مساجلة علمية
بين الإمامين الجليلين العز بن عبد السلام وابن الصلاح
حول صلاة الرغائب المبتدعة
بتحقيق
محمد ناصر الدين الألباني و محمد زهير الشاويش
المكتب الإسلامي
الطبعة الثانية
1405 هـ(/)
الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة وبيان ما فيها من مخالفة السنن المشروعة
تأليف: الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد الورع الناسك شيخ الإسلام مفتي الفرق ناصر السنة عز الدين بن عبد السلام رحمه الله ورضي عنه.(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
حسبي الله
قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العامل الزاهد العابد الورع الناسك، مفتى الفرق، ناصر السنة، (ذو) (1) الاجتهاد في الدين، عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الشافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه وحشرنا في زمرته:
الحمد لله الأول الذي لا يحيط به وصف واصف، الآخر الذي لا تحويه معرفة عارف، جل ربنا عن التشبيه بخلقه، وكل خلقه عن القيام بحقه، أحمده على نعمه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بحججه وبرهانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فإن البدع ثلاثة أضرب (2) .
إحداها: ما كان مباحاً كالتوسع في المآكل، والمشارب، والملابس، والمناكح، فلا بأس بشيء من ذلك.
__________
(1) في الأصل: ذا.
(2) يعني البدع في معناه اللغوي، وإلا فالبدع الشرعية كلها ضلالة لعموم قوله عليه السلام: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(1/3)
الضرب الثاني: ما كان حسناً، وهو كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها، كصلاة التراويح (1) ، وبناء الربط والخانات والمدارس وغير ذلك من أنواع البر التي لم تعهد في العصر الأول، فإنه موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر والتقوى، وكذلك الاشتغال بالعربية فإنه مبتدع ولكن لا يتأتى تدبر القرآن إلا به، وفهم معانيه إلا بمعرفة ذلك، فكان ابتداعه موافقاً لما أمرنا به من تدبر آيات القرآن وفهم معانيه، وكذلك تدوين الأحاديث وتقسيمها إلى الحسن، والصحيح، والموضوع، والضعيف، مبتدع حسن لما فيه من حفظ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخله ما ليس منه، وأن يخرج منه ما هو منه. وكذلك تأسيس قواعد الفقه وأصوله، كل ذلك مبتدع حسن موافق لأصول الشرع غير مخالف لشيء منها.
الضرب الثالث: ما كان مخالفاً للشرع أو ملتزماً لمخالفة الشرع، فمن ذلك صلاة الرغائب فإنها موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب عليه، ذكر ذلك أبو الفرج بن
__________
(1) بل هي سنة كريمة فعلها رسول الله (ص) ثلاث ليال ثم تركها لعلة، وهي خشية أن يظن الناس فرضيتها، وصح أن النبي (ص) كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، كما في الصحيحين، فكيف تعتبر من البدع.(1/4)
الجوزي، وكذلك قال أبو بكر محمد الطرطوشي أنها لم تحدث ببيت المقدس إلا بعد ثمانين وأربعمائة سنة من الهجرة.
وهي مع ذلك مخالفة (للشرع من وجوه) (1) يختص العلماء ببعضها، وبعضها يعم العالم والجاهل.
فأما ما يختص به العلماء فضربان:
أحدهما: أن العالم إذا صلى كان موهماً للعامة إنها من السنن، فيكون كاذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان الحال، ولسان الحال قد يقوم مقام لسان المقال.
الثاني: أن العالم إذا فعلها كان متسبباً إلى أن تكذب العامة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولوا: هذه سنة من السنن، والتسبب إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز.
__________
(1) في الأصل (للنتسرو من وجوب) وما ذكرناه في طبقات السبكي وهو ما يقتضيه السياق.(1/5)
وأما ما يعم العالم والجاهل فمن وجوه:
أحدها: أن فعل البدع مما يغري المبتدعين الواضعين بوضعها وافترائها، والإغراء بالباطل والإعانة عليه ممنوع في الشرع، وإطراح البدع والموضوعات زاجر عن وضعها وابتداعها والزجر عن المنكرات من أعلى ما جاءت به الشريعة.
الثاني: إنها مخالفة لسنة السكون (1) في الصلاة، من جهة أن فيها تعديد سورة الإخلاص اثنتي عشرة مرة، وتعديد سورة القدر، ولا يتأتى عده في الغالب إلا بتحريك بعض أعضائه، فيخالف السنة في تسكين أعضائه.
الثالث: أنها مخالفة لسنة خشوع القلب وخضوعه وحضوره في الصلاة، وتفريغه لله تعالى وملاحظة جلاله وكبريائه، والوقوف على معاني القراءة والأذكار، فإنه إذا لاحظ عدد السور بقلبه، كان ملتفتاً عن الله تعالى معرضاً عنه بأمر لم يشرعه في الصلاة، والالتفات بالوجه قبيح شرعاً فما الظن بالالتفات عنه بالقلب الذي هو المقصود الأعظم؟
الرابع: أنها مخالفة لسنة النوافل، فإن السنة فيها أن
__________
(1) بل السكون في الصلاة واجب لقوله عليه الصلاة والسلام: اسكنوا في الصلاة، كما رواه مسلم وغيره من حديث جابر بن سمرة. وكان اللفظ في المخطوطة: السكوت وهو خطأ، والتصويب من طبقات السبكي.(1/6)
فعلها في البيوت أفضل من فعلها في المساجد، إلا ما استثناه الشرع، كصلاة الاستسقاء، والكسوف، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ((صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة (1) ).
الخامس: أنها مخالفة لسنة الانفراد بالنوافل، فإن السنة فيها الانفراد، إلا ما استثناه الشرع وليست هذه البدعة المختلقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
السادس: أنها مخالفة للسنة في تعجيل الفطر إذ قال صلى الله عليه وسلم : ((لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور (2) ).
السابع: أنها مخالفة للسنة في تفريغ القلب عن الشواغل المقلقة، قبل الدخول في الصلاة، فإن هذه الصلاة يدخل فيها وهو جوعان ظمآن، ولا سيما في أيام الحر الشديد، والصلوات المشروعات لا يدخل فيها مع وجود شاغل يمكن رفعه.
الثامن: أن سجدتيها مكروهتان، فإن الشريعة لم ترد بالتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة لا سبب لها، فإن القرب لها أسباب، وشرائط، وأوقات، وأركان لا تصح بدونها، فكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة، ومزدلفة، ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة من غير نسك واقع في
__________
(1) متفق عليه بلفظ: أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.
(2) رواه أحمد بسند ضعيف عن أبي ذر. وهو صحيح دون قوله: وأخر السحور. كما رواه الشيخان عن سهل بن سعد.(1/7)
وقته بأسبابه وشرائطه، فكذلك لا يتقرب إليه بسجدة منفردة، وإن كانت قربة إذا كان لها سبب صحيح، وكذلك لا يتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة، والصيام في كل وقت وأوان، وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعد عنه، من حيث لا يشعرون (1) .
التاسع: لو كانت السجدتان مشرعتين، لكان مخالفاً للسنة في خشوعهما وخضوعهما، بما يشتغل به من عدد التسبيح فيهما بباطنه، أو بظاهره، أو بباطنه وظاهره.
العاشر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن تكون في صوم يصومه أحدكم)) وهذا الحديث قد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه (2) .
الحادي عشر: أن في ذلك مخالفة السنة فيما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذكار السجود، فإنه لما نزل قوله سبحانه وتعالى: {سبح اسم ربك الأعلى}، قال: ((اجعلوها
__________
(1) هذا مما يشعر أن المؤلف رحمه الله لا يرى البدعة الحسنة بالمفهوم السائد عند المتأخرين وهو التقرب إلى الله بما لم يشرعه الله بحجة أن أصله مشروع، ويؤيد ذلك ما سيأتي في رسالته الثانية ان البدعة الحسنة عنده لا تخالف السنن بل توافقها. فتأمل.
(2) كتاب الصوم (3/154).(1/8)
في سجودكم (1) ، وقوله: ((سبوح قدوس)) وإن صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح أنه أفردها بدون سبحان ربي الأعلى، ولا أنه وظفها على أمته، ومن المعلوم أنه لا يوظف إلا أولى الذكرين، وفي قوله: ((سبحان ربي الأعلى)) من الثناء ما ليس في قوله: ((سبوح قدوس)) (2) .
ومما يدل على ابتداع هذه الصلاة، أن العلماء الذين هم أعلام الدين، وأئمة المسلمين، من الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، وغيرهم ممن دون الكتب في الشريعة، مع شدة حرصهم على تعليم الناس الفرائض والسنن، لم ينقل عن أحد منهم أنه ذكر هذه الصلاة ولا دونها في كتابه ولا تعرض لها في مجالسه. والعادة تحيل أن تكون مثل هذه سنة، وتغيب عن هؤلاء الذين هم أعلام الدين، وقدوة المؤمنين، وهم الذين إليهم الرجوع في جميع الأحكام من الفرائض والسنن، والحلال والحرام، وهذه الصلاة لا يصليها أهل المغرب الذين شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لطائفة منهم أنهم لا يزالون
__________
(1) رواه أحمد وأبوداود وابن ماجه وغيرهم عن عقبة بن عامر بسند ضعيف كما بينته في: أرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل رقم (327)، ولذلك فلا يصح الاستدال به على ما ذكره المؤلف، وقد صح عنه (ص) أنواع من اذكار الركوع فايها فعل المصلي أجزأه انظر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (91-92).
(2) من طبقات السبكي وفي الأصل نقص واضطراب.(1/9)
على الحق حتى تقوم الساعة (1) ولذلك لا تفعل بالإسكندرية لتمسكهم بالسنة. ولما صح عند السلطان الملك الكامل رحمه الله أنها من البدع المفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبطلها من الديار المصرية فطوبى لمن تولى شيئاً من أمور المسلمين فأعان على إماتة البدع وإحياء السنن.
وليس لأحد أن يستدل بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الصلاة خير موضوع (2) ) فإن ذلك مختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه، وهذه الصلاة مخالفة للشرع من الوجوه المذكورة، وأي خير في مخالفة الشريعة؟! ولمثل ذلك قال صلى الله عليه وسلم ((شر
__________
(1) إن كانت اشارته لحديث مسلم: لايزال أهل الغرب ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة، فأهل الغرب هنا هم أهل الشام، كما صرح بذلك الأمام أحمد. وانظر: رسالة مناقب الشام وأهله لشيخ الاسلام الامام ابن تيمية، ورسالة: تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق للألباني وهما من مطبوعاتنا.
(2) هو حديث حسن أخرجه الطيالسي وأحمد والحاكم من طريقين عن أبي ذر، وله شاهد من حديث أبي أمامة عند أحمد والطبراني في الكبير، وطرقه ضعيفة لكن يقوي بعضها بعضا. وقال العراقي: أخرجه أحمد، وابن حبان والحاكم.(1/10)
الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (1) ).
وفقنا الله للإجابة والاتباع، وجنبنا الزيغ والابتداع.
وقد بلغني أن رجلين (2) ممن تصدى للفتيا مع بعدهما عنها سعَيا في تقرير هذه الصلاة وأفتيا بتحسينها وليس ذلك ببعيد مما عهد من خطلهما وزللهما، فإن صح ذلك عنهما ما حملهما على ذلك إلا أنهما قد صلياها مع الناس مع جهلها بما فيها من المنهيات، فخافا وفرقا إن نهيا عنها أن يقال لهما فلم صليتماها؟ فحملهما اتباع الهوى على أن حسنا ما لم تحسنه الشريعة المطهرة، نصرة لهواهما على الحق، ولو أنهما رجعا إلى الحق وآثراه على هواهما وأفتيا بالصواب، لكان الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل، { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً }.
والعجب كل العجب لمن يزعم أنه من العلماء ويفتي بأن هذه الصلاة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يسوغ موافقة وضاعها عليها، وهل ذلك إلا إعانه للكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن اتبع الهوى ضل عن سبيل الله كما نص عليه القرآن' ثم أفتيا بصحتها مع اختلاف
__________
(1) رواه مسلم وغيره من حديث جابر. وأبوداود وغيره من حديث العرباض.
(2) أحدهما ابن الصلاح أما الثاني فلم نجد ما يعرفنا به.(1/11)
أصحاب الشافعي رضي الله عنهم في صحة مثلها، فإن من نوى صلاة ووصفها في نيته بصفة فاخلفت تلك الصفة هل تبطل صلاته من أصلها أو تنعقد نفلاً ؟ فيه خلاف مشهور.
وهذه الصلاة بهذه المثابة، فإن من يصليها يعتقد أنها من السنن الموظفة الراتبة، وهذه الصفة متخلفة عنها فأقل مراتبها أن تجرى على الخلاف.
والحمد لله رب العالمين.
علقه لنفسه فقير رحمة ربه أحمد بن يحيى بن بشارة عفا الله عنهم والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فرغ يوم السبت سابع عشر من شوال من سنة اثنتي عشرة وسبعمائة.
لكاتبه
كتبت وإني للكتاب لحاسد ... على أنه بعدي زماناً يعمر(1/12)
الرد على الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة وبيان ما فيها من مخالفة السنن المشروعة
تصنيف الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد الورع الناسك مفتي المسلمين تقي الدين ابن الصلاح رحمه الله تعالى(1/13)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد الورع الناسك مفتي المسلمين تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الصلاح رحمه الله تعالى:
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
الحمد لله الذي أبان منار الحق وأناره، وأزال ما حاد عن سبيله وأباره، والصلاة والسلام الأوفران على سيدنا محمد وآله والنبيين والصالحين ما اعترى ضياء ظلاماً فأغاره آمين آمين.
سألتم أرشدكم الله وإياي عن ما رامه بعض الناس من إزالة صلاة الرغائب وتعطيلها، ومنع الناس من عبادة اعتادوها في ليلة شريفة، لا شك في تفضيلها، واحتجاجه لذلك بأن الحديث الوارد بها ضعيف بل موضوع، ودعواه أنه يلزم من ذلك رفعها وإلحاقها بالأمر المطرح المدفوع، وغلوه في ذلك وإسرافه، وغلو الناس في مشاقته وخلافه، حتى ضرب له المثل بقوله ذلك بقول الله تبارك وتعالى {أرأيت الذي ينهى(1/14)
عبداً إذا صلى} إلى {كلا لا تطعه واسجد واقترب} فرغبتم في أن أبين الحق في ذلك وأوضحه، وأزيف الزائف منه وأزحزحه، فاستعنت بالله تبارك وتعالى على ذلك واستخرته، وأوجزت القول فيه واختصرته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب فأقول:
هذه الصلاة شاعت بين الناس بعد المائة الرابعة، ولم تكن تعرف، وقد قيل: إن منشأها من بيت المقدس -صانها الله تبارك وتعالى- والحديث الوارد بها بعينها وخصوصها ضعيف ساقط الإسناد عند أهل الحديث، ثم منهم من يقول: هو موضوع، وذلك الذي نظنه. ومنهم من يقتصر على وصفه بالضعف، ولا يستفاد له صحة من ذكر رزين بن معاوية إياه في كتابه في تجريد الصحاح، ولا من ذكر صاحب كتاب(1/15)
((الإحياء)) له فيه واعتماده عليه؛ لكثرة ما فيهما من الحديث الضعيف، وإيراد رزين مثله في مثل كتابه من العجب.
ثم إنه لا يلزم من ضعف الحديث بطلان صلاة الرغائب والمنع منها، لأنها داخلة تحت مطلق الأمر الوارد في الكتاب والسنة، بمطلق الصلاة، فهي إذاً مستحبة بعمومات نصوص الشريعة الكثيرة الناطقة باستحباب مطلق الصلاة، ومنها ما رويناه في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلاة نور (2) ).
وما رويناه من حديث ثوبان وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) له صحبة مختلف باسمه اختلافا كثيراً لا يمكن الوقوف على الحقيقة فيه، وتوفي في خلافة سيدنا عمر
(2) هو قطعة من حديث عند مسلم في: الطهارة (1/140).(1/16)
قال: ((استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)) أخرجه ابن ماجه (1) في سننه وله طرق صحاح.
وأخص من ذلك بما نحن فيه ما رواه الترمذي في كتابه تعليقاً من حديث عائشة رضي الله عنها ولم يضعفه (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى بعد المغرب عشرين ركعة، بنى الله له بيتاً في الجنة)) فهذا مخصوص بما بين المغرب والعشاء، فهو يتناول صلاة الرغائب من جهة أن اثنتي عشرة ركعة داخلة في عشرين ركعة، وما فيها من
__________
(1) يعني عند غير ابن ماجه مثل الدارمي وأحمد وغيرهما. انظر: أرواء الغليل رقم (405).
(2) هذا القول ان خلا من إيهام ما لايجوز، فهو على الأقل مما لا طائل تحته، لأن عدم تضعيف الترمذي إياه لا يفيد تقوية له كيف والترمذي لو صرح بالتصحيح لوجب على أمثال المؤلف أن لا يبادروا إلى الاعتداد بتصحيحه لما عرف به من التساهل في ذلك، ولذلك قال الحافظ الذهبي: لايعتمد العلماء على تصحيح الترمدي. كيف والترمذي قد أشار إلى تضعيف الحديث بتصديره إياه بقوله (2/299): وقد روى ... فذكره بصيغة المجهول! ومع ذلك فهل يخفى على المؤلف أن ابن ماجه قد وصله في سننه رقم (1373) من طريق يعقوب بن الوليد المديني بسنده إلى عائشة، وأن يعقوب هذا من الكذابين الكبار كما قال الإمام أحمد؟!(1/17)
الأوصاف الزائدة يوجب نوعية وخصوصية غير مانعة من الدخول في هذا العموم، على ما هو معروف عند أهل العلم فلو لم يرد إذا حديث أصلاً بصلاة الرغائب بعينها، ووصفها، لكان فعلها مشروعاً لما ذكرناه.
وكم من صلاة مقبولة مشتملة على وصف خاص لم يرد بوصفها ذلك نص خاص من كتاب ولا سنة، ثم لا يقال: إنها بدعة، ولو قال قائل أنها بدعة لقال مع ذلك بدعة حسنة (1) ، لكونها راجعة إلى أصل من الكتاب أو السنة.
ومن أمثال هذا، ما لو صلى إنسان في جنح الليل مثلاً خمس عشرة ركعة بتسليمة واحدة، وقرأ في كل ركعة آية من خمس عشرة سورة على التوالي، خص كل ركعة منها بدعاء خاص.
فهذه صلاة مقبولة غير مردودة، وليس لأحد أن يقول: هذه صلاة مبتدعة مردودة (2) فإنه لم يرد بها على هذه الصفة كتاب، ولا سنة.
__________
(1) بل هي بدعة ضلالة لانها في العبادة، وما كان من البدع من هذا القبيل فكلها ضلالة لما سبق.
(2) بل هي صلاة مبتدعة مردودة ليس لأحد أن يقتصد صلاتها لأنه لا أصل لها بهذه الكيفية ودعوى أن لها أصلا، لا يجدي، لأن البحث في الكيفية لا في الاصل، ومن المسلم به أنها محدثة يجب أن تكون ضلالة بنص عموم ذم كل بدعة، وقبل هذه الصلاة هي التي يسميها الإمام الشاطبي في الاعتصام بالبدعة الاضافية. وما يقابلها البدعة الحقيقة، وهي أضل من الأولى.(1/18)
ولو وضع لها حديثاً بإسناد رواها به، لأبطلنا الحديث وأنكرناه، ولم ننكر الصلاة فكذلك الأمر في صلاة الرغائب من غير فرق والله أعلم.
هذا انتهاء الإملاء في اليوم الأول ولهذا شواهد ونظائر لا تحصى من سائر أحكام الشريعة، نعم ما يكون من ذلك صفته الزائدة منكراً يردها شيء من أصول الشريعة فذلك الذي يحكم عليه بكونه من البدع المذمومة، والحوادث المردودة.
والذي يتوهم فيه من صلاة الرغائب أنه كذلك أمور نذكرها ونبين بالدليل الواضح كونها سالمة من ذلك إن شاء الله تعالى.
أحدها: ما فيها من تكرار السورة.
وجوابه أن ذلك ليس من المكروه المنكر، فقد ورد نحو ذلك، وورد في بعض الأحاديث تكرار سورة الإخلاص (1)
__________
(1) لا أعلم في ذلك غير حديثين: الأول عن أنس بن مالك قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ لهم في الصلاة فقرأها، افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة فكلمه أصحابه فقالوا إنك تقرأ بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزيك حتى تقرأ بسورة أخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بسورة أخرى، قال ما أنا بتاركها فإن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت، وإن كرهتم تركتكتم، وكانوا يرونه أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه و سلم أخبروه الخبر، فقال: يا فلان ما يمنعك مما يأسر به أصحابك وما يحملك أن تقرا هذه السورة في كل ركعة ؟ فقال: يا رسول الله إني أحبها، فقال رسول الله (ص): إن حبها أدخلك الجنة.
أخرجه الترمذي (2/148- بولاق) وقال: حسن غريب صحيح. والبيهقي (2/60-61) باسناد صحيح على شرط مسلم وعلقه البخاري.
الثاني: عن ابن الديلمي – وهو ابن أخت النجاشي وقد خدم النبي (ص) قال: قال رسول الله (ص): من قرأ (قل هو الله أحد) مائة مرة في الصلاة أو غيرها كتب الله له براءة من النار. قال الهيثمي (7/ 145): رواه الطبراني وفيه محمد بن قدامة الجوهري وهو ضعيف.
قلت: وإذا عرف لفظ الحديثين تبين أن لا حجة فيها لما ذهب إليه المؤلف من جواز التكرار أما الأول، فلأنه ليس فيه تكرار السورة الواحدة في الركعة الواحد كما هو المدعى، وأما الآخر فلضعف إسناده.(1/19)
فإن لم نستحبه، لم نعده من المكروه المنكر، لعدم دليل قوي على ذلك.
وما ورد عن بعض أئمة الحديث من كراهة نحو ذلك، فمحمول على الكراهة، التي هي بمعنى ترك الأولى فإن الكراهة قد أطلقت على معان وذلك أحدها. والله أعلم (1) .
الثاني: السجدتان الفردتان عقيب هذه الصلاة، وقد اختلف أئمتنا في كراهة مثل ذلك، فإن كان المنازع يختار
__________
(1) قال الإمام ابن القيم في: إعلام الموقعين (1/39): وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم وسبب ذلك تورع الأئمة عن اطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ الكراهة ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الاولى، وهذا كثير جدا في تصرفاتهم، فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة ثم ذكر عدد كبيرا من الادلة من كتاب الله وسنة رسوله وكلام الأئمة.(1/20)
قول من يكرهها فسبيله أن يتركها فحسب، لا أن يترك الصلاة من أصلها، وهكذا الأمر في تكرار السورة سواء بقي على الصلاة اسمها المعروف لبقاء معظمها، أو لم يبق، لكون المقصود إبقاء الناس على ما اعتادوه، ومن شغل هذا الوقت بالعبادة وصيانتهم من الترك لا إلى خلف، والله أعلم.
الثالث: ما فيها من التقييد بعدد خاص من غير قصد، وهذا قريب راجع إلى ما سبق الكلام عليه، وهو كمن يتقيد بقراءة سبع القرآن أو ربعه كل يوم وكتقييد العابدين بأورادهم التي يختارونها لا يزيدون عليها ولا ينقصون (1) والله أعلم.
الرابع: أن ما فيها من عدد السور والتسبيح وغيرهما مكروه (لإشغاله القلب) (2) .
وجوابه أن ذلك غير مسلم وهو يختلف باختلاف القلوب وأحوال الناس.
__________
(1) هذا التقييد ان كان على سبيل التنطيم للعمل بحيث أنه لا تتخذ طريقة يلتزمها كل الناس، فلا شيء فيه لأنه لا يقصد به التقرب إلى الله تعالى، وأما ان انخذ طريقة، ووضعت في الكتب والتزمها الناس جميعا كبعض صيغ الصلوات والاوراد، مثل الصلاة المعروفة بالصلاة النارية بعدد (4444)! بحيث يظن أكثر الناس أنها مشروعة منقوله عن النبي (ص) فلا يشك حينئذ عاقل في أن ذلك لا يشرع.
وإني لاعرف أحد المشايخ كان إذا سافر استصحب معه كتاب: دلائل الخيرات وفيه في كل يوم وظيفة، فكان أحيانا يفوته حزبه حزبه من القرآن، ولا يفوته ورده من الدلائل، فكنت أسأله عن ذلك فيقول: حزب القرآن يمكن قضاؤه في كل يوم، وأما ورد الدلائل فهو مخصص بيومه! أفليس هذا تشريع في الدين؟! فالله المستعان
(2) مابين القوسين كان بياضا في الأصل ولعل الكلام ما أثبتناه.(1/21)
وقد روي عد الآيات في الصلاة عن عائشة رضي الله عنها وطاووس وابن سيرين وسعيد بن جبير والحسن وابن أبي مليكة في عدد كثير من السلف.
وقال الشافعي رضي الله عنه: لا بأس بعد الآي في الصلاة، نقله عنه صاحب ((جمع الجوامع)) في منصوصاته من غير خلاف، وحكاه ابن(1/22)
المنذر عن مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وغيرهم ويشهد له من الحديث؛ حديث صلاة التسبيح (1) والله أعلم.
الخامس: فعلها جماعة، مع أن الجماعة في النوافل مخصوصة بالعيدين، والكسوفين، والاستسقاء، وصلاة التراويح ووترها.
__________
(1) اختلف العلماء في حديثها اختلافا قديما، فمنهم من حكم بوضعه، ومنهم من قال بضعفه، ومنهم من صححه وهذا هو الذي نميل إليه لكثرة طرق الحديث، وقد جمعها بعض المتقدمين في جزء، كالدراقطني وغيره. وفي المكتبة الظاهرية بدمشق جزء في طرقها للخطيب.(1/23)
وجوابه أن الحكم في ذلك؛ أن الجماعة لا تسن إلا في هذه الستة، لا أن الجماعة منهي عنها في غيرها من النوافل (1) .
وفي ((مختصر الربيع)) عن الشافعي رضي الله عنهما أنه قال: لا بأس بالإمامة في النافلة، ومن الدليل عليه ما رويناه في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما.
((أنه بات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فلما قام يصلي صلاته من الليل قام ابن عباس رضي الله عنهما يصلي خلفه، ووقف عن يساره فأداره إلى يمينه)).
وفي رواية مسلم التصريح بأنه قام يصلي متطوعاً من الليل. وثبت عن أنس رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) إذا كانت الجماعة لاتسن في غير المذكورات فهي منهي عنها بعموم أدلة النهي عن الابتداع، ومن المعلوم أن الذي يجمع في هذه النوافل انما يفعل ذلك تقربا إلى الله ولولا ذلك لصلاها منفردا، والتقرب إلى الله بما لم يشرع لا يجوز كما هو ظاهر. على أننا نرى أن الجماعة في بعض النوافل لا السنن الراتبة تشرع أحيانا لحديث أنس وابن عباس وعتبان بن مالك وسيذكر ذلك المؤلف.(1/24)
أتاهم في دارهم في غير وقت الصلاة، فصلى به وبأم سليم وأم حرام)).
وفي رواية لأبي داود (1) فصلى بنا ركعتين تطوعاً وفي ((الصحيحين)) نحوه عن عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنهم، والله أعلم.
السادس: أن هذه الصلاة صارت شعاراً ظاهراً حادثاً ويمتنع إظهار شعار ظاهر في الدين.
__________
(1) أخرجه هو (608) وأحمد (3/248) أيضا بسند صحيح على شرط مسلم عن ثابت أن رسول الله (ص) دخل على أم حرام فأتوه بسمن وتمر فقال: ردوا هذا في وعائه، وهذا في سقائه فاني صائم، ثم قام فصلى بنا ركعتين تطوعاً، فقامت أم سليم وأم حرام خلفنا، قال ثابت: ولا أعلمه إلا قال: أقامني عن يمينه على بساط.(1/25)
وجوابه: أن حاصل ذلك يرجع إلى أنها عبادة لها أصل في الشريعة، ظهرت وكثرت الرغبات فيها، وهذا لا يوجب أن يعكر عليها باحتثاثها من أصلها، فإن ما اختص به علماء المسلمين في علم الفقه وسائر علوم الدين، من التأصيل، والتفصيل، والتفريع، والتدقيق، والتصنيف، والتدريس شعار ظاهر حدث في الدين لم يكن في صدر الإسلام، فلم لا نقول: إن ذلك مبتدع ينبغي اجتنابه، وشعار محدث يتعين اجتثاثه، والله أعلم.
وقد احتج المنازع بأشياء أخر لا تساوي الذكر، ومما يجاب به عنها أن يقال له: صل هذه الصلاة وتجنب وجنب فيها ما زعمت أنه محذور كما بيناه فيما سبق، وهو معتمد منها بقوله: إن في ذلك اختصاص ليلة الجمعة بالقيام، وهو منهي عنه، وهذا ليس بشيء لأنه ليس بلازم من حال من يصلي صلاة الرغائب أن يدع في باقي لياليه صلاة الليل، ومن لم يدع ذلك لم يكن مخصصاً ليلة الجمعة بالقيام، وهذا واضح والله أعلم.
فقد وضح بما بيناه وأصلناه أن صلاة الرغائب غير ملتحقة بالبدع المنكرة!! وأن الحوادث ذوات وجوه مختلفة مشتبهة، فمن لم يميز كان بصدد إلحاق الشيء منها بغير نظيره!! والله تعالى أعلم.(1/26)
فهذا بيان شاف، يتضاءل له إن شاء الله تعالى خلاف المخالف، ويتبدل به وصفه إذا لم يعاند، بوصف الموافق المؤالف، ولا يبقى له بعده إلا جعجعة لا طائل ورآها، وقعقعة وإبهامات لا يغتر بها إلا شرذمة أفسدت أهواؤها آراءها، وما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله وحده لا شريك له ونعم الوكيل.
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام الأفضلان على سيدنا سيد عباده، وعلى آله وسائر النبيين والصالحين آمين آمين آمين.
آخر إملاء ابن الصلاح في الرد على الترغيب في صلاة الرغائب الموضوعة، وبيان ما فيها من مخالفة السنن المشروعة.
علقه لنفسه أحمد بن بشارة، وفرغ يوم الأحد خامس ذي القعدة من سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وحسبنا الله ونعم الوكيل.(1/27)
تفنيد رد ابن الصلاح لسلطان العلماء العز بن عبد السلام(1/28)
بسم الله الرحمن الرحيم
حسبي الله
قال الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد الورع الناسك، مفتي الفرق، ناصر السنة، عز الدين أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله تعالى:
يقول الفقير إلى الله تعالى عبد العزيز بن عبد السلام:
أما بعد: حمداً لله الذي لا إله إلا هو، والصلاة على نبيه محمد وآله، فإني لما أنكرت صلاة الرغائب الموضوعة وبينت مخالفتها للسنن المشروعة من الجهات التي ذكرتها في تعليق ذلك، انتهض (1) بعض الناس معارضاً لذلك، ساعياً في تحسينها وتقريرها روماً لإلحاقها بالبدع الحسنة من جهة كونها صلاة.
وإنما أنكرتها لمجموع صفاتها وخصائصها التي بعضها يقتضي التحريم وبعضها يقتضي مخالفتها للسنن، فأخذ يشنع علي أني منعت الناس من عبادة، وأنا لم أنكر ذلك لكونها عبادة، وإنما أنكرتها لصفاتها ناهياً عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في الأصل: انبهض.(1/29)
ومقتدياً بما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الصلوات في الأوقات المكروهات، فإنه لم ينه عن ذلك لمجرد كونها صلاة، وخشوعاً، وذكراً، وتلاوة؟ وإنما نهى عنها لأمر تختص به، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم بن الحجاج أنه نهى عن اختصاص ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي.
وقد شرط واضع هذه البدعة فيها أن توقع في الليلة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختصاصها بالقيام. فويل لمن جعل ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قربة إلى الله تعالى.
ثم قال: اعتادها الناس في ليلة شريفة لا شك في تفضيلها، فجعل اعتياد من لا علم له حجة في فعل بدعة منهى عنها، وإنما يفعلها عوام الناس، ومن لم يرسخ قدمه في علم الشريعة، ثم أخطأ في القطع بتفضيلها؛ فإنه أراد بكونها ليلة جمعة واقعة في رجب، فمتى ثبت تفضيل هذه الليلة على سواها؟ وإن أراد مجرد كونها ليلة جمعة فقد أخطأ بإيهامه أنها مقيدة برجب!! وأخطأ أيضاً في تعبيره عن المبالغة في نصرة الدين وإماتة البدع، بلفظ السرف والغلو.
وأما المثل الذي ذكره في قوله تعالى {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} إلى قوله: {واسجد واقترب} فذلك تحريف لكتاب الله تعالى، ووضع له في غير مواضعه، فإن الآية نزلت في إنكار(1/30)
أبي جهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم المأمور بها، وإنكار صلاة الرغائب إنكار لصلاة نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فإذن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم -على مقتضى قوله- قد نهى عبداً إذا صلى فيما نحن فيه، وفي الصلوات في الأوقات المكروهات.
وكذلك حرف في قوله تعالى {كلا لا تطعه ..} الآية لأن الناهي عن هذه الصلاة ونظائرها هو الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فيكون على تأويله قد أمرنا الله تعالى أن لا نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نهي عنه من الصلوات.
وذكر أنه استخار الله تعالى في ذلك، وقد ظهر أنه لم يخر له لأنه لو خار له لأفهمه الحق وألهمه الصواب.
ثم اعترف أنها بدعة موضوعة، فنحتج عليه إذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)) وقد استثنيت البدع الحسنة من ذلك؛ وهي كل بدعة لا تخالف السنن بل توافقها فيبقى ما عداها على عموم قوله صلى الله عليه وسلم ((شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) وليست صلاة الرغائب في معنى ما استثنى حتى تلحق بها قياساً.(1/31)
وأما استدلاله بقوله صلى الله عليه وسلم : ((الصلاة نور)) وبقوله صلى الله عليه وسلم : ((واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)) فلا يصح؛ لأن ذلك مخصوص بالإجماع بكل صلاة لم يتوجه إليها نهي، وأما ما نهى عنه الشرع فليس بنور بل هو ظلمة وليس بخير الأعمال إذ لا خير في مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نور في معصيته ((ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور)) ورب حامل فقه ليس بفقيه (1) .
وأما استدلاله بما أخرجه الترمذي تعليقاً من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة)) فإن كان عالماً بأن المعلق لا حجة فيه فكيف يستدل بما لا حجة فيه، وإن ظن أن مثله حجة، فمذهبه الذي ينتمي إليه ويعتمد عليه لا يقتضي ذلك، مع أن هذا الحديث قد أسنده ابن ماجه في سننه وفي إسناده يعقوب بن الوليد المديني وهو كذاب وضاع على ما ذكره أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الحديث.
فوا عجباً لمن يترك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث الذي لا وزن له.
وأما ادراجه صلاة الرغائب في هذا الحديث فلا يستقيم، لأن هذا الحديث -لو صح- لم تندرج فيه هذه الصلاة فإنه
__________
(1) هو قطعة من حديث صحيح رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه من طرق.(1/32)
خرج مخرج الترغيب. والترغيب مقيد بعشرين ركعة فلا يتحقق فيما دونها (1) .
وأما ما ذكره من أحداث الصلوات التي توقع على أوصاف خاصة؛ فجوابه: أن الأوصاف ضربان.
أحدهما: ما يقتضي الكراهة كصفات صلاة الرغائب فتلك بدعة مكروهة.
الثاني: ما لا يقتضي الكراهة فيكون من البدع الحسنة. والمثال الذي ذكره مندرج في هذا الضرب.
وأما قوله في المثال: لو وضع لهذه الصلاة حديثاً لأنكرناه ولم ننكر الصلاة، فكذلك الأمر في صلاة الرغائب من غير فرق.
فجوابه: أن الفرق من وجوه.
أحدها: أن صلاة الرغائب بخصوصياتها توهم العامة أنها سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو الواقع بخلاف الصلاة في المثال المذكور.
الثاني: أن تعاطي صلاة الرغائب يوقع العامة في أن يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسبوه إلى أنه سنها بخصوصياتها فيكون متعاطيها متسبباً إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الصلاة التي مثل بها.
__________
(1) وقد سبق في المقدمة: أن صلاة الرغائب اثنتى عشر ركعة.(1/33)
الثالث: أن تعاطي صلاة الرغائب مما يغري الواضعين بالوضع لنفاق كذبهم وعمومه بخلاف ما مثل به.
الرابع: أن تعاطيها بخصوصها يتضمن تعطيل سنن كثيرة، بخلاف ما مثل به.
الخامس: أن صلاة الغرائب في حق من يعتقد أنها سنة راتبة يجب تخريجها (1) صحتها على الخلاف فيمن وصف الصلاة في نيته بصفة فأخلفت، ولا خلاف في صحة الصلاة في المثال المضروب.
ثم قد ناهض حكمه بأنها من البدع الحسنة بقوله: إن الصفة الزائدة إذا كانت منكرة يردها شيء من أصول الشريعة فهي من البدع المذمومة، والحوادث المردودة. وتعاطي صلاة الرغائب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان الحال، وتسبب إلى الكذب عليه وإغراء للواضعين بالوضع، وكل ذلك مما ترده أصول الشريعة.
وأما نسبته المنكر لصلاة الرغائب إلى أنه أنكر تكرار السور، فلم ينكر تكرار السور، وإنما أنكر شغل القلب عن الخشوع بعدها.
وأما قوله: فليس ذلك من المكروه المنكر، فقد ورد نحو ذلك.
فجوابه: أنه إن أراد بما ورد تسبيحات الركوع، والسجود، وتكبيرات العيد، فالفرق من وجهين.
__________
(1) كذا الأصل: ولعلها: تخريج.(1/34)
أحدهما: أن ذلك عدد قليل يتأتى تعاطيه مع ملاحظة الخشوع.
والثاني: أن ذلك العدد مما ثبتت شرعيته في الصلاة. فإن كان الخشوع لا يتأتى معه وجب تقديمه على الخشوع. فقدمنا أحد مأموري الشرع على الآخر، بخلاف العد في صلاة الرغائب فإنه طويل غير مشروع، فإذا تعاطاه المصلي كان تاركاً للخشوع المشروع بأمر غير مشروع.
وأما ما ورد في بعض الأحاديث من تكرار سورة الإخلاص، فإن لم يصح هذا الحديث فلا حجة فيه، وإن صح فإن دل على الجواز (1) فنحن لا ننكر الجواز، وإن دل على الاستحباب فإن لم يتأتى معه الخشوع كان الشرع مقدماً له على الخشوع، وإن تأتى معه الخشوع صار كتسبيحات الركوع، وإن لم يدل على الاستحباب كان مكروهاً لما فيه من تفويت مقصود الصلاة، وإعراض القلب عن الله تعالى، مع أن مجرد التكرار لا يشعر بالتعديد فكم من مكرر غير معدد، فإن كان قد عبر عن التعديد بالتكرير فسوء عبارة تنبئ عن المقصود.
وأما تأويله كراهة بعض أئمة الحديث لذلك، بأنه محمول على ترك الأولى فمخالفة للظاهر بغير دليل، فإن الكراهة ظاهرة في المنهي الذي لا إثم في فعله بغلبة الاستعمال، فحملها على ترك الأولى تأويل بغير دليل.
__________
(1) الحديث صحيح بلا شك ولكنه لا يدل على الجواز كما سبق بيانه صفحة (19).(1/35)
وأما قوله في السجدتين عند من يرى كراهتها: أن سبيله أن يتركهما فحسب، فهذا لا يستقيم لأن الإنكار إنما وقع على صلاة الرغائب بخصائصها، وتوابعها، ولواحقها، ولا يلزم من إنكار المركب بعض أجزائه.
وأما حرص هذا المسكين على إبقائها، أو إبقاء بدلها فذلك حرص منه على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها أو في بدلها (1) إذ نهى صلى الله عليه وسلم عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام كأنه يقول: إن لم يأت بصلاة الرغائب المكروهة من وجوه، فليأت بمكروه آخر يقوم مقامها، حتى لا يخلو من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!!
وأما نسبته المنكر إلى أنه أنكر تقييدها بعدد خاص!! فهذا افتراء وتقول.
وأما نقله عن جماعة من العلماء أنهم أجازوا عد (2) الآيات.
فنحن لا ننكر الجواز، ولا يصح استشهاده بصلاة التسبيح إذا لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) فلا تسقط الخشوع الذي ثبت في الشرع أنه من سنن الصلاة بما لم يثبت من ملاحظة العدد.
__________
(1) في الأصل: بلدها وهو تحريف من الناسخ.
(2) في الأصل: عدد وهو وهم من الناسخ.
(3) بل قد ثبت بمجموع طرقه، فانظر تعليقنا على الصفحة (23).(1/36)
وأما قوله: يجوز الاقتداء في نوافل الصلوات.
فنحن ما منعنا الجواز، وإنما قلنا السنة فيها الإنفراد، إلا ما استثنى، مع أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ولم يجعله شعاراً متكرراً.
وأما استشهاده باقتداء ابن عباس رضي الله عنهما برسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل فلا يصح؛ لأن التهجد كان واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عند الشافعي رضي الله عنه، فلم يقع الاقتداء في نفل. وأما ما روي أنه قام يصلي متطوعاً، فذاك ظن من الراوي (1) .
وأما حديث أنس وعتبان بن مالك رضي الله عنهما.
فالفرق بينهما وبين صلاة الرغائب لأن الاقتداء في صلاة الرغائب، توهم العامة أنها سنة، وشعار في الدين، بخلاف ما وقع في حديث أنس وعتبان رضي الله عنهما فإنه نادر فلا يوهم العامة أنه من السنة، بل يوهم الجواز وذلك متفق عليه؟
وأما نسبته المنكر إلى أنه قال: إن هذه الصلاة صارت شعاراً ظاهراً حادثاً في الدين. فهذا تقول منه وافتراء.
وأما تشبيهه هذه الصلاة بما أحدثه الفقهاء من تدوين أصول الفقه، وفروعه، والكلام على مأخذه، ودقائقه، وحقائقه.
__________
(1) كلا، بل هو يقين منه وهو أنس رضي الله عنه ساقه كما ساق سائر الحديث جازما به برمته، فالظاهر أن المؤلف لم يستحضر نص الحديث حين أجاب عنه بهذا فراجعه في تعليقنا المتقدم ص (25).(1/37)
فلا يصح لأنا قد بينا أن صلاة الرغائب منهي عنها من الوجوه المذكورة، فكيف يقاس ما صح النهي عنه في السنة على ما وقع الإجماع على الأمر به؟!
وأما قوله: وقد (1) احتج المنازع بأشياء أخر لا تساوي الذكر.
فالعجز عن الجواب عنها أوجب له ذلك، إما إيهاماً للعامة أنه ترك الجواب مع القدرة عليه، وإما لشذوذ ذلك عن فهمه،
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم (2)
وأما جوابه عن ذلك بأن يقال لمنكر هذه الصلاة، صلها واجتنب ما فيها مما زعمت أنه محذور.
فلا يصح لأن الإنكار إنما وقع على صلاة الرغائب بخصائصها، ولو تركت خصائصها لخرجت عن أن تكون صلاة الرغائب المنكرة.
وأما ما ذكره على الحديث الصحيح في النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام، وقوله: إن ذلك لا يطرد في حق من يقومها، ويقوم غيرها.
فلا يصح، لأنه سوغ صلاة الرغائب على الإطلاق، لمن خصص ولمن لم يخصص ونحن نقول: وقعت كراهتها من
__________
(1) لم تكن بالأصل والمعنى يقتضيها وفيه إشارة إلى كلام ابن الصلاح الصفحة 28 مخطوط.
(2) البيت للمتنبي من قصيدته التي مطلعها:
إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تفنع بما دون النجوم(1/38)
وجوه، إذا فقد بعضها استقل الباقي بالنهي والكراهة.
وأما قوله: إن الحوادث ذوات وجوه مشتبهة فمن لم يميز كان بصدد إلحاق الشيء منها بغير نظيره.
فهذا شهادة منه على نفسه بعدم التمييز.
وأما تفاصحه بذكر الجعجعة والقعقعة فلا يخفي ما فيه من التكلف والركاكة، ومن اتبع هواه أرداه.
ثم إني ظفرت للمذكور بفتيين قد أجاب فيهما قبل ذلك بما يوافق، وإن كان قد أخطأ في أمور لا تتعلق بما نحن فيه.(1/39)
صورة أحدهما:
بسم الله الرحمن الرحيم
ما تقول السادة الفقهاء الأئمة رضي الله عنهم، في الصلاة المدعوة بصلاة الرغائب، هل هي بدعة في الجماعات أم لا؟ وهل ورد فيها حديث صحيح أم لا؟ أفتونا مأجورين.
وجوابه:
اللهم وفق وارحم
حديثها موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي بدعة حدثت بعد أربعمائة من الهجرة، ظهرت بالشام وانتشرت في سائر البلاد ولا بأس بأن يصليها الإنسان بناء على أن الأحياء فيما بين العشائين مستحب كل ليلة، ولا بأس بأن يصليها الإنسان مطلقاً.
أما أن تتخذ الجماعة فيها سنة، وتتخذ هذه الصلاة من شعائر الدين الظاهرة فهذا من البدع المنكرة، ولكن ما أسرع الناس إلى البدع، والله أعلم. وكتب ابن الصلاح.
تعليق ابن عبد السلام (1)
ولا يخفى ما في هذا الجواب من موافقة الصواب، ولا ما فيه من الاختلال.
وصورة الثانية:
بسم الله الرحمن الرحيم
ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين رضي الله عنهم، فيمن ينكر على من يصلي في ليلة الرغائب ونصف شعبان، ويقول:
__________
(1) هذا العنوان ليس في الأصل.(1/40)
أن الزيت الذي يشعل فيها حرام وتفريط، ويقول: إن ذلك بدعة وما لهما فضل ولا ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهما فضل ولا شرف فهل هو على الصواب أو على الخطأ؟ أفتونا رضي الله عنكم.
وجوابه
اللهم وفق وارحم
أما الصلاة المعروفة في ليلة الرغائب فهي بدعة، وحدثها المروي موضوع، وما حدثت إلا بعد أربعمائة سنة من (1) الهجرة، وليس لليلتها تفضيل على أشباهها من ليالي الجمع.
وأما ليلة النصف من شعبان فلها فضيلة (2) وإحياؤها بالعبادة مستحب، ولكن على الانفراد من غير جماعة. واتخاذ الناس لها ولليلة الرغائب موسماً وشعاراً بدعة منكرة، وما يزيدونه فيهما على الحاجة والعادة من الوقيد ونحوه، فغير موافق للشريعة (3) .
والألفية التي تصلى في ليلة النصف لا أصل لها ولا شباهها.
__________
(1) ليست في الأصل والسياق يقتضيها.
(2) يدل على ذلك مجموع ما ورد في فضلها من الأحاديث وان كانت مفرداتها ضعيفة الاسانيد فبعضها يقوي بعضا ولكن ليس في الشرع ما يدل على خصوص احيائها.
(3) بل هو مخالف لما فيه من اسراف وتبذير في المال واتخاذ شعار لم يأذن به الله، ومثله ايقاد المنائر ليلة الجمعة والاثنين، فكل ذلك غير مشروع.(1/41)
ومن العجب حرص الناس على المبتدع في هاتين الليلتين وتقصيرهم في الموكدات الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله المستعان وهو يعلم. وكتب ابن الصلاح.
[تعليق ابن عبد السلام] (1)
فأظهر الله تعالى سبحانه وتعالى ما الرجل منطو عليه ومصغ إليه.
نسأل الله عز وجل أن يعصمنا من أمثال ذلك، وأن يعافيه مما ابتلاه به، فمثله فليرحم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
كتبه الفقير إلى الله تعالى أحمد بن يحيى بن بشارة عفا الله عنهم، بخزانة الكتب بدار الحديث الأشرفية بدمشق، جوار قلعتها.
فرغ يوم الاثنين ثالث عشر ذي القعدة سنة اثنتي عشرة وسبعمائة.
لكاتبه
كتبت وإني لكتاب لحاسد ... على أنه بعدي زماناً يعمر
__________
(1) هذه الزيادة لم تكن في الأصل.(1/42)
الملحقات
1- فتوى الإمام النووي الأولى.
2- فتوى الإمام النووي الثانية.
3- فتوى الإمام ابن تيمية الأولى.
4- فتوى الإمام ابن تيمية الثانية.
5- كلام ابن الحاج في ((المدخل)).
6- فتوى الشيخ زكريا الأنصاري.
7- بحث الشيخ علي بن إبراهيم العطار تلميذ النووي.(1/43)
رأيت بخط الشيخ نجم الدين حسن الهذباني رحمه الله أحد أصحاب الشيخ الإمام العالم العلامة القدوة شيخ الإسلام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله تعالى: ما صورته سئل شيخنا الإمام العالم العامل الحافظ المتقن المحقق محي الدين رضي الله عنه عن فتيا صورتها:
ما يقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم في صلاة الرغائب، وصلاة نصف شعبان الجارية بهما عادة الناس الآن، هل صلاهما النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؛ أو صلاهما أحد من الأئمة الأربعة المشهورين؛ أعني: الإمام أبا حنيفة والإمام الشافعي، ومالكاً، وأحمد بن حنبل أو أشاروا بصلاتهما، وهل ورد فيهما شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وهل هما موافقتان لمراد الشارع أم لا؟ وهل الأولى فعلهما أو تركهما؟ وهل الوقيد في هاتين الليلتين الخارج عن العادة حرام أو مكروه أو مباح؟ أفتونا مأجورين.(1/45)
فكتب في الجواب:
الحمد لله هاتان الصلاتان لم يصلهما النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولا أحد من الأئمة الأربعة المذكورين رحمهم الله، ولا أشار أحد منهم بصلاتهما، ولم يفعلهما أحد ممن يقتدي به، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهما شيء، ولا عن أحد يقتدي به, وإنا أحدثتا في الأعصار المتأخرة، وصلاتهما من البدع المنكرات، والحوادث الباطلات، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة (1) ).
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت:
((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد)).
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
وينبغي لكل أحد أن يمتنع من هذه الصلاة، ويحذر منها وينفر عنها، ويقبح فعلها، ويشيع النهي عنها.
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من
__________
(1) رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه وغيرهم من طرق عن العرباض سارية وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.(1/46)
رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه (1) ).
وعلى العلماء من التحذير منها والإعراض عنها أكثر مما على غيرهم، لأنهم يقتدى بهم ولا يغترن أحد بكونها شائعة يفعلها العوام وشبههم فإن الاقتداء إنما يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم لا بما نهى عنه وحذر منه.
وأما إيقاد النار وإتلاف الزيت الكثير فيه على الوجه المعتاد فمن المنكرات والقبائح المحرمات.
وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن إضاعة المال ومعناه إخراجه في غير وجهه المأذون فيه، وهذا من ذلك {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
أعاذنا لله من المبتدعات، وحمانا من ارتكاب المخالفات والله أعلم.
نقله كما شاهده أحمد بن يحيى بن بشارة عفا الله تعالى عنهم بمنه.
يوم الاثنين ثالث عشر ذي القعدة من سنة اثنتي عشرة وسبعماية، والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. بخزانة دار الحديث الأشرفية، من بعض الكتب الموقوفة بها رحم الله راقمها وواقفها آمين.
__________
(1) أخرجه مسلم وأصحاب السنن الأربعة وأحمد من حديث أبي سعيد الخدري.(1/47)
فتوى الإمام النووي الثانية (1) :
سئل شيخ الإسلام النووي عن صلاة الرغائب المعروفة في أول ليلة جمعة من رجب هل هي سنة أم بدعة.
الجواب: هي بدعة قبيحة منكرة أشد إنكار مشتملة على منكرات فيتعين تركها والإعراض عنها وإنكارها على فاعلها، وعلى ولي الأمر -وفقه الله تعالى- منع الناس من فعلها فإنه راع وكل راع مسؤول عن رعيته، وقد صنف العلماء كتباً في إنكارها وذمها وتسفيه فاعليها، ولا يغتر بكثرة الفاعلين لها في كثير من البلدان ولا بكونها مذكورة في ((قوت القلوب)) و((إحياء علوم الدين)) ونحوهما فإنها بدعة باطلة، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد)) وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) وفي صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((كل بدعة ضلالة)) وقد أمر الله تعالى عند التنازع بالرجوع إلى كتابه فقال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ولم يأمر باتباع الجاهلين ولا بالاغترار بغلطات المخطئين. والله أعلم.
__________
(1) فتاوى النووي الصفحة (26).(1/48)
فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية الأولى:
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: في رجل جمع جماعة على نافلة وأمهم من أول رجب إلى آخر رمضان يصلي بهم بين العشاءين عشرين ركعة بعشر تسليمات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد ثلاث مرات، ويتخذ ذلك شعاراً، ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أم ابن عباس والأنصاري الذي قال له: السيول تحول بيني وبينك. فهل هذا موافق الشريعة أم لا؟ وهل يؤجر على ذلك أم لا والحالة هذه.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين. صلاة التطوع في الجماعة نوعان:
أحدهما: ما تسن له الجماعة الراتبة كالكسوف والاستسقاء وقيام الليل؛ فهذا يفعل في الجماعة دائماً كما مضت السنة.
الثاني: ما لا تسن له الجماعة الراتبة: كقيام الليل والسنن الراتبة، وصلاة الضحى، وتحية المسجد، ونحو ذلك، فهذا إذا فعل جماعة أحياناً جاز.(1/49)
وأما الجماعة الراتبة في ذلك فغير مشروعة بل بدعة مكروهة فإن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لم يكونوا يعتادون الاجتماع للرواتب على ما دون هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما تطوع في ذلك في جماعة قليلة أحياناً فإنه كان يقوم الليل وحده، لكن لما بات ابن عباس عنده صلى معه. وليلة أخرى صلى معه حذيفة، وأخرى صلى معه ابن مسعود، وكذلك صلى عند عتبان بن مالك الأنصاري في مكان يتخذه مصلى معه، وكذلك صلى بأنس وأمه واليتيم. وعامة تطوعاته إنما كان يصليها مفرداً وهذا الذي ذكرناه في التطوعات المسنونة.
فأما إنشاء صلاة بعدد مقدر، وقراءة مقدرة في وقت معين تصلى جماعة راتبة كهذه الصلوات المسؤول عنها كصلاة الرغائب في أول جمعة من رجب، والألفية في أول رجب ونصف شعبان، وليلة سبع وعشرين من شهر رجب، وأمثال ذلك.
فهذا غير مشروع باتفاق أئمة الإسلام كما نص على ذلك العلماء المعتبرون، ولا ينشئ مثل هذا إلا جاهل مبتدع. وفتح مثل هذا الباب يوجب تغيير شرائع الإسلام وأخذ نصيب من حال الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، والله أعلم.(1/50)
وسئل مرة ثانية بما يلي (1) :
هل صلاة الرغائب مستحبة أم لا؟
فأجاب:
هذه الصلاة لم يصلها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولا أحد من السلف، ولا الأئمة، ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها -الحديث المروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك-.
ولهذا قال المحققون: أنها مكروهة غير مستحبة والله أعلم.
__________
(1) مجموع الفتاوي (1/149)(1/51)
وقال ابن الحاج في مدخله ما يلي:
ومن البدع التي أحدثوها في هذا الشهر الكريم أي شهر رجب أن أول جمعة منه يصلون في تلك الليلة في الجوامع والمساجد صلاة الرغائب ويجتمعون في بعض جوامع الأمصار ومساجدها ويفعلون هذه البدعة ويظهرونها في مساجد الجماعات بإمام وجماعة كأنها صلاة مشروعة.
(وانضم) إلى هذه البدعة مفاسد محرمة وهي اجتماع النساء والرجال في الليل على ما علم من اجتماعهم وأنه لا بد أن يكون مع ذلك ما لا ينبغي مع زيادة وقود القناديل وغيرها وفي زيادة وقودها إضاعة المال لا سيما إذا كان الزيت من الوقف، فيكون ذلك جرحة في حق الناظر لا سيما إن كان الواقف لم يذكره وإن ذكره لم يعتبر شرعاً، وزيادة الوقود مع ما فيه من إضاعة المال كما تقدم سبب لاجتماع من لا خير فيه. ومن حضر من أرباب المناصب الدينية عالماً بذلك فهو جرحة في حقه إلا أن يتوب، وأما إن حضر ليغير وهو قادر بشرطه فحبذا.
وقد ذكر الإمام أبو بكر الفهري المعروف بالطرطوشي رحمه الله تعالى تقبيح اجتماعهم وفعلهم صلاة الرغائب في جماعة وأعظم النكير على فاعل ذلك وقال في كتابه: إنها بدعة قريبة العهد حدثت في زمانه، وأول ما حدثت في المسجد الأقصى أحدثها(1/52)
فلان سماه. فالتسمية هناك، هذا قوله فيها. وهي على دون ما يفعلون اليوم مما تقدم ذكره.
فإن قال قائل قد ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الندب إلى هذه الصلاة، ذكره أبو حامد الغزالي في الإحياء.
فالجواب أن الكلام إنما وقع على فعلها في المساجد وإظهارها في الجماعات وما اشتملت عليه مما لا ينبغي كما تقدم، وأما الرجل يفعلها في خاصة نفسه فيصليها سراً كسائر النوافل فله ذلك ويكره له أن يتخذها سنة دائمة لا بد من فعلها لأن هذه الأحاديث الواردة في فضائل الأعمال بالسند الضعيف.
قد قال العلماء فيها: أنه يجوز العمل بها ولكنها لا تفعل على الدوام فإنه إذا عمل بها ولو مرة واحدة في عمره فإن يكن الحديث صحيحاً فقد امتثل الأمر به، وإن يكن الحديث في سنده مطعن يقدح فيه فلا يضره ما فعل لأنه إنما فعل خيراً ولم يجعله شعيرة ظاهرة من شعائر الدين كقيام رمضان وغيره.
هذا الكلام على صفة الجمع في العمل بالحديث الصحيح والحديث الذي أشكل علينا صحته.
وأما مذهب مالك فإن صلاة الرغائب مكروه فعلها وذلك جار على قاعدة مذهبه، لأن تكرير قراءة السورة الواحدة في ركعة واحدة يمنعها، لأنه لم يكن من فعل من مضى، والخير كله في الاتباع لهم رضي الله عنهم.(1/53)
فتوى الشيخ زكريا الأنصاري:
(سئل) عن صلاة الرغائب، والصلاة التي تصلى في ليلة نصف شعبان، هل هما بدعتان قبيحتان منكرتان على فاعلهما كما نص عليه الشيخ محي الدين النووي أو ليستا كذلك، وإذا قلتم بالأول فماذا يستحقه من أنكر على قائل ذلك أو ناقله؟.
(فأجاب) بأن الحكم كما قال النووي، وعليه فالمنكر على القائل به مخطئ يستحق التأديب، والله أعلم.
بحث الشيخ علي بن إبراهيم العطار:
ومما أحدث فيه صلاة تسمى الرغائب، المروي فيها الأحاديث الموضوعة التي تصلى بين المغرب والعشاء من أول ليلة الجمعة منه، حدثت سنة ثمانين وأربعمائة من الهجرة. وحكم هذه الليلة حكم سائر ليالي الجمع منه، لا مزيد لها على غيرها من ليالي الجمع. واتخاذها موسماً، وزيادة الوقيد على المعتاد؛ بدعة مخالفة للسنة، وما يترتب على ذلك من شغب في المساجد وغيرها حرام، والإيقاد فيها والأكل من الحلواء وغيرها(1/54)
لا ثواب فيه لأجل الليلة ولا مجرداً، بل حكمه حكم سائر ما ينفق في غيرها من الأقتار والتوسعة والمقصد له. والأحاديث المروية في فضلها في الصلاة فيها؛ كلها موضوعة باتفاق أئمة النقل والعدالة. وقد جرت فيها مناظرات ومباحث في أزمنة طويلة بين أئمة الدين وعلماء الإسلام، وأبطلت والحمد لله والمنة.
وقد روي في حديث حسن من راوية أنس رضي الله عنه أن صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أحيا سنة، أو أمات بدعة؛ كان له أجر مائة شهيد)).
فليحذر الذين يخالفون عن أمر رسول الله صلى الله وآله وسلم من الفتنة والعذاب الأليم. ونسأل الله تعالى الإعانة على امتثال أمره صلى الله عليه وآله وسلم، واجتناب نهيه، وأن يعيذنا من الفتنة والعذاب الأليم آمين.
وأبطلت صلاتا رجب وشعبان في بلاد مصر بسعي الحافظ ابن دحية، وأمر سلطاننا الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب.
وما يفعله الناس في هذه الأزمان، من إخراج زكاة أموالهم في رجب دون غيره من الأزمان لا أصل له، بل حكم(1/55)
الشرع أنه يجب إخراج زكاة الأموال عند حولان حولها بشرطه، سواء كان رجباً أو غيره.
نعم يجوز تعجيل زكاة عام أو عامين بشرط وجود سبب الوجوب، والاستحقاق عند الحول، سواء رجب أو غيره، والله أعلم.
ومما بلغني عن أهل مكة زادها الله شرفاً؛ اعتياد كثرة الاعتمار في رجب، وهذا مما لا أعلم له أصلاً، بل ثبت في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)).
ومما أحدث العوام صيام أول خميس منه معتقدين أنه سنة لأجل رجب لأول ليلة جمعة منه ولعله أن يكون آخر يوم من جمادي الآخرة، وذلك بدعة، بل صيام غرر الشهر وهي أوائله وسرره، وهي أواخره، سنة ثابتة من كل شهر، وكذلك صوم الخميس من كل جمعة في كل شهر سنة ثابتة أيضاً؛ فلا خصوصية لرجب في ذلك إلا صرف العوام عن السنة بالنية دون الفعل، والله أعلم (1) .
__________
(1) نقلنا هذه البحث من نسخة مخطوطة لرسالة: حكم صوم رجب وشعبان للعطار.(1/56)