بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر واعن يا كريم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والتسليم على رسوله سيدنا محمد النبي الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين
وبعد فهذا سؤال أرسل به إلي بعض فقهاء الزيدية مشتمل على بعض المسائل الخلافية مما يتعلق بأصول الدين وشيء من شبه المعتزلة المبتدعين وهذا لفظه ما يرى الشيخ فخر الإسلام وسيط عقد النظام وصدر المجالس ونور الحنادس في نفي الثاني عن الله تعالى بظاهر النص من قوله تعالى فاعلم انه لا إله إلا هو ولما يعلم من دين الأنبياء صلوات الله عليهم ضرورة هل هو مترتب على معرفة الله تعالى أو معرفة الله مترتبة عليه فإن قلت نفي الثاني مترتب على معرفة الله تعالى فما الطريق إليها على مذهبك (1/29)
فان قلت الطريق إليها السمع كما تذهبون إليه فهي مشوشة عليك من وجوه أحدها أن السمع مفتقر إلى معرفة الله تعالى ومعرفة الله تعالى مفتقرة إلى السمع وهذا دور محض لأنا لا نعرف السمع حتى نعرف الله تعالى ولا نعرف الله تعالى حتى نعرف السمع فلا يحصلان ولا واحد منهما فبأيهما نعترف ومن أيهما نعتذر لعمر الله إنها مسألة مجمجمة الذوق محمحمة الشوق تعتورها العقول وتتفاخر فيها الفحول فأجب بفتق صميمها وقشر أديمها
الثاني انما يصح الاستدلال بكلام الله تعالى مهما كان عدل حكيم لا يفعل القبيح ولا يريده قلت هكذا لفظ السائل بالرفع وصوابه بالنصب عدلا حكيما فأما تجويزكم القبيح عليه بكل الكائنات من وجوه الفساد من كفر وظلم وسوأة فما الثقة بكلامه ومن ها هنا انسد عليكم بالنبوات من حيث جوز شيخكم أبو الحسن الأشعري على الله تعالى اظهار المعجز على الكذابين وما اعتذر به شيخكم ابن الخطيب الرازي من أن المعجز موضوع للتصديق وتجويزكم القبيح على الله تعالى لا يقدح في صدق الرسول فإنما هو خلود من بحور الهوى ومراوغة عن الحق وتخبط في تيه الباطل وضجع شيخكم أبي حامد هكذا قال وصوابه بالرفع أبو حامد الغزالي على أصحابنا المعتزلة بكلام لم نفهم معناه من قوله الطبع قابل والعقل باعث والمعجز ممكن والرسول مبلغ
ولقد سألنا أعلم أهل زماننا عنه فقال ما فهمنا غرضه من هذا الكلام مع أنه الناقل لكلامه ومعترف بفضلة من حيازه لقصبات السبق في الأصول الفقهية والمجاري القياسية
الوجه الثالث هب أنا سلمنا أن الطريق إلى معرفته كلامه فالكلام (1/30)
من أصل اللغة ما وضع لإفادة معنى وهذا لا يتأتى على مذهب أصحابك لأن الكلام عندهم ما قام بذات المتكلم وكانت الحروف حكايات عنه وكلام الله تعالى عندكم ليس بحرف ولا صوت بل صفة واجبة لله تعالى كالقادرية والعالمية وأن الذي بيننا ليس بكلام الله على الحقيقة
فانظر إلى جلافة شيخكم ابي الحسن الأشعري وكيف استهواه الجهل وأفرط به العمى حتى أنكر ما هو معلوم من دين الرسول ضرورة وحيث قال الله تبارك وتعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله فوصف الله تعالى أن هذه الأحرف كلامه دون أن يكون شيء آخر كلام له قلت هكذا لفظ السائل بالرفع وصوابه كلاما بالنصب ثم قال ولم يحقق ما ذهب إليه من المعنى القائم بالذات فباع اليقين بالشك وقد طوينا الكشح عن كثير من المسائل الدينية خوف التطويل حتى يبين الأنصاف أو القول بالخلاف فالواجب على من قعد في دست العلماء ولبس شعارهم المجاذبة لأهداب النظر والمقارعة بأسلحة الأنظار كما ذهب إليه السلف من المشائخ المعتزلة ومشائخكم ومن سائر الفرق فأجب شافيا لا زلت ورد مستورد للأعلام قلت هكذا لفظه بالرفع وصوابه وردا مستوردا بالنصب والصلاة على سيد الأنام محمد وآله الكرام انتهى السؤال
قال العبد الفقير إلى لطف اللطيف الخبير عبد الله بن اسعد اليافعي اليمني الشافعي نزيل حرم الله المشرف المعظم وحرم رسوله المحروس المحترم
الجواب وبالله التوفيق إن هذا السؤال فيه محاولة إيهام ظهور حجج المعتزلة علينا بإبداء (1/31)
السائل شيئا من شبههم وأراجيفهم التي لا تهولنا ورميهم لنا بمنجنيق محض عقل عرضة للخطأ بأحجار اعتراضات في جدالنا لا تنال شوامخ حصون فروعنا ولا تزعزع رواسخ قواعد أصولنا التي هي في تأسيسها بين المعقول والمنقول من الكتاب والسنة والإجماع جامعة الثابتة بالأدلة البليغة والحجج المانعة والبراهين القاطعة المسفرة عن محاسن السنة البيضاء وعن مذهب الحق المؤيد بالتوفيق وصحة الدليل النازل في أعلى معالي الشرف الأسني وذرى مفاخر المجد الأثيل الذي اشتهر فضله في المجامع والمشاهد وفيه قلت من بعض قصائد العقائد
نحلنا مذهبا يجلي قديما ... له غر العلى عالي الجناب
مشينا في ضياء من شموس ... وأثمار ومن رب الشهاب
من المعقول والمنقول صدقا ... من الأخبار مع آي الكتاب
رويناها بإسناد صحيح ... لنا لا بافتراء واكتذاب
سلكنا سنة بيضاء مشاها ... سواد معظم أهل الركاب
ولم نركب بنيات الطريق التي ... فيها أتى نهي ارتكاب
ولا يمشي بها إلا شذوذ ... تمطو متن أخطار صعاب
وفي الأخبار جاء من شذ عن ذي ... سواد شذ في نار العذاب
مع التمثيل في القصوى من الشا ... لها قد خص في أخذ الذئاب
قلت ومن هذه الأبيات الأخيرة أشرت إلى ما ورد عليكم بالسواد الأعظم وما ورد إياكم وبنيات الطريق وما ورد من شذ (1/32)
شذ في النار وما ورد إنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم
وفي مذهب أهل السنة ومدح أعلامه الأئمة قلت هذه القصيدة المسماة بعقد اللآلي المفصل بالياقوت الغالي في مدح عقيدة أهل الحق ومذهبهم العالي والتغزل بالإمام أبي حامد الغزالي وغيره من أئمتنا أولي المناقب والمعالي
لنا مذهب شمس الهدى ناهج جلي ... ومذهب غير عن صدا الزيغ ما جلي
عقيدتنا عقد من الدر والعلي ... على جيدها في ثغرها السلسل الحلي
تحلت حلى آي الكتاب فأسفرت ... عن السنة الحسنا وبرهانها الجلي
وقالت بإجماع جميع محاسن ... ففاقت سواها بالجمال المكمل
لناظرها منا بزاهي جمالها ... سبتهم وعنها ذو اعتزال بمعزل
أبت أن ترى تلك الحلى غير كاشف ... لأستار أسرار المعالي فتجتلي
خبير بمكنون المحاسن مهتد ... لمفهوم منطوق وتفصيل مجمل
بظاهر نص وافق العقل قائل ... وما لم يوافق من محال مؤول
نأي عن حضيض الحشو نهج مشبه ... وغالي اعتزال للصفات معطل
بنهج وسيط بين تفريط حامد ... وإفراط غال جاوز الحق مبطل
شموس الهدى سارت به وبدوره ... أولو الراية البيضاء والمنصب العلي
أيمتنا ما بين قطب محقق ... مشاهد أسرار إمام الهدى ولي
وحبر إمام في العلوم مدقق ... مفيد الورى في كل فن محصل
وتصنيفنا ما بين وضع قواعد ... إذا بجبال صودمت لم تزلزل
ورفع فروع في حصون شوامخ ... فما رميها عن منجنيق بموصل
لنا كم وجيز في بيان قواعد ... وجمع معان واختصار مطول
وكم من بسيط في جلاء نفائس ... وإيضاح إيجاز وحل لمشكل
وكم ذي اقتصاد مودع رب قاطع ... لإفحام خصم مثل ماض به اعتلي
بكف همام ذب عن منهج الهدى ... بحرب نضال لا يرى غير أول
كمثل الفتى الحبر المباهي بفضله ... فغني بغزالي العلا وتغزل (1/33)
أبى حامد غزال غزل مدقق ... من العلم لم يغزل كذاك بمغزل
به المصطفى باهى لعيسى بن مريم ... جليل العطايا والكليم المفضل
أعندكم حبر كهذا فقيل لا ... وناهيك في هذا الفخار المؤثل
رآه الولي الشاذلي في منامه ... ويرويه عنه من طريق مسلسل
رواه ولي عن ولي لنا وعن ولي ... رواه ذاك عن رابع ولي
وعن شاذلي شاذلي وهكذا ... وشيخ فشيخ مسندا غير مرسل
كذاك روينا عنه جلد بن حرزهم ... على الطعن في الإحياء من خير مرسل
عليه صلاة الله قال ولم يزل ... إلى الموت أثر السوط في ظهره جلي
وأرويه أيضا مع زيادات نصه ... بتحقيق نقل عن خبير رواه لي
فتى جده الحبر الإمام ابن حرزهم ... أبو الحسن المجلود في يومه علي
بقي موجعا خمسا وعشرين ليلة ... لخير يراه بعد من أجله ابتلي
رأى المصطفى من بعدها جا متوبا ... وموليه مسحا شافيا ما به بلي
فشاهد في الأحياء حسنا رسولنا ... به شاهد مع ما به لم أطول
وزفته أملاك السما بعد موته ... له أخرجوا من تحت ترب وجندل
فألبس خلعات غوال أتوا بها ... من الخضر لم تنسج وتغزل بمغزل
واركب مركوبا من اللون كائنا ... حكى البرق إسراعا من الجو منزل
وراق الطباق السبع في الحال خارقا ... وسبعين من حجب إلى عال منزل
بذا شهد الصياد شيخ زمانه ... كما أشهد المذكور في كشفه الجلي
وقد شهد المرسي استاذ عصره ... له مع شيوخ الوقت بالمنزل العلي
وممن رأى ذاك المقام إمامنا ... وسيدنا نور الهدى شيخنا علي
كذا الشاذلي شيخ المشائخ قد حكى ... قضا حاجة الداعي به المتوسل
وسمي لأصحاب التصانيف سيدا ... وذا قول إسماعيل شمس الهدى الولي
مقر الندى المشكور شيخ شيوخنا ... إمام الفريقين الحبيب المدلل
هو الحضرمي المشهور من وقفت له ... بقول قفي شمس لأبلغ منزلي
وكم عالم قد قال جاء لديننا ... بخمس مئين كي يجدد ما بلي
وتجديد دين في الحديث بمحدث ... براس مئين في الأيمة مجمل (1/34)
ففي المائة الأولى رواه خليفة ... فيا ما لها من بعده مثله ولي
وذاك ابن عبد للعزيز الذي سما ... بسيرته الحسناء ذو المنزل العلي
وخير وجود بحر جود رأي الملا ... إمام الأنام الشافعي له يلي
له منصب في العلم والفهم والهدى ... شهير وفي الآفاق مذهبه جلي
فريد زمان في المناقب سابق ... بوضع أصول والحديث معلل
ومن بعده للدين شيخ أصوله ... وكاسي شعار الحق كم من مضلل
أبو الحسن المشهور بالأشعري الذي ... له حجة كالطود غير مزلزل
ومن بعد في التجديد أكرم برابع ... إمام الهدى الحبر النجيب المفضل
هو الباقلاني بحر علم أصولنا ... تلاطم أمواجا بها الكون قد ملي
حوى للمعالي والمحاسن قد زها ... ببستان فضل مزهر الكون مبقل
وخامسهم حبر مضى ذكر فضله ... سراج به داجي الضلالات منجلي
إمام الهدى المنبي عن الفضل منشدا ... سبوقا على المهر الأغر المحجل
غزلت لهم غزلا دقيقا فلم أجد ... لغزلي نساجا فكسرت مغزلي
مشيرا إلى علم به متميز ... عن إدراكه فهم الألبا بمعزل
تصانيفه فاقت بنفع وكثرة ... وحلة حسن لم بها الغير يرفل
وكم حجة الإسلام حاز فضيلة ... وكم حلية حسنا به فضلها حلي
بها جاهل مع حاسد طاعن فذا ... تعامى وعنها ذاك أعمى قد ابتلي
وما ضر سلمى ذم عالي جمالها ... ومنظرها الباهي ومنطقها الحلي
لكن ذمها جاراتها ونظائر ... وعبن جمالا في حلاها وفي الحلي
فما سلمت حسناء من ذم حاسد ... وصاحب حق من عداوة مبطل
إذا في الفتى زاد الندى زادت العدى ... وقيت الردا قل في الهدى وتمثل
دليل العلا كثر البلا هكذا الملا ... ولولا احتراق التبر بالنار ما غلي
جلا لي مديح في مليح أيمة ... وليس كغزالي حلا لي تغزلي
فمدحي كعقد من لآلي أيمة ... بياقوت غزالي المعالي مفصل
وكم من إمام غير من قد مضى لنا ... من الفضل والعلياء بالمنزل العلي
كحبر شهير بارع ماجد أبي المعالي ... النجيب ابن النجيب المبجل (1/35)
فتى فحل نظار وكبت مناظر ... ومفتاح مغلاق ومرهم معضل
وخير إمام إسفرائيني جلا ... عرائس فضل سافرات لمجتلي
وذي الفضل واليمن الإمام ابن فورك ... بحلة حسن العلم والدين مجتلي
وحبر أخير في المعالي مقدم ... إمام الهدى الرازي بفخر مجمل
وحبر ببيضا قد جلى بيض فضله ... فضاء الدجا من وجهها المتهلل
وعز لعز الدين دين الهدى كما ... عقيدته الحسنا حلى فاخر الحلي
كذلك محيي الدين أحياه إذ سقت ... تصانيفه الحسنى الورى عذب منهل
إماما علوم لكن الفقه غالب ... جليلان حلا من قلوب بمنزل
على عشرة رمت اقتصارا وكم لنا ... مجيد مقال للأصول مفصل
كمثل الإمام البيهقي منهج الهدى ... فتى الفضل والتحقيق حبر مفضل
وحبر الهدى بحر المعالم والندى ... الفتى الفاضل الخطابي المتفضل
وكائن دقيق العيد حبر وراتق ... لمفتتق فتاق رتق بمشكل
وكل إمام ذي مقال محقق ... ومعتقد في أصل علم معلل
كأشياخنا السادات من كل عارف ... من الراح في روض الوصال معلل
مسقى بكاسات الهوى من مدامه ... بها رب نشوان معل ومنهل
إذا ذاقها صب أرته جمال من ... يحب وأروته بأعذب منهل
وإن شم تلك الراح خال عن الهوى ... يرى الدهر مشغولا به ذلك الخلي
وإن سقيت نهلا وعلا مقربا ... يوليه ملكا كم ولي له ولي
كمثل شيوخ عازفين ثلاثة ... شموس الهدى أرباب ملك مخول
مربين ما منهم يرى غير مرشد ... إلى الله بالله الموفق موصل
عقائدهم مشهورة شاع ذكرها ... وعن فضلها داري فضائلها سل
وكن مثلهم في حب مولاك مشغفا ... فما منهم عن حب مولاهم سلي
أبي القسم المولى القشيري حبرهم ... إمام هدى لم فضله قط يجهل
وشيخ الوجود السهروردي من جلا ... معارفه الحسنى بزهو لمجتلي
وشيخ الهدى بحر الكرامات والندى ... الفتى القرشي المولى الوجيه المجلل
أولئك أشياخ لنا وأيمة ... نباهي بهم في كل ناد ومحفل (1/36)
فيا ذا اعتزال هل شيوخك مثلهم ... تفاخرنا بل أنت عن مثلهم خلي
فما حجة الإسلام مع شيخه أبي ... المعالي واستاذ الهدى طب معضل
ككعبي ضلالات ونظام بدعة ... وجبائي الزيغ الضليل المضلل
ثلاثتكم إن بارزوا كثلاثة ... دعوا لبراز يوم بدر معجل
فما لبثوا إذ ذاك إلا هنيهة ... وحان حلول المستحق المؤجل
بأيدي ضراغيم ضوارم ثلاثة ... قد انصرفت عن رب قرب مجدل
ضراغيمنا في كل أرض شهيرة ... بغاباتها من حولها نشو أشبل
وأقمارنا في كل أفق منيرة ... بها يهتدى في كل سهل وأجبل
زهت في سما عليا مناهج وافقت ... عقائدها حقا بها لم أطول
سوى عشرة من شافعيات منهج ... وبضع منيرات زواهر كمل
وبدري هدى في المالكيات رابع ... بتجديد دين والقريشي المفضل
وبدرين منها شاهدين لبدرنا ... بمجد وسعد جامع اليمن مقبل
بدور كلا النهجين زاه بهاؤها ... بأنوارها ظلما الضلالات تنجلي
وفي حنفيات لطيف سحابة ... أتاها من التكوين غير مبدل
وفي حشويات كسوفان أظلما ... وعن نهجها حاشي الإمام ابن حنبل
هما جهة ما بين شمس وبينها ... تحول وحرف في الكلام المنزل
ورامد أصوات وبحة قارئ ... وحرفا كلام الله والعرش يحلل
ونهج اعتزال مع سواهم كلامه ... تبارك مخلوق بجسم مقول
أرادوا بصوت مع حروف منطقا ... لها بافتراء منهم وتقول
فقالوا كلام الجسم ذاك مصرحا ... ولا ينسبوه قط للواحد العلي
وليس لكم عن ذا محيص ولا لكم ... خلاص بما جئتم به من تخيل
فقلتم كلام في جماد فجئتم ... بتخييل فرق موهم ذا تخيل
وما روم تدليس علينا بجائز ... فما بينه والحي فرق مفصل
فما خلق إدراك وقدرة منطق ... له بمحال لا ولا ذا بمشكل
فما الأصل في الأشياء إلا خفية ... فان لا دليل ليس غير مبطل
تسبح كل الكائنات بحمده ... ودعوى مجاز فيه قول لمبطل (1/37)
فهلا كلام من ذراع مسمم ... جعلتم كلام الله حتى له تلي
بمذهب كل من اولي الربع ضحكه ... مصبحة الباكي الحزين المثكل
ففي الباطني كل الدواب مكلف ... لها أنبيا يوحى إلى كل مرسل
ومن عجب ثور نبي بقربه ... وتيس خصوه مع حمار محمل
ولا بعث والتكليف نار وجنة ... لنفس زكت عودا إلى الفلك العلي
وفي الرافضي جبريل أخطا بوحيه ... إلى أحمد لم يرسل إلا إلى علي
فيا عجبا من مارق في ثلاثة ... وعشرين عاما للإله مجهل
وكم ملحد في العالمين مجسم ... وكم مارق زنديق دين معطل
إذا للصغير والكبير المعطل ... لقيت لقيت التيس يمشي مع الطلي
وللكل كم سخرية وفضيحة ... وأعجوبة تحكي بها لم أطول
ويا طالبا حفظ اعتقاد محقق ... خلا عن عيار صافيا عذب منهل
تلق عقيد الحق في خمسة عشر ... من النظم تجري حافظا عن مطول
تعالى إله عن شريك ووالد ... وولد وزوجات ووصف ممثل
سميع بصير عالم متكلم ... مريد وحي مصدر كلها يلي
بقدرته العظمى وإتقان حكمة ... يرى الكون في كن كان بالقهر معتلي
علا بجمال فيه مجد جلال ... بعز كمال الكبرياء مكلل
صفات على جلت وجل جلالها ... عقول الورى معقولة عن تعقل
وكفهم عن كيف مع أين نافيا ... حروفا وخلقا للكلام المنزل
ولا واجب حاشا عليه وحاكم ... هو الشرع دون العقل ع القول واعقل
وفي قدر مع رؤية مع شفاعة ... وحوض وتعذيب بقبر ومبتلي
وبعث وميزان ونار وجنة ... وقد خلقا ثم الصراط وللولي
عظيم كرامات فكل شريعة ... محا خير شرع جا به خير مرسل
فآمن وسلم للصحابة واعتقد ... جميعا وبجلهم وكالقوم فاعمل
وأقبل على السادات وأقبل مقالهم ... وبين أيادي القوم للأرض قبل
وقدم أبا بكر كما للعلى علا ... وبالليث ربع ذي المقام العلي علي
كما قدموهم هم نجوم الهدى فعن ... هداهم فلا تعدل بذلك تعدل (1/38)
وتخليد نار خصه كافرا ولا ... بكفر لأهل القبلة افهمه واقبل
تباهت وفيها قد بدا لي توقف ... تأخر كتبي بعد حزمي بأول
مجانبة التفضيل في الآخرين أو ... لثان أرى في الفضل رابعهم يلي
وفي ذا اختلاف عن ظنون تعارضت ... ودون جمال العلم إرخاء مسبل
وقد قال منا قائلون بكل ما ... توقفت عن حرم الأيمة ما خلي
وقد وقف الفاروق في فضل ستة ... وذاك الذي القرآن في وفقه تلي
ومع ذا فترتيب الملا في خلافه ... لذاك وجوه غيرها في المفصل
وقلبي بحمد الله في حب كلهم ... وعلم بما جا في على الكل ممتلي
ومن بعد ذا أوصيك بالخير والتقى ... وترك التواني والورى دع واقبل
ولا تك مثلي عاجزا متخلفا ... عن الخير والدين النصيحة فاقبل
وقد صح أن المرء مع من أحبه ... فاحبب لأصحاب الهدى والتبتل
ولازم وداوم قرع باب مؤملا ... فما خيب المولى رجاء مؤمل
ولليافعي بالله فادع برحمة ... ونيل المنى في عاجل ومؤجل
فما هي ثنت لا عن كلال عنانها ... ومع مائة سبعون زاهرة الحلي
بها واحد ياقوتة مستعارة ... مضمنة في عقد در مفصل
وكم عند هذا تستعر من أجانب ... فما ران من حلي الأجانب يحتلي
تحلت بعقد من لآلي عقيدة ... يضيء الهدى في وجهها المتهلل
إذا ابتسمت في الليل عن درسنة ... رأيت دياجي الابتداعات تنجلي
وتمت بحمد الله أزكى صلاته ... على المصطفى فاحت بمسك ومندل
قلت وقد رأيت أن أنبه على شيء في هذه القصيدة وهو قولي في تفسير أحد كسوفي المذهب المذكور هما جهة ما بين شمس وبينها تحول أعني حالت الجهة العلوية بين القائلين بها من الأقمار الأرضية وبين شمس الحضرة القدسية فخسفت كما في حيلولة الأرض بين الشمس والقمر المذهبة لنور طلعته البهية على قول من قال أن الأفلاك كروية على وجه الاستعارة على تقدير صحة قول الفلكية
مع أني قد استدللت على بطلان قولهم هذا بعشرة أدلة عقلية ونقلية (1/39)
في كتاب سراج التوحيد واضحة جلية وتكفي في الدلالة على ذلك قوله تعالى حتى بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب من عين حمئة وذلك من أقوى الأدلة القطعية إذ أخبر ببلوغ ذي القرنين مغربها ووجوده لها تغرب في تلك العين وجدانا لا في رأي العين مع تأكيد ذلك بوصف العين المذكورة إذ هي موصوفة في الكتاب الممجد بالحمأة التي هي الطين الأسود فمن قال أنها لا تزال تدور وليس لها مغرب فهو بظاهر كلام الله عز و جل مكذب
وكذلك قولي وزفته أملاك السماء بعد موته إلى آخر الأبيات الخمسة أشرت بذلك إلى ما اشتهر وثبت بالإسناد في سيرة الشيخ الكبير العارف بالله أبي العباس الصياد قدس الله روحه (1/40)
منزلة الغزالي رضي الله عنه
ومختصر ذلك أنه قال رضي الله عنه بينا أنا ذات يوم قاعد وأنا انظر إلى أبواب السماء وهي مفتحة إذ نزلت عصبة من الملائكة ومعهم خلع خضر ودابة من الدواب فوقفوا على رأس قبر من القبور وأخرجوا شخصا من قبره وألبسوه الخلع وأركبوه على الدابة فصعدوا به إلى السماء ثم ذكر أنهم لم يزالوا يصعدون به من سماء إلى سماء حتى جاوز السماوات السبع وخرق بعدها سبعين حجابا فأحب أن يعرف من هو ذلك الشخص فقيل له هذا الغزالي رضي الله عنه قال ولا علم لي أين بلغ انتهاؤه
قلت وأما ما أشرت إليه من مباهاة النبي للمنكر عليه فسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
قلت وفي استحسانه لإحياء علوم الدين دليل واضح على كون ما تضمنه من أن عقيدة الأشعرية حق وكذا ما اشتمل عليه من طريق الصوفية وعلومهم وأحوالهم وكراماتهم والله أعلم
قلت أيضا في مذهبنا هذه الأبيات
لنا حصن عز من علا مجد مذهب ... بأعلى سما مجد المفاخر شامخ
قواعده الغرا كتاب وسنة ... وعقل وإجماع أصول رواسخ (1/41)
إذا ما رمى من منجنيق اعتزالهم ... بجلمود عقل للتجادل دائخ
فلا لاحق فزعا ولا بمزعزع ... لأصل ولا بعضا عن البعض فاسخ
حكم شرع دون عقل خلاف من ... بعقل عن الشرع الأحاديث سالخ
وقد جاء لا تعذيب من قبل بعثه ... بشرع لمجموع الشرائع ناسخ
ولا ناسخ يلغي لمحكم حكمة ... إلى حين إسرافيل في الصور نافخ
اقتراح السائل بالجواب والإعراض عنه
قلت فلما أرسل السائل بالسؤال المذكور إلي واقترح جوابه علي لم ينشرح صدري للجواب في الحال بل مال إلى الإعراض عنه والإهمال لكون الهوى على القلوب قد استحكم واتباع الباطل قد أعمى وأصم فلا يكون المبطل يتبعه بل يدفعه بالجدال والمراء
ثم انشرح صدري بعد مدة لهذا الجواب ورأيت أني إن سلكت فيه مسلك البسط والإطناب احتجت في ذلك إلى تصنيف كتب لا كتاب أبين فيها قواعدنا وما أشكل من كلام الأصحاب واستوعب مسائل الأصول وأدلتها في المعقول والمنقول في سائر الأبواب
مع كوني قد التزمت فيما مضى ترك التصنيف وسد هذا الباب فاقتصرت على شيء من البسط في الكلام بعبارة واضحة غير نائية عن الأفهام
ولولا وجود بعض الأعذار لبلغت جهدي في رد إيراد وابطال اعتراض وبيان قواعد وكشف الخمار عن جمال عقيدة أهل السنة التي هي أجمل العقائد ومحاسن معاني ما أشكل على السائل وأمامه من ألفاظ حجة الإسلام أبي حامد وسائر كلامه المشتمل على بداعة المعاني وملاحة الترتيب وعجائب الأمثلة وغرائب الفوائد التي من كشفت له العناية عن جمالها فنظر بعين التوفيق لمحاسنها السنية سلبت عقله وهام في هواها وصار من عصابتها السنية
وفي هذا المعنى المذكور أنشد وأقول (1/42)
مدح عقيدة أهل السنة
لنا سنة حسنا سنى جمالها ... على غير سنى مصون مخدر
فإن كشفت ريح العناية خدرها ... فأبصرها من لم لها قط يبصر
سبت عقله الزاكي بزاهي جمالها ... فهام بها من كان عنها ينفر
وجا منهجا من نورها ناهجا به ... عصابتها تعلو وتزهو وتفخر
أبو حامد منهم وكم من ملاحة ... لها حجة الإسلام عنها تخبر
إمام الهدى بحر العلوم وكاشف ... لأستار أسرار العلوم المنور
فكم من ستور كاشفا عن محاسن ... فلاح در ألفاظ على تلك ينثر
فأضحت مليحات المعاني ضواحكا ... كما بمليح عن مليح تعبر
ومن كامن قد باهى سيد الورى ... لموسى وعيسى فهو نعم المعبر
ونعم طريق سارها عن بصيرة ... ونور وتوفيق بها هو أخبر
أعندكم حبر كهذا فقيل لا ... وناهيك ذا مجد على الدهر مفخر
عن المصطفى صلى عليه الهنا ... بذا الشاذلي بحر الحقائق مخبر
مناما رآه عنه يرويه عاليا ... لنا كابر عن كابر هو أكبر
يحق لنا أن قد سلكنا طريقة ... بها سار يرضاها النذير المبشر
لها المصطفى مستحسن ومعاقب ... لمنكرها جلدا مدى الدهر نشكر
بذا صح إسنادي عن ابن حرازم ... فقيه بلاد العرب إذ كان يذكر
مدح كتاب إحياء علوم الدين
قلت قد أوضحت ما أشرت إليه في هذين البيتين الأخيرين في كتاب كفاية المعتقد ونكاية المنتقد في فصل سلوك الطريقة والجمع بين الشريعة والحقيقة ومختصر ذلك أن الشيخ الإمام أبا الحسن بن حرزهم بكسر الحاء المهملة وسكون الراء وبعدها زاي المشهور بابن حرازم رضي الله عنه رأى ليلة جمعة في المنام كأنه داخل من باب الجامع الذي عادته يدخل منه (1/43)
وإذا بالنبي وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما جلوس في مكان من الجامع والنور على ذلك المكان ساطع وكان قد بالغ في الإنكار على كتاب الإحياء وأمر بجمع نسخه وعزم على إحراقها يوم الجمعة المذكور لكونه بزعمه خلاف السنة وإذا بالإمام أبي حامد الغزالي رضي الله عنه قائم تجاه النبي فقال يا رسول الله هذا خصمي فإن كان الأمر كما زعم تبت إلى الله تعالى وإن كان شيئا تستحسنه يا رسول الله حصل لي من بركتك فخذ لي حقي من خصمي ثم جثا على ركبتيه وصار يزحف عليهما إلى أن وصل إلى النبي فناوله كتاب الإحياء وقال انظر فيه يا رسول الله فنظر فيه ورقة ورقة إلى آخره ثم قال والله إن هذا شيء حسن ثم ناوله أبا بكر فنظر فيه كذلك ثم قال نعم والذي بعثك بالحق يا رسول الله أنه لحسن ثم ناوله عمر فنظر فيه كذلك ثم قال كما قال أبو بكر
فأمر بتجريد المنكر المذكور وضربه حد المفتري فجرد وضرب ثم شفع فيه أبو بكر رضي الله عنه بعد خمسة أسواط وقال يا رسول الله إنما فعل هذا اجتهادا في سنتك وتعظيما لها فغفر له أبو حامد عند ذلك
فلما استيقظ من منامه وأصبح أعلم أصحابه بما جرى له ومكث خمسة وعشرين يوما وجعا من ذلك الضرب ثم رأى النبي (1/44)
مسح يده الكريمة المباركة عليه فشفي قلبه وقالبه ثم نظر في الأحياء ففهمه فهما خلاف الفهم الأول ثم فتح عليه ونال من المعرفة بالله والعلم الباطن والفضل العظيم ما نال برحمة الله الكريم
قلت فهذا مختصر ما رويناه بالأسانيد الصحيحة عن الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه وعن بعض ذرية الشيخ الكبير العارف بالله ابن حرزهم المذكور رضي الله عنه هو عندهم معلوم ومستفيض مشهور وفي سيرة جده مذكور محقق مسطور
أخبرني بهذا المذكور الراوي المذكور من ذرية الشيخ المذكور محرما خاشعا جاثيا على ركبتيه في الحرم الشريف زاده الله شرفا
قال الشيخ الإمام أبو الحسن الشاذلي ولقد مات يوم مات وأثر السياط ظاهر على جسمه
أخبرني بذلك الشيخ الجليل العارف بالله الفضيل الإمام شهاب الدين بن المتلق الشاذلي عن الشيخ الكبير العارف بالله يلقوت الشاذلي عن شيخه الشيخ الكبير العارف بالله قدوة المساكين (1/45)
بحر المعارف ومعدن النور القدسي أبي العباس المرسي عن شيخه أبي الحسن الشاذلي المذكور معدن العلوم والأسرار والنور شيخ شيوخ العارفين رضي الله عنهم أجمعين وإلى هؤلاء الشيوخ الأربعة أشرت بقولي فيما تقدم
رواه ولي عن ولي لنا وعن ... ولي رواه ذاك عن رابع ولي
الجواب
وها أنا أشرع فيما ذكرت من الجواب والله الموفق للصواب
فأما قول السائل أولا في نفي الثاني عن الله تعالى في قوله عز و جل فاعلم أنه لا إله إلا الله هل هو مترتب على معرفة الله تعالى أو معرفة الله تعالى مترتبة عليه فكان ينبغي أن يقول نفي إله غير الله لمطابقة الآية التي ذكر فإنها نافية لكل إله سواه عز و جل وليس فيها لتعلق ذكر الثاني مدخل وأن يقول أم معرفة الله ب أم عوضا عن أو
وأما ما ذكره من أن الطريق إلى معرفة الله تعالى السمع عندنا فليس بصحيح بل الطريق إليها عندنا وعندهم النظر لكن عندنا يجب النظر فيها بالسمع وعندهم بالعقل فالسمع عندنا طريق إلى معرفة وجوب النظر الموصل إلى المعرفة لا إلى المعرفة نفسها كما زعم لأن الأمر بها موجب للنظر المعرف وقد يخلف النظر بخلف امتثال الأمر فتخلف المعرفة لخلف المعرف ولا يلزم وجوده وجودها أعني لا يلزم من وجود الأمر الذي هو السمع وجود المأمور به الذي هو المعرفة ودليلنا (1/46)
على أن الموجب للنظر فيها هو السمع دون العقل النقل والعقل
أما وجوب ذلك بالسمع فيدل عليه النقل وأما عدم وجوده بالعقل فيدل عليه العقل والنقل
أما الأول وهو قولنا أن الموجب النظر فيها هو السمع فقوله تعالى قال انظروا ماذا في السماوات والأرض ونحو ذلك من الآيات الكريمات وكذلك الاجماع كما سيأتي كلام إمام الحرمين في ذلك في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى
وأما الثاني وهو عدم وجوبه بالعقل فسيأتي بيانه هادما لجميع ما بنوا عليه مذهبهم الفاسد من التحسين والتقبيح العقلي في جميع العقائد
وأما جواب السؤال عن أي من نفي الثاني ووجود المعرفة مترتب على الآخر فلنقدم على ذكره بيان الطريق الموصلة إلى المعرفة فبذلك يتضح إن شاء الله بيان الطريق إلى معرفة الصانع جل وعلا
اعلم أن الطريق إلى معرفته تبارك وتعالى هي النظر في مصنوعاته في الملكوت العليا والسفلى وما اشتملت عليه من الإتقان والانتظام والحكم والإحكام وغير ذلك مما يشهد بوجود الصانع وجلاله وعظمته وكماله تعالى في ذاته وصفاته
قال قدوتنا وسيدنا الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه وأولى ما يستضاء به من الأنوار ويسلك من طريق الاعتبار ما أرشد إليه القرآن فليس بعد بيان الله بيان وقد قال الله تعالى ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا إلى قوله تعالى ألفافا (1/47)
وقال تعالى إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس إلى قوله تعالى لآيات لقوم يعقلون
وقال تعالى ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا إلى قوله تعالى ونخرجكم إخراجا
وقال تعالى أفرأيتم ما تمنون إلى قوله تعالى نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين
قال وليس يخفى على من معه أدنى مسكة إذا تأمل بأدنى فكرة مضمون هذه الآيات وأدار نظره على عجائب خلق الله في الأرض والسماوات وتدبر فطرة الحيوان والنبات أن هذا الأمر العجيب والترتيب المحكم لا يستغني عن صانع يدبره وفاعل يحكمه ويقدره بل تكاد فطرة النفوس تشهد بكونها مقهورة تحت التسخير ومصرفة بمقتضى تدبير لذلك قال الله تعالى أفي الله شك فاطر السماوات والأرض وقال تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله انتهى مختصرا
وسيأتي أيضا بيان حكم النظر في إفادة العلم ووجوبه في معرفة الله سبحانه في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى
قلت وإذا تأمل الناظر في الوجود وأحواله المختلفة من الصنعة المتقنة المؤتلفة البديعة المحكمة العجيبة المنتظمة وما فيه من تغير الأحوال وتقلب الأيام والليال وشاهد جميعه ناطقا وشاهدا بلسان (1/48)
الحال بتصديق قول الحق الملك الديان كل يوم هو في شأن ومناسبة أسمائه الحسنى تبارك وتعالى إذ من جملتها القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل المحيي المميت المقدم المؤخر وقوله عز و جل إن مع العسر يسرا وتأكيد ذلك بإعادة اللفظ ثانيا لتأكد وقوعه لا محالة وتحقيق العلم بنفوذ علم القضاء السابق المطابق للحكمة البالغة بذلك واستمرار هذه الحالة حتى علم ذلك بالاستقراء وأنشد فيه الشعراء من ذلك قول بعضهم
إذا ما رماك الدهر يوما بنكبة ... فهيئ لها صبرا ووسع لها صدرا
فإن مقادير الزمان عجيبة ... فيوما نرى يسرا ويوما نرى عسرا
وقول آخر
دع المقادير تجري في أعنتها ... ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين غمضة عين وانتباهها ... يقلب الدهر من حال إلى حال
وقول آخر
ولما وقفنا للسلام تبادرت ... دموع إلى أن كدت بالدمع أغرق
فقلت لعيني هل مع الوصل عبرة ... فقال ألسنا بعده نتفرق
حكاية
قلت ومن هذا ما سمعت من بعض شيوخنا قدس الله أرواحهم يحكى أنه مر إنسان في الأزمان على راعي غنم في بعض البراري (1/49)
وهو طرب يغني والأرض مجدبة والناس في ضيق وحزن فتعجب منه ثم غاب ورجع فوجد تلك الأرض مخصبة والناس في سعة وفرح وهو يبكي فازداد عجبا منه ثم سأله عن فرحه وعن حزن الناس وحزنه وقت فرحهم فقال أما فرحي فيما مضى فكان استبشارا بهذا الخصب الذي ترى وأما حزني الآن فلتوقع الجدب فيما يأتي من الزمان
قلت ومن هذا وأمثاله ما يطول ذكره من الشواهد والبرهان على وحدانية إله ليس له ثان ومطابقة ما قدمنا من تصديق قوله تعالى كل يوم هو في شأن
وكذلك يشهد على وحدانية الإله المعبود وعظيم ما اتصف به من القدرة والعلم والفضل والجود وجود الوجود على أكمل نظام وأحسنه وأحكمه وأتقنه وإلى شيء من الشواهد أشرت حيث قلت في بعض القصائد
له كل ذرات الوجود شواهد ... على أنه الباري الإله المصور
دجن الأرض والسبع السماوات شادها ... وأتقنها للعالمين لينظروا
وأبدع حسن الصنع في ملكوتها ... وفي ملكوت الأرض كي يتفكروا
وأوتدها بالراسيات فلم تمد ... وشقق أنهارا بها تتفجر
وأخرج مرعاها وبث دوابها ... وللكل يأتي منه رزق مقدر
من الحب ثم الأب والعشب الكلا ... ونخل وأعناب فواكه مثمر
فاضحت بحسن الزهور تزهو رياضها ... وفي حلل نسيج الربيع تتبختر
وزان سماها بالمصابيح أصبحت ... وأمست تباهي الحسن تزهو وتزهر
تراها إذا جن الدجا قد تقلدت ... قلائد دري لدر تحقر
فيا ناظرا زهر البساتين دونها ... أظنك أعمى ليس للحسن تبصر (1/50)
ما أنكره بعض الناس على حجة الإسلام أبي حامد الغزالي والرد عليهم
قلت وأما ما أنكره بعض الناس على الإمام حجة الإسلام رضي الله عنه ونسبه إليه من الكفر وزعمه أنه حصر القدرة في قوله رضي الله عنه ليس في الإمكان أبدع من هذا الوجود فقد أجبت عنه لما أرسل إلي بعض الفقهاء الطاعنين فيه يسأل عن الجواب في ذلك في معرض التعريض بالإنكار عليه والإشعار بالكفر الذي نسبه إليه فذكرت في الجواب ما يقتضي الإنكار على المنكر عليه
وقلت التكفير على المكفر له بما نسبه إليه وها أنا أشير إلى ما ذكرته بتقرير قدرته وذلك أن كمال الصنعة يدل على كمال الصانع والنقص على النقص فيلزم على قول المنكر أن يكون صنعة هذا الوجود ناقصة بالنسبة إلى صنعة أكمل منها وذلك يستلزم نسبة النقص إلى الصانع ونسبة النقص إلى الصانع تعالى هي عين الكفر (1/51)
وأقول أيضا الصنعة صادرة عن صفات الصانع ولا أكمل من صفاته تعالى فلا أكمل من صنعته إذ صفاته تعالى في نهاية الكمال والجلال فصنعته في غاية الكمال والجمال
وأقول أيضا هذا الوجود الدنيوي منه والأخروي والعلوي والسفلي وما اشتمل عليه من أنواع الحكم البالغة الباهرة والمحاسن الباطنة والظاهرة أبدع كل بديع ووجود أبدع من الأبدع محال فوجود أبدع من هذا الوجود محال
فإن قال يلزم من هذا حصر القدرة من كابر في النزاع قلت لا تعلق للقدرة بالمحال بالإجماع فإن لم ينزع عن النزاع وأصر على المكابرة زاعما أن ذلك يؤدي إلى حصر القدرة قلت له ما تقول هل يمكن في قدرة الله تعالى خلق أكمل من أكمل كل مخلوق فإن قال لا فقد قال يعجز القادر على كل شيء جل وعلا وإن قال نعم قلت فهل يمكن أن يخلق أكمل من أكمل مخلوق في جميع الأكوان والآفاق فإن قال نعم فقد جعل أكمل من الأكمل وهو باطل بالاتفاق وإن قال لا فقد حصر القدرة على قياسه وكفر في ذلك نفسه بنفسه وظهر بطلان ما ألزمه من التكفير بزعمه لحجة الإسلام وانقلب عليه ما وجهه إليه في ذلك الإلزام
وهذا ما اقتصرت عليه من الجواب عن قول الإمام أبي حامد علم الأعلام والله سبحانه وتعالى الخبير العلام وكل من له بصيرة يعلم أن في هذا العالم الذي هو عالم الملك وعالم الحكمة وعالم الخلق وعالم الشهادة من الحكم التي هي من المحاسن الباطنة الفائقة على المحاسن الظاهرة ما لا تهتدي العقول إلا إلى اليسير منه مما اشتملت عليه هذه الدار من خير وشر ونفع وضر وصفو وكدر ومليح وقبيح وسقيم وصحيح وكريم وشحيح وعالم وجاهل ومجنون وعاقل وناقص وكامل وفقير وغني وضعيف وقوي وشريف ودني وجماد (1/52)
حيوان وإنس وجان وملك وشيطان وطيور وسباع وبهائم وسائر الأجناس والأنواع مما ليس للعقل في حصره اتساع مما اشتمل عليه الحيوان والنبات والأرض والسماوات وانقسام ذلك إلى ذكور وإناث وغير ذلك من الصفات ومما اشتملت عليه العقاقير من الأدوية النافعة والحشرات من السموم الناقعة وما في الجواهر من الخواص التي هي للمضرات قامعة وانقسام الخلق إلى صامت وناطق ومخالف وموافق ومسهل وعائق وأعمى وبصير وطويل وقصير ومظلم ومنير وأصم وسامع وجامد ومائع وعاص وطائع ولين وخشن وعطر ومنتن وبليد وفطن وحزن وسرور وتيقظ وغرور وظل وحرور واختلاف اللغات والألوان واختصاص حسن الإنسان بالفصاحة والبيان والنبوة والقرآن وإلى خلق حلو وحامض وواضح وغامض وقابل ورافض ومالح وعذب ويابس ورطب وخصب وجدب وبارد وحار ومتحرك وقار وفخر وعار وعافية وبلاء ورخص وغلاء وداء ودواء وانقسام الخلق أيضا إلى أخيار وأشرار وأبرار وفجار ومؤمنين وكفار ومصيرهم إلى موت وحساب وثواب وعقاب ونعيم وعذاب والجنة دار الفضل والنار دار العدل على مقتضى القضاء السابق الذي هو الأصل بحكمة الحكيم العليم الجواد الكريم شديد العقاب الغفور الرحيم وغير ذلك ما لا يحصى مما اشتمل على بدائع الحكم المودعة في سائر أجزاء العالم المشتملة على المحاسن الباطنة المشاهدة بعين البصيرة لا عين البصر التي هي بالنسبة إليها حقيرة ومن ذلك محاسن الإنسان الباطنة أحسن وأكثر
قلت ولعل المنكر المذكور يتوهم أن حسن هذا العالم أن يكون كله مستحسنا بعين البصر بأن يكون جميعه ألوانا حسنة مختلفة ونعيما دائما وقلوبا مؤتلفة دائمة الصفاء والسرور خلية عن كدر الأحزان والشرور كاملة الراحة والزين سالمة من التعتب والشين خلية عن الصور القبيحة بعين البصر وحقارة الحشرات منزهة عن الهموم (1/53)
والسموم وسائر المضرات جامعة لجميع الحظوظ المطلوبة التي يميل إليها الراغبون وغير ذلك من صفات الجنة التي قال الله تعالى في مدحها وخطاب أهلها في كتابه المكنون وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ولم يهتد إلى معرفة المحاسن الباطنة من لطافة المعاني وغرابة الحكم البالغة
ومن ذلك بعينه أن شين الدنيا سبب لزين الآخرة وبغض الدنيا وتعبها وكدرها زيادة في كمال الجنة ونعيمها وسرورها بل نار الآخرة وعذابها وهو أنها زيادة في نعيم الجنة وعزها ومعرفة قدرها وشرفها وعلى الجملة لولا البلاء ما عرف قدر العافية ولولا العذاب ما عرف قدر النعيم ولولا النار ما عرف قدر الجنة
قلت ولما وضعت هذا الكلام خطر لي إنشاء نظم أبيات لم يسبق إليها النظام فما استتم هذا الكلام حتى جال بفكري أبيات في هذا المعنى المذكور سبقني إليها الشيخ العارف بالله الفقيه الإمام أبو سليمان داود الشاذلي المشهور فأكتفيت بها لكونها وافية بهذا المعنى الذي أنا له قاصد حيث قال رضي الله عنه في بعض القصائد
أيا نفس للمعنى الأجل تطلبي ... وكفي عن الدار التي قد تقضت
فكم أبعدت إلفا وكم كدرت صفا ... وكم جددت من ترحة بعد فرحة
كذا وضعت كيما تعدي إلى العلا ... فتكدريها من سر لطف وحكمة
فلو جعلت صفوا شغلت بحبها ... ولم يك فرق بين دنيا وجنة
لعمرك ما الدنيا بدار أخي حجى ... فيلهو بها عن دار فوز وعزة
عن الموطن الأسنا عن القرب اللقا ... عن العيش كل العيش عند الأحبة
فوالله لولا ظلمة الذنب لم يطلب ... لك العيش يوما دون مي وعزة
قلت وقد بعدنا في الخروج عن المقصود وها نحن إلى ما كنا بصدده من الاستدلال نعود (1/54)
قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد رضي الله عنه بعد ما ذكر ما في عجائب خلق الله في الأرض والسماوات وبدائع فطرة الحيوان والنبات وغير ذلك مما اشتمل عليه الصنع المتقن العجيب والترتيب المحكم الغريب فإذا في فطرة الإنسان وشواهد القرآن ما يغني عن إقامة البرهان ولكنا على سبيل الاستظهار والاقتداء بالعلماء النظار نقول من بديهة العقول أن الحادث لا يستغني في حدوثه عن سبب يحدثه والعالم حادث فإذا لا يستغني في حدوثه عن سبب
ثم تكلم في ذلك السبب لما يطول ذكره من المباحث العقلية مما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في الأصل الرابع من شرح البيت الأول من قصيدتي المنظومة في عقيدة أهل السنة
العالم لا يخلو من حوادث
ثم قال في آخر ذلك فيحصل أن العالم لا يخلو عن الحوادث فهو إذا حادث وإذا ثبت حدوثه كان افتقاره إلى المحدث من المدركات بالضرورة
وقال غيره من أئمتنا أيضا في البرهان على وجود واجب الوجود سبحانه وتعالى لا شك في وجود حادث وكل حادث ممكن وإلا لم يكن موجودا تارة ومعدوما أخرى وكل ممكن فله سبب وذلك لا بد وأن يكون واجبا أو منتهيا إليه لاستحالة الدور والتسلسل
وقلت وأخصر من هذا أن نقول العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث وكل حادث لا بد من محدث وإلا لزم إيجاد الشيء نفسه أو الدور والتسلسل والكل محال وتقرير ذلك يأتي إن شاء الله في شرح البيت الأول
وأما قول المعتزلة إن المعرفة واجبة بالعقل فممنوع لوجوه أقتصر منها هنا على ذكر ثلاثة (1/55)
الأول أن ذلك بناء منهم على ثبوت الحكم بالتحسين والتقبيح العقليين وهو باطل كما سيأتي مستدلا على بطلانه بثلاثة عشر دليلا ما بين عقلي ونقلي
الثاني أن في قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا نفيا للوجوب قبل الشرع لنفي لازمه وهو العذاب
الثالث أن وجوب معرفة الله تعالى وطاعته لو كان بالعقل لم يخل إما أن يكون لغير فائدة وغرض وهو محال في العقل لأنه عبث أو لفائدة وغرض للمعبود وهو محال أيضا لتقدسه عن الأغراض والفوائد أو للعبد وهو محال أيضا لأن الحال ليس فيه إلا الكد والتعب بفعل الطاعات وترك الشهوات والمآل لا يستقل العقل بالاهتداء أي معرفة ما فيه من الثواب والعقاب فدل على أن لا موجب إلا الشرع
إذا علم هذا فاعلم أنه يلزم من معرفة الله تعالى معرفة كونه واحدا لا شريك له لاستحالة وجود شريك له تعالى عقلا وشرعا
أما الشرع فقوله تعالى قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا وقوله سبحانه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقوله تعالى وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض
معرفة العقل
وأما العقل فلأنه لا يعرف الله سبحانه إلا بصفات الكمال المطلق (1/56)
وإلا لكان ناقصا والنقص محال عليه تعالى ومن جملة الكمال كونه واحدا متوحدا بالملك منفردا بتدبير المملكة غير مشارك في الخلقة والأمر لأن الشركة يلزم منها المحال أو النقص المؤدي إليه لأنا إذا فرضنا إلهين وفرضنا إرادة أحدهما شيئا وإرادة الآخر نقيضه كإيجاد شيء وعدم إيجاده أو تحريكه وتسكينه فإما أن يحصل مرادهما فيجتمع النقيضان أو لا يحصل مراد واحد منهما فيرتفعان والكل محال أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر فيلزم عجز من لم يحصل مراده فلا يكون إلها لنقصه فلزم أن لا يكون الإله إلا واحدا
فإن قيل يريدان الأصلح قلنا هذا مبني على القول بالتحسين والتقبيح العقلي وهو باطل كما سيأتي
قلت وناهيك ببطلان مذهب يلزم منه على هذا وجود إلهين وهذا غاية البطلان والفساد والضلال فعلم من هذا التقرير أن معرفة انتقاء الشركة في الإلهية مترتبة على معرفة الإله سبحانه
العلم والمعرفة والفروق بينهما
قلت وهذه المعرفة المذكورة هي المعرفة العامة المشتركة التي هي العلم في لسان علماء الظاهر إذ عندهم كل علم للخلق معرفة وكل معرفة علم وكل عالم منهم عارف وكل عارف عالم على ما قاله بعض العلماء
وفرق بعضهم بينهما فإن العلم لا يستدعي سبق جهل بخلاف المعرفة ولهذا لا يقال الله تعالى عارف ويقال عالم وبأن العلم بنسبة شيء إلى آخر لهذا يتعدى علمت إلى مفعولين بخلاف عرفت فإنها وضعت لمفردات وليست المعرفة المخصوصة المختص بها الخواص أرباب المشاهدة فإنها عندهم أوصاف عزيزة في عبد اصطفاه الحق سبحانه (1/57)
وتكلموا فيهما بما ذكره يطول ويخرجنا عما نحن له قاصدون
وها أنا أقتصر هنا على ذكر قول ثلاثة منهم
1 - قال الشيخ الكبير العارف بالله أبو العباس الصياد اليمني رضي الله عنه المعرفة وجود تعظيم في القلب يمنع الشخص عن الانقياد لغير معروفه
2 - وقال بعضهم المعرفة اطلاع العبد على الأسرار بمواصلة الأنوار
3 - وقال بعضهم المعرفة إيصال بصائر التعريف يقين العلم دوام المناجاة مع الله بالقلب وحصل من الله التعريف على دوام الأوقات باختلاف الحالات
فعند ذلك تظهر أنوار المعرفة فإذا تجرد العلم واتضحت البراهين وانتفت الشكوك بالكلية وحصل ثلج الفؤاد وبرد اليقين لا يسعى العبد إلى هذه الطريقة عارفا حتى يحصل بينه وبين الله تعالى أحوال زائدة على العلم من فنون الكشوفات وصنوف التعريفات وبتحديث الحق مع العبد من غير سماع نطق بالجهر والعارف تبدو في قلبه في ابتداء التعريف لوائح ثم لوامع ثم كشوفات وبصائر أنوار وطوالع فالعارف كأنه يخاطبه الحق سبحانه بكل شيء ويلقي إليه كل خطاب ويعوده في كل وقت بنوع تعريف ومكاشفة وفي كل حال بسر
صفة العارف
ثم من صفة العارف أنه لا يخلو من أحوال معلومات منها المحبة ومنها التعظيم والهيبة ومنها الأنس والقربة ومنها الحياء والغيبة وإذا تحقق العبد في ابتداء طلبته بدوام المراقبة ووصل إلى المشاهدة والمراقبة علمه بأن الله سبحانه يراه ويعلمه على دوام الأوقات ثم أنوار المشاهدة (1/58)
تلوح في القلب والمشاهدة غلبة نور الحق على القلب وانتفاء إحساسك بك وذكرك لك وضميرك عنك فتكون مختطفا عن جملتك باستيلائه عليك
فكل ما زاد شهودك زادت اجنبيتك عنك وعن الكون بالجملة وإذا طلعت شموس العرفان استهلك في ضيائها نجوم العلوم كما قيل
ولما استنار الصبح أدرج ضوءه ... باسفاره أنوار ضوء الكواكب
شبهات المعتزلة والرد عليها
وأما ما ذكرت أيها السائل من شبه المعتزلة الثلاث التي ذكرتها في الأوجه الثلاثة في الاعتراض على قولنا إن المعرفة تجب بالسمع الموجب دون العقل عندنا للنظر الذي هو طريقه إلى معرفتها عندنا وعندكم إجماعا
فالشبهة الأولى وهو قولك أحدها أن السمع مفتقر إلى معرفة الله تعالى ومعرفة الله تعالى مفتقرة إلى السمع وهذا دور محض لأنا لا نعرف السمع حتى نعرف الله تعالى ولا نعرف الله تعالى حتى نعرف السمع فلا يحصلان ولا واحد منهما
هي عين ما حكاه أصحابنا عن المعتزلة من قولهم أن الوجوب لو كان من الشرع لزم إفحام الأنبياء عليهم السلام فإن المكلف لا ينظر ما لم يعلم الوجوب ولا يعلمه ما لم ينظر
قلت وقد ألزم أصحابنا مذهبهم الإفحام أيضا فقالوا في جوابهم ولو وجب عقلا لأفحم أيضا لأن وجوب النظر غير ضروري إذ هو متوقف على مقدمات مفتقرة إلى أنظار دقيقة
قلت لأن المكلف على هذا القول لا أنظر حتى أعرف وجوب النظر ولا أعرف وجوب النظر حتى أنظر
فيلزم في هذا من الدور (1/59)
في طريق المعرفة على مذهبهم على ما ذكره السائل من الدور في طريقها على مذهبنا
قلت هكذا صرح غير واحد من أئمتنا المحققين
وقال بعضهم العقل لا يفحم بل هور دور لأنه يصدق عليه قولنا لو وجب عقلا لما وجب نقلا فعبر عن هذا بالإفحام انتهى
قلت ولزوم الدور كاف فيما رمنا من منع الوجوب عقلا وإذا لزم الأمر مذهبهم من الدور ما لزم مذهبنا فما أجابوا به عن ذلك به أجبنا وما لهم عن ذلك جواب ولا مخرج عن اللازم المذكور وها نحن على سبيل التبرع نجيب عن ذلك ونخرج عن المحذور وفي هذا المعنى أنشد وأقول
إذا ما في الوغى أوردتمونا فإننا ... سنوردكم منها الذي منه يحذر
إذا ضمنا يوما من الدهر معرك ... صدرنا وأنتم ما لكم عنه مصدر
الجواب عن هذه الشبهة
فأقول وبالله التوفيق الجواب عن الشبهة المذكورة هو ما أشار إليه الإمام حجة الإسلام أبو حامد رضي الله عنه في قول الذي ذكره السائل في هذا السؤال وذكر أنهم لم يفهموه وأنهم سألوا أعلم أهل زمانهم عن معناه فقال ما فهمنا غرضه في هذا الكلام مع أنه الناقل لكلامه ومعترف بفضله
وذكر السائل أنه ضجع به في الرد على المعتزلة هكذا قال ضجع بتشديد الجيم بعد الضاد المعجمة
وفسر ذلك بأنه تكلم بكلام لا يفهم وهذا التفسير الذي ذكره لا يشهد له من جهة اللغة وضع ولا من جهة الاصطلاح سمع
ولكن لهذه اللفظة معنى صحيح وإن لم يذهب فهمه إليه وهي كلمة حق جرت على لسانه ليست له بل (1/60)
عليه أي أقعدهم بالرد عليهم وصيرهم مضطجعين غير قائمين بحجة وأني تقوم حجة للمبتدعين
قال أبو حامد المذكور الطبع قابل والعقل باعث والمعجز ممكن والرسول مبلغ
قلت وها أنا أنبه على معنى هذا الكلام بعبارة واضحة للأفهام اجمع فيها بين تفهيمهم ما لم يفهموه من المعنى ودفع الإلزام الذي ألزموه لنا
اعلم أن كلامه هذا رضي الله عنه في غاية الحسن والمناسبة لما نحن بصدده من مسألة المعرفة اللازم فيها الإفحام للزوم الدور المذكور وذلك أنه رضي الله عنه مثل المكلف القائل للرسول المستدعي النظر في المعجز المتحدى به الشاهد بصدق رسالته المشتملة على معرفة الله تعالى ومعرفة شرعه الذي يدعو به عباده لا يلزمني النظر في معجزك حتى أعلم صدقك ولا أعلم صدقك حتى أنظر في معجزك بمن قال له منذر ناصح مشفق تحذيرا له وراءك أفعى فاحذر منها أن تلدغك أو سبع ضار فاحذر منه أن يفترسك وإن التفت وراءك ونظرت عرفت صدقي فقال لا ألتفت ورائي وانظر ما لم يثبت صدقك ولا يثبت صدقك ما لم التفت وأنظر فهل قائل هذا القول إلا أحمق حيث عرض نفسه للهلاك وعظيم الخطر بترك نظر ليس عليه فيه كلفة ولا ضرر ولو كان له عقل لبعثه على النظر في ذلك وقال في نفسه يمكن أن يكون هذا المنذر صادقا فإن قبلت نصحه ونظرت فيما قال وأنذر وحذر واحترزت من العدو الذي ذكر نجوت وإن لم أقبل نصحه وتقاعدت عن الاحتراز فلم أنظر نزل بي الهلاك من حيث لا أشعر وإن كان كاذبا فما يضرني النظر والاحتراز في أمر ممكن هو علي غائب ولا يورثني ذلك شيئا بل زينا إذ الاحتراز والنظر في الأمور وما تؤول إليه العواقب من (1/61)
شيمة العقلاء أولي الحزم والعزم والحذر من الغدر والوقوع في المعاطب
وقد قال في ذم التغرير القائل الخبير وما المغرر محمود وإن سلم
قلت وأما قولي في بعض القصائد
فما فاز بالمجد الأثيل من الورى ... سوى من لدى الأهوال بالنفس يسمح
فأما جبان عزت النفس عنده ... فذاك الذي بالذل يمسي ويصبح
وقولي في أخرى
فمجد العلا ما ناله غير ماجد ... يخاطر بالروح الخطير فيظفر
فإن هذا تغرير بالنفوس في طاعة الملك القدوس وفيها النجاة وسعادة الأبد والفوز العظيم بالنعيم المخلد وليس ذلك التغرير كذلك بل موقع في الهلاك
قلت فإذا فهم هذا المثل المذكور فليفهم ما نحن بصدده من كون العاقل يحترز من هذا المحذور لاحتمال صدق المخبر والوقوع في الهلاك والثبور فكذلك يقول الرسول وراءكم الموت وما بعده من الأهوال والشدائد والعقاب والوبال والعذاب الشديد الأليم وخلود الدهر في دار الجحيم إن لم تأخذوا حذركم وتحترزوا مما أنذرتكم وتعرفون صدقي بالالتفات إلى معجزتي فمن التفت إليها عرف صدقي واحترز ونجا ومن لم يلتفت إليها لم يعرف صدقي ولم يحترز من المحذور حتى ينزل به الهلاك والردى
قلت فقد علم من هذا التمثيل والإيضاح أنه لا يترك الاحتراز بالنظر في المعجز بسبب الدور من فيه فلاح فإن الذي تحدى به الرسول يمكن أن يكون معجزا دالا على صدقه فيما أخبرته أعني ممكنا في نفس الأمر قبل أن ينظر فيه غير مقطوع بصدقه ولا كذبه
فينبغي أن ينظر فيه لاحتمال الصدق المذكور خوفا من الوقوع بترك النظر في المحذور فإذا نظر فيه حصل له العلم بكونه معجزا خارقا (1/62)
للعادة شاهدا بصدقه فبادر إلى التصديق ونيل السعادة فهذا معنى قول الإمام حجة الإسلام المحقق المتقي والمعجز ممكن
من مهام الرسول
وأما قوله والرسول مبلغ فمعناه ما عليه إلا البلاغ وليس عليه أن يلزم المرسل إليهم الإيمان بما أرسل به وقد قال الله تعالى وما على الرسول إلا البلاغ المبين وقال سبحانه وما أنت عليهم بوكيل وقال عز و جل إنما أنت نذير وغير ذلك مما يطول ذكره من قوله تعالى في محكم الآيات الكريمات في هذا المعنى وقد ضرب في الحديث الصحيح مثلا لمن صدقه فنجا ومن كذبه فهلك وتردى
فقال مثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال إني رأيت الجن بعيني وأنا النذير العريان فالنجاء فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق أخرجاه في الصحيحين (1/63)
قلت ولا ضرر على النذير إذا لم يقبل المنذر التحذير بل الضرر على من لم يقبل النصح والإنذار حتى نزل به الدمار نسأل الله الكريم العفو والعافية والتوفيق وحسن الخاتمة لنا ولأحبابنا والمسلمين آمين
فهذا معنى ما أشار إليه في قوله والرسول مبلغ
العقل باعث
وأما قوله والعقل باعث فلأنه هو الذي يفهم كلام المنذر المشتمل على الإعلام بنزول الهلاك إن لم يصدق ويقبل ويبعث صاحبه على الاحتراز مما حذر منه ويحكم بإمكان وقوع ذلك في المستقبل
ذكر العقل في القرآن في معرض المدح
قلت وقد ذكر الله تعالى العقل في القرآن في معرض المدح لأهله في مواضع يطول عدها وهو جدير بالمدح الكامل إذ به عرف الحق سبحانه
ومعرفته تعالى أكمل الفضائل وبه أيضا مناط التكليف وزجر النفس عن الهوى الموقع لها في شقاوة الأبد وحلول دار الجحيم والجذب لها إلى الخوف المفضي بها إلى سعادة الأبد والفلاح المخلد لها في دار النعيم حيث يقول الله العظيم فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وحيث يقول العلي الكبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (1/64)
قلت ومما يدل أيضا على أن العقل سبب النجاة من المحذور أنه لا يفكر في عواقب الأمور ويخاف من تقلب الدهور إلا عاقل حذور بالهموم مغمور وأما غير العاقل فهو سال ساه لاه غافل ولهذا قال القائل
إذا قل عقل المرء قلت همومه ... ومن لم يكن ذا مقلة كيف يرمد
وفي مدح العقل أيضا أحسن القائل وصدق عدو عاقل خير من صديق أحمق قلت وهذا معنى ما أشار إليه في قوله والعقل باعث
الطبع قابل
وأما قوله والطبع قابل فهو بالباء الموحدة قبل اللام ويصح أن يقال بالتاء المثناة من فوق ومعناه ظاهر لما قد علم في النفس من الطباع الردية المشتملة على الأوصاف الذميمة المحتاجة في إزالتها إلى الرياضات والمجاهدات الشديدة حتى تتبدل بتوفيق الله سبحانه بالصفات الحميدة وإلا فلا تزال بصاحبها إلى الأهواء مائلة حتى تمسي وهي له قاتلة
وأما على الوجه الأول أي بالباء الموحدة وهو الظاهر الذي هو له قاصد حجة الإسلام أبو حامد فمعناه أنه إذا فهم العقل الإنذار وجوز إمكان وقوع الأخطار فإن الطبع يقبل النصح ويستشعر الخوف فيستحث على الحذر من الوقوع في الضرر ثم الضرر الأعظم موجود في الجهل بالله تعالى ومخالفة حكمه المعظم في ترك الواجبات وارتكاب المنهيات
ومعرفة ذلك كله مستفاد من الشرع المعروف بالمشرع المدعي الرسالة الشاهدة على صدق دعواه معجزته المحتملة قبل النظر فيها للصدق المفضي ترك النظر فيه إلى الضرر المستحث الطبع على (1/65)
الحذر الداعي إلى النظر المؤدي إلى معرفة صدق المشرع المستلزم التصديق به المفضي إلى السلامة من المحذور وسعادة الأبد ودوام السرور في جوار المولى الكريم الغفور
فهذا معنى ما أشار إليه الإمام حجة الإسلام الفاضل رضي الله عنه في قوله والطبع قابل وفي كون الطبع قابلا للخير وتبديل الصفات الذميمات بالصفات الحميدات قلت هذه الأبيات
تعود فعال الخير مع كل فاعل ... بتبديل طبع للتبدل قابل
فنفس الفتى إن راضها مهرت بها ... نجاة وعز واكتساب فضائل
وإن لم يرضها كلب مزبلة بها ... هلاك وذل واكتساب رذائل
قلت وإذا كان الطبع غير قابل بالموحدة فلا شك أنه قاتل بالمثناه من فوق كما ذكرت فيما تقدم والله أعلم
فهذا ما اقتصرت عليه من التنبيه على المقاصد المشتملة عليها الأربع الكلمات المذكورات في قول الإمام أبي حامد رضي الله عنه التي ذكر السائل أنه لم يفهمها عالم زمانهم الفاضل
بسط الكلام في معاني كلمات أبي حامد يستدعي تصنيف كتاب كامل
ولعمري إن بسط الكلام فيها يستدعي تصنيف كتاب كامل وفيما ذكرنا من ذلك كفاية عن التوغل في ميدان بعيد الغاية
ولنعد على الفور إلى ما كنا بصدده من ذكر الدور
قال بعض أئمتنا ليس في هذه المسألة دور لأن معجزات الأنبياء عليهم السلام تبهر عقول الأنام فمن رآها وسمع بها ولم يجب إليها ولا نظر فيها فهو مقصر لأن ظهورها موجب للنظر والشرع ثابت بظهورها وإن لم يثبت عنده والوجوب متوقف على ثبوت الشرع (1/66)
بالمعجزات لا على العلم بثبوته فكم من واجب يتوجه على المكلف وهو غير عالم به انتهى معنى كلامه مختصرا
قلت وهذا نحو مما أشار إليه إمام الحرمين رضي الله عنه في هذه المسألة حيث قال شرط الوجوب عندنا ثبوت السمع الدال عليه مع تمكن المكلف من الوصول إليه وقال أيضا مخاطبا للخصوم هذا الذي ألزمتمونا في المنقول ينعكس عليكم في قضايات العقول فإن الموصل إلى العلم يوجب النظر في مجاري العبر عندكم أن العاقل يخطر بباله تجويز مانع يطلب منه معرفته وشكره على نعمه
ولو عرفه وشكره لنجا ورجا الثواب ولو كفر واستكبر لتصدى لاستحقاق العقاب
فإذا تقابل عنده الجائزان وتعارض لديه الاحتمالان فالعاقل يقضي باختيار ما يتوقع فيه النعيم المقيم واجتناب ما يخشى فيه العذاب الأليم
فكذلك المعجزة إذا ظهرت وتمكن العاقل من دركها كانت بمثابة جريان الخاطرين على زعم الخصم فإذا جريا فإمكان النظر في اختيار أحدهما كإمكان النظر في المعجزة عند ظهورها
قال ويلزم الخصوم في مدارك العقول عند الغفلة والذهول ما ألزمونا في مقتضى المنقول
فإن من ذهل عن هذه الخواطر وغفل عن هذه الضمائر لا يكون عالما بوجوب النظر هذا ما اختصرته من كلامه غير ملتزم للفظه بل معنى مرامه مع تقديم وتأخير مخالف لسلك نظامه
طريق الهدى في اتباع السنة
قلت وبعد هذا كله فاعلم أيها السائل أن من شرح الله صدره إلى الإسلام وحبب إليه الإيمان ووفقه لسلك طريق الهدى وترك الردى لا يسلك في طلب معرفة الله عز و جل طريق أهل المراء والجدال حتى يقول لا أنظر في المعجزة أو في الأدلة السمعية حتى أعلم صدق صاحبها ولا أعلم صدقه حتى أنظر فيها ونحو ذلك من مدافعة (1/67)
الحق ودعاة من ليس بموفق واصطلاح من ليس فيه صلاح ولا لاح عليه فلاح بل يبادر إلى النظر فيها لاحتمال صدقها المترتب على التصديق به السعادة الكبرى وعلى التكذيب به الشقاوة العظمى فإذا علم صدقها سارع إلى التصديق بها والعلم النافع والعمل ولم يشتغل بعلم المغالطات والتشدق بالجدل كاشتغال الخالين عن الخوف والوجل الناسين لذكر الله عز و جل
تعقيب
فهذا كاف في دفع ما ذكرت من الشبهة الأولى في الوجه الأول وشاف فيما طلبت من فتق صميمها وقشر أديمها لمستبصر في طريق الهداية موفق بتأييد العناية لم تترو عروقه من منهل البدعة والغواية
فإن تروت من لك المنهل الوخم فاغسلا يدك من صحة شاربه السقيم ووصوله إلى منهل السنة العذب ذي النعيم وأنشد على رؤوس الملا متمثلا
فبدونك يا ماء العذيب تعرضت ... مياه رخيمات عن الوصل صدت
الشبهة الثانية
أما ما ذكرت من الشبهة الثانية في الوجه الثاني بقولك إنما يصح الاستدلال بكلام الله تعالى مهما كان عدلا حكيما لا يفعل القبيح ولا يريده فأما مع تجويزكم القبيح عليه وإرادته بكل الكائنات من وجوه الفساد من كفر وظلم وسواه فما الثقة بكلامه إلى آخره فاعلم وما أظنك تعلم لما خالطك من الوخم فأعمى وأصم أنه تعالى لا ينسب إليه قبح ولا ظلم لا يتصوران منه بدليل العقل والنقل (1/68)
الأدلة العقلية على عدم نسب القبح إلى الله
أما العقل فها أنا أقدم طرفا منه كالتوطئة والتمهيد ثم أذكر بعد النقل منه طرفا ردا له وردفا
فأقول وبالله التوفيق أما دلالة العقل على ذلك فلأن الظالم هو المتصرف في ملك غيره
هذا قول جميع أئمة الهدى والإتباع وعليه انعقد الإجماع قبل ظهور الابتداع
قلت أو في ملكه على وجه مخالف لحكم حاكم عليه يلزمه طاعته وليس الله تعالى متصرفا في ملك غيره ولا مخالفا لحكم من يلزمه طاعته إذ لا مالك سواه ينسب الملك إليه ولا حاكم غيره يحكم عليه بل هو المالك للعبيد والحاكم بما يريد
له الخلق والأمر والعزة والقهر والعظمة والكبرياء والقدرة والعلاء والعلم والحكمة والسلطان والسطوة لا يجري في ملكه إلا ما يشاء ولا يوجد إلا ما سبق به القضاء يعطي ويمنع ويضر وينفع ويخفض ويرفع ويجلب ويدفع ويفرق ويجمع كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل لا يسأل عما يفعل وهو يسألون والقبح والحسن يطلقان على معان مختلفة منها أن يوصف الشيء الملائم للطبع بالحسن وغير الملائم بالقبح ومنها أن يوصف الشيء الكامل بالحسن والناقص بالقبح
فهذان المعنيان عقليان بلا خلاف ولكن ليس المراد هنا وإنما المراد ما يتعلق به في الأجل ثواب أو عقاب فهذا الحكم فيه للشرع دون العقل لوجوه الأول ما تقدم من قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
الثاني أن العقل لا مجال له في الاهتداء إلى معرفة الآخرة وما فيها من الثواب والعقاب (1/69)
الثالث أن الفعل القبيح كالكذب مثلا قد يزول قبحه ويحسن عند اشتماله على مصلحة راجحة على مفسدته والأحكام البديهية ككون الكل أعظم من جزئه لا تزول بسبب أصلا فقول المعتزلة إن بديهة العقل تحكم بالتحسين والتقبيح ليس بصحيح
الرابع أن أفعال الخلق قد دل الدليل على وقوعها بقدرة الله تعالى وإرادته وأن المخلوق غير مستبد بالاختراع
قال أئمتنا رضي الله عنهم ومنهم الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي وهذا لفظه وكيف يكون الحيوان مستبدا بالاختراع ويصدر من العنكبوت والنحل وسائر الحيوانات من لطائف الصناعات ما تتحير فيه عقول ذوي الألباب فكيف انفردت هي باختراعها دون رب الأرباب وهي غير عالمة بتفعيل ما يصدر منها من الأكساب هيهات هيهات ذلت المخلوقات وتفرد بالملك والملكوت جبار السماوات
قلت وإلى صدور ذلك عن اختراع الإله الواحد أشرت بقولي في بعض القصائد في توحيد الرب الماجد منتقلا من ذكر الغزل إلى وصف الله عز و جل
خليلي ما نعمى ونعمان والحمى ... وليلى وما ذكري للبنى ولبنان
دعاها فمقصودي سواها وإنما ... أكني بها عن عالي الوصف والشان
إله تعالى عن ثنا وصف واصف ... مجيد وذي جود رحيم ورحمان
تقدس في أسمائه وصفاته ... وفي ذاته عن كل عيب ونقصان
عليم بكل الكائنات وخالق ... لها باختراع منه من غير أعوان
فكن كون الأكوان من غير حاجة ... إلى فعل آلات وقول وأزمان
إله الحمد حقا وحده دون غيره ... على ذاك قد دلت قواطع برهان
ويكفي دليلا قولنا الحمد والثنا ... لوصفين محمودين حسن وإحسان
وليس كلا الوصفين إلا لصانع ... حكيم جواد واحد ما له ثان
فكل جميل أو جمال فجوده ... وصنعته عن حكمة ذات إتقان (1/70)
وذلك كل الكائنات جمادها ... ومائعها مع كل نام وحيوان
فلا عرض أو جوهر غير خلقه ... ولا جسم إلا خلق خلاق أكوان
فما النحل ثم العنكبوت لتهتدي ... إلى صنعة من غير إلهام رحمان
ولا فطنة في صنعة ثم حكمة ... وعلم أتت إلا بتعليم منان
ولا قدرة عند الورى أو إرادة ... سوى خلق سلطان علا كل سلطان
فحاشاه من وجدان ما لا يريده ... على ملكه يعلو إذا ملك شيطان
وأفعاله فضل وعدل تصرفا ... بملك يراه ليس بالظالم الجاني
وليس بذا قبح كما ظن جاهل ... نحا باعتزال نحو مذهب خذلان
ولكن فيه حكمة أي حكمة ... فلا نقمة إلا بها سر ديان
ولا نعمة إلا ومن عنده أتت ... إليك وإن جاءتك من عند إنسان
فيا رب وفقنا لشكر لنا به ... مزيد من النعماء في نص قرآن
واكمل لنا دينا إليك مقربا ... بتحقيق إيمان وإيقان عرفان
وصل على زين الوجود محمد ... إمام الورى ما غردت ورق أغصان
قلت وسيأتي ذكر مباحث عقلية أيضا بعد الأدلة النقلية إن شاء الله تعالى أعني ما وعدت به أن يكون ردفا هو الوعد ينبغي فيه الوفاء
الأدلة النقلية على إجماع الأمة بأن أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى وإرادته
الأدلة من القرآن الكريم
فأما النقل فنصوص الكتاب والسنة ناطقة مع اجماع الأمة قبل ظهور البدعة أن أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى وإرادته والاستشهاد من ذلك بالقليل يخرجنا إلى حيز التطويل فليقتصر من ذلك على ما يحصل به الكفاية في الإرشاد إلى الإيمان به والله ولي الهداية (1/71)
1 - فمن ذلك قوله تعالى الله خالق كل شيء
2 - وقوله سبحانه والله خلقكم وما تعملون
3 - وقوله تعالى ألا له الخلق والأمر
4 - وقوله سبحانه ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير
5 - وقوله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر
6 - وقوله سبحانه من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم
7 - وقوله تبارك وتعالى أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم
8 - وقوله جل جلاله ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة
9 - وقوله سبحانه وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه (1/72)
10 - وقوله عز من قائل إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون
11 - وقوله تبارك وتعالى فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون
12 - وقوله تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعلمون
13 - وقوله سبحانه وأضله الله على علم
14 - وقوله عز و جل ومن يضلل الله فما له من هاد
15 - وقوله تبارك وتعالى ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله
16 - وقوله سبحانه ولو شاء الله ما أشركوا
17 - وقوله عز و جل ولو شاء ربك ما فعلوه
18 - وقوله تعالى وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين (1/73)
19 - وقوله جل وعلا ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا
20 - وقوله سبحانه ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها
21 - وقوله تعالى أتريدون أن تهدوا من أضل الله
22 - وقوله عز و جل ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها
23 - وقوله تعالى وكذلك زينا لكل أمة عملهم
24 - وقوله سبحانه وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا
جاء في التفسير أمرنا أي كثرنا تقول أمر بنو فلان بكسر الميم إذا كثروا
قلت ومن ذلك قول موسى عليه السلام لقد جئت شيئا أمرا أي كبيرا بالياء الموحدة وقول أبي سفيان لقد أمر ابن أبي كبشة أي كبر وعظم
25 - وقوله عز و جل حاكيا عن الخضر عليه السلام لقيا غلاما فقتله (1/74)
وفي الحديث الصحيح أنه طبع يوم طبع كافرا
26 - وقوله تعالى حاكيا قول الكليم عليه الصلاة والتسليم إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء
27 - وقوله تبارك وتعالى حاكيا قول الخليل المكرم تعذب من تشاء وترحم من تشاء
28 - وقوله سبحانه حاكيا قول شعيب عليه السلام قد افترينا على الله كذبا أن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما
29 - وقوله تعالى حاكيا قول نوح صلى الله عليه و سلم لقومه ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون
قلت وفي قوله هو ربكم إشارة إلى ما ذكرت أولا من أن تصرف المالك في ملكه ليس فيه ظلم إذ الرب في وضع اللغة المالك وهذا إنما ظهر لي عند وضع هذا الكلام أعني كون هذه الإشارة ظاهرة في التعليل
وكذلك قول عيسى بن مريم أن تعذبهم فإنهم عبادك فإن الإشارة إلى التعليل المذكور أيضا مفهومة من قوله فإنهم عبادك (1/75)
30 - وقوله عز و جل مخبرا عن أولي الألباب ومعلما لنا الدعاء والآداب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب
قلت وهذه الآية الكريمة خاتمة آيات ثلاثين نسأل الله الكريم أن يختم لنا بها ولأحبابنا والمسلمين آمين
وهذا ما اقتصرت عليه من الكتاب المبين مما خطر بالبال وحضر في الحال
الأدلة النقلية من السنة على أن أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى وإرادته
وأما الأحاديث فاقتصر منها أيضا على ثلاثين حديثا محذوفة الأسانيد وطرق الروايات منسوبة إلى الكتب الستة التي هي الأصول لكتب الحديث والأمهات والمعتمد عليها في النقل والاستدلال في جميع الجهات وهي صحيحا البخاري ومسلم وموطأ مالك وسنن أبي داود والترمذي والنسائي رضي الله عنهم أجمعين
الحديث الأول روينا في صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي (1/76)
داود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وعلمه وأجله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها
الحديث الثاني وروينا في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيما العمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت (1/77)
به المقادير أم فيما يستقبل قال بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير قال ففيم العمل قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله
الحديث الثالث روينا في صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال إن الرجل يعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة
الحديث الرابع روينا في صحيح مسلم وجامع الترمذي عن (1/78)
عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قال رسول الله كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء
قال العلماء المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك لا أول له
الحديث الخامس روينا في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف في كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان
قال العلماء والمراد بالقوة عزيمة النفس في أمور الآخرة وما يتعلق بالدين من الإقدام في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى وأنواع البلاء واحتمال المشاق في الطاعات والنشاط في العبادات من الأذكار والصوم والصلوات وغير ذلك من المهمات
الحديث السادس روينا في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت توفي صبي فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلا ولهذه أهلا (1/79)
الحديث السابع روينا في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل عن أولاد المشركين فقال الله أعلم إذ خلقهم بما كانوا عاملين
قلت وسيأتي في آخر الكتاب ذكر خلاف فيهم من أهل السنة والصحيح أنهم في الجنة لحديث صحيح يأتي ذكره هنالك
الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال حاج آدم موسى فقال أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم فقال آدم لموسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه أتلومني على أمر كتبه الله تعالى قبل أن يخلقني أو قدره علي قبل أن يخلقني قال فحج آدم موسى (1/80)
أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي
قلت وإنما حجه لأنه لامه على ذنبه بعد التوبة منه والذنب بعد التوبة غير مواخذ به بفضل الله تعالى
وأما قبل التوبة فالقدر لا يقوم به حجة للمذنبين لأنهم مواخذون بعدل الله تعالى (1/81)
الحديث التاسع روينا في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت سئل عن الطاعون فقال كان عذابا يبعثه الله عز و جل على من كان قبلكم فجعله رحمة للمؤمنين ما من عبد يكون في بلد يكون فيه الطاعون فيمكث فيه ولا يخرج صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد
الحديث العاشر روينا في صحيح البخاري أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء
الحديث الحادي عشر روينا في صحيح البخاري أيضا عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه إن العبد ليعمل عمل (1/82)
أهل النار وهو من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وهو من أهل النار وإنما الأعمال بالخواتيم
الحديث الثاني عشر روينا في صحيح البخاري أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال جف القلم بما أنت لاق
الحديث الثالث عشر روينا في صحيح البخاري أيضا عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال قال كل يعمل لما خلق له أو لما تيسر له
الحديث الرابع عشر روينا في صحيح البخاري أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محاله فزنا العين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه (1/83)
الحديث الخامس عشر روينا في صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود عن علي كرم الله وجهه قال كنا في جنازة ببقيع الغرقد فأتانا رسول الله فقعد وقعدنا حوله وبيده مخصرة فجعل ينكت بها الأرض وفي رواية بعضهم عود فقال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة فقال رجل من القوم لا نتكل يا رسول الله قال لا اعملوا فكل ميسر وفي رواية بعضهم فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له الحديث
الحديث السادس عشر روينا في صحيح مسلم عن يحيى بن يعمر رحمه الله تعالى قال كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برءاء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر (1/84)
ثم قال حدثني أبي عمر بن الخطاب قائلا بينما نحن جلوس عند رسول الله ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي فاسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا فقال صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان فقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت قال وأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن أمارتها قال أن تلد الأمة ربها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان قال ثم أنطلق فلبثت مليا ثم قال أتدري من السائل قلت الله ورسوله أعلم قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم
وقوله يتقفرون هو بتقديم القاف على الفاء ومعناه يطلبونه ويتبعونه هذا هو المشهور وقيل معناه يجمعونه ورواه بعضهم بتقديم الفاء وهو صحيح أيضا ومعناه يبحثون عن غامضه ويستخرجون خفية
وروي في غير مسلم يقتفون بتقديم القاف وحذف الراء وهو صحيح أيضا ومعناه أيضا يتبعونه وقال بعضهم يتقعرون بالعين وفسره بأنهم يطلبون قعره أي غامضه وخفيه ومنه متقعر في كلامه إذا جاء بالغريب منه وفي رواية بعضهم يتفقهون بزيادة الهاء وهو ظاهر (1/85)
قلت هذا مختصر كلام شراح الحديث رحمهم الله تعالى
وقوله يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف هو بضم الهمزة والنون أي مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله وإنما يعلمه بعد وقوعه
قال أئمتنا وهذا قول غلاتهم وليس قول جميع القدرية وكذب قائله وضل وافترى
قلت يعنون أن القدرية صنفان أحدهما ينفي القدر والعلم معا والثاني ينفي القدر فحسب وسيأتي إن شاء الله إيضاح ذلك وبيان حكم الصنفين في التكفير وأن الأول منهما كافر بلا خلاف وهم الذين أراد ابن عمر وكلامه ظاهر في تكفيرهم وفي الثاني اختلاف بين أئمة أهل الحق والله أعلم
الحديث السابع عشر روينا في صحيح مسلم وجامع الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله في القدر فنزلت يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا من سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر
قلت فهذه سبعة عشر حديثا كلها في القدر وكلها صحاح رويناها في الصحيحين معا وبعضها في أحدهما كما ترى مع زيادة ما ذكرت من رواية ما في الكتب الستة التي هي أصول الإسلام وأمهات الأخبار ورواتها الذين ذكرتهم من سادات الصحابة رضي الله عنهم عشرة عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وأبو هريرة وعمران بن الحصين وجابر بن عبد الله وسهل بن سعد وعمرو بن العاص وعائشة زوج النبي (1/86)
وها أنا أردفها بأحاديث أخرى في القدر أيضا مما أخرجه أبو داود والترمذي وهي ثلاثة عشر تتمة الثلاثين التي وعدت بها
الحديث الثامن عشر روينا في سنن أبي داود عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالموت ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر
الحديث التاسع عشر روينا في سنن أبي داود عنه أنه سأله رجل من مزينة أو جهينة فقال يا رسول الله فيما يعمل في شيء خلا ومضى أو شيء يستأنف الآن قال في شيء خلا ومضى فقال الرجل أو قال بعض القوم ففيم العمل قال إن أهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأن أهل النار ميسرون لعمل أهل النار
الحديث العشرون روينا في جامع الترمذي عن جابر بن سمرة (1/87)
رضي الله عنه قال قال رسول الله لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه
الحديث الحادي والعشرون روينا في سنن أبي داود والترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه عند الموت يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك فإني سمعت رسول الله يقول إن أول ما خلق الله القلم قال له اكتب فقال يا رب وماذا أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى يوم القيامة فإني سمعت رسول الله يقول من مات عل غير هذا فليس مني
الحديث الثاني والعشرون روينا في كتاب الترمذي عن عمرو ابن العاص رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله وفي يده كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان فقلنا يا رسول الله إلا أن تخبرنا فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا وقال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم اجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه فقال سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن (1/88)
صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير
قال الترمذي وفي الباب عن ابن عمر هذا حديث حسن صحيح غريب
الحديث الثالث والعشرون وروينا في كتاب الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال إن الله خلق كل نفس وكتب حياتها ورزقها ومصائبها ومحابها وهذا بعض الحديث (1/89)
الحديث الرابع والعشرون روينا في كتاب الترمذي أيضا عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قال رسول الله إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فهادى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله
الحديث الخامس والعشرون في الرضاء بالقدر روينا في جامع الترمذي أيضا عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال قال رسول الله من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله
الحديث السادس والعشرون في ذم القدرية روينا في سنن أبي داود عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة القدرية الذين يقولون لا قدر من مات (1/90)
منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه فهم شيعة الدجال وحق على الله أن يلحقهم بالدجال زاد في رواية فلا تجالسوهم ولا تفاتحوهم الكلام
الحديث السابع والعشرون روينا في كتاب الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية
الحديث الثامن والعشرون روينا في سنن أبي داود والترمذي عن النبي أنه قال يكون في هذه الأمة خسف ومسخ وذلك في المكذبين بالقدر رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال وعن يافع أن رجلا أتى ابن عمر فقال إن فلانا يقرأ عليك السلام الرجل من أهل الشام فقال ابن عمر إنه بلغني أنه قد أحدث التكذيب بالقدر فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام فإني سمعت رسول الله يقول يكون في هذه الأمة خسف ومسخ الحديث
الحديث التاسع والعشرون روينا في كتاب الترمذي عن أبي (1/91)
عزة رضي الله عنه أنه قال إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة
قلت ومن هذا نقل أنه جاء بعض الناس إلى سليمان بن داود عليهما السلام وقال له يا نبي الله أريد منك أن تأمر الريح تحملني إلى بلاد الهند فإن لي فيها حاجة في هذه الساعة وألح عليه في ذلك فقال له نعم وأمر الريح أن تحمله فلما خرج من عنده التفت سليمان فرأى ملك الموت عليه السلام قائما عنده ورآه متبسما فسأله عن تبسمه فقال يا نبي الله تعجبت من هذا الرجل فإني أمرت بقبض روحه في أرض الهند في هذه الساعة فبقيت مفكرا كيف يصل إلى بلاد الهند في هذه الساعة فلما سألك أن تأمر الريح تعجبت من ذلك انتهى
وفي هذا المعنى قلت
فمن لم تأته منا المنايا ... إلى أوطانه يوما أتاها
كما قال الذي عزى نفوسا ... وقوى في توكلها قواها
فمن كانت منيته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها
عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه بلغه أنه قيل لإياس ما رأيك في القدر فقال لا يعلم سره إلا الله وكان يضرب به المثل في الفهم
قلت ومما ضرب المثل به قول أبي تمام يمدح بعض الخلفاء قيل هو المأمون وقيل هو المعتصم بشعر من جملته قوله
أقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
شبهه في الشجاعة بعمرو بن معدي كرب وفي الكرم بحاتم طي المشهور وفي الحلم بالسيد الجليل الأحنف بن قيس وفي الذكاء (1/92)
بإياس بن معاوية بن قرة الإمام المشكور فغضب بعض جلساء الممدوح من كبراء دولته من تشبه إياه بعمرو وحاتم في شجاعته وسماحته وتكلم عليه في ذلك مصغرا له لهما جنبه ومنكرا بالتشبيه بأهل الكفر الذي لا يحمد فأطرق أبو تمام مفكرا في ذلك ثم أنشد
لا تعجبوا من ضربي له من دونه مثلا ... شرودا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس
قلت يعني أن الله تعالى قد ضرب النور الأقل مثلا لنوره العظيم الأجل وذلك قوله سبحانه الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح الآية
فزال الغضب وتعجبوا من براعة فطنته واتقاد قريحته غاية العجب وسألوه عن إطراقه وسكوته
فذكر كلاما معناه أنه فكر في شاهد يشهد له من كلام العرب فلم يجده فاستفتح كلام الله فوجد فيه ما طلب
قلت لما لحقته في ذلك الملامة فكر في شاهد يشهد لكلامه بالاستقامة فالتمس ذلك في كلام العرب فلم يحصل له فيه إرب فارتحل بفكره وانتقل إلى كلام الله عز و جل وغاص في بحر جواهر علومه على عجل في غوصه حتى انتهى إلى بحر جواهر النور فاستخرج منه جوهرة الشاهد المذكور
قلت والكلام في هذا وأشباهه يطول ويخرجنا مما نحن له قاصدون
فلهذا اخترت الإضراب عن ذكر شيء من المحاسن والآداب وحلم (1/93)
الأحنف بن قيس المذكور وما ذكر من تعلمه ذلك من قيس بن عاصم المشهور
رجعنا إلى ما كنا بصدده وعن الإمام مالك أيضا أنه سأله رجل عن القدر فقال ألست تؤمن به قال بلى فقال حسبك حدثني علي بن الحسين عن أبيه رضوان الله عليهما أن رسول الله قال من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
وبلغه أيضا أنه قيل للقمان رضوان الله عليه ما بلغ بك إلى ما يرى قال أداء الأمانة وصدق الحديث وتركي ما لا يعنيني
وقال الإمام محيي الدين النووي رضي الله عنه قال الإمام أبو المظفر السمعاني رضي الله عنه سبيل معرفة هذا الباب التوفيق من الكتاب والسنة دون محض القياس ومجرد العقول فمن عدل عن التوفيق فيه ضل وتاه في بحار الحيرة ولم يبلغ شفا النفس ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب لأن القدر سر من أسرار الله تعالى ضربت دونه الأستار واختص الله تعالى به وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة
وواجبنا أن نقف حيث حد لنا ولا نتجاوزه وقد طوى الله تعالى علم القدر عن العالم فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب وقيل إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف قبل دخولها
الحديث الثلاثون روينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة (1/94)
رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنته حب الرمان وقال أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر عزمت عليكم أن لا تتنازعوا فيه
إيضاح وتعقيب
قلت فهذه ثلاثون حديثا في القدر جمعتها من الصحيحين وباقي الكتب الستة التي فضلها أشهر أخرجها كل إمام حافظ نقاد خبير رووها بالأسانيد المتصلة ورواها عنهم الجم الغفير فهي الأمهات كما قدمت لكتب الحديث والأصول والوسيلة التي يحصل بها إلى معرفة السنة الوصول عليها اعتمد العلماء في جميع الأعصار وبها استدل الفقهاء في جميع الأمصار
وقد وقدمت أن سبعة عشر حديثا من الثلاثين المذكورة كلها صحاح روينا بعضها في الصحيحين معا وبعضها في أحدهما مع ما ذكرت من زيادة رواية باقي الكتب الستة الصحاح وذكرت أيضا أن رواتها عشرة من سادات الصحابة رضي الله عنهم وسميتهم وقد زاد معهم في رواته الثالثة عشر ستة منهم
من هم رواة أحاديث القدر من الصحابة
فجميع رواة أحاديث القدر التي ذكرتها في هذا المختصر من الصحابة رضي الله عنهم ستة عشر وجميع رواياتهم فيه مسندة لنا مسموعة وهذه أسماؤهم رضي الله عنهم مجموعة 1 - عمر بن الخطاب 2 - وعلي بن أبي طالب 3 - وسعد بن أبي وقاص 4 - وعبد الله ابن عباس 5 - وعبد الله بن عمر 6 - وعبد الله بن مسعود 7 - وحذيفة بن اليمان 8 - وأبو هريرة 9 - وعمران بن حصين 10 (1/95)
وجابر بن عبد الله 11 - وجابر بن سمرة 12 - وعبادة بن الصامت 13 - وسهل بن سعد14 - وعمرو بن العاص 15 - وأبو عزة 16 - وعائشة بنت أبي بكر
وروى أئمة الحديث في ذلك أحاديث أخرى أيضا عن خلائق من الصحابة غير المذكورين منهم أبو بكر الصديق وعبد الله بن عمر ابن العاص وأنس بن مالك ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو سعيد وأبو الدرداء وخباب بن الأرت وابن حميد الساعدي وعدي ابن حاتم وأبو سريحة الغفاري وذو اللحية الكلاعي وسراقة بن جعشم وأبو خزامة وأسماء بنت أبي بكر
وهؤلاء خمسة عشر الجملة فيحصل في المجموع أحد وثلاثون صحابيا مع غيرهم رضي الله عنهم أجمعين وجعلنا لهديهم متبعين وبدينهم الحق ندين وجمع بيننا وبينهم يوم الدين مع سائر الأحباب والمحبين آمين
قلت فما تقول أيها المعتزلي في مجموع هذه الأخبار التي رواها أئمة الحديث الأعلام الأحبار عن الثقات والسادات والأخيار عن المصطفى المكرم مع كثرتها وكثرة مخرجها وشهرتها وحسنها وصحتها وكثرة طرقها وصريح منطوقها الظاهر في إثبات القدر ووجوب الإيمان به على طريق التواتر أيترك الأخذ بها والإيمان بمقتضاها ويقتصر على محض حكم العقول ونرمي بحكم الشرع وسنة الرسول والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه الذي على سائر الكتب يزهو وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فأي دين يبقى لنا إذا رمينا سنة نبينا ونبذناها وراء ظهورنا وديننا (1/96)
إنما هو متلقى منها إذ مرجوع بيان أحكام الكتاب إليها قال الله العظيم لنبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم
هذا وآيات الكتاب المقدمات وغيرها موافقات للأحاديث المذكورات في إثبات القدر كما مر وكذا إجماع سلف الأمة أهل الاتباع قبل ظهور الابتداع وكذا النظر الصحيح من العقل لا يجيل ما ورد في ذلك من النقل ومن الإجماع المذكور اتفاق السلف فأظنه على قول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
وفي هذا المعنى أنشد الحبر الفاضل بحر الفضائل السيد المعظم والإمام المقدم صاحب المرتبة العلية والمشهود له عند موته بالقطبية محمد بن إدريس الشافعي القرشي المطلبي رضي الله عنه وأرضاه وجعل في علا الجنة مأواه
ما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ... وفي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا أمننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن
فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن
ومنهم فقير ومنهم غني ... وكل بأعماله مرتهن
روى ذلك عنه صاحباه المزني والربيع
وأما ما ذكرنا من اتصافه بالقطبية فذلك ما رواه الشيخ الإمام شهاب الدين بن . . . . عن الشيخ الإمام تاج الدين بن عطاء الله عن الشيخ الإمام العارف بالله أبي العباس المرسي عن الشيخ الإمام العارف بالله شيخ الشيوخ المشهود له بالقطبية أبي الحسن الشاذلي رضي الله (1/97)
عنهم أجمعين مع ما شهد به الخضر عليه السلام قبل ذلك بزمانه أنه من الأوتاد وذلك في قصيدة مشهورة رويناها في رسالة الإمام القشيري المشهورة
قلت وفي قرب الأشياء من الوقوع بسوق القدر وبعدها عنه إذا لم يقدر أحسن القائل الآخر
الجد أنهض بالفتى من عقله ... فانهض بجدك في الحوادث أو ذر
ما أقرب الأشياء حين تسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر
ولما كتب هذا المذكور جمع فيه بين الجد والمقدور خطر لي أن أنشد في ذلك وأقول
أتظن جدك للفوائت لاحقا ... وشريف عزمك للسوابق سابقا
وحميد رأيك للحوادث قائدا ... ثم التمني للأماني سائقا
هيهات كل للمرام مخالف ... لحكم حق لا يزال موافقا
كل أبي ينقاد غير القائد ... مقدور خلاق تبارك خالقا
قلت وهذه الأبيات كالمعارضة للبيت الأول منهما فإنه وإن كان حسنا ولكن على إيجابه الروحاني الأول ثم إيجاب الروحاني ما دونه هل هذا إلا بحكم لا معدول له ثم تكلم معهم في الطبائع واجتماع العناصر واستدل على بطلان مذهبهم المقطوع بكفره بما لا حاجة إلى ذكره إذ كفرهم ظاهر لا يحتاج إلى نظر ثم انتقل إلى الكلام في الاستدلال على بطلان التحسين والتقبيح العقليين وقال في أثناء ذلك وسبيلنا أن نوجز عليهم القول فنقول ما ادعيتم حسنه أو قبحه ضرورة فأنتم فيه منازعون وعن دعواكم مدفوعون وإذا بطل ادعاء الضرورة في الأصول بطل رد النظريات إليها (1/98)
قال وهذه الطريقة على اتخاذها يهدم أصول المعتزلة في التحسين والتقبيح
وإذا تناقصت هذه الأصول وقولهم في الصلاح والثواب والعقاب وغيرها منها فتحسم عليهم أبواب الكلام في التعديل والتجويز
قلت يعني في جميع ما حكموا فيه العقل من التحسين والتقبيح وما بنوا على ذلك من وجوب الصلاح والإصلاح واللطف والتعويض على الآلام على الله تعالى ومنشعب من ذلك مذهب أهل التناسخ
قال فيقال لهم لم ادعيتم العلم الضروري بالحسن والقبح مع علمكم بأن مخالفيكم طبقوا وجه الأرض وأقل شرذمة منهم يربون على عدد التواتر ولا يسوع اختصاص طائفة من العقلاء بضرب من العلوم الضرورية دون بعض مع استواء الجميع في مداركها
قال ومما يوضح الحق في دربهم عن دعوى الضرورة أن الذي ادعوه قبيحا على البديهة قد أطبق مخالفوهم على تجويزه واقعا من أفعال الله تعالى مع القطع بكونه حسنا فإنهم قالوا الرب تعالى أن يؤلم عبدا من عبيده من غير استحقاق ولا تعويض على الألم ومن غير جلب نفع ودفع ضرر موقنين على الألم
ثم كما قطعوا بتجويز ذلك في أحكام الله تعالى قطعوا بأنه لو وقع لكان حسنا وهذا ما لا سبيل إلى دفعه وفيه فرض تحسين في الصورة التي ادعى المعتزلة العلم الضروري بالقبح فيها
قال وربما بالرجوع إلى العادات ويقولون العقلاء يستحسنون الإحسان وإنقاذ الغرقى وتخليص الهلكى ويستقبحون الظلم والعدوان وأن لم يخطر لهم السمع (1/99)
قلت يعني بالسمع حكم الشرع
قال وهذا تدليس وتلبيس فإنا لا ننكر ميل الطباع إلى اللذات ونفورها عن الألم والذي استشهدون من هذا القبيل وإنما كلامنا في ما يحسن من حكم الله تعالى وفيما يقبح فيه
والدليل على ما قلناه أن العادة كما اطردت على زعمهم في استقباح العقلاء واستحسانهم فكذلك استمر دأب أرباب الألباب في تقبيح تخلية العبيد وإلا ما يفخرون بعضهم ببعض على مرأى من السادة ومسمع وهم متمكنون من حجر بعضهم عن بعض فإذا تركوهم سدى والحالة هذه كان ذلك مستقبحا على الطريقة التي مهدوها مع القطع بأن ذلك لا يقبح في حكم الإله سبحانه
قلت يعني أن ذلك واقع ومشاهد من عبيد الله الفاخرين بعضهم ببعض مع علمه تعالى بهم وقدرته على منعهم فوقوعه من أظهر الأدلة القاطعة على عدم قبحه في حكم المولى جل وعلا
وإن كان قبيحا في حكم العباد فلا يقاس الغائب على الشاهد أعني لا يقاس حكم الله على حكم عبيده إذ لا يتصور القبيح في حكمه أصلا لا شرعا ولا عقلا
قال وربما يسوغون لاثبات وجوب شكر المنعم عقلا على صنيعه فيقولون إن العاقل إذا علم أن له ربا جوز في ابتداء نظره أن يريد منه الرب المنعم شكرا أو له شكره لأثابه وأكرم مثواه ولو كفر لعاقبه وأرداه فإذا نظر له الجائزان فالعقل يرشده إلى إثبات ما يؤدي إلى الأمن من العقاب وارتقاب الثواب
وضربوا لذلك مثلا فقالوا من يتصدى له في سفرته مسلكان (1/100)
يؤدي كل واحد إلى مقصده وأحدهما خلي عن المخاوف عري عن المتالف والثاني يشمل على المعاطب واللصوص وضواري السباع ولا غرض له في السبيل المخوف فالعقل يقضي بسلوك السبيل المأمون
قال وهذا الذي ذكروه له ما قالوه فإنه يعارضه خاطر آخر يناقضه
وذلك أن يخطر للعاقل أنه عبد مملوك مخترع مربوب وأن ليس للملوك إلا ما أذن له مالكه ولو أتعب نفسه وانصبها لصارت مكدودة مجهودة من غير إذن ربها وقد يعتقد هذا الخاطر عنده بأن الرب غني عن شكر الشاكرين متعال عن الاحتياج وأن تعالى كما يسدي النعم قبل استحقاقها لا يبتغي بدلا عليها فإذا عارض هذا الخاطر ما ذكروه قضى العقل بتوقف من خطر له الخاطران
قال ومما يؤكد ما قلناه أن الملك العظيم إذا منح عبدا من عبيده كسرة من رغيف ثم أراد ذلك العبد أن يدور في المشارق والمغارب ويثني على الملك بما حباه ويشكر عطاءه وينص على إنعامه فلا يعد ذلك مستحسنا
فإن ما صدر من الملك بالإضافة إلى قدره نزير مستحقر تافه مستصغر وجملة النعم بالإضافة إلى قدر الله تعالى أقل وأحقر من كسيرة رغيف بالإضافة إلى ملك ملك
قال فإن أردنا أن ينقض عليهم ما ذكروه من وجه آخر فرضنا الكلام فيمن لم يخطر له المنعم أو لا فنقول هذا قولكم فيمن خطرت له الفكر وعنت له العبر فما قولكم في العاقل الذاهل الذي لم يخطر بباله شيء فهذا قد فقد الطريق إلى العلم بالوجوب والشكر حتم عليه
قال وهذا عظيم موقعه على الخصوم فإن قالوا لا بد أن يخطر الله تعالى ببال العاقل في أول كمال عقله ما ذكرناه فهذا تلاعب بالدين
فكم من عاقل متماد في غوايته مستمر على غرته لم يخطر له قط ما ذكروه
ثم هذه الخواطر في ابتداء النظر شكوك والشك (1/101)
في الله تعالى كفر والرب تعالى لا يخلق الكفر على أصولهم
فإن قالوا يبعث الله تعالى إلى كل عاقل ملكا يختم على قلبه ويقول في نفسه قولا يسمعه فهذا بهت عظيم وإثبات كلام لم يسمعه ذو عقل وفيه نقض أصلهم في استبعاد الكلام سوى الحروف والأصوات
القول في الهدى والضلال والختم والطبع
وقال أيضا في الهدى والضلال والختم والطبع اعلم وفقك الله لمرضاته أن كتاب الله العزيز اشتمل على آي من القرآن دالة على تفرد الرب تبارك وتعالى بهداية الخلق وإضلالهم والطبع على قلوب الكفرة منهم
هي نصوص من إبطال مذاهب مخالفي أهل الحق
ونحن نذكر عن ميامن آيات الهدى والضلال ثم نتبعها بالآي المحتوية على ذكر الختم والطبع فمما يعظم موقعه عليهم قوله تعالى والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وقوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وقوله تعالى من يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون
واعلم أن الهدى في هذه الآي لا يتجه حمله إلا على خلق الإيمان وكذلك لا يتجه حمل الضلال على غير خلق الضلال ولسنا ننكر ورود الهداية في كتاب الله على غير هذا المعنى الذي ذكرنا فقد ترد والمراد بها الدعوة (1/102)
قال الله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم معناه وإنك لتدعو وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها يوم القيامة
قال الله تعالى فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم فذكر تعالى المجاهدين في سبيله وعنى بهم المهاجرين والأنصار ثم قال سيهديهم فتعين حمل الهداية على ما ذكرناه
وقال تعالى فاهدوهم إلى صراط الجحيم معناه اسلكوا بهم إليها والمعنى بقوله تعالى فأما ثمود فهديناهم الدعوة
ومعنى الآية إنا دعوناهم فاستحبوا العمى على ما دعوا إليه من الهدى
قال وإنما أشرنا إلى انقسام معنى الهدى والضلال ليحيطوا علما بأنا لا ننكر ورود الهدى والضلال على غير معنى الخلق ولكنا خصصنا استدلالنا بالآي التي صدرنا الفصل بها ولا سبيل إلى حمله على الدعوة
فإنه تعالى فصل بين الدعوة والهداية فقال والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء فخصص الهداية وعمم الدعوة
وهذا مقتضى ما استدللنا به من الآيات ولا وجه بحملها على الإرشاد إلى طريق الجنان
فإنه تعالى علق الهداية على مشيئته واختياره وكل من يستوجب الجنان فحتم على الله عند المعتزلة أن يدخله الجنة
وقوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح يصدره للإسلام مصرح بأحكام الدنيا وشرح الصدر وحرجه وذكر (1/103)
الإسلام من أصدق الآيات على ما قلنا وإن استشهد المعتزلة في روم حمل الهداية على الدعوة أو غيرها مما يطابق معتقدهم بالآيات التي يتلونها فالوجه أن تقول لا بعد في حمل ما استشهدتم به على ما ذكرتموه وإنما استدللنا بالآيات المفصلة المخصصة للهدى بقوم والضلال بآخرين مع التنصيص على ذكر الإسلام وشرح الصدر له
ولا مجال لتأويلاتهم المزخرفة في النصوص التي استدللنا بها
قال وأما آيات الطبع والختم فمنها قوله تعالى ختم الله على قلوبهم وقوله تعالى بل طبع الله عليها بكفرهم وقوله تعالى وجعلنا قلوبهم قاسية
قال وقد حارت المعتزلة في هذه الآيات واضطربت لها آراؤهم فذهبت طائفة من البصريين إلى تسمية الرب تعالى الكفرة بنبذ الكفر والضلال قالوا فهذا معنى الطبع
قال ولا خفاء بسقوط هذا الكلام فإن الرب تعالى تمدح بهذه الآيات وإثباتها عن اقتهاره واقتداره على ضمائر العبد وإسراره وبين أن القلوب بحكمه يقلبها كيف شاء وصرح بذلك في قوله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم
فكيف يستجاز حمل هذه الآيات على تسمية وتلقيب وكيف يسوغ ذلك اللبيب والواحد منا لا يعجز عن التسميات والتلقيبات فما وجه استيثار الرب بسلطانه قال وجهل الجبائي وابنه هذه الآيات على محمل بشع مؤذن (1/104)
بقلة إكرامهما بالدين وذلك أنهما قالا من كفر وسم الله قلبه بسمة يعلمها الملائكة فإذا ختموا على القلوب تميزت لهم قلوب الكفار من أفئدة فهذا معنى الختم عندهما وما ذكراه مخالفة لنص الكتاب وفحوى الخطاب
فإن الآيات نصوص في أن الله تعالى يصرف بالطبع والختم عن سبيل الرشاد من أراد صرفه من العباد فإنه تعالى قال وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه فاقتضت الآية كون الأكنة مانعة من إدراك الحق
والسمة التي اخترعوا القول بها لا يمنع من الإدراك وإلى متى نتعدى غرضنا في الاختصار وقد وضح الحق وحصحص واستبان عناد المخالفين من تأويلاتهم والله الموفق للصواب
ثم قال في الاستطاعة وحكمها العبد قادر على كسبه وقدرته بانية عليه
وذهبت الجبرية إلى نفي القدرة وزعموا أن ما يسمى كسبا للعبد أو فعلا له فهو على سبيل التجوز والتوسع في الإطلاق والحركات الإرادية بمثابة الرعدة والرعشة
قال الدليل على إثبات القدرة أن العبد إذا ارتعدت يده ثم حركها قصدا فإنه يفرق بين حالتيه في الحركة الضرورية والحركة التي اختارها واكتسبها
والتفرقة بين حالتي الاضطرار والاختيار معلومة على الضرورة ويستحيل رجوعها إلى اختلاف الحركتين
فإن الضرورة مماثلة الاختيارية قطعا ولكل واحدة من الحركتين ذهاب من جهة واحدة وانتقال إليها
ولا وجه في ادعاء افتراقها بصفة مجهولة يدعى فإن ذلك يحسم طريق العمل متماثل كل مثلين فإذا لم ترجع التفرقة إلى الحركتين تعين صرفها إلى صفة المتحرك وليس ذلك إلا القدرة
ثم نسلك بعد ذلك سبيل السبر والتقسيم في إثبات القدرة
فنقول يستحيل رجوع التفرقة إلى نفس القائل من غير مزيد فإن (1/105)
الأمر لو كان كذلك لاستمرت صفة النفس ما دامت النفس
فإذا رجعت التفرقة إلى زائد على النفس لم يخل ذلك الزائد من أن يكون حالا أو عرضا
وباطل أن يكون حالا فإن الحال المجردة لا تطرأ على الجوهر بل تتبع موجودا طارئا
وإن كان ذلك الزائد عرضا فتعين كونه قدرة فإنه ما من صفة من صفات المكتسب عند القدرة إلا ويتصور ثبوتها مع الاقتدار وينتفي معظم الصفات المغايرة للقدرة مع ثبوت القدرة
والقدرة الحادثة عرض من الأعراض وهي غير باقية
وهذا حكم جميع الأعراض عندنا وأطبقت المعتزلة على بقاء القدرة
الدليل على استحالة بقاء جميع الأعراض
والدليل على استحالة بقاء جميع الأعراض أنها لو بقيت لاستحال عدمها
ما يفرضه هذا الدليل في القدرية
قال ويفرض هذا الدليل في القدرة ثم سنبين اطراده فيما عداه
فنقول لو بقيت القدرة ثم قدر عدمها لم يخل القول في ذلك إما أن يقدر انتفاؤها بضد وهو مذهب المخالفين وإما أن يقدر انتفاؤها بانتفاء شرط لها وباطل تقدير عدمها بطريان ضد فإنه ليس الضد الطارئ بنفي القدرة أولى من رد القدرة الضد ومنعها إياه من الطريان
ثم إذا تعاقب الضدان فالثاني يوجد في حال عدم الأول
فإذا تحقق عدمه فلا حاجة إلى الضد وقد يصرم ما قبله
وباطل أن يقال تنتفي القدرة بانتفاء شرطها فإن شرطها لا يخلو إما أن يكون عرضا وإما أن يكون جوهرا
فإن كان عرضا فالكلام في بقائه وانتفائه كالكلام في القدرة (1/106)
وإن كان جوهرا فلا يتصور مع القول ببقاء الأعراض انتفاء الجواهر فإن سبيل انتفاءها قطع الأعراض عنها
فإذا قضى بقاء الأعراض لم يتصور عدمها فإذا امتنع تقدير عدمها امتنع عدم الجوهر وبطل المصير إلى أن القدرة تعدم بإعدام الله تعالى إياها فإن الإعدام هو العدم والعدم نفي محض ويستحيل أن يكون المقدور نفيا إذ لا فرق بين أن يقال لا مقدور للقدرة وبين أن يقال مقدورها منتف
علاقة القدرة بالحدوث
قال وإذا ثبت استحالة بقاء القدرة الحادثة فإنها يقارب حدوث مقدوراتها ولا يتقدم عليه
ولو قدرنا سبق الاعتقاد إلى بقاء القدرة لما استحال تقدمها على وقوع مقدوراتها ولذلك يجب القطع بعدم القدرة الأزلية على وقوع المقدورات
ولما ثبت أن القدرة الحادثة لا تبقى ترتب على ذلك استحالة تقدمها على المقدور فإنها لو تقدمت عليه لوقع المقدور مع انتفاء القدرة وذلك مستحيل
والحادث في حال حدوثه مقدور بالقدرة القديمة وإن كان متعلقا للقدرة الحادثة فهو مقدور بها وإذا بقي مقدور من مقدورات الباري تعالى وهو الجوهر إذ لا يبقى غيره من الحوادث فلا يتصف في حال بقائه واستمرار وجوده بكونه مقدورا إجماعا
وذهبت المعتزلة إلى أن الحادث في حال حدوثه يستحيل أن يكون مقدورا للقديم والمحدث وهو بمثابة الباقي المستمر وإنما يتعلق القدرة بالمقدور في حال عدمه وقالوا على طرد ذلك يجب تقدم الاستطاعة على المقدور ويجوز مقارنة ذات القدرة ذات المقدور من غير أن يكون متعلقة به حالة وقوعه (1/107)
فال والدليل على أن الحادث مقدور وأن الاستطاعة تقارن الفعل أن نقول القدرة من الصفات المتعلقة ويستحيل تقديرها دون متعلق لها
فإذا فرضنا قدرة متقدمة وفرضنا مقدورا بعدها في حالتين متعاقبتين ولا يتقرر على أصول المعتزلة تعلق القدرة بالمقدور فإنا إن نظرنا إلى الحالة الأولى فلا يتصور فيها وقوع وإن نظرنا إلى الحالة الثانية فلا تعلق للمقدور فيها
فإذا لم يتحقق في الحالة الأولى إمكان ولم يتقرر في الثانية اقتدار فلا يبقى لتعلق القدرة معنى ويعضد ذلك بوجهين
أحدهما إن المقدور لا يخلو إما أن يكون عدما وإما أن يكون موجودا
ويستحيل كونه عدما فإنه نفي محض والوجود عند المخالفين غير مقدور
والوجه الثاني أنهم إنما زعموا أن الحادث بمثابة الباقي في استحالة كونه مقدورا ثم لا إمكان في الحالة الأولى من وجود القدرة
والحالة المتوقعة بعدها ليست حالة تعلق القدرة فإن شاع ذلك فليكن الثاني مقدورا في الحالة الأولى من القدرة ولا مخلص عن ذلك
وقال أيضا في الرد على القائلين بالتولد القدرة الحادثة لا تتعلق إلا بقائم بمحلها
وما يقع مناسبا لمحل القدرة فلا يكون مقدورا بها بل يقع فعلا للباري سبحانه وتعالى من غير اقتدار للعبد عليه
فإذا اندفع الحجر عند اعتماد معتمد عليه فاندفاعه غير مقدور للعبد عند أهل الحق
وذهبت المعتزلة إلى أن ما يقع مناسبا لمحل القدرة يجوز وقوعه متولدا عن سبب مقدور مباشر بالقدرة
ثم المتولد عندهم فعل لفاعل السبب وهو مقدور بتوسط السبب
ومن المتولدات ما يقوم عندهم بمحل القدرة كالعلم النظري المتولد (1/108)
عن النظر القائم بمحل القدرة في خبط وتفصيل طويل واختلاف فيما تولد وفيما يتولد
قال وليس من غرضنا التعرض لتفاصيل مذهبهم
والدليل على ما صار إليه أهل الحق أن الذي وصفوه بكونه متولدا لا يخلو من أن يكون مقدورا أو غير مقدور فإن كان مقدورا كان باطلا من وجهين
أحدهما أن السبب على أصلهم موجب للمسبب عند تقدير ارتفاع الموانع
فإذا كان المسبب واجبا عند وجود السبب أو بعده فينبغي أن يستقل بوجوبه ويستغني عن مآثر القدرة فيه
ولو تخيلنا اعتقاد مذهب التولد وخطر وجود السبب وارتفاع الموانع واعتقدنا مع ذلك انتفاء القدرة أصلا فيوجد المسبب بوجود السبب جريا على ما قدرناه من الاعتقادات
والوجه الثاني أن المسبب لو كان مقدورا لتصور وقوعه دون تصور السبب
والدليل عليه أنه لم وقع مقدورا للباري تعالى إذا لم ينسب العبد إليه فإنه يقع مقدورا له تعالى من غير افتقار إلى توسط سبب
وقال الإمام فخر الدين الرازي احتج أصحابنا أنه لو صح القول بالتولد للزم وقوع الأثر الواحد بمؤثرين مستقلين بالتأثير وهذا محال
فالقول بالتولد محال بيان الملازمة أنه إذا التصق جوهر فرد بكف رجلين ثم أن أحدهما جذب الكف في حال ما دفع الآخر أيضا كفه
فلو صح القول بالتولد كان الجذب مولدا للحركة في ذلك الجوهر الفرد كما أن الدفع مولد للحركة فيه
فإما أن يتولد من كل واحد منهما حركة على حدة أو يتولد منهما معا حركة واحدة والأول باطل لأنه يقتضي حصول الجسم الواحد في الآن الواحد في الحيز الواحد مرتين وهذا غير معقول وأيضا فعلى هذا التقدير تكون الحركتان (1/109)
متماثلتين فليس إسناد أحدهما إلى الجذب والثانية إلى الدفع أولى من العكس
فلزم استناد كل واحدة منهما إلى الجذب والدفع فيعود الأمر إلى وقوع الأثر الواحد بمؤثرين مستقلين
ولما بطل هذا القسم ثبت أنه حصل في ذلك الجوهر الفرد حركة واحدة وتلك الحركة الواحدة حصلت بعد الجذب وبعد الدفع
ثم كل واحدة من هاتين العلتين مستقلة باقتضاء هذا الأثر مع القول بالتولد فيلزم حصول الأثر الواحد لمؤثرين مستقلين وذلك لأن ذلك الأثر يستغني بهذا عن ذاك وبذاك عن هذا فلما اجتمعا عليه لزم أن يستغني كل واحد منهما عن كل واحد منهما وهو محال
واستدلال المعتزلة على القول بالتولد إنما هو لحسن المدح والذم والثواب والعقاب
والجواب عنه في مسألة خلق الأفعال وبالله التوفيق
وقال إمام الحرمين أيضا في إرادة الكائنات مذهبنا أن كل حادث مراد الله تعالى حدوثه ولا يختص تعلق مشيئة الباري تعالى بصنف من الحوادث دون صنف بل هو تعالى مريد لوقوع جميع الحوادث خيرها وشرها نفعها وضرها
قال ثم من أئمتنا من أطلق ذلك عاما ولم يطلقه تفصيلا
فإذا سئل عن كون الكفر مراد الله تعالى لم يخصص في الجواب ذكر ما تتعلق الإرادة به وإن كان يعتقده ولكنه يجتنب إطلاقه لما فيه من إيهام الزلل إذ قد يتوهم كثير من الناس أن ما يريده الله يأمر به ويحرص عليه ولفظ يطلق عاما ولا يفصل
فإنك تقول العالم بما فيه لله تعالى ولو فرض سؤال في ولد أو زوجة لم يقل الولد والزوجة لله تعالى
قال ومن حقق من أئمتنا أضاف تعلق الإرادة إلى كل حادث معمما ومخصصا مجملا ومفصلا واستدل على صحة مذهب أهل (1/110)
الحق وبطلان مذهب المعتزلة من وافقهم على نفس القدر بما لا يحتمل إيراده هذا المختصر
ثم قال ومما يقوي التمسك به إجماع السلف الصالحين قبل ظهور الأهواء واضطراب الآراء على كلمة غير معدودة من المجملات وهي قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وتكلم على ذلك
ما تمسك به أئمة أهل السنة
ثم قال ومما تمسك به أئمتنا أيضا أن قالوا الأفعال المحكمة دالة على علم من يخترعها فإنما يتقرر ذلك على مذهب أهل الحق الصابرين إلى أن مخترع الأفعال الرب تعالى وهو عالم بحقائقها
ومن ذهب إلى أن العبد مخترع أفعاله وهو غير عالم بها فقد اخرج الأحكام عن كونه دالا على علم المخترع وذلك نقض الأدلة العقلية
قلت وقد قدمت قول صاحبه الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رضي الله عنه في هذا وذكره ما يصدر من النحل والعنكبوت وسائر الحيوانات من لطيف الصناعات ما تتحير فيه عقول ذوي الألباب فكيف انفردت هي باختراعها دون رب الأرباب قال إمام الحرمين ومما يطيش عقولهم اتفاق العلماء قاطبة على أن المديون القادر على براءة ذمته إذ قال والله لأقضين حق غريمي غدا إن شاء الله عز و جل
فإذا تصرم الأمد المضروب والأجل المرقوب فلا يحنث الحالف لاستثنائه مشيئة الله تعالى
وينزل ذلك منزلة ما لو قال لأقضين حق غريمي غدا إن شاء زيد ثم شاء زيد ولم يقضه فيحنث لا محالة
قال ومما يقوي إلزامهم أن يقول الرب تعالى عندكم مريد إيمان الكافرين وذلك واجب في حكمه فبينوا معاشر المعتزلة ما نسألكم (1/111)
عنه وأوضحوا الوقت الذي تقدم الإرادة فيه والارادة حادثة عندكم فلا يكادون يضبطون في ذلك وقتا موقوتا ولا يلقون لأنفسهم بيوتا
ثم ذكر أن المعتزلة استدلوا بظواهر من كتاب الله تعالى لم يحيطوا بفحواها ولم يدركوا معناها منها قوله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر
قال وفي الجواب عن هذه الآية مسلكان أحدهما الجري على موجبها والتمسك بمذهب من فصل بين الرضى والإرادة والوجه الثاني حمل العباد على الموفقين للإيمان الملهمين بالإتقان وهو المشرفون بالإضافة إلى الله ذكرا وهذه الآية تجري مجرى قوله تعالى عينا يشرب بها عباد الله وليس المراد جميع العباد بل المراد المصطفون
قلت ويؤيد الأول ما سيأتي ذكره عن زين العابدين ويؤيد ما سيأتي عن ابن عباس في تفسير هذه الاية أنهم المخلصون
وفي رواية أخرى عنه أي لا أرضى لأوليائي وأهل طاعتي هذه رواية عطاء والأولى رواية الوالي
وقال السدي لا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا
قال الإمام أبو الحسن الواحدي وهذا طريق من قال بالتخصيص في هذه الآية ومن أخذ أنها على العموم
قال الكفر غير مرضي لله من الكافر وإن كان بإرادته ومعناه وعلى هذا لا يمدحه ولا يثني عليه
وقال بعض أئمتنا أي لا يثيبه قال بعضهم أي لا يحبه (1/112)
قال إمام الحرمين ومما يستروحون إليه قوله تعال لو شاء الله ما أشركنا الآية
قالوا والدليل منها أن الرب سبحانه تعالى أخبر عنهم وبين أنهم قالوا لو شاء الله ما أشركنا ثم وبخهم ورد مقالهم ولو كانوا ناطقين بحق مفصحين بصدق لما قرعوا
قلنا إنما استوجبوا التوبيخ لأنهم كانوا يستهزءون بالدين ويبغون رد دعوة الأنبياء
وكان قد قرع مسامعهم من شرائع الرسل تفويض الأمر إلى الله
فلما طولبوا بالإسلام والتزام الأحكام تعللوا بما احتجوا به على النبيين قالوا لو شاء الله ما يشبه اما لم يكن من غرضهم ذكر ما ينطوي على عقيدتهم والدليل على ذلك قوله تعالى في سياق الآية قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن قال وكيف لا يكون الأمر كذلك والإيمان بصفات الله فرع الإيمان لله تعالى والمقرعون بالآية كفرة بالله تعالى
قلت وهذا الذي قاله ظاهر وها أنا أضرب له مثلا آخر أظهر وأخصر وهو أن ذلك كمثل فاجر نهي عن فجوره فقال هذا علي مقدور مع أنه صادق في قوله هذا
ولكنه تعلل بالقدر مع مخالفته ظاهر الشرع فيوجه عليه الملام والتقريع والردع وأرى مع هذا أن يعارضوه بقوله تعالى ولو شاء الله ما أشركوا (1/113)
فهذه الآية مما يحقق ما تقدم من تأويل الآية التي احتجوا بها وصحة معتقدنا والحمد لله
ولا وجه للاستدلال بالآية التي ذكروا مع وجود هذه الآية فإن الحق سبحانه وتعالى يقول ولو شاء الله ما أشركوا بالقول الصريح المفصل الذي ليس للتأويل فيه مدخل
رجعنا إلى كلام إمام الحرمين رضي الله عنه قال ومما يستدلون به العوام الاستدلال بقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وهي عامة في صفتها متعرضة لقبول التخصيص عند القائلين بالعموم مجملة عند منكر العموم
ولا يسوغ الاستدلال في القطعة بما يتعرض للاحتمال أو يتعدى للإجمال ومذهب المعتزلة أن العموم إذا دخله التخصيص صار مجملا في بقية المسميات ولا خلاف أن الصبيان والمجانين مستثنون
وذلك موجب الآية تخصيصا وأصل العبادة التذلل والطريق المعبدة هي المذللة بالدوس
قال فالمراد بالآية وما خلقهم إلا ليذلوا ثم من منع فقد أبدى تذلله ومن عبد فشواهد الفطرة واضحة على تذلله وإن تعرض وافترى
قال والحمل على ذلك أمثل من الحمل على تناقض فإن الرب تعالى علم أن معظم الخليقة سيكفرون فيكون التقدير وما خلقت من علمت أنه يكفر إلا ليؤمن وهذا لا وجه له
قلت وهذا ظاهر لأنه يصير التقدير وما خلقت من علمت أنه لا يؤمن إلا ليؤمن إذ قد علم سبحانه أن الكافرين لا يؤمنون (1/114)
ما عرضت له هذه الآية
وأرى خمسة أشياء قد عرضت لهذه الآية مانعة من عموم الاستدلال بها بعضها ما ذكره إمام الحرمين في كلامه هذا الأول منها أن المفسرين اختلفوا في معنى قوله تعالى يعبدون
الثاني أن الآية مجملة عند بعض العلماء
الثالث أنه دخلها التخصيص باستثناء المذكورين
الرابع أن أصل العبادة التذلل كما ذكر وعمومها على هذا الوجه ممكن لقوله تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده وقوله المولود يولد على الفطرة الخامس ما يئول إليه ما ذكروه في العموم من التناقض المذكور
قلت ومع هذه كلها ينبغي أن يعارضوا بقوله عز و جل ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس الآية
ووجه الاستدلال بها أن المخلوقين لجهنم ليسوا مخلوقين للعبادة لأن المخلوقين للعبادة هم الذين سبقت لهم الحسنى بالسعادة وقد قال الله تعالى فيهم أولئك عنها مبعدون
قال ومما يستدلون به قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك (1/115)
قلنا في الآية المتقدمة على هذه دلالة قاطعة على بطلان مذهبكم يعني قوله عز و جل قل كل من عند الله وتكلم على ذلك
ثم قال في آخر كلامه على أن المعتزلة لا يقولون بظاهر الآية يعني الآية التي احتجوا بها إذ الخير والشر من أفعال العباد واقعان بقدرة العباد خارجان عن مقدور الله تعالى فيهما جميعا بالعبد عندهم انتهى كلامه
قلت جميع ما ذكرت عن إمام الحرمين المشهور بجودة النظر والانتقاد اختصرته وجمعته من مواضع متفرقة من كتابه الإرشاد وقد كنت قدمت شيئا من المعقول على ما استشهدت به من المنقول أردفناه بكلام إمام الحرمين المذكور المرتضى
وها أنا أورد شيئا من الأدلة العقلية أيضا واقتصر منها على أربعة أشياء محصورة التعداد العلم والقدرة والإرادة وخلق أفعال العباد فأقول هل علم الحق سبحانه كفر الكافر قبل خلقه أم لا أنصفني وإلا اعتزل مسائلي أيها المعتزلي
فإن قلت لم يعلم ذلك فقد هديته إلى الجهل تعالى الله عن ذلك وكذبت فيما صدق أصدق القائلين ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وقوله عز و جل لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر وقوله الكريم وهو بكل شيء عليم وغير ذلك من الآيات والذكر الحكيم التي تكذيبها كفر بالله العظيم
وإن قلت علمه قلت فهل قدر على منعه منه أم لا فإن قلت (1/116)
لم يقدر فقد نسبته إلى العجز تعالى الله عن ذلك ومثلك في ذلك مثل من هرب من الرشاش فوقع تحت الوابل بل غرق في بحر ليس له ساحل أعني أنك هربت مما توهمت أنه يكون ظلما في حقه تعالى ووقعت فيما هو أعظم وهو نسبته إليه من الجهل والعجز تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
وإن قلت قدر على منعه من ذلك ولم يمنعه فقد نسبت الرب القدير الحكيم الخبير سبحانه إلى الرضى بالقبيح الذي زعمت أنه لا ينسب إلى الله تعالى
إذا يصير مقدرا عليه مع القدرة على المنع منه وعلى أن لا يكون شيء من القبيح في مملكته ونقضت أصلك وهدمت مذهبك بل نقضت ذلك وهدمته بما هو أعظم وأوضح وأجلى مما ليس لك عنه محيد ولا محيض أصلا وهو قولك بوجوب الأصلح على الله عز وعلا وتقدس على ذلك تعالى
فبالله عليك هل الأصلح عدم الالتحاد للكفار أم التحادهم مع تخليدهم في النار أم موتهم فيها أم بقاؤهم على تعاقب الدهور في العذاب الشديد والويل والثبور وحرمان القصور وسائر اللذات والسرور في دار الكرامة والنعيم المقيم مع رضوان الله وجوار المولى الكريم والتعوض عن ذلك بسخط الجبار وعذابه الأليم
نسأل الله الكريم العفو والعافية من ذلك ومن جميع البلايا والمهالك لنا ولأحبابنا المسلمين آمين
وإلى نفي الوجوب على الله أشرت في بعض القصائد بقولي
وما من واجب بل زاغ حمق ... وضلوا باعتزال عن صواب
عليه أوجبوا أشيا ولم يبق ... إلا أن يقوموا للعقاب
وما للعقل حكم بل لشرع علا ... في منصب على انتصاب
ففي سبحان لا تعذيب إلا ... ببعث الرسل في نص الكتاب
ثم أقول بعد هذا وإذا اعترفت بالحق من أنه سبحانه علم كفر الكافر قبل خلقه قلت لك هل أراد صدور الكفر منه أم لم يرده (1/117)
فإن قلت أراده فقد حصل المراد ووافقتنا وذلك هو المراد ويمكن إن نقضت أصلك ولزم كون مذهبك غير صحيح بتجويزك وإرادة ما زعمت من القبيح وأقول إن لم يرد ذلك بل أراد منه الإيمان فقضيت بوجود ما لم يرد وعدم ما أراد
فصار على حكمك هنا ما شاء الله لم يكن وما لم يشاء كان عكس ما أجمع عليه السلف الصالح وصار الملك القهار على هذا مقهورا
وحينئذ يكون الواقع على وفق إرادة عدو الله إبليس أكثر من الواقع على وفق إرادته تعالى إذ المعاصي أغلب من الطاعات لقوله تعالى إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وقوله عز و جل ولا تجد أكثرهم شاكرين
قلت وعلى هذا قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد رضي الله عنه في قوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس يقول خلقنا
وفي قوله تعالى ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم يقول فريقين فريقا يرحم فلا يخلف وفريقا لا يرحم فيخلف وذلك قوله فمنهم شقي وسعيد
وفي قوله تعالى إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة قال وهم الكفار الذين خلقهم الله للنار وخلق النار (1/118)
لهم فزالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة قال الله تعالى خسر الدنيا والآخرة
وفي قوله تعالى كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة
قال إن الله تعالى بدأ خلق بني آدم مؤمنا وكافرا كما قال تعالى هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقا مؤمنا وكافرا
وفي قوله تعالى واجعلنا للمتقين إماما يقول أئمة تهتدي بنا ولا تجعلنا أئمة ضلالا لأنه قال لأهل السعادة وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وقال لأهل الشقاوة جعلناهم أئمة يدعون إلى النار
وفي قوله تعالى يحول بين المرء وقلبه يقول يحول بين المؤمن وبين الكفر ويحول بين الكافر وبين الإيمان
وفي قوله تعالى قال رب بما أغويتني أي أضللتني (1/119)
وفي قوله تعالى فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم يقول لا تصلون أنتم ولا أصل منكم إلا من قضيت له أنه صال الجحيم
وفي قوله تعالى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا
وفي قوله تعالى أغفلنا قلبه عن ذكرنا وقوله تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ونحو هذا من القرآن
قال إن رسول الله كان يحرص على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من يسبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول
ثم قال الله لنبيه لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية
وفي قوله تعالى أمرنا مترفيها يقول سلطنا شرارها فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب
وهو قوله تعالى وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وفي رواية أخرى عنه أكبرنا فساقها
وفي قوله تعالى أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه قال (1/120)
قد دعا الله تعالى إلى التوبة ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه قال تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا
وفي قوله تعالى قل كل من عند الله يقول الحسنة والسيئة من عند الله أما الحسنة فأنعم الله بها عليك وأما السيئة فابتلاء الله بها
وفي قوله تعالى إن تكفروا فإن الله غني عنكم يعني الكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم فيقولوا لا إله إلا الله
ثم قال ولا يرضى لعباده الكفر وهم عباده المخلصون الذين قال تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
فأكرمهم بشهادة أن لا إله إلا الله وحسبها إليهم
وفي قوله تعالى وأما ثمود فهديناهم يقول بينا لهم
وفي قوله تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه يقول أمر
وفي قوله تعالى وأضله الله على علم يقول أضله في سابق علمه (1/121)
وفي قوله تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة يقول نبتليكم بالشدة والرخا والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطاعة والمعصية والهدى والضلالة
وفي قوله تعالى ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا يقول من يرد الله ضلالته لم يغن عنه شيئا
كل هذا المذكور رواه الإمام البيهقي بسنده كما ذكرنا
وروى الإمام الحاكم أبو عبد الله من حديث عطاء بن السائب عن مقسم عنه قال أول ما خلق الله تعالى القلم خلقه من هجاء قبل اللف واللام فتصور قلما ممن نور فقيل له أجر في اللوح قال يا رب بماذا قال لما يكون إلى يوم القيامة فلما خلق الله الخلق وكل لهم حفظة يحفظون عليهم أعمالهم فإذا قامت القيامة وعرضت عليهم أعمالهم وقيل هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون عرض بالكتابين فكانا سواء
قال ابن عباس ألستم عربا هل يكون النسخة إلا من كتاب
رواه الحاكم عنه كما ذكرنا وقال صحيح وعن طاوس قال كنت عند ابن عباس ومعنا رجل من القدرية فقلت إن ناسا يقولون لا قدر قال أوفي القوم أحد منهم قلت لو كان ما كنت تصنع به قال لو كان فيهم أحد منهم لجذبت برأسه ثم قرأت عليه أنه (1/122)
كذا وكذا وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين الآية
رواه الحاكم من حديث الأعمش عن عبد الله بن ميسرة عن طاوس وقال على شرط البخاري ومسلم ورواه البيهقي أيضا بسنده الصحيح قال طاوس فتمنيت أن كل قدري كان عندنا
ومن حديث عكرمة عنه قال كان الهدهد يدل سليمان على الماء فقلت وكيف ذلك قال ينصب له الفخ يلقي عليه التراب
فقال إذا جاء القضا ذهب البصر
قلت وفي نحو هذا مثل يذكر إذا نزل القدر عمي البصر ولم ينفع الحذر
وفي حديث سعيد بن جبير عنه إن القدر إذا جاء حال دون البصر قال الحاكم على شرطهما
وروى البهيقي أيضا كل هذه المذكورات وغيرها مما يطول ذكره وجميع هذا المذكور عن ابن عباس من روايات الأئمة المذكورين هو من تفسيره
وأما ما رواه عن رسول الله فقد قدمت عنه ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من قوله في أولاد المشركين لما سئل عنهم الله أعلم إذ خلقهم بما كانوا عاملين
وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن ابن كعب قال قال رسول الله الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأزهى أبويه طغيانا وكفرا ومما روى ابن عباس (1/123)
أيضا خطبة النبي لضماد من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له وروي أيضا حديث واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتب الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف الحديث رواه الترمذي وصححه ومن رواية غير الترمذي واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وأما أصابك لم يكن ليخطئك
وما رواه البيهقي بسنده إلى ابن الجوزاء عنه عن النبي عن جبريل عليه السلام عن الله تبارك وتعالى قال يقول الله عز و جل يا ابن آدم أنا خلقت الخير والشر فطوبى لعبد قدرت على يديه الخير وويل لعبد قدرت الشر على يديه
وروى الطبري بسنده إلى عطاء بن أبي رباح قال كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال أرأيت من مدني عن الهدى وأوردني دار الضلال والردى لا تراه قد ظلمني قال إن كان الهدى شمالك عنده فقد ظلمك وإن كان الهدى هو له يؤتيه من يشاء فلم يظلمك ولا تجالسني
وروى الطبري بسنده الصحيح إلى ميمون بن مهران قال قال لي ابن عباس رضي الله عنهما احفظ عني ثلاثا إياك والنظر في البحور فإنها تدعو إلى الكهانة وإياك والقدر فإنه يدعو إلى الزندقة وإياك وشتم أحد من أصحاب رسول الله فكبك الله في النار على وجهك
وغير ذلك مما روي عنه حذفته إيثارا للاختصار والاكتفاء لما فيه كفاية لأهل الاعتبار
ومنهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قد يقدم قوله في الحديث الصحيح إذا لقيت أولئك فأخبرهم إلى أني بريء منهم وأنهم برءاء مني والذي كلف به عبد الله بن عمر (1/124)
لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر الحديث
وفيه قوله ويؤمن بالقدر خيره وشره
وروى الطبري بسنده إلى نافع أن ابن عمر قال له رجل أن قوما يتكلمون في القدر فقال أولئك يصيرون إلى أن يكونوا مجوس هذه الأمة فمن زعم أن مع الله تعالى قاضيا أو قادرا أو رازقا أو قال أو مالكا لنفسه ضرا ونفعا أو حياة أو نشورا لعنه الله وأخرس لسانه وأعمى بصره وجعل حياته وقيامه هباء وقطع له الأسباب وكبه على وجهه في النار
ومنهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد قدمت عنه حديث الصحيحين وغيرهما الذي قال فيه فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب الحديث إلى آخره
وقوله في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم الشقي من شقي في بطن أمه
وفي المستدرك على الصحيحين عن عبد الله قال والذي لا إله غيره ما في الأرض نفس إلا الموت خير لها إن كان مؤمنا فإن الله تعالى يقول لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات وإن كان فاجرا فإن الله تعالى يقول إنما نملي لهم ليزدادوا إثما رواه الحاكم وقال على شرطهما
ومنهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وروى الحاكم أبو (1/125)
عبد الله في المستدرك على الصحيحين عنه قال سمعت رسول الله يقول إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور يومئذ شيء اهتدى ومن اخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله
قال الحاكم على شرطهما ولا علة له
ورواه البيهقي عن الحاكم وأخرجه أبو حاتم بن حبال بكسر الحاء المهملة وتشديد الموحدة
قال الإمام البيهقي ألقى عليه من نوره أي فمن علم الله إيمانه وأمر القلم فجرى به وكتب من السعداء أصابه من ذلك النور فاهتدى
ومن علم الله كفره وأمر القلم فجرى به وكتب من الأشقيا أخطأه ذلك النور
قال الله تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وقال تعالى الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وقال تعالى وأضله الله على علم
ومنهم عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما روى الإمام مالك رضي الله عنه في الموطأ عن عمرو بن دينار قال سمعت عبد الله ابن الزبير يقول في خطبته إن الله هو الهادي والفاتر
ومنهم عمران بن حصين رضي الله عنه روى البخاري ومسلم عنه قال قيل يا رسول الله علم أهل الجنة من أهل النار قال (1/126)
نعم قيل ففيم يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له قلت وقد قدمت عنه نحوا من هذا من حديث البخاري
وروى البيهقي بسنده الصحيح إلى ابن الأسود الديلمي قال قلت لعمران بن حصين إني جلست مجلسا ذكروا فيه القدر فقال عمران الله الذي لا إله إلا هو لو أن الله عذب أهل السماوات والأرض عذبهم وهو غير ظالم حين يعذبهم ولو رحمهم كانت رحمته أوسع لهم وسنقدم المدينة فنسأل ابن مسعود وأبي بن كعب فسألهما فقالا مثل ذلك
ورواه الطبري بسند صحيح عنه وزاد فيه ولو أن لرجل مثل أحد ذهبا ينفقه في سبيل الله لا يؤمن بالقدر خيره وشره لا يقبل منه
ومنهم عمار بن ياسر رضي الله عنه روى عبد لله بن المبارك بسنده عنه قال قال موسى يا رب خلقت خلقا خلقهم للنار فأوحى الله إليه أن ازرع زرعا فزرعه وسقاه وقام عليه حتى حصده وداسه قال ما فعل زرعك قال رفعته قال ما بركت منه قال ما لا خير فيه وقال فإني لا أدخل النار إلا ما لا خير فيه
ومنهم أبو هريرة رضي الله عنه روى الإمام أحمد بسنده إلى عمار مولى بني هاشم قال سألت أبا هريرة عن القدر فقال كيف بآخر سورة القمر وقد قدمت عنه أحاديث صحيحة في القدر من ذلك قوله كتب على ابن آدم حظه من الزنا حديث البخاري وقوله قال قدر الله وما شاء فعل حديث مسلم وغير ذلك
ومنهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه روى الحافظ ابن حبان عنه عن النبي قال خلق الله آدم من أديم الأرض كلها (1/127)
فخرجت ذريته على حسب ذلك فمنهم الأسود والأبيض والأحمر والأصفر ومنهم بين ذلك ومنهم السهل ومنهم الحزن والخبيث والطيب
وروى نحوه أبو داود والترمذي وصححه ولفظه إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض الحديث
وروى ابن حبان أيضا في صحيحه عنه أنه قال خلق الله آدم ثم أخذ الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي فقال قائل يا رسول الله فعلى ماذا العمل قال على مواقع القدر وروى نحوه أبو داود والترمذي والحاكم وقال على شرطهما ولفظه إن الله خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهر فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون الحديث
ومنهم سلمان الفارسي رضي الله عنه روى البيهقي بسنده الصحيح إلى حجاج الأزدي قال سألنا سلمان ما الإيمان بالقدر قال أن تعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه
وروى الطبري عنه أنه قال إن الله تعالى لما خلق آدم مسح ظهره فاخرج منه ما هو ذاري إلى يوم القيامة وكتب الآجال والأعمال والأرزاق والشقاوة والسعادة (1/128)
ومنهم أبو الدرداء رضي الله عنه روى البيهقي عنه بسند حسن أنه قال كل يعمل في ثواب أعد له
قلت هكذا هو في الأصل المنقول منه ولعله في ثواب أو عقاب أعد له والله أعلم
ومنهم أبي بن كعب وزيد بن ثابت وحنيفة بن النعمان وعمرو ابن العاص وعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين روى الحافظ أبو حاتم بن حبان بسنده الصحيح إلى ابن الديلمي قال أتيت أبي بن كعب فقلت له وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي قال لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النار قال أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن رسول الله مثل ذلك
وروى البيهقي بسنده إلى زيد بن أسلم قال قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص لقد عجبت لك في ذهنك وعقلك كيف لم يكن من المهاجرين الأولين فقال له عمرو وما أعجبك يا عمر من رجل قلبه بيد غيره لا يستقيم أو قال لا يستطيع أو قال لا يستطيع التخلص منه إلا إلى ما أراد الذي بيده فقال عمر صدقت
وروى الحاكم والطبري بسنديهما عن عمرو بن العاص قال عجبت من الرجل يفر من القدر وهو بواقعه ومن الرجل يرى القناة في عين (1/129)
أخيه ويدع الجذع في عينيه وقد قدمت عنه أيضا حديثين في القدر رواهما الترمذي
وروى البيهقي بسند صحيح إلى خشمة عن عطية قال دخلت وأنا مسروق على عائشة رضي الله عنها فذكر وأقول عبد الله يعني ابن مسعود من أحب لقاء الله أحب الله تعالى لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قال رحمه الله على ابن أم عبد حدثكم أول حديث لم تسألوه عن آخره أن الله إذا أراد العبد خيرا قيض له قبل موته بعام ملكا يسدده وينسره حتى يموت وهو خير ما كان يقول الناس مات فلان وهو خير ما كان فإذا احتضر ورأى ثوابه من الجنة جعل يودع نفسه وود لو خرجت قبل ذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاه
وأن الله إذا أراد بعبد شرا قيض له شيطانا قبل موته بعام يفتنه ويصده ويضله حتى يموت حين يموت وهو شر ما كان ويقول للناس مات فلان وهو شر ما كان فإذا احتضر ورأى ما أعد له في النار جعل يتبلغ نفسه كراهة الخروج فعند ذلك يبغض لقاء الله والله للقائه أبغض
وروى البهيقي أيضا عنهما أنه ذكر لهما خروجهما فقالت كان يقدر قلت يعني خروجها إلى البصرة حتى جرى يوم الجمل ما جرى
وروى الطبري بسنده إلى هشام بن عروة عن عائشة أن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة وأنه عند الله مكتوب من أهل النار الحديث
ورواه ابن حاتم بن حبان في صحيحه ولفظه عن عائشة أن النبي قال أن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه لمكتوب في الكتاب أنه من أهل النار فإذا كان قبل موته بحول يعمل بعمل أهل النار فيدخل (1/130)
النار وإن كان الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه مكتوب في الكتاب أنه من أهل الجنة فإذا كان قبل موته بحول فعلم بعمل أهل الجنة فمات فدخل الجنة اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة مع العفو والعافية في الدنيا والآخرة بنا ولأحبابنا والمسلمين آمين
قلت فهذا ما اقتصرت على ذكره عن هؤلاء السادة المذكورين الذين اقتصرت من سادات الصحابة عليهم وقد قدمت أن أحاديث القدر رواها فوق ثلاثين صحابيا
ومن التابعين زين العابدين علي بن الحسين رضوان الله عليه وعلى آبائه
روى الطبري بسنده أن رجلا من البصرة جاء إليه فقال له يا سيدي إني وافد أهل البصرة إليك قال القدر قد فنشأ بها وارتد أكثر الناس فقال له سل فقال للخير فقال اكتب علم وقضا وقدر وساء وأراد ولم يرض ولم يجب فرجع إلى البصرة فقرأ على الناس ما كتب فرجع أكثرهم
وروى عنه أقوال أخرى غليظة في تكفير أصحاب القدر رواها الإمام البيهقي وغيره بأسانيدهم
قلت وهذا صريح من زين العابدين في التفريق بين الإرادة والرضا وهو موافق لما قدمته من قول بعض أئمتنا ومنهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
روى الإمام البيهقي بسنده إلى الإمام مالك قال إن عمر بن عبد العزيز كان حكيما يقول لو أراد الله أن يعصى ما خلق إبليس
قلت وقد ذكر الإمام الثعالبي رواية أن آدم عليه السلام التقى بإبليس في الأرض فلامه على صنيعه وقال يا ملعون أنت الذي أخللت بي (1/131)
وغررتني وأخرجتني من الجنة وفعلت وفعلت قال فبكى إبليس وقال يا آدم أنا فعلت بك ما تقول وأنزلتك هذه المنزلة فمن فعل ما أنا فيه وأحلني هذه المنزلة
رجعنا إلى كلام عمر بن عبد العزيز وكان يقول إن في كتاب الله لهؤلاء القدرية علما بينا علمه من علمه وجهله من جهله قوله تعالى فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم وروى سعيد ين منصور في تفسيره قال حدثنا عمرو بن دينار قال خرجت وافدا إلى عمر بن عبد العزيز في نفر من أهل الكوفة وكان معنا صاحب لنا يتكلم في القدر فسألنا عمر بن عبد العزيز حوائجنا ثم ذكرنا له القدر فقال لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس ثم قال قد بين أنه ذلك في كتابه فإنكم وما تعبدون الآية
فرجع صاحبنا ذلك عن القدر
ورواه الطبري بسنده إلى عمر ابن ذر وزاد لو أن الله تعالى كلف العباد على قدر عظمته لما قامت لذلك سماء الأرض ولا جبل ولا شيء من الأشياء ولكنه أخذ منهم اليسير ولو أراد وأحب أن لا يعصى لم يخلق إبليس راس المعصية
قال بعض الأئمة المتأخرين رحمة الله على عمر لقد أتانا أحسن دليل وأخصر ولهذا قال مالك إنه كان حكيما
وروى عنه سعيد بن منصور بسنده أنه قال يا أيها الناس اتقوا الله من أحسن فليحمد الله ومن أساء فليستغفر الله فإنه الله لا بد لأقوام أن يعملوا أعمالا كتبها الله عليهم ووضعها في ركابهم
وقال أيضا فيما رواه أبو داود من رواية سفيان الثوري وغيره عنه ما اعلم الناس وحدث الناس من محدثة ولا ابتدعوا من بدعة هي (1/132)
أبين أمرا ولا أبت أمرا من الأقدار بالقدر
لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم يعزون به أنفسهم على ما فاتهم
ثم لم يزده الإسلام إلا شدة ولقد ذكره رسول الله في غير حديث ولا حديثين قد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقينا وتسليما لربهم عز و جل وتضعيفا لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه ولم يخصه كتابه ولم يمض فيه قدرته وإنه لمع ذلك في محكم كتابه لمنه اقتبسوه ولمنه تعلموه ولئن قلتم أنزل الله كذا وثم قال كذا لقد قرءوا منه ما قرأتم وعلموا من تأويله ما جهلتم وقالوا بعد ذلك كله بكتاب وقدروا ما يقدر يكن وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا يملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا ثم رغبوا وبعد ذلك ذهبوا
روى الإمام الطبري بسنده الصحيح إلى الإمام الأوزاعي قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن له كتابا فكان فيما كتب إني أسأل الله تعالى الذي بيده القلوب يضع فيها ما يشاء من هدى وضلال
وروى الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه بسنده عنه أنه دعي غيلان لشيء بلغه عن القدر فقال يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك قال يكذب علي قال ما تقول في العلم قال هذا العلم قال اذهب الآن فقل ما شئت يا غيلان إنك إن قررت بالعلم خصمت وإن جحدته كفرت وإنك إن تقربه فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر ثم قال اقرأ يس قال نعم فقرأ يس إلى قوله تعالى لا يؤمنون قال كيف ترى قال كأني لم أقرأ هذه الآيات قط إني أعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبدا قال اذهب فلما ولي قال اللهم إن كان كاذبا فأذقه حر السلاح فلم يتكلم في زمن عمر فلما كان زمن يزيد بن عبد الملك تكلم فلما ولي هشام أرسل إليه وقال أليس قد كنت عاهدت الله لعمر بن (1/133)
عبد العزيز أن لا تتكلم في شيء من هذا أبدا قال أقلني فوالله لا أعود قال لا قال لا أقالني الله إن أقتلك أتعرف فاتحة الكتاب قال نعم قال اقرأ فقرا الحمد لله رب العالمين إلى إياك نعبد وإياك نستعين قال قف على ما استعنته على أمر بيده لا يستطيعه أو على أمر بيدك اذهبوا فاقطعوا بيديه ورجليه واضربوا عنقه واصلبوه قال الأئمة هذا الحديث إسناده صحيح
وقد روى العلماء عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إثبات القدر والإيمان به وتضليل منكريه والتغليظ على القدرية ما يطول ذكره من ذلك ما روى الإمام البيهقي بسنده عنه أن أصحاب القدر يستتابون فإن تابوا وإلا نفوا من ديار المسلمين
ومن التابعين أيضا الحسن البصري رضي الله عنه روى البيهقي بسنده الصحيح إلى حميد قال قدم الحسن مكة فكلمني فقهاء مكة أن أكلمه فيجلس لهم يوما فكلمته فقال نعم فاجتمعوا وهو على سرير فقال له رجل يا أبا سعيد من خلق الشيطان قال سبحان الله وهل من خالق غير الله خلق الشيطان وخلق الخير وخلق الشر
وروى أيضا بسنده الصحيح إلى حماد بن زيد عن خالد قال قلت للحسن يا أبا سعيد آدم خلق للأرض أم للسماء فقال خلق للأرض فقلت أرأيت لو أنه استعصم فلم يأكل من الشجرة قال لم يكن له بد من أن يأكل منها لأنه خلق للأرض
وروى أيضا بسنده الصحيح إلى حميد قال قرأت القرآن كله (1/134)
على الحسن ففسره على الإثبات فسألته عن قوله تعالى كذلك سلكناه في قلوب المجرمين قال الشرك بالله سلكه في قلوبهم
وسألته عن قوله تعالى ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون قال أعمال سيعملونها
وسألته عن قوله تعالى ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم
وروى أيضا بسنده الصحيح إلى خالد عنه في قوله تعالى ولذلك خلقهم قال خلق هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار
وبسنده الصحيح إلى الأشهب عنه في قوله تعالى وحيل بينهم وبين ما يشتهون قال بينهم وبين الإيمان
وبسنده الصحيح إلى أبى مروان مولى هند بنت المهلب قال دعا معبد إلى القدر علانية فما كان أحد أشد عليه في التفسير والرواية والكلام من الحسين فغبت ثم قدمت فألقى معبدا فقال لي أما شعرت أن الشيخ وافقني يعني الحسن فاصنعوا بعد ما شئتم فأتينه فقلت يا أبا سعيد قول الله تعالى تبت يد أبي لهب وتب ما اغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب كان في أم الكتاب قبل أن يخلق الله عز و جل أبا لهب فقال سبحان الله ما شأنك نعم والله أن يخلق أبا أبيه فقلت فهل كان أبو لهب يستطيع أن (1/135)
يؤمن حتى لا يصلي هذه النار قال لا والله ما كان يستطيع فقلت احمد الله هذا الذي كنت عهدتك عليه أن الذي دعاني إلى ما سألتك أن معبدا الجهني أخبرني انك قد وافقته قال كذب لكع كذب لكع قلت وهكذا بلغني عن بعض المبتدعة أنهم يدعون بطريق البهت والافتراء أن الحسن البصري على عقيدتهم حتى ادعوا ذلك أيضا في الإمام أبي حامد الغزالي بل بلغني أن بعضهم ادعى ذلك في الإمام الشافعي وغيره من العلماء الأجلاء ومن كبار الأولياء من أئمة أهل السنة وصلحائهم يدلسون بذلك على الجهال ليستميلوا العوام بالملاح أهل العلم والصلاح من أجلاء أهل السنة وأئمتهم بمجرد التمويه والنهب الصريح والاختلاف والافتراء القبيح الذي يكذبهم به ضرورة حسن السمع والبصر كما يكذب منكر وجود الشمس والقمر وما مثالهم فيما ادعوه من ذلك إلا كمثال قوم لا يزال بعض الملوك يدهمهم بعساكره ويقابلهم ويهزمهم طول دهره ويجلب عليهم بخيله ورجله ويفتك فيهم بأسره وقيله لسوء سيرتهم وقبح طريقهم حتى أفناهم ومن بلادهم نفاهم
فلما مات ادعوا أنه لهم موافق وبحسن سيرتهم وابق ولطريقهم سالك وشاكر ومكذبين في ذلك جميع العساكر الذي لطريقته يتبعون وبظعنه في طريقهم دائما يسمعون وبظعانه فيهم طول الدهر يجتمعون
فإن كل من ادعوا من أهل السنة أنه منهم ليتكثروا به ويزينوا مذهبهم بكونه بزعمهم داخلا فيه معهم تكذبهم تصانيفه وسيرته وقوله وفعله وعلمه وعمله وظاهره وباطنه وإنكاره عليهم وطعنه فيهم لنفيره عنهم ومخالفته لهم ومخاصمته معهم ومحاربتهم إياهم وغير ذلك مما امتلأ به الوجود من كثرة الشهود وامتنع فيه الجحود كما امتنع جحود المعاين المشهود (1/136)
وهكذا ادعوا أن أهل البيت رضوان الله عليهم يعتقدون معتقدهم وقد قدمت عن علي وذريته وابن عباس رضي الله عنهم من الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم وغيرهما ما يكذبهم
وقد روى الطبري بسنده أن رجلا من الشيعة سأل جعفر بن محمد الصادق رضوان الله عليه عن القدر فقال له اكتب أن الله تعالى لا يطاع قهرا وأن الله لا يعصى قهرا فإذا أراد الطاعة كانت وإذا أراد المعصية كانت فإن عذب فبحق وإن عفى فبالفضل أو قال فيفضل
رجعنا إلى حديث الحسن البصري الذي ادعوا أنه منهم روى أئمتنا عنه بسند صحيح أنه قال من كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن
وروى الحاكم بسنده إلى ابن يحيى قال سمعت الحسن وأتاه رجل فقال يزعم أن من قتل مظلوما فقد قتل في غير أجله فقال من أكل بقية رزقه بل قتل في أجله
قلت جميع هذا الكلام من قوله يزعم إلى قوله كلام الحسن وهو ظاهر وإنما نبهت عليه لئلا يتوهم من ليس له معرفة بمذهب أهل السنة وأهل البدعة غير ذلك وتقدير الكلام أتاه رجل فقال له الحسن يزعم وإنما أعاد قوله فقال تأكيدا وإلزاما كأنه قال فإن كان كما يقول فمن أكل بقية رزقه
وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه حدثنا إسماعيل عن منصور ابن عبد الرحمن قال قلت للحسن قوله عز و جل ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها قال سبحان الله ومن يشك في هذا كل مصيبة بين السماء والأرض في كتاب الله قبل أن يبرأ النسمة (1/137)
وروى الطبري بسنده عنه أنه قال من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام
ومنهم سعيد بن المسيب رضي الله عنه روى البيهقي عن عمرو بن شعيب قال كنت عند سعيد بن المسيب رضي الله عنه إذا جاءه رجل فقال يا أبا محمد إن ناسا يقولون قدر الله كل شيء ما خلا الأعمال فغضب سعيد غضبا لم أره غضب مثله قط حتى هم بالقيام ثم قال فعلوها فعلوها ويحهم ويحهم لو يعلمون أما إني سمعت فيهم حديثا كفاهم به شرا فقلت وما ذاك يا أبا محمد يرحمك الله فقال حدثني رافع بن خديج عن النبي أنه قال سيكون في أمتي أقوام يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون فقلت يا رسول الله كيف يقولون قال يقرون ببعض القدر ويكفرون ببعض يقولون الخير من الله والشر من الشيطان الحديث
ومنهم سالم بن عبد الله رضي الله عنه روى البيهقي بسنده إلى سفين عن عمر بن محمد قال جاء رجل إلى سالم بن عبد الله فقال أرأيت رجلا زنى قال يستغفر الله قال كتبه الله عليه قال نعم قال فيعذبه وقد كتبه عليه فأخذ كفا من حصا فحصبه
ومنهم عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه روى الحاكم بسنده إلى عبد الواحد بن سليم قال سألت عطاء فقلت إن ناسا من أهل البصرة يقولون في القدر قال تقرأ القرآن قلت نعم قال اقرأ الزخرف فقرأت حم والكتاب المبين إلى قوله تعالى وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم قال أتدري ما أم (1/138)
الكتاب قلت الله ورسوله أعلم قال هو الكتاب الذي كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض فيه أن فرعون من أهل النار و تبت يدا أبي لهب
ومنهم طاوس رضي الله عنه روى الطبري بسنده الصحيح إلى عمرو بن دينار قال قال طاوس احذروا الجهني فإنه قدري
ومنهم مجاهد رضي الله عنه روى سعيد بن منصور عن سفيان عن ابن أبي نجيح أنه قال في قوله تعالى لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين قال لا تسلطهم علينا فيفتنونا فيفتنوا بنا
وبسند البيهقي الصحيح إلى ابن أبي نجيح أنه قال في قوله تعالى يحول بين المرء وقلبه قال يحول بين الكافر وقلبه حتى يتركه لا يعقل
وبسنده إلى منصور عنه في قوله تعالى ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم قال في علم الله
وبسند سعيد عن سفيان عن ابن أبي نجيح عنه في قوله تعالى إني أعلم ما لا تعلمون قال علم من إبليس المعصية وخلقه لها (1/139)
وروى الطبري بسنده إلى الحاكم عنه في قوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه قال مكتوب في ورقة في عنقه شقي أو سعيد
ومنهم ابن سيرين رضي الله عنه روى الإمام أحمد بسنده عنه قال إن لم يكن أهل القدر من الذين يخوضون في آيات الله فلا أدري من هم
ومنهم سعيد بن جبير رضي الله عنه روى سعيد بن منصور بسنده عنه في قوله تعالى وهديناه النجدين نجد الخير ونجد الشر
وبسند الطبري إليه في قوله تعالى لولا كتاب من الله سبق قال ما سبق لأهل بدر من السعادة وفي قوله تعالى أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب قال ما سبق لهم من الشقاوة
ومنهم أياس بن معاوية بن قرة رضي الله عنه روى الإمام أحمد ابن حنبل رضي الله عنه بسنده عنه أنه قال ما كلمت أحدا من أهل الأهواء بعقلي كله إلا القدرية قلت لهم ما الظلم فيكم قالوا أن يأخذ الإنسان ما ليس له فقلت لهم إن لله كل شيء
قلت وقد قدمت عن الإمام مالك أنه بلغه عنه أنه قيل له ما (1/140)
رأيك في القدر فقال لا يعلم سره إلا الله قال مالك وكان يضرب به المثل في الفهم
ومنهم الشعبي روى الطبري بسنده إلى الربيع بن خيثم عن زيد بن أسلم قال والله ما قالت القدرية كما قال الله عز و جل ولا كما قالت الملائكة ولا كما قالت الأنبياء ولا كما قال أهل الجنة ولا كما قال أهل النار ولا كما قال أخوهم إبليس
قال الله تعالى وما تشاءون إلا أن يشاء الله وقالت الملائكة عليهم السلام لا علم لنا إلا ما علمتنا وقال شعيب صلى الله عليه و سلم وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وقال أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله قال أهل النار ربنا غلبت علينا شقوتنا وقال أخوهم إبليس رب بما أغويتني
قلت وهذا ما اقتصرت عليه أيضا من كلام هؤلاء العلماء المذكورين الذي اقتصرت عليهم من أجلاء التابعين رضي الله عنهم أجمعين
ومن الفقهاء الأجلاء الأئمة المشهورين قدوة الأمة المتبعين السنة أحسن المتابعة المتبوعين أهل المذاهب الأربعة مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل في علا الجنان مأواهم
وها أنا أذكر شيئا من كلامهم وكلام أصحابهم في القدر بتقدم من تقدم منهم في الزمان وتأخير من تأخر (1/141)
فالإمام أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم فروى الإمام البيهقي بسنده إلى أبي عصمة نوح بن أبي مريم قال سألت أبا حنيفة من أهل الجماعة قال من فضل أبا بكر وعمر وأحب عليا وعثمان وآمن بالقدر خيره وشره من الله ومسح على الخفين ولم يكفر مؤمنا بذنب ولم يتكلم في الله بشيء
وروى الطبري بسنده إلى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة قال حدثنا أبو حنيفة وذكر سنده إلى مسعود رضي الله عنه قال يكون النطفة في الرحم أربعين يوما الحديث فيقول رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد وما رزقه قال محمد وبهذا نأخذ وبه كان يأخذ أبو حنيفة الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره
وبسنده إلى أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال لا تصل خلف جهمي ولا رافضي ولا قدري
وأما الإمام مالك وأصحابه رضي الله عنه فروى البيهقي عنه أنه قال القدرية شر الناس وأرذلهم وقرأ يضلوا عبادك الآية
قلت يعني قول نوح عليه السلام إنك إن تذرهم يضلوا عبادك وقال أبو بكر الأبهري في شرح ابن عبد الحكم عن مالك أنه قال في القدرية يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا قال فقلت له من القدرية عند مالك فقال روى ابن وهب عن مالك أنه قال هم الذي يقولون إن الله لا يعلم الشيء قبل كونه
وروى البيهقي بسنده أنه سئل مالك عن تزويج القدرية فقال ولعبد مؤمن خير من مشرك وبسنده إلى يونس بن عبد (1/142)
الأعلى قال سمعت أشهب يقول قال مالك القدرية لا تناكحوهم ولا تصلوا خلفهم ولا تحملوا عنهم الحديث
وإن رأيتموهم في ثغر فأخرجوهم منه
وقال مالك ما أضل من كذب بالقدر لو لم يكن عليهم إلا قوله تعالى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن لكفى بها حجة
وروى الطبري بسنده إلى أشهب قال سألت مالكا عن قوله تعالى ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم قال ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير
وروى البيهقي بسنده إلى الإمام الحافظ محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري قال السنة عندنا أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
وهو قول أئمتنا مالك والأوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة
وأن القدر خيره وشره من الله عز و جل قد جف القلم بما هو كائن إلى يوم يقوم الساعة
علم الله من العباد ما هم عاملون وإلى ما هم صائرون وأمرهم ونهاهم فمن لزم أمر الله عز و جل وآثر طاعته فبتوفيق الله ومن ترك أمر الله وركب معاصيه فبخذلان الله إياه
ومن زعم أن الاستطاعة قبل العمل بالجوارح إليه إن شاء عمل وإن شاء لم يعمل كذب بالقدر ورد كتاب الله عز و جل وزعم أنه مستطيع لما لم يرده الله ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول
ولكن نقول الاستطاعة في العبد مع الفعل فإذا عمل عملا بالجوارح من بر أو فجور علمنا (1/143)
أنه كان مستطيعا للفعل الذي فعل
فأما قبل أن يفعله فإنا لا ندري لعله يريد أمرا فيحال بينه وبينه والله تعالى مريد لتكوين أعمال الخلق
ومن ادعى خلاف ما ذكرنا فقد وصف الله تعالى بالعجز وهلك في الداهرين
وأما الإمام الشافعي وأصحابه رضي الله عنهم فقد روى الربيع ابن سليمان عن أصحابه عنه أنه قال لأن يلقى الله العبد فكل ذنب من خلا الشرك بالله خير ما أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء وذلك أنه رأى قوما يتجادلون في القدر بين يديه قال الشافعي أخبر الله تعالى في كتابه أن المشيئة له دون خلقه والمشيئة إرادة الله قال تعالى وما تشاءون إلا أن يشاء الله فأعلم خلقه أن المشيئة له قال وكان الشافعي يثبت القدر
قلت وقد قدمت ما رواه الإمامان المزني والربيع من أصحابه مما أنشد قوله
ما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن إلى آخر الأبيات الخمسة
وقال الربيع عن الشافعي لو حلف رجل فقال والله لا أفعل كذا إلا أن يشاء الله أو إلا أن يقدر الله وأراد به القدر فلا شيء أو قال فلا شيء عليه
قلت يعني لا يحنث وقد قدمت تقرير المسألة عن إمام الحرمين
وقال عاصم سمعت المزني يقول سألت الشافعي عن قول النبي ستة لعنهم الله المكذب بقدر الله فقلت من القدرية فقال هم الذين يزعمون أن الله لا يعلم المعاصي حتى تكون قال المزني (1/144)
هذا عندي كفر وقال عاصم قال المزني الله الخالق وأفعال العباد مخلوقة لا يقدر أحد إن شاء شيئا إلا أن يشاء الله قال الله تعالى وما تشاءون إلا أن يشاء الله قال وسمعت المزني يقول إذا قال والله لا أضرب اليوم أحدا فضرب نفسه لا يحنث لأنه إنما أراد غيره من الناس وهذا يدخل في اللغة على القدرية
وقول الله تعالى خالق كل شيء فإن الله تعالى خالق الأشياء كلها ومنها أعمال العباد ولم يعن نفسه إنما أراد سواه
قلت وقد قدمت هذه القاعدة أيضا أعني كون المتكلم لا يدخل في حكم الخطاب
وأما الإمام أحمد وأصحابه رضي الله عنهم فقال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول علم الله في العباد قبل أن يخلقهم سابق وقدرته ومشيئته في العباد أو قال نافذة في العباد وخلق آدم وعلم منه المعصية قبل أن يخلقه وكذا علمه سابق محيط بأفاعيل العباد وكل ما هم عاملون
قلت ومما نقل عن الإمام أحمد وحكاه بعض أهل العلم عنه أنه قال إذا سأل إنسان عن أفعال العباد أهي من الله عز و جل دون العباد أم من العباد دون الله عز و جل أم من الله عز و جل ومن العباد فالجواب عن ذلك أنها على غير ذلك لأن أفعال العباد لو كانت من الله عز و جل دون العباد لكان العباد لا ثواب لهم ولا عقاب عليهم ولو كانت من العباد دون الله عز و جل لكان العباد يعملون عملا بغير علم الله ومشيئته وإرادته ولو كانت من الله عز و جل ومن العباد على معنى واحد تشابهت العبودية بالربوبية ولا يجوز (1/145)
أن يقال بواحد من هذه الأقاويل بل يقال أفعال العباد هي من الله تعالى تقديرا وخلقا ومن العباد عملا واكتسابا
ومعانيها من قبل الله عز و جل سبعة والتي من قبل العباد سبعة فالتي من قبل الله عز و جل - 1 علم سابق لا يخطئ بل يقع الأمر على وفق ما علم سبحانه 2 - ومشيئة نافذة 3 - وقدر مكتوب 4 - وتسليط من الشيطان 5 - وتطبيع الشهوة 6 - وتركيب الهوى 7 - وإحداث الطاقة
قلت يعني بالطاقة قدرة العبد على العمل
قال والتي من قبل العباد النظر والفكر واهتياج الشهوة واتباع الهوى والغفلة عن العواقب ورجاء المغفرة بلا ندم انتهى كلامه في الأسباب
ثم قال والثواب والعقاب على الاكتساب والعمل لا على التقدير والله أعلم
قلت وهذه المذكورات من قبل العباد ست لا غير والسابعة ساقطة من الأصل ولعلها الاكتساب والله أعلم بالصواب
ومن الفقهاء أولي المقامات الرفيعة شيخ الإمام مالك ربيعة رضي الله عنه روى الإمام الطبري بسنده إلى الإمام ذي الفضل والمجد الليث بن سعد قال قال غيلان لربيعة يا أبا عثمان أيرضى الله أن يعصى فقال له ربيعة أفتعصى الله قهرا
ومن جملة الفقهاء الأئمة الأجلاء سفيان بن سعيد الثوري وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك والأوزاعي رضي الله عنهم
فأما الإمام سفيان الثوري رضي الله عنه فروى الإمام البيهقي بسنده عنه أنه قال له إنسان إن لنا إماما قدريا فقال لا تقدموه قال ليس لنا إمام غيره قال لا تقدموه (1/146)
وبسنده عنه أيضا قال سمعت أعرابيا بعرفة يقول اللهم من أولى بالزلل والتقصير مني وقد خلقتني ضعيفا ومن أولى بالعفو عني منك وعلمك في سابق وأمرك في نافذ أطعتك بإذنك والمنة لك علي وعصيتك بعلمك والحجة لك فأسألك بوجوب رحمتك أو قال بثبوت حجتك وانقطاع حجتي وبفقري إليك وغناك عني أن تغفر لي اللهم لم أحسن حتى أعطيتني ولم أسئ حتى قضيت علي اللهم إنا أطعناك بنعمتك في أحب الأشياء إليك شهادة أن لا إله إلا الله ولم نعصك في أبغض الأشياء إليك الشرك فاغفر ما بينهما اللهم إنك آنس المؤنسين لأوليائك وأقربهم بالكفاية للمتوكلين عليك فشاهدهم في ضمائرهم وتطلع على سرائرهم وسري اللهم لك مكشوف وأنا بك ملهوف وإذا وحشتني الكربة آنسني ذكرك وإذا عمت علي الهموم لجأت إليك استجارة بك علما بأن أزمة الأمور بيدك وأن مصدرها عن قضائك
وأما الإمام سفيان بن عيينة رضي الله عنه فروى الإمام البيهقي عنه أنه سئل عن القدرية قال قالت القدرية ما لم يقل عز و جل ولا الملائكة ولا النبيون ولا أهل الجنة ولا أهل النار ولا ما قال أخوهم إبليس
قال الله عز و جل وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ثم ذكر من قول الباقين مثل ما قدمته عن زيد بن أسلم إلا أنه قال وقال النبيون وما يكون لنا أن نعود فيها ولم يقل وقال شعيب كما قال زيد بن أسلم (1/147)
وبسند البيهقي أيضا عنه أنه قال له إنسان يا أبا محمد إنا وجدنا خمسة أصناف كفروا بمن آمنوا به قال من هم قال الجهمية والقدرية والمرجئة والرافضة والنصارى قال قال الله تعالى وكلم الله موسى تكليما فقال الجهمية لا ليس كما قلت بل خلقت كلاما فكفروا وردوا على الله وقال الله عز و جل ذوقوا من سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر فقالت القدرية لا ليس كما قلت الشر من البشر وليس ممن خلقته وكفروا وردوا على الله وقال الله تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية فقال المرجئة لا ليس كما قلت بل هو سواء فكفروا وردوا على الله عز و جل
أبو بكر وعمر خير الأمة الإسلامية بعد نبيها
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر فقالت الرافضة لا ليس كما قلت بل أنت خير منهما فكفروا به وردوا عليه
ما المسيح ابن مريم إلا عبد الله ورسوله
وقال عيسى ابن مريم صلى الله عليه و سلم إني عبد الله ورسوله فقالت النصارى لا ليس كما قلت بل أنت هو فكفروا وردوا عليه
قال سفيان النبوة النبوة قلت في قوله النبوة النبوة احتمالان (1/148)
أحدهما الإغراء أي الزموا ما جاءت به النبوة والثاني استعظام لما ادعوا فيه وتكذيب لهم وأن ليس عنده سوى النبوة والله أعلم
وبسنده أيضا عنه أنه قيل له ههنا رجل يكذب بالقدر فقال كذب عدو الله لقد سمعت إعرابيا بالموقف وهو أفقه منه يقول اللهم خرجت وأنت أخرجتني وعليك قدمت وأنت أقدمتني أطيعك بأمرك ولك المنة علي وعصيتك بعلمك ولك الحجة علي فأنا أسألك بواجب حجتك وانقطاع حجتي إلا رددتني بذنب مغفور
لا يؤمن النصارى من أربع خصال
وأما الإمام ابن المبارك رضي الله عنه فروى الإمام البيهقي بسنده عنه أنه قال إن النصارى لا يؤمنون من أربع خصال ذنب قد مضى لا يدرى ما الرب يصنع فيه وعمر قد بقي فيه لا يدرى ما فيه من إهلاكات وفضل قد أعطي لعله مكر واستدراج وضلالة قد زينت له فرآها هدى ثم ذكر كلاما معناه كم من زاغ قلبه ساعة أسرع من طرفة قد سلب دينه وهو لا يشعر نسأل الله الكريم العافية
من هو الكافر
روى الطبري بسنده أنه قال ومن قال إن الله لا يعلم الشر حتى يكون فهو كافر ومن قال أنا مستغن عن الله فهو كافر ومن قال إن الله ظالم العباد فهو كافر
قلت يعني من زعم أنه تعالى إذا قدر على العبد المعصية ثم عاقبه عليها يكون ظالما وقد قدمنا إقامة البرهان على أنه لا يكون تعالى ظالما بذلك لأنه المتصرف في خلقه المالك
وأما الإمام الأوزاعي رضي الله عنه فروى الإمام البيهقي بسنده (1/149)
الصحيح عنه في حديث يهودانه وينصرانه قال على ما سبق له في العلم لا مخرجا به من علم الله وإلى علم الله يصيرون
وبسنده أيضا أنه سئل عن القدرية فقال للسائل لا تجالسهم
وبسند الطبري إلى بقيته قال سألت الأوزاعي الزبيدي عن الجبر فقال الترمذي أمر الله وقدرته أعظم من أن يجبر ويقهر ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عنده على ما شاء
وقال الأوزاعي ما أعرف الجبر أصلا في الكتاب والسنة ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل
ومن الفقهاء السادة المشهورين قتادة روى الإمام البيهقي بسنده إلى سعيد بن أبي عروبة قال سألت قتادة عن القدر فقال تسألني عن رأي العرب إن العرب في جاهليتها وإسلامها كانت تثبت القدر
وبسنده الصحيح إليه عنه في قوله تعالى إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا قال تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا
قلت وهذا ما اقتصرت أيضا عليه من كلام الأئمة المذكورين الذين اقتصرت عليهم في الفقهاء الأجلة المشهورين
وأما المشايخ العارفون الأولياء المقربون فسيأتي ذكر إثباتهم للقدر وأنهم عليه مجمعون
وأما أئمة الحديث المتقنون الحفاظ المسندون فقد اندرج ذكر بعضهم في الأئمة المذكورين مثل الإمامين مالك وأحمد والإمامين سفيان وسفيان وغيرهم من الفقهاء المذكورين وممن ذكرت من العلماء التابعين وبعضهم تقدم ذكرهم في الأحاديث التي استدللت بها على (1/150)
إثبات القدر فهم الذين رووها وذكرهم أشهر من أن يشهر أعني الأئمة الحفاظ العباد الأعلام الذين على كتبهم مدار الإسلام وهم الإمام أبو عبد الله البخاري والإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري والإمام أبو داود السجستاني والإمام أبو عيسى الترمذي والإمام أبو عبد الرحمن النسائي رضي الله عنهم
وأما أئمة الأصول المحققون النظار المدققون فعقائدهم في ذلك معروفة وتصانيفهم مشهورة موصوفة مشحونة بالبراهين المفحمة القاطعة في الرد على المبتدعين الخارجين عن المتابعة
وقد ذكرت جماعة منهم في أول هذا المعتقد وفي مواضع منه استدل بأقوال بعضهم عليها المعتمد
وكذلك أئمة علم الأدب كأبي عمرو والخليل والأصمعي وثعلب وغيرهم من علماء العربية موافقون على العقيدة السنية
وقد روى الإمامان ابن عبد البر والطبري بسنديهما عن الإمام الأصمعي قال سأل إعرابي عن القدر فقال ذلك علم اختصمت فيه الظنون وغلا فيه المختصمون والواجب علينا أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه
وقال الأصمعي سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول أشهد أن الله يضل من يشاء وله الحجة البالغة على عباده وغير ذلك مما رواه غير إمام بإسناده وهو اعتقاد كافة العرب كما رواه الإمام ثعلب قال لا أعلم عربيا قدريا قيل له يقع في قلوب العرب القول بالقدر
قال معاذ الله ما في العرب إلا مثبت للقدر خيره وشره أهل الجاهلية والإسلام وذلك في أشعارهم وكلامهم كثير
وكذا حكاه عمر بن عبد العزيز وقتادة كما تقدم وحكاه أيضا ثعلب عن سائر العجم والله أعلم (1/151)
وقلت قد اقتصرت على نقل هذه النبذة اليسيرة عن يسير من العلماء القائلين بذلك من الأصناف المذكورة ممن طبق وجه الأرض ذات الطول والعرض
وعلى الجملة فقد انعقد الإجماع من الصحابة فمن بعدهم قبل ظهور الابتداع (1/152)
بيان إجماع الصحابة على إثبات القدر بما صح من الدليل واشتهر
روى الإمام الطبري بسنده إلى سعيد بن أبي مريم وهو عنه احتج به البخاري ومسلم قال أخبرنا مالك وابن أبي الزناد عن عمر وعن طاوس قال أدركت ثمانمائة من أصحاب رسول الله يقولون كل شيء بقدر قلت هكذا هو في الأصل المنقول منه ثمان مائة بحذف الياء التي بعد النون
وروى أيضا بسنده إلى أبي الأسود الدؤلي أنه قال ما رأيت أحدا من أصحاب رسول الله إلا مثبت القدر
وروى الإمام مالك في الموطأ عن طاوس أنه قال أدركت ناسا من أصحاب رسول الله يقولون كل شيء بقدر حتى العجز والكيس
أو الكيس والعجز هكذا رواه يحيى بن يحيى وابن مصعب وغيرهما عن مالك
وهكذا رواه مسلم قال الإمام بن عبد البر ورواه ابن وهب والقعنبي أدركت أصحاب رسول الله يقولون كل شيء بقدر
وروى الإمام البيهقي بسنده الصحيح إلى حماد بن زيد قال أدركت الناس وما كلامهم إلا أن قضى وقدر (1/153)
وقد ثبت في الصحاح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال نفر من قدر الله إلى قدر الله بمحضر جمهور المهاجرين الأنصار فأقروه على ذلك من غير إنكار
وكذلك صح عنه ما قدمت بعضه وهو ما روى الإمام البيهقي بسنده الصحيح إلى حماد عن خالد الحذاء عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر بن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال خطبنا عمر ابن الخطاب بالجابية فحمد الله وأثنى عليه فلما أتى على من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له قال له الجاثليق إن الله لا يهدي ولا يضل فقال عمر كذبت يا عدو الله بل الله خلقك وهو أضلك وهو يدخلك النار إن شاء الله والله لولا لوث عهدك لضربت عنقك
وكذلك رواه الإمام الطبري بسنده الصحيح إلى الإمام سفيان الثوري وغيره عن خالد الحذاء بسنده المذكور وقال فيه بل الله خلقك والله أضلك ثم يميتك فيدخلك النار إن شاء الله وذكر ما تقدم
ثم قال إن الله تعالى خلق الخلق وكتب أو قال حين خلق الخلق أو قال حين خلق آدم كتب أهل الجنة وما هم عاملون وكتب أهل النار وما هم عاملون ثم قال هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه فيفرق الناس وما تخلف في القدر اثنان
وكذلك ما قدمت عنه بسند الإمام البيهقي أنه كان كثيرا ما يقول على المنبر وخفض عليك فإن الأمور بكف الإله مقاديرها مع البيت الثاني (1/154)
وكذلك ما قدمت بسند الإمام مالك في الموطأ عن ابن الزبير أنه كان يقول في خطبته إن الله هو الهادي والفاتن وكل هذا المذكور واقع في مجامع المهاجرين والأنصار ومستفيض بينهم من غير إنكار وكذلك إجماع السلف والخلف مطلقا على قول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وكل هذا على وجه الإجمال والتعميم
وقد قدمت أنه روى أحاديث إثبات القدر فوق ثلاثين صحابيا مع التسمية لهم والتابعين وذكرت كلام جماعة منهم في إثباته على وجه التفصيل والتبيين من أجلائهم وكبارهم من أهل البيت وغيرهم
قلت وإذا علم ما روينا وتقرر علم أن مذهب الحق الأنور ومنهج السنة الأزهر أن كل خير وشر ونفع وضر بقضاء وقدر
ومن ذلك أن كل طاعة وعصيان وإساءة وإحسان وسائر أفعال العباد وأقوالهم وعلمهم وأعمالهم ونياتهم وعقيداتهم وسائر حركاتهم وسكناتهم وكلما قدر الله تعالى مقدوره من أجر وثواب وحساب وعقاب فهو الحكم الحق اللائق بحكمته والسابق في علمه الجاري في طريقي الفضل والعدل إلى جميع خلقه ولا ظلم ولا جور إلا فيما وقع مخالفا لأمره ونهيه
وقد قدمت الكلام في بيان ذلك وتقريره وتحريره وتحقيقه وكل أفعال الله تعالى متساوية بالنسبة إلى الحكم الإلهية وإنما يختلف مراتبها بالإضافة إلى البرية
قال نقاد الأنظار وأستاذ النظار فحل المتكلمين إمام الحرمين رضي الله عنه ولولا أنه شاع في ألفاظ عصبة الحق أنه تعالى خالق الخير (1/155)
والشر لكان سر التوحيد يوجب أن يقال ليس في أفعال الله خير وشر بالإضافة إلى العبد قال وقد نبه على هذا رسول الله حيث قال خلق الله آدم ثم أخذ الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي
قلت وهذا الحديث رويناه في صحيح أبي حاتم بن حبان كما قدمت (1/156)
بيان الاستدلال والاستشهاد على خلق الله تعالى أفعال العباد
الدليل على ذلك مع ما قدمنا من المعقول والمنقول من الآيات وأحاديث الرسول وبلغه من أمته نهاية السؤال قوله عز و جل فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون سلب عنهم القتل والرمي والزرع مع مباشرتهم لذلك وأثبت فعل المذكورات لنفسه وأخبر أنه خلق الذي تمنون ودخل في ذلك ما يمنى في الطاعة والمعصية معا
فما تقول أيها المعتزلي في مني الزاني وشهوته للزنا وقدرته عليه خلق ذلك كله أم لا وكذلك ولد الزنا وهل كان الأصلح له (1/157)
أن يكون ولد زنا أو ولد حلال وكذلك قوله تعالى إنه هو أضحك وأبكى من أضحك الكافر عند سروره بقتله للمسلم وحصول غرضه في جميع فجوره ومن أبكى المسلم حزنا عند قتل الكافر أباه وأخاه وهل المضحك والمبكي إلا من صدر عنه الإضحاك والإبكاء وإذا كان الأمر كذلك ولا سبيل إلى أن تقول غير ذلك ألزمتك ما لا تجد عنه محيصا ولا ترى لك منه خلاصا وهو أن أقول في تقدير ذلك القتل سبب لضحك القاتل والسبب متوقف على مسبب يوجده ومتوقف علي مسبب بالفتح يصدر عنه ينسب ذلك المسبب تارة إلى المسبب وتارة إلى السبب
تقول أحيا الله الأرض وأحياها المطر وأضحك الله سنك وأضحكتك نعمة الله فالمسبب بالفتح هو الضحك والسبب هو النعمة والمسبب هو خالقها
ثم المسبب بالفتح متوقف على السبب المتوقف على المسبب من حيث الجملة
والمتوقف على المتوقف على شيء متوقف على ذلك الشيء فالمسبب متوقف على المسبب والمتوقف على شيء لا يوجد إلا بذلك الشيء ومسبب الأسباب هو رب الأرباب
فجميع الأسباب والمسببات لا توجد إلا به والقتل في الصورة المذكورة سبب والضحك مسبب فلا يوجد إلا به هو المطلوب والحمد لله
وأقول أيضا مسبب الأسباب موجدها والموجد هو الخالق ومسبب الأسباب هو الله فخالق الأسباب هو الله والقتل المذكور سبب للضحك فخالقه هو الله وهو فعل العبد ففعل العبد خالقه الله فثبت ما ذكرنا من كون أفعال العباد خلق الله وهو المطلوب والحمد لله (1/158)
وأقول أيضا أفعال العباد موجدها هو المولى لقوله جل و علا وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فنص الله تعالى على أنه هو الرامي والرامي موجد الرمي والرمي فعل العبد فصح وثبت ما ذكرنا من خلقه تعالى أفعال العباد وذلك هو المطلوب والمراد والحمد لله الذي من يهده فلا مضل له ومن يضلل فما له من هاد
ثم أفعال العباد مشتملة على طاعات ومعاصي كما قررت لك في القتل وكذلك لك الضحك المرتب عليه وهو المضحك تعالى بالدليل القاطع من العقل والنقل
فخالق الكل هو الله الحكم العدل القاضي بذلك والخالق له بالقدرة المقارنة للفعل التي بها قدر العبد عليه والناهي عنه حكمه وابتلاء المعاقب للمخالف إن شاء على كسبه يوم رجوعه إليه ولغير الموجد فلا بد لقوله الصدق في القرآن المجيد الذي لآ يأتيه الباطل من بين يديه لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد حيث قال سبحانه وتعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
فإن قلت قوله تعالى أضحك وأبكى محمول على غير ما ذكرت ففي تفسيره أقوال مشهورات منها ما قيل أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات وإلى ذلك أشار القائل بقوله
أما ترى الأرض قد أعطتك زهرتها ... مخضرة واكتسى بالنور عاريها
وللسماء بكاء في جوانبها ... وللربيع ابتسام في نواحيها
قلت الضحك والبكاء حقيقة في المعروفين بين الناس المشهورين (1/159)
والحقيقة هي الأصل الذي عليه التعويل ولا يعدل عنه إلا بدليل وذلك أيضا هو الظاهر وإليه الفهم مبادر
فإن سلمت ذلك وادعيب التخصيص فيه قلت خلاف الأصل
فإن قلت لا نسلم أن الضحك يكون معصية قلت من زعم أن الضحك للسرور بحصول الغرض من الشرور كالقتل وسائر الفجور ليس هو من المحذور فهو في جحد القطعيات يسعى فإن السرور بالمعصية معصية قطعا وكذلك قوله تعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار
وقوله سبحانه هو الذي يسيركم في البر والبحر والسير قد يكون في المصيبة
وقوله تعالى وخلق كل شيء فقدره تقديرا
وقوله سبحانه من يضلل الله فلا هادي له سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة
قلت والكتاب العزيز مشحون بالآيات الكريمات والمصرحات بخلقه تعالى لأفعال العباد وإرادته لها وتعداد ذلك يطول وآية واحدة تكفي أولي العقول (1/160)
وقد استدل أصحابنا بقوله تعالى والله خلقكم وما تعملون قالوا وما مصدرية أي خلقكم وأعمالكم
وقول المعتزلة إنها موصولة ومعناها والذي تعملون مخالف للظاهر ومحتاج إلى إضمار أي والذي تعملون فيه البحث من الحجارة والاضمار خلاف للأصل
ولو فتحنا باب حمل الأدلة على خلاف ظواهرها أو على زيادة الإضمار فيها لأزيلت الظواهر كلها وبطل الاستدلال بها
وقول المعتزلة إن إبراهيم عليه السلام احتج على الكفار بأن العابد والمعبود جميعا خلق الله ومعبودهم هو الحجارة ممنوع
قلت وتقرير المنع أنهم كانوا يحدثون فيها تصويرا وتمثالا لأجله اتخذوا الأصنام آلهة وعبدوها والدليل عليه قول إبراهيم عليه الصلاة و السلام ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون فأخبر أن عكوفهم إنما هو التماثيل
والتماثيل تصاوير في الحجارة لا صورة الحجارة التي خلقت عليها
والتماثيل عملهم فمعبودهم الذي عكفوا عليه عملهم ومعبودهم خلق الله إجماعا فعملهم خلق الله وهو المطلوب والحمد لله فإن قيل يمتنع أن يكون التمثيل آلهة لأن التمثيل عمل والعمل عرض والعرض لا يتصور اتخاذه آلهة قلت الجواب من وجهين أحدهما منع امتناع اتخاذ الأعراض آلهة بدليل قوله تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه والهواء عرض بالاتفاق (1/161)
والثاني أن التماثيل والتصويرية صارت الحجارة على صورة غير صورتها المخلوقة عليها لولا تلك الصورة ما عبدوها فمعبودهم هو الصورة التي مثلوها وهو عملهم فمعبودهم عملهم ومعبودهم خلق الله كما تقدم فعملهم خلق الله وهو المطلوب والله أعلم
ويؤيد ما ذكرنا من أن الأعمال خلق الله عز و جل ما روى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي قال إن الله يصنع كل صانع وصنعته وتلا بعض الرواة عند ذلك والله خلقكم وما تعملون قال البخاري فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة قال وسمعت عبد الله بن سعيد يقول سمعت يحيى بن سعيد يقول ما زلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة
ورواه البيهقي في كتاب القدر ولفظه إن الله خلق كل صانع وصنعته وقال هذا إسناد صحيح
وروي في كتاب الاعتقاد بسند صحيح إلى قتادة في قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون قال خلقكم وخلق ما تعملون بأيديكم قلت وعلى الجملة فقد قال أئمتنا من الأولياء والعلماء أثبت الله تعالى الخلق لنفسه ونفاه عن غيره بقوله عز و جل ألا له الخلق والأمر
ولما قرئت هذه الآية بين يدي الشيخ الكبير العارف بالله عمر النهاري الشهير قال تعالوا نقتسم ما بقي قلت يعني أنه لم يغير الله تعالى شيء من الخلق والأمر (1/162)
والأحاديث الدالة على ما ذكرنا من خلق الأفعال والهداية والإضلال وسبق المقادير في أزل الآزال خارجة عن الحصر والتعداد مشهورة صحيحة الإسناد وقد قدمت منها ما فيها الكفاية لمن وفق للهداية
وقد روينا في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له الحديث
وروينا في سنن أبي داود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال علمنا رسول الله خطبة الحاجة الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له قال الترمذي حديث حسن
وروينا في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي كان يتعوذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء
وروينا في صحيح مسلم أن رسول الله قال يوم بدر اللهم إنك إن تشأ لا يعبد في الأرض قال العلماء فيه التسليم لقدر الله تعالى والرد على غلاة القدرية الزاعمين أن الشر غير مراد ولا مقدور لله تعالى عن قولهم
قال أئمتنا وقد اتفق سلف الأمة وخلفها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء السلف الصالحين رضي الله عنهم أجمعين على أن الخالق المبدع هو الله لا خالق سواه ولا مبدع إلا إياه خلق الخلق وصنعهم وأوجد قدرتهم وحركتهم فلا يكون شيء إلا بخلقه وإبداعه وإرادته وقضائه (1/163)
بيان معنى الاستطاعة القائمة بالعباد التي يصدر عنها أفعالهم على وجه الصلاح أو الفساد وبيان التوفيق والخذلان والهدى والضلال
قال أئمتنا سلامة الجوارح وانتفاء الموانع الظاهرة لا يوجد الفعل من الفاعل بمجردها بل لا بد من قوة خاصة متجددة من عند الله تعالى يخلقها في العبد وهي على حسب ما يخلق الله تعالى فيه فإن فعل بها خيرا سمي توفيقا وعصمة وتأييدا وإن فعل فيها شرا سمي خذلانا وإن فعل مباحا سمي عونا
وهذه الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل ويسبقها خلق العزم عليه فلا بد في الأفعال الاختيارية من خلق الله تعالى لأعضاء ولحركة فيها ولقوة وهمة يصدر بها الأفعال والله خالق للشخص ولقواه ولعزمه وأفعاله
والدليل على خلق القوة والهمة إجماع المسلمين على سؤال الله التوفيق والاستعاذة من الخذلان وما سألوه إلا ما هو بيده وقادر عليه
قال شعيب عليه السلام وما توفيقي إلا بالله فهو تعالى خالق العضو المتحرك والقوة فيه والحركة الناشئة منه وخالق العبد واختياره ولا يخرج شيء عن خلقه وقدرته فله الخلق والأمر وبه الحول والقوة (1/164)
والتوفيق هو خلق قدرة الطاعة والخذلان خلق قدرة المعصية فالموفق لا يعصى إذ لا قدرة له على المعصية وكذلك القول في نقيضه
قلت والمراد بقوله والموفق لا يعصى أن الموفق بشيء أو في وقت لا يقدر يعصي فيهما مطلقا إلا أن يكون موفقا مطلقا كالملائكة والأنبياء عليهم السلام
وذلك هو العصمة مختصة بهم وكذلك النقيض المذكور فالمخذول والعياذ بالله في شيء أو في وقت لا يقدر يطيع فيهما والمخذول مطلقا يمتنع عليه الطاعة كالشياطين نعوذ بالله منهم
وصرفت المعتزلة التوفيق إلى خلق لطف يعلم الرب تعالى أن العبد يؤمن عنده وحملوا الخذلان على امتناع اللطف ولا يقع عندهم في علوم الله اللطف في حق كل أحد بل منهم من علم تعالى أنه يؤمن إذا لطف به ومنهم من علم أنه لا يزيده إلا تماديا في الطغيان وإصرارا على العدوان
قال إمام الحرمين ويلزمهم من مجموع أصلهم أن يقولوا أن لا يتصف الرب تعالى بالاقتدار على أن يوفق جميع الخلائق وهذا خلاف الدين ونصوص الكتاب المبين وقد قال سبحانه ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها وقال تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة إلى غير ذلك انتهى
قال أصحابنا وإذا صحت الجوارح وارتفعت الموانع الحسية سميت استطاعة يتوجه بسببها التكليف وهذه الاستطاعة تكون قبل الفعال ومعه مستصحبة إلى تمامه ليتمكن منه
وهذه الاستطاعة هي محل نظر الفقيه لتعلقها بفروع الدين وأما ما يتعلق بأصوله فنظر الأصولي في استطاعة (1/165)
أخرى وزائدة لا حيلة للعبد فيها وهي ما تقدم ذكره أعني القوة الواردة من الله تعالى للتوفيق والخذلان أو العون على ما تقدم من البيان وذلك هو خلق الله للفعل فيمن ظهر منه وبسبب ظهوره من الفاعل ينسب إليه وسمي كسبا ويرتب عليه الثواب في امتثال المأمورات والعقاب في ارتكاب المحظورات
قلت ولو قيل وبسبب ظهوره من الفاعل واختياره لكان أولى ليخرج عنه غير المختار فإذا الاستطاعة استطاعتان إحداهما استطاعة التكليف وهي ما ذكرنا من سلامة الجوارح وارتفاع الموانع الحسية وقد يعبر عن ذلك باجتماع شروط معروفة في المكلف
والثانية استطاعة الفعل وهي القوة المذكورة
وخالفت المعتزلة في ذلك فزعموا أن الاستطاعة إنما هي قبل الفعل وهي سلامة الجوارح وارتفاع الموانع فقط وأن القدرة المتقدمة على الفعل باقية فيه
وهذا القول باطل من جهتي العقل والنقل أما العقل فلأن القدرة الجاذبة أعني قدر العبد عرض من الأعراض وجملة الأعراض عندنا غير باقية أعني لا يبقى العرض زمانين
والدليل على استحالة بقاء الأعراض أنها لو بقيت لاستحال عدمها وتقرير ذلك قد تقدم ويلزم صدور المقدور في حال عدم القدرة وهو محال
وأما النقل فقال الله عز و جل وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم كاذبون إلى قوله تعالى فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين (1/166)
قلت ووجه الاستدلال بذلك أن الله تعالى كذبهم في نفي الاستطاعة الأولى التي هي صحة الجوارح وارتفاع الموانع وهي مناط التكليف فإنها موجودة فيهم ولكنهم عدموا الاستطاعة الثانية التي هي خلق قدرة الطاعة المقارنة للفعل المسماة بالتوفيق التي نقيضها الخذلان الذي منعهم من الخروج على التحقيق بدليل قول أصدق القائلين فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين
قلت والشواهد الدالة على ما ذكرنا من الاستطاعة الثانية التي أثبتها أهل الحق يطول ذكرها بل يتعذر حصرها ومنها قوله تعالى ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون وقوله للذي أراد قتله لم تكن لتستطيع الذي أردت وذلك ما روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين أنه جاء رجل إلى رسول الله فقال من أنت قال أنا نبي قال وما نبي قال رسول الله قال متى تقوم الساعة فقال غيب ولا يعلم الغيب إلا الله قال أرني سيفك فأعطاه النبي سيفه فهزه الرجل ثم رده عليه فقال رسول الله أما إنك لم تكن تستطيع الذي أردت قال الحاكم أبو عبد الله على شرط مسلم
الحاكم أبو عبد الله على شرط مسلم
قلت وهذا في بعض الغزوات وقضيته مشهورة في وقت القيلولة تحت الأشجار عندما حمى النهار ولا حاجة إلى كثرة الاستشهاد وتتبع ما هو خارج عن الحصر فالمراد حاصل من ذلك بهذا القدر
قلت ومن الفوائد الغريبة المطرية العجيبة ما ذكر الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو طالب المكي رضي الله عنه قال كنت مرة خاطبت بعض أصحابنا في مسألة الاستطاعة أنها مع الفعل لا قبله ولا (1/167)
بعده فتكلمت بذلك في المشيئة على مذهب أهل الكلام المختلفين فيها قبل أن ينكشف لي مشاهدة علم اليقين فرأيت في النوم قائلا يقول القدر من القدرة والقدرة صفة القادر والقدر يقع على الحركة ويظهر الأفعال من الجوارح ولا يتبين فكيف تتكلم في شيء لا يتبين فجعلت على نفسي أن لا أناظر أحدا في هذا الباب
قال وحدثت عن بعض المشايخ قال كان في نفسي شيء من هذا القدر فكنت استكشفه فلا ينكشف حتى لقيت بعض الابدال فاستكشفته إياه فقال لي ويحك ما تصنع بالاحتجاج نحن ينكشف لنا عن سر الملكوت فننظر إلى الطاعات تنزل صورا من السماء حتى تقع على جوارح قوم فيتحرك الجوارح بها وننظر إلى المعاصي تنزل صورا من السماء على جوارح قوم فيتحرك الجوارح بها فكشف الله عن قلبي القدر أو قال الجهل بالقدر وأخلف لي العلم بمشاهدة القدرة
وقال الخلق أهون من أن يفعلوا شيئا لا يريده الله تعالى من المعاصي أو الطاعات
وقد ظهر صحة قولنا وبطلان قولهم من طريقي العقل والنقل صحة وبطلانا واضحين للناظر المعتبر وناهيك بذلك وضوحا للمستيقظ المستبصر أنهم زعموا أن مقدورات العباد ليست مقدورات للرب تعالى
قال أئمتنا وسبيلنا أن نسألهم هل كان الرب سبحانه قبل أن يقدر عبده على ذلك موصوفا بالاقتدار على ما كان في معلومه أنه سيقدره عليه أم لا فإن قالوا لا فقد ظهر بطلان ما قالوا وقال بعضهم فقد كفروا لتعجيزهم ربهم سبحانه فيما هو من جملة الممكنات ولم يتعلق به قدرة العبد بعد
وإن قالوا نعم قلنا كيف يكون باقتداره العبد عليه خارجا عن (1/168)
مقدوره بعد أن كان عليه قادرا وصفاته تعالى تستحيل أن تتبدل أو تنتقص وتتغير وليس لهم شبهة تبدونها لدفع ما لزمهم في هذا من الباطل الشنيع والضلال الفظيع سوى ما زعموا من استحالة مقدور بين قادرين وهذا كلام جاهل لم يحط بالمسألة تحقيقا أو مكابر لكونه لم يجد إلى الخلاص مما لزمه طريقا
فإن أهل الحق يعتقدون تفرد الباري سبحانه بالخلق والاختراع فلا خالق سواه تعالى وهو يعتقدون تفرد العبد بخلق أعماله فلا خالق سواه لها
وإذا كان المذهبان في المسلكين المذكورين سالكين وعن المنهلين المذكورين صادرين فأين ما زعموه من مقدور بين قادرين
قال إمام الحرمين ولو تناقص في معتقد المخالف بقاؤه مقدورا لله مع تجدد تعلق قدرة العبد به فاستبقى كونه مقدورا للرب
وانتفاء كونه مقدورا للعبد أولى من انقطاع تعلق كون الرب تعالى قادرا عليه لتجدد كونه مقدورا للعبد
وإذا ثبت وجوب كون مقدور العبد مقدورا لله فكما هو مقدوره تعالى فإنه محدثه وخالقه إذ من المحال أن يتفرد العبد باختراع ما هو مقدور الله تعالى (1/169)
بيان كسب العبد لأفعاله ونسبتها إليه مع خلق الله لها وتقديرها عليه
اعلم أن جميع ما قدرنا من انفراد الباري تعالى بخلق أفعال العباد واختراعها وإيجادها وإبداعها خيرها وشرها نفعها وضرها لا يخرجها عن كونها مقدورة للعبد يخلق الله له قدرة يقوى بها على الاكتساب
فهو تعالى خالق المسببات والأسباب خلق القادر والقدرة والمقدور معا وخلق الاختيار والمختار جميعا خلقنا وخلق الفعل فينا والله خلقكم وما تعملون وخلق فينا اختيارنا وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين
وأظهر فينا الاكتساب ومكننا منه بخلق الداعية إليه والقدرة عليه فالداعية مخلوقة قبله والقدرة مقارنة له خلافا للمعتزلة وقد قدمنا في ذلك الأدلة ونسب الفعل إلينا لظهوره فينا واختيارنا له واكتسابنا
وقد تقدم بيان الاستطاعة وأن الباري تعالى خالق كل شيء ومن ذلك المعصية والطاعة
وقد نطق القرآن الكريم بما ذكرنا من خلق الله أفعالنا بواسطة (1/170)
اكتسابنا قال الله العظيم قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم فهو المعذب الموجد للعذاب بما أجرى على أيدي السادات الصحاب ونالوا به المجد والثواب بالهمم العوالي والاكتساب وكذلك قوله عز و جل لنبيه الكريم المبجل قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا أي عذاب ينزله من السماء أو يظهره في الأرض بغير واسطة بسبب صاعقة او خسف أو غير ذلك مما به العطب أو بواسطة أيدينا رميا وضربا وطعنا بالقنا ويكون هو المعذب كما قال جل وعلا وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
وقد صرح بما ذكرنا من الخلق والكسب قول الباري قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري
فيا ليت شعري ما جواب المعتزلة عن هذا وأمثاله وماذا عسى أن يجيبوا فيا ليتهم فهموا قوله تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا فيرجعوا عن اعتقادهم الباطل وإلى الحق ينيبوا ويتحققوا الحق في قول الحق حاكيا عن الكليم الذي فضله فتنا أن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء
وعلى الجملة فليس يؤثر في جميع الوجود إلا قدرة الموجد لكل موجود ولا يقع من جميع الأشياء في ملكه ما لا يشاء فلو لم يرد من أحد عصيانا لما خلق لكل إنسان شيطانا بل ما كان يخلق لعقاب نارا ولا يسمي نفسه غفارا (1/171)