن عبد الله بن عمر انه خرج في سفر ، الحديث.
|فدل هذا الحديث انه لما أمن الأسد ثقة بالله فأخذ بأذنه آمنه الأسد فلم يهرب منه . وسئل إذكاره غيبة عنها لخوف الله تعالى غابت الأشياء عنه.
|وسئل بعض الكبار من الخائف ؟ فقال : الذي تخافه المخلوقات ، وهو الذي غلب عليه خوف الله فصار خوفا كله فيخافه كل شيء ، كما روي في الحديث : إن النار تقول يوم القيامة جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.(1/216)
@ 217@انشد بعض الكبار : % ( يحترق بالنار من يحس بها % فمن هو النار كيف يحترق ) % فكان عمر رضي الله عنه بصفة من يخافه المخلوقات لغلبة خوف الله عليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم بصفة من امنته المخاوف غيبة عنها بشهود مولاه.
|فإن قيل : فقد قال الله تعالى في قصة آدم عليه السلام وحواء : {فوسوس لهما الشيطان} الآية : [الأعراف : 20] ، وقال تعالى : {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} [طه : 120] فقد نال الشيطان من آدم بوسوسته له فأخرجه من الجنة ؟.
|قيل : إن آدم عليه السلام لم يلتفت إلى وسوسة إبليس ولم يأكل من الشجرة بوسوسته إليه ، وإنما أكل منها لا انه نهى عن عين تلك الشجرة لا عن جنسها ، فأكل من غير تلك العين ، فأخطأ في تأويله واخرج إلى الأرض ، لأنه خلق خليفة لها ، قال الله تعالى : {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة : 30] ، ولكن لما وافق اكله تزيين إبليس له ، ووسوسته إياه نسب إخراجهما من الجنة إليه ، فقال : {فأخرجهما مما كانا فيه} [البقرة : 36].
|ولم يقصد إبليس إخراجه منها ، وإنما قصد إسقاطه من رتبته ، وإبعاده كما بعد هو ، فلم يبلغ مقصده ، ولا أدرك مراده ، بل ازداد سخنة عين ، وغيظ نفس ، وخيبة ظن ، قال الله : {اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} [طه : 22].
|فصار آدم عليه السلام خليفة لله في أرضه بعد أن كان جارا له في داره ، فكم بين الخليفة والجار ، والله أعلم.(1/217)
@ 218@$ حديث آخر$
حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني ، حَدَّثَنا القاسم بن زكريا المقرئ ، حَدَّثَنا محمد ابن الصباح ، حَدَّثَنا الوليد بن مسلم ، عن الاوزاعي ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.
|قال أبو محمد : وزادني في هذا الحديث أحمد بن عبد الله بن نصر بن بحير القاضي بن محمد بن أحمد بن عصمة الرملي حدثه ، حَدَّثَنا سوار بن عمارة ، حدثني هقل ، عن الاوزاعي ، حدثني الزهري ، حدثني سعيد بن المسيب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعروة بن الزبير ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني وهو حين يزني مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو حين يسرق مؤمن ، ولا يشرب الخمر وهو حين يشربها مؤمن ، ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع المؤمنون إليه فيها أبصارهم وهو حين ينتهبها مؤمن . قال : فقلت للزهري : فإن لم يكن مؤمنا فمه ؟ قال : فنفر عن ذلك وقال : أمروا الأحاديث كما أمرها من قبلكم ، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أمروها.
|قال الشيخ رحمه الله : قول الزهري : أمروا الأحاديث كما أمرها من قبلكم تسليم لأمر الله تعالى ، وانقياد لرسول الله ، وتصديق له ، وإيمان به فيما علم وجهل ، وترك الاعتراض على الله ورسوله ، والحكم عليهما بالعقول الضعيفة ، والأفهام السخيفة ، إيمانا بالله ورسوله وتصديقا لهما ، وتوكيلا لعلم تأويل ما جهلناه إلى الله ورسوله ، والقدوة فيه أبو بكر ، وعمر ، وعبد الله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وسلمان رضي الله عنهم ، وكثير من العلماء كالزهري ، والأوزاعي ، ومالك بن انس ، وسفيان الثوري رحمه الله.(1/218)
@ 219@وكذلك قولهم في الأخبار المتشابهة لا يردونها رد منكر جاحد ، ولا يتأولونها تأويل متحكم متكلف ، بل يؤمنون بها إيمان مصدق مسلم ، ويرونها رواية فقيه مسلم ، وقد تأولها قوم من فقهاء الصحابة ، والتابعين ، وسائر فقهاء المسلمين ، وعلماء الدين على ما يليق بالله ورسوله من غير تشبيه ، ولا تعطيل ، ولا تكذيب بتحريف تأويل طلبا للحكمة فيها على قدر افهامهم ، ومبلغ عقولهم ، ونور أسرارهم ، وشرح صدورهم ، بانتزاع التأويل من الكتاب والسنة وأقاويل فقهاء الأمة ، وعلى قدر الحكمة التي يهب الله منها من يشاء ويؤتها من يريد ومن أوتيها فقد أوتى خيرا كثيرا.
|فيجوز أن يكون تأويل قوله صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن أي لا يزني وهو في حين ما يزني مكاشف في إيمانه ، مشاهد لما آمن به بإيقانه ، بل هو في وقت فعله ذلك عن تحقيق إيمانه محجوب ، وبغلبة شهوته عن شهود إيقانه مسلوب ، فإيمانه في قلبه من جهة العقد ثابت ، ونور إيمانه من جهة اليقين مطموس ، لأن الموصوفين بالإيمان على ثلاث طبقات ، فمنهم ناطق بكلمة الإخلاص محجوب القلب فيه عن صدق الاخلاص ، فهو مؤمن العلانية كافر السريرة ، قال : الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} [النساء : 136] . وناطق بكلمة التقوى منطو في سره على صدق الدعوى ، اقر بلسانه وأخلص لحياته مضطرب الحال فيما يوجبه إيمانه ، فمرة بالجنة موصوف ، وأخرى بالكشوف معروف ، لم يلبس إيمانه بظلم ولم يجرده بيقين شهوده حقيقة علم ، فهو مؤمن العلانية مؤمن السريرة مخلط الفعل ، قال الله تعالى : {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} [التوبة : 102] ، وقال الله تعالى : {يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} [الصف : 2] ، وقال تعالى : {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة : 1].
|طولب هؤلاء بوفاء ما صحت به عقيدتهم ، وصدقت قولهم سريرتهم ، فدل انهم في حجبة عما نطقوا به واعتقدوه ، ومقر بلا إله إلا الله قد اسقط عن سره ما دون الله ، واقبل بكليته على الله ، واسرع بسيره إلى الله بكشوف إيمانه وصدق إيقانه ، حجبه إيمانه عن كثير من لذاته ، وصرفه إيقانه عن شهواته ، فهو يشاهد ما آمن به كأنه رأي عيانا فيرى ما غلب عن بصره بعين . كما قال حارثة : كأني انظر إلى عرش ربي بارزا ، |(1/219)
@ 220@وكأني انظر إلى أهل الجنة يتنعمون ، وإلى أهل النار يعذبون . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عبد نور الله قلبه ، وفي رواية أخرى : عبد نور الله الإيمان في قلبه . فهذا المكاشف بالإيمان شهود لما آمن به ، قال الله تعالى : {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} [الانفال : 2] فمن كان بهذه الصفة فهو محجوب بإيمانه عن الزنا والسرقة وشرب الخمر ، وانتهاب نهبة ذات شرف ، ومن حجب عن إيمانه بظلمة غفلته ، ودخان شهوته ربما واقع هذه الأعمال ووصف بهذه الخصال ما بلغ من حق إيمانه أن اسقط إباحتها من سره لم يبلغ حقيقة حقه أن يجانبها بعقله ، فهو في وقت مواقعتها والإتيان بها غير موصوف بحقيقة حق الايمان ، وإن كان موصوفا بصدق الإيمان ، فهو مؤمن إيمان عقود وليس بمؤمن إيمان شهود.
|ففي قوله صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن معنيان ، أحدهما : كالعذر له كأنه يقول : لم يزن الزاني حين يزني جحودا واستكبارا ، ولكنه فعل ذلك حجة واستتارا.
|والمعنى الآخر : كالتحذير عن مبالغة الهوى والانهماك في الشهوات والمنى ، كأنه يقول : غفلة ساعة واتباع شهوة حجبته عن حقيقة إيقانه فغير مأمون إن دامت غفلته واستحكمت فيه شهوته أن يزيله شؤم فعله عن حقيقة إيمانه ، فالزنا عبارة عن جميع شهوات النفس المحظورة المحرمة ، والشرف عبارة عن الرغبة في الدنيا مما حرم الله تعالى ، وشرب الخمر عبارة عن الغفلة عن الله تعالى ، والانتهاب عبرة عن الحرص فيما حرم الله تعالى ، ففيه تحذير عن متابعة الشهوات والرغبة في اللذات ، والغفلة عن الله ، والحرص فيما حرم الله تعالى ، والاستخفاف بأولياء الله تعالى ، لأن المنتهب نهبته رفع المؤمنين ابصارهم مستخف بهم غير مقر لهم ، ولا معظم حقهم.(1/220)
@ 221@$ حديث آخر$
حَدَّثَنا أحمد بن عبد الله بن محمد الهروي ، قال : حَدَّثَنا أبو يعلى الموصلي ، حَدَّثَنا هدبة ابن خالد ، حَدَّثَنا حماد بن سلمة ، حَدَّثَنا ثابت البناني ، وسليمان التيمي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت بموسى عليه السلام ليلة اسري بي وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر.
|قال سالم بن هانئ : سألت وكيعا عن هذا الحديث ، فقال : يا خرساني ، اخبار رويت فأمروها كما نقلت.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : هذا مذهب وكيع وجماعة من علماء الأثر ، وكثير من فقهاء النظر في اخبار المتشابهة ، يرون روايتها ولا يرون البحث ، وبحث عنها غيرهم من العلماء وأجازوا طلب تأويلها ، فأولوها على الأوجه والأبعد من الشبه والأشبه بالأصول.
|فيجوز أن يكون معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره أي يدعو الله ، ويثني عليه ، ويذكره وهو حي ، احياه الله بعد موته كما أحيا الشهداء ، قال الله تعالى : {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياء عند ربهم يرزقون فرحين} [آل عمران : 169 170] ، فإذا كان الشهداء احياء يرزقون فكيف بالأنبياء والرسل ؟ ! فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله : ألا ابشرك يا جابر ؟ قال : فقلت : بلى يا رسول الله . قال : إن أباك أصيب بأحد أحياه الله ثم قال له : ما تحب يا عبد الله بن عمر أن افعل بك ؟ فقال : أي رب احب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى.(1/221)
@ 222@حدثناه محمد بن محمد بن محمود ، حَدَّثَنا نصر بن زكريا ، حَدَّثَنا عمار بن الحسن ، حَدَّثَنا سلمة بن الفضل ، حدثني محمد بن اسحاق ، قال : وحدثني بعض أصحابي عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال : سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا ابشرك يا جابر ؟.
|وحدثنا محمد بن محمد بن علي ، حَدَّثَنا نصر ، حَدَّثَنا عمار ، حَدَّثَنا سلمة ، حدثني محمد ابن إسحاق ، عن الحارث بن الفضيل الأنصاري ، عن محمود بن سيد الأنصار ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الشهداء على بارق نهر بباب الجنة ، ويظهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا.
|فأخبر انهم أحياء يرزقون ، فإذا كانت الشهداء أحياء فالأنبياء أولى وأحق.
|وتأويل من قال : إن هذا في القيمة ، وأنه خبر عن المستقبل ، وإن كان جاء على لفظ الماضي ، كما قال الله تعالى : {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس} [المائدة : 116] معناه يقول الله فليس يصح هذا التأويل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما تحب يا عبد الله أن افعل بك ؟ قال : احب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك ويوم القيامة لا دنيا ، وقد بادت الدنيا قبل ذلك ، وزال الإخبار والابتلاء ، والأمر والنهي ، والقتال والجهاد ، فكيف يجوز أن يقول ردني إلى الدنيا فأقاتل فيك ، وهو يعلم انها قد ذهبت وأن القتال قد رفع ، فصح أن هذا إنما كان والدنيا باقية والقتال واجب والجهاد قائم ، فإذا جاء حياة الشهداء بالكتاب والسنة ، جاز حياة الأنبياء والرسل عليهم السلام . والحي يذكر الله ، ويثني عليه ويدعوه.(1/222)
@ 223@ويجوز أن يكون قوله يصلي على حقيقة الصلاة التي هي القيام والركوع والسجود ، لأنه بعد في الدنيا ، والدنيا دار تعبد ، لأن السموات والأرض من الدنيا وإنما ترتفع العبادات في الجنة التي هي دار الثواب وفي الآخرة التي لا زوال لها ، ولا انتقال لأهلها.
|الا ترى أن السموات مكان العبادات للملائكة ، فيجوز أن يكون موسى مر به عليهما الصلاة والسلام وهو حي قائم يصلي على الحقيقة في قبره وقد فسح له قبره ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما هي روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، فكان قبر موسى روضة من رياض الجنة وهو قائم يصلي فيها ، وإن كان القبر في الأرض عند الكثيب الأحمر كما أن ما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره روضة من رياض الجنة وإن كان في المدينة.
|فإن قيل : قد جاء في حديث المعراج انه رأى موسى في بعض السموات ، وسلم عليه ، والحديث مشهور ؟.
|قيل : يجوز أن يكون رآه حين مر به يصلي في قبره ، ثم رفع قبله إلى السماء السادسة فرآه فيها ، وراجعه في أمر الصلاة حين فرضت عليه خمسون صلاة ، فما زال موسى يراجعه فيها حتى جعلت خمس صلوات ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في أول الليل عند أهله فرفع إلى السماء ، أو إلى سدرة المنتهى ورد قبل الصبح إلى بيته ، فكذلك موسى كان في الأرض يصلي في قبره حين مر به ، ثم رفع إلى السماء السادسة فراجعه فيها.
|ويجوز أن يكون موسى عليه السلام لم يمت على الحقيقة ، بل يكون صعقة كصعقته في الطور ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : إنا أول من تنشق عنه الأرض فإذا أنا بموسى عند ساق العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أو جوزني بصعقته في الطور ، أو ممن استثنى الله . هذا معنى الحديث والله أعلم بلفظه.(1/223)
@ 224@فجوز أن يكون لم يمت موسى عليه السلام ، واخبر بجوازه من وجهين : أحدهما : انه جوزني بصعقته في الطور ، فيكون قد دخل في جملة قوله تعالى : {كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران : 185] وقد ذاقها.
|والآخر : من جهة استثناء الله بقوله : {فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} [الزمر : 68] فيجوز أن يكون موسى عليه السلام ممن يشاء أن لا يصعق ، والله أعلم.
|فيكون معنى صلاته في قبره إذا حمل على الصلاة التي هي القيام والركوع والسجود في قبره وهو في الدنيا على انه لم يمت وجوزي بالصعقة ، فإن حمل على الموت ويفيق في الآخرة قبل النبي صلى الله عليه وسلم فهو إذا ليس في الدنيا حكما ، وإن كان فيها نكوسا من جهة انه صلى الله عليه وسلم في قبره ، وقبره في الدنيا ، كما أن أهل القبور في الدنيا من جهة كونهم بأجسادهم فيما بيننا وهم في الآخرة حكما ، على معنى انه قد ارتفعت عنهم أحكام أهل الدنيا ، وظهرت لهم الآخرة واحكامها ، والله تعالى أعلم.
|فيكون صلاته ثناء ودعاء وذكرا دون الركوع والسجود التي هي العبادة ، لأنه إن مات فقد صار في حكم الآخرة ، وليست الآخرة بدار عبادة ، ولكنها دار الثواب والعقاب ، وهي دار الذكر والثناء والدعاء.
|قال : الله تعالى : {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام} الآية [يونس : : 10].
|وقال الله عز وجل {الحمد لله الذي اذهب عنا الحزن} الآية [فاطر : 34] والله أعلم.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا نصر بن الفتح ، حَدَّثَنا أبو عيسى ، حَدَّثَنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حَدَّثَنا عبدة ، عن هشام بن عروة ، عن ابيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهؤلاء الكلمات : اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار ، وعذاب النار ، وعذاب القبر ، وفتنة القبر ، ومن شر فتنة الغنى ، ومن شر فتنة |(1/224)
@ 225@الفقر ، ومن سوء المسيح الدجال . اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس ، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب . اللهم إلي أعوذ بك من الكسل ، والهرم ، والمأثم ، والمغرم.
|قال الشيخ رحمه الله قوله صلى الله عليه وسلم : أعود بك من فتنة النار فالفتنة تنصرف على وجوه ، أحدها وهو الالين في هذا المكان هي التصفية والتهذيب ، يقال : هذا ذهب مفتون ، إذا دخل النار فنفي عنه الخبث ، ويقال للصائغ الفاتن ، لأنه يفتن الذهب والفضة أي يصفيهما بالنار ، ويزيل الخبث عنهما ، كذا قال أهل اللغة.
|ومن ذلك قوله الله تعالى : {ولقد فتنا سليمان} [ص : 34] معناه هذبناه وصفيناه من الأوصاف الذميمة.
|وكذلك قوله تعالى : {وظن داود أنما فتناه} [ص : 24] أي : علم أنا هذبناه وأدبناه ونبهناه.
|فيجوز أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من فتنة النار أي : أن يكون تصفيتي وتهذيبي بالنار وتأديبي بها ، وذلك أن الخطايا والذنوب يكفرها الله بالمحن والبلايا في الدنيا ، وبالمصائب والأمراض.(1/225)
@ 226@قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض ما له من ذنب . وتكون الكفارة والتمحيص بعد الموت في القبر وفي اهوال القيامة ، ويكون بالعفو والتجاوز فضلا من الله ويكون شفاعة الأنبياء والاولياء ، فإن لم يكن بهذه الأسباب فبإدخال النار ، فكأنه قال : أعوذ بك أن تكون فتنتي وتمحيصي من خطاياي وكفارة ذنوبي تصفيتي منها بالنار ، ولكن بعفوك وفضلك وكرمك إما توفيقا للتوبة منها في الدنيا ، أو التجاوز عنها في الآخرة ، يدل على ذلك ما جاء في حديث آخر : أذقني برد عفوك.
|ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم وعذاب النار أي : أعوذ بك من أن تعاقبني بها وتعذيبي بالنار ، كأنه يقول : لا تجعلني من أهل النار الذين هم أهلها من الكفار الملحدين فإنهم هم المعذبون بها ، فأما الموحدون فهم مؤدبون بها لا معذبون فيها ، الدليل على ذلك ما روي أن أهل التوحيد إذا دخلوا النار قالوا : بسم الله ، فتنزوي النار عنهم وتهرب وتقول : مالي واهل بسم الله ، أو كلاما هذا معناه.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : فائدة الدعاء هو الاضطرار وإظهار العبودية ، لأنه أمر بذلك وندب إليه ، فمن دعا شيئا من الله فلا يخلو إما أن يكون قدر الله تعالى له أو لم يقدر ، فإن قدر فقد أمر بالدعاء ، فإذا كان ذلك اضطرارا منه فهو واجب ، وإن لم يقدر فلم يمنع من الدعاء فيما لم يقدر . قال : وليست حالة في الطاعات اشرف من حال الدعاء ، لأن الإنسان ربما يشغل قلبه في جميع العبادات في الصلاة والصوم وغيرها ، فأما في حالة الدعاء فيلزم جوارحه ويضطر إليه فأي حالة احسن من هذا . قال : فكان دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل الاضطرار وإظهار العبودية ، إن علم انه كان مغفورا له كل ذنب . وفي حديث آخر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها.(1/226)
@ 227@وأما قوم يريد الله الرحمة فإذا ألقوا فيها اماتهم حتى يأذن بإخراجهم فيدخلهم الجنة بفضل رحمته إياهم ، وقد تكلمنا فيه قبل وذكرنا إسناده ، ومن ذلك أيضا ما . # حدثنا القاضي أبو الفضل الشهيد ، في حَدَّثَنا أبو سعيد الحسن بن علي العدوي ، حَدَّثَنا الحسن بن علي بن راشد ، حَدَّثَنا يزيد بن هارون ، حَدَّثَنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا دخل الموحدين النار اماتهم فيها ، فإذا أراد أن يخرجهم منها أمسهم ألم العذاب تلك الساعة.
|ففي هذه الاخبار دلالة أن الله تعالى إنما يدخل النار للتأديب والتهذيب ليس للعقوبة والتعذيب ، فالعذاب لأهل النار الذين اعدت لهم وهم الكافرون والجاحدون.
|فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم : أعوذ بك من فتنة النار لهم وعذاب القبر كأنه يقول : أعوذ بك أن أكون من أهل النار الذين اعدت لهم النار ، قال الله تعالى : {واتقوا النار التي اعدت للكافرين} [آل عمران : 131] وأعوذ بك من أن يكون تهذيبي وكفارة خطاياي بالنار ، كأنه يقول : أعوذ بك من النار من كل وجه كثيرها وقليلها ، وصغيرها وجليلها ، وليست النار بصغيرة ولا قليلة.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : ومن عذاب القبر وفتنة القبر وعذاب القبر للكافرين وأهل الكبائر من الموحدين ، وفتنته للأماثل وصالح المؤمنين بجنايات تكون منهم أما عذاب القبر فقد قال الله تعالى في آل فرعون : {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا} [غافر : 46].
|وقال النبي صلى الله عليه وسلم ، ومر بقبرين فقال : إنهما يعذبان ، وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة.
|ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : وما يعذبان في كبير أي : في كبير عند انفسهما ، أي لم يكن ذلك عندهما كبيرا ، فاخبر أن العذاب لهؤلاء.
|وأما فتنة القبر فيجوز أن يغلط السؤال من الملكين ، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الملكين فتاني القبر.(1/227)
@ 228@وحدثنا محمد بن محمد ، حَدَّثَنا نصر بن زكريا ، حَدَّثَنا عمارة بن الحسن ، حَدَّثَنا سلمة بن الفضل ، حدثني محمد بن اسحاق ، عن معاذ بن رفاعة ، عن محمود بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال : لما دفن سعد بن معاذ رضي الله عنه ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح رسول الله فسبح الناس معه طويلا ، ثم كبر فكبر الناس معه ، فقالوا : يا رسول الله ، مم سبحت ؟ قال : لقد تضايق على هذا الرجل الصالح قبره حتى فرجه الله عنه.
|فيجوز أن يكون هذا من فتنة القبر الذي استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هذا من عذاب القبر ، لأن سعدا رضي الله عنه من افاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد استبشرت الملائكة بروح سعد بن معاذ واهتز له العرش.(1/228)
@ 229@قال النضر بن شميل : الاهتزاز الفرح.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : ومن شر فتنة الغني ، ومن شر فتنة الفقر ذكر الفتنة في هذين وقرنها بالشر ، وذلك أن الفتنة ههنا الابتلاء والاختبار ، وقال الله تعالى : {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة} [الفرقان : 20] وقال تعالى في شأن موسى : {وفتناك فتونا} [طه : 40] أي اختبرناك وابتليناك ، والاختبار والابتلاء للمؤمنين والأولياء والأنبياء لإصلاحهم وإرادة الخير بهم ، كما قال في شأن موسى صلى الله عليه وسلم : {وفتناك فتنونا} وفي داود وسليمان عليهما السلام : {وظن داود أنما فتناه} [ص : 24] {ولقد فتنا سليمان} [ص : 34] اختبرهم وابتلاهم ليهذبهم ويصفيهم . والاختبار والابتلاء للكافرين والجاحدين إرادة الشر بهم ، قال الله تعالى : {ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون} [الدخان : 17] وقال تعالى : {فإنا قد فتنا قومك من بعدك} [طه : 85] أي ضللناهم ، فدل أن الاختبار يكون لإرادة الخير والشر ، فمن أراد الله تعالى به الخير كان الغنى فتنة له أي اختبارا له وابتلاء ليظهر مكنون ما علم الله من طهارة سره وصفاء قلبه وقلة نظره إلى الدنيا ، فلا يفتنه عن دينه ولا يشغله عن الله.(1/229)
@ 230@قال الله تعالى خيرا عن نبيه سليمان عليه السلام : {هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم اكفر} [النمل : 40] ، ومن أراد الله تعالى به الشر فتنه بالغنى فافتتن ، قال الله تعالى يحكى عن قارون : {قال إنما اوتيته على علم عندي} [القصص : 78] وقال عز وجل : {فتحنا عليهم ابواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا اخذناهم بغتة} [الأنعام : 44] . إذا فالغنى فتنة أي اختبار وابتلاء للخير من الشر ، فكأنه قال : أعوذ بك من أن تفتني بالغنى ، أي تبتليني به إرادة الشر بي ، وكذلك الفقر ، فلما كان في الغنى والفقر شرا وخيرا وهو بلوي واختبار استعاذ من شرهما ولم يستعذ من عينهما لأن عينهما قد يكونان خير.
|وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ومن شر المسيح الدجال فتنة واختبار ليزداد إيمان المؤمن بالله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور ، وقال : مكتوب بين عينيه كافر ، وفي رواية : ك ا ف ر يقرأه كل مؤمن فأخبر أن المؤمن يقرأه ، والكافر لا يعلمه فيفتتن به . قال النبي صلى الله عليه وسلم : تبعه سبعون ألفا من يهود أصفهان عليهم الطيالسة.
|فاستعاذ صلى الله عليه وسلم من شره ، وذكر المسيح وعرفه بقوله الدجال لأنهما مسيحان ، مسيح هو روح الله وكلمته وحبيبه ، ومسيح هو عدو الله وبغيضه ولعينه ، واهل الحديث يفرقون بينهما فيقولون للدجال المسيح بكسر الميم وتشديد السين ، وأهل اللغة لا يرون ذلك شيئا ، ويؤيد قولهم تقييد النبي صلى الله عليه وسلم المسيح بذكر الدجال.(1/230)
@ 231@وقوله صلى الله عليه وسلم : اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد والعرب تعبر عن الراحة والروح ، وطيب العيش بالبرد ، وعن ضده بالحر ، ولذلك قالوا : للروح والروحة : قرة العين ، وللغم والحزن : سخنة العين.
|وفي الحديث : وأسألك الرضا بعد القضاء به ، وعفوك ، وبرد العيش.
|حدثنا حاتم ، حَدَّثَنا يحيى ، حَدَّثَنا الخياط ، حَدَّثَنا حماد بن زيد ، عن عطاء بن السائب ، عن ابيه ، عن عمار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء طويل ، فيه ، وأسألك الرضا بعد القضاء ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، وغسل الخطايا وتمحيصها وكفارتها ، ويكون ذلك بالمحن والبلايا في الدنيا ، ويكون بالشدائد والأهوال في الآخرة ، وقد يكون بالنار ويكون بالعفو والتجاوز ، فكأنه قال : كفر خطاياي بالعفو والتجاوز ، فعبر ، عن ذلك بالثلج والبرد وهو كقوله أو من برد عفوك ، فعبر عن العفو بالثلج والبرد ، والبرد هو الروح والمحبوب ، وتكفير الخطايا بالعفو روح وراحة ومحبوب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : أعوذ بك من فتنة النار فكل واحدة من الكلمتين تؤيد صاحبتها.
|والتأويل الذي ذهبنا إليه فيها فيكون قوله : أعوذ بك من فتنة النار أنه استعاذ من أن تكون الكفارة بها ، وقوله صلى الله عليه وسلم : اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد انه أراد تكفيرها بالعفو والفضل والتجاوز من غير ألم وشدة من خرازة محن المكان في الدنيا ووهج النار في العقبى.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس الثوب الأبيض يظهر فيه اثر الدنس ، وإذا كان الثوب مصبوغا بلون آخر دون البياض فلا يكاد يظهر فيه الأثرن فيجوز أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : نق قلبي من الخطايا أي اذهب اثرها ومرادها وشهواتها عن قلبي بعد تكفيرها ، فلا يبقى لها في قلبي اثر من لذة تلك الخطايا وشهواتها ، وإن كانت الخطايا مكفورة بالعفو والتجاوز فإنها إذا ذهبت شهوة المعصية ولذته من القلب كأن قمنا |(1/231)
@ 232@لا يعود إليها ، فيقول : اذهب لذة الذنوب وشهوة الخطايا المكفورة من قلبي كما اذهبت آثار الدنس من الثوب الأبيض إذا غسل فلا أعود إليها آخر الأبد . وفيه دليل على أن ما يتولد من أفعال العباد فعل الله تعالى ، لأن الفعل للثبوت أفعالنا وذهاب الدنس الذي يتولد من الغسل نسبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى بقوله : كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس.
|وقوله صلى الله عليه وسلم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب يؤيد هذا التأويل أي كما لا يلتقي المشرق والمغرب ولا يجتمعان كذلك لا اجتمع مع خطاياي ، ولا يكون لي معها التقاء بمعنى العود إليها أبدا.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم الكسل فتور في الإنسان عن الواجبات ، فإن الفتور إذا كان في الفضول وما لا ينبغي فليس بكسل ، بل هو عصمة وإذا كان في الواجبات فهو كسل ، وهو الثقل والفتور عن القيام بالواجب وهو الخذلان ، قال الله عز وجل : {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم} [التوبة : 9] ، وعاتب الله المؤمنين في التثاقل عن الواجب والفتور فيه فقال عز وجل : {يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} الآية [التوبة : 38].
|والهرم فتور من ضعف يحل بالإنسان فلا يكون به نهوض ، ففتور الهرم فتور عجز ، وفتور الكسل فتور تثبيط وتأخير ، فاستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتور في أداء الحقوق ، والقيام بواجب الحق من الوجهين جميعا ، من جهة عجز ضرورة وحرمان منها مع الإمكان.
|والمأثم تضييع حقوق الله ، والمغرم تضييع حقوق العباد ، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم من تضييع حق الله ، وحق عباده ، ويجوز أن يكون المأثم إتيان المناهي ، والمغرم ترك الأوامر ، فإن الغرامة إنما يلزم العبد في تضييع ما استرعى ، فكأنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من أن يكون مرتكبا لنواهيه مضيعا لأمره ، والله أعلم.(1/232)
@ 233@$ حديث آخر$
قال : حَدَّثَنا بكر بن محمد بن حمدان ، قال : حَدَّثَنا أبو قلابة وهو عبد الملك بن محمد قال : حَدَّثَنا أبو عاصم ، قال : حَدَّثَنا سفيان الثوري ، عن عبد الكريم ، عن زياد ، عن معقل ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الندم توبة.
|قال الشيخ رحمه الله : معنى التوبة الرجوع ، وكذلك الأوبة والإنابة ، فتاب وآب وأناب بمعنى واحد وهو الرجوع . قال النبي صلى الله عليه وسلم : أيبون تائبون لربنا حامدون ، وقال الله تعالى : {وانيبوا إلى ربكم} [الزمر : 54] ، وقال تعالى : {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون} [النور : 31] غير أن تحت كل لفظة خاصية وزيادة فائدة ، فأكثر ما جاء ذكر التوبة في كتاب الله تعالى ، وإنما جاءت في الرجوع عن المعاصي ، قال الله تعالى : {فإن تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} [التوبة : 5] أي رجعوا من الشرك إلى التوحيد ، ومن الكفر إلى الإيمان.
|وقال الله تعالى : {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [النساء : 17] ، وقال الله تعالى : {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} إلى قوله : {ومن يفعل ذلك يلق أثاما} [الفرقان : 68] إلى قوله {إلا من تاب وآمن} [مريم : 60] ومثلها كثير.
|والأوبة فأكثر ما جاء في حال الطاعة والفعل المرضي ، قال الله تعالى : {إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} [ص : 44] ، وقال : {إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا} [الإسراء : 25].(1/233)
@ 234@والإنابة رجوع القلب ، قال الله تعالى : {وجاء بقلب منيب} [ق : 33] ، وقال تعالى : {وأنيبوا إلى ربكم} [الزمر : 54] مجازي ارجعوا إلى ربكم ببواطنكم ونياتكم واستسلموا لأحكامه وأوامره بظواهركم وأفعالكم . وقال الله تعالى : {وأذكر عبدنا داود ذا الايد إنه أواب} [ص : 17] ، وقال تعالى : {فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} [ص : 24] استغفر بلسانه ، وخضع بأركانه ، وأناب بجنانه ، فالراجع إلى الله من أوصافه الذميمة وأفعاله المشينة ثواب ، والراجع إلى الله في أوصافه الحميدة وأفعال المرضية اواب ، والراجع بقلبه في الأحوال كلها إلى ربه منيب مهجيري التواب استغفر الله ، ومهجيري الأواب الحمد لله ، ومهجيري المنيب لا إله إلا الله ، فالتوبة هي الرجوع عن حال المعصية إلى حال الطاعة ، ومن المخالفة إلى الموافقة ، والمعاصي والمخالفات فيها ما بين العبد وبين الله تعالى ، ومنها ما بينه وبين خلق الله تعالى ، فما بينه وبين الله تعالى تضييع أوامره وارتكاب مناهيه ، وما بينه وبين خلق الله تعالى فأخذ أموالهم وخرق اعراضهم ، والندم هو التلهف على ما فعل ، وتمنى أن يكون تركه ، والحسرة على ما ترك وتمنى أن يكون فعله ، فمن عصى في ارتكاب ما نهى الله عز وجل ، وشتم أعراض خلق الله تعالى ، وتناول ما حرم الله ، ثم رجع عن ذلك إلى الله تاركا لما نهى الله عنه ، نادما علي ما كان منه في ذلك فليس عليه إلا الاستغفار فيما ارتكب من نهي ربه ، والاستغفار لإخوانه فيما استحل من اعراضهم ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما :
|حدثناه عصمة بن محمود ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا أبو الفضل العباس المدني بالبصرة ، قال : حَدَّثَنا عمرو بن الازهر ، عن ابان ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا اغتاب أحدكم أخاه فليستغفر له فإنه كفارته.(1/234)
@ 235@وهذا إن شاء الله فيما لم يبلغ المغتاب عنه ، فأما إذا بلغه فعليه أن يسترضيه ، فمن فعل ذلك فهو تائب صادق مخلص ، والله يحب التوابين وهو غفور رحيم ، ومن عصى الله في تضييع أوامره وترك فرائضه وظلم عباده من اخذ أموالهم وضرب ابشارهم ، ثم رجع إلى الله نادما على ما فطر منه مستقبلا أداء فروضه وإقامة أموره ، باذلا مجهوده في قضاء ما فطر فيه من فرائض الله وإرضاء عباد الله فهو تائب مخلص صادق ، ومن استقبل فروض الله وإقامة أموره وترك ظلم عباده ولم يسع في قضاء فوائته وإرضاء خصومه وهو ممكن من ذلك ، فليس بتائب عند عامة من يقول بالإحباط والوعيد ، ولا ينفعه ما استقبل مما سلف ، وهو تائب فيما استقبل ، عاص فيما بقى عليه من إرضاء الخصوم ، وقضاء الفروض عند جماعة الراجين ومن يفعل بالمشيئة ، وهو من الذين خلطوا عملا صالحا وأخر سيئا يرجى له أن يغفر الله له في العقبى ويتوب عليه في الدنيا ، قال الله تعالى : {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم} [المائدة : 102] فرجاء التوبة عليهم والمغفرة لهم ورحمته إياهم.
|وقال النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له : إن فلانا يصلي بالليل فإذا اصبح سرق ، فقال صلى الله عليه وسلم : سينهاه عما تقول فرجا صلى الله عليه وسلم التوبة عليه ، وهو معنى قوله : {عسى الله أن يتوب عليهم} [المائدة : 102] ، ومن لم يمكن في قضاء ما فاته من فرائض الله فإرضاء عباد الله لزمانه ، أو ضيق وقت أو عدم ، فإن الندم له بمجرده توبة عند عامة أهل القبلة إلا طائفة يسيرة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من تاب وهو يغرغر بالموت تاب الله عليه.(1/235)
@ 236@ومعلوم أن هذا الوقت ليس بوقت لتلاطما فيما فات فليس له توبة في هذا الوقت إلا الندم بالقلب والرجوع إلى الله مستسلما يستغفر الله بلسانه ويقبل على الله بقلبه ، فاخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من تاب في مثل هذا الوقت تاب الله عليه ، ومن تاب الله عليه لم يعذبه . قال الله تعالى : {ومن يفعل ذلك يلق آثاما} إلى أن قال : {إلا من تاب} [الفرقان : 68 70] ، فاستثنى الله تعالى التائب مما اوعد ، ويبدل الله سيئاته حسنات . قال الله تعالى {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} [الفرقان : 70] ، ومن بدل الله سيئاته حسنات قبلها منه ، والحسنات إذا قبلت ضوعف الثواب عليها ، ومن لقي الله بالمعاصي والآثام لم يتب منها ، فإنه في مشيئة الله يرجى له ، ويخاف عليه.
|أما الرجاء فلقول النبي صلى الله عليه وسلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، فيجوز أن يتجاوز الله عنه بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أو يعفو عنه بفضله فإنه ذو فضل عظيم ، وقد شرط مشيئته في غفران ما دون الشرك ، فقال : {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء : 48] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما :
|حدثنا محمد بن أحمد البغدادي ، قال : حَدَّثَنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، قال : حَدَّثَنا هدبة يعني ابن خالد قال : حَدَّثَنا إسماعيل أبي حزم ، عن ثابت البناني ، عن أنس ابن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من وعده الله على عمل ثواب فهو منجزه له ، ومن اوعده الله ، على عمل عقابا فهو بالخيار.
|وأما الخوف عليه فلما ورد في الأخبار أن قوما يدخلهم الله النار ثم يخرجهم بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يخرج منها من قال : لا إله إلا الله ولم يعمل خيرا قط غيرها ، وان قوما يتهافتون فيها حتى يأذن الله تعالى بإخراجهم منها بإيمانهم ، والأخبار فيه كثيرة جمة.(1/236)
@ 237@وحدثنا محمود بن إسحاق الخزاعي ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن حاتم بن داود المكي أبو جعفر السلمي ، قال : حَدَّثَنا حسان البصري أبو علي ، قال : حَدَّثَنا أبو هلال الراسبي ، قال : حَدَّثَنا معاوية بن قرة ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خمس آيات من كتاب الله تعالى في سورة النساء خير للمسلمين من الدنيا جميعا : {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} [النساء : 40] ، وقوله : {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه يكفر عنكم سيئاتكم} [النساء : 31] ، وقوله : {ولو انهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله} [النساء : 64] ، وقوله : {ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} [النساء : 110] ، وقوله : {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء : 48] إلى آخرها ، والله أعلم.
$حديث آخر$
قال : حَدَّثَنا محمود بن إسحاق الخزاعي ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن حاتم السلمي ، قال : حَدَّثَنا القعنبي ، قال : حَدَّثَنا عبد العزيز ، عن يحيى بن عبيد الله ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، شيخ زان ، وإمام كذاب ، وعائل مزهو.
|قال الشيخ رحمه الله : خص رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة هؤلاء الثلاثة من بين كثير من الناس من كربتي المعاصي ومواقع المناهي بإعراض الله عنهم وحرمانه إياهم رحمته التي وسعت كل شيء ، فيجوز أن يكون ذلك لقلة إصرارهم في ارتكاب ما ارتكبوه وإتيان ما أتوه ، وأن ذلك كان منهم شريه فيهم وقلة مبالاة ورداءة طبع ، إن الزنا أن يكون من غلبة الشهوة على الإنسان ومنازعتها إياه وضعفه عن مقاومتها في الصبر عليها ، وذلك إنما يكون في حال الشباب ، وحداثة السن وقوة الطبع ، وضعف العقل ، ورقة الحال ، وقلة العلم ، فيكون أسباب المعصية قوية وأسباب العصمة دونها ، فيتغلب العبد فيواقع المنتهى . وأما الشيخ فيكون بخلاف هذه الأحوال ولا يكون له هذه الاغرار ، وقد تم عقله وقويت حاله وبلغ علمه وحلمه ، |(1/237)
@ 238@وسكنت حدة شهوته ، وضعفت قوة طباعه ، وقويت فيه دواعي العقل وآلات الامتناع ، وضعفت آلات الهوى ودواعي الشهوات ، فأرتكابه في هذه الحال ما نهي عنه من الزنا ليس إلا بسبب الاستخفاف ، وقلة المبالاة ، ورداءة الطبع وقسوة القلب ، وانطماس نور الهدى ، وإعراضها عن رعاية حق المولى ، فيجازيه في القيامة إن لم يكن له منه الحسنى ، فيعرض عنه في الآخرة كإعراضه الذي كان عنه في الدنيا.
|والكذب إنما يكون من الإنسان لدفع مضرة أو لجلب منفعة فيما يخيل إليه ، يخاف شيئا مما يحبه أن يفوته ، أو يرجوه أن يصيبه ، ويخيل إليه أن أحدا من الناس يحجزه عنه أو يمنعه أعني الكذب رهبة من إنسان ، أو رغبة فيه فيكذب له ، والإمام ليس فوقه من الناس أحد يرجوه أو يخافه فلا عذر له في كذبه ، فكذبه لسوء طبعه ورداءة حاله واستخفافه بحق الله في الوقوف على حدوده ، فيجازيه ربه يوم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا على سوء سيرته حين ملكه الله ومكنه من دفع كثير من المضار عن نفسه وجلب المنافع إليها بما خوله من نعمه وأتاه من سلطانه.
|والزهو هو الترفع والتكبر والإزراء بمن دونه والاستخفاف بعباد الله ، ودواعي هذه الأسباب الاستغناء وقلة الحاجة والإمنكان من بلوغ ما يتمناه ونيل ما يشتهيه ، وحاجة الناس إليه ورغبتهم فيه وخدمتهم رياه واستكانتهم له ، فتدعوه هذه الأسباب إلى نظره إلى نفسه وإعجابه بها ، فيزهو ، والعائل وهو الفقير ليس له هذه الدواعي ولا معه هذه الآلات فلا عذر له في زهوه ، فزهوه وترفعه في غير ذات الله رداءة فيه وقلة معرفة بالله ومنازعة منه لربه فيما هو له دون خلقه ، فيعرض الله عنه إن لم يرحمه إهانة له جزاء على إعراضه عن عباده المؤمنين واستهانة بحقوقهم.
|ففي الحديث دلالة على كرم الله في قبول اعذار العباد فيما يكون منهم من المخالفات من ارتكاب مناهيه ، وإتيان معاصيه إذا رجعوا إليه تائبين ، أو وردوا على الله على ايمانهم ثابتين ، أو يعفو ويغفر لهم ما كان منهم عند غلبة الشهوة المركبة فيهم إياهم وتزيين العدو لهم وبسط الأمل في الرجوع إلي الله رجاء المدة في ذلك ، ودلالة على كربه في قبول اعذارهم عند ضروراتهم وحاجاتهم في نيل ما إليه حاجاتهم ، والخوف من لحوق الضرر بهم لضعف البشرية وعجز الإنسانية ، وفي النظر لأنفسهم واغترارهم بالأسباب الحاملة لهم عن الحاجة.(1/238)
@ 239@فكأنه عز وجل بسط عذرهم ودلهم علي موضع اللقا له وطلب العذر إليه ، كما يقال لمن أتى ما نهى لله عنه : ما الذي حملك على ذلك ؟ فيقول : خدعني فلان ، وغرني كذا ، وظننت كذا ، ورجوت كذا ، أو خفت كذا . فيقال له : قد عذرناك وقبلناك وتجاوزنا عنك.
|وروي عن بعض الصحابة ، أو من دونه من الكبار انه قرأ : {ما غرك بربك الكريم} [الانفطار : 6] قال : غرني عفوك يا سيدي.
|وقال آخر : غرتني نفسي الأمارة بالسوء ، وخدعني بالأمل العدو.
|وقال آخر : غرني حلمك عني.
|فكل هذه اعذار للمؤمنين فيما كان منهم من زلاته ، ودلالة على الله تعالى بقيله عثراته وينعشه عند سقطاته إذا علق له واعتذر إليه ، وأنه لا يهلك على ربه الكريم إلا لسلفه اللئيم ، وفي الحديث دلالة على أن الشاب الذي يغلبه قوة شهوته ، وغرته شبابه ، وسلطان الهوى عليه ، وكل من أتى محظورا أو ارتكب نهيا في حال غلبة الدواعي له إليه وسلطان الهوى عليه اعذر وإلى الرجوع إلى الله إذا سكنت حدته وضعف قوته اجدر ، والله تعالى يتجاوز له ويعفو له ما لا يفعل ذلك بمن تمت حجة الله عليه في المدة التي جعلها له في رجوعه إليه . قال النبي صلى الله عليه وسلم : من عمره الله ستين سنة فقد اعذر إليه في العمر.
|حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عبد الله بن حماد الاملي ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن بكير ، حدثني يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي حازم ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من عمره الله ستين سنة فقد اعذر إليه في العمر.
|ففيه دلالة أن من دون ذلك في العمر يتجاوز له ما لا يتجاوزه لمن اعذر إليه ، لأن الإنسان يرجو الحياة ويضمر التوبة ، فإذا بلغ العمر منتهاه فلا عذر له.(1/239)
@ 240@ومما يدل على أن الله تعالى يستهل على العبد في حداثة سنه وشرح شبابه ما :
|حدثنا عبد الله بن يعقوب ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن عبد ربه النسفي ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن عبد الغفار الموصلي ، قال : حَدَّثَنا المعافي بن عمران الحارثي رحمه الله قال : حَدَّثَنا عمرو بن قيس ، عن أبي سنان ، عن شهر بن حوشب ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأمر الله تعالى الملك أن ارفق بعبدي في حداثته ، فإذا بلغ الأربعين تحققا وتحفظا.
|دل ذلك بأن قوة الشباب ، وغلبة الشهوات ، وسلطان الهوى اغلب على العبد قبل الاربعين ، فإذا بلغ الأربعين سكنت حدة شبابه ، وفترت شهوته ، وتم عقله ، وجاءه النذير الذي هو الشيب ، فإذا خلع عذاره ، ورفض إنذاره ، فليس له أن يدلى بحجة أو يتفضل بعذر ، وبالله العصمة مما يكره ، ومنه التوفيق لما يحب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله الذي ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، ولله الحجة البالغة على جميع خلقه ، وله المشيئة في غفران الكبائر ، والتجاوز عن المعذرين إليه في العمر فضلا منه وكرما ، والعقوبة على الصغائر من اغتر بشبابه ، وتبع شهوته في حداثته عدلا منه سبحانه عن ظلم عباده ، وتعالى علوا كبيرا.
$حديث آخر$
قال : حَدَّثَنا عبد العزيز بن محمد المرزباني ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إبراهيم البكري ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل بن جعفر الجعفري ، قال : حدثني الدراوردي ، عن محمد بن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا وقع الذباب |(1/240)
@ 241@في الإناء فاغمسوه كله ، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر دواء ، وانه يبدأ بالذي فيه الداء.(1/241)
@ 242@قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون معني هذا الداء والشفاء على معنى الطلب الروحاني ، وقد تكلم في مثل ذلك الاطباء ، ومعناه إصلاح الأخلاق وتقويم الطباع وتهذيب العادات والسجيات باستخراج الفاسدة منها وتربية الصالحة منها ، وإصلاح ما يمكن إصلاحها إذا داء الأخلاق وسقم العادات بالأديان ، وداء الأجسام يضر بالأبدان وسقم الأبدان تكفير الخطيئات ، وسقم الأخلاق يورث البليات.
|فيجوز أن يكون معنى الداء في أحد جناحيه الكبر والترفع من استباحة ما أباحته الشريعة وأحلته السنة ، فإن السنة قد أباحت ما مات فيه من الهوام مما ليس له دم سائل ووردت الرخصة فيه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن يؤخذ بعزائمة ، فكأن الإنسان ، إذا استعذر ما أباحته الشريعة من جهة الترفع عنها ، والتكبر فيها ، كان في ذلك فسادا لدينه عظيما وتعززا لنفسه ، وربما رمى بذلك الطعام أو أهراق ذلك الشراب الذي وقع فيه الذباب ، فيؤدي ذلك إلى تحريم ما احل الله والترفع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإضاعة نعم الله . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغمس الذباب إذا وقع في الإناء ليذهب عن نفسه ترفعها ويقتل فيها كبرها ، فيكون في أول وقوعها تعزز النفس لها والتكره لها من جهة الطبع والكبر لا من جهة السنة والشريعة ، فهذا هو الداء الذي يولد الإنسان ما ذكرناه من تحريم ما احل الله والترفع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإضاعة نعمة الله ، فإذا غمسه اكره ما استباحة ما أباحته الشريعة واستطابت ما أذنت فيه السنة ، فكان في ذلك قهرا للنفس الأمارة بالسوء ، وحفظا للدين من لواحق ما يكاد يدنسه من تعذر النفس والكبر الذي هو منازعة الله في صفته ، والتعظيم عن الانقياد والاستسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته ، كما تكون بعض الأدوية المسهلة نقضا للابدان عما يجتمع فيها الله من فضول الأغذية الفاسدة التي تورث سقم الابدان ، وما من شيء خلقه الله إلا وفيه حكمة كثيرة منها |(1/242)
@ 243@ما يعلم ، ومنها ما يجهل ، وقد ضرب الله بالذباب والبعوضة مثلا والعنكبوت والنمل ، فقال فيه المشركون ما قالوا استخفافا بهذه الأشياء من خلق الله ، وجهلا بما فيها من الحكمة لله تعالى ، قال الله تعالى : {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها} [البقرة : 26].
|ويقال : إن بعض الحكماء دخل على بعض الملوك ، وقيل : إنه ابن السماك دخل [على] هارون الرشيد فقال له هارون : ما الفائدة في هذا الذباب ، ولم خلقه الله تعالى ؟ فقال [ابن] السماك : خلقه ليذل به الجبابرة.
|ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يفسدوا الطعام ولا يضيعوه ولا يرموا به تنجسا له ، واستقدارا للذباب الواقع فيه ، فضرب لهم مثلا طيب به نفوسهم من تعذر ما ليس بنجس في الشريعة ، وعلم أن النفوس تأباه والطبائع تعافه فقيده بما طيب به نفوسهم من رجاء السلامة وخوف العطب ، فخوفهم الداء في أبدانهم أن يرموا به قبل الغمس ، ورجاءهم الشفاء في غمسه ، ولو أمر برميه قبل الغمس عسى لم ينقد له بعض من فيه عزة نفس وترفع وتكبر ، فكان يرمي بالطعام ، فأمر بغمسه ورجي فيه الشفاء ليصان الطعام وتقام شريعة الإسلام.
|ويجوز أن يكون فيه داء يضر بالأبدان وشفاء للداء الذي فيه علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعلمنا ، وإن لم يبين لنا مائيته ، وذلك الدواء ، والله أعلم.
$حديث آخر$
قال : حَدَّثَنا نصر بن فتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا سويد بن نصر قال : حَدَّثَنا ابن المبارك ، عن حيوة بن شريح ، قال : حدثني سالم بن غيلان ، أن الوليد بن قيس التجيبي ، اخبره انه سمع أبا سعيد قال : سالم روي عن أبي الهيثم عن أبي سعيد انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تصاحب إلا مؤمنا ، ولا يأكل طعامك إلا تقي.(1/243)
@ 244@قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون المراد بقوله لا يأكل طعامك إلا تقي يريد به المواكلة التي توجب الألفة ، وتؤدي إلى الخلطة ، فإن المواكلة اوكد أسباب الألفة ، واحكم دواعي الخلطة ، وأوثق عرى المداخلة والاستئناس ، ومخالطة من ليس بتقي ، والاستئناس به ، والألفة معه تغر الانسان ، وتخل بالدين ، وتذهب المروءة ، وتوقع في الشبهات ، وتؤدي إلى تناول المحرمات ، فكأنه صلى الله عليه وسلم حذر مخالطة الاشرار ، ونهى عن مصاحبة الفجار ، لأن مخالطة الفاجر ، لا تخلو من فساد يلحقك منه ، إلا متابعة له فيما يأتيه ، فيذهب الدين.
|وأما مسامحة في الأعضاء عما يوجبه حق الله من أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، وإما استخفافا بفجوره ، فإن من رأى الشيء كثيرا سهل ذلك في عنيه ، وصغر عند نفسه ، فإن سلم الإنسان عن هذه الاسباب ، ولا يكاد يسلم إلا من عصمه الله ، فيخطئه فتنة الغير به.
|الدليل على هذا التأويل قوله لا تصاحب إلا مؤمنا أي لا يكون من ليس بمؤمن عهدا وقولا لك بصاحب بوجه من الوجوه ، ولا من ترك آداب الإيمان وشرائطه صاحبا لك في وقت من الاوقات ، إلا عشرة تعاشره على شرط النصيحة التي أوجبت عقدة الإيمان في تحرز من آفة تلحق الدين أو تقدح في المروءة.
|وليس قوله صلى الله عليه وسلم لا يأكل طعامك إلا تقي إن شاء الله تعالى على معنى حرمان ذلك إطعاما ومناولة من ليس بتقي ، فقد أطعم النبي المشركين ، واعطى المؤلفة قلوبهم المائتين من الإبل والألوف من الشياه وغيره ، وكان يصنع إلى البر والفاجر ويأمر به.
|حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا سعيد بن سلمة بن عبد الملك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده على بن الحسين رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصنع المعروف إلى من هو أهله ، وإلى من ليس هو بأهله ، فإن لم يكن من أهله فكن أنت من أهله.(1/244)
@ 245@فهذا يدل على انه لم يرد بقوله : لا يأكل طعامك إلا تقي وإنما أراد المواكلة التي توجب الألفة والخلة ، وكيف ينهي عن إطعام من ليس بتقي ، والله عز وجل يقول : {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} [الإنسان : 8] في الاسير في دار الإسلام مشرك ، فأثنى الله عز وجل على من أطعم المشركين ، فكيف بمن أطعم من كان في جملة المسكين.
|ويجوز أن يكون المعنى فيه التحري والقصد ، كأنه يقول : لا تتحرين بإطعامك إلا التقي ، ولا تقصدن به إلا البر الذي يتقوى به على طاعة الله تعالى ، والعبادة له والشكر له ، فتكون معاونا على البر والتقوى ، كما قال الله تعالى : {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة : 2] فيقول : لا تقصدن بإطعامك الفاجر الذي يتقوى به على فجوره وآثامه فتكون معاونا على الإثم والعدوان ، فمن تحرى في إطعامه وطلب له واختار ، فليقصد أهل البر والتقوى ، ومن بذل طعامه وتسخى في إطعامه ، فليدع التحير وليطعمه من قصده ولا يحرمه من أتاه.
|قال الشيخ : وسمعت بعض مشايخنا يقول : كان الحسين بن واصل يبني رباطة يتناواب من ثغر استحباب ، وكان العدو يقاتله وهو يقاتلهم نهاره اجمع ، فإذا كان الليل وبسط سفرته للإطعام لم يمنع من يقاتله من المشركين ، وكان يطعمهم ، فقيل له في ذلك ؟ فقال : إن سئلت عن ذلك ؟ قلت منك أخذت ، وبأمرك ائتمرت ، ومنك تعلمت فأطعمت من أطعمت ، وقاتلت من أمرت.
|وقيل لأبي القاسم الحكيم ، تخير من يصلح للاجراء من طلبة العلم ، واسقط من لا يصلح منهم ، فأجري لكل من في الرباط ، فقيل له في ذلك ؟ فقال : لم أجد فيه من لا يسوى من خير هذا عند البذل والسخاء ، وذاك عند التحري والدعاء ، والله يعلم المفسد من المصلح ، ولكل امرء ما نوى ، والله يجزي المحسنين ، والحمد لله رب العالمين.(1/245)
@ 246@$ حديث آخر$
قال : حَدَّثَنا عبد الله بن محمد ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن حماد ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن بكير ، قال : حدثني يعقوب بن عبد الرحمن ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من تولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل.
|قال الشيخ رحمه الله : المتولى بغير إذن مواليه رغبة عن مواليه ومن انعم الله به عليه كافر للنعمة ، جاحد للحق ظالم ، لأنه وضع الولاء في غير موضعه ، وستر نعمة منعمه ، ومن كفر نعمة عباد الله فهو لكفران نعم الله اجدر ، وكافر النعمة ومولى الشكر غير منعمه ظالم ، وقد قال عز وجل : {ألا لعنة الله على الظالمين} [هود : 18] فيجوز أن تكون اللعنة ههنا العذاب والهوان والخزي في الكفار ، وللمؤمنين دخول النار للتأديب دون اللعنة التي هي الطرد والاياس من رحمة الله ، فإذا كانت الآية في الكفار فهو الطرد ، ولعنة الملائكة ابعادهم إياه عن الدعاء والاستغفار له ، وانهم يتركونه من استغفار الله لهم ، فإن الملائكة عليهم السلام يستغفرون لمن في الارض ، قال الله تعالى : {يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} [الشورى : 5] وحملة العرش يستغفرون للتائبين من المؤمنين إلى قوله : {فاغفر للذين تابوا} [غافر : 7] فيجوز أن تكون لعنة الملائكة لهؤلاء وإن كانوا في جملة المسلمين تركهم الاستغفار لهم.
|وأما الصرف والعدل ، فقد اختلف الناس في تفسيره ، فقال بعضهم : الصرف هو الفريضة ، والعدل هو التطوع ، وقال بعضهم : الصرف التطوع ، والعدل الفريضة ، وقال بعضهم : الصرف التوبة ، والعدل الفدية . فمن حملة على التوبة والفدية فهو معناه في الآخرة ، أي لا يقبل منه توبة في الآخرة ولا فدية ، أي لا يكون له فدية لا يجد فدية يفدي بها نفسه ، ولا تقبل توبته ، ويكون ذلك قوله تعالى : {لا تنفعها شفاعة} [البقرة : 123] أي لا يشفع لها شافع ، ثم لا تنفعها شفاعته.(1/246)
@ 247@كذلك قوله صلى الله عليه وسلم : لا يقبل منه فدية أي ليس له ما يفدي به نفسه وتوبته في الآخرة لا تقبل ، فأما التوبة فإنها تقبل في الدنيا ويمحو الله تعالى السيئات بالحسنات ، ومن قبلت حسنته فداه الله تعالى يوم القيامة بأهل الأديان من اليهود والنصارى ، وبه جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
|ومما يدل على انه أراد بالتوبة والفدية في الآخرة ، ما جاء في رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : من والى قوما بغير اذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين ، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل ، ومن حمل معنى الصرف والعدل على الفريضة والتطوع فإن معناه أن لا يقبل فريضة قبول رضاء وتزكية ، وإن كان يقبل جزاء وثواب ، لأن الله تعالى لا يظلم عباده مثقال ذرة ، وإن تك حسنة يضاعفها ، فكيف لا يقبل فريضة من أداها بشرائطها على قدر وسعة ، بل يجوز أن يعاقبه على معصيته إن شاء ، ويثيبه على أداء فريضته لا محالة ، ولو عاقبه على معصيته ولم يثبه على طاعته لكن مستوفيا حق نفسه من عبده غير موفيه حقه من نفسه ، وهذا غير لائق بالله وكرمه ، ولو كان الأمر كما يدعيه من يقول بالإحباط من المعتزلة لم يكن لقوله : {خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} [التوبة : 102] معنى لأن أعماله الصالحة هذه احبطتها السيئات ، فلم يبقى إلا السيئات ، فإن أولوا السيئات بالصغائر عندهم لم يستقم ، لأن الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر ، والمغفورة لا يجب أن تكون مثبتة إذا ، فصاحب الكبائر لا طاعة له عندهم ، لأن الكبائر تحبط طاعتهم ، ومجتنب الكبائر لا معصية له ولا ذنب ، لأن الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر ، فمن هذا الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا.
|وقولهم بالإحباط ينفى الكاتبين وينفي الوزن يوم القيامة وينفي الحساب ، وآيات من القرآن كثيرة يبطلها قولهم ، لأن الكاتبين أحدهما يكتب الحسنات والآخر السيئات ، والأخبار بهذا جاءت ، والوزن إنما هو للحسنات والسيئات ، فمن ثقلت موزاينه بالحسنات نجا ، ومن ثقلت بالسيئات وخفت بالحسنات هلك ، فإذا لم يجتمع للعبد حسنات وسيئات فما معنى الوزن ، وما الذي يوزن ، وما الذي استوت حسناته وسيئاته فصار من أصحاب الاعراف ، والأخبار في الوزن وأنه ميزان وله كفتان يوضع في إحديهما الحسنات ، وفي الأخرى السيئات كثيرة صحيحة ، وكل هذه الأشياء يبطلها القول بالإحباط.(1/247)
@ 248@ومعنى قوله تعالى : {لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي} إلى قوله : {أن تحبط أعمالكم} [الحجرات : 2] معناه عندنا أي لا تثابون على محاورة النبي صلى الله عليه وسلم ومسائلته والاسترشاد منه ، والأخذ عنه ، والتعلم منه بالمخاطبة له إذا رفعتم أصواتكم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ولو انهم خفضوا أصواتهم عند المسائلة والاسترشاد منه لأثيبوا على ذلك ثواب كبيرا ، واعطوا عليه أجرا عظيما ، فكأنهم احبطوا أجورهم وخسروا ثوابهم وأبطلوا أعمالهم برفعهم أصواتهم فوق صوته وإن لم يحبط ذلك سائر أعمالهم . وكذلك قوله عز وجل : {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فيها} [البقرة : 264] أي لا تفوتوا أنفسكم ثوابها ولا تدهنوا بأجوركم على الصدقات بالمن بها والأذى والله أعلم.
|وأما غفران السيئات باجتناب الكبائر ، فيجوز أن يكون المراد بالكبائر الشرك ، فيكون ما دون الشرك يجوز غفرانها ويجوز العقوبة عليها مدة معلومة ، ثم يتوبون بحسناتهم وإيمانهم ثوابا دائما ، وقد قرأ بعضهم {أن يجتنبوا كبير ما تنهون عنه} فيكون معناه الشرك والكفر ، كما قال الله تعالى : {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء : 48] فيكون ما دون الشرك مغفورا إما بالمشيئة ، وإما بالشفاعة ، وإما بدخول النار إلى مدة ، ثم الجنة من وراء ذلك بالإيمان والثواب بسائر الأعمال على قدرها . وأما على قراءة العامة فيكون معنى الكبائر على معني أن الكفر والشرك أنواع اليهودية والنصرانية والمجوسية ، والقول بالدهر والتثنية والتخميس وسائر أنواع الكفر والشرك ، فكلها كبائر وكلها شرك.
|ويجوز أن يكون معنى قوله : {كبائر ما تنهون عنه} [النساء : 31] الشرك . ويكون معنى الجمع بمعنى وفاق الخطاب ، لأن الخطاب ورد على الجمع لقوله تعالى : {إن تجتنبون} وقوله عز وجل : {تنهون عنه} فيجوز أن يكون جمع الكبائر لذلك ، لأن كبيرة كل واحد إذا جمعت إلى كبيرة صاحبه صارت كبائر ، وإن كان الشرك كله عملا واحدا.
|فإذا كان كذلك فلا يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله منه فريضة ولا نافلة نفيه ، بل يقبل فرائضه ونوافله قبول ثواب عليها ، وإن لم يقبل قبول ثناء عليه بها.(1/248)
@ 249@ويجوز أن يكون معناه أي لا يقبل فرائضه قبولا يكفر بها هذه السيئة التي هي التوالي بغير مواليه ، وإن كانت صلواته مكفرة لغيرها من السيئات ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصلوات الخمس كفارة ما بينها.
|وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أرأيت لو أن رجلا كان له معتمل بين منزله وبين معتمله خمسة انهار ، فإذا أطلق على معتمله عمل ما شاء الله فاصابه الوسخ والعرق ، فكلما مر بنهرا اغتسل ما يبقى ذلك من درنه ، فكذلك الصلوات كلها عمل خطيئة أو ما شاء الله ثم صلى صلاة فدعا واستغفر غفر له ما كان قبله.
|حدثنا أبو عمرو عاصم بن محمد بن يعقوب ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن أيوب أبو زكريا العلاف بمصر ، قال : حَدَّثَنا سعيد بن أبي مريم ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن ايوب ، قال : حدثني عبد الله بن قريظ ، أن عطاء بن يسار حدثه ، انه سمع أبا سعيد الخدري يحدث انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
|وقد قال صلى الله عليه وسلم : الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما فيكون معنى قوله لا يقبل الله تعالى منه فريضة أي لا يقبلها قبولا يكفر بها هذا الذنب كأنه يقول صلواته وفرائضه لا يكفر الله تعالى بها هذه الخطيئة ، وإن كان يكفر بها ما شاء من الخطايا.
|وفي بعض الروايات : الصلوات كفارات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر أو كلاما هذا معناه.
|فيجوز أن يكون هذا من الكبائر التي لا يكفرها الصلاة ، فكأنها لا تقبل منه في كفارة هذا الذنب ، لأنه لم يوجد فيه المعنى الذي يراد منه من القبول في هذا الذنب وإن وجد ذلك في سائر الذنوب ، ومعنى الكبائر عندنا أن من الذنوب ذنبا هو اكبر من غيره عند الإضافة إليه ، كان البزاق في المسجد خطيئة هو ذنب وليس كشتم مسلم ، |(1/249)
@ 250@وشتم المسلم خطيئة وليس كأخذ ماله ، وأخذ ماله ذنب وليس كسفك دمه ، فكل ذنب من هذه الذنوب اكبر من صاحبتها ، وصاحبتها اصغر منها ، وإن كانت الذنوب كلها كبائر من جهة النهي عنها ، وكلها ما دون الشرك صغائر في جواز غفرانها ، فيجوز أن يكون هذا الذنب من الذنوب الكبائر التي لا يكفرها الصلوات وما سواها من الفرائض ، ولا يمحوها فيبدل بها حسنات ، بل لا يكفرها ولا يمحوها من ديوانه الفرائض إلا التوبة منها في الدنيا ، فإن مات غير تائب وافى القيامة وهي مثبتة في ديوانه ، فإما أن يغفرها الله تعالى بفضله ، لأنها مضمون مشيئته بقوله عز وجل : {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء : 48] ، أو يغفرها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، أو يدخله النار فيطهر بها ، ثم يخرجه إلى رحمته فيدخله جنته بفضل رحمته وإيمانه ، ولله الحجة البالغة وهو ذو الفضل العظيم.
$حديث آخر$
قال : حَدَّثَنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا الحماني ، قال : حَدَّثَنا صفوان بن أبي الصهباء التيمي ، عن بكير بن عتيق ، عن سالم أبي عمر ، عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : إذا شغل عبدي ذكري عن مسألتي اعطيته أفضل ما أعطي السائلين.
|قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون معنى قوله إذا شغل عبدي ذكره لي وثناؤه علي وتنزيهه لي عن أن يسألني حوائجه التذاذا بذكري وانساني حتى ينسب ما يترائى له في ذكره لي من توفيقي إياه على ذكره لي وتيسري له الذكر لي وإطلاقي لسانه بالثناء علي ، وشرحي صدره بنور الاسلام ، وطمأنينة قلبه بالذكر ، وإشهادي فؤاده حتى |(1/250)
@ 251@كأنه يراني ، نسى العبد عند ذلك نفسه ودنياه ، فأعرض عن نفسه ، ورفض دنياه وشغل عمن سوى الله تعالى ، فإن حقيقة الذكر أن ينسى الذاكر ما سوى المذكور ، قال الله تعالى : {واذكر ربك إذا نسيت} قيل : إذا نسيت ما سوى الله بعد ذكرك الله تعالى ، كأنه يقول : إذا نسيت ما سوى الله فقد ذكرت الله عز وجل.
|قال النبي صلى الله عليه وسلم : سبق المفردون.
|حدثنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن الازهر الاشعري ، قال : حدثنا جعفر بن محمد الفارياتي ببغداد أمية بن بسطام حَدَّثَنا يزيد بن زريع ، حَدَّثَنا روح بن القاسم ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة ، فمر على جبل يقال له : جمدان ، قال : سيروا سبق المفردون قالوا : يا رسول الله ، ما المفردون ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات.(1/251)
@ 252@فأخبر صلى الله عليه وسلم الذاكر هو المفرد الذي ليس معه غيره ، فذاكر الله على الحقيقة من لا يذكر مع الله غير الله ، وحوائجه غير الله.
|قال أبو سعيد الخزاز : بينا أنا عشية عرفة قطعني قرب الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم نازعتني نفسي بأن اسأل ، فسمعت هاتفا يقول : أبعد وجود الله تسأل الله غير الله.
|فمن شغل عنها بشهود الله أعطاه الله عند ذلك في الدنيا حق معرفته ، وصرفه عمن سواه وأدناه منه فكان جليسه ، فقد قال الله عز وجل : أنا جليس من ذكرني ورفع الحجب بينه وبينه فكان كأنه يراه ، وأعطاه في الآخرة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وأحله في مقعد صدق عند مليك مقتدر يقبل عليه بوجه ناضر ، وينظر إليه ببصره ناظر يستلم عليه فلولا رب رحيم ويجيبه إليه بر كريم.
|ويجوز أن يكون معنى قوله : من شغله ذكري أي من شغله ذكر الله له ، معناه من شغله شهوده ذكر الله له قبل إيجاده إياه وخلقه له ، فجعله من الموحدين له المؤمنين به المثنين عليه ، نقله من صلب إلى رحم حتى أخرجه من أمة هي خير أمة اخرجت للناس فيمن يأتيها أنبيائه ورسله ، ثم ألهمه ذكره ، وعلمه الثناء عليه ، وألزمه كلمة التقوى وجعله من أولى النهي ، فكان مذكوره بالاختباء حين لم يكن شيئا مذكورا ، فقام له بحوائجه قبل حاجته إليها ، فأعطاه مصالحة قبل هدايته لها ، أعطاه قبل سؤاله ، أجزل العطايا ووهب له انفس الرغائب وأحسن الهدايا ، وتكفل له ما يصلحه للدين والدنيا ، فمن عرف ذلك من ربه به وسيده إليه ، استغرق في بحر مننه ، فشغله عن سؤال معرفة منه بعلمه بحاله ، فتوكل عليه وفوض أمره إليه ثقة به ومعرفة بنظره له ، فيعطيه الله افضل ما يعطي السائلين ، ويختار له في حين وجوده ما هو اصلح له ، كما اختار له في عدم ما هو رفع له وازين به ، فهو يعطيه على قدر الربوبية عز وجل ، والسائلون يسألون على قدر العبودية وهمم العبد لا يجاوز قدره ، وما عند الله خير وابقى ، والله جواد كريم . والذاكرون على طبقات ثلاث ، فذاكر بلسانه تسبيحا وتحميدا وتكبيرا وتمجيدا ، يدعوه بأسمائه الحسنى ويثنى عليه بصفاته العلى ، انشرح صدره بنوره واطمأن قلبه بذكره ، وشهد مذكوره بسره ، فذكره له أنيس وهو لربه جليس ، تلذذ بذكره والثناء عليه ، فيستغنى عن سؤاله والطلب إليه .(1/252)
@ 253@قال الله تعالى : {ولذكر الله اكبر} يجوز أن يكون معناه ذكر الله اكبر قدرا في القلب الذاكر من أن يرجع منه إلى حظوظ نفسه وسؤال حاجاته ، فيعطيه الله افضل ما يعطي السائلين إلى ما وعد لهم ، إذ السائلون يسألون محدثا مخلوقا ، والله عز وجل وعد الذاكرين له ما ليس بمخلوق ولا محدث وهو ذكره ، لأن ذكره صفة الله عز وجل بصفاته قديم ويباهي بهم ملائكته ، ويرفع أقدارهم بين خليقته ، وينوه باسمائهم في ملكوته ، وذاكر بقلبه معظم لربه مشاهدا به ، لم يذكره عن نسيان حين يجرى بذكره اللسان ، فكان كما قال :$
ذكرنا وما كنا لننسى فنذكر$
ولكن شيم العرب يبدو فيهن اسكنته هيبته واخرسته خشيته ، اجل الحق أن يذكره بلسانه ، ولم يغب عن ذكره لحظة بجناية يرى ذكره له من حيث هو غفلة وثناءه عليه بصفة نفسه زلة ، قال الله تعالى : {ولذكر الله اكبر} [العنكبوت : 45] ، قال بعض الكبراء : ذكر الله اكبر من أن يجري به الإنس على ما يستحقه ، أو تبلغه الأوهام على ما يليق به ، أو تحويه العقول على قدر قدره . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا احصي ثناء عليك ، أنت كما اثنيت على نفسك فهؤلاء اخفوا ذكره عن الاخيار والرسوم فأخفى ثوابهم عن المعارف والفهوم ، فقال : {فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين} [السجدة : 17].
|قال النبي صلى الله عليه وسلم رواية عن الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
|وقال النبي صلى الله عليه وسلم رواية أيضا : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي.(1/253)
@ 254@غاروا على أذكاره فغار على اوصافهم ، فهم خباياه في غيبه ، وأسراره في خلقه ، وآخر شاهد ذكر ربه له حيث لا رسوم ، ولا فهوم ، ولا علم ، ولا معلوم ، كانوا موجودين له علما إذا كانوا معدومين رسما ، فكانوا مذكورين ولا ذكر لهم ، ومعلومين ولا علم لهم ، ومرادين ولا إرادة لهم ، ومطلوبين ولا طلب لهم ، ومختارين ولا اختيار لهم ، لما شاهدوا هذه الأحوال سقطوا عن الطلب والسؤال ، فكانوا في حين وجودهم كما كانوا في عدمهم ، تسليما لأمره وتركا للاعتراض عليه . فالطبقة الأولى متذكرون ، والثانية ذاكرون ، والثالثة مذكرون ، والله من ورائهم محيط.
$حديث آخر$
حدثنا بكير بن مسعود بن وراد ، حَدَّثَنا أبو سليمان محمد بن منصور البلخي ، حَدَّثَنا كثير بن شيبان العباد زكي أبو شيبان الراسبي ، حَدَّثَنا الربيع بن برد العرجي ، حَدَّثَنا ابان بن أبي عياش ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له.(1/254)
@ 255@قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا غيبة له أي لا غيبة عنه في الغفل الذي أظهره من نفسه ، وألقى جلباب الحياء فيه وقد يجوز أن تكون الغيبة عنه فيما سوى ذلك من غيب هو فيه ليستره على نفسه إذا ذكرته به ، فإن ذلك غيبة عنه لأنه إنما لم يكن ذكره بما ألقى جلباب الحياء فيه غيبته ، لأن الغيبة إنما نهى عنها إن شاء الله من جهة الأذى الذي يلحق المغتاب عنه والألم الذي يصيبه فيه لأنه ينشئه عند الناس عيبة ، فهو يستره على نفسه كراهة أن يفتضح وينتهك ستره ، أو يكره ذلك العيب من نفسه ولا يقاوم نفسه في إزالته عنها ، فإذا أظهره للناس وألقى ستر الحياء عنه فقد ظهر انه ليس ببالي بأن يعرف ذلك منه أو يذكر به ، فإن ذكرته به لم يلحقه ألم ولا اذى ، فكأنك لم تذكره بسوء ، وعلم أيضا انه ليس يكره ذلك العيب من نفسه ، وانه ليس بمغلوب فيه ، ولكنه متبجح ، فلما لم يكن فيه أذى ولا كراهة لم يكن ذاكره بما اظهر من نفسه مغتابا ، ويكون في إظهار ذلك منه وذكره به(1/255)
@ 256@فائدة ونفع ، وهو أن يعرفه من لا يعرفه به فيجتنب ، ويتجافى عنه ، ولا يداخله ، فيتأذى به . حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن يوسف العماني ، حَدَّثَنا أبو شجاع أحمد بن مخلد النيسابوري ، حَدَّثَنا الجارود بن يزيد ، حَدَّثَنا بهز بن حكيم ، عن ابيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أترعون من ذكر الفاجر ، اذكروه بما فيه حتى يعرفه الناس.
|يحذره الناس ، فهذه فائدة ذكره . فأما ما لم يظهره من نفسه فإنه يتأذى به ، ولعله يكره من نفسه ويجب إخراجه من نفسه ولا يقاوم هواه ، فهو كالمكروه ، فإذا ذكرت ذلك منه هتكته وأذيته ، وأذى المؤمن غير فائدة ذنب كبير ، فكذلك يكون ذكره بالسترة على نفسه مغتابا والله أعلم.(1/256)
@ 257@والغيبة إنما تكون إذا ذكرت ما فيه من عيب أو سوء لا يجب أن يطلع عليه ، فأما ذكره بما ليس فيه فهو بهتان ، عليه ، والبهتان من الكبائر ، قال الله تعالى : {سبحانك هذا بهتان عظيم} [النور : 16].
|وحدثنا أحمد بن عبد الله الهروي ، حَدَّثَنا محمد بن حبان ، عن محمد بن المنهال ، حَدَّثَنا يزيد هو ابن زريع عن روح ، عن الهاد ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الغيبة ، فقال : أن تذكر أخاك بما يكره قيل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان في أخي ما اقول ؟ قال : فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته والله أعلم.
$حديث آخر$
حدثنا أبو حاتم أحمد بن حبان التميمي ، حَدَّثَنا الحسن بن عبد الله القطان بالرقة ، وإسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل ببيت ، والفضل بن محمد الباهلي بأنطاكية في آخرين ، قالوا : حَدَّثَنا هشام بن عمار ، حَدَّثَنا الحكم بن هشام ، حَدَّثَنا يحيى بن سعيد أبان القريشي ، عن أبي فروة ، عن أبي خلاد وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم الرجل المؤمن قد أعطى زهدا في الدنيا ، وقلة المنطق ، فاقتربوا منه فإنه يلقى الحكمة.(1/257)
@ 258@قال الشيخ رحمه الله : الحكمة : الإصابة بالقول ، واتقان العمل ، والزهد : فراغ القلب من الدنيا ، من زهد في الدنيا فهو منور القلب مشروح الصدر ، قال الله تعالى : {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} [الزمر : 22] يجوز أن يكون الإسلام ههنا إسلام النفس إلى الله ، ومن اسلم نفسه إلى الله لم يشتغل بالدنيا ، لأن الدنيا إنما تراد للنفس ، فمن اسلم نفسه إلى مالكها لم يحتج إلى الدنيا.
|وقال صلى الله عليه وسلم : إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح قيل : وما علامة ذلك ؟ قال : التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار السرور ، والاستعداد للموت قبل الموت فأخبر أن التجافي عن الدنيا والزهد فيها دليل على نور القلب ، ومن استنار قلبه أصاب في منطقة ولم يخطئ في قوله ، وتكون أعماله متقنة وأفعاله محكمة ، لأنه يرى الأشياء كما هي ، فلا يلتبس عليه الامور ، ولا يشابه له الاحوال ، لأنه ينظر بنور الله ، ومن نظر بنور الله ابصر الشيء كما هو ، فأصاب في منطقة وأدرك الرشد في إشارته ، فمن قبل منه أصاب رشد ، وقلة المنطق دليل |(1/258)
@ 259@على إصابة صاحبه ، لأن من تحرى الصواب في عمله ، والصدق في قوله قل منطقة ، لذلك أمر إن شاء الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول ممن أعطى زهدا في الدنيا وقلة المنطق لإصابة الحق والصواب ممن هذا نعته ، ومن قبل الحق والصواب رشد ، والله الموفق والمرشد.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا عبد العزيز بن محمد المرزباني ، حَدَّثَنا عبد الله بن حماد الاملي ، حَدَّثَنا يحيى بن بكير ، حدثني يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو مولى المطلب عن المطلب ، عن عائشة رضي الله عنها انها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم.
|قال الشيخ رحمه الله : الصائم والقائم يجاهدان أنفسهما ، لأن الصائم والقائم مخالفة النفس ، إذا النفس حظها واستمتاعها بالمطاعم والشراب والنكاح ، والصائم يمنع عن هذه الاشياء ، والنفس امارة بالسوء ، تدعو إلى هذه وبهذه الأشياء تتقوى هذه النفس ، بالنوم تربو وتنمو ، والقيام يمنع النوم ، والصائم والقائم يجاهدان كل واحد منهما نفسه ، ومن جمعهما فإنما يجاهد نفسا واحدة ، فيعظم قدره وتعلو رتبته بمجاهدته نفسه.
|قال الله تعالى : {وأما من خاف مقام ربه} [النازعات : 40] الآية.
|ومن حسن خلقه فإنما يجاهد نفسه في تحمل أثقال مساوئ أخلاق الناس ، لأن الحسن الخلق هو الذي لا يحمل غيره ثقله ويتحمل أثقال غيره ، وهو جهاد كبير ، فأدرك هذا بحسن خلقه درجة الصائم القائم ، لأنه يجاهد نفسه كما يجاهدها الصائم القائم ، فاستويا ، في الرتبة لاستوائهما في الفعل الذي [هو] مجاهدة النفس.
|حدثنا أحمد بن ماجد بن عمرويه ، حَدَّثَنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن يوسف ، حَدَّثَنا الصلت بن مسعود الجحدري ، حَدَّثَنا جعفر بن سليمان الضبعي ، وح محمد بن إسحاق الرشادي ، حَدَّثَنا محمد بن نصر ، حَدَّثَنا يحيى بن يحيى ، اخ جعفر بن سليمان ، عن عبد الله |(1/259)
@ 260@ابن أبي الحسين المكي ، عن الحارث جميلة ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن اثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة الخلق الحسن.
|هذا الحديث رفع ذا الخلق الحسن فوق درجة الصائم القائم ، لأن الصائم والقائم يوضعان يوم القيامة ، واخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الخلق الحسن اثقل شيء يوضع في الميزان ، فهو اذن في الميزان اثقل من الصائم والقائم ، وذلك إن شاء الله من مجاهدة النفس ، فالصائم والقائم يجاهد نفسا واحدة وهي نفسه ، وذو الخلق الحسن يجاهد نفسه وانفسا كثيرة ممن يعاشرهم ويعاشرونه ، ويتحمل أثقال نفسه وأثقال غيره ، فلذلك إن شاء الله ثقل ميزانه والله أعلم.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا عبد العزيز بن محمد بن الدهقان ، حَدَّثَنا محمد بن إبراهيم البكري أبو الفضل ، حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل بن جعفر ، حدثني عبد الله بن سلمة ، عن جعفر بن ربيعة ، عن الاعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا ، يرضى لكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وان تعتصموا بحبل الله جميعا ، وان تناصحوا من ولى الله امركم ويسخط لكم قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال.
|قال الشيخ رحمه الله : العبادة لله من غير إشراك صفاء توحيد الله ، واخلاص العمل لله تعالى ، والاعتصام بحبل الله تعالى الاستقامة في دين الله ، وتصحيح العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر الشفقة على خلق الله ، وحسن المعونة لعباد الله ، والقيل والقال التكلف في دين الله ، وإضاعة المال وضعه في غير حق الله ، وكثرة السؤال الاعتراض على الله.
|فيجوز أن يكون معنى قوله : يرضى لكم أي يرضى منكم هذه الافعال ، ويرضى لكم أن تكونوا بهذه الاوصاف ، فيوجدها فيكم ويوفقكم لها ويستعملكم بها ، |(1/260)
@ 261@لأنها تحببكم ، والمحب يجب لحبيبه ارفع المنازل ، وأعلى الدرجات واحسن الاوصاف ، وأن تطيعوه انتم فيوجدها فيكم ويضعها فيكم ويجلبكم فضلا وكرما ، ويسخط لكم الثلاث الآخر ، فيحول بينكم وبينها وبعضكم منها ، ولا يحدثها فيكم عصمة لكم ، ويسخط منكم هذه الأوصاف الذميمة ، فتكلفوا إزالتها عنكم ومجانبتها إن لم تكن فيكم ، فلا يسخط الله عليكم ، والله ولي التوفيق والعصمة.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا بكر بن محمد بن حمدان ، حَدَّثَنا أبو الاحوص محمد بن الهيثم ، حَدَّثَنا نعيم بن حماد ، حَدَّثَنا عثمان بن كثير بن دينار الحصني ، عن محمد بن المهاجر ، عن عروة بن رويم ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان.
|قال الشيخ رحمه الله : الإيمان بالله شهود القلب لله ، وهو التصديق اللساني بقوله لا إله إلا الله ، فإذا نطق اللسان بلا إله إلا الله صدق القلب لشهوده عز وجل من غير شريك ، ومن قال لا إله إلا الله ولم يشهد بقلبه بمعنى الايقان بالله لم يصدق قلبه لسانه ، لذلك قال الله تعالى : {قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون : 1] ، اكذبهم في قولهم لأنهم لم يشاهدوه بقلوبهم ، وإن كانت الكلمة كلمة صدق فصح أن الإيمان شهود القلب انه حي قائم موجود ، وإله واحد معبود ، فهذا هو الإيمان القائم ، الذي من ليست له هذه الصفة فليس بمؤمن ، ثم بشهود القلب مراتب ودرجات فأفضل درجاته وأعلى مراتبه شهوده الله تعالى في كل مكان يكون العبد فيه ، وعلى أي حال كان العبد عليها من سراء وضراء ، وخلاء وملاء ، وفي الضرورة والاختبار ، والغناء والافتقار ، وفي البؤس والنعيم ، والطاعة والمعصية ، فيشهده في حال السراء بالحمد لله ، وفي حال الضراء بالرضا به ، وفي حال الخلاء بالحياء منه ، وبالملأ بالتوكل عليه ، وفي الضرورة بالاستعانة به ، وفي الاختبار برؤية التوفيق منه ، وفي الغناء بالافاضل ، وبالصبر في |(1/261)
@ 262@الإقلال ، وفي البؤس بسعة الصدر ، وفي النعيم بالازدياد منه بالشكر ، وفي الطاعة بالإخلاص ، وفي المعصية بطلب الخلاص ، فهذا افضل الإيمان والله المستعان ، ذو الطول والاحسان والله أعلم.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا أبو علي محمد بن علي بن الحسين الحافظ ، حَدَّثَنا أحمد بن علي بن الحسين بن شعيب المدائني ، حَدَّثَنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي ، حَدَّثَنا دحيم بن إبراهيم ، حَدَّثَنا مؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن زيد ، عن ايوب ، عن أبي قلابة ، عن النعمان ابن بشير ، وقبيصة بن المخارق رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشمس والقمر لا ينكسفان بموت أحد ، ولكن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع ، فإذا انكسف واحد منهما فصلوا كأحدث صلاة مكتوبة صليتموها.(1/262)
@ 263@قال الشيخ رحمه الله : إن الله تعالى لما خلق الأشياء وأوجدها وأخرجها من العدم إلى الوجود ، ظهر في كل شيء من ذلك علو وشموخ ورفعة لمعرفتها بأنها له ، وأنه اوجدها ، وأنها منسوبة إليه ، وجعل في كل شيء خاصية معنى فارتفعت به ، قالت الملائكة : {نحن نسبح بحمدك ونقدس لك} . وتحاجت الجنة والنار فافتخر كل واحد منهما بما خصت به من نعيم اوليائه ، والانتقام من اعدائه ، وافتخرت الجبال على الأرض لما مادت الأرض فأرساها بالجبال.
|وقال ابن عباس : فإنها لتفتخر على الأرض إلى يوم القيامة ، وقال إبليس : {خلقتني من نار وخلقته من طين} [الأعراف : 12] فكل شيء كان افتخاره بالله عز وجل نجا ، ومن افتخر بجواره ونظر إلى ذاته هلك كإبليس عليه اللعنة وحق لشيء عرف انه مقصود ربه ليس كمثله شيء أن يفتخر به ويعلو قدره ، وقد قصده الحق بالإيجاب ، وخاطبه بكن ، وخصه بمعنى ، فلولا أن الله وسم كل شيء بسمة من سمات العبودية وذل الخلقة وعجز البنية ، وما خص كل شيء مما خلق بشيء لشمخت بأنفها واستجبرت وتجبرت ، فسقطت عن عين الله وهلك ، كما استكبر ابليس فلعن ، فوسم الله عز وجل وهم من خشيته مشفقون.
|وقال تعالى : {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} [النحل : 50] ووضع على بني آدم البلوى والاختبار ، فقال : {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء : 35] وقال تعالى : {ولنبلوكم بشي من الخوف والجوع} البقرة : 155] وقال : {خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملا] [الملك : 2].(1/263)
@ 264@ووضع على الجن الصغار والذل فلم يجعل منم رسولا ولا كليما ولا بعثيا ، ولم يخاطبهم على الانفراد ، ولعن إبليس والشياطين فأبعدها وأقصاها وجعلها رجيما.
|وخص سائر الأشياء بالتسخير ، فقال عز وجل : {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} [الأعراف : 54] ، {وسخر لكم الليل والنهار} [إبراهيم : 33] ، {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا} [الجاثية : 13] فلما وسم الله تعالى هذه الأشياء بهذه السمات استكانت الأشياء كلها وخضعت وانقادت واستقامت على ما ارادوا منها ، سبحان الحكيم الحليم العليم . ثم انه تعالى حجب جميع خلقه عن كنه جلاله ، وقدر سلطانه ، وقهر ربوبيته ، وعظم هيبته ، فلولا ذلك لتلاشت الأشياء واضمحلت وفنيت وبادت ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : حجابه النار لو كشف عنها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره وفي رواية : حجابه النهار ، وفي رواية أخرى : حجابه النور.
|وحدثنا خلف بن محمد ، حَدَّثَنا نصر بن زكريا ، حَدَّثَنا عباس بن عبد العظيم العنبري ، حَدَّثَنا مكي بن ابراهيم ، حَدَّثَنا موسى ، عن عمر بن الحكم ، عن عبد الله بن عمر ، وعن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دون الله سبعون حجابا من نور وظلمة ، وما من نفس تسمع شيئا من حسن تلك الحجب إلا زهقت نفسها.
|فاخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بقاء الأشياء كلها وقيامها بأوصافها وثبوتها علي ما هي عليه بحجتها عن عظيم سلطان الله ، وقهر ربوبيته ، فلأنبياء عليهم السلام والملائكة وأفاضل الأولياء في كنف لطف الله فيه بقاؤهم ، والشياطين |(1/264)
@ 265@بحجاب اللعنة والطرد والاقصاء ، والعبد وسائر المؤمنين في ستر الرحمة ، والأعداء في حجاب الظلمة ، وسائر الأشياء في حجاب الغفلة ، والتجلي كشف الحجاب وإظهار القدرة وإبداء الهيبة والجلال ، فإذا كشف الله الحجاب عن شيء من الأشياء زال ذلك الشيء وذهب وتلاشى ، ومنها تتغير عن اوصافها وتزول عن بنيتها على قدر الكشوف وظهور أوصاف الجلال ، قال الله تعالى : {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} [الأعراف : 143] استحال عن صفته وتغير عن بنيته ، فصار ترابا هباء بعد أن كان شامخا حجرا صلبا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وخرجتم إلى الصعدات تجأرون.
|وفي بعض الأخبار : أن الله تعالى خلق درة ، فنظر إليها فذابت ، فصارت ماء يجري لا قرار له ولا سكون من هيبة الله . فإذا ابدى الله من سلطانه ما شاء ، ومن صفات قهره وجلاله ما أراد ، تلاشت الأشياء واضمحلت وفنيت ، فتصير السماء كالمهل ، والجبال كالعهن المنفوش ، وسيرت فكانت سرابا ، وخسف القمر ، وتناثرت النجوم ، وتفطرت السموات ، وحالت الأشياء وزالت ، ذلك بأن الله تعالى شديد البطش ، عظيم السلطان ، جليل القدر ، لا يقدر قدره ، ولا يطاق قهره ، ولا يدرك جبروته ، ولا يحاط به علما ، جل وتعالى علوا كبيرا.(1/265)
@ 266@فقوله صلى الله عليه وسلم : إذا تجلى لشيء من خلقه خشع يجوز أن يكون معناه إظهار آثار القدرة وعز السلطان وقهر الربوبية ، فيخشع من الأشياء ما تجلى له وكشف الحجاب عنه ، ويتطامن ويتواضع ويتغير عن اوصافها ، ويتحول عن نعوتها وبنيتها تخويفا للعباد وتحذيرا لهم ، قال الله تعالى {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} [الإسراء : 59] فكسوف الشمس والقمر لتجلي أوصاف القدرة لها ، وظهور اعلام عز السلطان عليها ، تنبيها للعباد وتحذيرا لهم أن الذي ظهر لهما ، أو كشف عنهما من سر اللطيف ، وحجاب الرحمة غيرهما عن حالهما ، واذهب بنورهما وضياؤهما على عظيم بنيتهما ورفيع مكانهما.
|وفي الحديث : إن الشمس تشرق من السماء الرابعة ظهرها إلى الدنيا ووجها لأهل السموات تشرق وتضيء ، وعظمها مثل الدنيا ثلثمائة مرة أو ما شاء الله ، وفي القمر ثمانمائة فرسخ في مثله وصفته ما شاء الله فإذا حل بهما مع اقدارهما من ظهور سلطان الله لهما ما حل ، فكيف يا ابن آدم الضعيف البنية ، الصغير القدر ، القليل التماسك ، تصرعه اللحظة ، وتؤذيه النملة ، لا يصير لآثار اللطف ، ولا يقاوم صفات الرحمة من ريح تهب ، أو رعد يرعد أو برقا يلمع ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر لهم من كسوفها أو كسوف أحدهما شيء أن يفزعوا إلى الخشوع الله تعالى ، والإلتجاء إليه ، والتوجه نحوه ، والإقبال عليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فإذا انكسف واحد منهما فصلوا كأتم صلاة مكتوبة إذ الصلاة خشوع وخضوع ، والتجاء وتوجه ، وإقبال.
|وورد في صلاة الكسوف اخبار كثيرة على وجوه مختلفة ، منها أربع ركعات في أربع سجدات في ركعتين ، ومنها ست ركعات في أربع سجدات ، ومنه جماعة وفرادى ، وفي هذا الحديث كأتم صلاة مكتوبة وهو أربع ركعات وثماني سجدات في أربع ركعات على صفة الظهر والعصر والعشاء الأخيرة ، فإن هذه الصلوات اتمها في معنى العدد ، وإن كانت صلاة الفجر والمغرب تامتين بأنفسهما ، فإن صلاها ركعتين كصلاة الفجر فهي تامة ، وان صلاها أربعا فهي أتم في معنى العدد ، إذ لا عدد للمكتوبة اكثر من ذلك إظهارا للخشوع لتجلي صفة القدرة ، وظهور السلطان ينجلي الله للشمس والقمر بما شاء ، ويتجلى لعباده بواسطة الشمس والقمر لطفا منه بهم ، ورحمة عليهم ، ونظر إليهم ، إذ لو تجلى لهم من غير واسطة لحل بهم ما حل بالجبل ، بل تلاشوا |(1/266)
@ 267@ودفنوا ، فلطف بهم الله ، ورءوف عليهم ، ذلك بأن الله رءوف بعباده ، جميل النظر لهم ، لطيف بهم.
$حديث آخر$
حدثنا بكر بن مسعود ، حَدَّثَنا أبو سليمان محمد بن منصور ، حَدَّثَنا القعنبي ، حَدَّثَنا شعبة ، عن منصور ، عن ربعي بن حراش ، عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ، إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
|قال الشيخ رحمه الله : رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدر هذه الكلمة وأجلها وعظم شأنها ، فذكر انها من كلام الأنبياء ليس مما قالت العرب بحكمها وفصاحتها.
|ويجوز أن يكون قوله : مما أدرك الناس من كلام النبوة أي انها مما أوحى الله إلى الأنبياء عليهم السلام أول ما أوحى ، فلم يزل ذلك يجري في النبوات حتى ادركها العرب ، فهي على أفواهها مما أوحى الله إلى الأنبياء عليهم السلام يدل على ذلك رواية مفضل بن مهلهل ، عن منصور ، عن ربعي ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مما بقى من النبوة الأولى كأنه يقول : هي مما أوحى الله إلى الانبياء ، وليست من اختراع الحكماء ، وكلام الفصحاء ، رفعا من قدرها وتعظيما لشأنها ، لأنها كلمة جامعة لخير الدنيا والآخرة ، وذلك أن الحياء فرع يتولد من إجلال قدر من يستحي منه وتقصير يراه في نفسه وإزراء بها ، فيستصغر نفسه واوصافها عند شهود من يجل قدره عنده ، فينحصر فيمنعه حصره عن كثير مما يحسن من أفعاله ، فكيف بما يقبح من أحواله ؟ فالعبد بمراء من الله وهو اجل ناظر إليه لا يخفيه منه شيء ولا يخفي عليه شيء ، حقه أعظم الحقوق ، وقدره اجل الأقدار ، فهو يراه في كل أحواله وعلى كل أفعاله ، وهو أيضا يراه خلق الله في كثير من أحواله ممن يجل أقدارهم عنده من ملائكة كرام ، وخاص من الناس وعام ، |(1/267)
@ 268@فهو مترقب متحفظ في جميع حركاته في اكثر أوقاته من أن يرى منه خلق ذميم أو فعل سقيم ، فيحكم أفعاله خوفا أن يلحقه لوم فيما يرتكب من فعل مسييء أو فيما يقصر من حق ما يلزمه من فعل مرضي ، ثم يكون حافظا لخواطره مراغبا لهواجسه ، مراقبا لانفاسه أن يجري في سره ويخطر بباله ما يسقطه من عين ناظره أو تمقته فيه من هو عليه قادر ، فيستقيم ظاهره ويصفو باطنه ، فهذه صفة من وصفه الحياء . قال النبي صلى الله عليه وسلم : الحياء خير كله.
|حدثنا محمد بن نعيم بن ناعم ، حَدَّثَنا أبو حاتم الرازي ، حَدَّثَنا الانصاري ، قال : حدثني خالد بن رباح ، عن أبي سوار ، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحياء خير كله.
|ومن كان بضد هذه الصفة التي هي الحياء فإنه لا يحل عنده قدر ناظر من قديم ومحدث ، ولا يبالي أن يلحقه شين ، أو يوصف بذميم ، ولا يخاف من فوقه ، ولا يبالي بمن معه ، فهو خارج عن أوصاف الناس ، فإنما يفعل ما تدعوه إليه نفسه الأمارة بالسوء ، ويأتي ما يزينه في عيشة من قبيح أفعاله العدو ، فكأنه يقول : إذا لم يكن لك ناهي مروة أو دين لم يحجزك حاجز ، ولا يمنعك مانع ، صنعت ما شئت ذممت عليه وفيه.
|ويجوز أن يكون معناه : إذا لم تكن بأوصاف الحياء فافعل ما شئت من عمل ، فلا قيمة لعملك ولا خير فيه ، لأن من لم يجل ربه ولم يكرم عباده فليس معه من أوصاف الإيمان شيء . فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : الحياء من الإيمان.
|حدثناه محمد بن بهرويه الرازي بالري ، حَدَّثَنا سليمان بن صدقة ، حدثني سعيد بن سليمان بن سعدويه ، حَدَّثَنا هشيم ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ، عن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحياء من الإيمان.(1/268)
@ 269@فمن لم تكن أعماله على أوصاف الحياء ، فكأنه يجل قدر نفسه ، ويستخف بقدر سيده ، فعظم في عينه قليل عمله ، ويصفو عنده كدره فيمن على الله بطاعته ، ويصغر عنده عظيم معصيته ، ويزري بعباد الله إجلالا لقدر نفسه ، واستصغارا لقدر من سواه ، لأن الحياء إجلال قدر الناظر إليك ، واستصغار نفسك ، فما كان بخلاف الحياء فهو إجلال قدر نفسه ، واستصغار قدر من سواه ، فهذه صفة عدو الله ابليس قال : {أنا خير منه} [الأعراف : 12] نعوذ بالله من الخذلان ، ونسأله الغفران ، فإنه المنان على عباده وله الحمد ، وإليه المصير.
$حديث آخر$
حدثنا بكر بن محمد بن هرويه الرازي ، حَدَّثَنا الحسن بن علوية ببغداد ، حَدَّثَنا علي يعني ابن الجعد حَدَّثَنا شعبة ، عن عمرو بن مروة ، قال : سمعت رجلا في بيت أبي عبيدة ، انه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سمع الناس بعلمه سمع الله به سائر خلقه وحقره وصغره قال : فذرفت عينا ابن عمر رضي الله عنهما.
|قال الشيخ رحمه الله : المسمع بعمله المرائي ، به يظهر للناس وجاها فيهم ورتبة عندهم ، يريهم انه لله عابد وله طائع إرادة رفعة فيهم ، فهو إنما يرائي به الصالحين من عباد الله الذين يعظم في اعينهم من يطيع الله ويريدون أن يكونوا مطيعين لله متعبدين له ، والله عز وجل إنما أراد من عباده إخلاص العمل له وأن لا يريدوا بأعمالهم إلا الله وحده ، ولا تكون اغراضهم في أفعالهم إلا رضاء الله والدار الآخرة . فإذا صرفوا إرادتهم بأعمالهم إلى غير الله بإظهار صالحها لهم ومراياتهم بها ليعظموا بها في اعينهم ويجل عندهم اقدارهم ، قلب الله عليهم فأظهر للخلق مساوئ أعمالهم التي يخفونها عنهم ويسترونها منهم ، مما علم الله منهم وسترها عليهم فيبديها لسائر خلقه من آدمي وملك وسائر خلق الله ، فيبغضونهم عليها وتزدريهم اعينهم وتقصر أقدارهم عندهم ويحقرونهم ويمقتونهم على اعمالهم ، فيفتضحون عندهم وينهتكون فيما بينهم فيفوتهم ما قصدوه ويقلب عليهم ما أرادوه ، فكأنه قال : من رائى الناس بمحاسنه واظهر لهم صالح أعماله اظهر الله لهم مساوئها منها ، فيفوته ما يريد ويبطل محاسنها ، |(1/269)
@ 270@فلا يثاب عليها ، ولا يدرك ما يريد ، بل يفتضح ويصغر ويحقر ، نعوذ بالله من الخذلان.
$حديث آخر$
حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسين البلخي ، حَدَّثَنا محمد بن حيان بن حماد السلمي ، حَدَّثَنا خالد بن يزيد ، عن سفيان ، عن منصور ، عن شقيق بن سلمة ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن فلانا بات الليل ولم يذكر الله حتى اصبح ، قال : ذاك رجل بال الشيطان في اذنه أو قال في اذنيه.
|قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون معنى بال الشيطان في أذنه أي استخف به واستحقره واستولى عليه ، فقد قال الله عز وجل في صفة المنافقين : {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله} [المجادلة : 19] أي : استعلى عليهم وأحاط بهم فنسوا ذكر الله . وقد يقال لمن استخف بإنسان وأزوى به واستخف بعقله فغره وخدعه بال فلان في اذنه ، ويقال ذلك أيضا لمن استغفل إنسانا أتاه على غرة.
|ويقال : إن دابة فوق النهر دون الكلب لها أذنان سوداوان ويخاف منه الأسد استحذار لها وتناوم خوفا منها فتجئ هذه الدابة فتبول في اذنه فيموت الاسد ، فكأن من غفل عن الله ، وأنسى ذكر الله غلب عليه الشيطان واستضعفه ، فقد جاء في الحديث : إن الشيطان يقول للبعد إذا أراد أن يقوم من الليل : فإن عليك ليلا طويلا.
|ويجوز أن يكون معنى قوله بال الشيطان في أذنيه أي أنساه ذكر الله وأخذ بسمعه عن نداء الملك الذي جاء في الحديث : أنه إذا كان ثلث الليل الأخير نادى مناد من السماء : هل من داع فيستجاب له ، هل من سائل فيعطى سؤاله ، هل من مستغفر فيغفر له فالذاكرون الله والقائمون لله ذاكرين ، وبالأسحار مستغفرين ، وله سائلين ، وإليه راغبين قياما قانتين ، ، واستقل القيام كأنه في سمع فهمه وقرا ، وفي اذن قلبه صمما من |(1/270)
@ 271@تزيين الشيطان له وأخذه عن نداء الملك ، يسمعه بوسوسته إليه ، لأن الوسوسة كلام خفي وإكثار منه ، فكأنه يشغله بحديثه عن سماع نداء الملك بسمعه لوسوسته إليه ، وهو اللعين قذر نجس ، فأفعاله نجسة واعماله رجسة ، وقذرة منتنة فهو إذا شغل سمع عبد عن الداعي بشهوة نفسه وبوسوسته إليه ، أتى خبيثا من الأمر ورجسا من الصفة ، فكان كأنه بال في أذنه ، نسأل الله تعالى العون عليه والعصمة منه ، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
$حديث آخر$
حدثنا محمد بن أحمد البغدادي ، حَدَّثَنا العباس بن محمد بن الفضل ، حَدَّثَنا شريح بن النعمان أبو الحسين الجوهري ، حَدَّثَنا شرح بن نباتة ، عن هشام ، عن حبيب ، عن بشر ابن عاصم ، عن ابيه ، انه بعث إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليستعمله على بعض الصدقة فأبى أن يعمل له ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا كان يوم القيامة اتي بالوالي فيقذف على جسر جهنم ، فيأمر الله تعالى فينتفض انتفاضة يزول كل عظم عن مكانه ، ثم يأمر الله تعالى العظام فترجع إلى اماكنها ، ثم يسأله فإن كان لله مطيعا أخذ بيده واعطاه كفلين من رحمته ، وإن كان لله عاصيا خرق به الجسر فهوى في جهنم مقدار سبعين خريفا فقال عمر : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم اسمع ؟ قال : نعم . فكان هناك سلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، فقال سلمان : أي والله يا عمر بن الخطاب ، ومع السبعين خريفا في واد من نار تلتهب التهابا . فقال بيده على جبهته إنا لله وإنا إليه راجعون ، من يأخذها بما فيها ؟ فقال سلمان : من سلت الله أنفه ، وألصق خده بالتراب.
|قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون معنى قوله : من سلت الله انفه أي قبحه وشوه خلقه ، لأن من نزع انفه من وجهه شوه خلقه ، لأن معنى السلت المسح والإذهاب.
|ومعنى ألصق خده بالأرض أي أذله وأقمأه ، أي : يكون آخر أمره ذلك ، وإلى تلك الحال يكون من قبحها ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : يحشر |(1/271)
@ 272@المتكبرون أمثال الذر ، يطأهم الناس بأقدامهم . فكأن معنى قول سلمان لا يأخذها عندك وأنت حي إلا من يرغب فيها طلبا للعلو وإرادة الرفعة والتسلط على عباد الله ، ومن أعاد علوا في الأرض وفسادا ، ومن كان كذلك كانت عاقبة أمره في الآخرة وانتهاء حاله في القيامة إلى ما اوعد الله المستكبرين على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : يحشرون أمثال الذر ويشوه خلقهم ويقبح صدورهم ، لأنه لأي يقبلها مع ما فيها من غير ضرورة إليها ، إلا من كان طالبا للعلو في الأرض والفساد في البلاد والترفع على العباد ، الا يرى انه لم يرغب فيها من الخلفاء الراشدين أحد حتى أتاه عفوا وحتى لم يجد منه بدا ، فإن أبا بكر رضي الله عنه كان يدفعها عن نفسه حتى لم يجد منه بدا وخاف الفتنة ، وعمر رضي الله عنه استخلفه أبو بكر ، وعثمان اجتمعت عليه أهل الشورى ، وعلي بايعوه طوعا وهو يمتنع حتى جاءت عزمة.
|حدثنا محمد بن يعقوب بن يوسف السكندري ، حَدَّثَنا الكريمي ، حَدَّثَنا هارون بن إسماعيل حَدَّثَنا قرة بن خالد السدوسي ، عن الحسن ، عن قيس بن عباد ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه يوم الجمل يقول لما دفن يعني عثمان رضي الله عنهما : رجع الناس يسألوني البيعة ، فقلت : اللهم إني مشفق مما اقدم عليه حتى جاءت عزمة فبايعت ، فلما قالوا لي يا أمير المؤمنين فكأنما صعد قلبي وامسكت بغيرتي ، فقلت : اللهم خذ مني لعثمان حتى يرضى.
|فهؤلاء الخلفاء الراشدون لم يتقلدوها إلا لضرورة حين لا يجدوا بدا من ذلك خوفا من الفتنة ، وشفقة على خلق الله ، وجدبا على عباد الله لا رغبة في الدنيا ولا طلبا في الارض ، ولا فساد بجمع المال.
|فقول سلمان من سلت الله أنفة : أي إنما يأخذه اختياره من غير ضرورة ، من سلت الله انفة لأنه لم يكن يأخذها في حياة عمر رضي الله عنه ، وعمر مستقل بها وافضل الناس يومئذ عمر ، إلا من رغب في الدنيا وطلب العلو فيها ، ومن كان كذلك فهو من المستكبرين الذين يشوه في الآخرة صورته ويطاه الناس ذلا وهوانا.
|ويجوز أن يكون معنى قوله من سلت الله انفة أي : يأخذها عند الضرورة أي بعدك ، من نزاع الله الكبر والعلو وطلب الرفعة والتسلط على عباد الله منه وإلزامه التواضع في دين الله تعالى ، والشفقة على عباد الله منه ، فقد يقال لمن تكبر وترفع |(1/272)
@ 273@واستطال على الناس شمخ بأنفه ، فيجوز أن يكون : سلت الله أنفه أي نزع الكبر منه ، ونفاه عنه ، فيكون الأنف عبارة عن الكبر والتعظم.
|ووضع الخد بالأرض وإلصاقه بها عبارة عن التواضع لله ، والتذلل لعباد الله كما قال الله تعالى : {أذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين} [المائدة : 54] فكأنه قال : يأخذها عنك بعدك يا عمر من لا يريد بها علوا في الأرض ولا فسادا ، بل يريد بها تواضعا لله ، وشفقة على عباد الله ضرورة مخافة الفتنة في الدين ، وتشتيت كلمة المسلمين ، فكان كما أخذها بعد عمر عثمان رضي الله عنهما متواضعا متذللا غير متكبر ولا متجبر ، إماما عادلا خليفة صادقا تستحييه الملائكة رضي الله عنه وبعده الهادي المهدي أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله رضي الله تعالى عنهم أجمعين وألحقنا بهم آمين رب العالمين.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا أبو محمد أحمد بن عبد الله الهروي ، حَدَّثَنا أبو الحسن علي بن محمد بن مهرويه القزويني بالكوفة قدمها حاجا ، حَدَّثَنا داود بن سليمان بن وهب أبو أحمد الفري القريشي ، # حدثني علي بن موسى الرضي ، حدثني أبو موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد بن علي ، عن أبيه محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن موسى بن عمران سأل ربه ورفع يديه فقال : يا رب ابعيد أنت فأناديك أم قريب فأناجيك ؟ فأوحى الله إليه : يا موسى بن عمران أنا جليس من ذكرني.
|قال الشيخ رحمه الله : يجوز أن يكون قوله عليه السلام : أبعيد أنت فأناديك على معنى الاسترشاد في الدعاء والذكر من جهة الجهد والإخفاء ، وليس على معنى البعد الذي هو الغيبة أو بعدك المسافة ولا على القرب الذي هو الحضور والجهود بمعنى الحلول ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وحاشى كليمه المعنى في رتبته المصطفى من برية أن يخطر بباله ما لا يجوز على الله تعالى ، أو أن يصفه بصفات المحدثين ، فكأنه عليه السلام يقول : أدعوك إذا دعوتك رافعا صوتي بالنداء جاهزا بالدعاء كما يخاطب من هو بعيد وينادى من هو غائب إذا دعوك خافضا صوتي مخافتا في دعائي كما يخاطب القريب ويدعى المناجاة ، قال الله له : أنا جليس من ذكرني .(1/273)
@ 274@كأنه يقول له : ادعني دعاء المرء جليسه ، والجليس لا ينادي جهرا ولا يخافت سرا ، كأنه يقول له : اجعل دعاءك لي بين المخافته والجهر ، وقد قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ولكن تدعون سميعا بصيرا.
|حدثناه خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن معقل ، حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل ، حَدَّثَنا سليمان بن حرب ، حَدَّثَنا حماد ، عن ايوب ، عن أبي عثمان ، عن أبي موسى الاشعري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فكنا إذا علونا كبرنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أيها الناس اربعوا على أنفسكم وذكره.
|ويجوز أن يكون معنى قوله : أم قريب أنت فاناجيك : أي : أنا في صفة البعد عنك والإقصاء أبو بصفة القرب والإدناء ، كأنه يقول : باعدتني عنك واقصيتني عن بابك سخطا علي فأناديك صارخا وادعوك جاهزا مستغيثا من بعدك والفراق منك ، أو أدنيتني منك وقربتني إليك قبولا لي ورضا عني فأناجيك نجوى المقربين وادعوك دعاء المستأنسين ، فكأنه أراد بعده عن الله وقربه منه ، وإن كان لفظ الخبر على لفظ بعد الله عنه وقربه منه لأن من بعدت عنه فقد بعد عنك ، ومن قربت منه فقد قرب منك ، فكأنه قال : ابعدتني عنك أم أدنيتني منك ؟ فأوحى الله تعالى إليه : أنا جليس من ذكرني فكأنه يقول له : إن علامة من قربته مني وادنيته إلي أن يكون ذاكرا لي ، فمن وجد نفسه لي ذاكرا فليعلم اني قربته مني كأني جليسه ، فكأنه عز وجل تلطف له ورأف به وتعطف عليه ، فاخبره عن أوصاف القرب إذ كان عليه السلام مقربه ومصطفاه وكليمه ومجتباه ، وروي عنه أوصاف البعد فلم يخبره بعلامات من باعده عنه ، كما اخبره بعلامة من قربه منه عطفا عليه ولطفا به كيلا يوحشه إذ كان عليه السلام لا يطيق أن يسمع بأوصاف البعد وعلامات الإقصاء وأمارات الطرد ، ولانه عليه السلام لم يكن بعيدا منه ولا كان عليه أوصاف من باعده الحق من نفسه عز وجل.
|ويجوز أن يكون معنى قوله : إنا جليس من ذكرني اخبره بقربه منه وتقريبه إياه كأنه يقول : كيف يكون بأوصاف البعد مني وأنت لي ذاكرا ، ومن كان لي ذاكرا |(1/274)
@ 275@كنت له جليسا ، اخبره بأنه منع بأبلغ غايات القرب وأقصى نهايات الدنو اليه ، كأنه يقول له : أنت مني بالقرب والدنو بمنزلة المرء من جليسه.
|ولم يقل في الحديث إن من ذكرني جليسي ، لأنه لو كان كذلك لكانت الحالة مكتسبة ولم يكن فيه دلالة الخصوص والافضال على من اثره الله ، لأن الله تعالى اجل من أن يرام مجالسته والدنو إليه من حيث البعد ، وإنما ذكر انه هو الجليس إظهارا لفضله ، وتقربا إلى عبده ، ولطفا بذاكره ، كما قال تعالى : {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} [المجادلة : 7] وكما قال الله تعالى : {يحبهم ويحبونه} [المائدة : 54] جل الله البر الرءوف الرحيم بعباده اللطيف الخبير.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا أبو النضر محمد بن إسحاق الرشادي ، حَدَّثَنا علي بن عبد العزيز ، حَدَّثَنا مسلم ، حَدَّثَنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الاحوص ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلا.
|وفي حديث آخر : لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا.
|حدثناه خلف بن محمد ، حَدَّثَنا إبراهيم بن معقل ، حَدَّثَنا محمد بن اسماعيل ، حدثني عبد الله بن محمد ، حَدَّثَنا أبو عامر ، حَدَّثَنا فليح ، حدثني سالم أبو النضر ، عن بشر بن سعيد ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
|وفي حديث آخر : إن صاحبكم خليل الله.
|سمعت محمد بن عبد الله بن يوسف العماني ، يقول : سمعت كهمس ، يقول : سمعت محمد بن الحسن يقول : سمعت عبد الله بن شقيق رحمه الله يقول : قلت لعائشة رضي الله عنها : من كان احب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم |(1/275)
@ 276@؟ قالت : أبو بكر ، قلت : ثم من ؟ قالت : ثم عمر . قلت : ثم من ؟ قالت : ثم أبو عبيدة بن الجراح.
|قال الشيخ رحمه الله : أخبر في هذا الحديث أن أبا بكر خليل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واخبر في الحديث الأول انه ليس له خليل غير الله ، وفي حديث آخر أن احب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ، وقال في حديث آخر في الحسن والحسين : اللهم اني احبهما فأحبهما وكان أسامة يقال له حب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فوردت الأخبار انه احب أقواما ولم يتخذ أحدا من الناس خليلا ، وقد تكلم شيوخ الصوفية في الخلة والمحبة ، فشرف بعضهم الخلة وشرف الاكثرون المحبة ، وقالوا : كان إبراهيم عليه السلام خليل الله ، ومحمد صلى الله عليه وسلم حبيب الله ، وتكلموا فيه بكلام كثير . وقد ورد الخبر بذلك.
|والخلة بمعنى والمحبة بمعنى آخر ، والمحبة هي الإيثار والموافقة والإقبال له . والخلة هي على المحبوب وخاصته الوجد بالمحبوب والرقة له بعد الميل إليه والإقبال عليه والإيثار له ، والخلة هي الاختصاص والمداخله ، يقال : خلل أصابعه إذا ادخل بعضها في بعض ، وخلل لحيته إذا ادخل أصابعه.
|حدثنا محمد بن حامد القواريري ، حَدَّثَنا أحمد بن سهل ، حَدَّثَنا علي بن نصر بن علي الحلواني ، قالا : حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد ، قال : حَدَّثَنا رفعة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه ، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فتسمع حديثهم ، فقال بعضهم : عجبا أن الله تعالى اتخذ من خلقه إبراهيم خليلا . وقال آخر : ماذا بأعجب من أن كلم الله تعالى موسى تكليما . وقال آخر : فعيسى كلمة الله وروحه . وقال آخر : آدم اصطفاه الله . فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم وقال : قد سمعت كلامكم وعجبكم ، إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وموسى نجي الله وهو كذلك ، وعيسى كلمته وروحه وهو كذلك ، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك ، ألا وانا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلق الجنة ويفتح الباب لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أول شافع واول مشفع يوم القيامة ولا فخر ، وأنا |(1/276)
@ 277@أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر ، إني لست افتخر بذي عليكم فخر تعظيم وترفع وتكبر.
|ولكن كان فخره بالله ، وتكلموا فيه بكلام كثير . فالخلة تختص بمعنى ، والمحبة تختص بمعنى آخر ، فالمحبة هي الإيثار والموافقة والإقبال على المحبوب وخاصته الوجد بالمحبوب والرقة له بعد الميل إليه والإقبال عليه والإيثار له ، والخلة هي الاختصاص والمداخلة ، يقال : خلل أصابعه إذا ادخل بعضها في بعض ، وخلل لحيته إذا ادخل أصابعه فيها ، فكأن المتخاللين يتداخلان بينهما في وقوف كل واحد منهما علي ما يستر خليله ، ويطلع على مغيب خليله وخاصة أمره مما يستره عن غيره ولا يطلع عليه أحدا من الناس ، وهذا خاصية الخلة . قال الشاعر : % ( قد تخللت مسلك الروح منى % وبذا سمي الخليل خليلا ) % % ( فإذا ما نطقت كنت حديثي % وإذ ما سكت كنت الغليلا ) % فيجوز أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : لو كنت متخذا من أمتي خليلا أي : لو كنت مطلعا أحدا من أمتي على سري وموقفا أحدا بمغيب أمري وما اجنه في ضميري لأطلعت عليه أبا بكر رضي الله عنه ولكن لا يطلع على سري إلا الله وحده ، ولا اظهر ما استره ولا اكشف ما اضمره إلا الله وحده لأني خليله ، وإنما يقف على سر المرء خليله دون غيره . قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن لي مع الله وقتا لا يسعني فيه غيره أي لا يتخلل بيني وبين ربي دخيل ، وقد ابى الله عز وجل أن يطلع أحدا من خلقه على ما أسره إلى خليله وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله عز وجل : {فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم : 10] ، ستر على العالمين ما أسره إليه وأورده عليه فقال عز وجل : {فكان قاب قوسين أو أدنى} [النجم : 9] اخرج عن الأوهام وتورد إليه ، وطوى عن الافهام سره إليه وأمره بأن يبلغ ما انزل إليه دون ما توقف بسره إليه ، فقال : {بلغ ما انزل إليك من ربك} [المائدة : 67] ولم يقل بلغ ما تعرفنا به إليك . روي ذلك عن جعفر بن محمد |(1/277)
@ 278@رضي الله عنه ، وروي عنه أيضا في قوله : {ولو تقول علينا بعض الأقاويل} [الحاقة : 44] قال : لو اظهر لغيرنا ما اسررنا إليه : {لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} [الحاقة : 45 46] إذ لا يجوز أن يدخل بين الخليلين ثالث ، أو يقف على سر المحبين أحدا لا يرى لما اضمر في سره معنى لغيره ، واخفى في نفسه شرا لجنسه ، غار الله عليه أن يكون له سرا سواه ، فقال عز وجل : {وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب : 37] أظهر للناس ما اخفاه في نفسه غيرة عليه أن يكون في سره غيره ، وستر عن الخلق كلهم ما وراه من عظيم آياته أوهام الخلائق في الوقوف على معنى قوله : {الكبرى} فطوى الله عز وجل عن الخلق ما كان بينه وبين خليله محمد صلى الله عليه وسلم فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز له أن يطلع على سره الا الخليل الذي هو الجليل ، فقال : لو جاز لي أن اتخذ خليلا فيقف على سري لأتخذت أبا بكر إذا كان رضي الله عنه اقرب الخلق سرا من سر رسول الله صلى الله عليه وسلم الا يرى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبا بكر لم يفضلكم بصوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه طوى عن الناس سر أبي بكر كما طوى عن أبي بكر سر نفسه وبذل المحبة منه للناس فقال : إني احبهما فأحبهما يعني الحسن والحسين واسامة.
|حدثناه محمد بن أحمد البغدادي ، حَدَّثَنا إسحاق بن اسماعيل ، حدثني مسدد ، حدثني معتمر ، قال : سمعت ابي ، حَدَّثَنا أبو عثمان ، عن أسامة بن زيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يأخذه والحسن ، ويقول : اللهم اني احبهما فأحبهما ، أو كما قال.
|وأخبر انه يحب احد ، فقال : هذا جبل يحبنا ونحبه . فأحب الاغيار ولم يتخذ خليلا غير الجبار ، فكان حبه الاغيار إيثارا لمن احب على غيره وإقبالا عليه وميلا إليه ، بمعنى الرقة والرحمة إليه ، وحبيبه الذي وجده به وشوقه إليه وسره معه هو الذي ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير.(1/278)
@ 279@$ حديث آخر$
حدثنا حاتم ، حَدَّثَنا يحيى ، حَدَّثَنا الحماني ، حَدَّثَنا شريك ، عن أبي اليقظان ، عن أبي وائل ، عن حذيفة رضي الله عنه قال : قالوا : يا رسول الله ، ألا تستخلف علينا ، فقال : إن استخلفت عليكم خليفة من بعدي ثم عصيتم خليفتي نزل العذاب ثم قال : إن تولوا هذا الأمر أبا بكر تجدوه قويا في أمر الله ضعيفا في بدنه ، وإن تولوها عمر تجدوه قويا في أمر الله قويا في بدنه ، وإن تولوا عليا ولن تفعلوا تجدوه هاديا مهديا يسلك بكم الطريق المستقيم.
|قال الشيخ الامام الزاهد رحمه الله : النبي صلى الله عليه وسلم أفطن الخلق كلهم أبعدهم عما يخل بأفعاله ، سمع الله يقول حكاية عن كليمه حين قال لأخيه هارون اخلفني في قومي فكان منهم ما كان من عبادتهم العجل وكانت توبتهم اغلظ توبة ، قال الله تعالى {اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم . [النساء : 36] فحذر النبي صلى الله عليه وسلم في الاستخلاف عليهم ما نزل بقوم موسى فاستخلف الله عليهم فقال : الله خليفتي فيكم فخار الله عز وجل لهم فاستخلف الله أبا بكر فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر ضعيف في بدنه قوي في أمر الله ، وان عمر قوي في بدنه قوي في أمر الله ، واجمع أهل السنة والجماعة أن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، ثم عمر ، وقال ابن عمر : كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان.
|حدثنا به خلف بن محمد ، حَدَّثَنا إبراهيم بن مغفل ، حَدَّثَنا محمد بن اسماعيل ، حَدَّثَنا عبد العزيز بن عبد الله ، حَدَّثَنا سليمان ، عن يحيى بن سعيد ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما قال ذلك.
|وحدثنا خلف ، حَدَّثَنا ابراهيم ، حَدَّثَنا محمد ، حَدَّثَنا محمد بن كثير ، اخ سفيان ، حَدَّثَنا جامع بن أبي راشد ، حَدَّثَنا أبو يعلى ، عن محمد بن الحنفية ، قال : قلت لأبي : أي |(1/279)
@ 280@الناس خير بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أبو بكر : قلت : ثم من ؟ قال : عمر . وخشيت أن يقول عثمان ، قلت : ثم أنت ؟ قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين.
|فكان أبو بكر خيرا من عمر وهو اضعف بدنا من عمر ، وعمر أقوى بدنا منه ، وكلاهما قويان في أمر الله ، فدل ذلك على أن الفضل ليس من جهة قوة الأبدان ولا بكثرة الاعمال ، لأن من كان أقوى بدنا مع قوته في أمر الله يجب أن يكون اكثر عملا ، فدل ذلك أن كثرة العمل لا يوجب الفضل ، وإنما يوجب الفضل منحة العمل ومعنى في السر ، بل نما يكون الفضل لمن فضله الله تعالى ، والله تعالى لا يفعل شيئا لعلته ، وإنما يفعل ما يفعل بالمشيئة ، فينحاز لمن يشاء ويفضل من يريد وهو الحكيم للخير ، ثم يجعل في قلب من فضله واختاره معنى يكون ذلك علما لفضه ودليلا على اختيار الله له ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أبا بكر لم يفضلكم بكثرة صلاة ولا صيام ، ولكن بشيء وقر في قلبه.
|فاخبر أن قوة القلب هي التي تقدم ليس قوة البدن ، وإنما يقوى القلب لأنه موضع نظر الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
|والله تعالى إنما ينظر إلى ما يحب ويختار ، ولا ينظر إلى ما يبغض ، قال الله تعالى : {إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران : 77] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى لم ينظر إلى الدنيا منذ خلقها بغضا لها فأخبر انه إنما ينظر إلى ما يحب ومن يحب ، فاحب الله تعالى من شاء لا لعلة ، ثم نظر إلى ما احب منهم وهو القلب ، فقويت القلوب بنظر الله إليها واشرقت واستنارت وتزينت ، فطارت في الملكوت شوقا إلى من نظر إليها ، لأنه تعالى لما نظر إليها نظرت إليه فولهت به وشغلت عما سواه ، فطارت في الملكوت شوقا إليه ، فوقفت أمام |(1/280)
@ 281@العرش فأذن لها فسلمت عليه ، وكلمها فوعت ، وأراها فأبصرت ، وألبسها السكينة فسكنت ، وردها بألوان الفوائد وانواء الزوائد ، ولولا ما ألبسهما من السكينة لطارت شوقا وتلاشت في مباهات توحيد الله ، وفنيت تحت أنواع هيبته ، قال الله تعالى : {هو الذي انزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} [الفتح : 4] ، فبذلك قويت الأسرار وصغت القلوب.
|ففي الحديث دلالة أن الله تعالى يختار ما يشاء ، قال الله تعالى : {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص : 68] وهو تعالى فضل من أراد في سابق علمه بمشيئته وإرادته ، لا لقوة بدن ولا بكثرة عمل ، والقلب إنما يقوى بما يحدثه فيه ويودعه إياه بعد اختياره له ونظره إليه ، والله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ويصطفى من يشاء ، ويختار ما كان لهم الخيرة ، تعالى الله عما يشركون.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : وإن تولوها عليا ولن تفعلوا يجوز أن يكون معناه أن تولوها عليا حين تفضي الخلافة إليه وتصير له ولن تفعلوا أخبر عن الغيب الذي اطلعه الله عليه انهم لا يفعلون ، فكان كما أخبر ، فتفرقوا فيه فرقا واختلفوا عليه أمما ، فلم يهتدوا ولم يسلكوا الطريق المستقيم ، بل تشتتوا فصاروا شيعا ، فنكثت طائفة ، وقسطت اخرى ، ومرقت ثالثة ، وعصيت رابعة ، ولو ولوها إياه واجتمعوا عليه لوجدوه هاديا لهم إلى الطريق الواضح ، والهدى البين ، مهديا في نفسه لا يسلك من الطريق إلا أهداها ومن المناهج إلا اولاها ، ويسلك بهم الطريق المستقيم الذي كان علي رضي الله عنه يسلكه ويهدي إليه ويستقيم فيه ويقيم عليه.
|حدثنا الحمودي ، حَدَّثَنا حامد بن سهل ، حَدَّثَنا إسماعيل بن موسى ، حَدَّثَنا خلف بن خليفة ، عن الحجاج بن دينار ، عن معاوية بن قرة ، قال : ذكر الحسن البصري رحمه الله علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : أراهم السبيل ، وأقام لهم الدين إذ تعوج.
|فكأنه قال : إذا افضت الخلافة به ، وانتهت الإمرة إليه ، وليتموه امركم ، عند ذلك يسلك بكم الطريق المستقيم ، ولكنكم لا تفعلون ولم يرو إن شاء الله تعالى أن تولوها إياه بعدي وعلى إثري ، فيكون أول قائم بعدي ، لأنه صلى الله عليه وسلم دلهم على الخليفة بعد وفاته بالأمر له بالإمامة لهم في حياته ، فقال مروا |(1/281)
@ 282@أبا بكر فليصل بالناس ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه بلال إلى الصلاة فقال : مروا من يصلي بالناس قال عبد الله بن ربيعة بن الأسود : فقلت : قم يا عمر فصل بالناس ، قال : فقام ، فلما كبر عمر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ، وكان عمر رجلا مجهرا ، [فقال :] فأين أبو بكر ، يأبى الله ذاك والمسلمون ، يأبى الله ذاك والمسلمون.
|حدثنا به محمد بن محمد ، حَدَّثَنا نصر بن زكريا ، حَدَّثَنا عمار ، حَدَّثَنا سلمة ، حدثني محمد بن اسحاق ، وعن الزهري ، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن هشام ، عن ابيه ، عن عبد الله بن ربيعة بن الأسود بن المطلب بن اسد ، قال : لما استقر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده ، وذكر حديثا طويلا.
|فدل ذلك على انه لم يرد بقوله صلى الله عليه وسلم إن تولوها عليا أي : تولوها بعد وفاتي وعلى إثري ، فيكون أول من يقوم بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أراد أن تولوا عليا حين تفضى إليه الخلافة وتصير له الإمرة وتنتهي إليه الولاية ، والله أعلم بالصواب.
$حديث آخر$
حدثنا أبو محمد بكر بن مسعود بن رواد التاجر ، قال : حَدَّثَنا عبد الصمد بن الفضل ، قال : حَدَّثَنا المقري ، عن حيوة ، عن بكير بن عمرو المعافري ، عن مشرح بن هامان المعافري ، عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(1/282)
@ 283@قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما لم يكن ، أن لو كان كيف كان ، كما أخبر الله تعالى عما لا يكون أن لو كان كيف كان ، بقوله : {ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه وإنهم لكاذبون} [الأنعام : 28] بقولهم : {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} [المؤمنون : 107] ففيه إنابة كذبهم وعتوهم على الله عز وجل ، وان كفرهم وتركهم الإيمان بالله ورسوله كان عنادا ، وجحودا على بصيرة بمواضع الحق ، وبينات من الهوى لا لشبهة عرضت.
|فكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كان بعدي نبي لكان عمر رضي الله عنه فيه إنابة على الفضل الذي جعل الله في عمر رضي الله عنه والأوصاف التي تكون في الأنبياء ، والنعوت التي تكون في المرسلين . فاخبر أن في عمر رضي الله عنه أوصافا من أوصاف الأنبياء ، وخصالا من الخصال التي تكون في المرسلين ، مقرب حاله من حال الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم ركبا اتوه فقال : حكماء علماء كادوا أن يكونوا من الفقه انبياء.
|ويجوز أن يكون فيه معنى آخر ، وهو إخبار أن النبوة ليست باستحقاق ولا بعلة تكون في العبد يستحق بها النبوة ويستوجب الرسالة ، بل هو اختيار من الله تعالى واصطفاء ، قال الله تعالى : {ولكن الله يجتني من رسله من يشاء} [آل عمران : 179] وقال الله تعالى : {الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس} [الحج : 75] ، وقال تعالى : {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك} [الزخرف : 31 32] فكأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى أوصاف الرسل والأنبياء عليهم السلام 0 وان عمر رضي الله عنه جمع منها كثيرا ، لو كانت الأوصاف موجبة للرسل لكان عمر بعدي رسولا . ومما يدل على ذلك أن خاصة الأوصاف التي كانت في عمر التي تفرد بها عن غيره ، قوته في دينه وبدنه وستره ، وقيامه بإظهار دين الله وإعراضه عن الدنيا ، وانه كان سببا لظهور الحق واعزاز الدين ، وفرقان الحق والباطل ، وبذلك سمي الفاروق.(1/283)
@ 284@وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : كان إسلام عمر فتحا ، وكانت إمارته رحمة ، وكانت هجرته نصرة ، والله ما استطعنا أن نصلي بالبيت ظاهرين حتى اسلم عمر رضي الله عنه فلما اسلم قاتلهم حتى صلينا.
|حدثناه محمد بن إسحاق الرشادي ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حَدَّثَنا ابي ، قال : حَدَّثَنا وكيع ، عن مسعود المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال : قال عبد الله : وذكره.
|فالخواص التي تظهر للخلق من أوصاف الانبياء ، الصدق لله ، والثقة بالله ، والإعراض عما دون الله ، وذلك في صدق القول ، وشجاعة القلب ، وسخاوة النفس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لو كانت لي بعدد شجر تهامة كذا نعما لقسمتها بينكم ، لا تجدوني جبانا ولا كذوبا ولا بخيلا هذا معنى الحديث ، فدل هذا على أن هذه الخصال من اخص الأوصاف التي تظهر للناس من الانبياء ، وما بينهم وبين الله لا يطلع عليه إلا هو وحده عز وجل . ثم وجدت اكثر هذه الأوصاف في أبي بكر ، وفي علي اكثر مما وجدت في عمر رضي الله عنهم أجمعين قال أبو بكر : والله لو خشيت أن تأكلني السباع في هذه القرية يعني المدينة لانفذت جيش أسامة وبه بان الحق من الباطل بعد النبي صلى الله عليه وسلم بقتاله أهل الردة ، وبذل جميع ماله ، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ماذا خلفت لعيالك ؟ قال : الله ورسوله.
|والصدق من اخص أوصافه وسائر خصاله التي لا خفاء به ، ثم لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم إن لو كان بعده نبي لكان أبو بكر أبو علي ، ولكن قال ذلك لعمر ، ليعلم أن النبوة بالمشيئة والاصطفاء لا بالأسباب.
|وقوله : لو كان بعدي نبي لكان عمر لا يوجب أن يكون عمر افضل من غيره ، لأنه لم يكن نبيا ، ولو كان نبيا كان افضل ممن ليس بنبي ، فأما إذا لم يكن نبيا جاز أن يكون غيره افضل منه وهو أبو بكر رضي الله عنه والله أعلم.(1/284)
@ 285@$ حديث آخر$
قال : حَدَّثَنا أبو بكر محمد بن عيسى الطرسوسي ، قال : حَدَّثَنا عبيد الله بن محمد ، قال : حَدَّثَنا حماد عن محمد بن اسحق عن محمد بن إبراهيم عن سلمة بن أبي الطفيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا علي إن لك كنزا في الجنة ، وإنك ذو قرنيها ، فلا تتبع النظرة النظرة ، فإنما الأولى لك وليس لك الثانية.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله يجوز أن يكون معنى قوله : إنك ذو قرنيها أي أنت ملكها المخصوص بالملك الأكبر وإن لك ملكا في الجنة كلها كما كان ذو القرنين مخصوصا بملك الأرض كلها بضرب من مشرقها إلى مغربها ، قال الله تعالى : {حتى إذا بلغ مغرب الشمس وحدها تغرب في عين حمئة} الآية [الكهف : 86] وقال : {حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم} [الكهف : 90] فأخبر الله تعالى انه بلغ مغربها ومطلعها ، وقال : {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} [الكهف : 84] فأخبر انه ملك الأرض كلها بضرب من اولها إلى آخرها ، فكذلك علي رضي الله عنه له في الجنة ملك هو مخصوص به من بين سائر الملوك ، فإن في الجنة ملوكا كما أن في الدنيا ملوكا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إلا أنبئكم بملوك أهل الجنة قالوا : بلى ، قال : كل أشعث اغبر ذي طمرين لا يؤبه به ، لو اقسم على الله تعالى لأبره.(1/285)
@ 286@وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن من أهل الجنة كل أشعت أغبر ذي طمرين لا يؤبه به ، الذين إذا استأذنوا علي الأمراء لم يؤذن لهم ، حوائج أحدهم تلجلج في صدره ، لو قسم نوره يوم القيامة [بينهم] لوسعهم.
|حدثناه الشيخ الإمام عبد الله بن محمد الحارثي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عبد الله بن خالد البلخي ، قال : [حَدَّثَنا] قتيبة بن سعيد ، قال : حَدَّثَنا جعفر بن سليمان الضبعي ، عن عوف الاعرابي ، عن الحسن البصري رحمه الله قال : قال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، أخبر صلى الله عليه وسلم إن في الجنة ملوكا وعلي من اكبرهم ملوكا وإنه ممن له ملك في الجنة كلها كما كان لذي القرنين ملك في الأرض كلها ، قال الله عز وجل : {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء] [الزمر : 74] ، أخبر أن من أهل الجنة من ينزل منها حين يشاء ، وسائر أهل الجنة لهم درجات معلومة ومساكن معروفة.
|وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن من أهل الجنة من له كذا ، ومن له كذا فأخبر أن ملك علي منها وفيها ليس بملك محدد ومنتهي ، ولكن ملكه في جميع الجنة يتبوأ منها حيث يشاء.
|وقوله : إن لك كنزا في الجنة يجوز أن يكون معناه إنك متبرئ من حولك وقوتك متوكل على الله تعالى في امورك مستظهر بالله دون حولك وقوتك ، لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن كنز الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله.
|حدثنا أحمد بن سباع الخطيب ، قال : حَدَّثَنا محمد بن الضوء ، قال : حَدَّثَنا عمرو بن عون ، قال : حَدَّثَنا أبو معاوية ، عن أبي بشر ، عن خلف بن حبيب ، عن بشير بن كعب العدوي قال : قال أبو ذر رضي الله عنه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل لك في كنز من كنوز الجنة ؟ قلت : نعم ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله.(1/286)
@ 287@فيه معنيان : أحدهما : أن من تبرأ من حوله وقوته فقد آتخذ كنزا في الجنة كما قال في حديث آخر : اكثروا من غراس الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله ، يعني قولوا ذلك على تحقيق من قلوبكم ، وصدق من نفوسكم ، أي تبرءوا من حولكم وقوتكم فيكون لكم في الجنة كنوز ، وعلي رضي الله عنه ممن تبرأ من حوله وقوته فله في الجنة كنز.
|ومعنى آخر : أن التبري من الحول والقوة والاستظهار بالله تعالى على الأشياء من كنز في الجنة ، أي لا يكون بهذه الصفة إلا من كان له في الجنة كنز ، وعلي رضي الله عنه بهذه الصفة فله في الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم : أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش وقوله صلى الله عليه وسلم : لا تراعي النظرة النظرة ، فإنما الأولى لك وليست لك الثانية هذا إن شاء الله فيمن لا يتعمد النظر إلى ما نهي عنه لأن من كانت النظرة الأولى على قصد وتعمد إلى ما نهي عنه ، فليست هي له بل هي عليه ، فإن كانت هي الاولى ، فأما التي هي له وليست عليه هي التي نهى عنه من قصد منه فذلك معفو عنه لأنه خطأ . وقد قال الله تعالى : {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة : 286] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : رفع الخطأ والنسيان عن أمتي فالنظرة الأولى فهي نظرة خطأ معفو عنه متروك له لا يؤاخذ بها ، ولا يكتب عليه سيئة ، فإذا اتبعها أخرى كانت الثانية نظرة تعمد وقصد ، ومن تعمد الخطيئة ، وقصد من تعمد الخطيئة ، وقصد ارتكاب ما نهى عنه كتبت عليه سيئة لا يمحوها إلا بشرائطها من توبة ، أو كفارة ، أو تأديب ، ولله فيها المشيئة في العقوبة عليها والتجاوز وهو جل وعز غفور رحيم عفو حليم ، والله أعلم.(1/287)
@ 288@$ حديث آخر$
حدثنا حاتم بن عقيل ، قال حَدَّثَنا يحيى بن اسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه انه سمع رجلا من أهل الكوفة يقول : سمعت عليا رضي الله عنه على منبر الكوفة يقول : قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا احب إليك أم هي ؟ يعني فاطمة رضي الله عنها قال : هي احب إلي منك ، وأنت اعز علي منها.
|قال الشيخ رحمه الله : المحبة صفة المحب بثناء من المحب للمحبوب ، والعز صفة العزيز يبدو فيه على من يعز عليه.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : هي احب إلي منك اخبار بصفة يجدها في نفسه لفاطمة رضي الله عنها وهي رقة يجدها فيها ، وميل إليها وجدت عليها ليس لها في شيء من ذلك فضل ، ولا لها في محبته صلى الله عليه وسلم لها صفة ، وللطبع في المحبة اثر وللنفس فيها نسبة ، لأنها يكون العلة في المحب إما بنسب أو بر أو استحسان طبع أو شهوة نفس أو ما اشبهه ، وكلها يبدوا من المحب للمحبوب ، وكل ما كان للنفس فيه طريق ، وللطبع فيه اثر فمعلول.
|فقوله : {هي احب الي منك يعني أنا عليها اجذب ، ولها ارق ، وبها اشد وجدا ، وأنت اعز علي منها ، أي أنت أعظم خطرا عندي واجل قدرا ، وانا بك اضن لصفة هي لك ، ومعنى هو فيك لا يوجد ذلك المعنى فيها وليست تلك الصفة لها ، والعزة علي من يعز عليه العزيز ليس للطبع فيه اثر ولا للنفس فيه نسبة ، بل هي بثناء من العزيز ، فتقهر نفس من يعز عليه ويغلب طبعه ، فهي ابعد من العلة.
|والصفتان جميعا اعني المحبة والعزة فعل الله تعالى في المحب والعزيز غير أن إحديهما قد يكون معلوله وهي المحبة ، والمحب فيه ، معلول والعزة ابعدهما من العلة ، وأعلاهما من القدح فيها ، فكأنه أخبر أن فاطمة رضي الله عنها احب إليه ، والله تعالى حببها إليه ، وللطبع فيه اثر ألا ترى انه لما قبل أحد ابنيها الحسن والحسين رضي الله عنهما قال له قائل : اتحبه يا رسول الله ، قال : لا ، ولكني ارحمه ، أي ارق |(1/288)
@ 289@عليه واعدب عليه ، واخبر أن عليا رضي الله عنه اعز عليه منها ، والله تعالى جعله عزيزا عنده بمعنى احدثه في علي رضي الله عنه ووضعه فيه ، فجل بذلك قدره وعظم موقعه منه وضن به ، وليس للطبع فيه اثر وهو من العلة ابعد.
$حديث آخر$
حدثنا محمد بن نعيم بن ناعم ، قال : حَدَّثَنا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي ، قال : حَدَّثَنا الانصاري ، قال : حَدَّثَنا أبو المعلي ، قال : حَدَّثَنا أبو عثمان النهدي ، قال : سمعت سلمان الفارسي رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى كريم يستحيي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا.
|قال الشيخ رحمه الله : الحياء من أوصاف الكرام واللئيم لا يكاد يستحيي ، والحياء يجمع معاني كبيرة فمنه الامتناع من الفعل الذميم ، والوصف القبيح ومنه الترفع مما يستثنيه ويذم عليه ، ومنه الخشية من أن يوصف بالقبيح من الوصف أو ينسب إلى الذميم من الفعل ، وكل هذه الأوصاف من أوصاف الكرام ، والحيي أيضا لا يكاد يستحيي إلا ممن له قدر وخطر ، ومن لا قدر له ولا خطر فقلما يستحيي منه ، والكريم المتحقق بأوصاف الكرام يدع ما يدعه تكرما في نفسه ، ويفعل ما يفعل فضلا من عنده ، ولا ينظر إلى ما يستحيي منه فيعطي من لا يستحق ، ويدع عقوبة من يستوجبها لأنه يرفع في صفة الحرمان ، قال الشاعر يمدح بعض الملوك بالكرم : يفضي حياء ويفضي عطاء من لا يستوعب لأنه يترفع من مهابة فما يكلم إلا حين شيم فوضع بالحياء في ترك عقوبة من يستوجب وإعطاء من لا يستوعب لأنه يترفع من صفة الحرمان لمن سأله ويتكرم من عقوبة من يتعرض للعفو منه.
|ولما كان الحياء من الكريم جاز أن يوصف الله به لأن الله تعالى كريم متفضل عفو غفور جواد وشكور ، فإذا رفع إليه العبد سائلا منه ، وطالبا فضله ، يتكرم عن أن |(1/289)
@ 290@يحرمه ، ويتعالى عن أن يرده ، وإن كان العبد لا يستوجب العطاء ، ولا يستأهل العفو ، وكان جل وعز ساخطا عليه غير راض عنه ، فهو تعالى يتفضل من عنده فيعطي من يستوجب الحرمان ، ويعفو عن من العقوبة كرما منه وتفضلا ، لأنه جل وعز لا يرضى حرمان عبده وقد مد إليه يده سائلا منه مفتقرا إليه متعرضا بفضله مما لا ينقصه ولا يؤده ، ويعفو بمن يستوجب العقوبة وهو غير راض عنه ، ولا قابل منه ، وهو يفعل ذلك عمن تجل عنده قدره ويعظم لديه خطره ، وهو المؤمن به المصدق له المقر له بالوحدانية ، المذعن له بالعبودية ، وإن كان يأتي من العصيان ما يستوجب به العقوبة ، ومن الفعل ما يستحق به الحرمان فهو جل وعز يجل قدر عبده المؤمن أن يرد يديه صفرا خائبتين وقد رفعهما إليه ، وهو جل وعز قد يعطي الكافر به ، والجاحد له والمشرك معه غيره بعض ما يسأله كرما منه وفضلا ، ويؤخر عقوبته ، ولا يعاجله بها إذا رفع إليه يديه ، وهو ساخط عليه مبغض له معرض عنه ، استدراجا له وإرادة السوء به ، ولا لإجلاله ، ولا لقدره عنده وكرامته عليه بل لأنه جواد كريم متفضل حليم ، قال الله تعالى : {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} [النحل : 53 54] ، ومثله كثير.
|فإذا كان الله تعالى لا يرد يد من يرفعها إليه صفرا ، وهو له عاص ولأمره تارك ، وعن أداء حقوقه معرض فما ظنك بمن يرفع إليه يديه مفتقرا إليه متذللا له معتذرا إليه مقبلا عليه يسأله سؤال المضطرين ، ويدعوه دعاء الغريق ، ويتضرع لعفوه تعرض من لا يستأهل لنفسه حالا لنفسه حالا ، ولا يرى لنفسه لا يرجو إلا فضله ، ولا يعتمد إلا علي كرمه سبحان الكريم ذي الفضل العظيم.
|فمعنى الحياء من الله تعالى التكثر في الإعطاء من يستوجب الحرمان عند سؤاله منه ورفع يديه نحوه ، وترفعه وتعاليه تعالى عن حرمانه مما لا ينقصه عن عقوبته من يستوجبها ، وقد تعرض لعفوه وامتناعه عن العقوبة والحرمان . والله أعلم.(1/290)
@ 291@$ حديث آخر$
حدثنا الشيخ الإمام عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن محمد بن نعيم ، قال : حَدَّثَنا يزيد بن هارون ، قال : حَدَّثَنا عبد الأعلى بن المشاور ، عن حماد ، عن ابراهيم ، قال : حَدَّثَنا صلة بن زفر ، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده ليدخلن الجنة الفاجر في دينه ، الاحمق في معيشته.
|قال الشيخ الإمام رحمه الله : هذا يحتمل معنين : أحدهما : إخبار عن سعة رحمة الله تعالى ، وعظم مغفرته أي يبلغ من رحمة الله حتى يغفر لمن كان فاجرا في دينه ، أي متخلعا منهمكا في المعاصي ، مرتكبا للكبائر ، مضيعا للحقوق متعديا جائرا ، لأن هذه الأوصاف كلها يدخل في معنى الفجور ، لأن الفجور ميل عن الاستقامة ، وانحراف عن سنن الهدي ، والفجور الكذب ايضا ، يقال : يمين فاجرة ، أي كاذبه قال بشر بن أبي حازم : جعلتم حارثة بن لام إليها تحلفون به فجورا أي كذبا وميلا عن الحق.
|وقال اعرابي في عمر رضي الله عنه : والسخلة فلم يحمله ، اغفر له اللهم إن كان فاجرا ، أي جار ومال.
|فيكون معنى الحديث أن الله تعالى يغفر للجائر المائل عن طريق الاستقامة المرتكب للكبائر قولا وفعلا.
|والاحمق في المعيشة هو الذي لا يضع الشيء في موضعه ولا يوفر الحقوق على أهلها المبذر بما في يديه المنفق له في غير وجهه إذا كان صادقا في إيمانه بالله موحدا له غير مشرك ولا جاحد له.
|ويدخله الجنة إما بالعفو ، والتجاوز ، والمغفرة التي هي مضمون مشيئته بقوله : {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء : 48].(1/291)
@ 292@أو بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
|وقال النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له : من اسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال : اسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله.
|وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لمن تشفع ؟ قال : لأصحاب الدماء والعظائم.
|حدثناه حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، حَدَّثَنا نوح بن قيس الجداني ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قيل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن تشفع ؟ قال : لأصحاب الدماء والعظائم.
|أو يدخله الجنة بعدما طهره من ادناس الذنوب ، واقذار الخطايا بالنار ، كما قال : يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان . فكأنه قال : يدخل الله الجنة أصحاب الجنايات من جهة الدين والدنيا فضلا منه ورحمة.
|والمعنى الآخر : تنبيه للخلق ، وإخبار أن الله تعالى يدخل الجنة من يشاء بفضله ورحمته لا بالأعمال كما قالوا : هؤلاء في الجنة ولا ابالي ، يجوز أن يكون معناه : لا أبالي بما اتوه من صغائر وكبائر وما ضيعوه من الحقوق بعد الإيمان والتوحيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لن يدخل أحدكم عمله الجنة قالوا : ولا أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله من فضله ورحمته.(1/292)
@ 293@حدثناه عبد العزيز المرزباني ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إبراهيم البكري ، قال : حَدَّثَنا أبو ثابت ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن ابن عوف ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لن يدخل أحدكم عمله الجنة.
|ففيه إنابة أن الله تعالى يدخل الجنة من يشاء رحمة منه وفضلا لا بعمل صالح ، ويدخل النار عدلا منه لأمته ، لا بعمل سيء إلا بما حكم ، واخبر وهو الصادق في خبره فقال جل جلاله : {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء : 48].
|وقال جل جلاله : {إن الله حرمها على الكافرين} [الأعراف : 50] فهو لا يدخل الجنة كافرا ، ولا يغفر لمشرك وهو لما دون ذلك غافر لمن يشاء مدخل الجنة من أراد فضلا منه ورحمة.
|وفيه معنى آخر ، وهو أن الله تعالى يدخل الجنة الفاجر في دينه ، المستخف بدنياه الباذل لها من غير تمييز ، المنفق منها في كل وجه الذي لا يحزنه فواتها كبير حزن ، ولا يفرحه نيلها كبير فرح ، الذي لا تقع الدنيا من قلبه كبير موقع فهو فيها لا يبالي بما قلت عنده أو كثرت.
|يدل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر : رب فاجر في دينه أخرق في معيشته يدخل بسماحته الجنة.
|أخبر أن الاستهانة بالدنيا ، والاستخفاف بها يبلغ من العبد ما لا يبلغه كبير من الأعمال ، وانه يتجاوز معها من الذنوب مع إيثارها والحب لها ، لأن المستخف بها قد وافق الله جل وعز في استهانة ما هان عند الله تعالى وصغر.
|قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء.(1/293)
@ 294@$ حديث آخر$
حَدَّثَنا أبو حامد أحمد بن ماجد بن عمرويه ، قال : حَدَّثَنا أبو عبد الرحيم بن عبد الرحمن ابن إبراهيم بن يوسف ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن عيسى المصري قال : حَدَّثَنا أبو عاصم العباداني ، عن الفضل الرقاشي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوقهم فإذا الرب جل وعز قد اشرف عليهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قوله : {سلام قولا من رب رحيم} [يس : 58] فإذا نظروا إليه نسوا نعيم الجنة حتى يحتجب عنهم ، فإذا احتجب عنهم بقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم.
|قال الشيخ الزاهد رحمه الله : الإشراف صفة من ينظر إلى الشيء من مكان بعيد رفيع أو حال رفيعة ، يقال : فلان مشرف على أحوالك أي عرفها وأبصرها من جهة الرفعة وعلو الدرجة كما يقال : وهو مشرف عليك أي مطلع من مكان عال ، والله عز وجل لا يوصف بالمكان من جهة الحلول والتمكن ، وهو على عرشه من جهة العلو والرفعة عبر عنه بالإشراف ، وليس معنى الإشراف تحديد ، ولا مكان من جهة العلو ، فإذا نظر إلى أهل الجنة نظرا يريهم وجهه وهو موصوف بالعلو والرفعة عبر عنه بالإشراف وليس معنى الإشراف تحديد ولا مكان من جهة الحلول تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، والله عز وجل قائل متكلم والكلام له صفة في ذاته لم يزل ولا يزال فهو يسلم عليهم سلاما فهو قول منه كما قال : {سلام قولا من رب رحيم} [يس : 58] وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الآية المنزلة عليه تلاوة ليزيل الشبهة في السلام منه وانه قول يقوله وكلام يكلمهم به علي ما يليق به جل وعز.
|وقوله : فإذا نظروا إليه نسوا نعيم الجنة أي شغلوا عنها وحجبوا منها بلذة النظر إلى وجهه عز وجل ، وذلك أن ما دون الله لا يقاوم تجليه عز وجل ، ولولا أنه تعالى يثبتهم ويقويهم ويبقيهم ، وإلا حل بهم ما حل بالجليل حتى تجلى له ، ولكنه قوي قادر |(1/294)
@ 295@قاهر لا يؤوده شيء ، ولا يمتنع عليه شيء فهو تعالى يبقيهم ، ويثبتهم ويقويهم للنظر إليه ، ويستولى لذة النظر عليهم ، فينسيهم كل نعيم كانوا فيه لأنهم كانوا لذلك منتظرين ، وإلى ذلك متطلعين ، وإليه كانوا مشتاقين ، وللجنة لاجله طالبين ، لأنهم بذلك كانوا مبشرين ، ولذلك كانوا موعودين بقوله جل وعز {وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين} [الزخرف : 71] ، وقوله عز وجل : {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة : 22 23] ، وقوله عز وجل : {للذين احسنوا الحسنى وزيادة} [يونس : 26] فإذا كان ذلك بغيتهم وكانت تلك طلبتهم وذلك كان في الجنة مرادهم فإذا اعطوا ذلك لهوا عما سواه معرضين ونسوا ذلك كله اجمعين ، وشغلوا بما تلذ اعينهم مما يشتهي نفوسهم محجوبين ، فلا صفة لهم عند ذلك غير انهم إليه ناظرون وله شاهدون ، ولكلامه سامعون ولديه مقربون ، سبحان من تفضل على عباده المؤمنين وأوليائه المنتخبين بما لم يكن يبلغه همهم ، ولا تصل إليه اوهامهم ، فأكرمهم بما لم يخطر على القلوب ولا يدركه العقول فضلا منه ورحمة إنه ذو فضل عظيم.
|ومعنى قوله : حتى يحتجب عنهم يجوز أن يكون معناه حتى يردهم إلى نعيم الجنة الذي نسوه إلى حظوظ أنفسهم وشهواتها التي سهوا عنها فانتفعوا بنعيم الجنة التي وعدوه ، وتنعموا بشهوات النفوس التي اعدت لهم ، وليس ذلك إن شاء الله تعالى على معنى الاحتجاب عنهم ، لأنه تعالى لا يحجبه شيء ، وإنما يحجبهم عن نفسه برده إياهم إلى نعيم الأبدان وشهوة النفوس.
|وليس معنى يحجبهم عنه أن يكونوا له ناسين ، وعن شهوده محجوبين ، وإلى نعيم الجنة ساكنين ، وكيف يحجبهم عنه وهم بنعت المزيد ، ودار الكرامة ، ومحل القرب والحجبة بعد الشهود سلب النعيم ، وهو تعالى لا يسلبهم نعيما تفضل به عليهم ولكنه تعالى يردهم إلى ما نسوه ، ولا يحجبهم عما شاهدوه حجبه عينيه واستتار.
|يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : بقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم والنظر إذا صح والحجبة إذا ارتفعت ، والوصلة إذا تمت لم يكن بين نظر المبصر وشهود السر فرق ، ولا كان في حال الشهود والغيبة بون ، بل يتفق الأوقات الأوقات ، ويتساوى الأحوال فيكون في كل حال شاهدا ، وبكل جارحة ناظرا ، ولا يكون في حال محجوبا ولا بالغيبة موصوفا.(1/295)
@ 296@حكى عن قيس المجنون انه قيل له : ندعو لك ليلى ؟ فقال : وهل غابت عني فتدعى . فقيل له : اتحب ليلى ؟ فقال : المحبة ذريعة الوصلة ، وقد وقعت الوصلة فأنا ليلى ، وليلى أنا.
|وانشدني بعض الصوفية : % ( شغلت قلبي بما لديك فما % تنفك طول الحياة من فكري ) % % ( وحيث ما كنت يا مدي هممي % فأنت مني بموضع النظري ) % وأنشدوا لبعض الكبار : % ( جحدت الهوى إن كنت مذ جعل الهوى % عيونك لي عينا تغض وتبصر ) % % ( نظرت إلى سواك وإنما أرى % غيركم احلام نوم تقدر ) % % ( اقيس سرى عن سواك فلا أرى % سواك وإني أنت والكنة اكبر ) % وروى عن أبي يزيد البسطامي رحمه الله انه قال : إن لله تعالى عبادا لو حجبهم في الجنة ساعة عن الرؤية لاستغاثوا من الجنة ونعيمها كما يستغيث أهل النار من النار وعذابها.
|حدثنا خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا صالح بن محمد ، قال : حَدَّثَنا عبيد الله بن عمر ، قال : حَدَّثَنا مضر القاري ، قال : حَدَّثَنا عبد الواحد بن زيد ، قال : سمعت الحسن رحمه الله يقول : لو يعلم العابدون انهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت قلوبهم في الدنيا غما . يشهد لذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم : حَدَّثَنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا عبد بن حميد ، قال : اخبرني شبابة ، عن اسرائيل ، عن ثوير قال : سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانة وازواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة ، واكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة : 22 23].(1/296)
@ 297@أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الدوام بالغدوة والعشي ، ولم يرد إن شاء الله تعالى التوقيت لأنه لا غدوة هناك ولا عشي.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن عثمان ابن صالح ، قال حَدَّثَنا حسان بن غالب ، قال : حَدَّثَنا ابن لهيعة ، عن بكير بن الاشج ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته.
|قال الشيخ الإمام رحمه الله : يجوز أن يكون الميت يبلغ من أفعال الأحياء وأقوالهم بلطيفة يحدثها الله لهم من ملك يبلغ أو علامة أو دليل أو ما يشاء وهو القادر على ما يشاء ، وقد صحت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر وروحه ولا يكون التعذيب والترويح إلا بوصول الألم والراحة إلى المعذب والمروح فكذلك يبلغه أذى من يؤذيه من قول سوء فيه أو فعل يسؤوه ذلك ممن يفعله.
|حدثنا محمد بن أحمد المروكي قال : حَدَّثَنا محمد بن عيسى الطرسوسي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن معاوية ، قال : حَدَّثَنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود عن عروة ، قال : وقع رجل في علي عند عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فقال له عمر : ما لك قبحك الله لقد آذيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره.
|ففي الحديث زجر عن سوء القول في الاموات ، وفي الحديث انه نهى عن سب الاموات ، وزجر عن فعل ما كان يسوؤهم في حياتهم ، وفيه أيضا زجر عن عقوق الآباء والأمهات بعد موتهما بما يسوؤهما من فعل الحي ، فقد روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهدي لصدائق خديجة صلة منه وبرا ، وإذا كان الفعل صلة وبرا كان ضده قطيعة وعقوقا.
|فاخبر أن الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته فنعلم ذلك يقينا كما نعلم تعذيب من يعذب في القبر وإن كنا لا ندري كيفية ذلك ، ولا نرد اخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواية الأئمة من جهة عجزنا عن كيفية ذلك ، فعلينا التسليم والتصديق |(1/297)
@ 298@بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيقه ، ونكل علم كيفيته إلى الله تعالى عز وجل إذ الله لا يعجزه شيء يريده ، ولا يمتنع عليه شيء يشاؤه ، وهو القدير الحكيم.
|ويجوز أن يكون فيه معنى آخر يشهد له الأصول إن طابق لفظ الخبر معناه من جهة اللغة وهو أن يكون معنى قوله : يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته أي يؤذيه في قبره من كان يؤذيه الميت في حياته فيكون بمعنى الاسم ، ويكون كان مضمرا في الكلام كأنه يقول : يؤدي الميت في قبره من كان يؤذيه الميت في بيته ، فقد ورد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الملك يتباعد من الرجل عند الكذبة يكذبها ميلين من نتن ما جاء به فهذا من الاذي الذي يلحقه يتباعد عنه ، وكذلك كل معصية لله تعالى يؤذي الملك الموكل به ، فيجوز أن يموت العبد وهو مصر على معاصي الله غير تائب منها ، ولا مكفر عنه خطاياه ، فيكون تمحيصه وتطهيره فيما يلحقه من الأذى من تغليظ الملك إياه أو تقريعه له أو تقريعه إياه ، فقد جاء في الحديث : أن الميت إذا وضع في قبره يأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول : ابشر بالذي يسرك ، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول : من أنت ؟ . فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير ، فيقول : أنا عملك الصالح ، والكافر يأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح قال : فيقول : ابشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد ، قال : فيقول من انت ؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر ، فيقول : أنا عملك السييء.
|حدثناه حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : حَدَّثَنا أبي ، قال : حَدَّثَنا الاعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن أبي عمر زاذان ، قال : سمعت البراء رضي الله عنه يقول ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل.
|ففي هذا الحديث دلالة انه يؤذيه في قبره ما كان يؤذيه الملك في بيته ، ويؤذيه في قبره ما كان يؤذي به الله في بيته ، فقد قال الله تعالى : {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة} [الأحزاب : 57].(1/298)
@ 299@ففي الحديث تحذير عن ارتكاب مناهي الله ، وإتيان معاصيه فكأنه قال : لا تؤذوا الله في حياتكم وأوليائه ، وتؤذون به في قبوركم ، والله أعلم.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا خلف بن محمد قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن معقل ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسمعيل ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن سلمة ، عن مالك ، عن سعيد المقبري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ؟ فقالت : ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة ، يصلي أربع ركعات ، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثا ، فقلت : يا رسول الله تنام قبل أن توتر ؟ فقال : تنام عيني ولا ينام قلبي.
|وقال أنس بن مالك رضي الله عنه يحدث عن ليلة الإسراء ، فقال : والنبي صلى الله عليه وسلم نائمة عيناه ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء صلوات الله عليهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : الأنبياء صلوات الله عليهم وسائط بين الله تعالى وعباده يبلغونهم عن الله عز وجل أوامره ونواهيه فظواهرهم موافقة لأوصاف البشر ، قال الله تعالى : {قل إنما أنا بشر مثلكم} [الكهف : 110] وبواطنهم محمولة بأوصاف الحق عن أوصاف البشرية ، إذا لو كانت ظواهرهم بخلاف أوصاف البشرية لم يطق الناس مقاومتهم والقبول عنهم ، ألا ترى انه لما قال المشركون : لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ، قال الله تعالى : {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين} [الفرقان : 22] أي أنهم إن رأوهم ما ماتوا ، وإذا ماتوا على شركهم فلا بشرى لهم يومئذ ، وقال : {لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ) [الإسراء : 95] فأخبر أن البشر لا يطيق مقاومة الملك فكيف يطيق أوصاف الحق وتجليه ، |(1/299)
@ 300@وكيف يطيقون كلامه ، قال الله تعالى : {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرايته خاشعا متصدعا من خشية الله} [الحشر : 21] ، وقال : {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل : 5] . فلو كانت اسرار الأنبياء صلوات الله عليهم كظواهرهم لتلاشت وانحلت من قواها عند تجلي أوصاف الحق لها ، ولو كانت ظواهرهم كبواطنهم لم يقاوم البشر أوصافها ولم يطق القبول عنها ، فجلع الله تعالى ظواهرهم بشرية جنسية ليطيق البشر القبول عنهم لمشاكلة الجنس ، وبواطنهم خفية ومليكة عرشية علوية يطيق حمل ما يرد عليها ، ويكاشف لها ، قال الله عز وجل : {ما كذب الفؤاد ما رأي} [النجم : 11] وقال : {ما زاغ البصر وما طغى} [النجم : 17] فوصف عز وجل باطن نبيه صلى الله عليه وسلم بصفة القوة لرؤية ما عجز البصر عنه ، فكانت ظواهر الأنبياء بشرية يطرقها الآفات وتجلها العاهات ، ويجري عليها التلوين من ضعف وقوة وأفة وملامة ، وكسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم وشج وجهه.
|وقال : إني قد بدنت فلا تسبقوني بالركوع والسجود ، أي كبرت ، وتورمت قدماه لطول القيام ، وكل هذه آفات لحقت ظاهرة ، ثم أخبر عن باطنه بخلاف هذه الصفة.
|وأخبر انه لا تطرقه الآفات ، وتحله العاهات ، ولا تجري عليه ما يجري على ظاهره فقال : تنام عيناي ولا ينام قلبي ، وقال صلى الله عليه وسلم : إني لأراكم وراء ظهري.
|حدثنا أحمد بن سهل ، قال : حَدَّثَنا قيس بن أبي قيس ، قال : حَدَّثَنا قتيبة بن سعيد ، قال : حَدَّثَنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هل ترون قبلتي هذه فوالله ما أخفى علي ركوعكم ولا سجودكم إني لأراكم وراء ظهري.(1/300)
@ 301@ونهى عن الوصال فقيل له : انك لتواصل فقال : إني لست كأحدكم إني اظل عند ربي يطعمني ربي ويسقيني وقال صلى الله عليه وسلم : لست أنسى ولكني انسى ليستن بي.
|فاخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف عن سره ، وانه بخلاف ظاهره ، فإن الآفة التي تجلي ظاهره من ضعف عند الركوع ، وورم عند القيام وسهو في صلاة ، ونوم عن صلاة لا يجلى شيء منها باطنه وسره ، فقال : لا تنام عيناي ولا ينام قلبي ، لأن النوم آفة ولو حلت الآفة قلبه لجاز أن تحله سائر الآفات من نسيان وحي ، وتوهم فيه وغفلة عنه وسأمه منه ، وفزع يمنعه عن واجب فعصم الله مع موضع الخاطر من الناس على لحوق هذه الآفات سره بقوله صلى الله عليه وسلم : تنام عيناي ولا ينام قلبي.
|ونام صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ، وذلك أن الله تعالى أراد أن يعلم الناس ماذا عليهم إذا ناموا عن الصلاة ، فأمسك عينيه وأنامها ليصير بذلك سنة فيمن فاتته الصلاة عن وقتها ، وأن النوم ليس بتفريط ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة.
|ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لا انام ، ولكن قال : تنام عيناي ولا ينام قلبي ، وإنما فاتته الصلاة لنوم عينيه ، ألا ترى انه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نام غط ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ إذا انتبه من منامه ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينام ظاهره ، ولم يكن ينام قلبه عن مقامه ، لأنه كان عند من لا تأخذه سنة ولا نوم ، وفي حديث : لا نوم هناك ، ألا تري يقول : إني أبيت عند ربي قال : أظل عند ربي دائما أراد لقلبه ، |(1/301)
@ 302@لأن قلبه تحت العرش عند مليك مقتدر هناك مجاله ، وثمة مسكنه وقراره ، وليس ثمة نوم ، وبدنه في الأرض بين أصحابه وعند ازواجه في حيث يكون فيه النوم وسائر الآفات ، فتنام عينه عن الصلاة ، ولم ينم قلبه عما في الصلاة لأن الصلاة حركات البدن ، والنوم حل في البدن ، وليس الصلاة مقام القلب ، ولكن في الصلاة مقامه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم جعلت قرة عيني في الصلاة ولم يقل : جعلت قرة عيني الصلاة فكان في الصلاة مقام لقلبه كانت قرة عينيه فيه فلم ينم القلب عن ذلك المقام ، ونامت العين عن حركات الصلاة كما لم ينسى ولكن ينسى ، ومعنى انسى أي تجرى على ظاهرة أحوال النسيان ، والنسيان لا يجري عليه لقوله صلى الله عليه وسلم : لست أنسى لأن النسيان غفلة ، والغفلة آفة ، وقد بان أن الآفة تجري على ظاهره دون باطنه فكان يسهو ولا ينسى ، لأن النسيان غفلة ، وليس السهو بغفلة ، فكان يسهو في صلاة ، ولم يكن يغفل عنها ، والسهو شغل فيها فربما كان يشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة فيقدم أو يؤخر شغلا فيها لا غفلة عنها ، فكذلك كان ينام عنها ليكون علما للناس وسنة للأمة ، ولا ينام عما فيها فيكون غفلة منه وآفة ، والله أعلم.
|حديث آخر حَدَّثَنا عبد الله بن محمد ، قال : : حَدَّثَنا محمد بن عبيد بن خالد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عثمان البصري ، قال : حَدَّثَنا محمد بن الفضيل عن محمد بن سعد [عن] أبي ظبية ، عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال : قال رسول الله$
: معرفة آل محمد براءات ، وحب آل محمد جواز على الصراط ، والولاية لآل محمد أمان من العذاب.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : اختلف الناس في الآل : فقال قوم : هم أهل البيت ، وقال آخرون : هم قوم الرجل . وقال قائلون : آل فرعون أهل ملته . وقال قوم : هم ولد الرجل.
|حدثنا محمد بن أحمد البغدادي ، قال : حَدَّثَنا أبو العباس الكديمي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن الطفيل ، قال : حَدَّثَنا شريك عن الأعمش ، عن يزيد بن حبان ، قال : سأل |(1/302)
@ 303@زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إن العباد في آل علي وآل جعفر.
|وحدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا وكيع ، عن أبيه ، عن سعيد بن مسروق ، عن يزيد بن حبان ، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدكم وأهل بيتي أنشدكم الله وأهل بيتي ثلاثا قال : فقلنا لزيد بن أرقم من أهل بيته ؟ قال : آل علي ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل العباس.
|وقال قائلون : آل الرجل ولده ونسله ، وأنشد بعضهم للنابغة : % ( قعود على آل الوجيه ولا حق % يقيمون اولياءها بالمقاريع ) % قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله زيد بن أرقم لأنه جمع أهل بيته وولده لأن آل علي ولده.
|فقوله صلى الله عليه وسلم : معرفة آل محمد براءة من النار يجوز أن يكون معرفة حق آل محمد ، ومعرفة آل محمد بإيجاب حقهم ، لأن المعرفة حكمها أن تعلم الشي بالدليل والعلامة ، سمعت أبا القاسم الحكيم رحمة الله عليه يقول : المعرفة معرفة الأشياء بصورتها وسماتها ، والعلم علم الأشياء بحقائقها ، فإذا كانت المعرفة على الشيء بصورته وسمعته كان معرفة آل محمد بصورتهم وسمتهم ، وسمتهم انهم آل علي والعباس ، وجعفر ، وعقيل ، وانهم آل النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم ، فكان من عرفهم كإنما عرفهم بالنبي ، ومن عرفهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وجب أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة ، والرسالة ، والفضل على جميع الخلق ، فإذا عرفه بذلك عرف وجوب حقه لأن الله تعالى أوجب حقه ، والزم حرمته ، وفرض طاعته ، فإذا عرف |(1/303)
@ 304@ذلك عرف النبي صلى الله عليه وسلم وعرف أله به وعرف حرمتهم ، وأوجب حقهم بحق النبي صلى الله عليه وسلم ومن عرف حق النبي صلى الله عليه وسلم بما خص الله به ، وعرف ما أوجب الله عليه له من عظيم حرمته وواجب حقه وفرض طاعته أداه ذلك إلى القيام بما أوجبه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرائض الله جل وعز وسنته صلى الله عليه وسلم ومن كان كذلك كان له براءة من النار ، ومن قصر بواجبه فعلا ، وصدق به عقدا وإقرارا ، كانت براءة من الخلود في النار ، فكأنه يقول : معرفة حق الله معرفة حقي ، ومن عرف حقه عرف حق الله تعالى ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن والحسين رضي الله عنهما : من احبهما فقد احبني ، ومن احبني فقد احب الله ، ومن أبغضهما فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله ، فكما كان حب آله حبه ، وحبه حب الله ، فكذلك معرفة آله معرفة حقه ، ومعرفة حق الله ومعرفة الله براءة من النار.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : حب آل محمد جواز على الصراط لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصراط.
|حدثنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن الصباح الهاشمي ، قال : حَدَّثَنا [مبدل] بن المحبر قال حَدَّثَنا [حرب] بن ميمون أبو الخطاب ، قال : حَدَّثَنا النضر بن أنس بن مالك ، عن أبيه ، قال : طلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل قال : قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين اطلبك ؟ قال : اطلبني أول ما تطلبني على الصراط قال : قلت : فإن لم القك على الصراط ؟ قال : فاطلبني عند الميزان . قلت : |(1/304)
@ 305@فإن لم ألقك عند الميزان ؟ قال : فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاثة المواطن.
|فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصراط أجاز آله ، ومن احب أله فهو من آله ومع آله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المرء مع من احب فمن احب آل محمد كان معهم ، وهو صلى الله عليه وسلم على الصراط فهو لا يؤثر عليهم بل يؤثرهم.
|وحدثنا أحمد بن عبد الله الهروي ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن محمد بن الهيثم ، قال : حَدَّثَنا داود بن رشيد ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن جعفر ، عن حميد الاعرج ، عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أتى فتيان من بني الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : استعملنا على الصدقة نصيب ما يصيب الناس ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن الصدقة لا تحل لمحمد ، ولا لآل محمد ، ولكن انظروا إذا أخذت بحلقة باب الجنة هل أوثر عليكم.
|في هذا الحديث إفصاح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن آل محمد بنو هاشم ، وقد أخبر انه لا يؤثر عليهم عند باب الجنة أي بإدخالهم الجنة فكذلك عند الصراط لا يؤثر عليهم بإجازته وهو مطاع ثمة أمين.
|وقوله صلى الله عليه وسلم الولاية لآل محمد أمان من العذاب ، الولاية هي : الموالاة ، والموالاة ضد المعاداة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم وال من والاه وعاد من عاداه يعني عليا رضي الله عنه والولاية |(1/305)
@ 306@الصدقات ، والولاية المخالفة ، قال الله عز وجل {والذين عقدت ايمانكم} [النساء : 33] ، قال الخلفاء : والولاية النصرة ، قال الله تعالى : {وأن الكافرين لا مولى لهم} [محمد : 11] أي : لا ناصر لهم ، فالولاية الاختصاص لأن النصرة والحلف والصداقة اختصاص ، والاختصاص بآل محمد ومصادقتهم ونصرتهم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وموالاة النبي صلى الله عليه وسلم يوجب ولاية الله عز وجل ، وولاية الله تعالى توجب الامان من العذاب ، والعذاب يكون في القبر ، ويكون في عرصات القيامة ، ويكون في النار ، فمن أمن العذاب امنه من كل وجه ، ويجوز أن يكون معنى آل محمد ما جاء في الحديث.
|وقيل : آل محمد كل تقي :
|حدثنا محمد بن عمر المعدل ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن محمد البغوي ، قال : حَدَّثَنا شيبان بن فروخ ، قال : حَدَّثَنا نافع أبو هرمز ، عن أنس رضي الله عنه قال : قالوا : يا رسول الله من آل محمد ؟ قال : لقد سألتموني عن شيء ما سألني عنه المسلمون قبلكم : آل محمد كل تقي قال الحنفي : يا أبا حمزة كل تقي من آل محمد ، قال : كل تقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قيل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من آلك ؟ قال : كل مؤمن تقي نقي مخموم القلب ، فإذا كان كذلك فمعرفة الاتقياء مخالطتهم ومداخلتهم ، ومن خالط قوما تخلق بأخلاقهم واقتدى ، كان له براءة من النار.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : حب آل محمد جواز على الصراط قال محمد : كل تقي ، فمن احب الاتقياء كان معهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : المرء مع من احب ، وأخرى أن المحبة توجب محبة أوصاف المحبوب وكل من احب أحدا احب أوصافه واخلاقه ، ومن احب شيئا اقتناه وحازه وسعى في تخليصه عنده ، فكان من احب الاتقياء احب أفعالهم ، وإذا احب أفعالهم سعى في تحصيلها التقوى فمن حصل التقوى فهو متق ، وقد قال تعالى : {ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} [مريم : 72] فصح جوازهم على الصراط ، والولاية للأتقياء والاختصاص بهم والمصادقة معهم ، والمصافاة ، وهذه الأوصاف توجب الاتصاف بصفتهم ، ومن اتصف بأوصاف الاتقياء فهو متق والمتقون آمنون من العذاب ، قال الله تعالى : {ومن يتق الله |(1/306)
@ 307@يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} [الطلاق : 5] ، ومن كفرت سيئاته وأعظم اجر حسناته أمن من العذاب لا محالة ، وبالله التوفيق ، ومن يتولى الاتقياء تولاه الله تعالى والله الهادي.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا أبو سعيد حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن اسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال أخبرنا أبو الاحوص ، عن أبي حمزة ، عن ابراهيم ، عن الاسود ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من دعا على من ظلمه فقد انتصر.
|كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشفقا على امته ، عطوفا عليهم ، رحيما بهم كما ذكر الله تعالى بقوله : {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة : 128] ، فمن شفقته عليهم ورأفته بهم كان يحب العفو من المظلوم عن الظالم ، ويجب التجاوز ، ويكره الانتصار والانتقام للنفس والخصومة لها ، ويحب الستر على المؤمنين ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من ستر على مسلم ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة ، وقال صلى الله عليه وسلم : ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا ، |(1/307)
@ 308@وقال : يا معشر من اسلم بلسانه ، ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تؤذوا المسلمين وتعيروهم ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله.
|حدثنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن اكثم ، والجارود ابن معاذ ، قال : حَدَّثَنا الفضل بن موسى ، قال : حَدَّثَنا الحسين بن واقد ، عن أوفى بن دلهم ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
|كل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم شفقة على المؤمنين ، ورأفة بهم فكان يحب العفو عنهم ، وترك الانتصار من الظالم للمظلوم ، وربما ترك الانتصار للمظلوم من جهة الاستعداء على ظالمه ، ويدعه ولا يطالبه بمظلمته ، ولكن يدعو عليه ويريد أن يذوق الظالم وبال ظلمة ، وهو مع هذا يرى انه قد عفا عن ظالمه حين ترك الاستعداء عليه والانتقام منه لنفسه.
|فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الداعي على ظالمه منتصر وليس بعاف عنه ولا متجاوز ، ومن عفا وجب اجره على الله ، فكأنه أخبر أن المنتصر بيده ولسانه والمستعدي ، عليه قد استوفى حقه من ظالمه فلا سبيل عليه في انتصاره ، ولكن لم يجب اجره على الله ، قال الله تعالى : {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} [الشورى : 42] ، وقال الله تعالى : {فمن عفا واصلح فاجره على الله} [الشورى : 40] ، وقال تعالى : {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} [النور : 22].(1/308)
@ 309@فقوله صلى الله عليه وسلم : من دعا على من ظلمه فقد انتصر تعريض منه لكراهة الانتصار ، وإشارة إلى العفو الذي ندب الله إليه ، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها وسمعها تدعو على سارق سرقها ، فقال : لا تستجني عنه بدعائك عليه رواه أبو عبيد ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عطاء ، عن عائشة رضي الله عنها رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
|وفسر أبو عبيد قوله صلى الله عليه وسلم : لا تستجني لا تخففي عنه ، فقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لا تستجني عنه زجر لها عن الانتقام والانتصار من السارق غير انه اتاها من ألطف الوجوه لأنها كانت في أول ما أصابها فثقلت لذلك وأرمضت فخشى رسول الله صلى الله عليه وسلم انه إن سألها أن لا تدعو على سارقها وتعفو عنه لم تسنح نفسها لذلك ، ولم تطاوعها ، فأخبرها انها تخفف عنه بدعائها عليه ، وهي ترى انها تقبل عليه ، وتريد الانتقام منه بأغلط العقوبة واشد العذاب ، فقال لها تريدين التغليط وأنت تخففين بدعائك عليه عنه لتطيب نفسها بترك الدعاء عليه ، ولا تدعو عليه ، وهي إذا تركت الدعاء عليه والتتبع له وأخذ الظلامة منه فقد عفت عنه فوجب اجرها على الله عز وجل.
|فأشفق صلى الله عليه وسلم عليها فاحب عليها أن لا يحرم اجرها على الله عز وجل ، والشفق على سارقها أن يؤاخذ بجنايته عليها بدعائها عليه فصرفها عن الانتقام والانتصار بألطف الوجوه ودعا إلى العفو الذي احبه الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام.
|وليس قوله صلى الله عليه وسلم : لا تستجني عنه كراهة أن يخفف عنه بل فيه إشارة إلى العفو وندب إلى التجاوز ، وكيف يكره التخفيف عن الظالم ، وهو إلى ذلك تدعو عليه بحث بقوله صلى الله عليه وسلم : ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا يتلو عليها ما انزل الله عز وجل عليه من قوله : {وليعفوا وليصفحوا الأتحبون أن يغفر لكم} [النور : 22] ، وقوله عز وجل : {إذا ما غضبوا هم يغفرون} [الشورى : 37] ، وقوله تعالى لمن صبر وغفر : {فإن ذلك لمن عزم الأمور} [آل عمران : 186] ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيت |(1/309)
@ 310@رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرا من مظلمة قط غير انه كان إذا انتهك شيء من محارم الله عز وجل كان اشدهم في ذلك . # حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : اخبرني قيس ، وحماد ابن شعيب ، عن منصور ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها.
$حديث آخر$
حدثنا أبو بكر محمد بن مهدويه بن العباس الرازي ، قال : حدثنا الحسن بن يزداد ابن سيار بن دينار النجار بهمذان ، قال : حَدَّثَنا ابن ظريف ، قال : حَدَّثَنا المحاربي ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله يجوز أن يكون الرداء إن شاء الله عبارة عن الجمال والبهاء ، والإزار عبارة عن الجلال والستر والحجاب كأنه تعالى يقول : لا يحمل الكبرياء ولا يحسن بأحد إلا بي لأن من دون الله فصغار الحدث له لازم ، ونسبة العجز عليه ظاهر والافتقار والإضطرار عليه بين ، فكيف يحمل الكبرياء بمن لا ينفك من الحدث ، والاضطرار والعجز والافتقار ، بل يحمل ذلك بالقادر القهار القوي الجبار الغني العلي الواهب المعطي سبحانه ليس كمثله شيء ، والإزار عبارة عن الستر والحجاب والامتناع عن الإدراك والإحاطة به علما وكيفية لذاته وصفاته كان معناه : حجبت خلقي عن إدراك ذاتي وكيفية صفاتي بالعظمة والجلال فقد ونيت الإنس عن كنه صفاته ، وخنست العقول عن كيفية ذاته ، وفرت الأوهام عن حقائق نعوته ، إذ هو الله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، ومعنى المنازعة الدعوى قولا وعبارة وفعلا وإشارة ، والله أعلم حقيقة المعنى فيه ، والمراد منه.(1/310)
@ 311@$ حديث آخر$
حَدَّثَنا حاتم ، قال : [حَدَّثَنا] يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال : اخبرني خالد ، عن سهيل ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تباغضوا ، ولا تنافسوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله في قوله : لا تباغضوا إشارة إلى الأهواء المضلة ، والآراء المختلفة ونهى عن النحل التي تخالف ما عليه السواد الاعظم ، وتخرج عن السنة المناطقة ، والكتاب المحكم ، لأن المخالفة في الدين هي العلة الموجبة للتباغض ، وليس ما دونه من سائر المخالفات ، وأنواع المنازعات في خصومات الأنفس ومظالم الاموال ، ومطالبات الحظوظ ، والولايات بسبب التباغض بين المؤمنين ، لأن المؤمنين المتحققين بإيمانهم لا تبلغ مطالبات حظوظ انفسهم ، وخصومات الأموال والجنايات بينهم مبلغا يوجب التباغض بينهم.
|ألا ترى إلى ما كان بين الصحابة رضي الله عنهم من المنازعات في الخلافة ، والمخالفات في الولاية لم يبلغ بهم مبلغ البغضاء بينهم . قال : علي رضي الله عنه : إخواننا بغوا علينا ، وقال أيضا وتلا هذه الآية : {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} [الأنبياء : 101] فقال : أنا منهم ، وأبو بكر منهم ، وعمر منهم ، والزبير منهم ، وطلحة منهم ، وعثمان منهم ، وعبد الرحمن بن عوف منهم ، أو قال سعد منهم . وأقيمت الصلاة فقام وهو يقول : {لا يسمعون حثيثها}.
|حدثناه أبو رجاء أحمد بن داود ، قال : حَدَّثَنا نصر بن احمد ، قال : حَدَّثَنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثني محمد بن الحسن ، عن ليث بن أبي سيلم ، عن ابن عم النعمان ابن بشير ، عن النعمان بن بشير قال : سمرت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتلا هذه الآية : {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء : 101].(1/311)
@ 312@وقال معاوية في علي ما : حدثنا محمد بن عبد الله بن يوسف النعماني ، ومحمد بن محمد بن الازهر الأشوي ، عن عمرو بن عثمان التمري بصري ، وقال : الازهري : حدثنا وهب بن عمرو بن عثمان وهو الصواب ، قال : حَدَّثَنا ابي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس ابن أبي حازم ، قال : جاء رجل إلى معاوية رضي الله عنه فسأله عن مسألة ، فقال : سل عنها علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو اعلم ، فقال : أريد جوابك يا أمير المؤمنين فيها ، قال : ويحك لقد كرهت رجلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقره بالعلم عزا ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ولقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله فيأخذ عنه ، وكان إذا اشكل على عمر شيء فقال : ههنا علي ، قم لا أقام الله رجليك ومحا اسمه من الديوان.
|هذا إلى كثير من الأخبار التي تدل على أن منازعتهم الخلافة ومجاذبتهم الولاية لم تؤد بهم إلى التباغض.
|فدل قوله صلى الله عليه وسلم : لا تباغضوا أي لا تختلفوا في النحل والآراء ، ولا تباينوا في المذاهب والأهواء فتباغضوا لها ، لأن البدعة في الدين والضلال عن الطريق المستقيم يوجب البغض عليه وترك الموالاة فيه ، قال الله عز وجل : {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين} الآية [النساء : 115] وقال تعالى : {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة : 1].
|وقوله صلى الله عليه وسلم : لا تنافسوا أي لا ترغبوا في الدنيا ، ولا تحرصوا عليها ، ولا تضنوا بها ، لأن المنافسة إذا كانت في العلم بالله ، والعبادة لله والفهم عن الله كانت واجبة مدعوا اليها ، وإنما تكون مرفوضة مدعوا عنها إذا كانت في الدنيا.
|وقد ورد الخبر بقوله صلى الله عليه وسلم : من طلب الدنيا حلالا مكاثرا مفاخرا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان ، والمنافسة المنهي عنها هي المنافسة في الدنيا |(1/312)
@ 313@وحطومها ، والمنافسة فيما تؤدي إلى الحرص عليها والجمع لها ، والاستكثار منها والضن بها.
|فقوله : لا تنافسوا نهي عن هذه الاسباب ، وزجر عن هذه الأوصاف.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : لا تدابروا أي لا تخاذلوا ، ولا تغتابوا ، ولا يبغي بعضكم لبعض غائلة بل تعاونوا كما أمر الله عز وجل بقوله : {وتعاونوا علي البر والتقوى} [المائدة : 2] وبقوله : {ولا يغتب بعضكم بعضا} [الحجرات : 12].
|وقوله صلى الله عليه وسلم : وكونوا عباد الله اخوانا أي لا تترافعوا ولا تتعالوا فإنكم كلكم عباد الله ، وقوله : إخوانا يدل على ما قلنا في التدابر ، لأن التخاذل هو إعراضا كل واحد منهما في صاحبه وهو التدابر ، لأن كل واحد إذا عرض عن صاحبه كان دبره إلى صاحبه ، وليست هذه صفة الاخوة بل صفة الاخوة التقابل ، وان يكون وجه كل واحد منهما إلى صاحبه ، قال الله عز وجل : {إخوانا على سرر متقابلين} [الحجر : 41] فوصف الإخوان بالتقابل وهو أن لا يعرض كل واحد منهما منهما عن صاحبه ، فهو أن لا يأخذه ولا يجعله عن دبر منه ، ولا يدبره بسوء قولا ، فيكون غيبته ، أو فعلا فيكون بغيا ، والله أعلم.
|معنى الخبر : لا تباغضوا ، أي : لا تختلفوا في الآراء ، ولا تباينوا في المذاهب والأهواء فتباغضوا بها ، لأن البدعة توجب البغض وترك الموالاة.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا أحمد بن عبد الله بن الهروي ، قال : حَدَّثَنا أبو الفضل أحمد بن نجدة بن عريان ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن عبد الحميد ، قال : حَدَّثَنا حماد ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم} [الأنعام : 65] ، قال صلى الله عليه وسلم : أعوذ بوجهك الكريم قال : فنزلت {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم باس بعض} [الأنعام : 65] فقال : هذا أهون.(1/313)
@ 314@قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : قوله عز وجل : {أو يلبسكم شيعا} [الأنعام : 65] قيل معناه : فجعلكم مختلفين متفرقين فيجوز أن يكون الاختلاف والفرقة الذي توعد الله هذه الأمة أن تلقيه فيها وبينها في المنازعات ، ومطالبة حظوظ الأنفس من الولاية والخلافة وأسباب الدنيا ، فيكون الفرقة بينهم فرقة الأبدان أو اتلاف الأنفس في منازعة الدنيا ، ومجاذبة الملك فيها ، وطلب الرفقة والعلو فيها ، وجمع حطامها والاستيلاء على الأمر فيها دون الفرقة والاختلاف في الدين ، والتباين في الأهواء المضلة والآراء المغوية التي تخرج إلى نفي ذاته عز وجل ، وتعطيل صفاته الذي يرجع اكثرها إلى الخروج عن الملة.
|فقد روي أن رجلا جاء إلى معاوية رضي الله عنه فقال له جئتك من عند اكذب الناس ، اجبن الناس ، وابخل الناس يعني عليا رضي الله عنه فأعطاه واكثر له ثم خلا به ، فقال له : ويحك كيف قلت اكذب الناس ، وهو أول صديق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واول من آمن بالله وهو الصديق الاكبر ، وكيف قلت اجبن الناس ، وقد علمت العرب انه ليس فيها اشجع منه ، وكيف قلت ابخل الناس ، وما جمع قط صفراء ولا بيضاء أو كلاما هذا معناه ؟ فقال له الرجل : إن كان كما تقول فعلام تقاتله ؟ فقال معاوية : على أن تجور طينة هذا الخاتم في الأرض.
|فقد أخبر أن قتاله إياه واختلافه عليه ومفارقته إياه لم يكن للدين وإنما كان للدنيا فافترقوا للدنيا واجتمعوا في الدين ، فكل من ملك نصر الدين واهله ، وقمع الشرك وأهله ، فتحوا الامصار ، واسلموا الكفار ، وقمعوا الفجار ، ودعوا إلى كلمة التقوى ومن الضلالة إلى الهدى جمعهم الدين ، وفرقتهم الدنيا فأذاقهم الله بأسهم ، وقتلهم بأيديهم ، والفاهم عن سلامة من اعتقادهم ، واجتماعهم على صلواتهم ، وإقامة شهاداتهم ، فكان بأسهم الذي اذيقوه كفارة لما اجترموه ، وتمحيصا فيما اكتسبوه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أمتي أمة مرحومة مغفور لها ، جعل الله عذابها بأيديها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة أعطى الله تعالى كل رجل من أمتي رجلا من أهل الأديان فيقال : هذا فداؤك في النار.(1/314)
@ 315@حدثناه عبد الله بن محمد بن يعقوب ، قال : حَدَّثَنا عبد الصمد بن الفضل ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، عن سعيد بن أبي ايوب ، قال : حدثني أبو القاسم رجل من أهل حمص ، عن عمرو بن قيس السكوني ، عن أبي بردة بن أبي موسى الاشعري ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
|وحدثناه محمد بن نعيم السمرقندي ، قال : حَدَّثَنا أبي نعيم بن ناعم ، قال : حَدَّثَنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : حَدَّثَنا الحسن بن موسى ، قال : حَدَّثَنا سعيد بن زيد ، قال : حَدَّثَنا ليث بن أبي سليم ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أمتي أمة مرحومة إنما جعل عذابها في القتل والزلازل والفتن.
|فلما كان اختلافهم فيما دون التوحيد من الشرائع التي يجوز الاختلاف فيها ، والاختلاف فيها رحمة للمسلمين ، وتوسعة من الله تعالى لئلا يضيق بهم الأمر ، ولا يحملوا ما لا يطيقون من إصابة الحق الذي هو وهن الحق كما قال عز وجل {لا تحملنا ما لا طاقة لنا به} [البقرة : 286] فلم يكلفوا ما لا يستطيعون ، لم يبق إلا أن يحمل قوله تعالى : {أو يلبسكم شيعا} [الأنعام : 65] على الإختلاف في طلب الدنيا ، وتكون المقاتلة لأجلها ، وهو عقوبة اختلافهم ، وذلك هو العذاب الذي قال صلى الله عليه وسلم : عذابها بأيديها.
|قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا أهون ، ولو كان تفرقهم واختلافهم في اصل الدين وعقيدة التوحيد لكان ذلك اشد من الصاعقة التي تأتيهم من فوق ، والحجارة التي يرمون بها من السماء ، والخسف الذي يغتالون به من تحت أرجلهم إذ قد يجوز أن يكون الخسف والقذف يصيب من يكون عاقبته إلى رحمة الله من الأطفال الصغار ، ومن لم يقترف الذنوب الكبار ، ولا يجوز أن يرحم الله تعالى الكفار والمشركين الفجار.
|حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا أبو بكر بن عياش عن عبد العزيز بن رفيع عن عبد الله بن القيطبية عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعوذ عائذ بالبيت فيبعث الله تعالى بعثا |(1/315)
@ 316@حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم فقلت : يا رسول الله فكيف بمن كان كارها ؟ قال : يخسف بهم معهم ، ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته ، قال : فذكرت ذلك لأبي جعفر فقال : بيداء المدينة.
|حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن جامع بن أبي راشد ، عن منذر ، عن الحسن بن محمد ، عن امرأة ، عن عائشة رضي الله عنها [قالت] قال : [رسول الله صلى الله عليه وسلم] : إذا ظهر السوء في الأرض انزل الله بأهل الأرض بأسه فقلت : يا رسول الله : وفيهم طاعة الله ؟ قال : نعم ، ثم يصيرون إلى رحمة الله.
|فاخبر بأنه يخسف بمن يفضي إلى رحمة الله ، فقد ظهر بأن اختلاف في الدين ، والفرقة في اصل التوحيد الذي يؤدي إلى الكفر والشرك اشد من الخسف والقذف ، والله اعلم ، ويجوز أن يكون رجوع قوله صلى الله عليه وسلم هذا أهون إلى قوله {يذيق بعضكم بأن بعض} دون قوله {أو يلبسكم شيعا} [الأنعام : 65].
$حديث آخر$
حَدَّثَنا عبد العزيز بن محمد المرزبان ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن حماد الاملي ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن بكير ، قال : حدثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري ، عن أبي حازم ، عن عبيد الله بن مقسم انه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف صنع حين اخذ يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأخذ الله سماواته وأرضه بيده ويقول : أنا الله ، ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الرحمن أنا الملك أنا المليك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من اسفل منه حتى إني لأقول : أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/316)
@ 317@قال : يجوز أن يكون معنى قوله : يقبض الله سماواته وارضه بيده أي : يجمعها ويرفعها فإن السماوات مبسوطة والارضين مدحوة ، قال الله تعالى : {والأرض بعد ذلك دحاها} [النازعات : 30] أي : بسطها ، وقال في السماء : {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء : 104] ، وقال : {والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر : 67] فالمقبوض والمأخوذ والمطوي بمعنى واحد وهو المجموع المرفوع ، قال الله تعالى : {يوم تبدل الأرض غير الأرض} [إبراهيم : 48] ، {والسماوات مطويات} [الزمر : 67] ، فأخبر انها تجمع وترفع وتبدل بها غيرها ، فمعنى القبض الضم والجمع للرفع ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه وبسطها عبارة عن الجمع والضم كالإنسان إذا حكى إنسانا بالجود بسط أصابعه ونشر كفه ، وإذا عبر عن البخل والإمساك جمع كفه وضم اصابعه ، وإنما يريد به القبض والبسط ولا يريد به صفة الجود والبخل ، كذلك قبض النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه وبسطها عبارة عن قبض السماوات وجمعها فهو إشارة إلى المقبوض والمجموع لا حكاية عن يد الله التي هي صفة ازيد لله ليست بجارحة ، ولا عضو ، ولا جزء ، ولا كيفية لها فيوصف بالقبض والبسط المفهوم عندنا كأيدي المحدثين تعالى الله عن أوصاف الحدث علوا كبيرا.
|ويجوز أن يكون بسط أصابعه وقبضها إشارة إلى الجمع الذي هو الكل ، فكأنه يقول يجمع الله تعالى السماوات والأرض ويقبضها كلها فيبسط أصابعه للإستيعاب والجمع ويقبضهما ، لذلك كما يريد الإنسان يده فيبسطها ثم يضمها إلى نفسه يحكى بذلك الجميع . وحركة المنبر من تحته يجوز أن يكون لحركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كالتواجد الذي يكون من الإنسان بالإمالة والتثني وتحريك الرأس عند استعظام الشي ، والقلق عندما يجده في قلب من حزن أو هيبة أو إجلال الشيء واستعظام له ، فيتحرك المنبر لحركته.
|ويجوز أن يكون حركة المنبر من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وعلامات نبوته ، وآيات رسالته فكأن المنبر يتحرك من تحت النبي صلى الله عليه وسلم هيبة لله ، وإجلالا لما سمعه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان الجذع يحن لفقد الذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم |(1/317)
@ 318@بما أراد رسوله ، آمنا بالله وحده ، وانه لا يشبه شيئا ، ولا يشبهه شيء ، وانه منزه عن اوصال الحدث ، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وصدقنا رسوله فيما قال وفيما بلغ ، وعلمنا انه لا يقول علي الله إلا الحق ، صلى الله عليه وعلى آله.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي بسمرقند ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن عثمان بن صالح السهمي بمصر ، قال : حَدَّثَنا عبد الغفار بن داود ، قال : حَدَّثَنا عبد الرزاق هو ابن عمر الدمشقي ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ثلاثة لا يريحون ريح الجنة : رجل أدعى إلى غير ابيه ، ورجل كذب علي ، ورجل كذب على عينيه.
|قال الشيخ - الإمام الزاهد رحمه الله : يجوز أن يكون معنى قوله : كذب على عينه : أي زعم انه رأى في المنام كذا وكذا ولم ير ، يدل عليه حديث آخر : من تحلم كاذبا كلف أن يعقد بين شعيرتين ، وليس بفاعل.
|قال : وإنما عظمت عقوبة من كذب عينيه في الرؤيا لعظم جرمه وكبير ذنبه ، وذلك انه كذب على الله عز وجل أو على ملك الرؤيا ، والكذب على الملك كذب على الله تعالى ، لأن الإنسان إنما يدعي ويكذب بالرؤيا الصالحة التي هي بشري من الله عز وجل ، ولا يكاد يتحرص بالرؤيا التي هي حلم من الشيطان أو حديث النفس التي هي اضغاث احلام ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الرؤيا ثلاثة : رؤيا بشرى من الله ، ورؤيا تحزين من الشيطان ، ورؤيا في حديث الرجل نفسه من نهاره في ليله.
|حدثنا الحسين بن علي العطار أبو عمرو ، قال : حَدَّثَنا عبد الله بن أبي ميسرة ، قال : حَدَّثَنا العلاء بن عبد الجبار ، قال : حَدَّثَنا مهدي بن ميمون ، عن هشام بن حسان ، عن |(1/318)
@ 319@محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
|والرؤيا الصالحة بشرى من الله عز وجل ، قال الله تعالى : {لهم البشرى في الحياة الدنيا} [يونس : 64] فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤيا الصالحة : حَدَّثَنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا محمد بن بشار ، قال : حَدَّثَنا أبو داود ، قال : حَدَّثَنا حرب بن شداد ، وعمران بن القطان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، قال : نبئت عن عبادة الصامت رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : {لهم البشرى في الحياة الدنيا} [يونس : 64] قال : هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له.
|قال حرب في حديثه : حدثني يحيى ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرؤيا الصالحة بشرى من الله ، فكان من تكذب في الرؤيا إنما يتكذب في الصالحة منها ، والرؤيا الصالحة من الله بشرى لعبده المؤمن فكأنه يزعم أن الله بشره بكذا وليس كذلك فهو كاذب على الله عز وجل ، والكاذب على الله يستحق كل عقوبة.
|ومعنى آخر : وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رؤيا المؤمن جزء من ستة واربعين جزءا من النبوة.
|حدثنا أبو سعيد جعفر بن محمد بن المكتب ، قال : حَدَّثَنا محمد بن أيوب الرازي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن سعيد بن سابق ، قال : حَدَّثَنا أبو جعفر هو الرازي ، عن حميد الطويل عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
|فكان الكاذب في الرؤى بشيء يدعي جزءا من أجزاء النبوة ، ومن ادعى جزءا من شيء ليس هو له كان كمن ادعى جميعه.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : كلف أن يعقد بين شعيرتين وهو ما : حَدَّثَنا نصر ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا بندار ، قال : حَدَّثَنا عبد الوهاب ، قال : حَدَّثَنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم |(1/319)
@ 320@الله عليه وسلم قال : من تحلم كاذبا كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين ، ولن يعقد بينهما فهو يكلف ما لا يستطيعه فيعذب عليه ، كأنه يقال : إن عقدت بينهما وإلا عذبت ، وهو لا يستطيع عقدهما فيعذب.
|والمدعي إلى غير أبيه كاذب على الله عز وجل أيضا فإنه يقول : خلقني الله من ماء فلان وإنما أخرجه من صلب غيره فهو كاذب عليه.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا عبد الله بن يعقوب الحارثي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن علي بن طرخان ، قال : حَدَّثَنا الحسن بن يزيد ، قال : حفص بن غياث ، عن ليث بن أبي سليم ، عن زيد بن أرطاة يروي عن أبي امامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما اوتي عبد في الدنيا خيرا له من أن يؤذن له في ركعتين يصليهما.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : إن افضل ما يؤتى العبد في الجنة النظر إلى الله تعالى بالبصر قال الله تعالى : {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة : 22 23] ، وقال تعالى : {للذين احسنوا الحسنى وزيادة} [يونس : 26] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى.
|حدثنا محمد بن عبد الله بن يوسف ، قال : حَدَّثَنا أبو إسحاق إبراهيم بن هاشم البغوي ، قال : حَدَّثَنا الأزرق بن علي ، قال : حَدَّثَنا حسان بن إبراهيم ، قال : حَدَّثَنا عباد بن كثير ، عن ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة قال : قرا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : {للذين احسنوا الحسنى وزيادة} [يونس : 26] فقيل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الزيادة ؟ قال : النظر إلى وجه الله تعالى.(1/320)
@ 321@وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا نظروا إلى الله نسوا نعيم الجنة والنظر إلى الله في الجنة أفضل ما أتوا فيها ، والمصلي مناج لربه مشار له مأذون في الدخول على الملك بالمثول بين يديه مقرب بالسجود له ، قال الله تعالى : {واسجد واقترب} [العلق : 19] وهي اقرب حالة إلى النظر إلى الله تعالى ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : أعبد الله كأنك تراه والمصلي كأنه يراه ، وإذا كان افضل ما أوتى العبد في الجنة التي هي دار السلام ، والنعيم وجوار الله الرب الكريم ، ثم النظر إلى الله ، فكيف لا يكون المناجاة ، والمثول بين يديه ، والمواجهة له افضل شيء أوتيه في الدنيا التي هي دار البلوى ، ودار الفناء ، والانتقال ، وجوار الشيطان ، وإن الله تعالى أعطى أولى أوليائه في الجنة افضل مما اعطاهم في الصلاة في الدنيا وهو الذي قال الله عز وجل : {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة : 17] وإلا كانت صلاة ركعتين في الدنيا افضل من نعيم الجنة ، لأن نعيم الجنة حظ النفوس ، وفي الصلاة قرة الأعين والقربة إلى الله تعالى ، غير أن الذي في الصلاة في الدنيا على التقريب من الذي في العقبى ، وليس هو بعينه ، وهو رؤية الله عز وجل فإن المصلى كأنه يراه ، والرائي له في الآخرة رائي له على التحقيق ناظر إليه نظر عيان ، رزقنا الله لذة النظر إلى وجهه بمنه وفضله.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا أحمد بن عبد الله قال : حَدَّثَنا أحمد بن نجدة ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن عبد الحميد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن موسى بن عبيدة ، عن جمهان ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لكل زكاة ، وإن زكاة الجسد الصوم.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : الزكاة طهارة المال ، قال الله تعالى : {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة : 103] فالزكاة طهارة وتزكية ، والتزكية التطهير ايضا ، وقد يكون التزكية بركة ونموا وزيادة ، وتكون ثناء حسنا ، |(1/321)
@ 322@فالزكاة طهارة المال كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا البيع يحضره اللغو والكذب فشوبوه بالصدقة أراد والله أعلم أن يطهره الصدقة ، ثم الزكاة تنقص من عدد المال وتزيد فيه بمعنى البركة فيه ، والصوم ينقص الجسد ويزد فيه بمعنى الثواب فنقصان الجسد من فضول ما يولد فضول الطعام والشراب فيه ، إلى قوله صلى الله عليه وسلم : يا معشر الشباب عليكم بالباءة فإنه أغض للبصر واحصن للفرج فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء فأخبر أن الصوم ينقص من فضول الشهوة التي تولدها الأغذية في الجسد فالصوم ينقص من فضول البدن كما تنقص من فضول الشهوة التي تولدها الأغذية في الجسد فالصوم ينقص من فضول البدن كما تنقص الزكاة من فضول المال ، ويزيد من قوة النفس ، والقوة تزيد كرم الأخلاق لأنه يمنع من السفه والمشاغة والانتصار ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذ كان يوم صوم أحدكم فلات يرفث ولا يجهل ، وإن جهل عليه فليقل إني امرء صائم.
|حدثناه حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
|فاخبر انه يمنع من الرفث والجهل والمقابلة به ، وهذا من كرم الاخلاق ، فالصوم ينقص من فضول الجسد ، ويزيد من كرم الاخلاق ، والزكاة تنقص من فضول المال وتزيد في بركته فكذلك كان الصوم زكاة الجسد ، والله أعلم.(1/322)
@ 323@$ حديث آخر$
حَدَّثَنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا حماد بن زيد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن زياد ، قال : حَدَّثَنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله قد بين الله تعالى عقوبة كثير من الذنوب والمعاصي كقوله عز وجل : {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزائه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه} الآية [النساء : 93] وقال الله تعالى في منع الزكاة : {الذين يكنزون الذهب والفضة لا ينفقونها في سبيل الله} إلى قوله : {فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} الآية [التوبة : 34 35] ، وفي أكل الربا : {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخطبه الشيطان من المس} [البقرة : 275] ، وقال تعالى في آكل مال اليتيم : {إنما يأكلون في بطونهم نارا} [النساء : 10].
|وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اليمين الغموس تدع الديار بلا قع وقال صلى الله عليه وسلم : الزنا يورث الفقر وأمثالها كثيرة مما يستحقه من ارتكب المعاصي في الدنيا والآخرة مما توعد الله تعالى به ، فكذلك الذي يرفع رأسه قبل الإمام يستحق من العقوبة في الدنيا أن يحول الله تعالى رأسه رأس حمار ، لذلك قال : ألا يخشى أي إن هذا جزاؤه في الدنيا فإن لم يفعل الله به ذلك فهو فضل منه ورحمة ، وله أن يتفضل على من يشاء ، ويعاقب من شاء ، وهو يرحم من شاء ، ويعذب من شاء ، فلا يخشى هذا أن يكون من الذين شاء الله أن يعاقبه بهذه العقوبة ، ويأخذه بهذا الجرم ، ويجوز أن يكون هذا من العقوبات المدخرة لمن شاء الله أن يعاقبهم بها في الآخرة فيقول إلا يخشى أن يفعل الله به ذلك في الآخرة فيترك هذا الفعل والله أعلم.(1/323)
@ 324@$ حديث آخر$
حَدَّثَنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الفساق هم أهل النار قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الفساق ؟ قال : النساء ، قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألسن أمهاتنا واخواتنا وبناتنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم وسلم : ولكنهن إذا اعطين لم يشكرن وإذا ابتلين لم يصبرن.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : في هذا الحديث من لم يشكر العطاء ولم يصبر عند البلاء ، وقد قال الله عز وجل : {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ : 13] فأخبر أن الشكور في العباد قليل ، فيجوز أن يكون قوله تعالى : {وقليل من عبادي الشكور} أي الشكور من الناس قليل لأن المؤمنين في الناس قليل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى لآدم عليه السلام أبعث بعث النار ، فيقول : يا رب وما بعث النار ، فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة فالواحد من الألف قليل.
|وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما انتم في الناس إلا كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود.
|فعلى هذا يكون الشكور المؤمنين كلهم والموحدين بأجمعهم ، ويجوز أن يكون الشكور من المؤمنين قليل ، ذلك إن الشكور هو المبالغة في صفة الشكر فيكون شاكر وشكار وشكور ، فالشكور الذي يشكر في كل حال ، ولا يكاد يكفر نعمة ما ، ومثل هذا في المؤمنين قليل وكلهم شاكرون ، والشكار فيهم كثير ، والشكور قليل فيكون عامة المؤمنين شاكرين ، والشكور منهم قليل ، لأن الله تعالى قال : {وقليل من عبادي |(1/324)
@ 325@الشكور} بياء الاضافة ، وهذا تخصيص من الله تعالى كأنه خص من العباد من أضافة إلى نفسه ، وكلهم عباده من جهة الملك.
|ومعنى تفسير الفساق بالنساء على الإطلاق وهو إن صفة كفران العطاء وترك الصبر عند البلاء فيهن اكثر لأتهن في نقصان من آلة الشكر والصبر وعلتهما ، وذلك هوان والعقل فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيت من ناقصات عقل ودين اسلب لقلوب الرجال منهن وضر دينهن بالحيض ، وناقصات عقلهن بالشهادة.
|فالشكر والصبر من أوصاف أهل الدين ، فمن رق دينه وسخف عقله ، قل شكره وصبره ، ومن ترك الشكر في اكثر الاحوال ، والصبر في اكثر البلوى ، فقد خرج من أوصاف أهل الدين والعقل ، والنار مأوي من لا دين له ولا عقل ، قال الله تعالى في صفة أهل النار : {قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر : 43 44] ، فهذا من باب الدين {وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين} [المدثر : 45 46] فهذا من باب العقل ، فكأنه قال : صلى الله عليه وسلم : اللاتي لا يشكرن العطاء ، ولا يصبرن على البلاء في عامة اوقاتهن ، واكثر حالاتهن من النساء فساق ، والفساق في النار . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : قمت على باب النار فإذا عامة من يدخلها النساء.
|حدثناه محمد بن نعيم بن ناعم ، قال : حَدَّثَنا أبو حاتم الرازي ، قال : حَدَّثَنا الأنصاري وهوذة بن خليفة ، قال : حَدَّثَنا سليمان التيمي واللفظ الأنصاري أن أبا عثمان النهدي حدثهم عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها المساكين ، وقمت على باب النار فإذا عامة من يدخلها النساء.(1/325)
@ 326@$ حديث آخر$
حَدَّثَنا أبو القاسم أحمد بن محمد بن العباس بن عبد الله بن طاهر الطاهري ، قال : حَدَّثَنا أبو بكر أحمد بن داود السمناني ، قال : حَدَّثَنا محمد بن المصفى ، قال : حَدَّثَنا بقية بن الوليد ، قال : حَدَّثَنا عثمان بن زفر الجهني ، عن أبي عمار الأسدي ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأس الحكمة مخافة الله تعالى.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : الحكمة إحكام الأمور ، وهو أن يعمل أعماله بحيث لا يدخلها آفة ، وإحكام الأمور الأخذ بالأحوط والأوثق ، ومن أراد الأخذ بالأوثق والأحوط عمل على المخافة أكثر مما يعمل على الرجاء فكأنه يحاسب نفسه على كل خطرة ونظرة ويطلبها بحق الله ، فكان الله عز وجل يقول : {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فشرط المشيئة لغفران ما دون الشرك ، فإن وافى القيامة وهو من أهل المشيئة فيكون مغفورا له ما إن ازداد بتوقيه ومخافته درجة وثوابا ، وإن كان من الذين يحاسبون ، ويطالبون بالواجب عليهم لم يكن قط في عمره بل كان معه من الأعمال الصالحة ما يقاص لها سيئاته ، والحكمة منع النفس عن شهواتها ، يقال للحديدة التي تكون في فم الدابة من اللجام محكمة لأنها هي الواقفة بالدابة والممسكة لها |(1/326)
@ 327@فسميت الحكمة لملك النفس ، والاستيلاء عليها ، والقدرة على ضبطها ، والموافقة بها عند شبهات الأمور ومشكلات الأحوال ، وعن الانهماك في المعاصي والتوسع في الشهوات ومخالفة الله أوكد أسباب المنع للنفس ، والكف لها عن الشهوات والوقف بها على مراشد الامور ، فكذلك كانت عدم مخالفة الله رأس الحكمة والله أعلم.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا أحمد بن محمد بن العباس الطاهري ، قال : حَدَّثَنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن بشار الرمادي ، قال : حَدَّثَنا صفدي ، قال : حَدَّثَنا زياد بن ميمون عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : طلب العلم فريضة على كل مسلم وقال : إن الملائكة تضع اجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : يجوز أن يكون معنى تضع اجنحتها أي : تخضع وتتواضع للعلم وأهله ، يقال للرجل المتواضع المنذل للحق خافض الجناح ، قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} [الشعراء : 215] فوضع الجناح عبارة عن التواضع ، وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصة من بين سائر عمال الله تعالى ، لأن الله تعالى ألزمها ذلك في آدم ، وذلك لما أخبر الله تعالى الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة استخبرت وسألت الله تعالى على جهة الاستفهام ، وفي بعض الروايات الكتبية من الكلام ما يدل على أن سؤالها كان على جهة الاستعظام إن خلقا يكون منهم الفساد وسفك الدماء ثم يكون خليفة الله في الارض ، فقال الله تعالى : {إني أعلم ما لا تعلم} [البقرة : 30] ، وعلم الله تعالى آدم صلوات الله عليه الأسماء ثم قال للملائكة : {أنبئوني بأسماء هؤلاء} فقالت الملائكة : {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} فقال لآدم : {أنبئهم بأسمائهم |(1/327)
@ 328@فلما أنبئهم بأسمائهم} [البقرة : 33] تصاغرت الملائكة في نفسها ورأت فضل آدم عليها ، وألزمها الله الخضوع له والسجود فسجدت له خضعا متواضعين ، فتأدبت الملائكة بذلك الأدب فلما ظهر لها علم بشر خضعت له وتواضعت ، وتذللت إعظاما للعلم واهله ، ورضا منهم بالطلب له والشغل به ، فهذا بالطلاب منهم فكيف بالأخيار فيهم الربانيين ، منهم ، جعلنا الله منهم وفيهم بمنه وطوله إنه ذو فضل عظيم.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا عبد الله بن محمد بن يعقوب رحمه الله ، قال : حَدَّثَنا محمد بن حاتم بن المظفر الكندي ، قال : حَدَّثَنا سليمان بن داود المنقري ، قال : حَدَّثَنا إسماعيل بن ابراهيم ، عن الحجاج بن فرافصه ، عن مكحول ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رسول صلى الله عليه وسلم وعليه عباءة شامية فصعد المنبر وهي يومئذ ثلاث عتبات ، قال : فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد من طلب الدنيا حلالا استعفافا عن المسئلة ، وسعيا على العيال ، وتعطفا على الجار ، لقي الله تعالى وجهه كالقمر ليلة البدر ، ومن طلب الدنيا حلالا مفاخرا مرائيا مكاثرا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : في هذا الحديث دلالة بينه أن طلب الدنيا وأخذها لا ينبغي إلا للضرورة ، ويكون تناولها كما يتناول المضطر الميتة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرط لأخذها من وجهها شروطا ثلاثة كلها ضرورة ، وهو الاستعفاف عن المسئلة ، والسعي على العيال ، والعود على الجار ، فالمضطر إلى الميتة هو الذي بلغ الجهد به غاية يخشى على نفسه التلف ، فهو بين أمرين : التلف والهلاك أو الأخذ من الميتة فهو يأخذ منها قدر ما يمسك رمقه على تكثره ، فإن اكلها على جهة الشهوة والاستلذاذ لم يجز فكذلك المستعف بين أمرين عند ضعف يحل به بخل بدينه من مسئلة أوساخ الذي هو يوم القيامة كروح وخموش ، وطلب الدنيا التي هي بغيضة الله والقراءة لأهلها وهي سم قاتل جاء ذلك في بعض الروايات ، فهو يطلب الدنيا قدر ما يستقل به ويصون وجهه ودينه على تكثره لا للإختيار والمحبة لها واللذة بها وعلى |(1/328)
@ 329@توقي من سمها وحذر من غرورها فكأنه يشرب السم مخافة ، وكذلك الساعي على العيال بين أمرين إما أن يضيع من يقوته فهو إذا خاف أن يأثم بتضيع عياله اضطر إلى الطلب لهم والقيام بحقهم قدر الكفاية لهم ، وكذلك المتعطف على الجار وهو من يرى لنفسه من القوة والإمكان ما عجز عنه جاره من العود على نفسه فيلزمه قوة جاره كما لزمه فرض عياله ، فقد اضطر إلى أن يسعى بقدر ما يعود على الجار العاجز عما قوي عليه الساعي فهو يسعى بفضل قوته ، ويعود على جاره بفضل ما عنده ، فمن لم يكن له عيال ولا جار يعجز عن القيام بحاله ، وكان فيه من الصبر والقناعة ما يستعفى به عن السؤال فيكون كما قال الله تعالى : {يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} [البقرة : 273].
|ثم طلب الدنيا لم يخل طلبه لها من إحدى الثلاث الخصال التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من طلب الدنيا لها لقي الله وهو عليه غضبان ، لأنه إذا خرج طلبه لها عن هذه الضرورات إما أن يكون طلبه لها للمفاخرة بها ، والمفاخرة بها هي المنافسة التي خافها النبي صلى الله عليه وسلم على أمته واصحابه حين قال : والله ما الفقر أخاف عليكم ولكن أخاف أن يبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم.
|حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حَدَّثَنا عبد الصمد بن الفضل ، وإسماعيل بن بشير قالا : حَدَّثَنا مكي بن ابراهيم ، قال : حَدَّثَنا هشام بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
|أو يريد بطلبها المراءات فهو التزين بها وهي تزين ولكنها شين.
|حدثنا محمد بن حيان التميمي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن خالد ، قال : حَدَّثَنا عبد لله بن عبيد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن يوسف الآدمي ، عن إبراهيم بن عبد الله بن أبي الأسود ، |(1/329)
@ 330@عن الحسن رحمه الله أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز : أن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور الشخصية إلى مكروه اليسار فيها لأهلها غارة ، والنافع فيها غدا ضار ، فالدنيا عار ، والطلب لها شين ، والقلة منها دين.
|حدثنا محمد بن حامد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن حبان ، قال : حَدَّثَنا حيان ، قال : أخبرنا عبد الله ، قال : حَدَّثَنا عبد الرحمن بن زياد بن انعم ، عن سعد بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الفقر احسن وأزين للمؤمن من العذار الجيد على خد الفرس فالمراءات بها شين ، ويريد بطلبها الاستكثار منها ، والمكثر هالك إلا القليل.
|ح محمد بن أحمد بن معروف قال : حَدَّثَنا سعيد بن مسعود ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عبد الطافسي ، قال : حَدَّثَنا الاعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل الكعبة جالس فلما رآني أقبلت قال : هلك الاكثرون ورب الكعبة ، هلك الأكثرون ورب الكعبة قال : فأخذني غم فجعلت اتنفس فقلت هذا شيء حدث قلت : من هم فداك أبي وأمي ، قال : الأكثرون إلا من قال في عباد الله هكذا وهكذا عن يمينه وشماله وخلفه وقليل ما هم ، وما من رجل يموت فيترك إبلا أو غنما لم يؤد زكاتها إلا جاءت يوم القيامة اعظم ما كانت حتى تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها حتى يقضى بين الناس ، ثم يعود اولاها على أخراها.
|فإن طلبها ليطلب بها البر ، وفعل الصنائع ، واكتساب المعروف كان على خطر وتركه لها أبلغ في البر ، فقد قيل : % ( يا طالب الدنيا لتبر % برك بها بر ) % فقد تبين في الأخبار أن الطالب لها من وجهها للضرورة لا غير فإنه قد شرط في الحالين جميعا الحلال ، وما شيء اعز الله من درهم حلال ، قال سفيان رضي الله عنه : ما شيء اعز الله اليوم من درهم وافى في الله.
|ففي الحديث دلالة بينة على شرف الفقر وضعة الغنى وقصوره عن رتبة الفقر ، وذلك أن الغنى الذي هو فضول المال ليس إلا كثرة العرض ، وحطام الدنيا ، ولا يكاد |(1/330)
@ 331@الكثرة منها يكون إلا بالطلب لها والجمع إياها ، والطالب للاستكثار متوعد بغضب الله عليه ، ومن حصلت عنده من غير طلب فهو مكثر ، والمكثر هالك إلا من أعطى يمينا وشمالا ووراء ، ولا يكاد يبقى المال مع الإعطاء بهذه الصفة.
|وقال بعض الفلاسفة لرجل افتخر بالغناء بالمال فقال : ما افتخارك بشيء يتلفه الجود ويمسكه البخل.
|وقال آخر ورأي رجلا يفتخر على آخر بماله فقال : ما افتخارك بشيء يعطيه البخت ، ويحفظه اللوم ، ويهلكه السخاء.
|أنشدني أبو القاسم الحكيم رحمه الله : % ( ملأت يدي من الدنيا مرارا % وما طمع العواذل في اقتصادي ) % % ( ولا وجبت علي زكاة مال % وهل تجب الزكاة على الجواد ) % وكفاك بفضل ما بينهما أن ذا المال يحتاج إلى التطهير ، ولولا التدنس به لم تطهره الزكاة ، قال : {خد من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة : 103].
|وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن هذا البيع يحضره اللغو والكذب فشوبوه بالصدقة.
|فلذلك لم تجب الزكاة على الأنبياء صلوات الله عليهم لأنهم لم يتدنسوا بها لأنهم كانوا خزن الله لا متملكين للأموال جامعين لها ، وكذلك الأطفال لم تجب عليهم الزكاة لأنهم لم يتدنسوا بها ، وسائر المكثيرين منها يحتاجون إلى التطهير من أدناسها ، والغسل من أقذارها ، والمتخلي منها طاهر من أدناسها طيب من أقذارها غني عن التطهير بالزكاة ، منها آمن من الوعيد بكى الجباه والجنوب بها ، والعذاب على الحرام منها ، والحساب على الحلال فيها ، والحمد لله رب العالمين.
|وقد أفردنا لشرف الفقر واهله كتابا جامعا يشتمل على الأخبار والآثار المروية فيه ، والحجج الكثيرة من جهة الخبر والنظر ، ومعنى الأخبار التي وردت في الغناء ما أغنى عن الإعادة ههنا ، وبالله التوفيق ، ومنه الحول والقوة.(1/331)
@ 332@$ حديث آخر$
حَدَّثَنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عيسى ، قال : حَدَّثَنا الحسين بن الحسن ، حَدَّثَنا المروزي ، قال : حَدَّثَنا ابن أبي عدي ، قال : حَدَّثَنا حميد ، عن أنس رضي الله عنه قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اتاه المهاجرون فقالوا : يا رسول الله ما رأينا قوما ابذل من كثير ، ولا احسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم لقد كفونا المؤنة ، وأشركونا في المهنأ حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ، ما دعوتم الله واثنيتم عليهم.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : في هذا الحديث دلالة على أن الفقير يدرك بقوله ونيته ما يدرك الغني بفضول ماله فإن الأنصار بذلوا أموالهم للفقراء المهاجرين ، وقاسموهم أموالهم وآثروهم على أنفسهم قال الله تعالى : {والذين تبوءو الدار} الآية [الحشر : 9] فهم بذلوا اموالهم ، وقاسموهم إياها حتى خاف المهاجرون أن يفضلوهم ، ويوفوتهم ما يعطى الأنصار على نفقاتهم ، وبذل اموالهم ، وهذا معنى قولهم خفنا أن يذهبوا بالأجر كله لأن الأجر هو الثواب ، والله تعالى واسع غني لا تفنى خزائنه ولا ينقص اجره ، وإنما معنى ما قلنا انهم يفضلوننا بأجور نفقاتهم ، فيكون لهم ذلك دوننا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أي ليس ذلك كما تطنون ، أي لا يفضلونكم ولا يفوتكم ، فإن دعاءكم الله لهم ، وثناءكم عليهم يقول منكم مقام نفقاتكم منهم ، وبذل أموالهم فتعطون على الدعاء ، والثناء من الأجر ما يعطون على النفقة والعطاء.
|فيه أيضا وجوب مكافأة المعطي ومجازاة محسن ، ومعرفة الفضل للمنعم ، اعني فضل أي فضال لا فضل الشرف بالمال ، وإن كان المنفق والمعطي والمحسن لا ينبغي له أن يفضله بإحسانه ، والله أعلم بالصواب.(1/332)
@ 333@$ حديث آخر$
حَدَّثَنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال حَدَّثَنا هناد ، قال : حَدَّثَنا وكيع ، عن الربيع بن صبيح ، عن يزيد بن ابان وهو الرقاشي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرق عليه شمله ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله في هذا الحديث معنيان : أحدهما : الترغيب في الزهد في الدنيا ، والإعراض عنها والرغبة في الآخرة ، والإقبال عليها ، والتشجيع في ترك الدنيا بمعنى الإنفاق ممن هي في يديه ، والإعراض عنها ممن ليست عنده كأنه صلى الله عليه وسلم يقول : من اعرض عن الدنيا ، واقبل على الآخرة ، رزق الفراغ والتنعم وجمع الشمل ، وآتته الدنيا أي الرفق فيها والمهنأ منها ، فيكون له المهنأ دون الشغل ، والرفق من غير تعب فهو غني وإن عدم الفوت ، ومن اقبل على الدنيا واعرض عن الآخرة شغل بما لا يجري ، وتعب فيما لا يغني عنه فتزداد الدنيا عنه بعدا ، لأنه لا يصيب منها إلا المقدور ، والمقدور لا يغنيه وإن كثر لغلبة الحرص عليه والتأسف على فوت ما لم يقدر له تعب الطلب ، والخيبة في التعب فهو فقير وإن ملك الدنيا.
|والمعنى الآخر : تنبيه وإرشاد في الرجوع إلى الله تعالى ، والإقبال على الله ، وانه أسير القدرة سليب القبضة ، وإن أفعاله تبع لفعل الله به وإنها إنما تكون بالله تعالى فيكون العبد مأخذوا عن اوصافه ، مصروفا عن نظره إلى أفعاله معترفا بعجزه مقرا باضطراره عالما بضرورته وافتقاره ، كأنه صلى الله عليه وسلم يقول : إنما تكون الآخرة همه من جعل الله الغناء في قلبه وجمع له شمله ، لأنه لا يقبل على الآخرة إلا من استغنى عن الدنيا فإن الدنيا حجاب الآخرة فإذا رفع الحجاب عن بصر القلب رأى |(1/333)
@ 334@الآخرة بعين إيقانه ، ومن نظر إلى الآخرة شغل عن الدنيا ، صارت مرفوعة منه متروكة عنه ، قال حارثة : عزفت نفسي عن الدنيا فكأني انظر إلى أهل الجنة إلى آخر الحديث.
|فمن اغناه الله تعالى عن الدنيا بالزهد فيها ، والرغبة عنها صارت الآخرة همه ، لأن الإنسان حريص ، والنفس راغبة أما ترغب إلى الدنيا أو إلى الآخرة فإذا حجبت عن الدنيا بالعزوف عنها ، والاستغناء منها افتقرت إلى الآخرة ، ورغبت فيها.
|قيل لحمد بن عبد العزيز لما افضت الخلافة إليه : قد زهدت في الدنيا أمير المؤمنين ؟ فقال : إن أنفسنا تواقة تاقت إلى الدنيا ، فلما اصابتها تاقت إلى الآخرة.
|فمن جعل الله الغناء في قلبه وجعل له يسره بالاستغناء عن الدنيا وحطامها صارت همته الآخرة وما قدر له من الدنيا ، والرفق فيها ، يأتيه في راحة من بدنه وفراغ من سره ، وهذا معنى قوله راغمة أي يأتيه من غير طلب لها لأنها قل ما يؤتي طلابها إلا بجهد وطلب لها حثيث فإذا جاءت من غير طلب فكأنها جاءت راغمة صاغرة ذليلة ، ومن جعل الله فقره إلى الدنيا وحجبه عن الآخرة بميله إلى الدنيا صارت الدنيا نصب عينيه ، والدنيا فقر كلها لأن حاجة الراغب فيها لا تقتضي فهي العطاش كلما ازداد شرابا ازداد عطشا ، فمن كانت الدنيا نصب عينيه صار الفقر بين عينيه ، وفقر سره واختلفت طرقه ، وتشتت همته ، وتعب بدنه ، وشرهت نفسه ، وازدادت الدنيا عنه بعدا لأنه لا يأتيه منها إلا المقدور ، والمقدور منها لا يغنيه ، كأنه يقول : من كانت الآخرة همه هو الذي جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله ، ومن كانت الدنيا همه هو الذي جعل الله فقره بين عينيه ، وفرق عليه شمله ، وكل لا يفوته مقدوره من الدنيا . نبه صلى الله عليه وسلم على محض العبودية ، كأنه يقول : من اهمته الآخرة فلير فضل الله عليه في وضع الغناء في قلبه حتى رفض الدنيا ، واقبل على الآخرة ، ومن اهمته الدنيا فليفتقر إلى الله بالدعاء إزالة الفقر من بين عينيه ، والحرص من قلبه ، والتعب من بدنه ، والشغل من قلبه.
|فكأنه صلى الله عليه وسلم دل على الافتقار إلى الله في الأحوال كلها فيما يرضي بالحمد له ، ورؤية الفضل من عنده ، والرعبة إليه في الثبات عليه فقد قال {ولدينا مزيد} [ق : 35] وقال : لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم : 7].(1/334)
@ 335@وفيما يكره بالاستغفار له والاستعانة به في نقل ما يكره لا ما يحب ، فقد قال الله تعالى : {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل عليكم مدرارا} [نوح : 15] ، وقال تعالى في الاستغاثة به : {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} الآية [النمل : 62].
$حديث آخر$
حَدَّثَنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا أبو معاوية ، عن الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك الناس فواصلوا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم وقال : إني لست مثلكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني.
|وحدثناه حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا ابن فضيل ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إياكم والوصال ثلاث مرات ، قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله ، قال : لستم في ذلك مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني ربي ويسقيني فتكلفوا من العمل ما تطيقون.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : الظلول والبيتوته يعبران عن الزمان كله ويخبران بالدوام ، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم انه عند ربه جميع نهاره وكل ليله ، فكأنه يقول : أنا عند ربي أبدا ومن كان عنده لا يستحسر ولا يفتر : قال الله تعالى : {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء : 19].
|وقال صلى الله عليه وسلم : لي مع الله وقت لا يسعني فيه غيره معناه وقتي كله مع الله لأنه قال : إني أظل عند ربي وأبيت ، ومن كان معه لم يكن للأغيار إليه طريق ، ولا للخلق بمعنى الاشراف نظر وتحديق ، فإنما ربط الخلق بظاهره ليأخذوا عنه آداب الشريعة وأوصاف العبودية بموافقة الجنس ، ولولا ذلك لم يكن للخلق الأخذ |(1/335)
@ 336@عن الوسايط الذين هم الأنبياء ، قال الله تعالى : {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} [الكهف : 110] وقال تعالى : {وما أرسلنا قبلك من المرسلين} [الفرقان : 20].
|أخبر أن ظواهر الأنبياء بأوصاف البشرية وبنيتهم بنية البشرية تعتريها حوادث نعوت الإنسانية ويتطرقها آفات الحدث ، ومقايقهم التي هي بواطنهم محمولة بالاستظهار والربوبية وأوصاف الحقية فلا يقدح فيها عجز البشرية ، وضعف الإنسانية فهي محمولة بما يرد عليها من الحق جل اسمه عن طروقه عليها ، ومعصومة عن تأثير أوصاف الحدث فيها من ضعف جوع ، وعطش أو فتور سهر أو حجبة ، ألا تراه يقول : لا ينام قلبي وإني أركم من رواء ذلك لنعلم أن حقيقته قائمة بأوصاف الحق للحق ، وظاهره على صفة البشرية للخلق ، فكل صفة ظهرت في نبيه ، وظاهر نعته جرت على إنسانيته من قوله تعالى : {وتخشى الناس} [الأحزاب : 37] ، وقوله تعالى : {عفا الله عنك لم أذنت} [التوبة : 43].
|وقوله صلى الله عليه وسلم : إنما بشر انسى كما تنسون وربطه الحجر على بطنه ، وسهوه في صلاته ، وسائر أحواله التي شبه ذلك منه حظ الاغيار منه ونصيب الخلق فيه لأنه اقيم مقام التأديب فعلا وقولا ، قال الله تعالى : {وما ينطق عن الهوى إن هو الا وحي يوحى} [النجم : 3 4] وقال تعالى : {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال : 17].
|فأضاف الله تعالى أفعاله وأقواله إلى نفسه ، وجعل أخلاقه صلى الله عليه وسلم أوصافه عز وجل فقال : {بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة : 128] ، وقال : {إنك لعلى خلق عظيم} [القلم : 4] ، قالت عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن يرضى برضاه ويسخط بسخطه.
|يؤكد ذلك قوله تعالى : {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا} [الأحزاب : 37].
|أخبر أن ما جرى عليه يصيب الخلق ، وقدوة الأمة ، قال صلى الله عليه وسلم لحذيفة حين شكا إليه ذرب لسانه : أين أنت من الاستغفار فإنى استغفر الله في اليوم مائة مرة.(1/336)
@ 337@ح أحمد بن سباع بن الوضاح ، قال : حَدَّثَنا محمد بن الضوء ، قال : حَدَّثَنا عمرو يعني ابن عون الواسطي ، قال : حَدَّثَنا أبو الاحوص عن أبي اسحاق ، عن أبي المغيرة ، عن حذيفة رضي الله عنه قال : شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرب لساني : فقال : أين أنت من الاستغفار ، فإني استغفر الله في كل يوم مائة مرة.
|وظاهر الأنبياء مرآة للخلق ، يبصرون فيها ما يجب عليهم ، وبواطنهم ، في حجب الغيب عند ربهم ، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لست مثلكم ، والله أعلم.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا أبو عبد الله محمد بن موسى ، قال : حَدَّثَنا الحارث بن اسامة ، قال : حَدَّثَنا عبد الله ابن بكر السهمي ، قال : حَدَّثَنا هشام ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لم يكذب إبراهيم صلوات الله عليه غير ثلاث ، قوله : إني سقيم ، وقوله : بل فعله كبيرهم هذا ، وبينما هو يسير إذ نزل في أرض جبار فأتى الجبار فقيل قد نزل ههنا رجل معه امرأة من احسن الناس فأرسل إليه فأتاه فقال : ما هذه المرأة منك ، قال : اختي وذكر الحديث.
|وحدثنا خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن معقل ، قال : حَدَّثَنا محمد بن اسماعيل ، قال : حدثني سعيد بن بليد الزعيني ، قال : اخبرني ابن وهب ، قال : اخبرني جرير بن حازم ، عن ايوب ، عن محمد بن ابراهيم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثا . . ..(1/337)
@ 338@قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : حد الكذب ما كان مخبره بخلاف خبره ، وقول إبراهيم صلوات الله عليه : إني سقيم يحتمل أن يكون عبارة عن حاله قبل بيان ما ظهر له في الشمس والقمر والكوكب ، فإنه نظر إليها مستدلا والمستدل بين أمرين حتى يقع استدلاله على ما استدل به عليه ، فكان صلوات الله عليه في تلك الحالة يتردد بينما يدعيه قومه وبينما عرفه بفطرته ، فكان يتبين تحقيق ما عرفه بالفطرة من جهة دليل العقل ولم يكن في شك من معرفة الله بالوحدانية ، وأنه لا شريك له ، وإنما كان يطلب دليل المحاجة لقومه ، وإزالة عوارض الشكوك التي تهجس في الخواطر ، ولم يكن وقع له ذلك فعبر عن ضعفه في استدلاله بالسقم ، وقد يقال للعلة إذا لم تطرد في معلولاتها هذه علي سقيمة أي ضعيفة ، وقد قال الله تعالى في صفة قوم شكوا فيما آتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم : {في قلوبهم مرض} [البقرة : 10] قيل : الشك ، والشك ضعف ، فكان ضعف هؤلاء من جهة الشك ، وضعف إبراهيم من طريق المحاجة فآتاه الله دلائل المحاجة بالكوكب والشمس والقمر بما نص الله من قوله : {لا احب الآفلين} [الأنعام : 76] وقوله : {لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين} [الأنعام : 77].
|فلما تمت الحجة له في افول الشمس وآثار الحدث فيها ، واستحكمت الدلالة على حدوث ما دون الله ، وعلى قدم الباري عز وجل وتعاليه من أوصاف الحدوث بقوله : {يا قوم إني برئ مما تشركون} [الأنعام : 78] ، {وإني وجهت وجهي} الآية [الأنعام : 79] ناداهم بالخلاف لهم لما استحكمت له دلائل العقل ، وآلة الحجاج فعندها قال : {آتحاجوني في الله وقد هدان} [الأنعام : 80] ، وقال : {إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} [البقرة : 258] فحاجوه في فحجتهم فهذا قوله : {إني سقيم} [الصافات : 89].
|وقوله : بل فعله كبيرهم علق فعل كبيرهم بكون النطق منه كأنه يقول : إن كان كبيرهم ينطق ، وهذه الاصنام ينطقون فهو فعل كبيرهم ، فهذا على التبكيت لقوله إن الذي لا امتناع له عن كره ، ولا نطق فيه بالإخبار عمن فعل به كيف يكون إلها يعبد وربا يرجى ؟ فقالوا : إن كانوا ينطقون فهو فعل كبيرهم ، وهذا صدق من إبراهيم صلوات الله عليه ، لأن مخبره لم يكن بخلاف خبره ، لأن الأصنام لم يكونوا ينطقون.(1/338)
@ 339@وقوله صلوات الله عليه لسارة أختي يعني في الإسلام ، وهو في هذا الحديث مفسر لأنه لما قال له : ما هذه المرأة منك ؟ قال : أختي ، قال : اذهب فأرسل بها فأتى سارة ، قال : إن هذا سألني عنك ، فأخبرته إنها أختي ، فلا تكذبوني عنده فإنك أختي في كتاب الله ، وليس في الأرض مسلم غيرك وغيري هذا كله لفظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي ذكرنا إسناده أولا فاخبر انها أخته في الدين وصدق صلوات الله عليه ، قال الله تعالى : {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات : 10].
|فقول النبي صلى الله عليه وسلم : لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاثا} أي لم يتكلم على صورة الكذب إلا هذه الثلاث فإنها على التوهم من السامع إنها كذبات ، وإن لم يكن في الحقيقة كذلك ، ويجوز أن يكون كذبات ، ولكنها لما كانت في الدفع عن الدين لا يكون ذلك معصية ، ولكن كانت مباحة ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل الكذب إلا في ثلاث : يحدث الرجل امرأته ليرضيها ، والكذب في الحرب ، والكذب ليصلح بين الناس.
|حدثناه نصر بن فتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا محمود بن غيلان ، قال : حَدَّثَنا بشر بن السري ، وأبو أحمد ، قال : حَدَّثَنا سفيان عن ابن خيثم ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحل الكذب إلا في ثلاث وذكر الحديث.
|فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الكذب يحل في الحرب ، وإصلاح ذات البين ، وبين المرأة وزوجها ، والدفع عن الدين اكبر من ذلك ، والكذب في الحرب من جهة الدفع عن الدين ، وفي بعض الروايات لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات كل ذلك يماحل به عن الله فهذا الكذب حلال.
|حدثنا نصر ، حَدَّثَنا أبو عيسى ، حَدَّثَنا ابن أبي عمر ، حَدَّثَنا سفيان ، عن أبي جدعان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله |(1/339)
@ 340@صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة : اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إلى إبراهيم عليه السلام فيقول : إني كذبت كذبات ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله فهذا كذب حلال.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن اسماعيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى الحماني ، قال حَدَّثَنا سنان بن هارون ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أم حبيبة أو غيرها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة يموت زوجها فتتزوج بعده زوجا آخر ثم يموت لمن هي ؟ قال : لأحسنهما خلقا كان معها.
|وفي حديث آخر لآخر ازواجها.
|ح خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا نصر بن زكريا ، قال : حَدَّثَنا هشام بن عمار ، قال : حَدَّثَنا الوليد بن مسلم ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن عطية بن قيس أن معاوية بن أبي سفيان خطب أم الدرداء بعد وفاة أبي الدرداء ، فقالت : سمعت أبي الدرداء رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المرأة لآخر زوجها في الجنة وما كنت لأختار أبي الدرداء.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف من المسائلة انها تريد أن تعرف انها تكون في الآخرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانت هي له في الدنيا ، فإن هذا الحديث عن أم حبيبة وأنها هي السائلة ، والحديث الآخر أراه عن أم سلمة ، وكلتاهما كانتا تحت رجل من المسلمين ثم تزوجها فعسى خطر ببال السائلة أن زوجها لو لم يمت لكانت تحته أخرى دهرها ، وإنما فرق بينهما الموت فصارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعساها اشفقت أن تكون لزوجها الأول اعني لولا الموت لكانا على نكاحهما ، فاستخبرت النبي صلى الله عليه وسلم لتقرر عندها انها تكون له في الآخرة كما صارت له في الدنيا ، فأخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة ادركت المراد فيه بقوله لأحسنهما |(1/340)
@ 341@خلقا واحسن زوجها خلقا معها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا أحد احسن خلقا منه صلى الله عليه وسلم لقوله عز وجل : {إنك لعلى خلق عظيم} [القلم : 4] وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : كان خلقه القرآن.
|فقوله صلى الله عليه وسلم للسائلة : لأحسنهما خلقا أي أنت لي في الآخرة ، كما أنت لي في الدنيا ، وللأخرى هي لآخر زوجها كذلك كأنه يقول لهما : أنت لي إذ النبي صلى الله عليه وسلم آخر أزواج نسائه لأنه لا يجوز أن يكون لإحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن زوجا سواه ، لقوله عز وجل : {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا ازواجه من بعده أبدا} [الأحزاب : 53] وقوله تعالى : {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب : 6] فإذا كان لأخر ازواجها ، وآخر ازواجها النبي صلى الله عليه وسلم كانت له.
|ويجوز أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم : المرأة لآخر أزواجها فيمن فرق بينهما الطلاق لا الموت ، لأن الطلاق إذا لم يكن من باس فهو سوء الخلق لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق.
|حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال حَدَّثَنا إسماعيل بن عياش ، عن حميد بن مالك اللخمي ، عن مكحول ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما خلق الله تعالى شيئا على وجه الأرض احب إليه من العتاق ، ولا خلق الله تعالى شيئا ابغض من الطلاق.
|فإذا كان الطلاق مما يبغضه الله تعالى فإن المؤمن لا يكاد يفعله إلا عن بأس ، فإذا كان للمرأة زوج وفرق بينهما الطلاق من غير بأس كان ذلك لسوء خلق يكون في الرجل وقلة مداراة ، فإذا كان الرجل حسن الخلق كانت فيه مرارة مع امرأته فيستمتع بها ويتحمل سوء خلقها فلا يفرق بينهما الطلاق يدل على ذلك ما.(1/341)
@ 342@ح نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال حَدَّثَنا عبد الله بن أبي زياد ، قال : حَدَّثَنا يعقوب بن إبراهيم بن سعيد ، قال : حَدَّثَنا ابن أخي ابن شهاب ، عن عمه ، عن سعيد ابن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المرأة كالضلع إن ذهبت تقيمها كسرتها ، وإن تركتها استمتعت بها على عوج.
|فأخبر أن الرجل إنما يستمتع بالمرأة يتحمل ما يكون منها من الاعوجاج يكون ذلك بالمداراة ، وحسن الخلق ، فإذا حسن خلق الرجل لا يكاد يفرق بينه وبين امرأته إلا الموت ، أن يموت عنه فيكون آخر ازواجها احسنهم خلقا معها فيتفق الخبران ، والله أعلم بالصواب.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا أبو أحمد عبد العزيز بن محمد بن المرزبان ، قال حَدَّثَنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم البكري ، قال : أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد ابن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قال : حدثني عبد العزيز ابن أبي حازم ، عن سهل بن أبي صالح ، عن زياد النميري ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنا أول من تنفلق الأرض عن جمجمته ولا فخر ، وانا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر ، ومعي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وانا من يفتح له الجنة ولا فخر ، فآتي فأخذ بحلقة الجنة ، فيقال من هذا ؟ فأقول : محمد فيفتح لي فيستقبلني الجبار عز وجل فأخر له ساجدا فيقول : يا محمد ، قل تسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ، فأقول : أمتي أمتي ، فيقول : اذهب فمن وجدت في قلبه مثقال حبة من شعير من ايمان فأدخله الجنة ، فأذهب فأميز وادخل من شاء الله برحمته ثم ارجع فآخذ بحلقة الجنة فيستقبلني الجبار فاخر له ساجدا فيقول : يا محمد قل تسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقول : |(1/342)
@ 343@اذهب فمن وجدت في قلبه مثقال حبة من خردل إيمانا فأدخله الجنة فأذهب فأميز فأدخل من شاء الله برحمته ، ثم يبقى قوم لم يكونوا يشركون بالله شيئا فيقول لهم ناس من المشركين : ما اغنى عنكم وانتم معنا في النار فيقول الله تعالى : وعزتي وجبروتي ، وعلو مكاني لا ادع أحدا كان لا يشرك بي شيئا إلا اخرجته من النار فيخرجهم فيجعلهم في نهر يسمى نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل هو ترون ما يلي الظل منها اصفر ، وما يلي الشمس منها اخضر قالوا : يا رسول الله كأنك كنت في البادية ، فقال : إني كنت في البادية ، ثم يدخلهم الجنة فيقول أهل الجنة هؤلاء الجهنميون ، فيقول : لا تقولوا الجهنميون ولكن قولوا : هؤلاء عتقاء الله من النار.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : قوله صلى الله عليه وسلم : أنا سيد الناس يوم القيامة وهو صلى الله عليه وسلم سيد الناس في الدنيا والآخرة ومعنى تخصيص يوم القيامة كقوله تعالى : {لمن الملك اليوم} [غافر : 16] ، ولله تعالى الملك في الأيام كلها غير انه قد ادعى قوم الملك في الدنيا ، ويومئذ لا مدعي ، كله قد اذعن وانقاد ، وزال ملك كل ذي ملك فلا أحد يقول : أنا ملك . كذلك قوله أنا سيد الناس يوم القيامة لا سؤدد لأحد يومئذ غيره لأن السيد هو الذي يفزع إليه القوم إذا اصابتهم نائبة أو حل بهم أمر لا يقومون به فيتحمل عنهم ، ويقوم بأسبابهم ، ويتحمل الحمالة عنهم ويذب عنهم ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : سيد الناس خادمهم ، لأنه يكفيهم مؤنهم ، ويتحمل عنهم ما لا يطيقونه . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا شفيعهم إذا حبسوا ، وأنا مبشرهم إذا ابلسوا ولا فخر.
|حدثناه حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا عبد السلام ، عن ليث ، عن الربيع بن انس ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثنا خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن معقل ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا مسدد ، قال : حَدَّثَنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : |(1/343)
@ 344@يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون : لو استشفعنا على ربنا عز وجل حتى يرحينا من مكاننا فيأتون آدم صلوات الله عليه فيقولون : أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك فاشفع لنا عند ربنا ، فيقول : لست لها ، ويذكر خطيئته ، أئتوا نوحا صلوات الله عليه أول رسول بعثه الله فيأتون فيقول : لست لها ، ويذكر خطيئته ، أئتوا إبراهيم صلوات الله عليه الذي اتخذه الله خليلا فيأتونه فيقول : لست لها ، ويذكر خطيئته ائتوا موسى عليه السلام الذي كلم الله فيأتونه ، فيقول : لست لها ، ويذكر خطيئته ائتوا عيسى صلوات الله عليه فيأتونه ، فيقول : لست لها ، ائتوا محمد صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتونني فاستأذن على ربي فإذا رايته آخر ساجدا ، فيدعني ما شاء الله ثم يقال : ارفع راسك ، سل تعطه ، وقل تسمع ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعطني ، ثم اشفع فيحد لي حدا ثم أخرجهم من النار فأدخلهم الجنة ، ثم ادعوا فأقع ساجدا مثله في الثالثة والرابعة حتى ما بقي من النار إلا من حبسه القرآن.
|فكان قتادة يقول : عند هذا أرى وجب عليه الخلود فهكذا السؤدد وهذا السيد . وقوله : ومعي لواء الحمد يجوز أن يكون معنى لواء الحمد ، أي : لواء الثناء كأنه يقول لوائي لواء يعلم الخلائق انه لواء الحمد والثناء والمدح والرضا لأن يوم القيامة تغلق التوبة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لكل غادر لواء عند السنة يعرف بغدرته.
|حدثنا حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا قيس عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكل غادر لواء يعرف بلوائه عند باب السنة.(1/344)
@ 345@وقال صلى الله عليه وسلم عند ذكر امرء القيس : بيده لواء الشعراء يقدمهم إلى النار.
|حدثنا أبو العباس محمد بن محمد بن الحسن العباسي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن عبد الله بن ثابت الاسناني ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن محمد بن حنبل ، قال : حَدَّثَنا هشام ، عن أبي جهم ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار.
|فيوم القيامة للناس ألوية صحيحة ، وألوية أخرى فصيحة ، ألا تراه يقول عند السنة ليكون افضح له واشين ، فلواء النبي صلى الله عليه وسلم لواء الحمد ، ولواء الثناء ، والذين إذا كانت هناك ألوية أخرى وشين فهو صلى الله عليه وسلم في صحبته الحمادون ، وهو صلى الله عليه وسلم أحمد كل محمود من الخلق فلواءه لواء الحمد ، قال : فيحمله ، ويفتح له من الحمد والثناء على الله تعالى ما لم يفتح لأحد صلى الله عليه وسلم.
|وقوله : ولا فخر يقول : لا فخر لي بالعطاء بل الفخر لي بالمعطي.
|وقوله صلى الله عليه وسلم : ويستقبلني الجبار يعني بالبر والإكرام والرضا والقبول يقال : دخلت على الأمير فاستقبلني بكل جميل إذا أكرمه وأدناه وسمع منه فكذلك قوله : فيستقبلني الجبار يعني يكرمني ويدنيني ، ويسمع منه ، ويجيب دعائي ، ويعطني سؤالي ، يدل عليه قوله : قل تسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ويجوز أن يكون الاستقبال بمعنى القبول ، وقد يجيء في الكلام استفعل بمعنى فعل كما يقال استقدم بمعنى تقدم ، يقال في المثل : استقدمت رحالتك واستعجل بمعنى عجل ، قال الشاعر : % ( وقد يكون من المستعجل الزلل ) % فيجوز أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم : فيستقبلني الجبار أي يقبلني ايجابا ، وقضاء لحاجتي ، وإشفاعا لي.(1/345)
@ 346@وقوله : مثقال حبة من شعير من إيمان أي من عمل الايمان ، وفي هذا دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان.
|ويجوز أن يكون قوله في قلبه كأنه يقول عمل عملا بنية من قلبه لقوله صلى الله عليه وسلم : الأعمال بالنيات ويجوز أن يريد رحمة على مسلم رافة على يتيم خوفا من الله تعالى ، ورجاء له ، وتوكلا عليه ثقة به ، هذه وامثالها مما هي أفعال القلب دون الجوارح ، والدليل على انه أراد بالإيمان ما قلنا ولم يرد تجزئة الإيمان الذي هو التوحيد له ونفي الشرك عنه ، والإخلاص له ، يقول : لا إله إلا الله ، إنه قال : ويبقى قوم لم يكونوا يشركون بالله شيئا أي هم موحدون ، وليس معهم من الخير شيء غير الإيمان بالله والتوحيد له يدل على ما تأولناه : ما حدثنا أبو النضر محمد بن إسحاق الرشادي ، قال : حَدَّثَنا أبو بكر بن عيسى بن يزيد الطرسوسي ، قال : حَدَّثَنا نعيم بن حماد ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن الحكم بن أبان ، عن أبيه ، عن أبي قلابة قال : كان لي ابن أخ يتعاطى الشراب فمرض فبعث إلي ليلا أن الحق بي فأتيته فرأيت أسودين قد دنيا عن أبن أخي ، فقلت : إنا لله ، هلك ابن اخي ، فاطلع أبيضان من الكوة التي في البيت ، فقال أحدهما لصاحبه : انزل إليه ، فنزل إليه ، فلما نزل تنحى الأسودان فجاء فشم فاه ، فقال : ما أرى فيه ذكرا ثم شم بطنه فقال : ما أرى فيه صوما ، ثم شم رجليه ، فقال : ما أرى فيهما صلاة ، فقال له صاحبه : إن رجل من أمة محمد ليس معه من الخير شيء ، ويحك عد فانظر ، فعاد فشم فاه ، فقال : ما أرى فيه ذكرا ، ثم عاد فشم بطنه ، فقال : ما أرى فيه صوما ، ثم عاد فشم رجليه ، فقال : ما أرى فيهما صلاة ، قال : ويحك رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس معه من الخير شيء . اصعد حتى انزل أنا فنزل الآخر ، فشم فاه ، فقال : ما أرى فيه ذكرا ، ثم شم بطنه ، فقال : ما أرى فيه صوما ، ثم شم رجليه ، فقال : ما أرى فيهما صلاة ، قال : ثم عاد فأخرج لسانه فشمه ، فقال : الله تعالى أكبر تكبيره في سبيل الله يريد بها وجه الله بأنتاكية ، قال : ثم فاضت نفسه ، وشممت في البيت رائحة المسك ، فلما صليت الغداة ، قلت لأهل المسجد : هل لكم في رجل من أهل الجنة ، وحدثتهم حديث ابن اخي ، فلما بلغت بذكر انتاكية ، قالوا : لست هو بأنتاكية هي انطاكية ، قلت : لا والله لا اسميها إلا كما سماها الملك.(1/346)
@ 347@فأنجته تكبيرة أراد بها وجه الله ، وهذه التكبيرة كانت سوى الشهادة التي هي شهادة الحق التي هي الإيمان بالله ، فدل أنه أريد بالحديث إن شاء الله بمثقال حبة من شعير من خير بعد الإيمان بالله ، فشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من المؤمنين ، ومن كان معه من الإيمان خير فهو الذي يتفضل الله تعالى علي فيخرجهم من النار فضلا وكرما ، وعدا منه حقا ، وكلمة صدقا جل الله الرءوف بعباده الموفى بوعده وتعالى علوا كبيرا ، وصلى الله على محمد وآله.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا عبد الله بن محمد بن يعقوب ، قال : حَدَّثَنا عبد الصمد بن الفضل ، ومحمد بن أبي رجاء ، قالا : حدثنا عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يؤتى بالرجل يوم القيامة ، ثم يؤتى بتسعة وتسعين سجلا ، كل سجل مد البصر فيها خطاياه وذنوبه ، ثم يؤتى بالميزان فتوضع في كفة ثم يخرج له بقرطاس مثل هذا وأشار أبو عبد الرحمن المقرئ بأصبعه وامسك بإبهامه على نصف إصبعه الدعاء فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع في الكفة الأخرى فيرجح مسبحه بخطاياه وذنوبه.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : هذا إن شاء الله يكون في الشهادة التي هي الشهادة التي تخرجه من الكفر إلى الإيمان ، وهو يكون قولا ممن سبق الإيمان منه ، ثم يكون منه هذا القول بعد الإيمان بالله على معنى الذكر لله والتعظيم له ، فيكون ذلك طاعة من أراد بها وجه الله تعالى وحده ، وهو قبل ذلك مؤمن لأنها لو وضعت على الشهادة التي هي الإيمان بالله وحده لكان هذا في كل مؤمن ، ولو كان هذا في كل مؤمن لم يدخل النار مؤمن بتة ، لأن الله تعالى يقول : {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} [المؤمنون : 102] ومن أفلح يومئذ لم يدخل النار ، وقال الله تعالى {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية} [القارعة : 5 6] وقد وردت الأخبار بورود كثير من المؤمنين النار وانهم يخرجون منها بإيمانهم ، ولا يخرجون منها إلا بعد الدخول ، |(1/347)
@ 348@وقال : يخرجون من النار قد امتحشوا ، وقال : فيجعلهم في نهر يسمى نهر الحياة فينبتون . والأخبار في ورود أهل الإيمان النار وخروجهم منها لا ينكرها إلا جاحد ، ولا يردها إلا معاند ، فلهذا يجب أن يكون هذا القرطاس الذي فيه شهادة أن لا إله إلا الله ، وان محمد رسول الله ، شهادة مؤمن سبق إيمانه قبل هذا القول فيكون هذا القول منه زيادة ذكر على حسن نية ، ويكون طاعة مقبولة قالها على خلوة من المخلوقين فيكون عند الله تعالى وديعة يردها عليه في ذلك اليوم ، فيعظم قدرها ، ويجل موقعها فيرجح بخطاياه وإن كثرت ، وذنوبه وإن عظمت ، ولله الفضل على عباده يتفضل على من شاء بما شاء.
|ويجوز أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا فقد :
|حدثنا أبو رجاء أحمد بن أبي داود ، قال : حَدَّثَنا إسحاق بن أحمد السرمادي رحمه الله قال : حَدَّثَنا أبو عاصم ، قال : حَدَّثَنا عبد الحميد بن جعفر ، قال : حدثني صالح بن أبي غريب ، عن كثير بن مرة ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة.
|وقيل في تفسير أصحاب الأعراف انهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فلو كانت هذه الشهادة هي شهادة الإيمان بالله لم يجز أن يكون مؤمن يستوي حسناته وسيئاته ، لأنه لا يوازي الإيمان شيء من السيئات ، ولا يرجح به ، فيكون هذا من استوت حسناته سوى الإيمان سيئاته يدخله الجنة بعد الوقوف الطويل والحبس عن الجنة ، والخوف الذي يلحقه في مدة حبسه فيكون ذلك تمحيصا لذنوبه فيخف ذنوبه ، ويثقل موازينه فيدخل الجنة ، فإن حمل هذا على الشهادة التي هي الإيمان فإنه يجوز أن يكون هذا فيمن كان من أهل المشيئة التي ذكر الله تعالى بقوله : {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء : 48] فمن شاء الله أن يغفر ذنوبه رجح ميزان حسناته بهذه الصفة ، ومن شاء أن يعذبه عذبه بذنوبه ، وينجيه بإيمانه ، لأنه شرط المشيئة ، وقال في آية آخرى : {يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء} [المائدة : 40] وهذه الشريطة التي هي المشيئة في المؤمنين دون الكافرين لأن الله تعالى يقول : {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء : 48] فإذا خرج المشركون والكافرون في المشيئة لم تكن المشيئة إلا في المؤمنين |(1/348)
@ 349@فيغفر لمن يشاء منهم ، فلا يعذبه ويطهر من يشاء منهم بما شاء ، وله الحكم وإليه المصير . ويجوز أن يحمل هذا على الشهادة التي هي الايمان ، ويكون ذلك في كل مؤمن ، وكل مؤمن يرجح حسناته ، ويوزن إيمانه ، كما يوزن سائر حسناته ، وإيمانه يرجح بحسناته كما جاء في هذا الحديث ، ويدخل النار بعد ذلك فيطهره من ذنوبه ، فيدخله الجنة بعد ذلك ، وهذا مذهب قوم يقولون : كل مؤمن يعطى كتابه بيمينه ، وكل مؤمن يثقل ميزانه ، ويتأولون قوله تعالى : {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} [المؤمنون : 102] أي الناجون من الخلود ، وفي قوله عز وجل : {فهو في عيشة راضية} [العلق : 6] يوما ما.
|وكذلك يقولون في قوله صلى الله عليه وسلم : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة انه صائر إليها لا محالة أصابه قبل ذلك ما أصابه ، ويفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد له الخلق والأمر ، لا يسئل عما يفعل وهم يسألون.
$حديث آخر$
حدثنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا قتيبة ، قال : حَدَّثَنا رشدين بن سعد ، عن أبي هانئ الخولاني ، عن عباس الحجري ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كم اعفو عن الخادم ؟ فصمت عنه رسول الله$
ثم قال : يا رسول الله كم أعفو عن الخادم ؟ قال : كل يوم سبعين مرة.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : قوله صلى الله عليه وسلم سبعين مرة عبارة إن شاء الله تعالى من الكثرة وليس على التحديد ، فيكون ما وراء السبعين غير معفو عنه ، كأنه يقول عن الخادم أبدا ، وهذا فيما يجوز العفو عنه من سوء يأتيه إليك ، وجناية يجنيها عليك.
|فأما إذا كان ذلك في هتك حرمة في الدين ، أو جناية على أحد من المسلمين ، أو معصية لله فإنه لا يجوز العفو عنه ، بل يجب التأديب عليه والأخذ به ، كما قالت(1/349)
@ 350@عائشة رضي الله عنها : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرا من مظلمة قط غير انه كان إذا انتهك شيء من محارم الله كان اشدهم في ذلك.
|وقد وردت اخبار بذكر السبعين في مواضع كثيرة كلها تدل على الكثرة لا على التحديد والغاية ، وكذلك في كتاب الله عز وجل : {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ملف يغفر الله لهم ، [التوبة : 80] ليس هذا على التحديد والغاية لأنه لو استغفر لهم مرة لم يغفر الله لهم ، أعني المنافقين الذين نزلت الآية فيهم لأنهم كافرون ، والله لا يغفر لمن كفر به.
|وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حين عاتبه عمر في الصلاة على عبد الله ابن أبي : أخر عني يا عمر إني خيرت فاخترت ، قيل لي : {أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة : 80] لو أني أعلم اني لو زدت على السبعين غفر له لزدت.
|حدثناه محمد بن محمد ، قال : حَدَّثَنا نصر بن زكريا ، قال : حَدَّثَنا عمار بن الحسن ، قال : حَدَّثَنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ، عن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله$
فأخبر انه ليس قوله سبعين مرة على الغاية والتحديد ، ولكن على الكثرة ، وكذلك قوله تعالى : {في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا} [الحاقة : 32] هو عبارة عن الطول وليس هو على الغاية إن شاء الله أن لا يكون اطول منه ، لأنه من العذاب ، وعذاب الله للكافرين لا غاية له ، ولا نهاية طولا وألما كما أن ثوابه للمؤمنين لا غاية له ، ولا نهاية مدة ولذة لقوله تعالى : {فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين} [السجدة : 17] وقوله : {ولدينا مزيد} [ق : 35].
|حدثنا محمد بن حامد ، قال : حَدَّثَنا السري بن عصام ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن عبد الله ابن مبارك ، قال : حَدَّثَنا سعيد بن يزيد ، عن أبي السمح ، عن عيسى بن هلال الصدفي |(1/350)
@ 351@عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن رصاصة مثل هذه واشار إلى مثل جمجمة ارسلت من السماء إلى الأرض ، وهي مسيرة خمسمائة سنة بلغت الأرض قبل الليل ، ولو انها ارسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن يبلغ أصلها أو قال قعرها.
|وحدثنا محمد بن حامد ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن رضوان ، قال : حَدَّثَنا سويد ، قال : أخبرنا عبد الله ، قال : حَدَّثَنا سفيان عن نسير بن ذعلوق انه سمع نوحا يقول في قوله : {في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا} قال : كل ذراع سبعون باعا ، كل باع ابعد مما بينك وبين مكة ، وهو يومئذ في مسجد الكوفة.
|وقال كعب رحمه الله أن حلقة من السلسلة التي قال الله تعالى : {ذرعها سبعون ذراعا} أن حلقة منها مثل حديد الدنيا.
|وقد ورد في الأخبار مثل ذلك ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : إني استغفر الله في اليوم سبعين مرة ، وجاء في حديث : أكثر من سبعين مرة.
|حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن ابراهيم ، قال : حَدَّثَنا أبو ثابت محمد بن عبد الله ، قال : حدثني عبد الله بن وهب ، قال : اخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : اخبرني أبو سلمة انه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله إني لأستغفر الله واتوب في اليوم اكثر من سبعين مرة.
|حدثنا ابوالعباس أحمد بن سباع ، قال : حَدَّثَنا محمد بن الضوء ، قال : حدثنا عمرو يعنى ابن عون الواسطي ، قال : حَدَّثَنا أبو الأحوص ، عن أبي اسحاق ، عن أبي المغيرة ، |(1/351)
@ 352@عن حذيفة رضي الله عنه قال : شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرب لساني ، فقال : فأين أنت من الاستغفار فإني استغفر الله في كل يوم مائة مرة.
|فقد قال : سبعين مرة ، وقال : اكثر من سبعين مرة ، وقال : مائة مرة ، فيدل انه لم يرد بالسبعين الحد والغاية الذي ينتهي إليها ، ولكنه قال : استغفر الله في اليوم كثيرا.
|وفي حديث آخر : فإن كان لله عاصيا هوى في النار سبعين خريفا ، وقال فيه سلمان لعمر رضي الله عنهما واستعظم ذلك عمر فقال : أي والله يا عمر بن الخطاب ، ومع السبعين سبعين خريفا.
|والأخبار في ذكر السبعين كثيرة ، واكثرها عبارة عن الكثرة ، لا إخبار عن نهاية ، ووجه تخصيص السبعين من بين سائر الاعداد عند العبارة عن الكثرة إن شاء الله أن العدد قليل وكثير ، فالقليل ما دون الثلاثة ، والكثرة الثلاثة فما فوقها ، وادنى الكثير الثلاثة ، وليس لاقصاه غاية ، ثم العدد أيضا نوعان : شفع ووتر ، والشفع أول النوعين ، قال الله عز وجل : {والشفع والوتر} [الفجر : 3] وأول الإشفاع اثنان ، وأول الأوتار الثلاثة ، والواحد ليس بعدد ، الا ترى انك إذا ضربت واحد في واحد لم يخرج هناك عدد ، قال محمد بن موسى في كتاب الجبر والمقابلة : الواحد ليس بعدد وإنما العدد جماعة مركبة ، ويجوز أن يكون العدد مأخوذا من العود ، كأن العدد إعادة الحساب مرات ، فيعاد الواحد مرات فيصير عددا ، فالشفع إعادة الواحد مرتين ، والوتر إعادته ثلاث مرات ، هذا أول الأشفاع ، وأول الأوتار ، والواحد وتر ، وليس والوتر إعادته ثلاث مرات ، هذا أول الأشفاع ، وأول الأوتار ، والواحد وتر ، وليس من جهة العدد ، ولكن من جهة انه غير زوج ، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى وتر يجب الوتر لأن الله تعالى ليس بوتر من جهة العدد ، |(1/352)
@ 353@لكن من جهة أنه فرد لا يزدوج شيء ، كما انه واحد ليس من جهة العدد ، ولكن جهة انه ليس كمثله شيء ، والسبعة أول جمع الكثير من النوعين ، لأن فيها أوتار ثلاثة ، وأشفاع ثلاثة ، فأول اشفاعها الأثنان ، ثم الأربعة ، ثم الستة ، وأول أوتارها الثلاثة ، ثم الخمسة ، ثم السبعة لأن الواحد ليس بوتر من جهة العدد ، كما قلنا فالسبعة جمع كثرة العدد ، وكثرة النوعين الذين هما نوعا العدد ، ثم العشرة كمال الحساب لأن الآحاد منفرد كل عدد منها بنفسه إلى العشرة ، كقولهم اثنان ، وثلاثة ، واربعة إلى العشرة ، فإذا جاوز العشرة فهي إضافة الآحاد إلى العشرة ، كقولهم : أثنى عشر ، مرات عشر إلى عشرين ، والعشرون تكرير العشرة ، مرتين ، وثلاثون تكريرها ثلاث مرات إلى مائة ، والقول في المائة والعشرات كالقول في الآحاد والعشرة ، كذلك الألف وليس وراءه اسم للحساب ، بل هو إعادة الألف مرات وتكريره.
|فالسبعون يجمع من الكثرة ، والنوع والكثرة وكمال الحساب ، والكثرة منه ، والنوعين من الكمال ، والكثرة منهما لأنه عشر مرات سبعة فهو في كمال الحساب الذي هو العشرة كالسبعة في الآحاد ، والسبعون أدنى الكثير من العدد من كل وجه ، والأقصى لا الغاية له ، فعبر عن الكثير الذي يجاوز العدد بالسبعين لهذه العلة إن شاء الله.
|وإذا بولغ في الكثرة قالوا سبعمائة ، قال الله تعالى : {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} إلى قوله : {سبع سنابل في كل سنبلة مائة} ثم قال : {والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة : 261] فأخرجه عن الغاية والنهاية ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : للحاج الماشي بكل خطوة كذا وكذا حسنة من حسنات الحرم قيل ما حسنات الحرم ، قال : كل حسنة سبعمائة كأنه أراد المبالغة في الكثرة ، فعبر عن ذلك بالسبعمائة ، والله أعلم.
|وما سوى ذلك من الاعداد التي جاءت في القرآن والحديث فإنها محدودة متناهية ، وذلك العدد محصور على ما ذكر مثل قوله : {سبع ليال وثمانية أيام} [الحاقة : 7] وقوله تعالى : {تلك عشرة كاملة} [البقرة : 196] وقوله تعالى : {فتم ميقات ربه |(1/353)
@ 354@أربعين ليلة} [الأعراف : 142] وقوله عز وجل : {يدبر الأمر من السماء والأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقدره ألف سنة مما تعودون} [السجدة : 5] لأن بعد ما بين السماء والأرض متناه معدود ، فأخبر الله تعالى أن هذه مسافة ما بينهما نزولا وصعودا لما ورد في الأخبار أن بعد ما بين الأرض إلى السماء مسيرة خمسمائة عام.
|وقوله : {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج : 4] فهو مقصود طول ذلك اليوم على هذا العدد ، لأنه يوم متناه آخره دخول أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، والخلود فيهما لا نهاية له . والله أعلم.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن معقل ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثني يحيى بن موسى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن ابيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه ، فقال : ارسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، قال : ارجع إليه فقل له : يضع يده على متن ثور ، فله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة ، قال : أي رب ثم ماذا ، قال : ثم الموت ، قال : والآن ، قال : فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ، قال أبو هريرة رضي الله عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلو كنت ثمة لا يتكلم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر.
|قال : واخبرنا معمر ، عن همام ، قال : حَدَّثَنا أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
|وقال أبو عبد الله بن أبي حفص ، قال حَدَّثَنا أبي رحمه الله قال : أخبرنا محمد بن الفضيل ، عن محمد بن سعد ، عن حبيب بن سالم الانصاري ، قال : حَدَّثَنا أبا هريرة رضي الله عنه قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : أتى ملك الموت موسى صلوات الله عليهما ليقبض نفسه فلطمه ففقأ عينه ، فرفع ملك الموت |(1/354)
@ 355@إلى ربه وهو أعلم بما صنع ، قال : رب اتيت عبدا من عبيدك لا يريد الموت ، وصنع هذا بعيني ، قال : فرد الله عينه وقال : أنت عبدي فخبره أن يضرب بيده على جلد ثور فما وأرت يده من شعر فهو يعيش بها سنة ثم يموت ، قال موسى : لا بل الآن يا رب إن كان لا بد ، ولكن بالأرض المقدسة ، قال : فدفن عند الكثيب الاحمر ، ولو اني كنت عنده لأريتكم مكان قبره.
|وقال أيضا : حَدَّثَنا أبو سلمة قال : أخبرنا عماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، قال : سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا فأتى موسى بن عمران صلوات الله عليه فلطمه موسى عليه السلام ففقأ عينه فذكر نحو الذي قبله.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله تعالى : روت الأئمة هذا الحديث من وجوه كثيرة ، ووضعوه في كتبهم ، وصححوه ، وعدلوا رؤيته ، واستفظعه ، قوم فجحدوه ، وانكروه فردوه لضيق صدورهم ، وقصور علمهم ، وقلة معرفتهم بالحديث وهذا الحديث ادخلوه في الصحاح حتى رضوا إسناده أهل العلم بالحديث ، وأهل المعرفة بالرجال ، والحديث إذا صح من جهة النقل فإنه يجب قبوله ، فإن كان من باب المتواتر فإنه يوجب العلم والعمل ، وإن كان من باب الآحاد ، فإنه يوجب العمل ، ولا يوجب العلم.
|وهذا الحديث وإن كان مما لا يوجب العلم عند بعض الناس ، فإنه مما يوجب العمل لو كان من باب العمل لشهرته في نفسه ، وعدالة رؤيته وصحت إسناده ، ومما كان هذا سبيله ، وإن كان لا يوجب العلم فإنه لا يجب رده وانكاره ودفعه ، فإن في رده تكذيب الأئمة وجرح عدول الأئمة.
|وسمعت أبا محمد بن أحمد بن عبد الله المزني يقول : لعلماء الأثر في تلقي الأخبار المشابهة مذهبان : أحدهما : أن الإيمان بها فرض كالإيمان بمتشابه القرآن حين يقول : {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} [آل عمران : 7] أي |(1/355)
@ 356@: كل من المحكم والمتشابه من عند ربنا ، وقد استأثر الله تعالى بعلم المشابهة في هذا القول فلا يعلمه إلا الله عز وجل ، قالوا : فمثله المتشابه من اخبار الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حجب عنا علم تأويله امنا وصدقنا بما قال ، ووكلنا علم تأويله إلى الله عز وجل ثم :
|حدثنا أحمد بن عبد الله ، قال : حَدَّثَنا القاسم بن زكريا المقرئ ، قال : حَدَّثَنا محمد بن الصباح ، قال : حَدَّثَنا الوليد بن مسلم ، عن الاوزاعي انه سأل الزهري عن بعض الأخبار المشابهة ؟ فقال : من الله العلم ، وعلى رسوله البلاغ ، وعلينا التسليم ، أمروا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت.
|وقال عبد الله بن نافع : سئل مالك بن أنس عن قوله : {الرحمن على العرش استوى} [طه : 5] كيف استوى ؟ فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واحب ، والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلا ضالا.
|هذا مذهب كثير من العلماء.
|قال : والمذهب الثاني : أن الإيمان بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فرض ، والبحث عن متشابه التنزيل ، وأخبار الرسول واجب في الأصول والعقول فرارا من تعطيل الصفات وآفة التشبيهات.
|قال : والقدوة في هذا المذهب علي ، وابن عباس رضي الله عنهما ومن تابعهما من فقهاء أهل الأثر.
|قال : وبمعرفة المحكم والمتشابه تميز الفاضل من المفضول ، والعالم من المتعلم ، والحكيم من المتعجرف ، ومن أمر الأحاديث على ما جاءت حين التبس عليه كنه معرفتها لم يردها راو منكر جاحد ، بل أمن واستسلم ، وانقاد ووكل علمه إلى الله تعالى ، وإلى من علمه الله ، {وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف : 76].
|ورد الأخبار ، والمتشابه من القرآن طريق سهل يستوي فيه العالم والجاهل ، والسفية والعاقل ، وإنما يتبين فضل علم العلماء ، وعقل العقلاء بالبحث والتفتيش ، واستخراج الحكمة من الآية ، والسنة ، وحمل الأخبار على ما يوافق الاصول ، وتصححه العقول.(1/356)
@ 357@وهذا الحديث له في كتاب الله نصا نظيره ، قال تعالى في خبر موسى وهارون عليهما السلام : {ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} إلى قوله : {وأخذ برأس أخيه يجره إليه} [الأعراف : 150] ، وقال : {يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} [طه : 94].
|وليس الجر إليك بالخشونة والغلظة باقل من الدفع عنك بالخشونة والغلطة ، وهو الصك واللطم ، دفع عنك بغلطة خشونة فما سواه ، وليس هارون بأدون منزلة من ملك الموت صلوات الله عليهما ، بل هو اجل قدرا منه ، وأعلى مرتبة ، وابين فضلا عند اكثر علماء الأمة من أهل النظر والأثر ، لأنه صلى الله عليه وسلم نبي مرسل ، قال الله تعالى : {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملائه} [المؤمنون : 45] وهو مع جليل قدره في نبوته ، وعلو درجته في رسالته أخو موسى لأبيه وأمه ، واكبر سنا منه . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حق كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده.
|فإذا أخبر الله تعالى عن موسى عليه السلام انه اخذ برأسه ولحيته ، وجره إليه بعنف وغلظة حتى استعطفه عليه ، واعتذر إليه ، فقال : {يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} [طه : 94] وقوله {إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني فلا تشمت بي الأعداء} [الأعراف : 150] ولولا ذلك عسى كان يكون منه ما هو اعظم مما صنع به ، ثم لم نجد في الكتاب ما يدل على الكتاب الله إياه ، ولا على توبته منه ، ولو كان ذلك منه صغيرة أو ذلة لظهر ذلك نصا في الكتاب أو دلالة ، كما ذكر الله تعالى زلات الأنبياء صلوات الله عليهم ومعاتبته إياهم عليها ، وتوبتهم منها إلى الله ، ورجوعهم إليه واستغفارهم إياه واعترافهم على أنفسهم بالظلم لها كما قال جل جلاله في قصة آدم صلوات الله عليه : |(1/357)
@ 358@{ألم أنهكما عن تلكما الشجرة} [الأعراف : 22] هذا عتابه لهما من إملالها في الآيات ، وقال تعالى في اعترافهما وتوبتهما : {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف : 23] ، وقال تعالى في قصة نوح عليه السلام : {فلا تسألن ما ليس لك به علم إنى اعظك أن تكون من الجاهلين} [هود : 46] ، وقال عز وجل في اعترافه وتوبته : {رب إني أعوذ بك أن أسالك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} [هود : 47] ، وفي قصة داود صلوات الله عليه : {وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا واناب} [ص : 24] فغفر له ذلك ، وقال عز وجل في موسى عليه السلام وقتله القبطي : {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} [القصص : 15] ، وقال تعالى : {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} [القصص : 16] فغفر له.
|فلو كان جره أخاه إليه واخذه براسه ولحيته زلة منه لظهر اعترافه على نفسه وتوبته إلى ربه ، أو معاتبة الله إياه فلما لم يكن دل انه لم يكن منه معصية ولا زلة ، كذلك صكه ملك الموت ولطمه إياه لأنهما عنفان ، أحدهما بالرفع عنك ، والآخر بالجر إلى كريمين إلى الله تعالى أحدهما رسول نبي ، والآخر ملك زكي ، وكما لم يرد في الكتاب عتاب ولا توبة ، واعتراف في قصة الملك فما جاز في الكتاب من التأويل ساغ ذلك في الخبر إن شاء الله ، وإنما لم يكن فعله صلى الله عليه وسلم بهارون مع عظيم حرمته لنبوته ورسالته واخوته وقرابته وحق سنه زلة لأنه عليه السلام غضب لله لا لنفسه ، وكانت فيه حمية وغضب وعجلة وحدة كلها في الله والله.
|الا يرى إلى قوله تعالى : {وما اعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على اثري وعجلت إليك رب لترضى} طه : 83 84] ، وخبر أن عجلته كان طلبا لرضاه ، كذلك حدته وغضبه على أخيه وصنيعه به ، الا تراه يقول : {ما منعك إذا رأيتهم ضلوا ألا تتبعن افعصيت أمري} [طه : 92 93] فكانت تلك الحدة منه والغضب فيه صفة مدح له لأنها كانت لله ، وفي الله كما كانت رأفة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته في الله ولله ، ثم كان يغضب حتى يحمر وجهه ، وتذر عروقه لله وفي الله ، وبذلك وصف الله تعالى المؤمنين بقوله : {اشداء على الكفار رحماء بينهم} وفي الله ، وبذلك وصف الله تعالى المؤمنين بقوله : {أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح : 29] ، وقال تعالى : {أذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين} [المائدة : 54] |(1/358)
@ 359@وقال جل جلاله : {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور : 2] فلو كانت الغلظة والشدة في الله ولله كذلك الغضب والحدة مع موسى لله وفي الله ، والجميع صفة مدح ونعت ثناء . الا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام في مدحه أبا بكر رضي الله عنه في رقته ورحمته وتشبيهه إياه بإبراهيم إذ يقول : {يجادلنا في قوم لوط} [هود : 74] وقوله : {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم : 36] ، وعيسى عليه السلام حين قال : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة : 118] ، وقوله صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه ومدحه له في غلظته وشدته في الله ولله ، وتشبيهه إياه بنوح عليه السلام حين قال : {لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} [نوح : 26] فأوصاف الأنبياء صلوات الله عليهم ، والرسل عليهم الصلاة والسلام أوصاف مدح ونعوتهم نعوت ثناء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين.
|فيجوز أن يكون صكه لملك الموت ، ولطمه إياه لم يكن زلة لأنها لم تكن بغضب نفسه ، وإنما كان غضبا لله ، وشدة في أمر الله ، وحمية لدين الله ، وذلك أن الملك أتاه في صورة إنسان.
|فيجوز أن يكون موسى لم يعرف انه ملك رسول الله ، كما لم يعرف النبي صلى الله عليه وسلم جبريل صلوات الله عليه حين جاءه يسأله عن الإيمان والإسلام حتى قال صلى الله عليه وسلم : هذا جبريل أتاكم ليعلمكم معالم دينكم ، والله ما أتاني في صورة قط إلا وقد عرفته فيها إلا في هذه الصورة ، فكذلك موسى يجوز أن يكون اتاه في صورة لم يأته فيها قبلها ، فلم يعرفه ثم أراد قبض روحه أنكر أن يكون إنسان يريد قبض روح كليم الله ورسوله ، وصكه ولطمه إنكارا له وردا عليه أنه ملك ، وانه لله رسول أنكر عليه إدعاءه ما ليس للبشر من قبض أرواح الانبياء ، ومن أدعى ذلك من البشر فهو كاذب على الله فغضب لله فصكه ولطمه ، ألا ترى منه مما عاد إليه فخيره بين أن يضع يده على خبب ثور وان يموت ، اختار الموت استسلاما لله ورضاء لحكمه ، وتصديقا لرسوله.
|وأما فقؤ عينه فإنه لم يكن فعلا لموسى صلوات الله عليه ، وإن كان على اثر لطمه إياه وصكه له ، وإنما كان ذلك فعل الله تعالى أحدثه في الصورة التي أتي الملك فيها ، |(1/359)
@ 360@وذلك أن الإنسان عندنا لا يفعل في غيره ، وإنما يفعل في نفسه ومحل قدرته ، وما يحدث بعد ذلك من ألم عند الضرب ، وموت عند قطع الاوداج ، وذهاب السهم بعد الرمي ، والإحراق عند اشتعال النار في الحطب والجمع بينهما ، والبرد في الثلج وغير ذلك مما يظهر بعد حركات المحدث في نفسه ، فإنها كلها أفعال الله تعالى احدثها واخترعها ، وكذلك الإحراق عند الاشتعال النار في الحطب والجمع بينهما ، والبرد في الثلج وغير ذلك كلها أفعال الله تعالى يحدثها ويخترعها الله إذا شاء وحين يريد ، وإن كان ذلك اثر حركات المحدث في نفسه ، والفقاء إنما حل في الصورة لا في الملك لأن بنية الملائكة وخلقه ليست من الامشاج والطبائع المختلفة التي تقبل الكون والفساد وتحلها الآفات ، ويؤثر فيها أفعال المحدث لأنهم لا يمنون ، ولا يتوالدون ، ولا ينامون ولا يأكلون ، ولا يسأمون ، ولا يستجرون ، ولا يفقرون وكل هذه آفات ، والفقؤ آفة ، وهم لا يحلهم الآفات.
|فالآفة التي هي الفقؤ إنما حل في الصورة التي جاء الملك فيها لا في عين الملك ، وليس الملائكة كالناس ، فإن الناس إنسان بصورته وخواصه ، ولا يكون الإنسان إنسانا بخواصه دون صورته التي هي صورة الناس ، فإنه وإن وجدت خواصه في نوع من أنواع الحيوان ، ولم توجد صورة الإنسان فليس ذلك النوع إنسانا حتى يوجد ثلاثة الإنسان وصورته وخواصه ، والملك ملك بخواصه دون صورته ، لأن صورهم مختلفة وخواصهم واحدة ، فمنهم من هو فيهم على صورة الإنسان ، ومنهم علي صورة الطير ومنهم على صورة السباع ، ومنهم على صورة الأنعام ، وكلهم ملائكة ولهم أجنحة على اعداد متفاوتة ، قال الله تعالى : {والحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع} ثم قال : {يزيد في الخلق ما يشاء} [فاطر : 1] ، وقيل في حملة العرش انهم أملاك أحدهم على صورة الإنسان يشفع إلى الله في أرزاقهم ، والثاني على صورة النسر يشفع إلى الله في أرزاق الطير ، والثالث على صورة الأسد يشفع إلى الله تعالى في أرزاق البهائم ودفع الأذى عنهم ، والرابع على صورة الثور يشفع إلى الله تعالى في أرزاق البهائم ، ودفع الأذى عنهم يصدق ذلك.
|ما حدثنا محمد بن حامد القواريري ، قال : حَدَّثَنا حامد بن سهل ، قال : حَدَّثَنا هناد بن السري ، قال : حَدَّثَنا عبدة ، عن محمد بن اسحاق ، عن يعقوب بن عتبة ، عن عكرمة |(1/360)
@ 361@عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أمية بن أبي الصلت في بيتين من شعره قال : % ( زحل وثور تحت رجل يمنيه % والنسر للأخرى وليث مرصد ) % فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق قال ، وقال : % ( والشمس تطلع كل آخر ليلة % حمراء يصبح لونها يتورد ) % [فقال قائل] % ( تأبى فما تطلع لنا في رسلها % إلا معذبة وإلا تجلد ) % فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق.
|فما كانت الصور صورة أسد ، وثور ونسر ، وإنسان ، وهو ملك بان إن الملك لم يكن ملكا للصورة ، وإنما هو ملك بخاصية الذي هو خاصية ، والإنسان إنسان بخاصيته وصورته ، الا ترى أن جبريل عليه السلام كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة دحية الكلبي ، وهو صلى الله عليه وسلم بصورته التي هو صورته كما شاء من عظم خلقه ، وعجب صورته.
|حدثنا خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن معقل ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل قال : حَدَّثَنا أبو النعمان ، قال : حَدَّثَنا عبد الواحد ، قال : حَدَّثَنا الشيباني ، قال : سمعت الرز عن عبد الله : {فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم : 8 9] قال ابن مسعود رضي الله عنهما : انه رأي جبريل وله ستمائة جناح.
|وح محمد بن محمد ، قال : حَدَّثَنا نصر بن زكريا ، قال : حَدَّثَنا عمار بن الحسن ، قال : حَدَّثَنا سلمة بن الفضل ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسحاق ، عن الفضل بن عيسى ، عن عمه يزيد بن ابان الراشي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قيل لرسول صلى الله عليه وسلم : يا نبي الله من هؤلاء الذين استثنى الله عز وجل ؟ قال : جبريل وميكائيل وملك الموت ، فيقول الله تعالى لملك الموت : يا ملك الموت خذ |(1/361)
@ 362@نفس ميكائيل فيأخذ فيقع في صورته التي خلقه الله فيها مثل الطود العظيم ، ثم يقول وهو أعلم : يا ملك الموت من بقي ، قال : فيقول : سبحانك ذا الجلال والإكرام بقي جبريل ، وملك الموت ، قال : يقول : يا ملك الموت مت ، قال فيموت فيبقى جبريل وهو من الله بالمكان الذي ذكر لكم فيقول الله تعالى : يا جبريل إنه لا بد من أن تموت فيقع ساجدا يخفق بجناحيه سبحانك ربي وبحمدك أنت الباقي الدائم ، وجبريل الفاني الهالك الميت ، قال : فيأخذ الله تعالى روحه فيقع على ميكائيل ، وإن فضل خلقه على خلق ميكائيل كفضل الطود العظيم على الظرب من الظرب ، ثم يمكث الله كما كان ليس معه شيء من الخلق ما شاء ، وليس لأحد من العباد علم بما هو ماكث.
|وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته قد سد الأفق.
|حدثنا المحمودي ، قال : حَدَّثَنا محمد بن يحيى بن سليمان ، قال : حَدَّثَنا سعيد بن سليمان ، قال : حَدَّثَنا سعيد عن قتادة ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم : رأيت جبريل منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض فهذه صورته التي صورته التي هو عليها.
|ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم على صورة دحية وهو إذ ذاك جبريل على الحقيقة يقول الله عز وجل {نزل به الروح الأمين على قلبك} [الشعراء : 193] ، وقال عز وجل : {إنه لقول رسول كريم} [الحاقة : 40] فالنازل بالقرآن والوحي هو جبريل على الحقيقة ، والصورة صورة دحية.
|قال : وسمعت بعض شيوخ المتكلمين يقول : إنه كان يخلقه الله في ذلك الوقت إنسانا وبشرا ، وهذا لا يستقيم وهو وهم منه ، وذلك أنه لو كان كما قاله لكان قول المشركين صدقا حيث قالوا : {إنما يعلمه بشر} [النحل : 103] والله عز وجل يقول : {علمه شديد القوى} [النجم : 5] وقال : {نزل به الروح الأمين} [الشعراء : 193] |(1/362)
@ 363@إذا فجبريل صلوات الله تعالى عليه وإن كانت الصورة صورة إنسان ، إذا فالصورة ليس الملك ، وإن كان الملك في تلك الصورة.
|وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما : حَدَّثَنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا أبو معاوية ، عن عبد الرحمن ابن اسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن علي رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن في الجنة لسوقا ما فيها شراء ولا بيع إلا صورة الرجال والنساء من اشتهى صورة دخل فيها.
|فأخبر أن الصورة غير الذي يدخل فيها فكذلك الصورة التي أتى ملك الموت فيها موسى ، هي صورة ادخل الله الملك فيها ، والفقاء إنما حل في الصورة دون الملك ، وهو أن يكون الله تعالى اذهب عين الصورة عند لطم موسى عليه السلام ، فكأنه في ذلك الوقت في صورة رجل اعور ، كما كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل ليست له اجنحة ، ولا على ذلك العظم الذي أتى له مرة على صورة دحية فهو يعرفه فيها ، ومرة على صورة غيره فلم يعرفه فيها ، كذلك ملك الموت أتى موسى صلوات الله عليهما حين اتاه على صورة إنسان صحيح العينين ، ثم نقله الله عند لطم موسى على صورة إنسان فقئت عينه ، وهو ملك كما هو قبل انتقاله إلى إحدى الصورتين لم ينتقل من الملكية إلى الإنسانية والبشرية.
|والله تعالى فعل ذلك بها اعني الصورة دون موسى ، والله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وهو مصيب في أفعاله ، وأفعاله كلها حكمة لأنه تعالى لم يفعل عبثا ولا سفها ، تعالى الله عن السفه والعبث علوا كبيرا ، فأفعاله كلها حكمه وصواب ، وإن جهل وجه الحكمة فيها ، والله أعلم.
$حديث آخر$
حدثنا أحمد بن عبد الله الهروي ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن نجدة ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن عبد الحميد ، قال : حَدَّثَنا عبد العزيز ، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فقال معاذ : أوصني يا رسول الله ، قال : عليك بتقوى الله ما |(1/363)
@ 364@استطعت ، واذكر الله عند كل شجرة وحجر ، وإذا عملت شرا فأحدث لله توبة ، السر بالسر ، والعلانية بالعلانية.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : قوله صلى الله عليه وسلم : عليك بتقوى الله ما استطعت قول اديب متأدب بأدب الله تعالى موافق الله عز وجل قولا وفعلا وخلقا لا يتقدم بين يدي الله عز وجل ، ولا يتأتي عليه صلى الله عليه وسلم سمع الله عز وجل يقول منزلا عليه موحيا إليه ، {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن : 16] فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل.
|فيجوز أن يكون معنى قوله ما استطعت أي على مقدار طاعتك ، ومبلغ قدرتك ، فإنك لن تطيق قدره ، ولا تتقيه حق تقاته ، لانه تعالى لا يعبد حق عبادته ، ولا يطاق إقامة حقه على قدر ما يستحقه ، لكن على قدر القوة ، ومبلغ الطاقة.
|ويجوز أن يكون قوله ما استطعت أي بجميع استطاعتك ، واستفراغ طاقتك وبذل جهودك حتى لا تبقى مما تستطيع ، ولا تستبقي مما تطيق شيئا إلا بذلته في تقواه ، طلبا لمرضاته ، ووفاء بعهده ، مستعينا بالله مفتقرا إليه كما قال : {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة : 5].
|وقوله : واذكر الله عند كل شجر وحجر أي حيث ما كنت من سفر وحضر فيكون الشجر إشارة إلى الحضر ، والحجر عبارة عن السفر ، ويجوز أن يكون معناه في الرخاء والشدة ، والخصب والجدب ، والسراء والضراء ، فيكون المشجر عبارة عن الخصب وهو حال الرخاء والسراء ، والحجر عبارة عن الجدب ، وهو حال الشدة والضراء ، قال الله تعالى : {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} [آل عمران : 191] وهو الذكر الكثير الذي قال الله عز وجل : {أذكروا الله ذكرا كثيرا} [الأحزاب : 41].
|وقوله صلى الله عليه وسلم : وإذا عملت شرا فأحدث لله توبة أشار إلى ضعف البشرية وعجز الإنسانية كأنه يقول : إنك أن توقيت بجميع استطاعتك فغير سليم |(1/364)
@ 365@من شر تعمله ، وسوء تأتيه ، فعليك بالرجوع إلي الله ، والتوبة إليه ، ولم يقل صلى الله عليه وسلم إياك أن تعمل سوء أو أحذر أن تأتي شرا علما منه بأن العبد مجري قدر الله فلا يمكنه التحرز عما قدر الله عليه.
|حدثنا خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن معقل ، قال : حَدَّثَنا محمد بن اسماعيل ، قال : حَدَّثَنا اصبغ ، قال : اخبرني أبن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رجل شاب ، وإني أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما اتزوج به النساء ، فسكت عني ، ثم قلت مثل ذلك ، فسكت عني ، ثم قلت مثل ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو ذر.
|وحدثنا خلف ، قال : حَدَّثَنا ابراهيم ، قال : حَدَّثَنا محمد ، قال : حدثني محمود بن غيلان ، قال : حَدَّثَنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر بن ابن طاوس ، عن ابيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك لا محالة فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تمني وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك ويكذبه.
|فأمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا بالتوبة ، وأوصاه بها إذ علم صلى الله عليه وسلم انه لاق ما كتب عليه ، وأت ما سبق القدر به ، فقال : إذا عملت شرا كأنه يقوله له لا بد لك من شر تعمله لأن ذلك مكتوب عليك فأحدث لله توبة ، وانه لا يؤتى العبد من الخطأ والمعصية وإن عظمت وإن كثرت ، وإنما يؤتي من ترك التوبة فإن الله يحب المفتن التواب.(1/365)
@ 366@حدثنا نصر بن الفتح ، قال : محمد بن عيسى ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن منيع ، قال : حَدَّثَنا زيد بن حباب ، قال : حَدَّثَنا علي بن مسعدة الباهلي ، قال : حَدَّثَنا قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
|حدثنا أحمد بن عبد الله ، قال : حَدَّثَنا ابن نجدة ، قال : حَدَّثَنا الحماني ، قال : حَدَّثَنا معلي بن منصور ، عن ليث بن سعد ، عن محمد بن قيس ، عن أبي صرمة ، عن أبي ايوب ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم أو يخلق قوما يذنبون فيغفر لهم.
|كأنه يقول : خير بني آدم التوابون والله أعلم.
|وقال بعض الكبراء : أن الله تعالى خلق الإنسان وفيه شموخ وعلو وترفع وهو ينظر إلى نفسه ابدا ، والله عز وجل خلق العبد المؤمن لنفسه ، وخلق سائر الأشياء له فأحب الله تعالى من المؤمنين نظره إلى ربه ، وإعراضه عما سواه لذلك سخر له ما في السموات والأرض جميعا منه ليرجع عن مصالح نفسه ، والشغل بها إلى ربه بالإقبال عليه ، والخدمة له لأنه أقام بمصالحة قوما هم اشد قوة منه ، وأهدى لمصالحة ، وأعلم لمرافقه من العبد ، وجعل له حظه من بين يديه ومن خلفه معقبات فكفاه ربه كل مؤنة دينيه ودنياوية ، بعث رسلا ، وأنزل كتبا وأقام شريعة ، ونصب له دعاة ، وجعل له شفعاء من حملة عرشه ، وكرام ملائكته ، ليتفرغ العبد لربه تعالى إقبالا عليه ، ونظرا إليه ، وعلم عز وجل انه مع هذا كله ينظر إلى نفسه ، ويقبل عليها ، إعجابا بها ، وعكوفا عليها فكتب عليه ما يصرفه إليه ، وقدر له ما يشغله به ، وإذا شغل عنه وصرف منه من شر يعمله ، وسوء يأتيه ، ومعصية يرتكبها ، وكبيرة يواقعها ، وصغيرة لا يمتنع منها . ينبهه لنظره إليه ، ويبعثه على إقباله عليه ، فقال تعالى : {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة : 222] ، وقال تعالى : {توبوا إلى الله جميعا أيها |(1/366)
@ 367@المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور : 31] ، وقال جل جلاله : {وأنيبوا إلى ربكم واسلموا له} [الزمر : 54] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لله افرح بتوبة عبده من أحدكم بضالته يجدها بأرض فلاة ، وقال : النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يحب المفتن التواب ، وقال : السر بالسر والعلانية بالعلانية.
|أخبر أن الشر الذي عمله على ضربين ، وفي حالين سرا وجهرا ، فالسر أفعال القلوب والعلانية أفعال الجوارح كأنه صلى الله عليه وسلم يقول : إذا عملت شرا بسرك فأحدث توبة بسرك ، وإذا عملت سرا بجوارحك فأحدث توبة بجوارحك . فأفعال السر من الذنوب فيما بينه وبين الله طمع إلى غير الله ، ومخافة منه ورجاء إليه ، ومعاداة اوليائه ، وموالاة أعدائه ، قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة : 11].
|وفيما بينه وبين عباد الله حسد لمؤمن ، وتهمة لبرئ ، وبغي على مسلم ، وحقد يضمره ، وسوء يريده به ، وما سوى ذلك من أفعال القلوب ، فعليه أن يحدث توبة منها بسره باكتساب ما يزيلها ويثبت اضدادها لأن سائر أعمال الجوارح من صلاة وصوم وحج وغزو وأمثالها لا يجدي عليه كثير نفع منها مع فساد السر ونجاسة القلب ، فإن القلب لا يكاد يطهرها بأفعال الجوارح.
|قال : أبو إسحاق بن محمد الحكم لأبي بكر الوراق رحمه الله : % ( إن الجرائم اقفلت باب الهدى % فالعلم ليس بفاتح اقفالها ) % % ( إن القلوب تنجست ببطالة % فالسعي غير مطهر أفعالها ) % وذنوب العلانية فيما بين الله والعبد ترك ما أمر به ، وارتكاب ما نهي عنه من تضييع فرض وإضاعة حق ، ومجاوزة حد ، وقصور عنه . وفيما بينه وبين خلق الله تعالى : المظالم والجنايات قولا وفعلا ، وتوبة العبد منها علانية من رد المظالم ، والاستحلال من اربابها ، والخروج إليهم محالتهم عليه ، وقضاء ما فات من فرائض الله من صلاة وصوم وزكاة وحج ، والانتهاء عما نهي عنه وإخراج ما حصل من مال ، أو متاع كما قال الله تعالى : {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} [البقرة : 279].(1/367)
@ 368@وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أدوا الخائط والمخيط لأنه لا ينفع العبد ندمه بسره على ما مضى مع إقامته على مثله في الوقت ، وتوبته من ارتكاب المظالم بسره مع تمسكه بما في يديه . روي في الحديث : إذا قال الملبى : لبيك اللهم لبيك ، وعنده مال حرام قيل له : لا لبيك ، ولا سعديك حتى ترد ما في يديك لذلك قال : السر بالسر : والعلانية بالعلانية.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا مروان بن معاوية ، عن حميد ، عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : يجوز أن يكون معناه : أي لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي ، كأنه يقول : تسموا باسمي ، فإذا سميت باسمي فلا تكنوا بكنيتي فتجمعون بين اسمي وكنيتي ، ويجوز أن يكون معناه إباحة الاسم وحظر الكنية ، فيكون الاسم محمدا جائزا مأذونا به ، ويكون التكني بأبي القاسم محظورا ، وإن كان الاسم غير محمد ، وهذا في عصره صلى الله عليه وسلم انه هو المدعو فيلتفت أو يجيب فيتأذى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى : {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} [الأحزاب : 53].
|يصدق ذلك حديثه الآخر انه مر ببعض الطريق فنادى رجل يا أبا القاسم فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرجل : لم اعنك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي.
|قال : حَدَّثَنا محمد بن نعيم ، قال : حَدَّثَنا أبو حاتم الرازي ، قال : حَدَّثَنا الانصاري ، قال : حَدَّثَنا حميد ، عن أنس رضي الله عنه قال : نادى رجل يا أبا القاسم فالتفت |(1/368)
@ 369@إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني لم اعنك إنما دعوت فلانا ، فقال صلى الله عليه وسلم : تسموا باسمي ، ولا تكنوا بكنيتي.
|وإنما نهى عن الكنية في حياته ، ولم ينه عن الاسم لأنه لم يكن يقع الاشتباه بالاسم لأن الله عز وجل نهي أن يدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه فيقال : يا محمد ، قال الله تعالى : {لا تجعلوا دعاء الرسول كدعاء بعضكم بعضا} [النور : 63].
|فكان المسلمون لا يسمونه باسمه داعيا ، فإذا سمع من ينادي يا محمد يعلم صلى الله عليه وسلم أن المدعو غيره فلا يلتفت ولا يجيب لعلمه بأنه ليس المدعو ، ولم يرد النهي عن الكنية ، فكان يجوز أن يقال : يا أبا القاسم ، فإذا سمع من ينادي يا أبا القاسم التفت ، ولم يكن هو المدعو ، فيكون فيه أذاه لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يلتفت إذا مشى ، فإذا التفت لا لمعنى كان في ذلك أذاه ، وليس للمؤمنين أن يؤذوه.
|فعلى هذا يجوز التكني بأبي القاسم بعده ، ولا يجوز جمع اسمه وكنيته لأن فيه نقصا في توقيره واجلاله ، وقد أمر الله تعالى بتوقيره وإجلاله فقال : {لتؤمنوا بألله ورسوله وتعززوه وتوقروه} [الفتح : 9].
|ومما يدل على ذلك انه كان في حياته صلى الله عليه وسلم من سمي محمدا منهم : محمد بن مسلمة ، ومحمد بن أبي بكر ، يقال : انه ولد في حياته وغيرهما ، ولم يعلم في حياته من كنى بابي القاسم ، والله تعالى أعلم.
$حديث آخر$
حدثنا حاتم ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا يحيى ، قال : حَدَّثَنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس رضي الله عنه قال : مات رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليه خيرا فقال صلى الله عليه وسلم : وجبت ثم مات آخر فأثنوا عليه شرا فقال صلى الله عليه وسلم : وجبت فقالوا يا رسول الله مات فلان فأثنوا عليه خيرا فقلت وجبت ، ثم مات فلان فأثنوا عليه شرا فقلت : وجبت . فقال : إنكم شهداء الله في الارض ، إن الله عز وجل جعل هذه الأمة |(1/369)
@ 370@شهداء على الأمم كلها يوم القيامة ، قال الله تعالى : {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة : 143].
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حدثناه نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا عبد بن حميد ، قال : حَدَّثَنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا الاعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدعى نوح صلوات الله عليه فيقال : هل بلغت ، فيقول : نعم ، فيدعا قومه ، فيقال : هل بلغكم ، فيقولون : ما أتانا من نذير ، وما اتانا من احد ، فيقال : من شهودك ، فيقول : محمد وامته ، قال : فيؤتى بكم تشهدون انه قد بلغ فذلك قوله {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}.
|والوسط العدل ، فإذا جعل الله هذه الأمة شهداء على الناس يوم القيامة ، وعدلهم الله بقوله : {جعلناكم أمة وسطا} [البقرة : 143] أي عدل فشهادة العدل مقبولة لا ترد ، والحكم به واجب في القضاء ، فإذا شهدوا على إنسان بصلاح قبلت شهادتهم ، وإن كان الأمر في المغيب غير ذلك ، وإذا شهدوا على آخر بفساد قبلت شهادتهم ، وإن كان الأمر في المغيب غير ذلك ، لأن على الحاكم القضاء بشهادة العدول.
|فهذه الأمة شهود ، والله عدلهم ، ورسوله صلى الله عليه وسلم زكاهم بقوله : {ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة : 143] ، وقد قال الله تعالى : {كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} [آل عمران : 110] فوصفهم الله تعالى بهذه الصفة ، وقال في غيرهم : {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} [البقرة : 44] فغيرهم كانوا يأمرون الناس بالبر وهو الإيمان بالله تعالى ورسوله |(1/370)
@ 371@ثم لا يؤمنون هم ، وهم اليهود وبعض مشركي قريش ، والمؤمنين بخلاف ذلك فهم يأمرون بالمعروف ويأتونه ، وينهون عن المنكر ويجتنبونه ، فهم عدول صادقون بتعديل الله لهم ، وهم ازكياء صديقون بتزكية رسول الله لهم فوجبت القضية بشهادتهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وجبت ، وجبت إنهم شهداء الله في الأرض.
|ومعنى قوله في الأرض انه أوجب على الحكام القضاء بها بشهادتهم في الدماء ، والفروج ، والأموال على ما يعرف الله منهم فهو عز وجل يحكم بشهادتهم على ما يعرف منهم.
|وقوله وجبت في الثناء الحسن فذلك ستر من الله وتجاوز عما عرف من المثنى عليه ، وذلك فضل من الله عز وجل وكرم في قبول شهادة أوليائه لئلا يقع في شهادتهم جرح ، وتجاوز عن المشهود له وستر عليه ، وهذا يليق بالله وفضله وكرمه.
|حدثنا أحمد بن محمد العجلي ، قال : حَدَّثَنا أبو أحمد بن ياسين بن النصر ، قال : حَدَّثَنا الحسين بن بشر بن القاسم ، قال : حَدَّثَنا ابي ، قال : حَدَّثَنا أبو الاحوص ، قال : حَدَّثَنا خالد بن اعين ، عن أبي العلاء ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فأحسن الناس الثناء عليه ، فجاء جبريل صلوات الله عليه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إن صاحبكم ليس كما يقولون ، إنه كان يسر كذا ، ويعلن كذا ، ولكن الله صدقكم فيما يقولون وغفر له ما لا تعلمون.
|وأما قوله وجبت في الثناء السيء فلأنه لا يجوز أن يعرف الله من الشهود عليه بالشر خلاف ما شهدوا فيه لأنهم لا يشهدون إلا ما ظهر من المشهود عليه ، وما ظهر من سيء عمله فهو معصية لله ، وهو بها مجروح عاص سواء وافق باطنه ظاهره ، أو خالفه لأن ذلك الذي ظهر منه سيء لا محاله فالله تعالى إذا عذبه وحكم بشهادتهم فقد عذبه علي ما يستحقه لأنه فعل الذي نهى عنه ووجب وعيد الله له ، فإن حكم عليه بما اوعده به لم يكن معذبا له ، وهو لا يستحقه ، بل يكون معذبا لمن يستحق العذاب ، فإذا تجاوز عمن يستحق العذاب على ما علمه منه ثم حكم بشهادة الشهود له كان ذلك مغفرة وتجاوزا ، وهما من صفات الله عز وجل وهو اصل التقوى وأهل المغفرة ، لأنه يجوز أن يتجاوز الله تعالى عن المسيء فلا يعاقبه على إساءته ، ولا يجوز أن يعذبه أو يعاقبه من غير جرم كان منه بشهادة غيره عليه ، والله أعلم.(1/371)
@ 372@$ حديث آخر$
حَدَّثَنا نصر بن الفتح ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا قتيبة ، قال : حَدَّثَنا حماد بن يحيى الاشج ، عن ثابت البناني ، عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره.
|وحدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن ابراهيم ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثني أبو حمزة ، عن ابن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم من خير الناس يا رسول الله ؟ قال : أنا ومن معي ، قالوا : ثم من يا رسول الله ؟ قال : ثم الذين علي الأثر قالوا : ثم من يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ثم الذين على الأثر قالوا : ثم من يا رسول الله ؟ قال : فرضهم.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : يجوز أن يكون معنى قوله لا يدري أوله خير أم آخره لتقارب اوصافهم ، وتشابه أفعالهم ، وقرب نعوت بعضهم من بعض ، فلا يكاد يتبين الناظر فيهم ، والمعتبر حالهم ، والباحث عن احوالهم ، فيحكم بالخير لأولهم وآخرهم ، وإذ تشابهت الافعال ، وتقاربت الأوصاف ، فإنما يعلم الخير من جهة الخبر والسمع والتوفيق.
|ثم ورد الخبر بقوله : من خير الناس ؟ فقال : أنا ومن معي فوجب الحكم به ، ويجوز أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم : لا يدري أوله خير أم آخره حكما فيستوى آخر هذه الأمة بأولها في الخيرية ، وذلك أن القرن الذي بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانوا أخيار لأنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين كفر به الناس ، وصدقوه حين كذبه الناس ، ونصروه حين خذله الناس ، وهاجروا وآووا ونصروا ، وكل هذه الأفعال وجدت في آخر هذه الأمة حين يكثر الهرج وحين لا يقال في الأرض الله الله ، وذلك # حدثناه نصر ، قال : حَدَّثَنا أبو عيسى ، قال : حَدَّثَنا محمد بن بشار ، قال : حَدَّثَنا ابن |(1/372)
@ 373@أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله.
|وقال صلى الله عليه وسلم : بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ، قيل : وما الغرباء ؟ قال : النزاع من القبائل.
|فإذا صار الأمر إلى هذا كان المؤمن فيهم كالمؤمن في وقت النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم فإن النازع من القبيلة مهاجر مفارق اهله ، وماله ، ووطنه ، مؤمن بالله مصدق به وبرسوله ، والله عز وجل مدح المؤمنين بإيمانهم بالغيب فقال : {يؤمنون بالغيب} [البقرة : 3] ، وكان إيمان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غيبا وشهودا ، فإنهم آمنوا بالله واليوم الآخر غيبا ، وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم شهودا وعيانا ينزل عليهم الوحي ، ويرون الآيات ، ويشاهدون المعجزات ، وآخر هذه الأمة يؤمنون بما آمن من اوائلهم غيبا ، ويؤمنون غيبا بما آمن بن أوائلهم شهودا ، وهو إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنهم لا يشاهدون النبي صلى الله عليه وسلم عينا ، ولذلك صاروا اعجب الناس إيمانا كما.
|حدثنا القواريري ، قال : حَدَّثَنا حامد بن سهل ، قال : حَدَّثَنا قتيبة ، قال : حَدَّثَنا خلف ابن خليفة ، عن عطاء بن السائب ، عمن حدثه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من اعجب الخلق إيمانا ؟ قالوا : الملائكة يا رسول الله ، قال : وكيف لا تؤمن الملائكة وهم يعاينون الأمر . قالوا : فالنبيون يا رسول الله ، قال : وكيف لا تؤمن الملائكة والروح ينزل عليهم بالأمر من |(1/373)
@ 374@السماء ، قالوا : فأصحابك يا رسول الله ، قال : وكيف لا يؤمنون أصحابي وهم يرون ما يرون ، ولكن اعجب الناس إيمانا قوم يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ، ويصدقوني ولم يروني ، فأولئك إخواني.
|ثم كان المتمسك في آخر الزمان بالدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : المتمسك بسنتي عند اختلاف أمتي كالقابض على الجمر.
|حدثناه خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا حامد بن سهل ، قال : حَدَّثَنا حميد بن علي البختري ، قال : حَدَّثَنا جعفر بن محمد ، قال : حَدَّثَنا أبو إسحاق الفراوي ، عن مغيرة ، عن ابراهيم ، عن الاسود ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
|فالمؤمن في آخر الزمان يصيبه من الأذى على إيمانه ما كان يصيب اوئلهم بدلالة هذا الخبر ، فإذا وجدت فيهم هذه الخصال التي وجدت في اوائلهم جاز أن يساووهم في الخيرية فيكونوا في الخيرية لهم ، فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : خير الناس قرني خاصا في قوم منهم دون جمعيهم ، كما قال ابن عمر رضي الله عنه كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ثم لا نفصل أحد أو كلاما هذا معناه فأخبر انهم كانوا يبدون بين أصحابه دون المستمين ، ومعلوم أن قرنه صلى الله عليه وسلم كلهم لم يكونوا خير الناس فقد كان فيهم أبو جهل ، وامية بن خلف ، وابي ، وسائر المشركين ، ومسيلمة الكذاب ، وخارجة الاسدي المتنبيان الكذابان ، وإنما كان خير الناس بعض القرن لا كلهم ، فصار كأنه قال خير الناس في قرني وإذا كان ذلك في بعض دون بعض جاز أن يكون خير الناس أبو بكر ، وعمر ، وعثمان على ما قال ابن عمر أو هم على ما عليه اكثر أهل الأثر والنظر من الفريقين وغيرهم ، فيكون من سواهم يجوز أن يساوي بهم آخر هذه الأمة ، وهم الذين يقاتلون الدجال ، وينصرون عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فهم أنصار النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه.(1/374)
@ 375@قال عوف بن مالك الأشجعي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا يوما : ليتني لقيت إخواني قلنا : يا رسول الله أولسنا بإخوانك ؟ امنا بك ، وهاجرنا معك ، واتبعناك ، ونصرناك ، وصدقناك ، قال : بلى وعاد فعدنا ثم عاد فعدنا قال : بلى ولكن إخواني الذين يأتون من بعدي يؤمنون بي كإيمانكم ، ويحبونني كحبكم ، وينصرونني كنصركم ، ويصدقونني كتصديقكم ، فياليتني لقيت إخواني.
|وفي حديث آخر قلنا : السنا إخوانك ؟ قال : لا أنتم أصحابي ، وإخواني قوم يجيئون من بعدي.
|وقال أبو ثعلبة الخشني : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، فإذا رأيت دنيا مؤثرة ، وشحا مطاعا ، واعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ، الممسك يومئذ بمثل الذي انتم عليه له كأجر خمسين عاملا قلنا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأجر خمسين عاملا منهم ؟ قال : بل منكم.
|حدثنا خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن الفضل المفسر ، قال : حَدَّثَنا حامد بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا عيسى ، قال : وح خلف هذا قال : حَدَّثَنا الحسين بن الوضاح ، والحسن بن ضحاك ، قالا : حَدَّثَنا عجيف بن آدم ، قال : حَدَّثَنا محمد بن سلام ، قال : حَدَّثَنا عيسي ، عن نوح بن أبي مريم ، عن أبي المهلب مطرح بن يزيد ، عن عبيد الله بن زخر الكناني ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي امامة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن لكل شيء إقبالا وإدبارا ، وإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا ، وساق حديثا في وصف آخر الزمان إلى أن قال : فمن تمسك بالامر يومئذ كتب له بأجر خمسين ممن رآني وسمع موعظتي وآمن بي وصدقني.
|فأخبر أن في آخر هذه الآمة من يفوق أولها في الثواب والأجر ، فإذا جاز أن |(1/375)
@ 376@يكون آخر هذه الأمة أكثر أجرا من بعض اوائلها ، جاز أن يكون اواخرها يوازى أوائلها في الأجر والخير.
|وقال محمد بن علي الترمذي ، حَدَّثَنا الحسين بن عمر بن سفيان البصري ، قال : حَدَّثَنا سليمان بن طريف ، عن مكحول ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خير أمتي اولها وآخرها وفي وسطها الكدر.
|وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حَدَّثَنا محمد بن خالد بن حماد الارذي ، قال : حَدَّثَنا عيسى بن يونس الرملي قال : حَدَّثَنا ضمرة بن ربيعة ، عن مرزوق بن نافع ، عن صالح بن جبير ، عن أبي جمعة ، قال : قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل أحد خير منا ؟ قال : نعم ، قوم يجيئون بعدي يجدون كتابنا بين لوحين فيؤمنون به ، ويصدقون به ، فهم خير منكم.
|فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في آخر أمته من هو خير من بعض من صحبة ، وأما حديثه الآخر الذي :
|حدثنا أبو عمر ، والحسين بن علي بن الحسن العطار ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر العبسي ، قال : حَدَّثَنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدا انفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد احد ، ولا نصيفه.
|فيجوز أن يكون هذا في فضيلة السبق كما قال تعالى : {لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل أولئك اعظم درجة من الذين انفقوا من بعد وقاتلوا} [الفتح : 10].
|فأخبر الله تعالى أن الذين لهم السبق بالإنفاق والإيمان اعظم درجة من غيرهم ، والسبق سبقان : سبق في العمل ، وسبق في الدهر ، فمن كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لهم سبق الدهر على من بعدهم ، ولهم في ذلك فضل ، وليس |(1/376)
@ 377@ذلك في الاكتساب ، وإنما هو فضل الله آتاه من شاء ، وسبق العمل هو باكتساب ، فالذين انفقوا من قبل الفتح وقاتلوا كانوا افضل من الذين انفقوا من بعد وقاتلوا من وجهين : فمن كان سبقه من قبل الزمان ، وهو أن يتقدم زمان إنفاقه وقتاله فله فضيلة سبق الزمان الذي لا يلام من تأخر زمانه على تأخره ومن كان قتاله وإنفاقه ومتأخرا عن الفتح من قبل فعله ، فإنه ملوم من نفسه لأنه كان له إمكان الإنفاق والقتال قبل الفتح فلم يفعل.
|فأما تأخر آخر هذه الأمة فمن قبل الزمان ليس من قبل الفعل فمن انفق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل معه فاز بفضيلة السبق الذي هو من فعله ولا اكتسابه ، فأما الإنفاق والقتال اللذان هما من باب الاكتساب فيجوز استواء آخر هذه الآمة بأولها غير المخصوصين منهم فيكون معنى قوله لم يدرك مد أحدهم نصيفه من جهة السبق الذي هو سبق الزمان ، ويكون تساويه بالخير من جهة الاكتساب فيكون معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره من جهة أفعالهم وأقوالهم وبذلهم وإنفاقهم وما هو مما يكتسبونه ، فإن اخبرهم بفعل ذلك كما فعل إبراهيم فتساووا فيه.
|وقوله خير الناس قرني وسائر ما جاء في ذلك فهو من فعل الله عز وجل بأولئك ، فأولئك لهم فضيلة السبق فهم خير الناس من قبل الزمان ، والمعدودون خير الناس من الاولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين.
|فيجوز أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : لو أن أحدكم انفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه في المعدودين ومن سواهم يجوز فيه تساوي أولاهم وأخراهم تفضيلا واكتسابا ، ومن سواهم فأولهم وآخرهم سواء في الخير الذي هو أفعالهم واكتسابهم ، والله أعلم.
$حديث آخر$
حدثنا محمد بن أحمد البغدادي قتل : أخ أبي يعقوب إسحاق بن الحسن قال : حَدَّثَنا الهيثم بن خارجة ، قال : حَدَّثَنا الحسن بن يحيى الخشني ، عن صدقة الدمشقي ، عن هشام الكناني ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل قال : من آذى لي وليا فقد بارزني في المحاربة ، ما ترددت في شيء |(1/377)
@ 378@أنا فاعله ما ترددت في مساءة المؤمن يكره الموت ولا بد منه ، ما تقرب إلي عبد بمثل ما اقترضت عليه ، ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا احببته كنت سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا ، يدعوني فأستجب له ، ويستنصحني فأنصح له ، إن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأصرفه عنه كراهة أن يدخله عجب فيفسده ، وذلك أن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا لأفسده ، وإن من الغنى من لو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين من يصلح إيمانه إلا الفقر ، لو اغنيته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الصحة لو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السقم ، لو اصححته لأفسده ذلك ، وذلك اني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : أولياء الله خصائصه الذين اصطفاهم في أزالة قبل أن يوجدهم ، وانتجهم قبل أن يخلقهم ، واستخلصهم واصتنعم لنفسه قبل أن يحدثهم حين اوجدهم عن الأشياء إليه ، وصرف الأغيار عنهم ضنا بهم ، وغيره عليهم ، زينهم بأوصافه ، وحلاهم بنعوتهم ، فهم علماء صلحاء كرام صادقون ، رحماء حكماء عدول مؤمنون ، فهم بكثير أوصافه موصوفون ، وبأسمائه ونعوته موسومون ، قلب بصفاته أحوالهم ، واضاف إليه نفسه أفعالهم ، فقال عز وجل {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} [الانفال : 17] ، {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الانفال : 17] قاتل بهم أعدائه ، وانتصر بهم ممن عاداه ، فهم أنصار الله ، قال الله عز وجل : {وينصرون الله ورسوله} [الحشر : 8] ، وقال : {من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله} [الصف : 14] فلما كانوا انصاره يقاتلون من ألحد في اسمائه ، ويناصبون من اشرك به ، ويذبون عن دينه ، ويقاتلون مع رسله ، جعل آذاهم مبارزته ، وأهانتهم مناصبته ، فقال جل جلاله : {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة : 33] سماهم محاربين له آذوا أولياءه في سلب اموالهم ، وسفك دماءهم ، وإخافة سبلهم ، وذلك انهم لما كانوا خصائصه فمن آذاهم فقد بارزه أي اظهر مخالفة الله ، لأنه فعل بهم خلاف ما فعل الله بهم ، وأرادهم بغير ما أرادهم الله به ، اكرمهم الله تعالى ، فأهانهم المؤذي لهم ، ووالهم الله عز وجل ، فعاداهم المهين لهم ، فصاروا لله محاربين ، وله بالعداوة بارزين ، ولحكمه فيهم مخالفين.(1/378)
@ 379@وقوله : ما ترددت في شيء أنا فاعله أي ما رددت شيئا بعد شيء في ما فعلته بخلقي ، كما رددت مختلف الأحوال على عبدي المؤمن في إزالة كراهة الموت عنه بلطائف يحدثها له ويظهرها عليه حتى يحب الموت ، ويسأم الحياة ، كما فعل بإبراهيم صلوات الله عليه حين جاءه ملك الموت ليقبض روحه ، فبكى إبراهيم صلوات الله عليه ، فذهب ملك الموت ثم عاد إليه في صورة شيخ كبير ، فجعل يأكل العنب وماء العنب يسيل على لحيتة فجعل إبراهيم عليه السلام ينظر إليه ، فقال : يا عبد الله كم أتى لك ؟ فذكر مثل سن إبراهيم فاشتهى إبراهيم الموت فقبض روحه ، ذكر ذلك حماد عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن رباح ، عن كعب رحمه الله فهذه لطيفة أحدثها الله تعالى لخليله في إزالة كراهة الموت عنه ، وقد ذكرنا لها نظائر قبل.
|وقوله : ولا بد له منه وذلك أن الله تعالى خلق المؤمن ، وخلق سائر الأشياء له فقال : {سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} [لقمان : 20] فأراد عز وجل أن يحل المؤمن في جواره ، وينزله دار كرامته ، ويهب له من ملكه ، ويجعله باقيا ببقائه ملكا لا يفنى ملكه ، حيا لا يموت أبدا لا يزول ، يحل عليه كرامته ويلذذه برؤيته ، ويكرمه بالنظر إليه ، وحكم عز وجل بهذه الكرامة في الدار الآخرة بعد الموت ، وهو عز وجل لا يبدل القول لديه ، ولا يجوز البداء عليه ، فذلك لم يكن له بد من الموت ليصل إلى هذه الكرامة الجليلة ، والرتبة السنية ، والدرجة الرفيعة ، ثم مع ذلك كره الله مساءته في ذلك ، وأزالها عنه بلطائف يحدثها له وفيه ، سبحان اللطيف بعباده المؤمنين.
|وقوله : ما تقرب إلى عبد بمثل ما افترضت عليه ليس من قدر العبد أن يتقرب إلى الله ، وسمة العبودية عليه ظاهرة ، ونقص الحدث فيه بين ، وحقارة البنية له لازمة فبأي ضفة يتقرب إلى من ليس كمثله شيء ، وكيف يتوصل إلى غني محتاج وملك لا يطاق ، فليس له إليه أن يتقرب إليه من حيث هو ، وإنما يقربه الله منه ، يتقرب بلطفه إليه ، فأمره بأداء ما افترض عليه ، وجعلها علامته لمن له في سابق علمه تقرب إليه ، فمن أقام أوامره ، وأدى فرائضه فهو الذي قربه الله منه ، فصار أداء فرائضه تقربا منه ، وإقامة أوامره توسلا إليه ، وأخرى أن العبد وإن توقى فلا يخلو من أن يتدنس بالخطايا ، ويتلطخ بالمعاصي ، والله عز وجل قدوس طاهر . وفي الحديث : إن القدوس الأعلى لا يقربه إلا قديس طاهر فأمر الله تعالى عباده المؤمنين بآدء ما |(1/379)
@ 380@افترض عليهم ليطهروا بها من أدناس الذنوب ، ويتنظفوا من أرجاس العيوب ، فقال الله تعالى : {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود : 114] ، وقد قال : {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة : 103] ) وقال : {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة : 222] فإذا أتوا بهذه الفرائض تطهروا فصلحوا لدار الطهارة وقربة القدس . وقوله ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه لما علم المؤمن الوجه الذي جعله الله سببا لطهارته ، والعمل الذي هو علامة من قربه الله تعالى منه ، وهو آداء فرائضه ، أدى فرائضه باذلا فيها مجهود 3 , وكانت الفرائض في أوقات معدودة تسارع بعد الفراغ منها إلى أمثالها من الاعمال وأشباهها من الأفعال طلبا لازدياد من السبب المقرب إليه ، والسمة الدالة عليه ، فزاده الله تعالى محبة إلى تقريبه منه كما ازداد العبد تعبدا في حال الحرية من رق العبودية في أداء ما لزمه ، فان مثل العبد في آداء الفرائض مثل المكاتب ، كاتبه مولاه على مال يؤديه إليه نجوما ، فاذا أدى ما عليه عتق ، فكذلك العبد أوجب الله تعالى عليه فروضا محدردة ، . وألزمه أمورا محدودة مؤقته ، فإذا أداها خرج من رقها فهو إلى أن ياتيه وقت آخر عتيق في عمله ، وإلى أن يستقبله فرض ثان حر ، فمن تعبد في حال الحرية شوقا إلى مولاه استحق المحبة ، كما أن من تعبد في حال الرق استوجب القربة . وقوله : فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ويؤيد ) إذا أحب الله عبدا أحدث فيه حبا لله ، فيحب الله كما أحبه الله ، قال الله تعالى : {يحبونهم كحب الله} [البقرة : 165] ، وقال تعالى : {يحبهم ويحبونه} [المائدة : 54] فالمحبوب محب ، والمحب منخلع من جميع شهواته ، خارج من جميع صفاته ، لأن المحبة إذا استولت على المحب أفنته عنه ، وسلبته عن صفاته ، واصطفته من نعوته فأصمه وأعماه ، وعن جميع الأشياء به أبلاه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من حبك الشيء ما يعمي ، وما يصم لا.
|حدثناه حاتم بن عقيل ، قال : حَدَّثَنا يحيى بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا الحماني ، قال : حَدَّثَنا ابن المبارك ، عن ابن أبي مريم ، عن خالد بن محمد الثقف ، عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/380)
@ 381@فالمحب يصم عن الأغيار ، ويعمى عما سرى المحبوب الأبصار ، وقال في ذلك بعض الكبار : % ( أصمني الحب إلا عن تساوده % فمن رأى حب حب يورث الصمما ) % % ( وكف طرفي إلا عن وعايته % والحب يعمي وفيه القتل إن كتما ) % وقيل لقيس المجنون : أتحب ليلى ؟ فقال : لا ، قيل : لم ؟ قال : إن المحبة ذريعة الوصلة ، فإذا وقعت الوصلة سقطت الذريعة ، فأنا ليلى ، وليلى أنا.
|قال الشيخ رحمه الله : وأنا أحكي لك عني عجبا في رؤيا رأيتها ، رأيت فيما يرى النائم امرأة رقيقة ممشوقة عليها ملاحة ، ولها شعر ما رأيت على أمرأة مثله طولا وغلظا وسوادا ، فخيل لي أنها ليلى ، وهي تنشد أشعارا ، فكنت حفظت منها أبياتا ثم أنسيتها ، فقلت لها وعزمت عليها : أخبريني عن قيس ، فقالت . كان عنوان حبي وكنت معناه الذي قام به ، فلم تكن له حال يوصف ، ولا كانت له صفة تعرف . في كلام كثير حفظت منه هذا.
|فإذا كانت هذه أحوال المحب ، فمن أحبه الله تعالى صرفه عن الأشياء إليه ، وأقبل به عليه ، فاحب الله تعالى كما أحبه الله ، قال الله تعالى : {يحبهم ويحبونه} والمحدث لا يطيق تحمل أعباء المحبة لأنها تفنيه ، فإذا أفنته محبة الله عن نفسه أنشأه الله لمحبته له خلقا جديدا فأفاده سمعا بدل سمعه ، وبصرا بدل بصره ، ويدا بدل يده ، وأيدا أقوى من أيده ، فلا يبصر إلا ربه ، ولا يسمع إلا منه ، ولا يبطش إلا له ، ولا يقوى إلا فيه . ألا تراه يقول . يدعونى فاستجب له ، ويستنصحني فأنصح له لأنه لا يعرف له مولا ، ولا وليا إلا إياه ، ولا يرى في الدارين له غيره ، فمن يدعو سواه ومن يجيبه إلا هو ، إذ ليس عنده مجيبا له إلا ربه ، ولا مدعوا إلا محبوبه.
|وقوله : يستنصحني فانصح له لأنه سقطت عنه اختياراته ، وماتت فيه شهواته ، وبطلت منه إرادته ، قد ذهل عن أوصافه ، وشغل في محبة محبوبه عن نعوته ، فهو لا يهتدي إلى مصالح نفسه ، ولا يتخير في أحكام مولاه فوض أمره إليه ، وألقى نفسه بين يديه ، وأقبل بكليته عليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إكلأني كلائة الوليد ، فهذا استنصاحه له ، فهو تعالى يصرفه في مشيئته ، ويجعله في قبضته ، ويحوطه بعصمته ، ويصرفه في محابه ، فهذا نصحه له.(1/381)
@ 382@وقوله عز وجل : إن من عبادي لمن يريد الباب من العبادة فأصرفه عنه كراهة أن يدخله عجب فيفسده ذلك هذا من نصحت له ، وذلك أنه لا يتصرف في شهوات نفسه ، ولا يشتغل بحظوظها ، وإنما شغله بمولاه ، وتصرفه فيما يرضاه فهو يريد الباب من العبادة تقربا إليه عند غلبة الاشتياق عليه ، وهو حبيب الله ومحبوبه ، والله تعالى محبه ، والمحب يغار على محبوبه أن ينظر إلى غيره ، ويضن به أن يرده إلى سواه فالعبد لغلبة الاشتياق عليه بقصد الباب من العبادة باختياره وإرادته ، فيصرفه الله تعالى عما اختاره إلى ما اختاره له ، لئلا يكون راجعا إلى غيره ، ولا ناظرا إلى نفسه ، أو يرجع إلى اختياره ، وان كان ذلك في طلب مرضاته ، واجتهادا في عبادته له ، لأن العجب هو النظر إلى نفسه بعين الاستحسان ، ومن استحسن شيئا شغل به وسكن إليه فهو تعالى يصرفه عما يسكن إليه ، ويشغله عنه ، ليكون شغله به ، وسكونه إليه.
|وقوله : إن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، لو أفقرته لأفسده ذلك هذا أيضا من نصيحته له ، وذلك أن الله تعالى إنما أحب المؤمن لإيمانه ، لأنه لما أحبه كتب في قلبه الإيمان ، وحببه إليه ، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان ، فهو عز وجل يصرفه عما يخل بإيمانه ، لئلا يخرج في حبه إياه شيء ، وقد خلق الله عباده على طبائع مختلفة وأوصاف متفاوته ، فمنهم القوي ، ومنهم الضعيف ، ومنهم الرفيق ، ومنهم الكثيف ، ومنهم الوضيع ، ومنهم الشريف . فمن علم الله تعالى من قلبه ضعفا لا يحتمل الفقر أغناه إذ لو أفقره إياه فهو عز وجل يغنيه ، فيقر به بذلك منه ويدنيه ، فيصونه بغناه من أن ينصرف بحاجته إلى سواه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : بادروا بالأعمال خمسا . غنا مطغيا ، وفقرا منسيا ، وهرما مفندا ، ومرضا مفسدا وموتا مجهرا فإذا كان الفقر لبعض الناس منسيا ، صرف الحق عمن عرف ذلك منه الفقر لأنه لا يحب أن ينساه حبيبه ، كما يكره أن ينظر إلى غيره قريبه ، وكذلك من علم أن لا يصلح إيمانه إلا الفقر أفقره ، لأنه تعالى يعلم أن الغنا يطغيه ، وأن الفقر لا ينسيه ، بل يشغل لسانة بذكره ، والثناء عليه ، وقلبه بالتوكل عليه ، والالتجاء إليه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أحب الله عبدا صب عليه البلاء صبا ، وسحه عليه سحا ، فإذا دعاه قالت الملائكة : صوت معروف ، وقال جبريل عليه السلام : يا رب عبدك فلان اقض له حاجته ، فيقول : دعوا عبدي فأني أحب أن أسمع صوته ، فإذا قال :(1/382)
@ 383@يا رب ، قال الله تعالى : لبيك عبدي وسعديك ، لا تدعوني بشيء إلا استجيب لك ، ولا تسألني شيئا إلا أعطيتك إما أن أعجل لك ما سألت ، واما أن أدخر لك عندى أفضل منه ، وأما أن أدفع عنك من البلاء ما هو أعظم من ذلك والفقر أشد البلاء وأعظم المحن ، فإنما يفعل الله ذلك بعبده الذي أحبه ليدعوه فيسمع صوته داعيا له ، ويسأله ويراه مفتقرا إليه ، وكذلك السقم هو من البلايا والمحن ، فيسقم الله تعالى حبيبه ليدعوه في الدنيا فيجيبه ، ويسأله فيعطيه ، ويشغله به عما يشغله عنه ، ويصب عليه في الآخرة صبا كما سح عليه في الدنيا البلاء سحا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : تنصب الموازين يوم القيامة فيؤتي رجل بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل البلاء ، ولا ينصب لهم ميزان ، وينشر لهم ديوان فيصب عليهم الأجر صبا بغير حساب حتى يتمنى أهل العافية أنه كانت تقرض بالمقاريض أجسادهم مما فيه أهل البلاء من الفضل.
|حدثنا عبد الله بن محمد الفقيه ، قال : حَدَّثَنا عبد الرحيم بن عبد الله ، قال : حَدَّثَنا إسماعيل بن توبة ، قال : حَدَّثَنا عفيف بن سالم ، عن بكر بن خنيس ، عن ضرار بن عمرو ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
|فهو تعالى إنما يسقم عبده الذي يحبه لذلك ، وكذلك الصحة من علم الله منه ضعفا لا يحتمل السقم صححه ليكون له عابدا ، وبين يديه راكعا وساجدا ويفضل قوته جاهدا ، فيكون ماثلا بين يديه ومقبلا بكليته عليه لان الله تعالى أحبه فجعله نصب عينيه في جميع أحواله إن كان فقيرا سأله وإن كان غنيا أقرضه وأسقمه تضرع إليه ، وان صححه مثل بين يديه يصلح إيمانه ليصلح له ، يدبره بعلمه إنه عليم خبير ، وعلي ما يشاء قدير ، فهو تعالى يحبه له يفعله به ما يصرف بوجهه إليه ، ويقبل بقلبه عليه وليكون في كل حال بين يديه ماثلا عن جميع الأشياء إليه مائلا ، وفي كل الأحوال كلها إليه ناظرا ، وفي كل وقت له ذاكرا ، وذلك أنه تعالى محب ، وعليه مقبل ، وله |(1/383)
@ 384@مؤثر ، وإليه ناظر ، وله ذاكر ، فيحب أن يكون حبيبه له كما هو لحبيبه ، والعبد لا يطيق ذلك ، ولا يهتدي إليه ، فهو تعالى يفعل به ما يريد منه أن يفعله تعالى الله أكبر الكريم اللطيف العليم.
$حديث آخر$
حَدَّثَنا أحمد بن عبد الله الهروي ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن هاشم البغوي ، قال : حَدَّثَنا أحمد بن بسطام ، قال : حَدَّثَنا يزيد بن زريع ، قال : حَدَّثَنا روح بن القاسم ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تدرون من المفلس ؟ قالوا : يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وصدقة ويأتي وقد ظلم هذا ، وأكل مال هذا ، وضرب هذا ، وشتم هذا ، فيقعد فيقتص هذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي الذي عليه من الخطأ ، أخذ من خطاياهم وطرحن عليه ثم طرح في النار.
|قال الشيخ الإمام الزاهد رحمه الله : أنكر هذا الحديث طائفة من المتعلقة الذين اتبعوا أهواءهم بغير هدي من الله إعجابا برأيهم ، وتحكما علي كتاب الله تعالى ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقول ضعيفة ، وأفهام سخيفة ، فقالوا : لا يجور في حكمة الله تعالى وعدله أن يضع سيئات من اكتسبها على من لم يكتسبها ، ويؤخذ حسنات من عملها فيعطى لمن لم يعملها ، وهذا جور ، زعموا وأولوا قول الله تعالى : {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الانعام : 164] {وما ظلمهم الله} [آل عمران : 117] وأمثلها من الآيات على ما قالوه ، فقالوا : قد أخبر الله تعالى أنه لا تزر وازرة وزر أخرى ، فكيف يصح هذا الحديث وهو يخالف ظاهر الكتاب ، ويستحيل العقل ، وأن الله عز وجل لم يبن أمور الدين على عقول العباد ، ولم يعد ، ولم يوعد بمشيئته وإرادته ما يحتمله عقولهم ، ويدركونه بإفهامهم ويقتبسونه بأرائهم ، بل وعدوا وعد بمشيئته وإرادته ، وأمر ونهى بحكمته وعلمه لو كان كل ما يدركه العقول مردودا لكان اكثر الشرائع مستحيلا على موضوع عقول العباد ، وذلك |(1/384)
@ 385@أن الله عز وجل أوجب الغسل بخروج المني الذي هو طاهر عند بعض الناس وبعض الصحابة وكثير من فقهاء الأمة ، وأوجب غسل الأطراف من الغائط الذي لا خلاف بين الأمة وسائر من يقول بالعقل من غيرها على نجاسته وقذارته ونتنه ، وأوجب بريح يخرج من موضع الحدث ما أوجبه بخروج الغائط الكثير الفاحش ، فبأي عقل يستقيم هذا ، وبأي رأي يجب مساواة ريح ليس لها عين قائمة لما يقوم عينه ، ويزيد على الريح نتنا وقذارة.
|قال الشيخ الإمام الزاهد المصنف رحمه الله أنكر هذا الحديث طائفة من المتعلقة الذين اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله إعجابا برأيهم ، وحكما على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقول ضعيفة وأفهام سخيفة ، فقالوا : لا يجوز في حكمة الله تعالى وعدله أن يضع سيئات من اكتسبها على من لم يكتسبها ، ويؤخذ حسنات من عملها فيعطى لمن لم يعملها ، وهذا جور زعموا وأولوا قول الله عز وجل إلى هذه ، وقد أوجب الله تعالى قطع يمين مؤمن بعشرة دراهم ، وعند بعض الفقهاء بثلاثة دراهم ودون ذلك ، ثم سوى بين هذا القدر من المال وبين مائة ألف دينار ، فيكون القطع فيهما سواء ، وأعطى الله تعالى للأم من ولدها الثلث ، ثم إن كان للمتوفى إخوة جعل لها السدس من غير أن يرث الإخوة من ذلك شيئا ، فبأي عقل يدرك هذا إلا تسليما وانقيادا ، ولو تتبعنا كثيرا من الأحكام كان سبيلها سبيل ما ذكرنا ، ثم الوعد والوعيد ، وعد الله جل وعز ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر من الثواب الجزيل ، والنعيم المقيم على ما أحدث في العبد وخلقه وأوجده من عدم ، وعان عليه بإجماع فضلا منه وكرما ، وهو ذو فضل عظيم ، وأوعد على ما أوجده من العبد ، وخلقه فيه وأحدث لاستطاعته له عندنا ، ولم يعصم منه بإجماع بجرم منقطع لا يضره ولا يؤثره عقابا لا يحتمل العقول فكره فيه ، وإدراكا له من شدة ألمه وفظيع أمره ، وعند المعتزلة إحباط عمله سبعين سنة وأكثر وطاعة مائة سنة واكثر بسرقة خمسة دراهم ، أو عشرة ، أو قذف محصن أو محصنة . وذلك لم يضر المقذوف ولا قدح فيه ، والتأبيد في النار ، والعذاب الشديد على شرب جرعة من خمر مع إيمان بالله عز وجل والخوف منه ، والطاعة له في مدة سبعين سنة مع فرعون الذي بارز الله عز وجل وادعي الربوبية لنفسه ، وقتل أنبياءه ، وأفسد في الأرض أربع مائة سنة ، بأي عقل يستقيم هذا ، وبأي حكمة من أوصاف العباد توجب |(1/385)
@ 386@هذا وقد استسلم المتعقل لذلك إن كان معتقدا للإيمان ، وانقياده له وجوز ذلك في حكمة الله تعالى ، ولم يحكم فيه عقله ، فكيف لا يجوز طرح السيئات على من لم يكتسبها ، وسلب الحسنات ممن عملها ، ودفعها إلي من لم يعملها ، وهذا أهون مما جوزه ، وأيسر مما استسلم له على أنا نري جواز ذلك في عقل هذا المتعقل فيقول : إن الله عز وجل أوعد على كثير مما نهى عنه بأنواع من الوعيد في الآخرة ، وألوان من العقوبات في الدنيا كالرجم في الزنا بعد الإحصان ، وجلده مائة لمن لم يحصن ، والقطع للسارق وتعزير المختلس والمنتهب ، وغير ذلك من الأحكام والحدود التي أوجبها الله عز وجل في الدنيا ، وما أوعد عليه في الآخرة ، كقوله تعالى في أكل مال اليتيم : {الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا} [النساء : 10] ، وفي أكل الربا : {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} [البقرة : 275] ، وقال عز وجل في مانع الزكاة : {الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} إلى قوله {فتكوى جباههم وجنوبهم وظهورهم} [التوبة : 34 35] فكما أخبر الله بعقوبات هذه الجنايات كذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعقوبة الظالم للمسلمين بأخذ أموالهم ، وضرب أبشارهم ، وشتم أعراضهم ، أنهم يعاقبون بالعقوبات التي أوعد الله تعالى وأعدها للخطايا التي اكتسبها المظلوم ، فعاقب الظالم بتلك العقوبات فتكون تلك العقوبات بما اكتسب من الظلم الذي نهى الله تعالى عنه ، فيكون ذلك عقابا لفعل اكتسبه كان قد نهي عنه فلم ينته ، فعاقبه بتلك العقوبة ، وأحبط حسناته ، بمعنى أنه لم يثب عليها ، لأن ثوابها استحقت عليه فيكون كمن اكتسب مالا في الدنيا فجمع منه وكانت عليه ديون فأخذ ما جمع أرباب الديون فلم يبق في يديه من ذلك شيء ، كذلك ما اكتسب هذا الظالم من صلاة وصيام وصدقة فاستحق ثوابها على الله تعالى فكانت تحصل له لولا ما جنى من تلك المظالم ، فلما قوبلت حسناته بسيئاته بتلك المظالم ، ولولا حسناته من صلاة وصيام وصدقة لكان يعاقب على مظالمه بما أعد الله للظالمين ، فيكون هذه الحال وهذا الفعل من الله به نوعا من العقوبة التي أعدها الله تعالى للظالمين على ظلمهم ، ولا يكون ذلك كما زعم هذا الزاعم أنه يعاقب بما لم يكتب من الذنب بل عوقب بذنب اكتسبه ، ومعصية عملها ، وكان ثواب حسنات الظالم جزاء للمظلوم فيما أعد الله له ، وثوابا على صبره عندما ظلم ، كما قال الله : {ولمن صبر وغفر إن ذلك |(1/386)
@ 387@من عزم الأمور ،} [الشورى : 43] فيكون ذلك الثواب ثوابا على ما اكتسبه من صبره وفضلا زاده الله من عنده ، فهذا قد اثيب على ما عمله والظالم عوقب على فعله ، ومعنى أخذ الحسنات وطرح السيئات نوع من العقوبة التي أعدها الله تعالى للظالمين ، فقد وزر هذا الوازر وزره ، ولا وزر غيره ، وقد قال الله تعالى : {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ) {المائدة : 32 ).
|وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يقتل نفس إلا كان على ابن ادم الأول كفل منها.
|حدثناه خلف بن محمد ، قال : حَدَّثَنا إبراهيم بن معقل ، قال : حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل ، قال : حَدَّثَنا قبيصة ، قال : حَدَّثَنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
|فإذا جاز أن يكون على من مات من سنين إثم من عمل بعده ، كذلك يجوز أن يطرح سيئات من عملها على من لم يعملها ، فابن آدم إنما قتل نفسا واحدة ويطرح عليه اثام كل من قتل نفسا بغير حق إلى يوم القيامة ، وذلك جزاء فعله ، كان الله تعالى جعل عقوبة ابن آدم في النار اثمه وآثام القاتلين ، لا أن يكون يؤاخذ بذنب غيره ، ويعاقب على معصية لم يعملها ، كذلك الظالم جعل الله عقوبته أن يعاقب بآثام من ظلمه ، ويكون ذلك عقوبة له على من ظلمه ، وعلى ما اكتسبه لا أن يكون مؤاخذا بذنب غيره ، أو معاقبا بما لم يجنه ، فحصل آخر الأمر أن يجازي المظلوم على ظلمه ثواب حسنات ظالمه ، وذلك جزاءه الذي جازاه الله به ، وعوض ما أخذ منه أو جنى عليه ، وثواب صبره على ما أصابه ، فقد قال الله تعالى : {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر : 10] ويعاقب الظالم بذهاب حسناته ، وعقوبة ما جنى المظلوم ، وذلك جزاء ظلمه ، وعقوبة ما جنته يده ولسانه ، فليس في ذلك ظلم ولا جور ، ولا القول بالإحباط كما يقوله المعتزلة ، فإنهم يقولون بأن من أتى كبيرة ومات |(1/387)
@ 388@عليها حبطت حسناته التي اكتسبها مدة عمره ، ولم ينفعه إيمانه بالله في مدة سبعين سنة ، ولا طاعته التي اكتسبها ، بل هو في النار خالدا مخلدا مع فرعون وهامان وقارون.
|وأما الذي قلناه فان هذا الظالم لم يحبط أعماله بل اسقطت حسناته عند عقوبات كثيرة ، ألا يرى أنه اقتص منه فوفت حسناته بجناياته ، أو نقصت جناياته وزادت حسناته دخل الجنة ، لان زادت جناياته فإنما يعاقب في النار بقدر ما زاد من جنايته فيكون عقوبته أخف ، ومدة لبثه في النار أقل ، ولولا حسناته لطال لبثه في النار ، وأشتدت عقوبته فيها ، {والله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} [النساء : 40] .
|تم الكتاب الشريف ، والله يقول الحق ، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، والأمر كله لله ، واتفق الفراغ من كتابة شرح الأحاديث الشريفة لبيان أحكام الإمكان والوجوب في أول وقت الظهر في أواخر شهر صفر المظفر من شهور سنة إحدى عشر وألف على يد العبد الضعيف النحيف المحتاج إلى رحمة الله ، الفقير مرتضى بن يوسف بن محمد بن علي البلوي المدرس . أحسن الله تعالى خاتمته حامدا الله تعالى ومصليا على نبيه محمد وآله أجمعين ، والله المستعان وعليه التكلان.(1/388)