لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام (54)
مسألة في قص الشارب
تأليف
الحافظ زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي
(806 هـ)
حققه وعلق عليه
مولاي عبد الرحيم بن مبارك الدريوش
دار البشائر الإسلامية
الطبعة الثانية
1426 هـ - 2005 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الحمد لله أتم حمده وصلواته وسلامه على محمد ورسوله وعبده.
سألت رضي الله عنك عن حديث، ذكرت أثر رواية النسائي في سننه الكبرى قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري المكي، قال: حدثنا سفيان عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه:
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الفطرة خمسٌ: الختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وحلق الشارب)).
هل هو حديث صحيح؟
وهل ذكر حلق الشارب صحيح أم لا؟
فأقول وبالله التوفيق:
هذا إسنادٌ صحيحٌ، رجاله كلهم ثقات، قد رواه النسائي -كما ذكرت- في سننه الكبرى. وفي سننه الصغرى أيضاً هي متصلة الرواية، فلا حاجة إلى إبعاد النجعة في عزوه إلى الكبرى.(1/23)
ولكنه قد اختلف، في ذكر حلق الشارب فيه على سفيان بن عيينة، فرواه الأئمة: أحمد بن حنبل، وعلي بن (المديني)، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو بن محمد الناقد، وزهير بن حرب، ومسدد بن مسرهد، وغيرهم، عن سفيان بقوله: (( (قص) الشارب)).
فأما رواية أحمد بن حنبل عنه، فرواها في مسنده.
وأما رواية علي بن (المديني)، فأخرجها البخاري في صحيحه.
وأما رواية أبي بكر بن أبي شيبة عنه، فأخرجها مسلم وابن ماجه.
وأما رواية عمرو الناقد، وزهير بن حرب عنه، فأخرجها مسلم.(1/24)
وأما رواية مسدد، فأخرجها أبو داود.
وهكذا رواه زكريا بن يحيى بن أسد المروزي، عن سفيان.
وقول الجماعة هو الصواب لحفظهم وإتقانهم، ورواية النسائي المسؤول عنها شاذة اللفظ لمخالفتها لرواية الثقات.
ثم نظرنا من تابع سفيان بن عيينة على روايته عن الزهري؟
فوجدنا: إبراهيم بن سعد الزهري، ويونس بن يزيد الأيلي، ومعمر بن راشد، وزمعة بن صالح، قد رووه عن الزهري كرواية الجمهور عن ابن عيينة، فقالوا كلهم فيه: ((وقص الشارب)).
فأما رواية إبراهيم بن سعد عن الزهري، فأخرجها البخاري في صحيحه.(1/25)
وأما رواية يونس بن يزيد، فأخرجها مسلم والنسائي.
وأما رواية معمر، فأخرجها الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأما رواية زمعة، فرواها أبو داود الطيالسي في مسنده.
فكانت رواية هؤلاء الأربعة عن الزهري شاهدة لروايات الجمهور عن ابن عيينة.
ثم نظرنا هل نجد أحداً تابع سعيد بن المسيب على روايته عن أبي هريرة؟
فوجدنا سعيد المقبري وأباه كيسان قد روياه عن أبي هريرة.(1/26)
فأما رواية سعيد المقبري عن أبي هريرة، فرواها النسائي من رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: ((وتقصير الشارب)).
وأما رواية (أبيه) أبي سعيد المقبري، فروى مالك في الموطأ عن المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قوله، فقال فيه: ((وقص الشارب)).
وكذلك رواية (أبي سلمة) عن أبي هريرة، رواه أبو بكر البزار في كتاب السنن من رواية محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم، عن(1/27)
أبي سلمة عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الطهارات أربعٌ: قص الشارب، وحلق العانة، وتقليم الأظفار والسواك)).
ثم نظرنا من رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي هريرة؟
فوجدنا عبد الله بن عمر وعائشة، وعمار بن ياسر، وأبا الدرداء، وأنس بن مالك. فرواه كل منهم بلفظ: ((قص الشارب)).
فأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري من رواية حنظلة بن أبي سفيان عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من الفطرة، حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب)).
ورواه النسائي أيضاً، فقال فيه: ((وأخذ الشارب)).
وأما حديث عائشة، فأخرجه مسلم.(1/28)
وفي السنن من رواية مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عشرٌ من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية ..)) الحديث.(1/29)
وضعفه النسائي بمصعب بن شيبة، فقال: إنه منكر الحديث، وأن الأشبه بالصواب وقفه على طلق بن حبيب.
وأما حديث عمار بن ياسر، فرواه أبو داود، وابن ماجه، من(1/31)
رواية علي بن زيد عن سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر عن عمار بن ياسر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من الفطرة: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب)) الحديث لفظ ابن ماجه.(1/32)
وقد تكلم البخاري في اتصال إسناده.
وأما حديث أبي الدرداء، فرواه أبو بكر البزار في مسنده، من رواية معاوية بن يحيى عن يونس بن ميسرة عن أبي إدريس عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الطهارات أربعٌ: قص الشارب وحلق العانة ..)) وذكر الحديث.(1/33)
ورواه أيضاً في سننه كما ذكره صاحب الإمام.
وأما حديث أنس بن مالك، فرواه أبو داود والترمذي من(1/34)
رواية صدقة الدقيقي عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال: ((وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق العانة، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، أربعين يوماً مرةً)).
ورواه ابن منده، وقال: هذا إسناد صحيح عن رسم البخاري.
واعترض عليه ابن دقيق العيد في الإمام، بأنه ليس على رسم البخاري، فإن صدقة الدقيقي ضعفه يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي.
والحديث رواه مسلم والترمذي وابن ماجه من رواية جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال: ((وقت لنا في قص الشارب .. .. )) الحديث على البناء للمجهول، لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم .(1/35)
وهذا من قول الصحابي له حكم المرفوع على القول الصحيح عند أهل الحديث والأصول، والله تعالى أعلم.
فتبين بهذه الأحاديث أن رواية النسائي المسؤول عنها شاذة اللفظ، وأنها فردة مطلقة، لم يروه غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، وليس هو(1/36)
في الحفظ والإتقان كمن خالفه من الأئمة: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وغيرهما ممن سميناهم.
فإن قال من يذهب إلى حلقه واستئصاله: أنا لا أفرق بين اللفظين وأحمل رواية القص على الحلق، فإنه قد يحلق بالمقصين كما يجز صوف الغنم كذلك؛ بدليل الأمر بالجز والإحفاء، من حديث ابن عمر المتفق على إخراجه من رواية نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أحفوا الشوارب واعفوا اللحى)).
وفي رواية للبخاري: ((أنهكوا الشوارب))، وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة: ((جزوا الشوارب)).
فأما إطلاق القص على الحلق خلاف الظاهر الغالب، ويرجح أن المراد بالقص قطع البعض وإبقاء البعض رواية النسائي المتقدمة في حديث أبي هريرة حيث قال فيها: ((وتقصير الشارب)). والتقصير خلاف الحلق.(1/37)
وأيضاً فلم يتفق في حديث (ابن عمر) وأبي هريرة على الإحفاء فقط، بل قد رواه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة بلفظ: ((قصوا الشوارب)).
أما قوله: احفوا وجزوا وأنهكوا، فإنا نحمله على ما كان من الشارب على طرف الشفة. فيستحب إحفاؤه، حتى لا يترك شيء من طرف الشفة. وما كان [ .. .. ] (1) ما بقي منه عن طرف الشفة، وعلى هذا فيكون قد ثبت بجميع الروايات من الأمر بالقص، والتقصير والإحفاء الجز والنهك. وفي هذا جمع بين الأدلة.
ومما يدل أيضاً على أن الإحفاء في جميع الشارب ليس مستحباً، ما رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والترمذي في
__________
(1) هنا طمس في المخطوط بقدر نصف سطر تقريباً، ولعل المناسب للمكان هنا قوله: وما كان [فوق حرف الشفة فالسنة فيه التقصير بحيث لا يجز إلا] ما بقي منه عن طرف الشفة.(1/38)
الشمائل، والنسائي في سننه، من رواية مغيرة بن عبد الله، عن المغيرة بن شعبة، قال: ((كان شاربي وفى فقصه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على سواكٍ))، أو قال: ((أقصة لك على سواكٍ))، لفظ رواية أحمد.
وإسناده صحيح، رجالهم محتج بهم في الصحيح.
فلو كان المراد حلقه واستئصاله، لما وضع السواك تحت الشارب حتى يقص ما خرج عنه، وقد ورد أيضاً نحوه من حديث عائشة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً وشاربه طويلٌ، فقال: ((إيتوني بمقص وسواكٍ))، فجعل السواك على طرفه، ثم أخذ ما جاوز)) رواه أبو بكر البزار في مسنده، وقال: (لا نعلم رواه عن هشام إلا عبد الرحمن بن مسهر، وليس بالحافظ).(1/39)
قلت: هو أخو علي بن مسهر، وهو ضعيف، وكان على قضاء جبل.
وهذا المتن ضعيف لا يصلح للاستشهاد به، وإنما ذكرته لأنبه على ضعفه. والحجة قائمة بحديث المغيرة بن شعبة.
وأيضاً فالأحاديث التي وردت في الأخذ من الشارب تدل على أخذ البعض، لدلالة ((من)) على التبعيض، وذلك فيما رواه(1/40)
الترمذي من رواية سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص شاربه، أو يأخذ من شاربه))، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وروى الترمذي، والنسائي، من رواية حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يأخذ من شاربه فليس منا))، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.(1/41)
وقد وصف أحد أئمة الهدى -عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه-، السنة في الأخذ من الشارب فيما رواه الأوزاعي عنه قال: ((السنة في قص الشارب حتى يبدو الإطار)). رواه أبو الدحداح أحمد بن محمد بن إسماعيل التميمي في الجزء الثالث من شيوخ الأوزاعي.(1/42)
والإطار بكسر الهمزة، وبالطاء والراء المهملتين، هو حرف الشفة الأعلى الذي يحول بين منابت الشعر والشفة. ذكره أبو موسى المديني في ذيله على الغريبين للهروي، وابن الأثير في النهاية.
قال الجوهري: وكل شيءٍ أحاط بشيءٍ فهو (إطار) له.
ومنه (إطار) الشفة. قال: (وإطار المنخل خشبه)، وإطار الحافر ما أحاط بالأشعر. انتهى.
وقول التابعي السنة كذا، هل هو مرفوع كقول الصحابي ذلك، إلا أنه مرسل؟ أو هو متصل موقوف؟
فيه وجهان لأصحابنا، حكاهما النووي في مقدمة شرح المهذب، وصحح أنه موقوف.
وما قاله عمر بن عبد العزيز، قد فعله جماعة من الصحابة فيما رويناه في السنن الكبرى للبيهقي بإسناد جيد، من رواية شرحبيل بن مسلم الخولاني(1/43)
قال: (رأيت خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقصون شواربهم ويعفون لحاهم (ويصفرونها): أبو أمامة الباهلي، وعبد الله بن بشر، وعتبة بن عبد [الله]، والحجاج بن عامر الثمالي، والمقدام بن معدي كرب الكندي، كانوا يقصون شواربهم مع طرف الشفة).
وهذا قول جمهور أهل العلم، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو قول مالك والشافعي.
وروينا في السنن الكبرى للبيهقي بإسناد إلى عبد العزيز بن عبد الله الأويسي قال: (ذكر مالك بن أنس إحفاء بعض الناس شواربهم، فقال مالك: ينبغي أن يضرب من صنع ذلك، فليس حديث النبي صلى الله عليه وسلم في(1/44)
الإحفاء، ولكن يبيح حرف الشفتين والفم. وقال مالك بن أنس: حلق الشارب بدعة ظهرت في الناس).
قال البيهقي: (وكأنه رحمه الله حمل الإحفاء المأمور به في الخبر على الأخذ من الشارب بالجز دون الحلق. وإنكاره وقوع للحلق دون الإحفاء. والوهم وقع من الراوي عنه في إنكار الإحفاء مطلقاً، والله تعالى أعلم)، انتهى.
وقال مالك في الموطأ: (يأخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وهو الإطار ولا يجزه فيمثل بنفسه).
وحكى أبو القاسم أيضاً أنه قال: إحفاء الشارب عندي منكر.(1/45)
وذهب عبد الله بن عمر وبعض التابعين، إلى استحباب حلقه واستئصاله، وهو قول أهل الرأي، وأهل الظاهر.
وقد حكي عن جماعة من الصحابة أيضاً غير ابن عمر، فروينا في السنن الكبرى للبيهقي من رواية محمد بن عجلان عن عبيد الله بن أبي رافع قال: (رأيت أبا سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، ورافع بن خديج، وأبا أسيد الأنصاري، وابن الأكوع، وأبا رافع ينهكون شواربهم حتى الحلق).
وقد اختلف في هذا الأثر، فقال محمد بن عجلان هكذا. وقال غيره عن عثمان بن عبد الله بن أبي رافع، وقيل: ابن رافع. وهذا الاضطراب يدل على ضعفه.(1/46)
والإسناد إلى من قص الشارب مع طرف الشفة من الصحابة سالم من الاضطراب فهو أولى. ولكنه صحيح عن ابن عمر.
وفي المسألة قول ثالث، أنه يخير بين الأمرين -بين القص والحلق- حكاه القاضي عياض.
وهذا أوفق لمجموع الأحاديث، واختلاف أفعال الصحابة، ولكن عمل الجمهور على القص، فهو أولى بالاتباع.
ومما يدل على أنه لا بأس ببقاء بعض الشارب، حديث أنس عند مسلم: ((وقت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلةٍ))، ومعلوم أنه إذا ترك أربعين بعد القص أو الحلق ينزل على الشفتين.
وأهل الظاهر أو بعضهم يرى وجوب القص أو الحلق. فلو وجب استئصاله لما جاز إبقاؤه أربعين ليلة، بحيث ينزل على الشفة، والله أعلم.
كتبه (عبد الرحيم) بن الحسين بن العراقي، حامداً الله تعالى ومصلياً ومسلماً على نبيه محمد وآله.(1/47)
ونقله من خط مؤلفه: أحمد بن محمد بن علي الحجازي الشافعي. عفى الله عنه بمنه.(1/48)