ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله { بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ } وإن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن بل قول مخلوط بهزؤ ولعب { فارتقب } فانتظر { يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ } يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص . وقيل : إن قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال : " اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز ، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان وكان يحدث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان { مُّبِينٍ } ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان { يَغْشَى الناس } يشملهم ويلبسهم وهو في محل الجر صفة ل { دُخَان } وقوله { هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ } أي سنؤمن إن تكشف عنا العذاب منصوب المحل بفعل مضمر وهو يقولون ويقولون منصوب المحل على الحال أي قائلين ذلك { أنى لَهُمُ الذكرى } كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب { وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } أي وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الاذّكار من كشف الدخان ، وهو ما ظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات والبينات من الكتاب المعجز وغيره فلم يذكروا وتولوا عنه وبهتوه بأن عدّاساً غلاماً أعجمياً لبعض ثقيف هو الذي علمه ونسبوه إلى الجنون { إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلاً } زماناً قليلاً أو كشفاً قليلاً { إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } إلى الكفر الذي كنتم فيه أو إلى العذاب { يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى } هي يوم القيامة أو يوم بدر { إِنَّا مُنتَقِمُونَ } أي ننتقم منهم في ذلك اليوم . وانتصاب { يَوْمَ نَبْطِشُ } ب «اذكر» أو بما دل عليه { إِنَّا مُنتَقِمُونَ } وهو ننتقم لا ب { مُنتَقِمُونَ } لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها . { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ } قبل هؤلاء المشركين أي فعلنا بهم فعل المختبر ليظهر منهم ما كان باطناً { قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } على الله وعلى عباده المؤمنين ، أو كريم في نفسه حسيب نسيب لأن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا من سراة قومه وكرامهم { أَنْ أَدُّوآ إِلَىَّ } هي «أن» المفسرة لأن مجيء الرسول إلى من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله ، أو المخففة من الثقيلة ومعناه وجاءهم بأن الشأن والحديث أدوا إليَّ سلِّموا إلي { عِبَادَ الله } هو مفعول به وهم بنو إسرائيل يقول : أدوهم إلي وأرسلوهم معي كقوله :(3/303)
{ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل وَلاَ تُعَذّبْهُمْ } [ طه : 47 ] . ويجوز أن يكون نداء لهم على معنى أدوا إلي يا عباد الله ما هو واجب لي عليكم من الإيمان لي وقبول دعوتي واتباع سبيلي ، وعلل ذلك بقوله { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي على رسالتي غير متهم { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله } «أن» هذه مثل الأولى في وجهيها أي لا تستكبروا على الله بالاستهانة برسوله ووحيه ، أو لا تستكبروا على نبي الله { أَنِّى ءَاتِيكُم بسلطان مُّبِينٍ } بحجة واضحة تدل على أني نبي { وَإِنِّى عُذْتُ } مدغم : أبو عمرو وحمزة وعلي { بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } أن تقتلوني رجماً ومعناه أنه عائذ بربه متكل على أنه يعصمه منهم ومن كيدهم فهو غير مبالٍ بما كانوا يتوعدونه من الرجم والقتل { وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون } أي إن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن فتنحوا عني ، أو فخلوني كفافاً لا لي ولا عليَّ ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم ، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم ذلك . { ترجموني } ، { فاعتزلوني } في الحالين : يعقوب .(3/304)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
{ فَدَعَا رَبَّهُ } شاكياً قومه { أَنَّ هَؤُلآءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } بأن هؤلاء أي دعا ربه بذلك . قيل : كان دعاؤه : اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم . وقيل : هو قوله { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين } وقرىء { إِنَّ هَؤُلآء } بالكسر على إضمار القول أي فدعا ربه فقال إن هؤلاء { فَأَسْرِ } من أسرى . { فَأَسْرِ } بالوصل : حجازي من سرى والقول مضمر بعد الفاء أي فقال أسر { بِعِبَادِى } أي بني إسرائيل { لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } أي دبر الله أن تتقدموا ويتبعكم فرعون وجنوده فينجي المتقدمين ويغرق التابعين { واترك البحر رَهْواً } ساكناً . أراد موسى عليه السلام لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق فأمر بأن يتركه ساكناً على هيئته قاراً على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبساً لا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئاً ليدخله القبط ، فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم . وقيل : الرهو : الفجوة الواسعة أي اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً { إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } بعد خروجكم من البحر ، وقرىء بالفتح أي لأنهم . { كَمْ } عبارة عن الكثرة منصوب بقوله : { تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } هو ما كان لهم من المنازل الحسنة وقيل : المنابر { وَنَعْمَةٍ } تنعم { كَانُواْ فِيهَا فاكهين } متنعمين { كذلك } أي الأمر كذلك فالكاف في موضع الرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر { وأورثناها قَوْماً ءَاخَرينَ } ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء وهم بنو إسرائيل { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض } لأنهم ماتوا كفاراً ، والمؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض فيبكي على المؤمن من الأرض مصلاه ومن السماء مصعد عمله ، وعن الحسن : أهل السماء والأرض { وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } أي لم ينظروا إلى وقت آخر ولم يمهلوا .
{ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسراءيل مِنَ العذاب المهين } أي الاستخدام والاستعباد وقتل الأولاد { مِن فِرْعَوْنَ } بدل من { العذاب المهين } بإعادة الجار كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم ، أو خبر مبتدأ محذوف أي ذلك من فرعون { إِنَّهُ كَانَ عَالِياً } متكبراً { مِّنَ المسرفين } خبر ثانٍ أي كان متكبراً مسرفاً { وَلَقَدِ اخترناهم } أي بني إسرائيل { على عِلْمٍ } حال من ضمير الفاعل أي عالمين بمكان الخيرة وبأنهم أحقاء بأن يختاروا { عَلَى العالمين } على عالمي زمانهم { وءاتيناهم مِنَ الأيات } كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك { مَا فِيهِ بَلَؤٌاْ مُّبِينٌ } نعمة ظاهرة أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون { إِنَّ هَؤُلآءِ } يعني كفار قريش { لَيَقُولُونَ إِنْ هِىَ } ما الموتة { إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى } والإشكال أن الكلام وقع في الحياة الثانية لا في الموت ، فهلا قيل : إن هي إلا حياتنا الأولى؟ وما معنى ذكر الأولى كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى جحدوها وأثبتوا الأولى؟ والجواب أنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة وذلك قول تعالى :(3/305)
{ وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] فقالوا : إن هي إلا موتتنا الأولى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلا الموتة الأولى فلا فرق إذاً بين هذا وبين قوله { إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } [ الأنعام : 29 ] في المعنى . ويحتمل أن يكون هذا إنكاراً لما في قوله : { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } [ غافر : 11 ] { وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } بمبعوثين يقال : أنشر الله الموتى . ونشرهم إذا بعثهم { فَأْتُواْ بِئَابَآئِنَا } خطاب الذين كانوا يعدونهم النشور من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين { إِن كُنتُمْ صادقين } أي إن صدقتم فيما تقولون فعجلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ذلك حتى يكون دليلاً على أن ما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى حق .
{ أَهُمْ خَيْرٌ } في القوة والمنعة { أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } هو تبع الحميري كان مؤمناً وقومه كافرين . وقيل : كان نبياً في الحديث : « وما أدرى أكان تبع نبياً أو غير نبي » { والذين مِن قَبْلِهِمْ } مرفوع بالعطف على { قَوْمُ تُبَّعٍ } { أهلكناهم إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } كافرين منكرين للبعث { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ } أي وما بين الجنسين { لاَعِبِينَ } حال ولو لم يكن بعث ولا حساب ولا ثواب كان خلق الخلق للفناء خاصة فيكون لعباً { مَا خلقناهمآ إِلاَّ بالحق } بالجد ضد اللعب { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنه خلق لذلك .
{ إِنَّ يَوْمَ الفصل } بين المحق والمبطل وهو يوم القيامة { ميقاتهم أَجْمَعِينَ } وقت موعدهم كلهم { يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } أيّ ولي كان عن أي ولي كان شيئاً من إغناء أي قليلاً منه { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } الضمير للمولى لأنهم في المعنى لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كل مولى { إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله } في محل الرفع على البدل من الواو في { يُنصَرُونَ } أي لا يمنع من العذاب إلا من رحمة الله { إِنَّهُ هُوَ العزيز } الغالب على أعدائه { الرحيم } لأوليائه .
{ إنّ شَجَرَةَ الزقوم } هي على صورة شجرة الدنيا لكنها في النار والزقوم ثمرها وهو كل طعام ثقيل { طَعَامُ الأثيم } هو الفاجر الكثير الآثام . وعن أبي الدرداء أنه كان يقرىء رجلاً فكان يقول : طعام اليتيم . فقال : قل طعام الفاجر يا هذا . وبهذا تستدل على أن إبدال الكلمة مكان الكلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها ، ومنه أجاز أبو حنيفة رضي الله عنه القراءة بالفارسية بشرط أن يؤدي القارىء المعاني كلها على كمالها من غير أن يخرم منها شيئاً .(3/306)
قالوا : وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة لأن في كلام العرب خصوصاً في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والدقائق ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها . ويُروى رجوعه إلى قولهما وعليه الاعتماد { كالمهل } هو دردي الزيت ، والكاف رفع خبر بعد خبر { يَغْلِى فِى البطون } بالياء : مكي وحفص ( وقرىء بالتاء ) فالتاء للشجرة والياء للطعام { كَغَلْىِ الحميم } أي الماء الحار الذي انتهى غليانه ومعناه غلياً كغلي الحميم فالكاف منصوب المحل . ثم يقال للزبانية { خُذُوهُ } أي الأثيم { فاعتلوه } فقودوه بعنف وغلظة ، { فاعتلوه } مكي ونافع وشامي وسهل ويعقوب { إلى سَوَآءِ الجحيم } إلى وسطها ومعظمها { ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم } المصبوب هو الحميم لا عذابه إلا أنه إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدته وصب العذاب استعارة ويقال له { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } على سبيل الهزؤ والتهكم . { إِنَّكَ } أي لأنك : عليّ { إِنَّ هَذَا } أي العذاب أو هذا الأمر هو { مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } تشكون .
{ إِنَّ المتقين فِى مَقَامٍ } بالفتح وهو موضع القيام والمراد المكان وهو من الخاص الذي وقع مستعملاً في معنى العموم ، وبالضم : مدني وشامي وهو موضع الإقامة { أَمِينٍ } من أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو ضد الخائن ، فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره { فِى جنات وَعُيُونٍ } بدل من { مَقَامٍ أَمِينٍ } { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ } ما رقّ من الديباج { وَإِسْتَبْرَقٍ } ما غلظ منه وهو تعريب استبر ، واللفظ إذا عرب خرج من أن يكون أعجمياً لأن معنى التعريب أن يجعل عربياً بالتصرف فيه وتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب فساغ أن يقع في القرآن العربي { متقابلين } في مجالسهم وهو أتم للأنس { كذلك } الكاف مرفوعة أي الأمر كذلك { وزوجناهم } وقرناهم ولهذا عدي بالباء { بِحُورٍ } جمع حوراء وهي الشديدة سواد العين والشديدة بياضها { عِينٍ } جمع عيناء وهي الواسعة العين { يَدْعُونَ فِيهَا } يطلبون في الجنة { بِكلِّ فاكهة ءَامِنِينَ } من الزوال والانقطاع وتولد الضرر من الإكثار { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا } أي في الجنة { الموت } البتة { إِلاَّ الموتة الأولى } أي سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا . وقيل : لكن الموتة قد ذاقوها في الدنيا { ووقاهم عَذَابَ الجحيم فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ } أي للفضل فهو مفعول له أو مصدر مؤكد لما قبله لأن قوله { ووقاهم عَذَابَ الجحيم } تفضل منه لهم لأن العبد لا يستحق على الله شيئاً { ذلك } أي صرف العذاب ودخول الجنة { هُوَ الفوز العظيم فَإِنَّمَا يسرناه } أي الكتاب وقد جرى ذكره في أول السورة { بلسانك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يتعظون { فارتقب } فانتظر ما يحل بهم { إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } منتظرون ما يحل بك من الدوائر .(3/307)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
{ حم } إن جعلتها إسماً للسورة فهو مرفوعة بالابتداء والخبر { تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله } صلة للتنزيل ، وإن جعلتها تعديداً للحروف كان { تَنزِيلُ الكتاب } مبتدأ والظرف خبراً { العزيز } في انتقامه { الحكيم } في تدبيره { إِنَّ فِى السماوات والأرض لآيات } لدلالات على وحدانيته ، ويجوز أن يكون المعنى إن في خلق السماوات والأرض لآيات { لِلْمُؤْمِنِينَ } دليله قوله { وَفِى خَلْقِكُمْ } ويعطف { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ } على الخلق المضاف لأن المضاف إليه ضمير مجرور متصل يقبح العطف عليه { ءايات } حمزة وعلي بالنصب . وغيرهما بالرفع مثل قولك إن زيداً في الدار وعمراً في السوق أو وعمرو في السوق { لِِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ واختلاف اليل والنهار وَمَا أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِزْقٍ } أي مطر وسمي به لأنه سبب الرزق { فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرياح } { الريح } حمزة وعلي . { ءايات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } بالنصب : علي وحمزة ، وغيرهما بالرفع ، وهذا من العطف على عاملين سواء نصبت أو رفعت فالعاملان إذا نصبت «إن» و «في» . أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر في { واختلاف اليل والنهار } والنصب في { ءايات } . وإذا رفعت فالعاملان الابتداء و «في» . عملت الواو الرفع في آيات والجر في { واختلاف } هذا مذهب الأخفش لأنه يجوز العطف على عاملين ، وأما سيبويه فإنه لا يجيزه وتخريج الآية عنده ، أن يكون على اضمار «في» والذي حسنه تقديم ذكر «في» في الآيتين قبل هذه الآية ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه { وَفِى اختلاف اليل والنهار } ويجوز أن ينتصب { ءايات } على الاختصاص بعد انقضاء المجرور معطوفاً على ما قبله ، أو على التكرير توكيداً لآيات الأولى كأنه قيل : آيات آيات ، ورفعها بإضمار هي . والمعنى في تقديم الإيمان على الإيقان وتوسيطه وتأخير الآخر ، أن المنصفين من العباد إذا نظروا في السماوات والأرض نظراً صحيحاً علموا أنها مصنوعة وأنه لا بد لها من صانع فآمنوا بالله ، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وفي خلق ما ظهر على الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيماناً وأيقنوا ، فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بها بعد موتها ، وتصريف الرياح جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً ، عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم { تِلْكَ } إشارة إلى الآيات المتقدمة أي تلك الآيات { ءايات الله } وقوله { نَتْلُوهَا } في محل الحال أي متلوة { عَلَيْكَ بالحق } والعامل ما دل عليه { تِلْكَ } من معنى الإشارة { فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وءاياته } أي بعد آيات الله كقولهم «أعجبني زيد وكرمه» يريدون أعجبني كرم زيد { يُؤْمِنُونَ } حجازي وأبو عمرو وسهل وحفص ، وبالتاء غيرهم على تقدير قل يا محمد .(3/308)
{ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ } كذاب { أَثِيمٍ } متبالغ في اقتراف الآثام { يَسْمَعُ ءايات الله } في موضع جر صفة { تتلى عَلَيْهِ } حال من آيات الله { ثُمَّ يُصِرُّ } يقبل على كفره ويقيم عليه { مُسْتَكْبِراً } عن الإيمان بالآيات والإذعان لما تنطق به من الحق مزدرياً لها معجباً بما عنده . قيل : نزلت في النضر بن الحرث وما كان يشتري من أحاديث العجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن . والآية عامة في كل من كان مضاراً لدين الله . وجيء ب «ثم» لأن الإصرار على الضلالة والاستكبار عن الإيمان عند سماع آيات القرآن مستبعد في العقول { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } «كأن» مخففة والأصل كأنه لم يسمعها والضمير ضمير الشأن ومحل الجملة النصب على الحال أي يصر مثل غير السامع { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فأخبره خبراً يظهر أثره على البشرة .
{ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً } وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها { اتخذها } اتخذ الآيات { هُزُواً } ولم يقل اتخذه للإشعار بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء لأنه في معنى الآية كقول أبي العتاهية :
نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله والقائم المهدي يكفيها
حيث أراد عتبة { أولئك } إشارة إلى كل أفاك أثيم لشموله الأفاكين { لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } مخز { مِّن وَرَآئِهِمْ } من قدامهم الوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام { جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ } من الأموال { شَيْئاً } من عذاب الله { وَلاَ مَا اتخذوا } «ما» فيهما مصدرية أو موصلة { مِن دُونِ الله } من الأوثان { أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } في جهنم .(3/309)
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
{ هذا هُدًى } إشارة إلى القرآن ويدل عليه { والذين كَفَرُواْ بئايات رَبِّهِمْ } لأن آيات ربهم هي القرآن أي هذا القرآن كامل في الهداية كما تقول : زيد رجل أي كامل في الرجولية { لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ } هو أشد العذاب { أَلِيمٌ } بالرفع : مكي ويعقوب وحفص صفة ل { عذاب } وغيرهم بالجر صفة ل { رجز } { الله الذى سَخَّرَ لَكُمُ البحر لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ } بإذنه { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } بالتجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان واستخراج اللحم الطري { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض جَمِيعاً } هو تأكيد ما في السموات وهو مفعول { سَخَّرَ } وقيل : { جَمِيعاً } نصب على الحال { مِّنْهُ } حال أي سخر هذه الأشياء كائنة منه حاصلة من عنده ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هذه النعم كلها منه ، أو صفة للمصدر أي تسخيراً منه { إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ } أي قل لهم اغفروا يغفروا فحذف المقول لأن الجواب يدل عليه . ومعنى يغفروا يعفوا ويصفحوا . وقيل : إنه مجزوم بلام مضمر تقديره ليغفرو فهو أمر مستأنف وجاز حذف اللام للدلالة على الأمر { لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله } لا يتوقعون وقائع الله بأعدائه من قولهم لوقائع العرب أيام العرب . وقيل : لا يؤملون الأوقات التي وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها . قيل : نزلت في عمر رضي الله عنه حين شتمه رجل من المشركين من بني غفار فهم أن يبطش به { لِيَجْزِىَ } تعليل للأمر بالمغفرة أي إنما أمروا بأن يغفروا ليوفيهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة . وتنكير { قَوْماً } على المدح لهم كأنه قيل : ليجزي أيما قوم و { قَوْماً } مخصوصين بصبرهم على أذى أعدائهم . { لنجزى } شامي وحمزة وعلي . { ليُجْزَىَ قَوْماً } يزيد أي ليجزى الخير قوماً فأضمر الخير لدلالة الكلام عليه كما أضمر الشمس في قوله { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] لأن قوله { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشى } دليل على تواري الشمس ، وليس التقدير ليجزي الجزاء قوماً لأن المصدر لا يقوم مقام الفاعل ومعك مفعول صحيح ، أما إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل فجائز وأنت تقول جزاك الله خيراً { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من الإحسان .
{ مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } أي لها الثواب وعليها العقاب { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي إلى جزائه . { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب } التوراة { والحكم } الحكمة والفقه أو فصل الخصومات بين الناس لأن الملك كان فيهم { والنبوة } خصها بالذكر لكثرة الأنبياء عليهم السلام فيهم { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات } مما أحل الله لهم وأطاب من الأرزاق { وفضلناهم عَلَى العالمين } على عالمي زمانهم { وءاتيناهم بينات } آيات ومعجزات { مِّنَ الأمر } من أمر الدين { فَمَا اختلفوآ } فما وقع الخلاف بينهم في الدين { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ } أي إلا من بعد ما جاءهم ما هو موجب لزوال الخلاف وهو العلم وإنما اختلفوا لبغي حدث بينهم أي لعداوة وحسد بينهم { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } قيل : المراد اختلافهم في أوامر الله ونواهيه في التوراة حسداً وطلباً للرياسة لا عن جهل يكون الإنسان به معذوراً .(3/310)
{ ثُمَّ جعلناك } بعد اختلاف أهل الكتاب { على شَرِيعَةٍ } على طريقة ومنهاج { مِّنَ الأمر } من أمر الدين { فاتبعها } فاتبع شريعتك الثابتة بالحجج والدلائل { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال ودينهم المبني على هوى وبدعة وهم رؤساء قريش حين قالوا : ارجع إلى دين آبائك { إِنَّهُمْ } إن هؤلاء الكافرين { لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ والله وَلِىُّ المتقين } وهم موالوه وما أبين الفضل بين الولايتين .
{ هذا } أي القرآن { بصائر لِلنَّاسِ } جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب كما جعل روحاً وحياة { وَهُدَىً } من الضلالة { وَرَحْمَةٌ } من العذاب { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } لمن آمن وأيقن بالبعث { أَمْ حَسِبَ الذين } «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان { اجترحوا السيئات } اكتسبوا المعاصي والكفر ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله أي كاسبهم { أَن نَّجْعَلَهُمْ } أن نصيرهم وهو من «جعل» المتعدي إلى مفعولين فأولهما الضمير والثاني الكاف في { كالذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } والجملة التي هي { سَوَآءً محياهم ومماتهم } بدل من الكاف لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً فكانت في حكم المفرد ، { سَوَآء } علي وحمزة وحفص بالنصب على الحال من الضمير في { نَّجْعَلَهُمْ } ويرتفع { محياهم ومماتهم } ب { سَوَآء } . وقرأ الأعمش { ومماتهم } بالنصب جعل { محياهم ومماتهم } ظرفين كمقدم الحاج أي سواء في محياهم وفي مماتهم . والمعنى إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً وأن يستووا مماتاً لافتراق أحوالهم أحياء ، حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات وأولئك على اقتراف السيئات ، ومماتاً حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والكرامة وأولئك على اليأس من الرحمة والندامة ، وقيل : معناه إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة في الرزق والصحة ، وعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام فبلغ هذه الآية فجعل يبكي ويردد إلى الصباح ، وعن الفضيل أنه بلغها فجعل يرددها ويبكي ويقول : يا فضيل ليت شعري من أي الفريقين أنت { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } بئس ما يقضون إذا حسبوا أنهم كالمؤمنين فليس من أقعد على بساط الموافقة كمن أقعد على مقام المخالفة بل نفرق بينهم فنعلي المؤمنين ونخزي الكافرين .(3/311)
{ وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق } ليدل على قدرته { ولتجزى } معطوف على هذا المعلل المحذوف { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } أي هو مطواع لهوى النفس يتبع ما تدعوه إليه فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه { وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ } منه باختياره الضلال أو أنشأ فيه فعل الضلال على علم منه بذلك { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ } فلا يقبل وعظاً { وَقَلْبِهِ } فلا يعتقد حقاً { وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة } فلا يبصر عبرة ، { غشاوة } حمزة وعلي { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله } من بعد إضلال الله إياه { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } بالتخفيف : حمزة وعلي وحفص ، وغيرهم بالتشديد . فأصل الشر متابعة الهوى والخير كله في مخالفته فنعم ما قال :
إذا طلبتك النفس يوماً بشهوة ... وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنما ... هواك عدو والخلاف صديق
{ وَقَالُواْ مَا هِىَ } أي ما الحياة لأنهم وعدوا حياة ثانية { إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } التي نحن فيها { نَمُوتُ وَنَحْيَا } نموت نحن ونحيا ببقاء أولادنا ، أو يموت بعض ويحيا بعض ، أو نكون مواتاً نطفاً في الأصلاب ونحيا بعد ذلك ، أو يصيبنا الأمران الموت والحياة يريدون الحياة في الدنيا والموت بعدها وليس وراء ذلك حياة . وقيل : هذا كلام من يقول بالتناسخ أي يموت الرجل ثم تجعل روحه في موات فيحيا به { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر } كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس وينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح بإذن الله ، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان ، وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان ومنه قوله عليه السلام : « لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر » أي فإن الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } وما يقولون ذلك من علم ويقين ولكن من ظن وتخمين .(3/312)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي القرآن يعني ما فيه من ذكر البعث { بينات مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ } وسمى قولهم حجة وإن لم يكن حجة لأنه في زعمهم حجة { إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بِأَبَآءِنَا } أي أحيوهم .
{ الله إِن كُنتُمْ صادقين } في دعوى البعث ، و { حُجَّتَهُمْ } خبر «كان» واسمها { أَن قَالُواْ } والمعنى ما كان حجتهم إلا مقالتهم : { ائتوا بِئَابَائِنَا } وقرىء { حُجَّتَهُمْ } بالرفع على أنها اسم «كان» و { أَن قَالُواْ } الخبر . { قُلِ الله يُحْيِيكُمْ } في الدنيا { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } فيها عند انتهاء أعماركم { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة } أي يبعثكم يوم القيامة جميعاً ومن كان قادراً على ذلك كان قادراً على الإتيان بآبائكم ضرورة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في الجمع { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } قدرة الله على البعث لإعراضهم عن التفكر في الدلائل { وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون } عامل النصب في { يَوْمٍ تَقُومُ } { يَخْسَرُ } و { يَوْمَئِذٍ } بدل من { يَوْمٍ تَقُومُ } { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } جالسة على الركب ، يقال : جثا فلان يجثو إذا جلس على ركبتيه وقيل جاثية مجتمعة { كُلُّ أُمَّةٍ } بالرفع على الابتداء { كُلَّ } بالفتح : يعقوب على الإبدال من { كُلَّ أُمَّةٍ } { تدعى إلى كتابها } إلى صحائف أعمالها فاكتفى باسم الجنس فيقال لهم { اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا .
{ هذا كتابنا } أضيف الكتاب إليهم لملابسته إياهم لأن أعمالهم مثبتة فيه وإلى الله تعالى لأنه مالكه والآمر ملائكته أن يكتبوا فيه أعمال عباده { يَنطِقُ عَلَيْكُم } يشهد عليكم بما عملتم { بالحق } من غير زيادة ولا نقصان { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي نستكتب الملائكة أعمالكم . وقيل : نسخت واستنسخت بمعنى وليس ذلك بنقل من كتاب بل معناه نثبت { فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ } جنته { ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين وَأَمَّا الذين كَفَرُوآ } فيقال لهم { أَفَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ } والمعنى ألم يأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم فحذف المعطوف عليه { فاستكبرتم } عن الإيمان بها { وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } كافرين { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله } بالجزاء { حَقٌّ والساعة } بالرفع عطف على محل «إن» واسمها . { والساعة } : حمزة عطف على { وَعَدَ الله } { لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا الساعة } أي شيء الساعة { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً } أصله نظن ظناً ومعناه إثبات الظن فحسب فأدخل حرف النفي والاستثناء ليفاد إثبات الظن مع نفي ما سواه ، وزيد نفي ما سوى الظن توكيداً بقوله { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدَا لَهُمْ } ظهر لهؤلاء الكفار { سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } قبائح أعمالهم أو عقوبات أعمالهم السيئات كقوله :(3/313)
{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } ونزل بهم جزاء استهزائهم .
{ وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } أي نترككم في العذاب كما تركتم عدة لقاء يومكم وهي الطاعة ، وإضافة اللقاء إلى اليوم كإضافة المكر في قوله { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] أي نسيتم لقاء الله تعالى في يومكم هذا ولقاء جزائه { وَمَأْوَاكُمُ النار } أي منزلكم { وَمَا لَكُمْ مِّن ناصرين ذلكم } العذاب { بِأَنَّكُمُ } بسبب أنكم { اتخذتم ءايات الله هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا } { لاَ يَخْرُجُونَ } حمزة وعلي { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه { فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوات وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين } أي فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء من السماوات والأرض والعالمين ، فإن مثل هذه الربوبية العامة توجب الحمد والثناء على كل مربوب { وَلَهُ الكبريآء فِى السماوات والأرض } وكبّروه فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته في السماوات والأرض { وَهُوَ العزيز } في انتقامه { الحكيم } في أحكامه .(3/314)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
{ حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق } ملتبساً بالحق { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } وبتقدير أجل مسمى ينتهي إليه وهو يوم القيامة { والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ } عما أنذروه من هول ذلك اليوم الذي لا بد لكل مخلوق من انتهائه إليه { مُّعْرِضُونَ } لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له ، ويجوز أن تكون «ما» مصدرية أي عن إنذارهم ذلك اليوم { قُلْ أَرَءَيْتُمْ } أخبروني { مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } تعبدونه من الأصنام { أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } أي شيء خلقوا مما في الأرض إن كانوا آلهة { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السماوات } شركة مع الله في خلق السماوات والأرض { ائتونى بكتاب مِّن قَبْلِ هذا } أي من قبل هذا الكتاب وهو القرآن يعني أن هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك ، وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك ، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله { أَوْ أثارة مِّنْ عِلْمٍ } أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين { إِن كُنتُمْ صادقين } أن الله أمركم بعبادة الأوثان .
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غافلون } أي أبداً { وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً } أي الأصنام لعبدتها { وَكَانُواْ } أي الأصنام { بِعِبَادَتِهِمْ } بعبادة عبدتهم { كافرين } يقولون ما دعوناهم إلى عبادتنا . ومعنى الاستفهام في { مَنْ أَضَلَّ } إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالاً من عبدة الأوثان حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على كل شيء ويدعون من دونه جماداً لا يستجيب لهم ولا قدرة له على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة ، وإذا قامت القيامة وحشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا عليهم ضداً فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة ، وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم . ولما أسند إليهم ما يسند إلى أولي العلم من الاستجابة والغفلة قيل «من» و «هم» ، ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة ، طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها ونحوه قوله تعالى : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر : 14 ] .
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيِّنَاتٍ } جمع بينة وهي الحجة والشاهد أو واضحات مبينات { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ } المراد بالحق الآيات وبالذين كفروا المتلو عليهم فوضع الظاهران موضع الضميرين للتسجيل عليهم بالكفر وللمتلو بالحق { لَمَّا جَآءَهُمْ } أي بادهوه بالجحود ساعة أتاهم وأول ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر { هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } ظاهر أمره في البطلان لا شبهة فيه { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحراً إلى ذكر قولهم إن محمداً عليه السلام افتراه أي اختلقه وأضافه إلى الله كذباً ، والضمير للحق والمراد به الآيات { قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئاً } أي إن افتريته على سبيل الفرض عاجلني الله بعقوبة الافتراء عليه فلا تقدرون على كفه عن معاجلتي ، ولا تطيقون دفع شيء من عقابه فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه؟ .(3/315)
{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } أي تندفعون فيه من القدح في وحي الله والطعن في آياته وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى { كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } يشهد لي بالصدق والبلاغ ويشهد عليكم بالجحود والإنكار ، ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم { وَهُوَ الغفور الرحيم } موعدة بالغفران والرحمة إن تابوا عن الكفر وآمنوا .
{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل } أي بديعاً كالخف بمعنى الخفيف ، والمعنى إني لست بأول مرسل فتنكروا نبوّتي { وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ } أي ما يفعل الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان . وعن الكلبي قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين : حتى متى تكون على هذا؟ فقال : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، أأترك بمكة أم أو أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها يعني في منامه ذات نخيل وشجره و «ما» في { مَّا يَفْعَلُ } يجوز أن يكون موصولة منصوبة ، وأن تكون استفهامية مرفوعة . وإنما دخل «لا» في قوله { وَلاَ بِكُمْ } مع أن { بفعل } مثبت غير منفي لتناول النفي في { مَا أَدْرِى } «ما» وما في حيزه { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ } القرآن { مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل } هو عبد الله بن سلام عند الجمهور ولهذا قيل : إن هذه الآية مدنية لأن إسلام بن سلام بالمدينة . رُوي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب . قال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام يأكله أهل الجنة ، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه وإن سبق ماء المرأة نزعته " فقال : أشهد أنك رسول الله حقاً .(3/316)
{ على مِثْلِهِ } الضمير للقرآن أي مثله في المعنى وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك ، ويجوز أن يكون المعنى إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك يعني كونه من عند الله { فَئَامَنَ } الشاهد { واستكبرتم } عن الإيمان به . وجواب الشرط محذوف تقديره إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين ، ويدل على هذا المحذوف . { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } والواو الأولى عاطفة ل { كَفَرْتُمْ } على فعل الشرط ، وكذلك الواو الأخيرة عاطفة ل { استكبرتم } على { شَهِدَ شَاهِدٌ } ، وأما الواو في { وَشَهِدَ } فقد عطفت جملة قوله { شَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ فَئَامَنَ واستكبرتم } على جملة قوله { كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ } والمعنى قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به ، واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله ، فإيمانه به مع استكباركم عنه وعن الإيمان به ، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ .
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } أي لأجلهم وهو كلام كفار مكة قالوا : إن عامة من يتبع محمداً السقاط يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ } العامل في «إذ» محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم وقوله { فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ } مسبب عنه وقولهم { إِفْكٌ قَدِيمٌ } أي كذب متقادم كقولهم { أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] { وَمِن قَبْلِهِ } أي القرآن { كِتَابُ موسى } أي التوراة وهو مبتدأ و { مِن قَبْلِهِ } ظرف واقع خبراً مقدماً عليه وهو ناصب { إِمَاماً } على الحال نحو : في الدار زيد قائماً . ومعنى { إِمَاماً } قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه كما يؤتم بالإمام { وَرَحْمَةً } لمن آمن به وعمل بما فيه { وهذا } القرآن { كتاب مُّصَدِّقٌ } لكتاب موسى أو لما بين يديه وتقدمه من جميع الكتب { لِّسَاناً عَرَبِيّاً } حال من ضمير الكتاب في { مُّصَدّق } والعامل فيه { مُّصَدّق } أو من كتاب لتخصصه بالصفة ويعمل فيه معنى الإشارة ، وجوز أن يكون مفعولاً ل { مُّصَدّق } أي يصدق ذا لسان عربي وهو الرسول { لِّيُنذِرَ } أي الكتاب ، { لّتُنذِرَ } حجازي وشامي . { الذين ظَلَمُواْ } كفروا { وبشرى } في محل النصب معطوف على محل { لّيُنذِرَ } لأنه مفعول له { لِّلْمُحْسِنِينَ } للمؤمنين المطيعين .(3/317)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)
{ إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } على توحيد الله وشريعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } في القيامة { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } عند الموت { أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة خالدين فِيهَا } حال من { أصحاب الجنة } والعامل فيه معنى الإشارة الذي دل عليه { أولئك } { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } جزاء مصدر لفعل دل عليه الكلام أي جوزوا جزاء .
{ وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إحسانا } كوفي أي وصيناه بأن يحسن بوالديه إحساناً ، { حُسْنًا } غيرهم أي وصيناه بوالديه أمراً ذا حسن أو بأمر ذي حسن ، فهو في موضع البدل من قوله { بوالديه } وهو من بدل الاشتمال { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } وبفتح الكافين : حجازي وأبو عمرو وهما لغتان في معنى المشقة ، وانتصابه على الحال أي ذات كره ، أو على أنه صفة للمصدر أي حملاً ذاكره { وَحَمْلُهُ وفصاله } ومدة حمله وفطامه { ثَلاَثُونَ شَهْراً } وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع إذا كانت حولين لقوله تعالى : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] بقيت للحمل ستة أشهر ، وبه قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : المراد به الحمل بالأكف . { وَفِصْلُهُ } يعقوب . والفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } هو جمع لا واحد له من لفظه ، وكان سيبويه يقول : واحده شدة ، وبلوغ الأشد أن يكتهل ويستوفي السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين . وعن قتادة : ثلاث وثلاثون سنة ووجهه أن يكون ذلك أول الأشد وغايته الأربعون .
{ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى } ألهمني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ } المراد به نعمة التوحيد والإسلام ، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه لأن النعمة عليهما نعمة عليه { وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه } قيل : هي الصلوات الخمس { وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى } أي اجعل ذريتي موقعاً للصلاح ومظنة له { إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ } من كل ذنب { وَإِنِّى مِنَ المسلمين } من المخلصين { أُوْلَئِكَ الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سيئاتهم } حمزة وعلي وحفص . { يُتَقَبَّل } { ويُتَجاوز } { أَحْسَنُ } غيرهم { فِى أصحاب الجنة } هو كقولك : أكرمني الأمير في ناس من أصحابه تريد أكرمني في جملة من أكرم منهم ونظمني في عدادهم ، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم { وَعْدَ الصدق } مصدر مؤكد لأن قوله { يُتَقَبَّل } { ويتجاوز } وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز . قيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي أبيه أبي قحافة وأمه أم الخير وفي أولاده واستجابة دعائه فيهم ، فإنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ودعا لهما وهو ابن أربعين سنة ولم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبي بكر رضي الله عنه { الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ } في الدنيا .(3/318)
{ والذى قَالَ لوالديه } مبتدأ خبره { أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } والمراد بالذي قال ، الجنس القائل ذلك القول ولذلك وقع الخبر مجموعاً . وعن الحسن : هو في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث . وقيل : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه قبل إسلامه ، ويشهد لبطلانه كتاب معاوية إلى مروان ليأمر الناس بالبيعة ليزيد فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : لقد جئتم بها هرقلية أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان : يا أيها الناس هذا الذي قال الله تعالى فيه : { والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا } . فسمعت عائشة رضي الله عنها فغضبت وقالت : والله ما هو به ولو شئت أن أسميه لسميته ، ولكن الله تعالى لعن أباك وأنت في صلبه فأنت فضض من لعنة الله أي قطعة { أُفّ لَّكُمَآ } مدني وحفص ، { أُفَّ } مكي وشامي ، { أُفِّ } غيرهم وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر كما إذا قال «حس» علم أنه متوجع . واللام للبيان أي هذا التأفيف لكما خاصة ولأجلكما دون غيركما . { أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ } أن أبعث وأخرج من الأرض { وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى } ولم يبعث منهم أحد { وَهُمَا } أبواه { يَسْتَغِيثَانِ الله } يقولان الغياث بالله منك ومن قولك وهو استعظام لقوله ويقولان له { وَيْلَكَ } دعاء عليه بالثبور والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك { ءَامِنْ } بالله وبالبعث { إِنَّ وَعْدَ الله } بالبعث { حَقٌّ } صدق { فَيَقُولُ } لهما { مَا هذا } القول { إِلاَّ أساطير الأولين أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } أي لأملأن جهنم { فِى أُمَمٍ } في جملة أمم { قَدْ خَلَتْ } قد مضت { مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين وَلِكُلّ } من الجنسين المذكورين الأبرار والفجار { درجات مِّمَّا عَمِلُواْ } أي منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، أو من أجل ما عملوا منهما ، وإنما قال { درجات } وقد جاء «الجنة درجات والنار دركات» على وجه التغليب { وَلِيُوَفِّيَهُمْ أعمالهم } بالياء : مكي وبصري وعاصم { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم ، قدّر جزاءهم على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات فاللام متعلقة بمحذوف { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار } عرضهم على النار تعذيبهم بها من قولهم : عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به . وقيل : المراد عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض يريدون عرض الحوض عليها فقلبوا { أَذْهَبْتُمْ } أي يقال لهم أذهبتم وهو ناصب الظرف { طيباتكم فِى حياتكم الدنيا } أي ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم وقد ذهبتم به وأخذتموه فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها .(3/319)
وعن عمر رضي الله عنه : لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ولكني أستبقي طيباتي { واستمتعتم بِهَا } بالطيبات { فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون } أي الهوان وقرىء به { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } تتكبرون { فِى الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } أي باستكباركم وفسقكم .
{ واذكر أَخَا عَادٍ } أي هوداً { إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف } جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج . عن ابن عباس رضي الله عنهما : هو وادٍ بين عمان ومهرة { وَقَدْ خَلَتِ النذر } جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } من قبل هود ومن خلف هود ، وقوله { وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } وقع اعتراضاً بين { أَنذَرَ قَوْمَهُ } وبين { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } والمعنى واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك { قَالُواْ } أي قوم هود { أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } لتصرفنا فالأفك الصرف يقال : أفكه عن رأيه { عَنْ ءَالِهَتِنَا } عن عبادتها { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من معاجلة العذاب على الشرك { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } في وعيدك .(3/320)
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
{ قَالَ إِنَّمَا العلم } بوقت مجيء العذاب { عَندَ الله } ولا علم لي بالوقت الذي يكون فيه تعذيبكم { وَأُبَلِّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ } وبالتخفيف : أبو عمرو أي الذي هو شأني أن أبلغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف { ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } أي ولكنكم جاهلون لا تعلمون أن الرسل بعثوا منذرين لا مقترحين ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه . { فَلَمَّا رَأَوْهُ } الضمير يرجع إلى { مَا تَعِدُنَا } أو هو مبهم وضح أمره بقوله { عَارِضاً } إما تمييزاً أو حالاً . والعارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء { مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } رُوي أن المطر قد احتبس عنهم فرأوا سحابة استقبلت أوديتهم فقالوا : هذا سحاب يأتينا بالمطر وأظهروا من ذلك فرحاً . وإضافة { مُّسْتَقْبِلَ } و { ممطر } مجازية غير معرفة بدليل وقوعهما وهما مضافان إلى معرفتين وصفاً للنكرة { بَلْ هُوَ } أي قال هود : بل هو ، ويدل عليه قراءة من قرأ { قَالَ هُود بَلْ هُوَ } { مَا استعجلتم بِهِ } من العذاب . ثم فسره فقال { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ } تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير فعبر عن الكثرة بالكلية { بِأَمْرِ رَبِّهَا } رب الريح { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم } عاصم وحمزة وخلف أي لا يرى شيء إلا مساكنهم . غيرهم { لاَّ ترى إِلاَّ مساكنهم } والخطاب للرائي من كان .
{ كَذَلِكَ نَجْزِى القوم المجرمين } أي مثل ذلك نجزي من أجرم مثل جرمهم وهو تحذير لمشركي العرب . عن ابن عباس رضي الله عنهما : اعتزل هود عليه السلام ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلذه الأنفس ، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة .
{ وَلَقَدْ مكناهم فِيمَآ إِن مكناكم فِيهِ } «إن» نافية أي فيما ما مكنا كم فيه إلا أن «إن» أحسن في اللفظ لما في مجامعة ما مثلها من التكرير المستبشع ، ألا ترى أن الأصل في «مهما» «ما ما» فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء . وقد جعلت «إن» صلة وتؤول بأنا مكناهم في مثل { مَا إِنَّ مكناكم فِيهِ } [ الأحقاف : 26 ] والوجه هو الأول لقوله تعالى : { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئياً } [ مريم : 74 ] { كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَاراً } [ غافر : 82 ] و «ما» بمعنى الذي أو نكرة موصوفة { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبصارا وَأَفْئِدَةً } أي آلات الدرك والفهم { فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَىْءٍ } أي من شيء من الإغناء وهو القليل منه { إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بئايات الله } «إذ» نصب بقوله { فَمَا أغنى } وجرى مجرى التعليل لاستواء مؤدي التعليل والظرف في قولك : ضربته لإساءته وضربته إذ أساء ، لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه إلا أن «إذ» و «حيث» غلبتا دون سائر الظروف في ذلك { وَحَاقَ بِهِم } ونزل بهم { مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } جزاء استهزائهم وهذا تهديد لكفار مكة ثم زادهم تهديداً بقوله :(3/321)
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ } يا أهل مكة { مِّنَ القرى } نحو حجر ثمود وقرى قوم لوط والمراد أهل القرى ولذلك قال { وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي كررنا عليهم الحجج وأنواع العبر لعلهم يرجعون عن الطغيان إلى الإيمان فلم يرجعوا { فَلَوْلا } فهلا { نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً ءَالِهَةً } القربان ما تقرب به إلى الله تعالى أي اتخذوهم شفعاء متقرباً بهم إلى الله تعالى حيث قالوا { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وأحد مفعولي «اتخذ» الراجع إلى «الذين» محذوف أي اتخذوهم والثاني { ءالِهَةً } و { قُرْبَاناً } حال { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } غابوا عن نصرتهم { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } { وَذَلِكَ } إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم أي وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب .
{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً } أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك والنفردون العشرة { مِّن الجن } جن نصيبين { يَسْتَمِعُونَ القرءان } منه عليه الصلاة والسلام { فَلَمَّا حَضَرُوهُ } أي الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن أي كانوا منه بحيث يسمعون { قَالُواْ } أي قال بعضهم لبعض { أَنصِتُواْ } اسكتوا مستمعين رُوي أن الجن كانت تسترق السمع ، فلما حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا : ما هذا إلا لنبأ حدث . فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى منهم زوبعة فضربوا حتى بلغوا تهامة ثم اندفعوا إلى وادي نخلة فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم في جوف الليل يصلي أو في صلاة الفجر فاستمعوا لقراءته . وعن سعيد بن جبير : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما كان يتلو في صلاته فمروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر فأنبأه الله باستماعهم . وقيل : بل الله أمر رسوله أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فصرف إليه نفراً منهم فقال : إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني؟ قالها ثلاثاً . فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لم يحضره ليلة الجن أحد غيري فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون فخط لي خطاً وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك ، ثم اففتح القرآن وسمعت لغطاً شديداً فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل رأيت شيئاً؟ قلت : نعم رجالاً سوداً . فقال : أولئك جن نصيبين "(3/322)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
{ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي أعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام أوصدوا غيرهم عنه . قال الجوهري : صد عنه يصد صدوداً أعرض ، وصده عن الأمر صداً منعه وصرفه عنه . وهم المطعمون يوم بدر أو أهل الكتاب أو عام في كل من كفر وصد { أَضَلَّ أعمالهم } أبطلها وأحبطها ، وحقيقته جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها كالضالة من الإبل ، وأعمالهم ما عملوه في كفرهم من صلة الأرحام وإطعام الطعام وعمارة المسجد الحرام ، أو ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والصد عن سبيل الله { والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } هم ناس من قريش أو من الأنصار أو من أهل الكتاب أو عام { وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ } وهو القرآن ، وتخصيص الإيمان بالمنزل على رسوله من بين ما يجب الإيمان به لتعظيم شأنه ، وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية وهي قوله { وَهُوَ الحق مِن رَّبِّهِمْ } أي القرآن . وقيل : إن دين محمد هو الحق إذ لا يرد عليه النسخ وهو ناسخ لغيره { كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم } ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم عنها وتوبتهم { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين وبالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصرة والتأييد { ذلك بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وَأَنَّ الذين ءَامَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ } { ذلك } مبتدأ وما بعده خبره أي ذلك الأمر وهو إضلال أعمال أحد الفريقين وتكفير سيئات الثاني والإصلاح كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهو الشيطان وهؤلاء الحق وهو القرآن { كذلك } مثل ذلك الضرب { يَضْرِبُ الله } أي يبين الله { لِلنَّاسِ أمثالهم } والضمير راجع إلى الناس أو إلى المذكورين من الفريقين على معنى أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم ، وقد جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكافرين ، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين ، أو جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلاً لفوز الأبرار .
{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ } من اللقاء وهو الحرب { فَضَرْبَ الرقاب } أصله فاضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول ، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد لأنك تذكر المصدر وتدل على الفعل بالنصبة التي فيه { وَضَرَبَ الرقاب } عبارة عن القتل لا أن الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء ، ولأن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته فوقع عبارة عن القتل وإن ضرب غير رقبته { حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ } أكثرتم فيهم القتل { فَشُدُّواْ الوثاق } فأسروهم والوثاق بالفتح والكسر اسم ما يوثق به ، والمعنى فشدوا وثاق الأسارى حتى لا يفلتوا منكم { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ } أي بعد أن تأسروهم { وَإِمَّآ فِدَاءً } { منَّا } و { فِدَاء } منصوبان بفعليهما مضمرين أي فإما تمنون مناً أو تفدون فداء ، والمعنى التخيير بين الأمرين بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم فيطلقوهم وبين أن يفادوهم ، وحكم أسارى المشركين عندنا القتل أو الاسترقاق ، والمن والفداء المذكوران في الآية منسوخ بقوله(3/323)
{ فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] لأن سورة «براءة» من آخر ما نزل . وعن مجاهد : ليس اليوم منّ ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق . أو المراد بالمن أن يمن عليهم بترك القتل ويسترقوا ، أو يمن عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية وبالفداء أن يفادى بأسراهم أسارى المسلمين فقد رواه الطحاوي مذهباً عن أبي حنيفة رحمه الله وهو قولهما ، والمشهور أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره لئلا يعودوا حرباً علينا ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى : للإمام أن يختار أحد الأمور الأربعة : القتل والاسترقاق والفداء بأسارى المسلمين والمن .
{ حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } أثقالها وآلاتها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع . وقيل : أوزارها آثامها يعني حتى يترك أهل الحرب وهم المشركون شركهم بأن يسلموا وحتى لا يخلو من أن يتعلق بالضرب والشد أو بالمن والفداء ، فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رحمه الله أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن لا يكون حرب مع المشركين ، وذلك إذا لم يبق لهم شوكة . وقيل : إذا نزل عيسى عليه السلام . وعند أبي حنيفة رحمه الله : إذا علق بالضرب والشد فالمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك حين لا تبقى شوكة للمشركين . وإذا علق بالمن والفداء فالمعنى أنه يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها إلا أن يتأول المن والفداء بما ذكرنا من التأويل { ذلك } أي الأمر ذلك فهو مبتدأ وخبر أو افعلوا بهم ذلك فهو في محل النصب { وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } لانتقم منهم بغير قتال ببعض أسباب الهلاك كالخسف أو الرجفة أو غير ذلك { ولكن } أمركم بالقتال { لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي المؤمنين بالكافرين تمحيصاً للمؤمنين وتمحيقاً للكافرين { والذين قُتِلُواْ } بصري وحفص . { قَاتَلُواْ } غيرهم { فِى سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أعمالهم سَيَهْدِيهِمْ } إلى طريق الجنة أو إلى الصواب في جواب منكر ونكير { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } يرضى خصماءهم ويقبل أعمالهم { وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ } عن مجاهد : عرفهم مساكنهم فيها حتى لا يحتاجون أن يسألوا أو طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة . { يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ الله } أي دين الله ورسوله { يَنصُرْكُمْ } على عدوكم ويفتح لكم { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } في مواطن الحرب أو على محجة الإسلام { والذين كَفَرُواْ } في موضع رفع بالابتداء والخبر { فَتَعْساً لَّهُمْ } وعطف قوله { وَأَضَلَّ أعمالهم } على الفعل الذي نصب { تعسا } لأن المعنى فقال تعساً لهم والتعس العثور .(3/324)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار . { ذلك } أي التعس والضلال { بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ الله } أي القرآن { فَأَحْبَطَ أعمالهم أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض } يعني كفار أمتك { فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } أهلكهم هلاك استئصال { وللكافرين } مشركي قريش { أمثالها } أمثال تلك الهلكة لأن التدمير يدل عليها { ذلك } أي نصر المؤمنين وسوء عاقبة الكافرين { أَنَّ الله مَوْلَى الذين ءَامَنُواْ } وليهم وناصرهم { وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } أي لا ناصر لهم فإن الله مولى العباد جميعاً من جهة الاختراع وملك التصرف فيهم ، ومولى المؤمنين خاصة من جهة النصرة { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ } ينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أياماً قلائل { وَيَأْكُلُونَ } غافلين غير متفكرين في العاقبة { كَمَا تَأْكُلُ الأنعام } في معالفها ومسارحها غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح { والنار مَثْوًى لَّهُمْ } منزل ومقام .
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } أي وكم من قرية للتكثير وأراد بالقرية أهلها ولذلك قال { أهلكناهم } { هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ التى أَخْرَجَتْكَ } أي وكم من قرية أشد قوة من قومك الذين أخرجوك أي كانوا سبب خروجك { أهلكناهم فَلاَ ناصر لَهُمْ } أي فلم يكن لهم من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبّهِ } أي على حجة من عنده وبرهان وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم { كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } هم أهل مكة الذين زين لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله . وقال سوء عمله { واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } للحمل على لفظ من ومعناه { مَّثَلُ الجنة } صفة الجنة العجيبة الشأن { التى وُعِدَ المتقون } عن الشرك { فِيهَآ أَنْهَارٌ } داخل في حكم الصلة كالتكرير لها ألا ترى إلى صحة قولك التي فيها أنهار ، أو حال أي مستقرة فيها أنهار { مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ } غير متغير اللون والريح والطعم . يقال : أسن الماء إذا تغير طعمه وريحه { أسِن } مكي { وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة وغيرها { وأنهار مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ } تأنيث لذ وهو اللذيذ { لِّلشَّارِبِينَ } أي ما هو إلا التلذذ الخالص ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع ولا آفة من آفات الخمر { وأنهار مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبِّهِمْ } { مَثَلُ } مبتدأ خبره { كَمَنْ هُوَ خالد فِى النار وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً } حاراً في النهاية { فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } والتقدير : أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار؟ وهو كلام في صورة الإثبات ومعناه النفي لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ودخوله في حيزه وهو قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ } .(3/325)
وفائدة حذف حرف الإنكار زيادة تصوير لمكابرة من يسوي بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار وبين النار التي يسقى أهلها الحميم . { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ ءَانِفاً } هم المنافقون كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يلقون له بالاً تهاوناً منهم ، فإذا خرجوا قالوا لأولي العلم من الصحابة : ماذا قال الساعة على جهة الاستهزاء { أُوْلَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } .(3/326)
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
{ والذين اهتدوا } بالإيمان واستماع القرآن { زَادَهُمْ } الله { هُدًى } أي بصيرة وعلماً أو شرح صدورهم { وءاتاهم تقواهم } أعانهم عليها أو آتاهم جزاء تقواهم أو بين لهم ما يتقون { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة } أي ينتظرون { أَن تَأْتِيهُم } أي إتيانها فهو بدل اشتمال من { الساعة } { بَغْتَةً } فجأة { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } علاماتها وهو مبعث محمد صلى الله عليه وسلم وإنشقاق القمر والدخان . وقيل : قطع الأرحام وقلة الكرام وكثرة اللئام { فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } قال الأخفش : التقدير فأنى لهم ذكراهم إذا جاءتهم { فاعلم أَنَّهُ } أن الشأن { لآ إله إِلاَّ الله واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } والمعنى فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله وعلى التواضع وهضم النفس باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك . وفي شرح التأويلات جاز أن يكون له ذنب فأمره بالاستغفار له ولكنا لا نعلمه ، غير أن ذنب الأنبياء ترك الأفضل دون مباشرة القبيح ، وذنوبنا مباشرة القبائح من الصغائر والكبائر . وقيل : الفاآت في هذه الآيات لعطف جملة على جملة بينهما اتصال { والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ } في معايشكم ومتاجركم { وَمَثْوَاكُمْ } ويعلم حيث تستقرون من منازلكم أو متقلبكم في حياتكم ومثوا كم في القبور ، أو متقلبكم في أعمالكم ومثوا كم في الجنة والنار ، ومثله حقيق بأن يتقى ويخشى وأن يستغفره وسئل سفيان ابن عيينة عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله { فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ الله واستغفر لِذَنبِكَ } فأمر بالعمل بعد العلم .
{ وَيَقُولُ الذين ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } فيها ذكر الجهاد { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } في معنى الجهاد { مُّحْكَمَةٌ } مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجهاً إلا وجوب القتال . وعن قتادة : كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أن القتال نسخ ما كان من الصفح والمهادنة وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة { وَذُكِرَ فِيهَا القتال } أي أمر فيها بالجهاد { رَأَيْتَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } نفاق أي رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } أي تشخص أبصارهم جبناً وجزعاً كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت { فأولى لَهُمْ } وعيد بمعنى فويل لهم وهو أفعل من الولى وهو القرب ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } كلام مستأنف أي طاعة وقول معروف خير لهم { فَإِذَا عَزَمَ الأمر } فإذا جد الأمر ولزمهم فرض القتال { فَلَوْ صَدَقُواْ الله } في الإيمان والطاعة { لَكَانَ } الصدق { خَيْراً لَّهُمْ } من كراهة الجهاد . ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب بضرب من التوبيخ والإرهاب فقال :
{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } أي فلعلكم إن أعرضتم عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً ووأد البنات .(3/327)
وخبر عسى { أَن تُفْسِدُواْ } والشرط اعتراض بين الاسم والخبر والتقدير : فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم إن توليتم { أولئك } إشارة إلى المذكورين { الذين لَعَنَهُمُ الله } أبعدهم عن رحمته { فَأَصَمَّهُمْ } عن استماع الموعظة { وأعمى أبصارهم } عن إبصارهم طريق الهدى .
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان } فيعرفوا ما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة حتى لا يجسروا على المعاصي . و «أم» في { أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } بمعنى بل وهمزة التقرير للتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكره . ونكرت القلوب لأن المراد على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك ، والمراد بعض القلوب وهي قلوب المنافقين ، وأضيفت الأقفال إلى القلوب لأن المراد الأقفال المختصة بها وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح نحو الرين والختم والطبع .
{ إِنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى } أي المنافقون رجعوا إلى الكفر سراً بعد وضوح الحق لهم { الشيطان سَوَّلَ } زين { لَهُمْ } جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبراً ل «إن» نحو : إن زيداً عمرو مر به { وأملى لَهُمْ } ومدّ لهم في الآمال والأماني { وَأُمْلِىَ } أبو عمرو أي امهلوا ومد في عمرهم { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله } أي المنافقون قالوا لليهود { سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأمر } أي عدواة محمد والقعود عن نصرته { والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } على المصدر من أسر : حمزة وعلي وحفص . { أسْرَارَهُمْ } غيرهم جمع سر { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة } أي فكيف يعملون وما حيلتهم حينئذ { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم } عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره { ذلك } إشارة إلى التوفي الموصوف { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله } من معاونة الكافرين { وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ } من نصرة المؤمنين { فَأَحْبَطَ أعمالهم أَمْ حَسِبَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أضغانهم } أحقادهم . والمعنى أظن المنافقون أن الله تعالى لا يبرز بغضهم وعداوتهم للمؤمنين { وَلَوْ نَشَآءُ لأريناكهم } لعرّفناكهم ودللناك عليهم { فَلَعَرَفْتَهُم بسيماهم } بعلامتهم وهو أن يسمهم الله بعلامة يعلمون بها وعن أنس رضي الله عنه : ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول } في نحوه وأسلوبه الحسن من فحوى كلامهم لأنهم كانوا لا يقدرون على كتمان ما في أنفسهم .(3/328)
واللام في { فَلَعَرَفْتَهُم } داخلة في جواب «لو» كالتي في { لأريناكهم } كررت في المعطوف ، وأما اللام في { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ } فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف { والله يَعْلَمُ أعمالكم } فيميز خيرها من شرها .
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم } بالقتال إعلاماً لا استعلاماً أو نعاملكم معاملة المختبر ليكون أبلغ في إظهار العدل { حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين } على الجهاد أي نعلم كائناً ما علمناه أنه سيكون { وَنَبْلُوَ أخباركم } أسراركم وليبلونكم حتى يعلم . { ويبلو } أبو بكر وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها بكى وقال : اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله وَشَآقُّواْ الرسول } وعادوه يعني المطعمين يوم بدر وقد مر { مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى } من بعد ما ظهر لهم أنه الحق وعرفوا الرسول { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أعمالهم } التي عملوها في مشاقة الرسول أي سيبطلها فلا يصلون منها إلى أغراضهم .(3/329)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم } بالنفاق أو بالرياء .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } قيل : هم أصحاب القليب والظاهر العموم { فَلاَ تَهِنُواْ } فلا تضعفوا ولا تذلوا للعدو { وَتَدْعُواْ إِلَى السلم } وبالكسر : حمزة وأبو بكر وهما المسالة أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } أي الأغلبون وتدعوا مجزوم لدخوله في حكم النهي { والله مَعَكُمْ } بالنصرة أي ناصركم { وَلَن يَتِرَكُمْ أعمالكم } ولن ينقصكم أجر أعمالكم { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } تنقطع في أسرع مدة { وَإِن تُؤْمِنُواْ } بالله ورسوله { وَتَتَّقُواْ } الشرك { يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } ثواب إيمانكم وتقواكم { وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أموالكم } أي لا يسألكم جميعها بل ربع العشر ، والفاعل الله أو الرسول وقال سفيان بن عيينة : غيضاً من فيض { إِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ } أي يجهدكم ويطلبه كله والإحفاء المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء . يقال : أحفاه في المسئلة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح ، وأحفى شاربه إذا استأصله { تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ } أي الله أو البخل { أضغانكم } عند الامتناع أو عند سؤال الجميع لأنه عند مسئلة المال تظهر العداوة والحقد .
{ هَآأَنتُمْ } ها للتنبيه { هؤلاءآء } موصول بمعنى الذين صلته { تَدْعُونَ } أي أنتم الذين تدعون { لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله } هي النفقة في الغزو أو الزكاة كأنه قيل : الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } بالرفع لأن من هذه ليست للشرط أي فمنكم ناس يبخلون به { وَمَن يَبْخَلْ } بالصدقة وأداء الفريضة { فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } أي يبخل عن داعي نفسه لا عن داعي ربه . وقيل : يبخل على نفسه يقال بخلت عليه وعنه { والله الغنى وَأَنتُمُ الفقرآء } أي أنه لا يأمر بذلك لحاجته إليه لأنه غني عن الحاجات ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } وإن تعرضوا أيها العرب عن طاعته وطاعة رسوله والإنفاق في سبيله ، وهو معطوف على { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ } { يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } يخلق قوماً خيراً منكم وأطوع وهم فارس وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القوم وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال : « هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناله رجال من فارس » { ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم } أي ثم لا يكونوا في الطاعة أمثالكم بل أطوع منكم .(3/330)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } الفتح الظفر بالبلد عنوة أو صلحاً بحرب أو بغير حرب ، لأنه مغلق ما لم يظفر به فإذا ظفر به فقد فتح ، ثم قيل هو فتح مكة وقد نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية عدة له بالفتح . وجيء به على لفظ الماضي لأنها في تحققها بمنزلة الكائنة وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر عنه وهو الفتح ما لا يخفى . وقيل : هو فتح الحديبية ولم يكن فيه قتال شديد ولكن ترامٍ بين القوم بسهام وحجارة ، فرمى المسلمون المشركين حتى أدخلوهم ديارهم وسألوا الصلح فكان فتحاً مبيناً وقال الزجاج : كان في فتح الحديبية آية للمسلمين عظيمة ، وذلك أنه نزح ماؤها ولم يبق فيها قطرة فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه في البئر فدرت بالماء حتى شرب جميع الناس . وقيل : هو فتح خيبر . وقيل : معناه قضينا لك قضاء بيناً على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت من الفتاحة وهي الحكومة . { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله } قيل : الفتح ليس بسبب للمغفرة والتقدير : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً فاستغفر ليغفر لك الله ومثله { إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح } إلى قوله { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ واستغفره } [ النصر : 1 ، 3 ] ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سبباً للغفران . وقيل : الفتح لم يكن ليغفر له بل لإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز ، ولكنه لما عدد عليه هذه النعم وصلها بما هو أعظم النعم كأنه قيل : يسرّنا لك فتح مكة أو كذا لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } يريد جميع ما فرط منك أو ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بإعلاء دينك وفتح البلاد على يدك { وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً } ويثبتك على الدين المرضي { وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً } قوياً منيعاً لا ذل بعده أبداً .
{ هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة فِى قُلُوبِ المؤمنين لِيَزْدَادُوآ إيمانا مَّعَ إيمانهم } السكينة للسكون كالبهيتة للبهتان أي أنزل الله في قلوبهم السكون والطمأنينة بسبب الصلح ليزدادوا يقيناً إلى يقينهم . وقيل : السكينة الصبر على ما أمر الله والثقة بوعد الله والتعظيم لأمر الله { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } أي ولله جنود السماوات والأرض يسلط بعضها على بعض كما يقتضيه علمه وحكمته ، ومن قضيته أن سكن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم أن يفتح لهم ، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكروها فيثيبهم ويعذب الكافرين والمنافقين لما غاظهم من ذلك وكرهوه { الظآنين بالله ظَنَّ السوء } وقع السوء عبارة عن رداءة الشيء وفساده .(3/331)
يقال : فعل سوء أي مسخوط فاسد ، والمراد ظنهم أن الله تعالى لا ينصر الرسول والمؤمنين ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهراً { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء } مكي وأبو عمرو أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم ، والسوء الهلاك والدمار وغيرهما { دَائِرَة السوء } بالفتح إلا أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء ، وأما السوء فجارٍ مجرى الشر الذي هو نقيض الخير { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } جهنم { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض } فيدفع كيد من عادى نبيه عليه السلام والمؤمنين بما شاء منها { وَكَانَ الله عَزِيزاً } غالباً فلا يرد بأسه { حَكِيماً } فيما دبر .
{ إِنَّآ أرسلناك شَاهِداً } تشهد على أمتك يوم القيامة وهذه حال مقدرة { وَمُبَشِّراً } للمؤمنين بالجنة { وَنَذِيرًا } للكافرين من النار { لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته { وَتُعَزِّرُوهُ } وتقووه بالنصر { وَتُوَقِّرُوهُ } وتعظموه { وَتُسَبِّحُوهُ } من التسبيح أو من السبحة ، والضمائر لله عز وجل . والمراد بتعزيز الله تعزيز دينه ورسوله ، ومن فرق الضمائر فجعل الأولين للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أبعد { لِيُؤْمِنُواْ } مكي وأبو عمرو والضمير للناس وكذا الثلاثة الأخيرة بالياء عندهما { بُكْرَةً } صلاة الفجر { وَأَصِيلاً } الصلوات الأربع { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ } أي بيعة الرضوان . ولما قال { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } أكده تأكيداً على طريقة التخييل فقال { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله والله منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام ، وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما كقوله { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] و { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } خبر «إن» { فَمَن نَّكَثَ } نقض العهد ولم يف بالبيعة { فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه . قال جابر بن عبد الله : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفر فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقاً اختبأ تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم { وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد } يقال : وفيت بالعهد وأوفيت به ومنه قوله { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] { والموفون بِعَهْدِهِمْ } [ البقرة : 177 ] { عَلَيْهِ الله } حفص { فَسَيُؤْتِيهِ } وبالنون حجازي وشامي { أَجْراً عَظِيماً } الجنة .(3/332)
{ سَيَقُولُ لَكَ } إذا رجعت من الحديبية { المخلفون مِنَ الأعراب } هم الذين خلّفوا عن الحديبية وهم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والدئل ، وذلك أنه عليه السلام حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت ، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد حرباً ، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا : يذهب إلى قوم غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فيقاتلهم وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة { شَغَلَتْنَآ أموالنا وَأَهْلُونَا } هي جمع أهل اعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم وأنه ليس من يقوم بأشغالهم { فاستغفر لَنَا } ليغفر لنا الله تخلفنا عنك { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } تكذيب لهم في اعتذارهم وأن الذي خلفهم ليس ما يقولون ، وإنما هو الشك في الله والنفاق فطلبهم الاستغفار أيضاً ليس بصادر عن حقيقة { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً } فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً } ما يضركم من قتل أو هزيمة { ضَرّا } حمزة وعلي { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } من غنيمة وظفر .
{ بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلك فِى قُلُوبِكُمْ } زينه الشيطان { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء } من علو الكفر وظهور الفساد { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } جمع بائر كعائذ وعوز من بار الشيء هلك وفسد أي وكنتم قوماً فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم ، أو هالكين عند الله مستحقين لسخطه وعقابه { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين } أي لهم فأقيم الظاهر مقام الضمير للإيذان بأن من لم يجمع بين الإيمانين : الإيمان بالله والإيمان برسوله ، فهو كافر ونكّر { سَعِيراً } لأنها نار مخصوصة كما نكر { نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } يدبره تدبير قادر حكيم { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } يغفر ويعذب بمشيئته وحكمته وحكمته المغفرة للمؤمنين والتعذيب للكافرين { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } سبقت رحمته غضبه .
{ سَيَقُولُ المخلفون } الذين تخلفوا عن الحديبية { إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ } إلى غنائم خيبر { لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كلام الله } { كَلِمَ الله } : حمزة وعلي أي يريدون أن يغيروا موعد الله لأهل الحديبية ، وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منهم شيئاً { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } إلى خيبر وهو إخبار من الله بعدم اتباعهم ولا يبدل القول لديه { كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ } من قبل انصرافهم إلى المدينة إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية دون غيرهم { فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا } أي لم يأمركم الله به بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنيمة { بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ } من كلام الله { إِلاَّ قَلِيلاً } إلا شيئاً قليلاً يعني مجرد القول . والفرق بين الإضرابين أن الأول رد أن يكون حكم الله أن لا يتّبعوهم وإثبات الحسد ، والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أطم منه وهو الجهل وقلة الفقه .(3/333)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
{ قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب } هم الذين تخلفوا عن الحديبية { سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } يعني بني حنيفة قوم مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف . وقيل : هم فارس وقد دعاهم عمر رضي الله عنه { تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ } أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام . ومعنى يسلمون على هذا التأويل ينقادون لأن فارس مجوس تقبل منهم الجزية ، وفي الآية دلالة صحة خلافة الشيخين حيث وعدهم الثواب على طاعة الداعي عند دعوته بقوله { فَإِن تُطِيعُواْ } من دعاكم إلى قتاله { يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً } فوجب أن يكون الداعي مفترض الطاعة { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ } أي عن الحديبية { يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } في الآخرة { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } نفي الحرج عن ذوي العاهات في التخلف عن الغزو { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } في الجهاد وغير ذلك { يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ } يعرض عن الطاعة { يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } { ندخله } و { نُعَذِّبُهُ } مدني وشامي .
{ لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة } هي بيعة الرضوان سميت بهذه الآية . وقصتها أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل بالحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعي رسولاً إلى مكة فهموا به فمنعه الأحابيش ، فلما رجع دعا بعمر ليبعثه فقال : إني أخافهم على نفسي لما عرف من عداوتي إياهم ، فبعث عثمان بن عفان فخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً للبيت فوقروه واحتبس عندهم فأرجف بأنهم قتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا نبرح حتى نناجز القوم » ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه على أن يناجزوا قريشاً ولا يفروا تحت الشجرة ، وكانت سمرة وكان عدد المبايعين ألفاً وأربعمائة { فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه { فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ } أي الطمأنينة والأمن بسبب الصلح على قلوبهم { وأثابهم } وجازاهم { فَتْحاً قَرِيباً } هو فتح خيبر غب انصرافهم من مكة { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } هي مغانم خيبر وكانت أرضاً ذات عقار وأموال فقسمها عليهم { وَكَانَ الله عَزِيزاً } منيعاً فلا يغالب { حَكِيماً } فيما يحكم فلا يعارض { وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } هي ما أصابوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة { فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه } المغانم يعني مغانم خيبر { وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ } يعني أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم فقذف الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا .(3/334)
وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح { وَلِتَكُونَ } هذه الكفة { ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } وعبرة يعرفون بها أنهم من الله عز وجل بمكان وأنه ضامن نصرتهم والفتح عليهم فعل ذلك { وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً } ويزيدكم بصيرة ويقيناً وثقة بفضل الله .
{ وأخرى } معطوفة على { هذه } أي فعجل لكم هذه المغانم و { مَغَانِمَ أخرى } هي مغانم هوازن في غزوة حنين { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } لما كان فيها من الجولة { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } أي قدر عليها واستولى وأظهركم عليها ، ويجوز في { أخرى } النصب بفعل مضمر يفسره { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } تقديره : وقضى الله أخرى قد أحاط بها ، وأما { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } فصفة ل { أخرى } والرفع على الابتداء لكونها موصوفة ب { لَمْ تَقْدِرُواْ } ، و { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } خبر المبتدأ { وَكَانَ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً } قادراً { وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ } من أهل مكة ولم يصالحوا أو من حلفاء أهل خيبر { لَوَلَّوُاْ الأدبار } لغلبوا وانهزموا { ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً } يلي أمرهم { وَلاَ نَصِيراً } ينصرهم { سُنَّةَ الله } في موضع المصدر المؤكد أي سن الله غلبة أنبيائه سنة وهو قوله { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] { التى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } تغييراً .
{ وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } أي أيدي أهل مكة { وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم } عن أهل مكة يعني قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة ، وذلك يوم الفتح وبه استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً . وقيل : كان في غزوة الحديبية لما رُوي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أظهر المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت { بِبَطْنِ مَكَّةَ } أي بمكة أو بالحديبية لأن بعضها منسوب إلى الحرم { مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } أي أقدركم وسلطكم { وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } وبالياء : أبو عمرو { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدى } هو ما يهدي إلى الكعبة . ونصبه عطفاً على «كم» في { صَدُّوكُمْ } أي وصدوا الهدي { مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ } محبوساً أن يبلغ ، و { مَعْكُوفاً } حال . وكان عليه السلام ساق سبعين بدنة { مَحِلَّهُ } مكانه الذي يحل فيه نحره أي يجب ، وهذا دليل على أن المحصر محل هديه الحرم والمراد المعهود وهو منى { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مؤمنات } بمكة { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } صفة للرجال والنساء جميعاً { أَن تَطَئُوهُمْ } بدل اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في { تَعْلَمُوهُمْ } { فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ } إثم وشدة وهي مفعلة من عره بمعنى عراه إذا دهاه ما يكرهه ويشق عليه وهو الكفارة إذا قتله خطأ ، وسوء قالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز والإثم إذا قصر .(3/335)
{ بِغَيْرِ عِلْمٍ } متعلق ب { أَن تَطَئُوهُمْ } يعني أن تطئوهم غير عالمين بهم . والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة . والمعنى أنه كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم فقيل : ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة لما كف أيديكم عنهم . وقوله { لِّيُدْخِلَ الله فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } تعليل لما دلت عليه الآية وسيقت له من كف الأيدي عن أهل مكة والمنع عن قتلهم صوناً لمن بين أظهرهم من المؤمنين كأنه قال : كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته أي في توفيقه لزيادة الخير والطاعة مؤمنيهم ، أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم { لَوْ تَزَيَّلُواْ } لو تفرقوا وتميز المسلمون من الكافرين ، وجواب «لولا» محذوف أغنى عنه جواب «لو» ، ويجوز أن يكون لو تزيلوا كالتكرير ل { لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ } لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون { لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ } هو الجواب تقديره ولولا أن تطئوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات ولو كانوا متميزين لعذبناهم بالسيف { مِنْهُمْ } من أهل مكة { عَذَاباً أَلِيماً } .
والعامل في { إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ } أي قريش لعذبنا أي لعذبناهم في ذلك الوقت أو اذكر { فِى قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين } المراد بحمية الذين كفروا وهي الأنفة وسكينة المؤمنين وهي الوقار ما يُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بالحديبية بعث قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزي ومكرز بن حفص على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ففعل ذلك وكتبوا بينهم كتاباً . فقال عليه السلام لعلي رضي الله عنه : " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل وأصحابه : ما نعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم . ثم قال : " اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة " فقالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة . فقال عليه السلام : " اكتب ما يريدون فأنا أشهد أني رسول الله وأنا محمد بن عبد الله " فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك ويشمئزوا منه فأنزل الله على رسوله السكينة فتوقروا وحلموا { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } الجمهور على أنها كلمة الشهادة . وقيل : بسم الله الرحمن الرحيم . والإضافة إلى التقوى باعتبار أنها سبب التقوى وأساسها . وقيل : كلمة أهل التقوى { وَكَانُواْ } أي المؤمنون { أَحَقَّ بِهَا } من غيرهم { وَأَهْلَهَا } بتأهيل الله إياهم { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً } فيجري الأمور على مصالحها .(3/336)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
{ لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا } أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب فحذف الجار وأوصل الفعل كقوله : { صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } [ الاحزاب : 23 ] . رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلفوا وقصروا ، فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا : إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق ، فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبيّ وغيره : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت { بالحق } متعلق ب { صَدَقَ } أي صدقه فيما رأى وفي كونه وحصوله صدقاً ملتبساً بالحق أي بالحكمة البالغة وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن الخالص وبين من في قلبه مرض ، ويجوز أن يكون بالحق قسماً إما بالحق الذي هو نقيض الباطل أو بالحق الذي هو من أسمائه ، وجوابه { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام } وعلى الأول هو جواب قسم محذوف { إِن شَآءَ الله } حكاية من الله تعالى ما قال رسوله لأصحابه وقص عليهم ، أو تعليم لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك متأدبين بأدب الله ومقتدين بسنته { ءَامِنِينَ } حال والشرط معترض { مُحَلِّقِينَ } حال من الضمير في { ءَامِنِينَ } { رُءُوسَكُمْ } أي جميع شعورها { وَمُقَصِّرِينَ } بعض شعورها { لاَ تخافون } حال مؤكدة { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ } أي من دون فتح مكة { فَتْحاً قَرِيباً } وهو فتح خيبر ليستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود .
{ هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى } بالتوحيد { وَدِينِ الحق } أي الإسلام { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه { عَلَى الدين كُلِّهِ } على جنس الدين يريد الأديان المختلفة من أديان المشركين وأهل الكتاب ، ولقد حقق ذلك سبحانه فإنك لا ترى ديناً قط إلا وللإسلام دونه العزة والغلبة . وقيل : هو عند نزول عيسى عليه السلام حين لا يبقى على وجه الأرض كافر . وقيل : هو إظهاره بالحجج والآيات { وكفى بالله شَهِيداً } على أن ما وعده كائن ، وعن الحسن : شهد على نفسه أنه سيظهر دينه والتقدير وكفاه الله شهيداً و { شَهِيداً } تمييز أو حال { مُحَمَّدٌ } خبر مبتدأ أي هو محمد لتقدم قوله { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } أو مبتدأ خبره { رَسُولِ الله } وقف عليه نصير { والذين مَعَهُ } أي أصحابه مبتدأ والخبر { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } أو { مُحَمَّدٌ } مبتدأ و { رَسُول الله } عطف بيان و { الذين مَعَهُ } عطف على المبتدأ و { أَشِدَّاء } خبر عن الجميع ومعناه غلاظ { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } متعاطفون وهو خبر ثانٍ وهما جمعاً شديد ورحيم ونحوه(3/337)
{ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] وبلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه .
{ تراهم رُكَّعاً } راكعين { سُجَّدًا } ساجدين { يَبْتَغُونَ } حال كما أن ركعاً وسجداً كذلك { فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سيماهم } علامتهم { فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود } أي من التأثير الذي يؤثره السجود . وعن عطاء : استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل لقوله عليه السلام : " من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " { ذلك } أي المذكور { مَثَلُهُمْ } صفتهم { فِي التوراة } وعليه وقف { وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل } مبتدأ خبره { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ } فراخه . يقال : أشطأ الزرع إذا فرخ { فَأَزَرَهُ } قواه ، { فَأزره } شامي { فاستغلظ } فصار من الرقة إلى الغلظ { فاستوى على سُوقِهِ } فاستقام على قصبه جمع ساق { يُعْجِبُ الزراع } يتعجبون من قوته . وقيل : مكتوب في الإنجيل : سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي رضوان الله عليهم . وهذا مثل ضربه الله تعالى لبدء الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ثم قواه الله تعالى بمن آمن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتفّ بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع { لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة .
ويجوز أن يعلل به { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } لأن الكفار إذا سمعوا بما أعد لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك . و «من» في { مِنْهُمْ } للبيان كما في قوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان } [ الحج : 30 ] يعني فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، وقولك «أنفق من الدراهم» أي اجعل نفقتك هذا الجنس . وهذه الآية ترد قول الروافض إنهم كفروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إذ الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم إنما يكون أن لو ثبتوا على ما كانوا عليه في حياته .(3/338)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ } قدّمه وأقدمه منقولان بتثقيل الحشو ، والهمزة من قدمه إذا تقدمه في قوله تعالى { يَقْدُمُ قَوْمَهُ } [ هود : 98 ] وحذف المفعول ليتناول كل ما وقع في النفس مما يقدم من القول أو الفعل ، وجاز أن لا يقصد مفعول والنهي متوجه إلى نفس التقدمة كقوله { هُوَ الذى يُحْيىِ وَيُمِيتُ } [ غافر : 68 ] أو هو من قدّم بمعنى تقدم كوجه بمعنى توجه ومنه مقدمة الجيش وهي الجماعة المتقدمة منه ويؤيده قراءة يعقوب { لاَ تُقَدّمُواْ } بحذف إحدى تاءي تتقدموا { بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ } حقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه ، فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره . وفي هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يسمى تمثيلاً ، وفيه فائدة جليلة وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة . ويجوز أن يجري مجرى قولك «سرني زيد وحسن حاله» أي سرني حسن حال زيد . فكذلك هنا المعنى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفائدة هذا الأسلوب الدلالة على قوة الاختصاص . ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى سلك به هذا المسلك ، وفي هذا تمهيد لما نقم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته عليه السلام ، لأن من فضله الله بهذه الأثرة واختصه هذا الاختصاص كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت . وعن الحسن أن إناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت ، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحاً آخر . وعن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك . { واتقوا الله } فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لما تقولون { عَلِيمٌ } بما تعملون وحق مثله أن يتقي .
{ يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ } إعادة النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد ، وتحريك منهم لئلا يغفلوا عن تأملهم { لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى } أي إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم وجهره باهراً لجهركم حتى تكون مزيته عليكم لائحة وسابقته لديكم واضحة { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } أي إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم ، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرب من الهمس الذي يضاد الجهر ، أو لا تقولوا : له يا محمد يا أحمد وخاطبوه بالنبوة والسكينة والتعظيم ، ولما نزلت هذه الآية ما كلم النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر إلا كأخي السرار .(3/339)
وعن ابن عباس رضي الله عنهم أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذانه وقر وكان جهوري الصوت ، وكان إذا كلم رفع صوته وربما كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته ، وكاف التشبيه في محل النصب أي لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض ، وفي هذا أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقاً حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها . { أَن تَحْبَطَ أعمالكم } منصوب الموضع على أنه المفعول له متعلق بمعنى النهي ، والمعنى انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم أي لخشية حبوطها على تقدير حذف المضاف { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } . { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله } تم اسم «إن» عند قوله { رَسُولِ الله } والمعنى يخفضون أصواتهم في مجلسه تعظيماً له { أولئك } مبتدأ خبره { الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } وتم صلة { الذين } عند قوله { للتقوى } و { أولئك } مع خبره خبر «إن» . والمعنى أخلصها للتقوى من قولهم «امتحن الذهب وفتنة» إذا أذابه فخلص ابريزه من خبثه ونقاه ، وحقيقته عاملها معاملة المختبر فوجدها مخلصة وعن عمر رضي الله عنه : أذهب الشهوات عنها . والامتحان افتعال من محنه وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } جملة أخرى قيل : نزلت في الشيخين رضي الله عنهما لما كان منهما من غض الصوت ، وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسماً ل «إن» المؤكدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً والمبتدأ اسم الإشارة ، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم ، وإيراد الجزاء نكرة مبهماً أمره دالة على غاية الاعتداد والارتضاء بفعل الخافضين أصواتهم ، وفيها تعريض لعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم .
{ إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات } نزلت في وفد بني تميم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة وهو راقد وفيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته وقالوا : اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمنا شين ، فاستيقظ وخرج . والوراء الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام ، و «من» لابتداء الغاية ، وأن المناداة نشأت من ذلك المكان ، والحجرة الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها وهي فعلة بمعنى مفعولة كالقبضة وجمعها الحجرات بضمتين ، والحجرات بفتح الجيم وهي قراءة يزيد والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت لكل منهن حجرة .(3/340)
ومناداتهم من ورائها لعلهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له أو نادوه من وراء الحجرة التي كان عليه السلام فيها ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم . والفعل وإن كان مسنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم وكان الباقون راضين فكأنهم تولوه جميعاً { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } يحتمل أن يكون فيهم من قصد استثناؤه ، ويحتمل أن يكون المراد النفي العام إذا القلة تقع موقع النفي .
وورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى من إجلال محل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها : التسجيل على الصائحين به بالسفه والجهل ، ومنها إيقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه ، ومنها التعريف باللام دون الإضافة ، ولو تأمل متأمل من أول السورة إلى آخر هذه الآية لوجدها كذلك . فتأمل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير تقييد ، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر كأن الأول بساط للثاني ، ثم أثنى على الغاضين أصواتهم ليدل على عظيم موقعه عند الله ، ثم عقبه بما هو أطم وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدراً لينبه على فظاعة ما جسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ في التفاحش مبلغاً { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } أي ولو ثبت صبرهم ، ومحل { أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } الرفع على الفاعلية . والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها قال الله تعالى : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } [ الكهف : 28 ] . وقولهم صبر عن كذا محذوف منه المفعول وهو النفس . وقيل : الصبر مرّ لا يتجرعه إلا حرّ . وقوله { حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ } يفيد أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم { لَكَانَ } الصبر { خَيْراً لَّهُمْ } في دينهم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بليغ الغفران والرحمة واسعهما فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ } أجمعوا أنها نزلت في الوليد بن عقبة وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً إلى بني المصطلق وكانت بينه وبينهم إحنة في الجاهلية ، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين إليه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : قد ارتدوا ومنعوا الزكاة .(3/341)
فبعث خالد بن الوليد فوجدهم يصلون فسلموا إليه الصدقات فرجع . وفي تنكير الفاسق والنبأ شياع في الفساق والأنباء كأنه قال أي فاسق جاءكم بأي نبأ { فَتَبَيَّنُوآ } فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا قول الفاسق ، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه . وفي الآية دلالة قبول خبر الواحد العدل لأنا لو توقفنا في خبره لسوينا بينه وبين الفاسق ولخلا التخصيص به عن الفائدة ، والفسوق الخروج من الشيء . يقال : فسقت الرطبة عن قشرها ، ومن مقلوبه : فقست البيضة إذا كسرتها وأخرجت ما فيها ، ومن مقلوبه أيضاً : قفست الشيء إذا أخرجته من يد مالكه مغتصباً له عليه ، ثم استعمل في الخروج عن القصد بركوب الكبائر . حمزة وعلي { فتثبتوا } والتثبت والتبين متقاربان وهما طلب الثبات والبيان والتعرف { أَن تصيبوا قَوْماً } لئلا تصيبوا { بِجَهَالَةٍ } حال يعني جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة { فَتُصْبِحُواْ } فتصيروا { على مَا فَعَلْتُمْ نادمين } الندم ضرب من الغم وهو أن تغتم على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام .
{ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله } فلا تكذبوا فإن الله يخبره فينهتك ستر الكاذب ، أو فارجعوا إليه واطلبوا رأيه . ثم قال مستأنفاً { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ } لوقعتم في الجهد والهلاك ، وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد ، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك وهم الذين استثناهم بقوله { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان } وقيل : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . ولما كانت صفة الذين حبب الله إليهم الإيمان غايرت صفة المتقدم ذكرهم وقعت «لكن» في حاقّ موقعها من الاستدراك وهو مخالفة ما بعدها لما قبلها نفياً وإثباتاً { وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر } وهو تغطية نعم الله وغمطها بالجحود { والفسوق } وهو الخروج عن محجة الإيمان بركوب الكبائر { والعصيان } وهو ترك الانقياد بما أمر به الشارع { أُوْلَئِكَ هُمُ الراشدون } أي أولئك المستثنون هم الراشدون يعني أصابوا طريق الحق ولم يميلوا عن الاستقامة ، والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة { فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً } الفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام ، والانتصاب على المفعول له أي حبب وكره للفضل والنعمة { والله عَلِيمٌ } بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل { حَكِيمٌ } حين يفضل وينعم بالتوفيق على الأفاضل .(3/342)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار فأمسك ابن أبي بأنفه وقال : خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه . فقال عبد الله بن رواحة : والله إن بول حماره لأطيب من مسكك . ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج فتجالدوا بالعصي . وقيل : بالأيدي والنعال والسعف ، فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم ونزلت . وجمع { اقتتلوا } حملاً على المعنى لأن الطائفتين في معنى القوم والناس ، وثنى في { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } نظراً إلى اللفظ { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى } البغي الاستطالة والظلم وإباء الصلح { فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِىءَ } أي ترجع والفيء الرجوع وقد سمى به الظل والغنيمة لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس ، والغنيمة ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين ، وحكم الفئة الباغية وجوب قتالها ما قاتلت فإذا كفت وقبضت عن الحرب أيديها تركت { إلى أَمْرِ الله } المذكور في كتابه من الصلح وزوال الشحناء { فَإِن فَآءَتْ } عن البغي إلى أمر الله { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل } بالإنصاف { وَأَقْسِطُواْ } واعدلوا وهو أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعدما أمر به في إصلاح ذات البين { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } العادلين والقسط : الجور ، والقسط : العدل ، والفعل منه أقسط وهمزته للسلب أي أزال القسط وهو الجور .
{ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } هذا تقرير لما ألزمه من تولي الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين ، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما إن لم يفضل الإخوة لم ينقص عنها . ثم قد جرت العادة على أنه إذا نشب مثل ذلك بين الأخوين ولاداً لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته بالصلح بينهما فالإخوة في الدين أحق بذلك ، { أخوتكم } يعقوب { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي واتقوا الله ، فالتقوى تحملكم على التواصل والائتلاف وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم مرجواً ، والآية تدل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان لأنه سماهم مؤمنين مع وجود البغي .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } القوم : الرجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء قال الله تعالى : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء } [ النساء : 34 ] وهو في الأصل جمع قائم كصوم وزور في جمع صائم وزائر . واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية إذ لو كانت النساء داخلة في قوم لم يقل ولا نساء وحقق ذلك زهير في قوله :(3/343)
وما أدري ولست إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء؟
وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد هم الذكور والإناث فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن . وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين : أن يراد لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض ، وأن يقصد إفادة الشياع وأن يصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية . وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة على التوحيد إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه ، وقوله : { عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ } . كلام مستأنف ورد مورد جواب المستخبر عن علة النهي وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء ، والمعنى وجوب أن يعتقد كل واحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيراً من الساخر إذ لا اطلاع للناس إلا على الظواهر ولا علم لهم بالسرائر ، والذي يزن عند الله خلوص الضمائر فينبغي أن لا يجتريء أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته ، فلعله أخلص ضميراً وأتقى قلباً ممن هو على ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً .
{ وَلاَ تَلْمِزُوآ أَنفُسَكُمْ } ولا تطعنوا أهل دينكم . واللمز : الطعن والضرب باللسان { وَلاَ تَلْمُزُواْ } يعقوب وسهل . والمؤمنون كنفس واحدة فإذا عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه . وقيل : معناه لا تفعلوا ما تلمزون به لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } التنابز بالألقاب التداعي بها ، والنبز لقب السوء والتلقيب المنهي عنه هو ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيراً به وذماً له ، فأما ما يحبه فلا بأس به . ورُوي أن قوماً من بني تميم استهزءوا ببلال وخباب وعمار وصهيب فنزلت . وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة وكانت قصيرة ، وعن أنس رضي الله عنه : عيرت نساء النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة بالقصر . ورُوي أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع ، فأتى يوماً وهو يقول تفسحوا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل : تنح فلم يفعل . فقال : من هذا؟ فقال الرجل : أنا فلان . فقال : بل أنت ابن فلانة يريد أماً كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت : لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبداً .(3/344)
{ بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم «طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم» وحقيقته ما سما من ذكره وارتفع بين الناس كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق . وقوله { بَعْدَ الإيمان } استقباح للجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يحظره الإيمان كما تقول «بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة» . وقيل : كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه ، وقيل لهم : بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } عما نهي عنه { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } وحد وجمع للفظ من ومعناه .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن } يقال : جنبه الشر إذا أبعده عنه . وحقيقته جعله في جانب فيعدى إلى مفعولين قال الله تعالى : { واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] ومطاوعه اجتنب الشر فنقص مفعولاً والمأمور باجتنابه بعض الظن وذلك البعض موصوف بالكثرة ألا ترى إلى قوله { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } قال الزجاج : هو ظنك بأهل الخير سوأ ، فأما أهل الفسق فلنا أن نظن فيهم مثل الذي ظهر منهم . أو معناه اجتناباً كثيراً أو احترزوا من الكثير ليقع التحرز عن البعض ، والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ومنه قيل لعقوبته الأثام فعلا منه كالنكال والعذاب { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم . يقال : تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه تفعل من الجس . وعن مجاهد : خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله . وقال سهل : لا تبحثوا عن طلب معايب ما ستره الله على عباده { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } الغيبة الذكر بالعيب في ظهر الغيب وهي من الاغتياب كالغيلة من الاغتيال ، وفي الحديث " هو أن تذكر أخاك بما يكره " فإن كان فيه فهو غيبة وإلا فهو بهتان . وعن ابن عباس : الغيبة إدام كلاب الناس .
{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } { مَيِّتًا } مدني . وهذا تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه ، وفي مبالغات منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة ، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً ، ومنها أن لم يقتصر على لحم الأخ حتى جعل ميتاً . وعن قتادة : كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي ، وانتصب { مَيْتًا } على الحال من اللحم أو من أخيه ، ولما قررهم بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله { فَكَرِهْتُمُوهُ } أي فتحققت كراهتكم له باستقامة العقل فليتحقق أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة باستقامة الدين { واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } التواب : البليغ في قبول التوبة ، والمعنى واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين .(3/345)
ورُوي أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوماً فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها . فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما فقالا : ما تناولنا لحماً ، قال : إنكما قد اغتبتما ومن اغتاب مسلماً فقد أكل لحمه . ثم قرأ الآية ، وقيل : غيبة الخلق إنما تكون من الغيبة عن الحق .(3/346)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
{ يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } من آدم وحواء أو كل واحد منكم من أب وأم فما منكم من أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواء بسواء فلا معنى للتفاخر والتفاضل في النسب { وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } الشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي : الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة . فالشعب يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن تجمع الأفخاذ ، والفخذ تجمع الفصائل ، خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة ، وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها { لتعارفوا } أي إنما رتبكم على شعوب وقبائل ليعرف بعضكم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه ، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد وتدعوا التفاضل في الأنساب . ثم بين الخصلة التي يفضل بها الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله فقال { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } في الحديث : « من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله » وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى . ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « الحمد لله الذي أذهب عنكم عِبُية الجاهلية وتكبرها . يا أيها الناس إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله وفاجر وشقي هين على الله » ثم قرأ الآية . وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فاشتراه بعضهم فمرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توفي فحضر دفنه فقالوا في ذلك شيئاً فنزلت { إِنَّ الله عَلِيمٌ } كرم القلوب وتقواها { خَبِيرٌ } بهمّ النفوس في هواها .
{ قَالَتِ الأعراب } أي بعض الأعراب لأن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر وهم أعراب بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة فاظهروا الشهادة يريدون الصدقة ويمنون عليه { ءَامَنَّا } أي ظاهراً وباطناً { قُلْ } لهم يا محمد { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } لم تصدقوا بقلوبكم { ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } فالإيمان هو التصديق ، والإسلام الدخول في السلم والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين ، ألا ترى إلى قوله { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ } فاعلم أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام ، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان ، وهذا من حيث اللغة . وأما في الشرع فالإيمان والإسلام واحد لما عرف ، وفي { لَّمّاً } معنى التوقع وهو دال على أن بعض هؤلاء قد آمنوا فيما بعد .(3/347)
والآية تنقض على الكرامية مذهبهم أن الإيمان لا يكون بالقلب ولكنَّ باللسان ، فإن قلت : مقتضى نظم الكلام أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا ، أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم . قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً فقيل { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ } مع أدب حسن فلم يقل كذبتم تصريحاً ووضع { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه واستغنى بقوله { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } عن أن يقال لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان ، ولم يقل ولكن أسلمتم ليكون خارجاً مخرج الزعم والدعوى كما كان قولهم آمنا كذلك . ولو قيل ولكن أسلمتم لكان كالتسليم والاعتداد بقولهم وهو غير معتد به . وليس قوله { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ } تكريراً لمعنى قوله { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } فإن فائدة قوله { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } تكذيب لدعواهم وقوله { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ } توقيب لما أمروا به أن يقولوه كأن قيل لهم : ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في { قُولُواْ } .
{ وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } في السر بترك النفاق { لاَ يَلِتْكُمْ } { لا يألتكم } : بصري { مِّنْ أعمالكم شَيْئاً } أي لا ينقصكم من ثواب حسناتكم شيئاً . ألت يألت وألات يليت ولات يليت بمعنى وهو النقص { أَنَّ الله غَفُورٌ } بستر الذنوب { رَّحِيمٌ } بهدايتهم للتوبة عن العيوب . ثم وصف المؤمنين المخلصين فقال { إِنَّمَا المؤمنون الذين ءَامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة ، والمعنى أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لما صدقوه . ولما كان الإيقان وزوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مكانه ، وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً { وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله } يجوز أن يكون المجاهد منوياً وهو العدو المحارب أو الشيطان أو الهوى ، وأن يكون جاهد مبالغة في جهد ، ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس الغزو وأن يتناول العبادات بأجمعها وبالمجاهدة بالمال نحو صنيع عثمان في جيش العسرة ، وأن يتناول الزكاة وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر . وخبر المبتدأ الذي هو { المؤمنون } { أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون } أي الذين صدقوا في قولهم آمنا ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وحق . وقوله { الذين آمَنُواْ } صفة لهم .
ولما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا أنهم مخلصون فنزل { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ } أي أتخبرونه بتصديق قلوبكم { والله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض والله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } من النفاق والإخلاص وغير ذلك { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ } أي بأن { أَسْلَمُواْ } يعني بإسلامهم .(3/348)
والمن ذكر الأيادي تعريضاً للشكر { قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ } أي المنة لله عليكم { أَنْ هَداكُمْ } بأن هداكم أو لأن { للإيمان إِنُ كُنتُمْ صادقين } إن صح زعمكم وصدقت دعواكم إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان بالله فلله المنة عليكم وقرىء { إِنْ هَداكُمْ } { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وبالياء : مكي . وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم يعني أنه تعالى يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم لا يخفي عليه منه شيء فكيف يخفي عليه ما في ضمائركم وهو علام الغيوب؟(3/349)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
الكلام في { ق والقرءان المجيد بَلْ عَجِبُوآ } كالكلام في { ص والقرءان ذِى الذكر بَلِ الذين كَفَرُواْ } سواء بسواء لالتقائهما في أسلوب واحد . والمجيد ذو المجد والشرف على غيره من الكتب ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل بما فيه مجد عند الله وعند الناس . وقوله { بَلْ عَجِبُواْ } أي كفار مكة { أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } أي محمد صلى الله عليه وسلم إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن ينذرهم بالمخوف رجل منهم قد عرفوا عدالته وأمانته ، ومن كان كذلك لم يكن إلا ناصحاً لقومه خائفاً أن ينالهم مكروه ، وإذا علم أن مخوفاً أظلهم لزمه أن ينذرهم فكيف بما هو غاية المخاوف وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من البعث مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وعلى اختراع كل شيء وإقرارهم بالنشأة الأولى مع شهادة العقل بأنه لا بد من الجزاء؟ ثم عول على أحد الإنكارين بقوله { فَقَالَ الكافرون هذا شَىْءٌ عَجِيبٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في الاستبعاد وأحق بالإنكار . وضع الكافرون موضع الضمير للشهادة على أنهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم ، وهذا إشارة إلى الرجع . و«إذا» منصوب بمضمر معناه أحين نموت ونبلى نرجع . { مِتْنَا } نافع وعلي وحمزة وحفص { ذلك رَجْعُ بَعِيدٌ } مستبعد مستنكر كقولك «هذا قول بعيد» أي بعيد من الوهم والعادة . ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث ، والوقف على { ترابا } على هذا حسن ، وناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع ما دل عليه المنذر من المنذر به وهو البعث { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ } رد لاستبعادهم الرجع لأن من لطف علمه حتى علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم كان قادراً على رجعهم أحياء كما كانوا { وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ } محفوظ من الشياطين ومن التغير وهو اللوح المحفوظ ، أو حافظ لما أودعه وكتب فيه { بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ } إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر { فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ } مضطرب . يقال : مرج الخاتم في الإصبع إذا اضطرب من سعته فيقولون تارة شاعر وطوراً ساحر ومرة كاهن لا يثبتون على شيء واحد . وقيل : الحق القرآن . وقيل : الإخبار بالبعث .
ثم دلهم على قدرته على البعث فقال { أَفَلَمْ يَنظُرُوآ } حين كفروا بالبعث { إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ } إلى آثار قدرة الله تعالى في خلق العالم { كَيْفَ بنيناها } رفعناها بغير عمد { وزيناها } بالنيرات { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } من فتوق وشقوق أي أنها سليمة من العيوب لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل { والأرض مددناها } دحوناها { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي } جبالاً ثوابت لولا هي لمالت { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } صنف { بَهِيجٍ } يبتهج به لحسنه { تَبْصِرَةً وذكرى } لنبصر به ونذكر { لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } راجع إلى ربه مفكر في بدائع خلقه .(3/350)
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مباركا } كثير المنافع { فَأَنبَتْنَا بِهِ جنات وَحَبَّ الحصيد } أي وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالحنطة والشعير وغيرهما { والنخل باسقات } طوالاً في السماء { لَّهَا طَلْعٌ } هو كل ما يطلع من ثمر النخيل { نَّضِيدٌ } منضود بعضه فوق بعض لكثرة الطلع وتراكمه أو لكثرة ما فيه من الثمر { رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ } أي أنبتناها رزقاً للعباد لأن الإنبات في معنى الرزق فيكون { رِزْقاً } مصدراً من غير لفظه ، أو هو مفعول له أي أنبتناها لرزقهم { وَأَحْيَيْنَا بِهِ } بذلك الماء { بَلْدَةً مَّيْتاً } قد جف نباتها { كذلك الخروج } أي كما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم لأن إحياء الموات كإحياء الأموات ، والكاف في محل الرفع على الابتداء .
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } قبل قريش { قَوْمُ نُوحٍ وأصحاب الرس } هو بئر لم تطو وهم قوم باليمامة وقيل أصحاب الأخدود { وَثَمُودُ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ } أراد بفرعون قومه كقوله { مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } [ يونس : 83 ] لأن المعطوف عليه قوم نوح والمعطوفات جماعات { وإخوان لُوطٍ وأصحاب الأيكة } سماهم إخوانه لأن بينهم وبينه نسباً قريباً { وَقَوْمُ تُّبَّعٍ } هو ملك باليمن أسلم ودعا قومه إلى الإسلام فكذبوه وسمي به لكثرة تبعه { كُلٌّ } أي كل واحد منهم { كَذَّبَ الرسل } لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميعهم { فَحَقَّ وَعِيدِ } فوجب وحل وعيدي وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم { أَفَعَيِينَا } عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة للإنكار { بالخلق الأول } أي أنا لم نعجز عن الخلق الأول فكيف نعجز عن الثاني والاعتراف بذلك اعتراف بالإعادة { بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ } في خلط وشبهة قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم وذلك تسويله إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة فتركوا لذلك الاستدلال الصحيح وهو أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر { مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } بعد الموت . وإنما نكر الخلق الجديد ليدل على عظمة شأنه وأن حق من سمع به أن يخاف ويهتم به .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } الوسوسة الصوت الخفي ووسوسة النفس ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس ، والباء مثلها في قوله «صوت بكذا» { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } المراد قرب علمه منه { مِنْ حَبْلِ الوريد } هو مثل في فرط القرب ، والوريد عرق في باطن العنق ، والحبل العرق ، والإضافة للبيان كقولهم «بعير سانية» { إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان } يعني الملكين الحافظين { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ } التلقي التلقن بالحفظ والكتابة والقعيد والمقاعد بمعنى المجالس وتقديره عن اليمين قعيد وعن الشمال من المتلقيين فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه كقوله(3/351)
: ... رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريئاً ومن أجل الطوى رماني ... أي رماني بأمر كنت منه بريئاً وكان والدي منه بريئاً . و«إذ» منصوب بأقرب لما فيه من معنى يقرب ، والمعنى إنه لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس ولا شيء أخفى منه وهو أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به إيذاناً بأن استحفاظ الملكين أمر هو غني عنه ، وكيف لا يستغني عنه وهو مطلع على أخفى الخفيات؟ وإنما ذلك لحكمة وهو ما في كتبة الملكين وحفظهما وعرض صحائف العمل يوم القيامة من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات .
{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } ما يتكلم به وما يرمي به من فيه { إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ } حافظ { عَتِيدٌ } حاضر . ثم قيل : يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه . وقيل : لا يكتبان إلا ما فيه أجر أو وزر . وقيل : إن الملكين لا يجتنبانه إلا عند الغائط والجماع . لما ذكر إنكارهم البعث واحتج عليهم بقدرته وعلمه أعلمهم أن ما أنكروه هم لاقوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة ، ونبه على اقتراب ذلك بأن عبر عنه بلفظ الماضي وهو قوله { وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ } أي شدته الذاهبة بالعقل ملتبسة { بالحق } أي بحقيقة الأمر أو بالحكمة { ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ } الإشارة إلى الموت والخطاب للإنسان في قوله { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } على طريق الالتفات { تَحِيدُ } تنفر وتهرب { وَنُفِخَ فِى الصور } يعني نفخة البعث { ذَلِكَ يَوْمَ الوعيد } أي وقت ذلك يوم الوعيد على حذف المضاف والإشارة إلى مصدر نفخ { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } أي ملكان أحدهما يسوقه إلى المحشر والآخر يشهد عليه بعمله ، ومحل { مَّعَهَا سَائِقٌ } النصب على الحال من { كُلٌّ } لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة { لَّقَدْ كُنتَ } أي يقال لها لقد كنت { فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هذا } النازل بك اليوم { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } أي فأزلنا غفلتك بما تشاهده { فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله أو غشاوة غطي بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً ، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها فيبصر ما لم يبصره من الحق ، ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته حديداً لتيقظه .(3/352)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
{ وَقَالَ قَرِينُهُ } الجمهور على أنه الملك الكاتب الشهيد عليه { هذا } أي ديوان عمله ، مجاهد : شيطانه الذي قيض له في قوله { نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] . هذا أي الذي وكلت به { مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ } { هذا } مبتدأ و { مَا } نكرة بمعنى شيء والظرف بعده وصف له وكذلك { عَتِيدٌ } و { مَا } وصفتها خبر { هذا } والتقدير هذا شيء ثابت لديّ عتيد . ثم يقول الله تعالى { أَلْقِيَا } والخطاب للسائق والشهيد أو لمالك ، وكأن الأصل ألقِ ألقِ فناب ألقيا عن ألق ألق لأن الفاعل كالجزء من الفعل فكانت تثنية الفاعل نائبة عن تكرار الفعل . وقيل : أصله ألقين والألف بدل من النون إجراء للوصل مجرى الوقف دليله قراءة الحسن { ألقين } { فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ } بالنعم والمنعم { عَنِيدٍ } معاند مجانب للحق معاد لأهله { مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ } كثير المنع للمال عن حقوقه أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله { مُعْتَدٍ } ظالم متخط للحق { مُرِيبٍ } شاك في الله وفي دينه { الذى جَعَلَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ } مبتدأ متضمن معنى الشرط خبره { فألقياه فِى العذاب الشديد } أو بدل من { كُلَّ كَفَّارٍ } و { فألقياه } تكرير للتوكيد ولا يجوز أن يكون صفة ل { كَفَّار } لأن النكرة لا توصف بالموصول .
{ قَالَ قرِينُهُ } أي شيطانه الذي قرن به وهو شاهد لمجاهد ، وإنما أخليت هذه الجملة عن الواو دون الأولى لأن الأولى واجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع الملكين وقول قرينه ما قال له ، وأما هذه فهي مستأنفة كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما في مقاولة موسى وفرعون ، فكأن الكافر قال رب هو أطغاني فقال قرينه { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ولكن كَانَ فِى ضلال بَعِيدٍ } أي ما أوقعته في الطغيان ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ } هو استئناف مثل قوله تعالى { قَالَ قرِينُهُ } كأن قائلاً قال : فماذا قال الله؟ فقيل : قال لا تختصموا { لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد } أي لا تختصموا في دار الجزاء وموقف الحساب فلا فائدة في اختصامكم ولا طائل تحته وقد أوعدتكم بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي فما تركت لكم حجة عليّ . والباء في { بالوعيد } مزيدة كما في قوله { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] أو معدية على أن قدم مطاوع بمعنى تقدم { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ } أي لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدي بإدخال الكفار في النار { وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ } فلا أعذب عبداً بغير ذنب .(3/353)
وقال { بظلام } على لفظ المبالغة لأنه من قولك هو ظالم لعبده وظلام لعبيده { يَوْمَ } نصب ب { ظلام } أو بمضمر هو اذكر وأنذر { نَّقُولُ } نافع وأبو بكر أي يقول الله { لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } وهو مصدر كالمجيد أي أنها تقول بعد امتلائها هل من مزيد أي هل بقي فيّ موضع لم يمتليء يعني قد امتلأت ، أو أنها تستزيد وفيها موضع للمزيد وهذا على تحقيق القول من جهنم وهو غير مستنكر كإنطاق الجوارح ، والسؤال لتوبيخ الكفرة لعلمه تعالى بأنها امتلأت أم لا .
{ وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } غير نصب على الظرف أي مكاناً غير بعيد ، أو على الحال وتذكيره لأنه على زنة المصدر كالصليل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث ، أو على حذف الموصوف أي شيئاً غير بعيد ومعناه التوكيد كما تقول : هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل { هذا } مبتدأ وهو إشارة إلى الثواب أو إلى مصدر أزلفت { مَّا تُوعَدُونَ } صفته وبالياء : مكي { لِكُلِّ أَوَّابٍ } رجاع إلى ذكر الله خبره { حَفِيظٍ } حافظ لحدوده جاء في الحديث " من حافظ على أربع ركعات في أول النهار كان أواباً حفيظاً " { مَّنْ } مجرور المحل بدل من { أَوَّاب } أو رفع بالابتداء وخبره { ادخلوها } على تقدير يقال لهم ادخولها بسلام لأن «من» في معنى الجمع { خَشِىَ الرحمن } الخشية انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة ، وقرن بالخشية اسمه الدال على سعة الرحمة للثناء البليغ على الخاشي وهو خشيته مع علمه أنه الواسع الرحمة كما أثنى عليه بأنه خاشٍ مع أن المخشي منه غائب { بالغيب } حال من المفعول أي خشيه وهو غائب ، أو صفة لمصدر خشي أي خشيه خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب . الحسن : إذا أغلق الباب وأرخى الستر { وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } راجع إلى الله . وقيل : بسريرة مرضية وعقيدة صحيحة { ادخلوها بِسَلامٍ } أي سالمين من زوال النعم وحلول النقم { ذلك يَوْمُ الخلود } أي يوم تقدير الخلود كقوله { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] أي مقدرين الخلود { لَهُم مَّا يَشَآءَونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } على ما يشتهون ، والجمهور على أنه رؤية الله تعالى بلا كيف .
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ } قبل قومك { مِّن قَرْنٍ } من القرون الذين كذبوا رسلهم { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم } من قومك { بَطْشاً } قوة وسطوة { فَنَقَّبُواْ } فخرقوا { فِى البلاد } وطافوا . والتنقيب التنقير عن الأمر والبحث والطلب ، ودخلت الفاء للتسبيب عن قوله { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } أي شدة بطشهم أقدرتهم على التنقيب وقوّتهم عليه ، ويجوز أن يراد فنقب أهل مكة في أسفارهم ومسايرهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيصاً حتى يؤملوا مثله لأنفسهم ، ويدل عليه قراءة من قرأ { فَنَقِّبُواْ } على الأمر { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } مهرب من الله أو من الموت .(3/354)
{ إِنَّ فِى ذلك } المذكور { لِذِكْرِى } تذكرة وموعظة { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } واعٍ لأن من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له { أَوْ أَلْقَى السمع } أصغى إلى المواعظ { وَهُوَ شَهِيدٌ } حاضر بفطنته لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب . { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } إعياء ، قيل : نزلت في اليهود لعنت تكذيباً لقولهم خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش وقالوا : إن الذي وقع من التشبيه في هذه الأمة إنما وقع من اليهود ومنهم أخذ . وأنكر اليهود التربيع في الجلوس وزعموا أنه جلس تلك الجلسة يوم السبت { فاصبر على مَا يَقُولُونَ } أي على ما يقول اليهود ويأتون به من الكفر والتشبيه ، أو على ما يقول المشركون في أمر البعث فإن من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منه { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } حامداً ربك ، والتسبيح محمول على ظاهره أو على الصلاة فالصلاة { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } الفجر { وَقَبْلَ الغروب } الظهر والعصر { وَمِنَ اليل فَسَبِّحْهُ } العشاءان أو التهجد { وأدبار السجود } التسبيح في آثار الصلوات والسجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة . وقيل : النوافل بعد المكتوبات أو الوتر بعد العشاء والأدبار جمع دبر ، { وإدبار } حجازي وحمزة وخلف من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت ، ومعناه وقت انقضاء السجود كقولهم «آتيك خفوق النجم» . { واستمع } لما أخبرك به من حال يوم القيامة وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به وقد وقف يعقوب عليه . وانتصب { يَوْمَ يُنَادِ المناد } بما دل عليه { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور . وقيل : تقديره واستمع حديث يوم ينادي المنادي . { المنادي } بالياء في الحالين : مكي وسهل ويعقوب ، وفي الوصل : مدني وأبو عمرو ، وغيرهم بغير ياء فيهما . والمنادي إسرافيل ينفخ في الصور وينادي : أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء . وقيل : إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي بالحشر { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } من صخرة بيت المقدس وهي أقرب من الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً وهي وسط الأرض .
{ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة } بدل من { يَوْمٍ يُنَادِى } . الصيحة النفخة الثانية { بالحق } متعلق ب { الصيحة } والمراد به البعث والحشر للجزاء { ذلك يَوْمُ الخروج } من القبور { إِنَّا نَحْنُ نُحْيىِ } الخلق { وَنُمِيتُ } أي نميتهم في الدنيا { وَإِلَيْنَا المصير } أي مصيرهم { يَوْمَ تَشَقَّقُ } بالتخفيف : كوفي وأبو عمرو ، وغيرهم بالتشديد { الأرض عَنْهُمْ } أي تتصدع الأرض فتخرج الموتى من صدوعها { سِرَاعاً } حال من المجرور أي مسرعين { ذلك حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } هين .(3/355)
وتقديم الظرف يدل على الاختصاص أي لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذي لا يشغله شأن عن شأن { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } فيك وفينا تهديد لهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } كقوله { بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] أي ما أنت بمسلط عليهم إنما أنت داعٍ وباعث . وقيل : هو من جبره على الأمر بمعنى أجبره أي ما أنت بوال عليهم تجبرهم على الإيمان { فَذَكِّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ } كقوله : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها } [ النازعات : 45 ] . لأنه لا ينفع إلا فيه والله أعلم .(3/356)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
{ والذريات } الرياح لأنها تذرو التراب وغيره ، وبادغام التاء في الذال : حمزة وأبو عمرو { ذَرْواً } مصدر والعامل فيه اسم الفاعل { فالحاملات } السحاب لأنها تحمل المطر { وِقْراً } مفعول الحاملات { فالجاريات } الفلك { يُسْراً } جرياً ذا يسر أي ذا سهولة { فالمقسمات أَمْراً } الملائكة لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما ، أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك ، أو تتولى تقسيم أمر العباد؛ فجبريل للغلظة ، وميكائيل للرحمة ، وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل للنفخ . ويجوز أن يراد الرياح لا غير لأنها تنشيء السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجوّ جرياً سهلاً ، وتقسم الأمطار بتصريف السحاب . ومعنى الفاء على الأول أنه أقسم بالرياح فبالسحاب التي تسوقه فبالفلك التي تجريها بهبوبها ، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر ومنافعها . وعلى الثاني أنها تبتديء في الهبوب فتذرو التراب والحصباء فتقل السحاب فتجري في الجوّ باسطة له فتقسم المطر { إِنَّمَا تُوعَدُونَ } جواب القسم و«ما» موصولة أو مصدرية والموعود البعث { لصادق } وعد صادق كعيشة راضية أي ذات رضا { وَإِنَّ الدين } الجزاء على الأعمال { لَوَاقِعٌ } لكائن .
{ والسماء } هذا قسم آخر { ذَاتِ الحبك } الطرائق الحسنة مثل ما يظهر على الماء من هبوب الريح ، وكذلك حبك الشعر آثار تثنيه وتكسره جمع حبيكة كطريقة وطرق . ويقال : إن خلقة السماء كذلك . وعن الحسن : حبكها نجومها جمع حباك { إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } أي قولهم في الرسول ساحر وشاعر ومجنون وفي القرآن سحر وشعر وأساطير الأولين { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } الضمير للقرآن أو الرسول أي يصرف عنه من صرف ، الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم ، أو يصرف عنه من صرف في سابق علم الله أي علم فيما لم يزل أن مأفوك عن الحق لا يرعوي . ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين ، أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق ، ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه فمنهم شاك ومنهم جاحد ، ثم قال : يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو مأفوك { قُتِلَ } لعن وأصله الدعاء بالقتل والهلاك ثم جرى مجرى لعن { الخراصون } الكذابون المقدرون ما لا يصح وهم أصحاب القول المختلف ، واللام إشارة إليهم كأنه قيل : قتل هؤلاء الخراصون { الذين هُمْ فِى غَمْرَةٍ } في جهل يغمرهم { ساهون } غافلون عما أمروا به .
{ يَسْئَلُونَ } فيقولون { أَيَّانَ يَوْمُ الدين } أي متى يوم الجزاء وتقديره : أيان وقوع يوم الدين لأنه إنما تقع الأحيان ظروفاً للحدثان . وانتصب اليوم الواقع في الجواب بفعل مضمر دل عليه السؤال أي يقع { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } ويجوز أن يكون مفتوحاً لإضافته إلى غير متمكن وهو الجملة ، ومحله نصب بالمضمر الذي هو يقع أو رفع على هو يوم هم على النار يفتنون يحرقون ويعذبون { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } أي تقول لهم خزنة النار ذوقوا عذابكم وإحراقكم بالنار { هذا } مبتدأ خبره { الذى } أي هذا العذاب هو الذي { كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } في الدنيا بقولكم(3/357)
{ فأتنا بما تعدنا } ثم ذكر حال المؤمنين فقال .
{ إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ } أي وتكون العيون وهي الأنهار الجارية بحيث يرونها وتقع عليها أبصارهم لا أنهم فيها { ءاخِذِينَ مَآ ءاتاهم رَّبُّهُمْ } قابلين لكل ما أعطاهم من الثواب راضين به وآخذين حال من الضمير في الظرف وهو خبر إن { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } قبل دخول الجنة في الدنيا { مُحْسِنِينَ } قد أحسنوا أعمالهم وتفسير إحسانهم ما بعده .
{ كَانُواْ قَلِيلاً مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ } ينامون . و«ما» مزيدة للتوكيد و { يَهْجَعُونَ } خبر { كَانَ } والمعنى كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل ، أو مصدرية والتقدير : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم فيرتفع هجوعهم لكونه بدلاً من الواو في { كَانُواْ } لا ب { قَلِيلاً } لأنه صار موصوفاً بقوله { مِّنَ اليل } خرج من شبه الفعل وعمله باعتبار المشابهة أي كان هجوعهم قليلاً من الليل ، ولا يجوز أن تكون «ما» نافية على معنى أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ويحيونه كله لأن «ما» النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لا تقول : زيداً ما ضربت { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ، والسحر السدس الأخير من الليل { وَفِى أموالهم حَقٌّ لَّلسَّائِلِ } لمن يسأل لحاجته { والمحروم } أي الذي يتعرض ولا يسأل حياء .
{ وَفِى الأرض ءايات } تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره حيث هي مدحوة كالبساط لما فوقها ، وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها وهي مجزأة؛ فمن سهل ومن جبل وصلبة ورخوة وعذاة وسبخة ، وفيها عيون متفجرة ومعادن مفتنة ودواب منبثة مختلفة الصور والأشكال متباينة الهيئات والأفعال { لّلْمُوقِنِينَ } للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصّل إلى المعرفة ، فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها فازدادوا إيقاناً على إيقانهم { وَفِى أَنفُسِكُمْ } في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال ، وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق ما تتحير فيه الأذهان ، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وبالألسن والنطق ومخارج الحروف وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة مدبرها وصانعها مع الأسماء والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له ، وما سوى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني فإنه إذا جسا منها شيء جاء العجز ، وإذا استرخى أناخ الذل ، فتبارك الله أحسن الخالقين . وما قيل إن التقدير أفلا تبصرون في أنفسكم ضعيف لأنه يفضي إلى تقديم ما في حيز الاستفهام على حرف الاستفهام { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } تنظرون نظر من يعتبر { وَفِى السماء رِزْقُكُمْ } أي المطر لأنه سبب الأقوات ، وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه : فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم { وَمَا تُوعَدُونَ } الجنة فهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش ، أو أراد أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدونه في العقبى كله مقدور مكتوب في السماء .(3/358)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
{ فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } الضمير يعود إلى الرزق أو إلى { مَّا تُوعَدُونَ } { مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } بالرفع : كوفي غير حفص صفة للحق أي حق مثل نطقكم ، وغيرهم بالنصب أي إنه لحق حقاً مثل نطقكم ، ويجوز أن يكون فتحاً لإضافته إلى غير متمكن و«ما» مزيدة . وعن الأصمعي أنه قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال : من الرجل؟ فقلت : من بني أصمع . قال : من أين أقبلت؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الله ، قال : اتلو عليّ فتلوت { والذريات } فلما بلغت قوله { وَفِى السماء رِزْقُكُمْ } قال : حسبك . فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ، فلما حججت مع الرشيد وطفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم عليّ واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح وقال : { قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً } [ الأعراف : 44 ] ثم قال : وهل غير هذا؟ فقرأت { فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } فصاح وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى حلف قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه .
{ هَلُ أَتَاكَ } تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عرفه بالوحي وانتظامها بما قبلها باعتبار أنه قال { وَفِى الأرض ءايات } وقال في آخر هذه القصة { وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً } { حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم } الضيف للواحد والجماعة كالصوم والزور لأنه في الأصل مصدر ضافه ، وكانوا اثني عشر ملكاً . وقيل : تسعة عاشرهم جبريل . وجعلهم ضيفاً لأنهم كانوا في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك { المكرمين } عند الله لقوله { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] وقيل : لأنه خدمهم بنفسه وأخدمهم امرأته وعجل لهم القرى { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ } نصب ب { المكرمين } إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم وإلا فبإضمار اذكر { فَقَالُواْ سَلامًا } مصدر سادٌّ مسد الفعل مستغنى به عنه ، وأصله نسلم عليكم سلاماً { قَالَ سلام } أي عليكم سلام فهو مرفوع على الابتداء وخبره محذوف ، والعدول إلى الرفع للدلالة على إثبات السلام كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به أخذاً بأدب الله ، وهذا أيضاً من إكرامه لهم . حمزة وعلي : سلم والسلم السلام { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي أنتم قوم منكرون فعرفوني من أنتم { فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ } فذهب إليهم في خفية من ضيوفه ومن أدب المضيف أن يخفي أمره وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذراً من أن يكفه ، وكان عامة مال إبراهيم عليه السلام البقر { فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } ليأكلوا منه فلم يأكلوا { قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ } أنكر عليهم ترك الأكل أو حثهم عليه { فَأَوْجَسَ } فأضمر { مِنْهُمْ خِيفَةً } خوفاً لأن من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك .(3/359)
عن ابن عباس رضي الله عنهما : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } إنا رسل الله ، وقيل : مسح جبريل العجل فقام ولحق بأمه { وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ } أي يبلغ ويعلم والمبشر به إسحاق عند الجمهور .
{ فَأَقْبَلَتِ امرأته فِى صَرَّةٍ } في صيحة من صر القلم والباب ، قال الزجاج : الصرة شدة الصياح ههنا ومحله النصب على الحال أي فجاءت صارة . وقيل : فأخذت في صياح وصرتها قولها يا ويلتا { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } فلطمت ببسط يديها . وقيل : فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي أنا عجوز فكيف ألد كما قال في موضع آخر { أألد وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِى شَيْخًا } [ هود : 72 ] { قَالُواْ كَذَلِكِ } مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به { قَالَ رَبُّكِ } أي إنما نخبرك عن الله تعالى والله قادر على ما تستبعدين { إِنَّهُ هُوَ الحكيم } في فعله { العليم } فلا يخفى عليه شيء . ورُوي أن جبريل قال لها حين استبعدت : انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة . ولما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون إلا بأمر الله رسلاً في بعض الأمور { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ } أي فما شأنكم وما طلبكم وفيم أرسلتم؟ { أَيُّهَا المرسلون } أرسلتم بالبشارة خاصة أو لأمر آخر أولهما { قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } أي قوم لوط { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ } أريد السجيل وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر حتى صار في صلابة الحجارة { مُّسَوَّمَةً } معلمة من السومة وهي العلامة على كل واحد منها اسم من يهلك به { عِندَ رَبّكَ } في ملكه وسلطانه { لِلْمُسْرِفِينَ } سماهم مسرفين كما سماهم عادين لإسرافهم وعدوانهم في عملهم حيث لم يقتنعوا بما أبيح لهم { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا } في القرية ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة { مِنَ المؤمنين } يعني لوطاً ومن آمن به { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين } أي غير أهل بيت وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد لأن الملائكة سموهم مؤمنين ومسلمين هنا { وَتَرَكْنَا فِيهَا } في قراهم { ءايَةً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم } علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم . قيل : هي ماء أسود منتن .(3/360)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
{ وَفِى موسى } معطوف على { وَفِى الأرض ءايات } أو على قوله { وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً } على معنى وجعلنا في موسى آية كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً ... { إِذْ أرسلناه إلى فِرْعَوْنَ بسلطان مُّبِينٍ } بحجة ظاهرة وهي اليد والعصا { فتولى } فأعرض عن الإيمان { بِرُكْنِهِ } بما كان يتقوى به من جنوده وملكه ، والركن ما يركن إليه الإنسان من مال وجند { وَقَالَ ساحر } أي هو ساحر { أَوْ مَجْنُونٌ فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم وَهُوَ مُلِيمٌ } آتٍ بما يلام عليه من كفره وعناده . وإنما وصف يونس عليه السلام به في قوله { فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ } ( الصافات ) 142 ) لأن موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافها تختلف مقادير اللوم ، فراكب الكفر ملوم على مقداره ، وراكب الكبيرة والصغيرة والذلة كذلك ، والجملة مع الواو حال من الضمير في { فأخذناه } .
{ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } هي التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر وهي ريح الهلاك ، واختلف فيها والأظهر أنها الدبور لقوله عليه السلام : « نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور » { مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } هو كل ما رم أي بلي وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك ، والمعنى ما تترك من شيء هبت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم إلا أهلكته { وَفِى ثَمُودَ } آية أيضاً { إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ } تفسيره قوله { تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ } [ هود : 65 ] { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ } فاستكبروا عن امتثاله { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة } العذاب وكل عذاب مهلك صاعقة { الصعقة } علي وهي المرة من مصدر صعقتهم الصاعقة { وَهُمْ يَنظُرُونَ } لأنها كانت نهاراً يعاينونها { فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ } أي هرب أو هو من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه { وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } ممتنعين من العذاب أو لم يمكنهم مقابلتنا بالعذاب لأن معنى الانتصار المقابلة { وَقَوْمَ نُوحٍ } أي وأهلكنا قوم نوح لأن ما قبله يدل عليه ، أو واذكر قوم نوح . وبالجر أبو عمرو وعلي وحمزة أي وفي قوم نوح آية ويؤيده قراءة عبد الله { وَفِى قَوْمُ نُوحٍ } { مِن قَبْلُ } من قبل هؤلاء المذكورين { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } كافرين .
{ والسماء } نصب بفعل يفسره { بنيناها بِأَيْيْدٍ } بقوة والأيد القوة { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } لقادرون من الوسع وهي الطاقة والموسع القوي على الإنفاق أو لموسعون ما بين السماء والأرض { والأرض فرشناها } بسطناها ومهدناها وهي منصوبة بفعل مضمر أي فرشنا الأرض فرشناها { فَنِعْمَ الماهدون } نحن { وَمِن كُلّ شَىْء } من الحيوان { خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } ذكراً وأنثى .(3/361)
وعن الحسن : السماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر والموت والحياة ، فعدد أشياء وقال كل اثنين منها زوج والله تعالى فرد لا مثل له { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج لتتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه { فَفِرُّواْ إِلَى الله } أي من الشرك إلى الإيمان بالله أو من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن أو مما سواه إليه { إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } والتكرير للتوكيد والإطالة في الوعيد أبلغ .
{ كذلك } الأمر مثل ذلك وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحراً أو مجنوناً . ثم فسر ما أجمل بقوله { مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ } من قبل قومك { مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ } هو { ساحر أَوْ مَجْنُونٌ } رموهم بالسحر أو الجنون لجهلهم { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } الضمير للقول أي أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعاً متفقين عليه { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون } أي لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان والطغيان هو الحامل عليه { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } فأعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة فلم يجيبوا عناداً { فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } فلا لوم عليك في إعراضك بعدما بلغت الرسالة وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة { وَذَكِّر } وعظ بالقرآن { فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } بأن تزيد في عملهم { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } العبادة إن حملت على حقيقتها فلا تكون الآية عامة بل المراد بها المؤمنون من الفريقين دليله السياق أعني { وَذَكّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } وقراءة ابن عباس رضي الله عنهما { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس مِنَ المؤمنين } وهذا لأنه لا يجوز أن يخلق الذين علم منهم أنهم لا يؤمنون للعبادة لأنه إذا خلقهم للعبادة وأراد منهم العبادة فلا بد أن توجد منهم ، فإذا لم يؤمنوا علم أنه خلقهم لجهنم كما قال : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس } [ الأعراف : 179 ] . وقيل : إلا لآمرهم بالعبادة وهو منقول عن علي رضي الله عنه . وقيل : إلا ليكونوا عباداً لي . والوجه أن تحمل العبادة على التوحيد فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل عبادة في القرآن فهي توحيد . والكل يوحدونه في الآخرة لما عرفه أن الكفار كلهم مؤمنون موحدون في الآخرة دليلة قوله { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .
نعم قد أشرك البعض في الدنيا بالإضافة إلى الأبد أقل من يوم ، ومن اشترى غلاماً وقال : ما اشتريته إلا للكتابة كان صادقاً في قوله ما اشتريته إلا للكتابة ، وإن استعمله في يوم من عمره لعمل آخر { مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ } ما خلقتهم ليرزقوا أنفسهم أو واحداً من عبادي { وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } قال ثعلب : أن يطعموا عبادي وهي إضافة تخصيص كقوله عليه السلام خبراً عن الله تعالى :(3/362)
« من أكرم مؤمناً فقد أكرمني ومن آذى مؤمناً فقد آذاني » { إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين } الشديد القوة والمتين بالرفع صفة لذو ، وقرأ الأعمش بالجر صفة للقوة على تأويل الاقتدار { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } رسول الله بالتكذيب من أهل مكة { ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أصحابهم } نصيباً من عذاب الله مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من القرون المهلكة . قال الزجاج : الذنوب في اللغة النصيب { فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } نزول العذاب وهذا جواب النضر وأصحابه حين استعجلوا العذاب { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذى يُوعَدُونَ } أي من يوم القيامة . وقيل : من يوم بدر { ليعبدوني } ، { أن يطعموني } . { فَلا يستعجلوني } بالياء في الحالين : يعقوب ، وافقه سهل في الوصل الباقون بغير ياء ، والله أعلم .(3/363)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
{ والطور } هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين { وكتاب مُّسْطُورٍ } هو القرآن ونُكِّر لأنه كتاب مخصوص من بين سائر الكتب أو اللوح المحفوظ أو التوراة { فِى رَقّ } هو الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه { مَّنْشُورٍ } مفتوح لا ختم عليه أو لائح { والبيت المعمور } أي الضراح وهو بيت في السماء حيال الكعبة وعمرانه بكثرة زواره من الملائكة . رُوي أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ويخرجون ثم لا يعودون إليه أبداً . وقيل : الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار { والسقف المرفوع } أي السماء أو العرش { والبحر المسجور } المملوء أو الموقد ، والواو الأولى للقسم والبواقي للعطف ، وجواب القسم { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ } أي الذي أوعد الكفار به { لَوَاقِعٌ } لنازل . قال جبير بن مطعم : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في الأسارى فلقيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور ، فلما بلغ { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ } أسلمت خوفاً من أن ينزل العذاب { مَالَهُ مِن دَافِعٍ } لا يمنعه مانع والجملة صفة ل «واقع» أي واقع غير مدفوع .
والعامل في { يَوْمٍ } { لَوَاقِعٌ } أي يقع في ذلك اليوم ، أو اذكر { يَوْمَ تَمُورُ } تدور كالرحى مضطربة { السماء مَوْراً * وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً } في الهواء كالسحاب لأنها تصير هباء منثوراً { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * الذين هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب ومنه قوله { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين } [ المدثر : 45 ] ويبدل { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } من { يَوْمَ تَمُورُ } والدع : الدفع العنيف وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزخاً في أقفيتهم فيقال لهم { هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } في الدنيا { أَفَسِحْرٌ هذا } { هذا } مبتدأ و { سِحْرٌ } خبره يعني كنتم تقولون للوحي هذا سحر أفسحر هذا يريد أهذا المصداق أيضاً سحر ودخلت الفاء لهذا المعنى { أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } كما كنتم لا تبصرون في الدنيا يعني أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر وهذا تقريع وتهكم .
{ اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ } خبر { سَوَآء } محذوف أي سواء عليكم الأمران الصبر وعدمه بقوله { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة بأن يجازي عليه الصابر جزاء الخير ، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة فلا مزية له على الجزع .
{ إِنَّ المتقين فِى جنات } في أية جنات { وَنَعِيمٍ } أي وأي نعيم بمعنى الكمال في الصفة أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين خلقت لهم خاصة { فاكهين } حال من الضمير في الظرف والظرف خبر أي متلذذين { بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ } وعطف قوله { ووقاهم رَبُّهُمْ } على { فِي جنات } أي إن المتقين استقروا في جنات .(3/364)
. . ووقاهم ربهم ، أو على { آتاهم ربهم } على أن تجعل «ما» مصدرية والمعنى فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم { عَذَابَ الجحيم } أو الواو للحال و«قد» بعدها مضمرة يقال لهم { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أكلاً وشرباً هنيئاً أو طعاماً وشراباً هنيئاً وهو الذي لا تنغيص فيه { مُتَّكِئِينَ } حال من الضمير في { كُلُواْ واشربوا } { على سُرُرٍ } جمع سرير { مَصْفُوفَةٌ } موصول بعضها ببعض { وزوجناهم } وقرناهم { بِحُورٍ } جمع حوراء { عِينٌ } عظام الأعين حسانها { والذين ءامَنُواْ } مبتدأ و { أَلْحَقْنَا بِهِمْ } خبره { واتبعتهم } { وأتبعناهم } أبو عمرو { ذُرّيَّتُهُم } أولادهم { بإيمان } حال من الفاعل { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } أي نلحق الأولاد بإيمانهم وأعمالهم درجات الآباء وإن قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء . وقيل : إن الذرية وإن لم يبلغون مبلغاً يكون منهم الإيمان استدلالاً وإنما تلقنوا منهم تقليداً فهم يلحقون بالآباء . { ذُرّيَّتُهُم } { ذرياتهم } مدني { ذرياتهم } { ذرياتهم } أبو عمرو { ذرياتهم } { ذرياتهم } شامي { وَمَا ألتناهم مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء } وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء . { ألتناهم } مكي ألت يألِت ألتِ يألَت لغتان من الأولى متعلقة بألتناهم والثانية زائدة { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } أي مرهون فنفس المؤمن مرهونة بعمله وتجازى به .(3/365)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
{ وأمددناهم } وزدناهم في وقت بعد وقت { بفاكهة وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ } وإن لم يقترحوا { يتنازعون فِيهَا كَأْساً } خمراً أي يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم يتناول هذا الكأس من يد هذا وهذا من يد هذا { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } في شربها { وَلاَ تَأْثِيمٌ } أي لا يجري بينهم ما يلغي يعني لا يجري بينهم باطل ولا ما فيه إثم لو فعله فاعل في دار التكليف من الكذب والشتم ونحوهما كشاربي خمر الدنيا ، لأن عقولهم ثابتة فيتكلمون بالحكم والكلام الحسن . { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } مكي وبصري .
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } مملوكون لهم مخصوصون بهم { كَأَنَّهُمْ } من بياضهم وصفائهم { لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } في الصدف لأنه رطباً أحسن وأصفى أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة ، في الحديث : " إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك " { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } يسأل بعضهم بعضاً عن أحواله وأعماله وما استحق به نيل ما عند الله { قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ } أي في الدنيا { فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أرقاء القلوب من خشية الله أو خائفين من نزع الإيمان وفوت الأمان ، أو من رد الحسنات والأخذ بالسيئات { فَمَنَّ الله عَلَيْنَا } بالمغفرة والرحمة { ووقانا عَذَابَ السموم } هي الريح الحارة التي تدخل المسام فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ } من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه يعنون في الدنيا { نَدْعُوهُ } نعبده ولا نعبد غيره ونسأله الوقاية { إِنَّهُ هُوَ البر } المحسن { الرّحيم } العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب . { أَنَّهُ } بالفتح : مدني وعلي أي بأنه أو لأنه { فَذَكِّرْ } فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم { فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبَّكَ } برحمة ربك وإنعامه عليه بالنبوة ورجاحة العقل { بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ } كما زعموا وهو في موضع الحال والتقدير لست كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك .
{ أَمْ يَقُولُونَ } هو { شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } حوادث الدهر أي ننتظر نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة . و«أم» في أوائل هذه الآي منقطعة بمعنى بل والهمزة { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ المتربصين } أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم } عقولهم { بهذا } التناقض في القول وهو قولهم كاهن وشاعر مع قولهم مجنون وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهي { أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق لهم ، وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } اختلقه محمد من تلقاء نفسه { بَلِ } رد عليهم أي ليس الأمر كما زعموا { لاَ يُؤْمِنُونَ } فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه المطاعن مع علمهم ببطلان قولهم وأنه ليس بمتقول لعجز العرب عنه وما محمد إلا واحد من العرب { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ } مختلق { مّثْلِهِ } مثل القرآن { إِن كَانُواْ صادقين } في أن محمداً تقوله من تلقاء نفسه لأنه بلسانهم وهم فصحاء { أم خُلِقُواْ } أم أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم { مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ } من غير مقدر { أَمْ هُمُ الخالقون } أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق .(3/366)
وقيل : أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب أم هم الخالقون فلا يأتمرون { أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض } فلا يعبدون خالقهما { بَل لاَّ يُوقِنُونَ } أي لا يتدبرون في الآيات فيعلموا خالقهم وخالق السماوات والأرض .
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ } من النبوة والرزق وغيرهما فيخصوا من شاءوا بما شاءوا { أَمْ هُمُ المصيطرون } الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على مشيئتهم . وبالسين : مكي وشامي .
{ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } منصوب يرتقون به إلى السماء { يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون . قال الزجاج : يستمعون فيه أي عليه { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بسلطان مُّبِينٍ } بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم { أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون } ثم سفه أحلامهم حيث اختاروا لله ما يكرهون وهم حكماء عند أنفسهم { أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً } على التبليغ والإنذار { فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } المغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه أي لزمهم مغرم ثقيل فدحهم فزهدهم ذلك في اتباعك { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } أي اللوح المحفوظ { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ما فيه حتى يقولوا لا نبعث وإن بعثنا لم نعذب { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله وبالمؤمنين { فالذين كَفَرُواْ } إشارة إليهم أو أريد بهم كل من كفر بالله تعالى { هُمُ المكيدون } هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم وذلك أنهم قتلوا يوم بدر ، أو المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته { أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله } يمنعهم من عذاب الله { سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السماء ساقطا يَقُولُواْ سحاب } والكسف القطعة وهو جواب قولهم : { أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا } [ الإسراء : 92 ] يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا هذا سحاب { مَّرْكُومٌ } قدركم أي جمع بعضه على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب .
{ فَذَرْهُمْ حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى فِيهِ يُصْعَقُونَ } بضم الياء : عاصم وشامي .(3/367)
الباقون بفتح الياء ، يقال : صعقه فصعق وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق { يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } وإن لهؤلاء الظلمة { عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } دون يوم القيامة وهو القتل ببدر والقحط سبع سنين وعذاب القبر { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك . ثم أمره بالصبر إلى أن يقع بهم العذاب فقال { واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ } بإمهالهم وبما يلحقك فيه من المشقة { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أي بحيث نراك ونكلؤك . وجمع العين لأن الضمير بلفظ الجماعة ألا ترى إلى قوله { وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى } [ طه : 39 ] { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ } للصلاة وهو ما يقال بعد التكبير سبحانك اللهم وبحمدك ، أو من أي مكان قمت أو من منامك { وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ وإدبار النجوم } وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل وأدبار زيد أي في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت ، والمراد الأمر بقول سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات . وقيل : التسبيح الصلاة إذا قام من نومه ، ومن الليل صلاة العشاءين ، وإدبار النجوم صلاة الفجر ، وبالله التوفيق .(3/368)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
{ والنجم } أقسم بالثريا أو بجنس النجوم { إِذَا هوى } إذا غرب أو انتثر يوم القيامة وجواب القسم { مَا ضَلَّ } عن قصد الحق { صاحبكم } أي محمد صلى الله عليه وسلم والخطاب لقريش { وَمَا غوى } في اتباع الباطل . وقيل : الضلال نقيض الهدى والغي نقيض الرشد أي هو مهتد راشد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى } وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه إنما هو وحي من عند الله يوحى إليه . ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام ، ويجاب بأن الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد وقررهم عليه كان كالوحي لا نطقاً عن الهوى . { علَّمَهُِ } علم محمداً عليه السلام { شَدِيدُ القوى } ملك شديد قواه والإضافة غير حقيقية لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، وهو جبريل عليه السلام عند الجمهور ، ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين { ذُو مِرَّةٍ } ذو منظر حسن عن ابن عباس { فاستوى } فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي ، وكان ينزل في صورة دحية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق . وقيل : ما رآه أحد من الأنبياء عليهم السلام في صورته الحقيقية سوى محمد صلى الله عليه وسلم مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء .
{ وَهُوَ } أي جبريل عليه السلام { بالأفق الأعلى } مطلع الشمس { ثُمَّ دَنَا } جبريل من رسول الله صلى الله عليه وسلم { فتدلى } فزاد في القرب ، والتدلي هو النزول بقرب الشيء { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } مقدار قوسين عربيتين . وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع ومنه : «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين» ، وفي الحديث : " لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها " والقد السوط وتقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات { أَوْ أدنى } أي على تقديركم كقوله : { أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] وهذا لأنهم خوطبوا على لغتهم ومقدار فهمهم وهم يقولون هذا قدر رمحين أو أنقص . وقيل : بل أدنى { فأوحى } جبريل عليه السلام { إلى عَبْدِهِ } إلى عبد الله وإن لم يجر لاسمه ذكر لأنه لا يلتبس كقوله { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا } [ فاطر : 45 ] { مَا أوحى } تفخيم للوحي الذي أوحي إليه .(3/369)
قيل : أوحي إليه إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك { مَا كَذَبَ الفؤاد } فؤاد محمد { مَا رأى } ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ولم يشك في أن ما رآه حق . وقيل : المرئي هو الله سبحانه ، رآه بعين رأسه وقيل بقلبه { أفتمارونه } أفتجادلونه من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة كأن كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه ، { أفتمارونه } حمزة وعلي وخلف ويعقوب ، أفتغلبونه في المراء من ماريته فمريته ولما فيه من معنى الغلبة قال { على مَا يرى } فعدي ب «على» كما تقول غلبته على كذا . وقيل : أفتمرونه أفتجحدونه يقال : مريته حقه إذا جحدته وتعديته ب «على» لا تصح إلا على مذهب التضمين .
{ وَلَقَدْ رَءاهُ } رأى محمد جبريل عليهما السلام { نَزْلَةً أخرى } مرة أخرى من النزول نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها أي نزل عليه جبريل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه فرآه عليها وذلك ليلة المعراج { عِندَ سِدْرَةِ المنتهى } الجمهور على أنها شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش . والمنتهى بمعنى موضع الانتهاء أو الانتهاء كأنها في منتهى الجنة وآخرها ، وقيل : لم يجاوزها أحد وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم ولا يعلم أحد ما وراءها . وقيل : تنتهي إليها أرواح الشهداء { عِندَهَا جَنَّةُ المأوى } أي الجنة التي يصير إليها المتقون . وقيل : تأوي إليها أرواح الشهداء { إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى } أي رآه إذ يغشى السدرة ما يغشى ، وهو تعظيم وتكثير لما يغشاها ، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله تعالى وجلاله أشياء لا يحيط بها الوصف . وقد قيل : يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله تعالى عندها . وقيل : يغشاها فراش من ذهب { مَا زَاغَ البصر } بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها { وَمَا طغى } وما جاوز ما أمر برؤيته .
{ لَقَدْ رأى } والله لقد رأى { مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى } الآيات التي هي كبراها وعظماها يعني حين رقي به إلى السماء فأري عجائب الملكوت .
{ أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة } أي أخبرونا عن هذه الأشياء التي تعبدونها من دون الله عز وجل هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة؟ اللات والعزى ومناة أصنام لهم وهي مؤنثات ، فاللات كانت لثقيف بالطائف . وقيل : كانت بنخلة تعبدها قريش وهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة ، والعزى كانت لغطفان وهي ثمرة وأصلها تأنيث الأعز وقطعها خالد بن الوليد ، ومناة صخرة كانت لهذيل وخزاعة .(3/370)
وقيل : لثقيف وكأنها سميت مناة لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق { ومناءة } مكي مفعلة من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها { الأخرى } هي صفة ذم أي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله { وَقَالَتِ أُخْرَاهُمْ لأولاهم } [ الأعراف : 38 ] أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم ، ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى كانوا يقولون : إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله مع وأدهم البنات وكراهتهم لهن فقيل لهم { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } أي جعلكم لله البنات ولكم البنين قسمة ضيزى أي جائزة من ضازه يضيزه إذا ضامه . و { ضيزى } فعلى إذ لا فعلى في النعوت فكسرت الضاد للياء كما قيل «بيض» وهو بوض مثل حمر وسود ، { ضئزى } بالهمز : مكي من ضأزه مثل ضازه .(3/371)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)
{ إِنْ هِىَ } ما الأصنام { إِلاَّ أَسْمَاء } ليس تحتها في الحقيقة مسميات لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها وأشذ منافاة لها { سَمَّيْتُمُوهَا } أي سميتم بها يقال سميته زيداً وسميته بزيد { أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان } حجة { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } إلا توهم أن ما هم عليه حق { وَمَا تَهْوَى الأنفس } وما تشتهيه أنفسهم { وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى } الرسول والكتاب فتركوه ولم يعملوا به { أَمْ للإنسان مَا تمنى } هي «أم» المنقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي ليس للإنسان يعني الكافر ما تمنى من شفاعة الأصنام أو من قوله : { وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] . وقيل : هو تمني بعضهم أن يكون هو النبي { فَلِلَّهِ الآخرة والأولى } أي هو مالكهما وله الحكم فيهما يعطى النبوة والشفاعة من شاء وارتضى لا من تمني .
{ وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السماوات لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاء ويرضى } يعني أن أمر الشفاعة ضيق فإن الملائكة مع قربتهم وكثرتهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم شيئاً قط ، ولا تنفع إلا إذا شفعوا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه ويراه أهلاً لأن يشفع له فكيف تشفع الأصنام إليه لعبدتهم { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة } أي كل واحد منهم { تَسْمِيَةَ الأنثى } لأنهم إذا قالوا للملائكة بنات الله فقد سموا كل واحد منهم بنتاً وهي تسمية الأنثى .
{ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي بما يقولون وقرىء بها أي بالملائكة أو التسمية { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } هو تقليد الآباء { وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئاً } أي إنما يعرف الحق الذي هو حقيقة الشيء وما هو عليه بالعلم والتيقن لا بالظن والتوهم { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا } فأعرض عمن رأيته معرضاً عن ذكر الله أي القرآن { وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا * ذلك } أي اختيارهم الدنيا والرضا بها { مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم } منتهى علمهم { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى } أي هو أعلم بالضال والمهتدي ومجازيهما .
{ وَلِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض لِيَجْزِىَ الذين أسائوا بِمَا عَمِلُواْ } بعقاب ما عملوا من السوء أو بسبب ما عملوا من السوء { وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى } بالمثوبة الحسنى وهي الجنة أو بسبب الأعمال الحسنى ، والمعنى أن الله عز وجل إنما خلق العالم وسوى هذه الملكوت ليجزي المحسن من المكلفين والمسيء منهم إذ الملك أهل لنصر الأولياء وقهر الأعداء { الذين } بدل أو في موضع رفع على المدح أي هم الذين { يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم } أي الكبائر من الإثم لأن الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر والكبائر الذنوب التي يكبر عقابها ، { كَبِيرٌ } حمزة وعلي أي النوع الكبير منه { والفواحش } ما فحش من الكبائر كأنه قال : والفواحش منها خاصة .(3/372)
قيل : الكبائر ما أوعد الله عليه النار والفواحش ما شرع فيها الحد { إِلاَّ اللمم } أي الصغائر والاستثناء منقطع لأنه ليس من الكبائر والفواحش وهو كالنظرة والقبلة واللمسة والغمزة { إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة } فيغفر ما يشاء من الذنوب من غير توبة { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ } أي أباكم { مّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ } جمع جنين { فِى بُطُونِ أمهاتكم فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير والطاعات ، أو إلى الزكاة والطهارة من المعاصي ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم الله الزكي منكم والتقي أولاً وآخراً قبل أن يخرجكم من صلب آدم عليه السلام ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم . وقيل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا فنزلت . وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء لا على سبيل الاعتراف بالنعمة فإنه جائز لأن المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } فاكتفوا بعلمه عن علم الناس وبجزائه عن ثناء الناس .
{ أَفَرَأَيْتَ الذى تولى } أعرض عن الإيمان .
{ وأعطى قَلِيلاً وأكدى } قطع عطيته وأمسك ، وأصله إكداء الحافر وهو أن تلقاه كدية وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر . عن ابن عباس رضي الله عنهما : فيمن كفر بعد الإيمان . وقيل : في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره بعض الكافرين وقال له : تركت دين الأشياخ وزعمت أنهم في النار . قال : إني خشيت عذاب الله . فضمن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ففعل وأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل به ومنعه { أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى } فهو يعلم أن ما ضمنه من عذاب الله حق { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ } يخبر { بِمَا فِى صُحُفِ موسى } أي التوراة { وإبراهيم } أي وفي صحف إبراهيم { الذى وفى } أي وفر وأتم كقوله { فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] وإطلاقه ليتناول كل وفاء وتوفية . وقرىء مخففاً والتشديد مبالغة في الوفاء . وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفى به ، وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً فلما قذف في النار قال له جبريل : ألك حاجة؟ فقال أما إليك فلا . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار وهي صلاة الضحى »(3/373)
ورُوي " ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى؟ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ } إلى { حِينٍ تُظْهِرُونَ } [ الروم : 18 ] " وقيل : وفي سهام الإسلام وهي ثلاثون : عشرة في «التوبة» { التائبون } [ التوبة : 112 ] ، وعشرة في «الأحزاب» { إِنَّ المسلمين } [ الآية : 35 ] وعشرة في «المؤمنين» { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] ثم أعلم بما في صحف موسى وإبراهيم فقال { أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى } تزر من وزر يزر إذا اكتسب وزراً وهو الإثم ، و «إن» مخففة من الثقيلة والمعنى أنه لا تزر والضمير ضمير الشأن ومحل «أن» وما بعدها الجر بدلاً من { مَا فِى صُحُفِ موسى } أو الرفع على هو أن لا تزر كأن قائلاً قال : وما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقيل : { أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى } أي لا تحمل نفس ذنب نفس .(3/374)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
{ وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } إلا سعيه وهذه أيضاً مما في صحف إبراهيم وموسى ، وأما ما صح في الأخبار من الصدقة عن الميت والحج عنه فقد قيل : إن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً كان سعي غيره كأنه سعي نفسه لكونه تابعاً له وقائماً بقيامه ، ولأن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى } أي يرى هو سعيه يوم القيامة في ميزانه { ثُمَّ يُجْزَاهُ } ثم يجزى العبد سعيه . يقال : جزاه الله عمله وجزاه على عمله بحذف الجار وإيصال الفعل ، ويجوز أن يكون الضمير للجزاء . ثم فسره بقوله { الجزاء الأوفى } أو أبدله عنه { وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى } هذا كله في الصحف الأولى . والمنتهى مصدر بمعنى الانتهاء أي ينتهي إليه الخلق ويرجعون إليه كقوله : { وإلى الله المصير } [ آل عمران : 28 ] { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى } خلق الضحك والبكاء . وقيل : خلق الفرح والحزن . وقيل : أضحك المؤمنين في العقبى بالمواهب وأبكاهم في الدنيا بالنوائب و { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } قيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء ، أو أمات بالكفر وأحيا بالإيمان ، أو أمات هنا وأحيا ثمة { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى } إذا تدفق في الرحم يقال منى وأمنى { وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى } الإحياء بعد الموت { وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى } وأعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك .
{ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } هو كوكب يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر وكانت خزاعة تعبدها ، فأعلم الله أنه رب معبودهم هذا { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى } هم قوم هود وعاد الأخرى إرم { عَادٍ الولى } مدني وبصري غير سهل بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة { أُوْلِى } ونقل ضمتها إلى لام التعريف { وَثَمُودَاْ فَمَا أبقى } حمزة وعاصم الباقون { وَثَمُودَاْ } وهو معطوف على { عَاداً } ولا ينصب ب { فَمَا أبقى } لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبله لا تقول : زيداً فضربت ، وكذا ما بعد النفي لا يعمل فيما قبله ، والمعنى وأهلك ثمود فما أبقاهم .
{ وَقَوْمَ نُوحٍ } أي أهلك قوم نوح { مِن قَبْلُ } من قبل عاد وثمود { إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى } من عاد وثمود لأنهم كانوا يضربونه حتى لا يكون به حرام وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه { والمؤتفكة } والقرى التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت وهم قوم لوط يقال : أفكه فأتفك { أهوى } أي رفعها إلى السماء على جناح جبريل ثم أهواها إلى الأرض أي أسقطها و { المؤتفكة } منصوب ب { أهوى } { فغشاها } ألبسها { مَا غشى } تهويل وتعظيم لما صب عليها من العذاب وأمطر عليها من الصخر المنضود { فَبِأَىّ الآء رَبّكَ } أيها المخاطب { تتمارى } تتشكك بما أولاك من النعم أو بما كفاك من النقم ، أو بأي نعم ربك الدالة على وحدانيته وربوبيته تشكك { هذا نَذِيرٌ } أي محمد منذر { مّنَ النذر الأولى } من المنذرين الأولين .(3/375)
وقال { الأولى } على تأويل الجماعة أو هذا القرآن نذير من النذر الأولى أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم { أَزِفَتِ الآزفة } قربت الموصوفة بالقرب في قوله : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ } أي ليس لها نفس كاشفة أي مبينة متى تقوم كقوله : { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] . أو ليس لها نفس كاشفة أي قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله تعالى غير أنه لا يكشفها { أَفَمِنْ هذا الحديث } أي القرآن { تَعْجَبُونَ } إنكاراً { وَتَضْحَكُونَ } استهزاء { وَلاَ تَبْكُونَ } خشوعاً { وَأَنتُمْ سامدون } غافلون أو لاهون لاعبون ، وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء ليشغلوا الناس عن استماعه { فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا } أي فاسجدوا لله واعبدوه ولا تعبدوا الآلهة ، والله أعلم .(3/376)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
{ اقتربت الساعة } قربت القيامة { وانشق القمر } نصفين . وقرىء { وَقَدْ انشق } أي اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه . قال ابن مسعود رضي الله عنه : رأيت حراء بين فلقتي القمر . وقيل : معناه ينشق يوم القيامة . والجمهور على الأول وهو المروي في الصحيحين . ولا يقال لو انشق لما خفي على أهل الأقطار ولو ظهر عندهم لنقلوه متواتراً لأن الطباع جبلت على نشر العجائب لأنه يجوز أن يحجبه الله عنهم بغيم { وَإِن يَرَوْاْ } يعني أهل مكة { ءايَةً } تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم { يُعْرِضُواْ } عن الإيمان به { وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } محكم قوي من المرة القوة أو دائم مطرد أو مار ذاهب يزول ولا يبقى { وَكَذَّبُواْ } النبي صلى الله عليه وسلم { واتبعوا أَهْوَاءهُمْ } وما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره { وَكُلُّ أَمْرٍ } وعدهم الله { مُّسْتَقِرٌّ } كائن في وقته . وقيل : كل ما قدر واقع . وقيل : كل أمر من أمرهم واقع مستقر أي سيثبت ويستقر عند ظهور العقاب والثواب { وَلَقَدْ جَاءهُمْ } أهل مكة { مّنَ الأنباء } من القرآن المودع أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة وما وصف من عذاب الكفار { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } ازدجار عن الكفر . تقول : زجرته وازدجرته أي منعته وأصله ازتجر ولكن التاء إذا وقعت بعد زاي ساكنة أبدلت دالاً لأن التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهور ، فأبدل من التاء حرف مجهور وهو الدال ليتناسبا وهذا في آخر كتاب سيبويه { حِكْمَةٌ } بدل من «ما» أو على «هو حكمة» { بالغة } نهاية الصواب أو بالغة من الله إليهم { فَمَا تُغْنِى النذر } «ما» نفي و { النذر } جمع نذير وهم الرسل أو المنذر به أو النذر مصدر بمعنى الإنذار .
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } لعلمك أن الإنذار لا يغني فيهم . نصب { يَوْمَ يَدْعُ الداع } ب { يُخْرِجُونَ } أو بإضمار اذكر . { الداعى } ، { إلى الداعى } سهل ويعقوب ومكي فيهما ، وافق مدني وأبو عمرو في الوصل ، ومن أسقط الياء اكتفى بالكسرة عنها . وحذف الواو من { يَدْعُو } في الكتابة لمتابعة اللفظ ، والداعي إسرافيل عليه السلام { إلى شَىْءٍ نُّكُرٍ } منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثلة وهو هول يوم القيامة { نُّكُرٍ } بالتخفيف : مكي { خُشَّعاً أبصارهم } { خاشعا } عراقي غير عاصمٍ وهو حال من الخارجين وهو فعل للأبصار ، وذكر كما تقول يخشع أبصارهم غيرهم خشعاً على يخشعن أبصارهم وهي لغة من يقول «أكلوني البراغيث» . ويجوز أن يكون في { خُشَّعاً } ضميرهم وتقع { أبصارهم } بدلاً عنه ، وخشوع الأبصار كناية عن الذلة لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما { يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث } من القبور { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } في كثرتهم وتفرقهم في كل جهة .(3/377)
والجراد مثل في الكثرة والتموج يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض جاءوا كالجراد { مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع } مسرعين مادي أعناقهم إليه { يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ } صعب شديد .
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } قبل أهل مكة { قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } نوحاً عليه السلام . ومعنى تكرار التكذيب أنهم كذبوه تكذيباً على عقب تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب ، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأساً كذبوا نوحاً لأنه من جملة الرسل { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ } أي هو مجنون { وازدجر } زجر عن أداء الرسالة بالشتم وهدد بالشتم وهدد بالقتل ، أو هو من جملة قيلهم أي قالوا هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه { فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى } أي بأني { مَغْلُوبٌ } غلبني قومي فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس من إجابتهم لي { فانتصر } فانتقم لي منهم بعذاب تبعثه عليهم { فَفَتَحْنَا أبواب السماء } { فَفَتَحْنَا } شامي ويزيد وسهل ويعقوب { بِمَاء مُّنْهَمِرٍ } منصب في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر وهو أبلغ من قولك «وفجرنا عيون الأرض» { فَالْتَقَى الماء } أي مياه السماء والأرض وقرىء { الماءان } أي النوعان من الماء السماوي والأرضي { على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } على حال قدرها الله كيف شاء أو على أمر قد قدر في اللوح المحفوظ أنه يكون وهو هلاك قوم نوح بالطوفان .(3/378)
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
{ وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ ألواح وَدُسُرٍ } أراد السفينة وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها وتؤدي مؤداها بحيث لا يفصل بينها وبينها ونحوه «ولكنّ قميصي مسرودة من حديدً» أراد ولكن قميصي درع ، ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة لم يصح ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه ، والدسر جمع دسار وهو المسمار فعال من دسره إذا دفعه لأنه يدسر به منفذه { تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا } بمرأى منا أو بحفظنا أو { بِأَعْيُنِنَا } حال من الضمير في { تَجْرِى } أي محفوظة بنا { جَزَاء } مفعول له لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده أي فعلنا ذلك جزاء { لّمَن كَانَ كُفِرَ } وهو نوح عليه السلام وجعله مكفوراً لأن النبي نعمة من الله ورحمة قال الله تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] فكان نوح نعمة مكفورة { وَلَقَدْ تركناها } أي السفينة أو الفعلة أي جعلناها { ءايَةً } يعتبر بها . وعن قتادة : أبقاها الله بأرض الجزيرة . وقيل : على الجودي دهراً طويلاً حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } متعظ يتعظ ويعتبر ، وأصله مذتكر بالذال والتاء ولكن التاء أبدلت منها الدال والدال والذال من موضع فأدغمت الذال في الدال { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } جمع نذير وهو الإنذار { ونذري } يعقوب فيهما ، وافقه سهل في الوصل . غيرهما بغير ياء وعلى هذا الاختلاف ما بعده إلى آخر السورة { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ } سهلناه للادّكار والاتعاظ بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرفنا فيه من الوعد والوعيد { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } متعظ يتعظ . وقيل : ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ ويُروى أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل والزبور لا يتلوها أهلها إلا نظراً ولا يحفظونها ظاهراً كالقرآن .
{ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } أي وإنذاراتي لهم بالعذاب قبل نزوله أو وإنذاراتي في تعذيبهم لمن بعدهم { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } باردة أو شديدة الصوت { فِى يَوْمِ نَحْسٍ } شؤم { مُّسْتَمِرٌّ } دائم الشر فقد استمر عليهم حتى أهلكهم وكان في أربعاء في آخر الشهر { تَنزِعُ الناس } تقلعهم عن أماكنهم وكانوا يصطفون آخذاً بعضهم بأيدي بعض ويتداخلون في الشعاب ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتكبهم وتدق رقابهم { كَأَنَّهُمْ } حال { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } أصول نخل منقلع عن مغارسه ، وشبهوا بأعجاز النخل لأن الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقى أجساداً بلا رءوس فيتساقطون على الأرض أمواتاً وهم جثث طوال كأنهم أعجاز نخل ، وهي أصولها بلا فروع ، وذكر صفة نخل على اللفظ ولو حملها على المعنى لأنث كما قال(3/379)
{ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } . { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا واحدا } انتصب { بَشَرًا } بفعل يفسره { نَّتَّبِعُهُ } تقديره أنتبع بشراً منا واحداً { إِنَّا إِذاً لَّفِى ضلال وَسُعُرٍ } كأن يقول إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق . وسعر ونيران جمع سعير فعكسوا عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذا كما تقول . وقيل : الضلال الخطأ والبعد عن الصواب ، والسعر الجنون ، وقولهم { أَبَشَراً } إنكار لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية وطلبوا أن يكون من الملائكة وقالوا منا ، لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى ، وقالوا { واحدا } إنكاراً لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً ، أو أرادوا واحداً من أفنائهم ليس من أشرفهم وأفضلهم ، ويدل عليه قوله { أَءلْقِىَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } بطر متكبر حمله بطره وطلبه التعظم علينا على ادعاء ذلك { سَيَعْلَمُونَ غَداً } عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة { مَّنِ الكذاب الأشر } أصالح أم من كذبه . { ستعلمون } : شامي وحمزة على حكاية ما قال لهم صالح مجيباً لهم أو هو كلام الله على سبيل الالتفات { إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة } باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا { فِتْنَةً لَّهُمْ } امتحاناً لهم وابتلاء وهو مفعول له أو حال { فارتقبهم } فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون { واصطبر } على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمري { وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } مقسوم بينهم لها شرب يوم ولهم شرب يوم وقال { بَيْنَهُمْ } تغليباً للعقلاء { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } محضور يحضر القوم الشرب يوماً وتحضر الناقة يوماً { فَنَادَوْاْ صاحبهم } قدار بن سالف أحيمر ثمود { فتعاطى } فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له { فَعَقَرَ } الناقة أو فتعاطى الناقة فعقرها أو فتعاطى السيف . وإنما قال { فَعَقَرُواْ الناقة } [ الأعراف : 77 ] في آية أخرى لرضاهم به أو لأنه عقر بمعونتهم { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ } في اليوم الرابع من عقرها { صَيْحَةً واحدة } صاح بهم جبريل عليه السلام { فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر } والهشيم الشجر اليابس المتهشم المتكسر ، والمحتظر الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم ، وقرأ الحسن بفتح الظاء وهو موضع الاحتظار أي الحظيرة { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } . { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ } يعني على قوم لوط { حاصبا } ريحاً تحصبهم بالحجارة أي ترميهم { إِلا ءالَ لُوطٍ } ابنتيه ومن آمن معه { نجيناهم بِسَحَرٍ } من الأسحار ولذا صرفه ويقال : لقيته بسحر إذا لقيته في سحر يومه .(3/380)
وقيل : هما سحران : فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر ، والآخر عند انصداعه { نِعْمَةً } مفعول له أي إنعاماً { مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ } نعمة الله بإيمانه وطاعته { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ } لوط عليه السلام { بَطْشَتَنَا } أخذتنا بالعذاب { فَتَمَارَوْاْ بالنذر } فكذبوا بالنذر متشاكين { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } طلبوا الفاحشة من أضيافه { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } أعميناهم . وقيل : مسحناها وجلناها كسائر الوجه لا يرى لها شق . رُوي أنهم لما عالجوا باب لوط عليه السلام ليدخلوا قالت الملائكة : خلهم يدخلوا إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ، فصفقهم جبريل عليه السلام بجناحه صفقة فتركهم يترددون ولا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط { فَذُوقُواْ } فقلت لهم ذوقوا على ألسنة الملائكة { عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً } أول النهار { عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } ثابت قد استقر عليهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة . وفائدة تكرير { فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكاراً واتعاظاً ، وأن يستأنفوا تنبهاً واستيقاظاً إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه ، وهذا حكم التكرير في قوله { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] عند كل نعمة عدها ، وقوله { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } [ المرسلات : 25 ] عند كل آية أوردها ، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب مصورة للأذهان مذكورة غير منسية في كل أوان .
{ وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النذر } موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء أو هو جمع نذير وهو الإنذار { كَذَّبُواْ بئاياتنا كُلَّهَا } بالآيات التسع { فأخذناهم أَخْذَ عِزِيزٍ } لا يغالب { مُّقْتَدِرٍ } لا يعجزه شيء { أكفاركم } يا أهل مكة { خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ } الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون أي أهم خير قوة وآلة ومكانة في الدنيا أو أقل كفراً وعناداً يعني أن كفاركم مثل أولئك بل شر منهم { أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزبر } أم أنزلت عليكم يا أهل مكة براءة في الكتب المتقدمة أن من كفر منكم وكذب الرسل كان آمناً من عذاب الله فأمنتم بتلك البراءة؟ { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ } جماعة أمرنا مجتمع { مُّنتَصِرٌ } ممتنع لا نرام ولا نضام { سَيُهْزَمُ الجمع } جمع أهل مكة { وَيُوَلُّونَ الدبر } أي الأدبار كما قال :
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ... أي ينصرفون منهزمين يعني يوم بدر وهذه من علامات النبوة .
{ بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ } موعد عذابهم بعد بدر { والساعة أدهى } أشد من موقف بدر والداهية الأمر المنكر الذي لا يهتدى لدوائه { وَأَمَرُّ } مذاقاً من عذاب الدنيا أو أشد من المرة .(3/381)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
{ إِنَّ المجرمين فِى ضلال } عن الحق في الدنيا { وَسُعُرٍ } ونيران في الآخرة أو في هلاك ونيران { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار } يجرون فيها { على وُجُوهِهِمْ } ويقال لهم { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } كقولك «وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب» لأن النار إذا أصابتهم بحرها فكأنها تمسهم مساً بذلك . و { سَقَرَ } غير منصرف للتأنيث والتعريف لأنها علم لجهنم من سقرته النار إذا لوحته { إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } كل منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر ، وقرىء بالرفع شاذاً والنصب أولى لأنه لو رفع لأمكن أن يكون { خلقناه } في موضع الجبر وصفاً ل { شَىْء } ويكون الخبر { بِقَدَرٍ } وتقديره : إنا كل شيء مخلوق لنا كائن بقدر ، ويحتمل أن يكون { خلقناه } هو الخبر وتقديره : إنا كل شيء مخلوق لنا بقدر ، فلما تردد الأمر في الرفع عدل إلى النصب وتقديره . إنا خلقنا كل شيء بقدر فيكون الخلق عاماً لكل شيء وهو المراد بالآية . ولا يجوز في النصب أن يكون { خلقناه } صفة ل { شَىْء } لأنه تفسير الناصب والصفة لا تعمل في الموصوف . والقدْر والقدَر التقدير أي بتقدير سابق أو خلقنا كل شيء مقدراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة ، أو مقدراً مكتوباً في اللوح معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه . قال أبو هريرة : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت الآية ، وكان عمر يحلف أنها نزلت في القدرية { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة } إلا كلمة واحدة أي وما أمرنا لشيء نريد تكوينه إلا أن نقول له كن فيكون { كَلَمْحٍ بالبصر } على قدر ما يلمح أحدكم ببصره . وقيل : المراد بأمرنا القيامة كقوله { وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر } [ النحل : 77 ] .
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم } أشباهكم في الكفر من الأمم { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } متعظ { وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ } أي أولئك الكفار أي وكل شيء مفعول لهم ثابت { فِى الزبر } في دواوين الحفظة ف { فَعَلُوهُ } في موضع جر نعت ل { شَىْء } و { فِى الزبر } خبر ل { كُلٌّ } { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } من الأعمال ومن كل ما هو كائن { مُّسْتَطَرٌ } مسطور في اللوح { إِنَّ المتقين فِى جنات وَنَهَرٍ } وأنهار اكتفى باسم الجنس وقيل : هو السعة والضياء ومنه النهار { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } في مكان مرضي { عِندَ مَلِيكٍ } عندية منزلة وكرامة لا مسافة ومماسة { مُّقْتَدِرٍ } قادر . وفائدة التنكير فيهما أن يعلم أن لا شيء إلا هو تحت ملكه وقدرته وهو على كل شيء قدير .(3/382)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
{ الرحمن عَلَّمَ القرءان خَلَقَ الإنسان } أي الجنس أو آدم أو محمداً عليهما السلام { عَلَّمَهُ البيان } عدّد الله عز وجل آلاءه فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قدماً من ضروب آلائه وصنوف نعمائه وهي نعمة الدين ، فقدّم من نعمة الدين ما هو سنام في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم وحي الله رتبة وأعلاه منزلة وأحسنه في أبواب الدين أثراً ، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها ، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ، ثم أتبعه إياه ليعلم أنه إنما خلقه للدين وليحيط علماً بوحيه وكتبه ، وقدم ما خلق الإنسان من أجله عليه ، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير . و { الرحمن } مبتدأ وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد كما تقول : زيد أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل كثرك بعد قلة فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه؟ .
{ الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } بحساب معلوم وتقدير سويٍ يجريان في بروجهما ومنازلهما وفي ذلك منافع للناس منها علم السنين والحساب { والنجم } النبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول { والشجر } الذي له ساق . وقيل : النجم نجوم السماء { يَسْجُدَانِ } ينقادان لله تعالى فيما خلقا له تشبيهاً بالساجد من المكلفين في انقياده ، واتصلت هاتان الجملتان ب { الرحمن } بالوصل المعنوي لما علم أن الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره كأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له . ولم يذكر العاطف في الجمل الأولى ثم جيء به بعد ، لأن الأولى وردت على سبيل التعديد تبكيتاً لمن أنكر آلاءه كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال المذكور ، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعطف . وبيان التناسب أن الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان ، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل . وإن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين وإن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله فهو مناسب لسجود النجم والشجر .
{ والسماء رَفَعَهَا } خلقها مرفوعة مسموكة حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه ، ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه { وَوَضَعَ الميزان } أي كل ما توزن به الأشياء وتعرف مقاديرها من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس أي خلقه موضوعاً على الأرض حيث علق به أحكام عباده من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الميزان } لئلا تطغوا أو هي «أن» المفسرة { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط } وقوموا وزنكم بالعدل { وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } ولا تنقصوه أمر بالتسوية ونهى عن الطيغان الذي هو اعتداء وزيادة ، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان ، وكرر لفظ الميزان تشديداً للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه { والأرض وَضَعَهَا } حفضها مدحوّة على الماء { لِلأَنَامِ } للخلق وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة .(3/383)
وعن الحسن : الإنس والجن فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها { فِيهَا فاكهة } ضروب مما يتفكه به { والنخل ذَاتُ الأكمام } هي أوعية الثمر الواحد «كم» بكسر الكاف أو كل ما يكم أي يغطى من ليفه وسعفه وكفراه ، وكله منتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه { والحب ذُو العصف } هو ورق الزرع أو التبن { والريحان } الرزق وهو اللب أراد فيها ما يتلذذ به من الفواكه ، والجامع بين التلذذ والتغذي هو ثمر النخل وما يتغذى به وهو الحب . { والريحان } بالجر : حمزة وعلي أي والحب ذو العصف الذي هو علف الأنعام والريحان الذي هو مطعم الأنام ، والرفع على و «ذو الريحان» فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : معناه وفيها الريحان الذي يشم { والحب ذَا العصف والريحان } شامي أي وخلق الحب والريحان أو وأخص الحب والريحان { فَبِأَىّ الاء } أي النعم مما عدد من أول السورة جمع ألى وإلى { رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } الخطاب للثقلين بدلالة الأنام عليهما .(3/384)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)
{ خَلَقَ الإنسان مِن صلصال } طين يابس له صلصلة { كالفخار } أي الطين المطبوخ بالنار وهو الخذف . ولا اختلاف في هذا وفي قوله { مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] { مّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] { مّن تُرَابٍ } [ غافر : 67 ] لاتفاقها معنى لأنه يفيد أنه خلقه من تراب ثم جعله طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم صلصالاً { وَخَلَقَ الجان } أبا الجن قيل : هو إبليس { مِن مَّارِجٍ } هو اللهب الصافي الذي لا دخان فيه . وقيل : المختلط بسواد النار من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط { مّن نَّارٍ } هو بيان لما رج كأنه قيل : من صاف من نار أو مختلط من نار ، أو أراد من نار مخصوصة كقوله { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } أراد مشرقي الشمس في الصيف والشتاء ومغربيهما .
{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ } أي أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين لا فصل بين الماءين في مرأى العين { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } حاجز من قدرة الله تعالى { لاَّ يَبْغِيَانِ } لا يتجاوزان حديهما ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة { فَبِأَىّ الاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَخْرُجُ } { يَخْرُجُ } مدني وبصري { مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ } بلا همز : أبو بكر ويزيد وهو كبار الدر { وَالمَرْجَانُ } صغاره . وإنما قال { مِنْهُمَا } وهما يخرجان من الملح لأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه وتقول : خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله . وقيل : لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب { فَبِأَىّ الاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } .
{ وَلَهُ } ولله { الجوار } السفن جمع جارية . قال الزجاج : الوقف عليها بالياء والاختيار وصلها ، وإن وقف عليها واقف بغير ياء فذا جائز على بعد ولكن يروم الكسر في الراء ليدل على حذف الياء { المنشآت } المرفوعات الشرع { المنشآت } بكسر الشين ، حمزة ويحيى الرافعات الشرع أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن { فِى البحر كالأعلام } جمع علم وهو الجبل الطويل { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا } على الأرض { فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبّكَ } ذاته { ذُو الجلال } ذو العظمة والسلطان وهو صفة الوجه { والإكرام } بالتجاوز والإحسان ، وهذه الصفة من عظيم صفات الله وفي الحديث « ألظوا بياذا الجلال والإكرام » وروي أنه عليه السلام مر برجل وهو يصلي ويقول يا ذا الجلال والإكرام فقال : قد استجيب لك . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } والنعمة في الفناء باعتبار أن المؤمنين به يصلون إلى النعيم السرمد . وقال يحيى بن معاذ : حبذا الموت فهو الذي يقرب الحبيب إلى الحبيب .(3/385)
{ يَسْأَلُهُ مَن فِى السماوات والأرض } وقف عليها نافع كل من أهل السماوات والأرض مفتقرون إليه فيسأله أهل السماوات ما يتعلق بدينهم وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم ، وينتصب { كُلَّ يَوْمٍ } ظرفاً بما دل عليه { هُوَ فِى شَأْنٍ } أي كل وقت وحين يحدث أموراً ويجدد أحوالاً كما روي أنه عليه السلام تلاها فقيل له : وما ذلك الشأن؟ فقال : من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين . وعن ابن عيينة : الدهر عند الله يومان : أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، والآخر يوم القيامة فشأنه فيه الجزاء والحساب . وقيل : نزلت في اليهود حين قالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت شأناً . وسأل بعض الملوك وزيره عن الآية فاستمهله إلى الغد وذهب كئيباً يفكر فيها فقال غلام له أسود : يا مولاي أخبرني ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي فأخبره فقال : أنا أفسرها للملك فأعلمه فقال : أيها الملك شأن الله أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً ، ويبتلي معافى ويعافي مبتلي ، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً ، ويفقر غنياً ويغني فقيراً . فقال الأمير : أحسنت وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة فقال : يا مولاي هذا من شأن الله . وقيل : سوق المقادير إلى المواقيت .
وقيل : إن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل وقال له : أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي : قوله { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } وقد صح أن الندم توبة ، وقوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وقوله { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين : يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة ، وقيل : إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله . وكذا قيل : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى مخصوص بقوم إبراهيم وموسى عليهما السلام . وأما قوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها . فقام عبد الله وقبل رأسه وسوع خراجه { فَبِأَىّ الاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ } مستعار من قول الرجل لمن يتهدده «سأفرغ لك» يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه ، والمراد التوفر على النكاية فيه والانتقام منه . ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها وتنتهي عند ذلك شئون الخلق التي أرادها بقوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } فلا يبقى إلي شأن واحد وهو جزاؤكم فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل . { سيفرغ } حمزة وعلي أي الله تعالى { أَيُّه الثقلان } الإنس والجن سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض .(3/386)
{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } .
{ يامعشر الجن والإنس } هو كالترجمة لقوله { أَيُّهَا الثقلان } { إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السماوات والأرض فانفذوا } أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هرباً من قضائي فاخرجوا ، ثم قال { لاَ تَنفُذُونَ } لا تقدرون على النفوذ { إِلاَّ بسلطان } بقوة وقهر وغلبة وأنى لكم ذلك؟ وقيل : دلهم على العجز عن قوتهم للحساب غداً بالعجز عن نفوذ الأقطار اليوم . وقيل : يقال لهم هذا يوم القيامة حين تحدق بهم الملائكة فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة احتاطت به { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ } وبكسر الشين : مكي وكلاهما اللهب الخالص { وَنُحَاسٌ } أي دخان { وَنُحَاسٌ } مكي وأبو عمرو فالرفع عطف على شواظ ، والجر على نار ، والمعنى إذا خرجتم من قبوركم يرسل عليكما لهب خالص من النار ودخان يسوقكم إلى المحشر { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } فلا تمتنعان منهما { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فَإِذَا انشقت السماء } انفك بعضها من بعض لقيام الساعة { فَكَانَتْ وَرْدَةً } فصارت كلون الورد الأحمر . وقيل : أصل لون السماء الحمرة ولكن من بعدها ترى زرقاء { كالدهان } كدهن الزيت كما قال { كالمهل } [ المعارج : 8 ] وهو دردي الزيت وهو جمع دهن وقيل : الدهان الأديم الأحمر { فبأيّ ءالآ
ءربّكما تكذّبان فيومئذٍ } أي فيوم تنشق السماء { لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ } أي ولا جن فوضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن كما يقال : هاشم ويراد ولده والتقدير : لا يسئل إنس ولا جان عن ذنبه . والتوفيق بين هذه الآية وبين قوله { فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] وقوله { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] أن ذلك يوم طويل وفيه مواطن فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر . وقال قتادة : قد كانت مسئلة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . وقيل : لا يسئل عن ذنبه ليعلم من جهته ولكن يسئل للتوبيخ .
{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم } بسواد وجوههم وزرقة عيونهم { فَيُؤْخَذُ بالنواصى والاقدام } أي يؤخذ تارة بالنواصي وتارة بالأقدام . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ }(3/387)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
{ هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ } ماء حار قد انتهى حره أي يعاقب عليهم بين التصلية بالنار وبين شرب الحميم { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } والنعمة في هذا نجاة الناجي منه بفضله ورحمته وما في الإنذار به من التنبيه { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة فترك المعاصي أو فأدى الفرائض . وقيل : هو مقحم كقوله : ونفيت عنه مقام الذئب أي نفيت عنه الذئب { جَنَّتَانِ } جنة الإنس وجنة الجن لأن الخطاب للثقلين وكأنه قيل : لكل خائفين منكما جنتان : جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } أغصان جمع فنن وخص الأفنان لأنها هي التي تورق وتثمر ، فمنها تمتد الظلال ، ومنها تجتنى الثمار ، أو ألوان جمع فن أي له فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين قال :
ومن كل أفنان اللذاذة والصبا ... لهوت به والعيش أخضر ناضر
{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا } في الجنتين { عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } حيث شاءوا في الأعالي والأسافل . وعن الحسن : تجريان بالماء الزلال إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ } صنفان : صنف معروف وصنف غريب { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ } نصب على المدح للخائفين أو حال منهم لأن من خاف في معنى الجمع { عَلَى فُرُشٍ } جمع فراش { بَطَائِنُهَا } جمع بطانة { مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } ديباج ثخين وهو معرب . قيل : ظهائرها من سندس . وقيل : لا يعلمها إلا الله { وَجَنَى الجنتين دَانٍ } وثمرها قريب يناله القائم والقاعد والمتكيء . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ } .
في الجنتين لاشتمالهما على أماكن وقصور ومجالس أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجني { قاصرات الطرف } نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } بكسر الميم : الدوري وعلي بضم الميم والطمث الجماع بالتدمية { إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } وهذا دليل على أن الجن يطمثون كما يطمث الإنس { فَبِأَىّ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الياقوت } صفاء { وَالمَرْجَانُ } بياضاً فهو أبيض من اللؤلؤ { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هَلْ جَزَاء الإحسان } في العمل { إِلاَّ الإحسان } في الثواب وقيل : ما جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة . وعن إبراهيم الخواص فيه : هل جزاء الإسلام إلا دار السلام .
{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَمِن دُونِهِمَا } ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين { جَنَّتَانِ } لمن دونهم من أصحاب اليمين { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُدْهَآمَّتَانِ } سوداوان من شدة الخضرة قال الخليل الدهمة السواد { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } فوارتان بالماء لا تنقطعان { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا فاكهة } ألوان الفواكه { وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } والرمان والتمر ليسا من الفواكه عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه للعطف ، ولأن التمر فاكهة وغذاء والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه ، وهما قالا : إنما عطفا على الفاكهة لفضلهما كأنهما جنسان آخران لما لهما من المزية كقوله(3/388)
{ وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] .
{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِنَّ خيرات حِسَانٌ } أي خيرات فخففت وقرىء خيّرات على الأصل ، والمعنى فاضلات الأخلاق حسان الخلق { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ حُورٌ مقصورات فِى الخيام } أي مخدرات يقال : امرأة قصيرة ومقصورة أي مخدرة . قيل : الخيام من الدر المجوف { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ } قبل أصحاب الجنتين ودل عليهم ذكر الجنتين { وَلاَ جَانٌّ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ } نصب على الاختصاص { على رَفْرَفٍ } هو كل ثوب عريض وقيل الوسائد { خُضْرٍ وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ } ديباج أو طنافس { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل { وَمِن دُونِهِمَا } لأن { مُدْهَامَّتَانِ } دون { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } و { نَضَّاخَتَانِ } دون { تَجْرِيَانِ } و { فاكهة } دون كل فاكهة وكذلك صفة الحور والمتكأ { تبارك اسم رَبّكَ ذِى الجلال } ذي العظمة . { ذُو الجلال } شامي صفة للاسم { والإكرام } لأوليائه بالإنعام .
روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن فقال : « مالي أراكم سكوتاً ، الجن كانوا أحسن منكم رداً ما أتيت على قول الله { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ولك الشكر » وكررت هذه الآية في هذه السورة إحدى وثلاثين مرة ، ذكر ثمانية منها عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعادهم ، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم ، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما على عدد أبواب الجنة ، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما ، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها فتحت له أبواب الجنة وأغلقت عنه أبواب جهنم نعوذ بالله منها . والله أعلم .(3/389)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
{ إِذَا وَقَعَتِ الواقعة } قامت القيامة . وقيل : وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة فكأنه قيل : إذا وقعت الواقعة التي لا بد من وقوعها . ووقوع الأمر نزوله يقال : وقع ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقب نزوله . وانتصاب { إِذَا } بإضمار «اذكر» { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } نفس كاذبة أي لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله وتكذب في تكذيب الغيب لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات . واللام مثلها في قوله تعالى : { ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } [ الفجر : 24 ] { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي هي خافضة رافعة ترفع أقواماً وتضع آخرين { إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً } حركت تحريكاً شديداً حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء ، وهو بدل من { إِذَا وَقَعَتِ } ، ويجوز أن ينتصب ب { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبسّ الجبال { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } وفتتت حتى تعود كالسويق أو سيقت من بس الغنم إذا ساقها كقوله : { وَسُيّرَتِ الجبال } [ النبأ : 20 ] { فَكَانَتْ هَبَاء } غباراً { مُّنبَثّاً } متفرقاً { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً } أصنافاً يقال للأصناف التي بعضها من بعض أو يذكر بعضها من بعض أزواج { ثلاثة } صنفان في الجنة وصنف في النار .
ثم فسر الأزواج فقال { فأصحاب الميمنة } مبتدأ وهم الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم { مَا أصحاب الميمنة } مبتدأ وخبر وهما خبر المبتدأ الأول ، وهو تعجيب من حالهم في السعادة وتعظيم لشأنهم كأنه قال : ما هم وأي شيء هم؟ { وأصحاب المشئمة } أي الذين يؤتون صحائفهم بشمائلهم أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية الخسيسة من قولك : فلان مني باليمين وفلان مني بالشمال إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضعة ، وذلك لتيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل . وقيل : يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار ذات الشمال { مَا أصحاب المشئمة } أي أيُّ شيء هم؟ وهو تعجيب من حالهم بالشقاء { والسابقون } مبتدأ { السابقون } خبره تقديره السابقون إلى الخيرات السابقون إلى الجنات . وقيل : الثاني تأكيد للأول والخبر { أُوْلَئِكَ المقربون } والأول أوجه { فِي جنات النعيم } أي هم في جنات النعيم { ثُلَّةٌ مّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مّنَ الآخرين } أي هم ثلة ، والثلة الأمة من الناس الكثيرة ، والمعنى أن المسابقين كثير من الأولين وهم الأمم من لدن آدم إلى نبينا محمد عليهما السلام ، وقليل من الآخرين وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : من الأولين من متقدمي هذه الأمة ، ومن الآخرين من متأخريها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " الثلتان جميعاً من أمتي " . { على سُرُرٍ } جمع سرير ككثيب وكثب { مَّوْضُونَةٍ } مرمولة ومنسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت { مُتَّكِئِينَ } حال من الضمير في { على } وهو العامل فيها أي استقروا عليها متكئين { عَلَيْهَا متقابلين } ينظر بعضهم في وجوه بعض ولا ينظر بعضهم في أقفاء بعض ، وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء المودة و { متقابلين } حال أيضاً { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ } يخدمهم { ولدان } غلمان جمع وليد { مُّخَلَّدُونَ } مبقّون أبداً على شكل الولدان لا يتحولون عنه .(3/390)
وقيل : مقرّطون والخلدة القرط . قيل : هم أولاد أهل الدنيا لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها ، وفي الحديث : « أولاد الكفار خدام أهل الجنة » { بِأَكْوَابٍ } جمع كوب وهي آنية لا عروة لها ولا خرطوم { وَأَبَارِيقَ } جمع إبريق وهو ماله خرطوم وعروة { وَكَأْسٍ } وقدح فيه شراب وإن لم يكن فيه شراب فليس بكأس { مّن مَّعِينٍ } من خمر تجري من العيون { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي بسببها وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها أو لا يفرقون عنها { وَلاَ يُنزِفُونَ } ولا يسكرون . نزف الرجل ذهب عقله بالسكر . { وَلاَ يُنزِفُونَ } بكسر الزاي : كوفي أي لا ينفد شرابهم . يقال : أنزف القوم إذا فني شرابهم { وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } يأخذون خيره وأفضله .
{ وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ } يتمنون { وَحُورٌ } جمع حوراء { عِينٌ } جمع عيناء أي وفيها حور عين أو ولهم حور عين ، ويجوز أن يكون عطفاً على { ولدان } { وَحُورٌ } : يزيد وحمزة وعلي عطفاً على { جنات النعيم } كأنه قال : هم في جنات النعيم وفاكهة ولحم وحورٍ { كأمثال اللؤلؤ } في الصفاء والنقاء { المكنون } المصون . وقال الزجاج : كأمثال الدر حين يخرج من صدفه لم يغيره الزمان واختلاف أحوال الاستعمال { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } جزاء مفعول له أي يفعل بهم ذلك كله لجزاء أعمالهم أو مصدر أي يجزون جزاء .
{ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا } في الجنة { لَغْواً } باطلاً { وَلاَ تَأْثِيماً } هذياناً { إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما } إلا قولاً ذا سلامة . والاستثناء منقطع و { سَلاَماً } بدل من { قِيلاً } أو مفعول به ل { قِيلاً } أي لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاماً سلاماً . والمعنى أنهم يفشون السلام بينهم فيسلمون سلاماً بعد سلام { وأصحاب اليمين مَا أصحاب اليمين * فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } السدر شجر النبق والمخضود الذي لا شوك له كأنما خضد شوكه { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } الطلح شجر الموز والمنضود الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه فليست له ساق بارزة { وَظِلّ مَّمْدُودٍ } ممتد منبسط كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } جار بلا حد ولا خد أي يجري على الأرض في غير أخدود { وفاكهة كَثِيرَةٍ } أي كثيرة الأجناس { لاَّ مَقْطُوعَةٍ } لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا بل هي دائمة { وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } لا تمنع عن متناولها بوجه . وقيل : لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } رفيعة القدر أو نضدت حتى ارتفعت أو مرفوعة على الأسرة . وقيل : هي النساء لأن المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك قال الله تعالى : { هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الأرائك مُتَّكِئُونَ } [ يس : 56 ] . ويدل عليه قوله .(3/391)
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
{ إِنَّا أنشأناهن إِنشَاء } ابتدأنا خلقهن ابتداء من غير ولادة ، فإما أن يراد اللاتي ابتدىء انشاؤهن أو اللاتي أعيد انشاؤهن ، وعلى غير هذا التأويل أضمر لهن لأن ذكر الفرش وهي المضاجع دل عليهن { فجعلناهن أبكارا } عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً { عُرُباً } { عرْباً } حمزة وخلف ويحيى وحماد جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل { أَتْرَاباً } مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين وأزواجهن كذلك ، واللام في { لأصحاب اليمين } من صلة { أَنشَأْنَا } { ثُلَّةٌ } أي أصحاب اليمين ثلة { مّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين } فإن قلت : كيف قال قبل هذا { وَقِيلَ مَنْ الآخرين } ثم قال هنا { وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين } ؟ قلت : ذاك في السابقين وهذا في أصحاب اليمين ، وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعاً . وعن الحسن : سابقوا الأمم أكثر من سابقي أمتنا ، وتابعوا الأُمم مثل تابعي هذه الأمة .
{ وأصحاب الشمال مَا أصحاب الشمال } الشمال والمشأمة واحدة { فِى سَمُومٍ } في حر نار ينفذ في المسام { وَحَمِيمٍ } وماء حار متناهي الحرارة { وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ } من دخان أسود { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } نفي لصفتي الظل عنه يريد أنه ظل ولكن لا كسائر الظلال سماه ظلا ، ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوي إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه ، والمعنى أنه ظل حار ضار { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } أي في الدنيا { مُتْرَفِينَ } منعمين فمنعهم ذلك من الانزجار وشغلهم عن الاعتبار { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ } يداومون { عَلَى الحنث العظيم } أي على الذنب العظيم أو على الشرك لأنه نقض عهد الميثاق ، والحنث نقض العهد المؤكد باليمين أو الكفر بالبعث بدليل قوله { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] { وَكَانُواْ يِقُولُونَ * أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } تقديره : أنبعث إذا متنا؟ وهو العامل في الظرف ، وجاز حذفه إذ { مَّبْعُوثُونَ } يدل عليه ، ولا يعمل فيه { مَّبْعُوثُونَ } لأن «إن» والاستفهام يمنعان أن يعمل ما بعدهما فيما قبلهما { أَوَ ءابَاؤُنَا الأولون } دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف وحسن العطف على المضمر في { لَمَبْعُوثُونَ } من غير توكيد ب «نحن» للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله { مَا أَشْرَكْنَا وَلآ ءَابَآؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] لفصل لا المؤكدة للنفي . { أَوَ ءابَاؤُنَا } مدني وشامي .
{ قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم ، والإضافة بمعنى «من» كخاتم فضة ، والميقات ما وقت به الشيء أي حد ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرماً { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون } عن الهدى { المكذبون } بالبعث وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم { لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ } «من» لابتداء الغاية { مّن زَقُّومٍ } «من» لبيان الشجر { فَمَالِئَونَ مِنْهَا البطون فشاربون عَلَيْهِ مِنَ الحميم } أنث ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في منها وعليه .(3/392)
{ فشاربون شُرْبَ } بضم الشين : مدني وعاصم وحمزة وسهل ، وبفتح الشين : غيرهم وهما مصدران { الهيم } هي إبل عطاش لا تروى جمع أهيم وهيماء ، والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل ، فإذا ملئوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربونه شرب الهيم . وإنما صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان لأن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة ، وقطع الأمعاء أمر عجيب وشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً فكانتا صفتين مختلفتين { هذا نُزُلُهُمْ } هو الرزق الذي يعد للناس تكرمة له { يَوْمِ الدين } يوم الجزاء { نَحْنُ خلقناكم فَلَوْلاَ } فهلا { تُصَدّقُونَ } تحضيض على التصديق فكأنهم مكذبون به ، وإما بالبعث لأن من خلق أولاً لم يمتنع عليه أن يخلق ثانياً .
{ أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } ما تمنونه أي تقذفونه في الأرحام من النطف { ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ } تقدرونه وتصورونه وتجعلونه بشراً سوياً { أَم نَحْنُ الخالقون نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت } تقديراً قسمناه عليكم قسمة الأرزاق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط { قَدَّرْنَآ } بالتخفيف : مكي سبقته بالشيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ، فمعنى قوله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم } إنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه . و { أمثالكم } جمع مثل أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق { وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها يعني أنا نقدر على الأمرين جميعاً : على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم ، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ ويجوز أن يكون { أمثالكم } جمع مثل أي على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم وننشئكم في صفات لا تعلمونها { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى } { النشاءة } مكي وأبو عمرو { فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } أن من قدر على شيء مرة لم يمتنع عليه ثانياً ، وفيه دليل صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى .
{ أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } ما تحرثونه من الطعام أي تثيرون الأرض وتلقون فيها البذر { ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ } تنبتونه وتردونه نباتاً { أَمْ نَحْنُ الزرعون } المنبتون وفي الحديث : « لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت » { لَّوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حطاما } هشيماً متكسراً قبل إدراكه { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } تعجبون أو تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه ، أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها { إِنَّاْ } أي تقولون إنا { أئنا } أبو بكر { لَمُغْرَمُونَ } لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون لهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك { بَلْ نَحْنُ } قوم { مَحْرُومُونَ } محارفون محدودون لا مجدودون لا حظ لنا ولا بخت لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا هذا .(3/393)
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
{ أَفَرَءيْتُمُ الماء الذى تَشْرَبُونَ } أي الماء العذب الصالح للشرب { ءأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن } السحاب الأبيض وهو أعذب ماء { أَمْ نَحْنُ المنزلون } بقدرتنا { لَوْ نَشَاء جعلناه أُجَاجاً } ملحاً أو مراً لا يقدر على شربه { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } فهلا تشكرون . ودخلت اللام على جواب لو في قوله { لَجَعَلْنَاهُ حطاما } ونزعت منه هنا ، لأن «لو» لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ولم تكن مخلصة الشرط ك «إن» ولا عاملة مثلها وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقاً من حيث إفادتها في مضموني جملتيها ، أن الثاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علماً على هذا التعلق ، فزيدت هذه اللام لتكون علماً على ذلك ، ولما شهر موقعه لم يبال بإسقاطه عن اللفظ لعلم كل أحد به وتساوي حالي حذفه وإثباته ، على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغنٍ عن ذكرها ثانية ، ولأن هذه اللام تفيد معنى التأكيد لا محالة فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن المطعوم مقدم على أمر المشروب ، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم ، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب .
{ أَفَرَءيْتُمُ النار التى تُورُونَ } تقدحونها وتستخرجونها من الزناد ، والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر ويسمون الأعلى الزند والأسفل الزندة شبهوهما بالفحل والطروقة { ءأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا } التي منها الزناد { أَم نَحْنُ المنشئون } الخالقون لها ابتداء { نَحْنُ جعلناها } أي النار { تَذْكِرَةٌ } تذكيراً لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به { ومتاعا } ومنفعة { لّلْمُقْوِينَ } للمسافرين النازلين في القواء وهي القفر ، أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام من قولهم «أقوت الدار» إذا خلت من ساكنيها . بدأ بذكر خلق الإنسان فقال { أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم ، ثم بما فيه قوامه وهو الحب فقال { أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } ثم بما يعجن به ويشرب عليه وهو الماء ، ثم بما يخبز به وهو النار ، فحصول الطعام بمجموع الثلاثة ولا يستغني عنه الجسد ما دام حياً { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ } فنزه ربك عما لا يليق به أيها المستمع المستدل ، أو أراد بالاسم الذكر أي فسبح بذكر ربك { العظيم } صفة للمضاف أو للمضاف إليه . وقيل : قل سبحان ربي العظيم وجاء مرفوعاً أنه لما نزلت هذه الآية قال : اجعلوها في ركوعكم .
{ فَلاَ أُقْسِمُ } أي فأقسم و«لا» مزيدة مؤكدة مثلها قوله { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب }(3/394)
[ الحديد : 29 ] وقرىء { فلأقسم } ومعناه فلأَنا أقسم ، اللام لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر وهي «أنا أقسم» ، ثم حذف المبتدأ . ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأن حقها أن تكون اللام لام القسم لأن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة { بمواقع النجوم } بمساقطها ومغاربها { بموقع } حمزة وعلي ، ولعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً مخصوصة عظيمة أو للملائكة عبادات موصوفة ، أو لأنه وقت قيام المتهجدين ونزول الرحمة والرضوان عليهم فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } وهو اعتراض في اعتراض لأنه اعترض به بين القسم والمقسم عليه وهو قوله { إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ } حسن مرضي أو نفاع جم المنافع أو كريم على الله ، واعترض ب { لَّوْ تَعْلَمُونَ } بين الموصوف وصفته { فِى كتاب } أي اللوح المحفوظ { مَّكْنُونٌ } مصون عن أن يأتيه الباطل أو من غير المقربين من الملائكة لا يطلع عليه من سواهم { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } من جميع الأدناس أدناس الذنوب وغيرها إن جعلت الجملة صفة ل { كتاب مَّكْنُونٍ } وهو اللوح ، وإن جعلتها صفة للقرآن فالمعنى لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس والمراد مس المكتوب منه { تَنزِيلَ } صفة رابعة للقرآن أي منزل { مِن رَّبّ العالمين } أو وصف بالمصدر لأنه نزل نجوماً من بين سائر كتب الله فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه فقيل : جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل ، أو هو تنزيل على حذف المبتدأ .
{ أفبهذا الحديث } أي القرآن { أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } متهاونون به كمن يدهن في بعض الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } أي تجعلون شكر رزقكم التكذيب أي وضعتم التكذيب موضع الشكر . وفي قراءة علي رضي الله عنه وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به . وقيل : نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليهم والرزق المطر أي وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله حيث تنسبونه إلى النجوم .
{ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ } النفس أي الروح عند الموت { الحلقوم } ممر الطعام والشراب { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } الخطاب لمن حضر الميت تلك الساعة { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } إلى المحتضر { مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ } لا تعقلون ولا تعلمون { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم { تَرْجِعُونَهَا } تردون النفس وهي الروح إلى الجسد بعد بلوغ الحلقوم { إِن كُنتُمْ صادقين } أنكم غير مربوبين مقهورين . { فَلَوْلا } في الآيتين للتحضيض يستدعي فعلاً وذا قوله { تَرْجِعُونَهَا } واكتفى بذكره مرة ، وترتيب الآية فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين ، و { فَلَوْلا } الثانية مكررة للتأكيد ونحن أقرب إليه منكم يا أهل الميت بقدرتنا وعلمنا أو بملائكة الموت ، والمعنى أنكم في جحودكم آيات الله في كل شيء ، إن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم سحر وافتراء ، وإن أرسل إليكم رسولاً صادقاً قلتم ساحر كذاب ، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم صدق نوء كذا على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل ، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثمة قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد؟ .(3/395)
{ فَأَمَّا إِن كَانَ } المتوفي { مِنَ المقربين } من السابقين من الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة { فَرَوْحٌ } فله استراحة { وَرَيْحَانٌ } ورزق { وجنات نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين * فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين } أي فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي يسلمون عليك كقوله { إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما } { وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين } هم الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة وهم الذين قيل لهم في هذه السورة { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون المكذبون } { فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي إدخال فيها . وفي هذه الآيات إشارة إلى أن الكفر كله ملة واحدة ، وأن أصحاب الكبائر من أصحاب اليمين لأنهم غير مكذبين { إِنَّ هَذَا } الذي أنزل في هذه السورة { لَهُوَ حَقُّ اليقين } أي الحق الثابت من اليقين { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم } رُوي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على ابن مسعود رضي الله عنه في مرض موته فقال له : ما تشتكي؟ فقال : ذنوبي . فقال : ما تشتهي؟ قال : رحمة ربي . قال : أفلا تدعو الطبيب؟ قال : الطبيب أمرضني . فقال : ألا نأمر بعطائك؟ قال : لا حاجة لي فيه . قال : ندفعه إلى بناتك . قال : لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً » وليس في هذه السور الثلاث ذكر الله : اقتربت ، الرحمن ، الواقعة ، والله أعلم .(3/396)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
{ سَبَّحَ للَّهِ } جاء في بعض الفواتح «سبح» بلفظ الماضي ، وفي بعضها بلفظ المضارع ، وفي «بني إسرائيل» بلفظ المصدر ، وفي «الأعلى» بلفظ الأمر استيعاداً لهذه الكلمة من جميع جهاتها وهي أربع : المصدر والماضي والمضارع والأمر . وهذا الفعل قد عُدي باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله { وَتُسَبّحُوهُ } [ الفتح : 9 ] وأصله التعدي بنفسه لأن معنى سبحته بعدته من السوء منقول من سبح إذا ذهب وبعد ، فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له ، وإما أن يراد بسبح الله اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً { مَا فِى السماوات والارض } ما يتأتى منه التسبيح ويصح { وَهُوَ العزيز } المنتقم من مكلف لم يسبح له عناداً { الحكيم } في مجازاة من سبح له انقياداً { لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض } لا لغيره وموضع { يُحْيىِ } رفع أي هو يحيي الموتى { وَيُمِيتُ } الأحياء أو نصب أي له ملك السماوات والأرض محيياً ومميتاً { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ هُوَ الأول } هو القديم الذي كان قبل كل شيء { والآخر } الذي يبقي بعد هلاك كل شيء { والظاهر } بالأدلة الدالة عليه { والباطن } لكونه غير مدرك بالحواس وإن كان مرئياً . والواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فهو مستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن . وقيل : الظاهر العالي على كل شيء الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه ، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه { وَهُوَ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } .
{ هُوَ الذى خَلَقَ السماوات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ } عن الحسن : من أيام الدنيا ولو أراد أن يجعلها في طرفة عين لفعل ولكن جعل الستة أصلاً ليكون عليها المدار { ثُمَّ استوى } استولى { عَلَى العرش يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأرض } ما يدخل في الأرض من البذر والقطر والكنوز والموتى { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من النبات وغيره { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء } من الملائكة والأمطار { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الأعمال والدعوات { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } بالعلم والقدرة عموماً وبالفضل والرحمة خصوصاً { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم على حسب أعمالكم { لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور يُولِجُ اليل فِى النهار } يدخل الليل في النهار بأن ينقض من الليل ويزيد في النهار { وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
{ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ } يحتمل الزكاة والإنفاق في سبيل الله { مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها وإنما مولكم إياها للاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها فليست هي بأموالكم في الحقيقة ، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب ، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى ، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه ، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم بتوريثه إياكم وسينقله منكم إلى من بعدكم فاعتبروا بحالهم ولا تبخلوا به { فالذين ءامَنُواْ } بالله ورسله { مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله } هو حال من معنى الفعل في { مَالَكُمْ } كما تقول : مالك قائماً؟ بمعنى ما تصنع قائماً أي ومالكم كافرين بالله .(3/397)
والواو في { والرسول يَدْعُوكُمْ } واو الحال فهما حالان متداخلتان ، والمعنى وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم { لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم } وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بقوله : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ } [ الأعراف : 172 ] أو بما ركب فيكم من العقول ومكنكم من النظر في الأدلة ، فإذا لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون؟ { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لموجب ما فإن هذا الموجب لا مزيد عليه { أُخِذَ ميثاقكم } أبو عمرو .
{ هُوَ الذى يُنَزّلُ على عَبْدِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم { ءايات بَيّنَاتٍ } يعني القرآن { لِيُخْرِجَكُمْ } الله تعالى أو محمد بدعوته { مِنَ الظلمات إِلَى النور } من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان { وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءوفٌ } بالمد والهمزة : حجازي وشامي وحفص { رَّحِيمٌ } الرأفة أشد الرحمة { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ } في أن لا تنفقوا { فِى سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باقٍ لأحد من مال وغيره يعني وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم؟ وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله . ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل } أي فتح مكة قبل عز الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لأن قوله : { مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ } يدل عليه { أولئك } الذين أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : « لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه » { أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا وَكُلاًّ } أي كل واحد من الفريقين { وَعَدَ الله الحسنى } أي المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات .(3/398)
{ وَكُلاًّ } مفعول أول ل { وَعْدُ } و { الحسنى } مفعول ثانٍ . { وَكُلٌّ } : شامي أي وكل وعده الله الحسنى نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنه أول من أسلم وأول من أنفق في سبيل الله وفيه دليل على فضله وتقدمه { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازيكم على قدر أعمالكم .
{ مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا } بطيب نفسه والمراد الإنفاق في سبيله واستعير لفظ القرض ليدل على التزام الجزاء { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } أي يعطيه أجره على إنفاقه أضعافاً مضاعفة من فضله { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه . { فيضعّفُهُ } مكي { فيضعفَهُ } شامي { فَيُضَاعِفَهُ } : عاصم وسهل { فيضاعفُهُ } غيرهم . فالنصب على جواب الاستفهام ، والرفع على فهو يضاعفه أو عطف على { يُقْرِضُ } { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات } ظرف لقوله { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أو منصوب بإضمار «اذكر» تعظيماً لذلك اليوم { يسعى } يمضي { نُورُهُم } نور التوحيد والطاعات . وإنما قال { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم ، فيجعل النور في الجهتين شعاراً لهم وآية لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا ، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون سعي بسعيهم ذلك النور وتقول لهم الملائكة { بُشْرَاكُمُ اليوم جنات } أي دخول جنات لأن البشارة تقع بالأحداث دون الجثث { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } .(3/399)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
{ يَوْمَ يَقُولُ } هو بدل من { يَوْمَ تَرَى } { المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ ءامَنُواْ انظرونا } أي انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة . { أَنظُرُونَا } حمزة من النظرة وهي الإمهال جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظاراً لهم { نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به { قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُوراً } طرد لهم وتهكم بهم أي تقول لهم الملائكة ، أو المؤمنون ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك فمن ثم يقتبس ، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان { فَضُرِبَ بَيْنَهُم } بين المؤمنين والمنافقين { بِسُورٍ } بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار . قيل : هو الأعراف { لَهُ } لذلك السور { بَابٍ } لأهل الجنة يدخلون منه { بَاطِنُهُ } باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة { فِيهِ الرحمة } أي النور أو الجنة { وظاهره } ما ظهر لأهل النار { مِن قِبَلِهِ } من عنده ومن جهته { العذاب } أي الظلمة أو النار { ينادونهم } أي ينادي المنافقون المؤمنين { أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } يريدون مرافقتهم في الظاهر { قَالُواْ } أي المؤمنون { بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } محنتموها بالنفاق وأهلكتموها { وَتَرَبَّصْتُمْ } بالمؤمنين الدوائر { وارتبتم } وشككتم في التوحيد { وَغرَّتْكُمُ الأمانى } طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار { حتى جَاء أَمْرُ الله } أي الموت { وَغَرَّكُم بالله الغرور } وغركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم أو بأنه لا بعث ولا حساب .
{ فاليوم لاَ يُؤْخَذُ } وبالتاء : شامي { مّنكُمْ } أيها المنافقون { فِدْيَةٌ } ما يفتدى به { وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النار } مرجعكم { هِىَ مولاكم } هي أولى بكم وحقيقة مولاكم محراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما يقال : هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل إنه لكريم { وَبِئْسَ المصير } النار .
{ أَلَمْ يَأْنِ } من أنى الأمر يأنى إذا جاء إناه أي وقته . قيل : كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين . وعن ابن أبي بكر رضي الله عنه : إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق } بالتخفيف : نافع وحفص . الباقون { نَزَّلَ } و «ما» بمعنى «الذي» ، والمراد بالذكر وما نزل من الحق القرآن لأنه جامع للأمرين للذكر والموعظة وأنه حق نازل من السماء { وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ } القراءة بالياء عطف على { تَخْشَعَ } وبالتاء : ورش على الالتفاف ، ويجوز أن يكون نهياً لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا ، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم ، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد } الأجل أو الزمان { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } باتباع الشهوات { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين أي وقليل منهم مؤمنون { اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } قيل : هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض .(3/400)
{ إِنَّ المصدقين والمصدقات } بتشديد الدال وحده : مكي وأبو بكر وهو اسم فاعل من «صدق» وهم الذين صدقوا الله ورسوله يعني المؤمنين . الباقون بتشديد الصاد والدال وهو اسم فاعل من «تصدق» فأدغمت التاء في الصاد وقرىء على الأصل { وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً } هو عطف على معنى الفعل في { المصدقين } لأن اللام بمعنى «الذين» واسم الفاعل بمعنى الفعل وهو اصدقوا كأنه قيل : إن الذين اصدقوا وأقرضوا والقرض الحسن أن يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة { يُضَاعَفُ لَهُمُ } { يضعف } مكي وشامي { وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي الجنة { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ } يريد أن المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم ، ويجوز أن يكون { والشهداء } مبتدأ و { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } خبره { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم } .
{ اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ } كلعب الصبيان { وَلَهْوٌ } كلهو الفتيان { وَزِينَةٌ } كزينة النسوان { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } كتفاخر الأقران { وَتَكَاثُرٌ } كتكاثر الدهقان { فِى الأموال والأولاد } أي مباهاة بهما والتكاثر ادعاء الاستكثار { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } بعد خضرته { ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } متفتتاً ، شبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى وقوي وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطاماً عقوبة لهم على جحودهم كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين . وقيل : الكفار الزراع { وَفِى الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ } للكفار { وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورضوان } للمؤمنين يعني أن الدنيا وما فيها ليست إلا من محقرات الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر ، وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام وهي العذاب الشديد والمغفرة والرضوان من الله الحميد .(3/401)
والكاف في { كَمَثَلِ غَيْثٍ } في محل رفع على أنه خبر بعد خبر أي الحياة الدنيا مثل غيث { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور } لمن ركن إليها واعتمد عليها . قال ذو النون : يا معشر المريدين لا تطلبوا الدنيا وإن طلبتموها فلا تحبوها فإن الزاد منها والمقيل في غيرها .
ولما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة بقوله { سَابِقُواْ } أي بالأعمال الصالحة { إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } وقيل : سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض } قال السدي : كعرض سبع السماوات وسبع الأرضين . وذكر العرض دون الطول لأن كل ماله عرض وطول فإن عرضه أقل من طوله ، فإذا وصف عرضه بالبسطة عرف أن طوله أبسط ، أو أريد بالعرض البسطة وهذا ينفي قول من يقول : إن الجنة في السماء الرابعة ، لأن التي في إحدى السماوات لا تكون في عرض السماوات والأرض { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } وهذا دليل على أنها مخلوقة { ذلك } الموعود من المغفرة والجنة { فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } وهم المؤمنون ، وفيه دليل على أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله { والله ذُو الفضل العظيم } .
ثم بين أن كل كائن بقضاء الله وقدره بقوله { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأرض } من الجدب وآفات الزروع والثمار . وقوله { فِى الأرض } في موضع الجر أي ما أصاب من مصيبة ثابتة في الأرض { وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ } من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد { إِلاَّ فِى كتاب } في اللوح وهو في موضع الحال أي إلا مكتوباً في اللوح { مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } من قبل أن نخلق الأنفس { إِنَّ ذلك } إن تقدير ذلك وإثباته في كتاب { عَلَى الله يَسِيرٌ } وإن كان عسيراً على العباد . ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه بقوله :
{ لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } تحزنوا حزناً يطغيكم { على مَا فَاتَكُمْ } من الدنيا وسعتها أو من العافية وصحتها { وَلاَ تَفْرَحُواْ } فرح المختال الفخور { بِمَا ءاتاكم } أعطاكم من الإيتاء . أبو عمرو وأتاكم أي جاءكم من الإتيان يعني أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله ، قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي ، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة لم يتفاقم جزعه عند فقده لأنه وطن نفسه على ذلك ، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه وأن وصوله لا يفوته بحال لم يعظم فرحه عند نيله ، وليس أحد إلا وهو يفرح عند منفعة تصيبه ويحزن عند مضرة تنزل به ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً والحزن صبراً ، وإنما يذم من الحزن الجزع المنافي للصبر ومن الفرح الأشر المطغي الملهي عن الشكر { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } لأن من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه اختال وافتخر به وتكبر على الناس { الذين يَبْخَلُونَ } خبر مبتدأ محذوف أو بدل من كل مختال فخور كأنه قال : لا يحب الذين يبخلون ، يريد الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالاً وحظاً من الدنيا ، فلحبهم له وعزته عندهم يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به { وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل } ويحضون غيرهم على البخل ويرغبونهم في الإمساك { وَمَن يَتَوَلَّ } يعرض عن الإنفاق أو عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي { فَإِنَّ الله هُوَ الغنى } عن جميع المخلوقات فكيف عنه؟ { الحميد } في أفعاله .(3/402)
{ فَإِنَّ الله الغنى } بترك «هو» : مدني وشامي .(3/403)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } يعني أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء { بالبينات } بالحجج والمعجزات { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب } أي الوحي . وقيل : الرسل الأنبياء . والأول أولى لقوله { مَعَهُمْ } لأن الأنبياء ينزل عليهم الكتاب { والميزان } رُوي أن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به { لِيَقُومَ الناس } ليتعاملوا بينهم إيفاء واستيفاء { بالقسط } بالعدل ولا يظلم أحد أحداً { وَأَنزْلْنَا الحديد } قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة . ورُوي ومعه المرّ والمسحاة . وعن الحسن : وأنزلنا الحديد خلقناه { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } وهو القتال به { ومنافع لِلنَّاسِ } في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها أو ما يعمل بالحديد { وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ } باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين . وقال الزجاج : ليعلم الله من يقاتل مع رسوله في سبيله { بالغيب } غائباً عنهم { إِنَّ الله قَوِىٌّ } يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته { عَزِيزٌ } يربط بعزته جأش من يتعرض لنصرته . والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة أن الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد والعهود ويتضمن جوامع الأحكام والحدود ، ويأمر بالعدل والإحسان وينهى عن البغي والطغيان ، واستعمال العدل والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة يقع بها التعامل ويحصل بها التساوي والتعادل وهي الميزان . ومن المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية والآلة الموضوعة للتعامل بالسوية إنما تحض العامة على اتباعهما بالسيف الذي هو حجة الله على من جحد وعنَدَ ، ونزع عن صفقة الجماعة اليد . وهو الحديد الذي وصف بالبأس الشديد .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم } خصا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام { وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا } أولادهما { النبوة والكتاب } الوحي . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الخط بالقلم . يقال : كتب كتاباً وكتابة { فَمِنْهُمْ } فمن الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين { مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون } هذا تفصيل لحالهم أي فمنهم من اهتدى باتباع الرسل ، ومنهم من فسق أي خرج عن الطاعة والغلبة للفساق .
{ ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم } أي نوح وإبراهيم ومن مضى من الأنبياء { بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وءاتيناه الإنجيل وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً } مودة وليناً { وَرَحْمَةً } تعطفاً على إخوانهم كما قال في صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] { وَرَهْبَانِيَّةً } هي ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم للعبادة وهي الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف . فعلان من رهب كخشيان من خشي .(3/404)
وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره وابتدعوا رهبانية { ابتدعوها } أي أخرجوها من عند أنفسهم ونذروها { مَا كتبناها عَلَيْهِمْ } لم نفرضها نحن عليهم { إِلاَّ ابتغاء رضوان الله } استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه { فَئَاتَيْنَا الذين ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } أي أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام و الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } الكافرون .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ } الخطاب لأهل الكتاب { اتقوا الله وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم { يُؤْتِكُمْ } الله { كِفْلَيْنِ } نصيبين { مّن رَّحْمَتِهِ } لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيمانكم بمن قبله { وَيَجْعَل لَّكُمْ } يوم القيامة { نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } وهو النور المذكور في قوله { يسعى نُورُهُم } الآية { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ذنوبكم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ لّئَلاَّ يَعْلَمَ } ليعلم { أَهْلِ الكتاب } الذين لم يسلموا و «لا» مزيدة { أَلاَّ يَقْدِرُونَ } «أن» مخففة من الثقيلة أصله أنه لا يقدرون يعني أن الشأن لا يقدرون { على شَىْءٍ مّن فَضْلِ الله } أي لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضل الله من الكفلين والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ولم يكسبهم فضلاً قط { وَأَنَّ الفضل } عطف على { أَن لا يَقْدِرُونَ } { بِيَدِ الله } أي في ملكه وتصرفه { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } من عباده { والله ذُو الفضل العظيم } ، والله أعلم .(3/405)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
{ قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ } تحاورك وقرىء بها ، وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم ، فلما سلمت راودها فأبت فغضب فظاهر منها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ فلما خلا سني ونثرت بطني أي كثر ولدي جعلني عليه كأمه . ورُوي أنها قالت : إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا . فقال صلى الله عليه وسلم : " ما عندي في أمرك شيء " وروي أنه قال لها : " حرمت عليه " فقالت : يا رسول الله ما ذكر طلاقاً وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إليّ . فقال : حرمت عليه فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي فكلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حرمت عليه " هتفت وشكت فنزلت { فِى زَوْجِهَا } في شأنه ومعناه { وَتَشْتَكِى إِلَى الله } تظهر ما بها من المكروه { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما } مراجعتكما الكلام من حار إذا رجع { إِنَّ الله سَمِيعٌ } يسمع شكوى المضطر { بَصِيرٌ } بحاله { الذين يظاهرون } عاصم { يظَّهرون } : حجازي وبصري غيرهم { يظاهرون } وفي { مّنكُمْ } توبيخ للعرب لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم { مِن نّسَائِهِمْ } زوجاتهم { مَّا هُنَّ أمهاتهم } أمهاتهم المفضل ، الأول حجازي والثاني تميمي { إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ } يريد أن الأمهات على الحقيقة الوالدات والمرضعات ملحقات بالوالدات بواسطة الرضاع ، وكذا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيادة حرمتهن ، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة فلذا قال { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول } تنكره الحقيقة والأحكام الشرعية { وَزُوراً } وكذباً باطلاً منحرفاً عن الحق { وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } لما سلف منهم .
{ والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ } بين في الآية الأولى أن ذلك من قائله منكر وزور ، وبين في الثانية حكم الظهار { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } العود الصيرورة ابتداء أو بناء فمن الأول قوله تعالى : { حتى عَادَ كالعرجون القديم } [ يس : 39 ] . ومن الثاني : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } [ الإسراء : 8 ] ويعدى بنفسه كقولك : عدته إذا أتيته وصرت إليه ، وبحرف الجر ب «إلى» وعلى وفي واللام كقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] ومنه { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } أي يعودون لنقض ما قالوا أو لتداركه على حذف المضاف ، وعن ثعلبة : يعودون لتحليل ما حرموا على حذف المضاف أيضاً غير أنه أراد بما قالوا ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه كقوله { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [ مريم : 80 ] أراد المقول فيه وهو المال والولد .(3/406)
ثم اختلفوا أن النقض بماذا يحصل؟ فعندنا بالعزم على الوطء وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة ، وعند الشافعي بمجرد الإمساك وهو أن لا يطلقها عقيب الظهار .
{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } فعليه اعتاق رقبة مؤمنة أو كافرة ولم يجز المدبر وأم الولد والمكاتب الذي أدى شيئاً { مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } الضمير يرجع إلى ما دل عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها . والمماسة الاستمتاع بها من جماع أو لمس بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة { ذلكم } الحكم { تُوعَظُونَ بِهِ } لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } والظهار أن يقول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي . وإذا وضع موضع أنت عضواً منها يعبر به عن الجملة أو مكان الظهر عضواً آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ ، أو مكان الأم ذات رحم محرم منه بنسب أو رضاع أو صهر أو جماع نحو أن يقول : أنت عليّ كظهر أختي من الرضاع ، أو عمتي من النسب ، أو امرأة ابني ، أو أبي أو أم امرأتي أو ابنتها فهو مظاهر ، وإذا امتنع المظاهر من الكفارة للمرأة أن ترافعه ، وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه ، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار لأنه يضر بها في ترك التكفير . والامتناع من الاستمتاع فإن مس قبل أن يكفر استغفر الله ولا يعود حتى يكفر ، وإن أعتق بعض الرقبة ثم مس عليه أن يستأنف عند أبي حنيفة رضي الله عنه .
{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الرقبة { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } فعليه صيام شهرين { مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } الصيام { فَإِطْعَامُ } فعليه إطعام { سِتّينَ مِسْكِيناً } لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من غيره ، ويجب أن يقدمه على المسيس ولكن لا يستأنف إن جامع في خلال الإطعام { ذلك } البيان والتعليم للأحكام { لّتُؤْمِنُواْ } لتصدقوا { بالله وَرَسُولِهِ } في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم { وَتِلْكَ } أي الأحكام التي وصفنا في الظهار والكفارة { حُدُودَ الله } التي لا يجوز تعديها { وللكافرين } الذين لا يتبعونها { عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم { إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ } يعادون ويشاقون { كُبِتُواْ } أخزوا وأهلكوا { كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } من أعداء الرسل { وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات } تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به { وللكافرين } بهذه الآيات { عَذَابٌ مُّهِينٌ } يذهب بعزهم وكبرهم { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ } منصوب ب { مُّهِينٌ } أو بإضمار «اذكر» تعظيماً لليوم { الله جَمِيعًا } كلهم لا يترك منهم أحداً غير مبعوث أو مجتمعين في حال واحدة { فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } تخجيلاً لهم وتوبيخاً وتشهيراً بحالهم يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد { أحصاه الله } أحاط به عدداً لم يفته منه شيء { وَنَسُوهُ } لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه وإنما تحفظ معظمات الأمور { والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } لا يغيب عنه شيء .(3/407)
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض مَا يَكُونُ } من «كان» التامة أي ما يقع { مِن نجوى ثلاثة } النجوى التناجي وقد أضيفت إلى ثلاثة أي من نجوى ثلاثة نفر { إِلاَّ هُوَ } أي الله { رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدنى } ولا أقل { مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه ما هم فيه وقد تعالى عن المكان علواً كبيراً وتخصيص الثلاثة والخمسة لأنها نزلت في المنافقين وكانوا يتحلقون للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين . وقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عدديهم ولا أكثر إلا والله معهم يسمع ما يقولون ، ولأن أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب ، وأول عددهم الاثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال ، فذكر عز وعلا الثلاثة والخمسة وقال : { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ } فدل على الاثنين والأربعة ، وقال { وَلاَ أَكْثَرَ } فدل على ما يقارب هذا العدد { أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة } فيجازيهم عليه { إِنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } .(3/408)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ويريدون أن يغيظوهم ويوهموهم في نجواهم وتغامزهم أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادوا لمثل فعلهم وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول ومخالفته ، { وينتجون } حمزة وهو بمعنى الأول { وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله } يعني أنهم يقولون في تحيتك : السام عليك يا محمد . والسام الموت والله تعالى يقول { وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى } النمل : 59 ) ، { ياأيها الرسول } [ المائدة : 67 ] ، { ياأيها النبى } [ الأحزاب : 1 ] { وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } أي يقولون فيما بينهم لو كان نبياً لعاقبنا الله بما نقوله فقال الله تعالى { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } عذاباً { يَصْلَوْنَهَا } حال أي يدخلونها { فَبِئْسَ المصير } المرجع جهنم .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ } بألسنتهم وهو خطاب للمنافقين والظاهر أنه خطاب للمؤمنين { إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } أي إذا تناجيتم فلا تشبهوا باليهود والمنافقين في تناجيهم بالشر { وتناجوا بالبر } بأداء الفرائض والطاعات { والتقوى } وترك المعاصي { واتقوا الله الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } للحساب فيجازيكم بما تتناجون به من خير أو شر { إِنَّمَا النجوى } بالإثم والعدوان { مِنَ الشيطان } من تزيينه { لِيَحْزُنَ } أي الشيطان وبضم الياء : نافع { الذين ءامَنُواْ وَلَيْسَ } الشيطان أو الحزن { بِضَارّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله } بعلمه وقضائه وقدره { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أي يكلون أمرهم إلى الله ويستعيذون به من الشيطان .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس } ( في المجلس ) توسعوا فيه ، { فِى المجالس } عاصم ونافع والمراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يتضامون فيه تنافساً على القرب منه وحرصاً على استماع كلامه . وقيل : هو المجلس من مجالس القتال وهي مراكز الغزاة كقوله { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] . مقاتل في صلاة الجمعة { فافسحوا } فوسعوا { يَفْسَحِ الله لَكُمْ } مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر غير ذلك { وَإِذَا قِيلَ انشزوا } انهضوا للتوسعة على المقبلين ، أو انهضوا عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتم بالنهوض عنه ، أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير { فَانشُزُواْ } بالضم فيهما : مدني وشامي وعاصم غير حماد { يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ } بامتثال أوامره وأوامر رسوله { والذين أُوتُواْ العلم } والعالمين منهم خاصة { درجات والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وفي الدرجات قولان : أحدهما في الدنيا في المرتبة والشرف ، والآخر في الآخرة .(3/409)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال : يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب » وعنه صلى الله عليه وسلم : « عبادة العالم يوماً واحداً تعدل عبادة العابد أربعين سنة » وعنه صلى الله عليه وسلم « يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء » فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وعن ابن عباس رضي الله عنهما : خير سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه . وقال صلى الله عليه وسلم : « أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم » وعن بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم ، وأي شيء فات من أدرك العلم . وعن الزبيري : العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال ، والعلوم أنواع فأشرها أشرفها معلوماً .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول } إذا أردتم مناجاته { فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً } أي قبل نجواكم وهي استعارة ممن له يدان كقول عمر رضي الله عنه : من أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم يريد قبل حاجته { ذلك } التقديم { خَيْرٌ لَّكُمْ } في دينكم { وَأَطْهَرُ } لأن الصدقة طهرة { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ } ما تتصدقون به { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } في ترخيص المناجاة من غير صدقة . قيل : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ . وقيل : ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ . وقال علي رضي الله عنه : هذه آية من كتاب الله ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر مسائل فأجابني عنها . قلت : يا رسول الله ما الوفاء؟ قال : « التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله » قلت : وما الفساد؟ قال : « الكفر والشرك بالله » قلت : وما الحق؟ قال : « الإسلام والقرآن والولاية إذا انتهت إليك » قلت : وما الحيلة؟ قال : « ترك الحيلة » قلت : وما عليّ؟ قال : « طاعة الله وطاعة رسوله » قلت : وكيف أدعو الله تعالى؟ قال : « بالصدق واليقين » قلت : وماذا أسأل الله؟ قال : « العافية » قلت : وما أصنع لنجاة نفسي؟ قال : « كل حلالاً وقل صدقاً » قلت : وما السرور؟ قال : « الجنة » قلت : وما الراحة؟ قال :(3/410)
« لقاء الله » فلما فرغت منها نزل نسخها .
{ ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات } أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } ما أمرتم به وشق عليكم { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } أي خفف عنكم وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة كما أزال المؤاخذة بالذنب عن التائب عنه { فَأَقِمُواْ الصلاوة وَءَاتُواْ الزكاوة وَأَطِعُواْ الله وَرَسُولِهُ } أي فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وهذا وعد ووعيد .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم } كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] وينقلون إليهم أسرار المؤمنين { مَّا هُم مّنكُمْ } يا مسلمون { وَلاَ مِنْهُمْ } ولا من اليهود كقوله : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } [ النساء : 143 ] { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب } أي يقولون والله إنا لمسلمون لا منافقون { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كاذبون منافقون { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } نوعاً من العذاب متفاقماً { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي إنهم كانوا في الزمان الماضي مصرين على سوء العمل أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة .
{ اتخذوا أيمانهم } الكاذبة { جَنَّةُ } وقاية دون أموالهم ودمائهم { فَصَدُّواْ } الناس في خلال أمنهم وسلامتهم { عَن سَبِيلِ الله } عن طاعته والإيمان به { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } وعدهم العذاب المخزي لكفرهم وصدهم كقوله { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } [ النحل : 88 ] { لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله } من عذاب الله { شَيْئاً } قليلاً من الإغناء { أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ } أي لله في الآخرة أنهم كانوا مخلصين في الدنيا غير منافقين { كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } في الدنيا على ذلك { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ } في الدنيا { على شَىْءٍ } من النفع أو يحسبون أنهم على شيء من النفع ثم بأيمانهم الكاذبة كما انتفعوا ههنا { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة .
{ استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان } استولى عليهم { فأنساهم ذِكْرَ الله } قال شاه الكرماني : علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل والمشارب والملابس ، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمائه والقيام بشكرها ، ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب والغيبة والبهتان ، ويشغل لبه عن التفكر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان } جنده { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون } .
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِى الأذلين } في جملة من هو أذل خلق الله تعالى لا ترى أحداً أذل منهم { كتاب الله } في اللوح { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } بالحجة والسيف أو بأحدهما { إِنَّ الله قَوِىٌّ } لا يمتنع عليه ما يريد { عَزِيزٌ } غالب غير مغلوب .(3/411)
{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ } هو مفعول ثان ل { تَجِدُ } أو حال أو صفة ل { قَوْماً } وتجد بمعنى تصادف على هذا { مَنْ حَادَّ الله } خالفه وعاداه { وَرَسُولُهُ } أي من الممتنع أن تجد قوماً مؤمنين يوالون المشركين ، والمراد أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في الزجر عن مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز عن مخالطتهم ومعاشرتهم . وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله { وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } وبقوله { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان } أي أثبته فيها وبمقابلة قوله { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان } بقوله { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله } { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ } أي بكتاب أنزله فيه حياة لهم ، ويجوز أن يكون الضمير للإيمان أي بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به . وعن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان . وعن عبد العزيز بن أبي رواد أنه لقيه المنصور فلما عرفه هرب منه وتلاها . وقال سهل : من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس بمبتدع ولا يجالسه ويظهر له من نفسه العداوة ، ومن داهن مبتدعاً سلبه الله حلاوة السنن ، ومن أجاب مبتدعاً لطلب عز الدنيا أو غناها أذله الله بذلك العز وأفقره بذلك الغنى ، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله نور الإيمان من قلبه ، ومن لم يصدق فليجرب . { وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ } بتوحيدهم الخالص وطاعتهم { وَرَضُواْ عَنْهُ } بثوابه الجسيم في الآخرة أو بما قضى عليهم في الدنيا { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله } أنصار حقه ودعاة خلقه { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } الباقون في النعيم المقيم الفائزون بكل محبوب الآمنون من كل مرهوب .(3/412)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } رُوي أن هذه السورة نزلت بأسرها في بني النضير ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة فحالف أبا سفيان عند الكعبة فأمر صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعباً غيلة ، ثم خرج صلى الله عليه وسلم مع الجيش إليهم فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة وأمر بقطع نخيلهم ، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم ، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات .
{ هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } يعني يهود بني النضير { مِن ديارهم } بالمدينة . واللام في { لأَِوَّلِ الحشر } تتعلق ب { أَخْرَجَ } وهي اللام في قوله تعالى { ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } [ الفجر : 24 ] وقولك جئته لوقت كذا . أي أخرج الذين كفروا عند أول الحشر . ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشأم وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط ، وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشأم ، أو هذا أول حشرهم ، وآخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام ، أو آخر حشرهم حشر يوم القيامة . قال ابن عباس رضي الله عنهما : من شك أن المحشر بالشأم فليقرأ هذه الآية ، فهم الحشر الأول وسائر الناس الحشر الثاني . وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما خرجوا " امضوا فإنكم أول الحشر ونحن على الأثر " قتادة : إذا كان آخر الزمان جاءت نار من قبل المشرق فحشرت الناس إلى أرض الشأم وبها تقوم عليهم القيامة . وقيل : معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله } أي ظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله . والفرق بين هذا التركيب وبين النظم الذي جاء عليه أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسماً ل«أَن» وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في مغازاتهم ، وليس ذلك في قولك «وظنوا أن حصونهم تمنعهم» .(3/413)
{ فأتاهم الله } أي أمر الله وعقابه وفي الشواذ «فآتاهم الله» أي فآتاهم الهلاك { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرة على يد أخيه رضاعاً .
{ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب } الخوف { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين } { يُخْرِبُونَ } أبو عمرو . والتخريب والإخراب الإفساد بالنقض والهدم ، والخَرُبة الفساد وكانوا يخرّبون بواطنها والمسلمون ظواهرها لما أراد الله من استئصال شأفتهم وأن لا تبقى لهم بالمدينة دار ولا منهم ديّار ، والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة ، وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين ، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيد الخشب والساج . وأما المؤمنون فداعيهم إلى التخريب إزالة متحصنهم وأن يتسع لهم مجال الحرب . ومعنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين أنهم لما عرضوهم بنكث العهد لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه { فاعتبروا ياأولى الأبصار } أي فتأملوا فيما نزل بهؤلاء والسبب الذي استحقوا به ذلك فاحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم فتعاقبوا بمثل عقوبتهم ، وهذا دليل على جواز القياس { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء } الخروج من الوطن مع الأهل والولد { لَعَذَّبَهُمْ فِى الدنيا } بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة { وَلَهُمْ } سواء أجلوا أو قتلوا { فِى الآخرة عَذَابُ النار } الذي لا أشد منه { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } أي إنما أصابهم ذلك بسبب أنهم { شَاقُّواْ الله } خالفوه { وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقّ الله } ورسوله { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .
{ مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ } هو بيان ل { مَا قَطَعْتُمْ } ومحل «ما» نصب ب { قَطَعْتُمْ } كأنه قيل : أي شيء قطعتم وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله { أَوْ تَرَكْتُمُوهَا } لأنه في معنى اللينة ، واللينة : النخلة من الألوان وياؤها عن واو قلبت لكسرة ما قبلها . وقيل : اللينة النخلة الكريمة كأنهم اشتقوها من اللين { قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله } فقطعها وتركها بإذن الله { وَلِيُخْزِىَ الفاسقين } وليذل اليهود ويغيظهم أذن في قطعها { وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ } جعله فيئاً له خاصة { مِنْهُمْ } من بني النضير { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } فلم يكن ذلك بإيجاف خيل أو ركاب منكم على ذلك والركاب الإبل ، والمعنى فما أوجفتم على تحصيله وتغنيمه خيلاً ولا ركاباً ولا تعبتم في القتال عليه ، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم لأنه على ميلين من المدينة ، وكان صلى الله عليه وسلم على حمار فحسب { ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء } يعني أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة ، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم ، فالأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء ولا يقسمه قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهراً فقسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة منهم لفقرهم { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } وإنما لم يدخل العاطف على هذه الجملة لأنها بيان للأولى فهي منها غير أجنبية عنها ، بين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوماً على الأقسام الخمسة ، وزيف هذا القول بعض المفسرين وقال : الآية الأولى نزلت في أموال بني النضير وقد جعلها الله لرسوله خاصة ، وهذه الآية في غنائم كل قرية تؤخذ بقوة الغزاة ، وفي الآية بيان مصرف خمسها فهي مبتدأة { كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً } { تَكُونُ دُولَةً } يزيد على «كان» التامة والدولة والدولة ما يدول للإنسان أي يدور من الجد .(3/414)
ومعنى قوله { لاَ يَكُونَ دُولَةً } { بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ } كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطي الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها جداً بين الأغنياء يتكاثرون به { وَمَا ءاتاكم الرسول } أي أعطاكم من قسمة غنيمة أو فيء { فَخُذُوهُ } فاقبلوه { وَمَا نهاكم عَنْهُ } عن أخذه منها { فانتهوا } عنه ولا تطلبوه { واتقوا الله } أن تخالفوه وتتهاونوا بأوامره ونواهيه { أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم . والأجود أن يكون عاماً في كل ما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وأمر الفيء داخل في عمومه .
{ لِلْفُقَرَاء } بدل من قوله { وَلِذِى القربى } والمعطوف عليه ، والذي منع الإبدال من { لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } وإن كان المعنى لرسول الله إن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } وأنه يترفع برسول الله عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل { المهاجرين الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم وأموالهم } بمكة ، وفيه دليل على أن الكفار يملكون بالاستيلاء أموال المسلمين لأن الله تعالى سمى المهاجرين فقراء مع أنه كانت لهم ديار وأموال { يَبْتَغُونَ } حال { فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً } أي يطلبون الجنة ورضوان الله { وينصرون الله ورسوله } أي ينصرون دين الله ويعينون رسوله { أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون } في إيمانهم وجهادهم { والذين } معطوف على المهاجرين وهم الأنصار { تَبَوَّءوا الدار } توطنوا المدينة { والإيمان } وأخلصوا الإيمان كقوله :
علفتها تبناً وماء بارداً ... أو وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطناً لهم لتمكنهم واستقامتهم عليه كما جعلوا المدينة كذلك ، أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه .(3/415)
{ مِن قَبْلِهِمُ } من قبل المهاجرين لأنهم سبقوهم في تبوء دار الهجرة والإيمان . وقيل : من قبل هجرتهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } حتى شاطروهم أموالهم وأنزلوهم منازلهم ، ونزل من كانت له امرأتان عن إحديهما حتى تزوج بها رجل من المهاجرين .
{ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ } ولا يعلمون في أنفسهم طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره والمحتاج إليه يسمي حاجة يعني أن نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه . وقيل : حاجة حسداً مما أعطي المهاجرون من الفيء حيث خصهم النبي صلى الله عليه وسلم به . وقيل : لا يجدون في صدورهم مس حاجة من فقد ما أوتوا فحذف المضافان { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } فقر وأصلها خصاص البيت وهي فروجه ، والجملة في موضع الحال أي مفروضة خصاصتهم . روي أنه نزل برجل منهم ضيف فنوّم الصبية وقرّب الطعام وأطفأ المصباح ليشبع ضيفه ولا يأكل هو . وعن أنس : أهدى لبعضهم رأس مشوي وهو مجهود فوجهه إلى جاره فتداولته تسعة أنفس حتى عاد إلى الأول . أبو زيد قال لي شاب من أهل بلخ : ما الزهد عندكم؟ قلت : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا . فقال : هكذا عندنا كلاب بلخ بل إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } الظافرون بما أرادوا . الشح اللؤم وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع ، وأما البخل فهو المنع نفسه . وقيل : الشح أكل مال أخيك ظلماً ، والبخل منع مالك . وعن كسرى : الشح أضر من الفقر لأن الفقير يتسع إذا وجد بخلاف الشحيح .
{ والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } عطف أيضاً على { المهاجرين } وهم الذين هاجروا من بعده . وقيل : التابعون بإحسان . وقيل : من بعدهم إلى يوم القيامة . قال عمر رضي الله عنه : دخل في هذا الفيء كل من هو مولود إلى يوم القيامة في الإسلام ، فجعل الواو للعطف فيهما . وقرىء { لِلَّذِينَ } فيهما { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } قيل : هم المهاجرون والأنصار . عن عائشة رضي الله عنها : أمروا بأن يستغفروا لهم فسبوهم { وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ } حقداً { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } يعني الصحابة { رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ } وقيل لسعيد بن المسيب : ما تقول في عثمان وطلحة والزبير؟ قال : أقول ما قولنيه الله وتلى هذه الآية . ثم عجب نبيه بقوله :(3/416)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا } أي ألم تر يا محمد إلى عبد الله بن أبيّ وأشياعه { يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } يعني بني النضير والمراد إخوة الكفر { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ } من دياركم { لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ } رُوي أن ابن أبيّ وأصحابه دسوا إلى بني النضير حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم : لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ } في قتالكم { أَحَداً أَبَداً } من رسول الله والمسلمين إن حملنا عليه أو في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون } في مواعيدهم لليهود ، وفيه دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيب .
{ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } إنما قال { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ } بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم على الفرض والتقدير كقوله { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] وكما يعلم ما يكون فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون . والمعنى ولئن نصر المنافقون اليهود لينهزمن المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك أي يهلكهم الله ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم ، أو لينهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً } أي أشد مرهوبية . مصدر رهب المبني للمفعول . وقوله { فِى صُدُورِهِمْ } دلالة على نفاقهم يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله وأنتم أهيب في صدورهم { مّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } لا يعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته { لاَ يقاتلونكم } لا يقدرون على مقاتلتكم { جَمِيعاً } مجتمعين يعني اليهود والمنافقين { إِلا } كائنين { فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } بالخنادق والدروب { أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ } { جدار } مكي وأبو عمرو { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة لأن الشجاع يجبن عند محاربة الله ورسوله { تَحْسَبُهُمْ } أي اليهود والمنافقين { جَمِيعاً } مجتمعين ذوي ألفة واتحاد { وَقُلُوبُهُمْ شتى } متفرقة لا ألفة بينها يعني أن بينهم إحناً وعداوات فلا يتعاضدون حق التعاضد ، وهذا تحسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم { ذلك } التفرق { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم .
{ كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي مثلهم كمثل أهل بدر فحذف المبتدأ { قَرِيبًا } أي استقروا من قبلهم زمناً قريباً { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم كلأ وبيل وخيم سيء العاقبة يعني ذاقوا عذاب القتل في الدنيا { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب النار { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ للإنسان اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } أي مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم كمثل الشيطان إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة .(3/417)
وقيل : المراد استغواؤه قريشاً يوم بدر وقوله لهم { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } إلى قوله { إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ } [ الأنفال : 48 ] { فَكَانَ عاقبتهما } عاقبة الإنسان الكافر والشيطان { أَنَّهُمَا فِى النار خالدين فِيهَا } { عاقبتهما } خبر «كان» مقدم و«أن» مع اسمها وخبرها أي في النار في موضع الرفع على الاسم و { خالدين } حال { وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله } في أوامره فلا تخالفوها { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ } نكر النفس تقليلاً للأنفس النواظر فيما قدّمن للآخرة { مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } يعني يوم القيامة سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له أو عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران يوم وغد . وتنكيره لتعظيم أمره أي لغد لا يعرف كنهه لعظمه . وعن مالك بن دينار : مكتوب على باب الجنة وجدنا ما عملنا ربحنا ما قدما خسرنا ما خلفنا . { واتقوا الله } كرر الأمر بالتقوى تأكيداً أو اتقوا الله في أداء الواجبات لأنه قرن بما هو عمل ، واتقوا الله في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد وهو { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وفيه تحريض على المراقبة لأن من علم وقت فعله أن الله مطلع على ما يرتكب من الذنوب يمتنع عنه { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله } تركوا ذكر الله عز وجل وما أمرهم به { فأنساهم أَنفُسَهُمْ } فتركهم من ذكره بالرحمة والتوفيق { أُولَئِكَ هُمُ الفاسقون } الخارجون عن طاعة الله .
{ لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هُمُ الفائزون } هذا تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار ، والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز العظيم مع أصحاب الجنة والعذاب الأليم مع أصحاب النار ، فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه كما تقول لمن يعق أباه «هو أبوك» تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه بذلك على حق الأبوّة الذي يقتضي البر والتعطف . وقد استدلت الشافعية بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر ، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالاستيلاء ، وقد أجبنا عن مثل هذا في أصول الفقه والكافي .
{ لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله } أي من شأن القرآن وعظمته أنه لو جعل في الجبل تمييز وأنزل عليه القرآن لخشع أي لخضع وتطأطأ وتصدع أي تشقق من خشية الله ، وجائز أن يكون هذا تمثيلاً كما في قوله(3/418)
{ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة } [ الأحزاب : 72 ] ويدل عليه قوله { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وهي إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل ، والمراد توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره . ثم رد على من أشرك وشبهه بخلقه فقال { هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة } أي السر والعلانية أو الدنيا والآخرة أو المعدوم والموجود { هُوَ الرحمن الرحيم هُوَ الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك } الذي لا يزول ملكه { القدوس } المنزه عن القبائح وفي تسبيح الملائكة : سبوح قدوس رب الملائكة والروح { السلام } الذي سلم الخلق من ظلمه عن الزجاج { المؤمن } واهب الأمن . وعن الزجاج : الذي آمن الخلق من ظلمه أو المؤمن من عذابه من أطاعه { المهيمن } الرقيب على كل شيء الحافظ له مفيعل من الأمن إلا أن همزته قلبت هاء { العزيز } الغالب غير المغلوب { الجبار } العالي العظيم الذي يذل له من دونه أو العظيم الشأن في القدرة والسلطان أو القهار ذو الجبروت { المتكبر } البليغ الكبرياء والعظمة { سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } نزه ذاته عما يصفه به المشركون { هُوَ الله الخالق } المقدر لما يوجده { البارىء } الموجد { المصور } في الأرحام { لَهُ الأسماء الحسنى } الدالة على الصفات العلا { يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } ختم السورة بما بدأ به . عن أبي هريرة رضي الله عنه سألت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاسم الأعظم : فقال « عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته » فأعدت عليه فأعاد عليّ فأعدت عليه فأعاد عليّ .(3/419)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
روي أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح فقال لها : أمسلمة جئت؟ قالت : لا . قال : أفمهاجرة جئت؟ قالت : لا . قال : فما جاء بك؟ قالت : احتجت حاجة شديدة فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً واستحملها كتاباً إلى أهل مكة نسخته : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة اعلموا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم . فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا فرساناً وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها ، فأدركوها فجحدت وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّ سيفه وقال : أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك ، فأخرجته من عقاص شعرها . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم ، فاستحضر برسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال : ما حملك عليه؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها ، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري ، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدقه وقبل عذره . فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال صلى الله عليه وسلم : وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر رضي الله عنه فنزل .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } عدي «اتخذ» إلى مفعوليه وهما { عَدُوّى } و { أَوْلِيَاء } والعدوّ فعول من عدا كعفوّ من عفا ولكنه على زنة المصدر ، أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد ، وفيه دليل على أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان { تُلْقُونَ } حال من الضمير في { لاَ تَتَّخِذُواْ } والتقدير لا تتخذوهم أولياء ملقين { إِلَيْهِمْ بالمودة } أو مستأنف بعد وقف على التوبيخ . والإلقاء عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم . والباء في { بالمودة } زائدة مؤكدة للتعدي كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] أو ثابتة على أن مفعول { تُلْقُونَ } محذوف معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم { وَقَدْ كَفَرُواْ } حال من { لاَ تَتَّخِذُواْ } أو من { تُلْقُونَ } أي لا تتولوهم أو توادونهم وهذه حالهم { بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الحق } دين الإسلام والقرآن { يُخْرِجُونَ الرسول وإياكم } استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوهم أو حال من { كَفَرُواْ } { أَن تُؤْمِنُواْ } تعليل ل { يُخْرِجُونَ } أي يخرجونكم من مكة لإيمانكم { بالله رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } متعلق ب { لاَ تَتَّخِذُواْ } أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي .(3/420)
وقول النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه { جِهَاداً فِى سَبِيلِى } مصدر في موضع الحال أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي { وابتغاء مَرْضَاتِى } ومبتغين مرضاتي { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } أي تفضون إليهم بمودتكم سراً أو تسرون إليهم أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة وهو استئناف { وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ } والمعنى أي طائل لكم في أسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي وأنا مطلع رسولي على ما تسرون { وَمَن يَفْعَلْهُ } أي هذا الإسرار { مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } فقد أخطأ طريق الحق والصواب .
{ إِن يَثْقَفُوكُمْ } إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم { يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء } خالصي العداوة ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم { وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء } بالقتل والشتم { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } وتمنوا لو ترتدون عن دينكم فإذاً موادة أمثالهم خطأ عظيم منكم . والماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع ففيه نكتة كأنه قيل : ودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفاراً أسبق المضار عندهم وأولها لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم ، لأنكم بذالون لها دونه ، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أهم شيء عند صاحبه .
{ لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم } قراباتكم { وَلاَ أولادكم } الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم ثم قال { يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } وبين أقاربكم وأولادكم { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ } [ عبس : 34 ] الآية . فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفرّ منكم غداً . { يُفَصّلُ } : عاصم . { يُفَصّلُ } حمزة وعلي والفاعل هو الله عز وجل { يُفَصّلُ } ابن ذكوان غيرهم { يُفَصّلُ } { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم على أعمالكم .
{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ } قدوة في التبري من الأهل { حَسَنَةٌ فِى إبراهيم } أي في أقواله ولهذا استثنى منها إلا قول إبراهيم { والذين مَعَهُ } من المؤمنين وقيل : كانوا أنبياء { إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ } جمع بريء كظريف وظرفاء { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة } بالأفعال { والبغضاء } بالقلوب { أَبَداً حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ } فحينئذ نترك عداوتكم { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } وذلك لموعدة وعدها إياه أي اقتدوا به في أقواله ولا تأتسوا به في الاستغفار لأبيه الكافر { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَىْء } أي من هداية ومغفرة وتوفيق ، وهذه الجملة لا تليق بالاستثناء ألا ترى إلى قوله :(3/421)
{ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً } [ الفتح : 11 ] ولكن المراد استثناء جملة قوله لأبيه والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده تابع له كأنه قال : أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } متصل بما قبل الاستثناء وهو من جملة الأسوة الحسنة . وقيل : معناه قولوا ربنا فهو ابتداء أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه { وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } أقبلنا { وَإِلَيْكَ المصير } المرجع { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب { واغفر لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } أي الغالب الحاكم .(3/422)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الأخر } ثم كرر الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه تقريراً وتأكيداً عليهم ، ولذا جاء به مصدراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد ، وأبدل من قوله { لَكُمْ } قوله { لّمَن كَانَ يَرْجُو الله } أي ثوابه أي يخشى الله وعقبه بقوله { وَمَن يَتَوَلَّ } يعرض عن أمرنا ويوال الكفار { فَإِنَّ الله هُوَ الغنى } عن الخلق { الحميد } المستحق للحمد فلم يترك نوعاً من التأكيد إلا جاء به ولما أنزلت هذه الآيات وتشدد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين أطمعهم في تحول الحال إلى خلافة فقال :
{ عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم } أي من أهل مكة من أقربائكم { مَّوَدَّةَ } بأن يوفقهم للإيمان ، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم فأسلم قومهم وتم بينهم التحاب . و «عسى» وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج عسى أو لعل فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك أو أريد به إطماع المؤمنين { والله قَدِيرٌ } على تقليب القلوب وتحويل الأحوال وتسهيل أسباب المودة { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن أسلم من المشركين { لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم أَن تَبَرُّوهُمْ } تكرموهم وتحسنوا إليهم قولاً وفعلاً . ومحل { أَن تَبَرُّوهُمْ } جر على البدل من { الذين لَمْ يقاتلوكم } وهو بدل اشتمال والتقدير عن بر الذين { وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ } وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم ، وإذا نهى عن الظلم في حق المشرك فكيف في حق المسلم { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم فِى الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم وظاهروا على إخراجكم أَن تَوَلَّوْهُمْ } هو بدل من { الذين قاتلوكم } والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ } منكم { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } حيث وضعوا التولي غير موضعه .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات } سماهن مؤمنات لنطقهن بكلمة الشهادة ، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان { مهاجرات } نصب على الحال { فامتحنوهن } فابتلوهن بالنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن . وعن ابن عباس : امتحانها أن تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله { الله أَعْلَمُ بإيمانهن } منكم فإنكم وإن رزتم أحوالهن لا تعلمون ذلك حقيقة وعند الله حقيقة العلم به { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات } العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بظهور الأمارات ، وتسمية الظن علماً يؤذن بأن الظن الغالب وما يفضي إليه القياس جارٍ مجرى العلم وصاحبه غير داخل في قوله(3/423)
{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين .
{ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } أي لا حل بين المؤمنة والمشرك لوقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة { وَءاتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ } وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور . نزلت الآية بعد صلح الحديبية وكان الصلح قد وقع على أن يرد على أهل مكة من جاء مؤمناً منهم ، فأنزل الله هذه الآية بياناً لأن ذلك في الرجال لا في النساء لأن المسلمة لا تحل للكافر . وقيل : نسخت هذه الآية الحكم الأول { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } ثم نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات { ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن لأن المهر أجر البضع وبه احتج أبو حنيفة رضي الله عنه على أن لا عدة على المهاجرة { وَلاَ تُمْسِكُواْ } { وَلاَ تُمْسِكُواْ } بصري { بِعِصَمِ الكوافر } العصمة ما يعتصم به من عقد وسبب . والكوافر جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب أو لحقت بدار الحرب مرتدة أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية . قال ابن عباس رضي الله عنهما : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّنّ بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه { وَسْئَلُواْ مَا أَنفَقْتُم } من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار ممن تزوجها { وَلْيَسْئَلُواْ مَا أَنفَقُواْ } من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله } أي جميع ما ذكر في هذه الآية { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف الضمير أي يحكمه الله ، أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة وهو منسوخ فلم يبق سؤال المهر لا منا ولا منهم { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار } وإن انفلت أحد منهن إلى الكفار وهو في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أحد .
{ فعاقبتم } فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم عن الزجاج { فَأَتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ } فأعطوا المسلمين الذين ارتدت زوجاتهم ولحقن بدار الحرب مهور زوجاتهم من هذه الغنيمة { واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } وقيل : هذا الحكم منسوخ أيضاً .
{ يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ } حال { على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن } يريد وأد البنات { وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك ، كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً ، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ } طاعة الله ورسوله { فَبَايِعْهُنَّ واستغفر لَهُنَّ الله } عما مضى { إِنَّ الله غَفُورٌ } بتمحيق ما سلف { رَّحِيمٌ } بتوفيق ما ائتنف .(3/424)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر قاعد أسفل منه يبايعهن عنه بأمره ويبلغهن عنه ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة فقال عليه السلام : « أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً » فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئاً فقال عليه السلام : « ولا يسرقن » فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات فقال أبو سفيان : ما أصبت فهو لك حلال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها : إنك لهند . قالت : نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال : « ولا يزنين » فقالت : أو تزني الحرة؟ فقال : « ولا يقتلن أولادهن » فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « ولا يأتين ببهتان » فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق . فقال : « ولا يعصينك في معروف » فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وهو يشير إلى أن طاعة الولاة لا تجب في المنكر .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ } ختم السورة بما بدأ به قيل هم المشركون { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الأخرة } من ثوابها لأنهم ينكرون البعث { كَمَا يَئِسَ الكفار } أي كما يئسوا إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير { مِنْ أصحاب القبور } أن يرجعوا إليهم أو كما يئس أسلافهم الذين هم في القبور من الآخرة أي هؤلاء كسلفهم . وقيل : هم اليهود أي لا تتولوا قوماً مغضوباً عليهم قد يئسوا من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة ، كما يئس الكفار من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء . وقيل : من أصحاب القبور بيان للكفار أي كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم ، والله أعلم .(3/425)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } رُوي أنهم قالوا قبل أن يؤمروا بالجهاد : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه ، فنزلت آية الجهاد فتباطأ بعضهم فنزلت { يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } «لم» هي لام الإِضافة داخلة على «ما» الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : «بم وفيم ومم وعم وإلام وعلام» ، وإنما حذفت الألف لأن «ما» واللام أو غيرها كشيء واحد وهو كثير الاستعمال في كلام المستفهم ، وقد جاء استعمال الأصل قليلاً قال :
على ما قام يشتمني جرير
والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان ومن أسكن في الوصل فلإِجرائه مجرى الوقف { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله
غلت ناب كليب بواؤها
ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأسند إلى أن تقولوا ونصب مقتاً على التمييز ، وفيه دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، والمعنى : كبر قولكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله ، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض ، وعن بعض السلف أنه قيل له : حدثنا ، فقال : أتأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله .
ثم أعلم الله عز وجل ما يحبه فقال : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً } أي : صافين أنفسهم مصدر وقع موقع الحال { كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ } لاصق بعضه ببعض . وقيل : أريد به استواء نياتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رص بعضه إلى بعض وهو حال أيضاً { وَإِذْ } منصوب ب «اذكر» { قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِى } بجحود الآيات والقذف بما ليس فيّ { وَقَد تَّعْلَمُونَ } في موضع الحال أي : لم تؤذونني عالمين علماً يقيناً { أَنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } وقضية علمكم بذلك توقيري وتعظيمي لا أن تؤذوني { فَلَمَّا زَاغُواْ } مالوا عن الحق { أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } من الهداية ، أو لما تركوا أوامره نزع نور الإيمان من قلوبهم ، أو فلما اختاروا الزيع أزاغ الله قلوبهم أي : خذلهم وحرمهم توفيق اتباع الحق { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } أي : لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق .
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابنى إسراءيل } ولم يقل : يا قوم كما قال موسى لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه { إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التوراة وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسمه أَحْمَدُ } أي : أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة وفي حالٍ تبشيري برسول يأتي من بعدي يعني : أن ديني التصديق : التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر ، { بَعْدِى } حجازي وأبو عمرو وأبو بكر وهو اختيار الخليل وسيبويه ، وانتصب { مُصَدّقاً } و { مُبَشّرًا } بما في الرسول من معنى الإِرسال { فَلَمَّا جَآءَهُمُ } عيسى أو محمد عليهما السلام { بالبينات } بالمعجزات { قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } { ساحر } حمزة وعلي .(3/426)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } وأيّ : الناس أشد ظلماً ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإِسلام الذي له فيه سعادة الدارين ، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق هذا سحر والسحر كذب وتمويه { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم } هذا تهكم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن : هذا سحر ، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه والمفعول محذوف واللام للتعليل ، والتقدير : يريدون الكذب ليطفئوا نور الله بأفواههم ، أي : بكلامهم { والله مُتِمُّ نُورِهِ } مكي وحمزة وعلي وحفص { مُتِمٌّ نُورِهِ } غيرهم أي : متم الحق ومبلغه غايته { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق } أي : الملة الحنيفية { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه { عَلَى الدين كُلّهِ } على جميع الأديان المخالفة له ، ولعمري لقد فعل فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام ، وعن مجاهد : إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } .
{ يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } { تُنجّيكُم } شامي { تُؤْمِنُونَ } استئناف كأنّهم قالوا كيف نعمل؟ فقال : { تؤمنون } وهو بمعنى آمنوا عند سيبويه ولهذا أجيب بقوله : { يَغْفِرْ لَكُمْ } ويدل عليه قراءة ابن مسعود { آمنوا بالله وَرَسُولِهِ وجاهدوا } وإنما جيء به على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل ، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين { بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ } أي : ما ذكر من الإيمان والجهاد { خَيْرٌ لَّكُمْ } من أموالكم وأنفسكم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه خير لكم كان خيراً حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتفلحون وتخلصون { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ومساكن طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : إقامة وخلود يقال عدن بالمكان إذا أقام به كذا قيل : { ذلك الفوز العظيم وأخرى تُحِبُّونَهَا } ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم ، ثم فسرها بقوله { نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي : عاجل ، وهو فتح مكة والنصر على قريش : أو فتح فارس والروم ، وفي { تُحِبُّونَهَا } شيء من التوبيخ على محبة العاجل ، وقال صاحب الكشف معناه : هل أدلكم على تجارة تنجيكم وعلى تجارة أخرى تحبونها ، ثم قال : { نَصْرُ } أي : نصر هي { وَبَشّرِ المؤمنين } عطف على { تُؤْمِنُونَ } لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا - يثبكم الله وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك : وقيل : عطف على «قل» مراداً قبل { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ } .(3/427)
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أَنْصَارُ الله } أي : أنصار دينه { أَنصَاراً لِلَّهِ } حجازي وأبو عمرو { كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ للحواريّن من أنصاري إلى الله } ظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى { مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله } ولكنه محمول على المعنى ، أي : كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم : { مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله } ومعناه : من جندي متوجهاً إلى نصرة الله ليطابق جواب الحواريين وهو قوله : { قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله } أي : نحن الذين ينصرون الله ، ومعنى { مَنْ أَنصَارِى } من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله والحواريون أصفياؤه ، وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً ، وحواري الرجل صفيه ، وخالصه من الحور وهو البياض الخالص ، وقيل : كانوا قصارين يحورون الثياب ، أي : يبيضونها { فَئَامَنَت طَّائِفَةٌ مّن بَنِى إسراءيل } بعيسى { وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ } به { فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ عَلَى عَدُوِهِمْ } فقوينا مؤمنيهم على كفارهم { فَأَصْبَحُواْ ظاهرين } فغلبوا عليهم والله ولي المؤمنين والله أعلم .(3/428)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
{ يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم } التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقة يعني إذا نظرت إلى كل شيء دلتك خلقته على وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن الأشباه ، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كل شيء ما يعرف به الله تعالى وينزهه ، ألا ترى إلى قوله { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كل جوهر من غير معرفة له بذلك { هُوَ الذى بَعَثَ } أرسل { فِى الأميين رَسُولاً مّنْهُمْ } أي بعث رجلاً أمياً في قوم أميين . وقيل { مِنْهُمْ } كقوله { مّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] يعلمون نسبه وأحواله . والأمي منسوب إلى أمة العرب لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم . وقيل : بدئت الكتابة بالطائف وهم أخذوها من أهل الحيرة وأهل الحيرة من أهل الأنبار { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياته } القرآن { وَيُزَكّيهِمْ } ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب } القرآن { والحكمة } السنة أو الفقه في الدين { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ } من قبل محمد صلى الله عليه وسلم { لَفِى ضلال مُّبِينٍ } كفر وجهالة ، و«إن» مخففة من الثقيلة واللام دليل عليها أي كانوا في ضلال لا ترى ضلالاً أعظم منه .
{ وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ } مجرور معطوف على { الأميين } يعني أنه بعثه في الأميين الذين على عهده وفي آخرين من الأميين { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم ، أو هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم الدين . وقيل : هم العجم . أو منصوب معطوف على المنصوب في { وَيُعَلّمُهُمُ } أي يعلمهم ويعلم آخرين لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستنداً إلى أوله فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه { وَهُوَ العزيز الحكيم } في تمكينه رجلاً أمياً من ذلك الأمر العظيم وتأييده عليه واختياره إياه من بين كافة البشر { ذلك } الفضل الذي أعطاه محمداً وهو أن يكون نبي أبناء عصره ونبي أبناء العصور الغوابر هو { فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } إعطاءه وتقتضيه حكمته { والله ذُو الفضل العظيم مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة } أي كلفوا علمها والعمل بما فيها { ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } ثم لم يعملوا بها فكأنهم لم يحملوها { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } جمع سفر وهو الكتاب الكبير و { يَحْمِلُ } في محل النصب على الحال أو الجر على الوصف لأن الحمار كاللئيم في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بآياتها ، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به فلم يؤمنوا به بالحمار حمل كتباً كباراً من كتب العلم فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب ، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله { بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله } أي بئس مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ، أو بئس مثل القوم المكذبين مثلهم وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } أي وقت اختيارهم الظلم أو لا يهدي من سبق في علمه أنه يكون ظالماً .(3/429)
{ قُلْ ياأيها الذين هَادُواْ } هاد يهود إذا تهود { إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صادقين } كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه أي إن كان قولكم حقاً وكنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه ، ثم قال { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ } أي بسبب ما قدموا من الكفر . ولا فرق بين «لا» و«لن» في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل إلا أن في «لن» تأكيداً وتشديداً ليس في «لا» فأتى مرة بلفظ التأكيد و { لَنْ يَتَمَنَّوْهُ } ومرة بغير لفظه و { لا يَتَمَنَّونَهُ } { والله عَلِيمٌ بالظالمين } وعيد لهم .
{ قُلْ إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ } ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم { فَإِنَّهُ ملاقيكم } لا محالة والجملة خبر «إن» ودخلت الفاء لتضمن الذي معنى الشرط { ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة } النداء الأذان و«من» بيان ل «إذا» وتفسير له ، ويوم الجمعة سيد الأيام وفي الحديث : " من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقى فتنة القبر " { فاسعوا } فامضوا وقرىء بها وقال الفراء : السعي والمضي والذهاب واحد وليس المراد به السرعة في المشي { إلى ذِكْرِ الله } أي إلى الخطبة عند الجمهور وبه استدل أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الخطيب إذا اقتصر على الحمد لله جاز { وَذَرُواْ البيع } أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا . وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال فقيل له بادروا تجارة الآخرة واتركوا تجارة الدنيا واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح ، وذروا البيع الذي نفعه يسير { ذلكم } أي السعي إلى ذكر الله { خَيْرٌ لَّكُمْ } من البيع والشراء { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } أي أديت { فانتشروا فِى الأرض } أمر إباحة { وابتغوا مِن فَضْلِ الله } الرزق أو طلب العلم أو عيادة المريض أو زيارة أخ في الله { واذكروا الله كَثِيراً } واشكروه على ما وفقكم لأداء فرضه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } تفرقوا عنك إليها وتقديره : وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه خص التجارة لأنها كانت أهم عندهم .(3/430)
رُوي أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشأم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقاموا إليه فما بقي معه إلا ثمانية أو اثنا عشر فقال صلى الله عليه وسلم : « والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعاً لأضرم عليهم الوادي ناراً » وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق فهو المراد باللهو { وَتَرَكُوكَ } على المنبر { قَائِمَاً } تخطب ، وفيه دليل على أن الخطيب ينبغي أن يخطب قائماً { قُلْ مَا عِندَ الله } من الثواب { خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين } أي لا يفوتهم رزق الله بترك البيع فهو خيرالرازقين ، والله أعلم .(3/431)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
{ إِذَا جَاءكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } أرادوا شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } أي والله يعلم أن الأمر كما يدل عليه قولهم { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون } في ادعاء المواطأة أو إنهم لكاذبون فيه لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة فهم كاذبون في تسميته شهادة ، أو إنهم لكاذبون عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } وقاية من السبي والقتل وفيه دليل على أن أشهد يمين { فَصَدُّواْ } الناس { عَن سَبِيلِ الله } عن الإسلام بالتنفير وإلقاء الشبه { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله . وفي «ساء» معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين { ذلك } إشارة إلى قوله { سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا أي نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ، ثم كفروا ، ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بقولهم : إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن حمير ونحو ذلك ، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام كقوله { وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا } [ البقرة : 14 ] الآية . { فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ } فختم عليها حتى لا يدخلها الإيمان جزاء على نفاقهم { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } لا يتدبرون أو لا يعرفون صحة الإيمان .
والخطاب في { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم } لرسول الله أو لكل من يخاطب { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } كان ابن أبيّ رجلاً جسيماً صبيحاً فصيحاً ، وقوم من المنافقين في مثل صفته ، فكانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياً كلهم ويسمعون إلى كلامهم . وموضع { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ } رفع على «هم كأنهم خشب» ، أو هو كلام مستأنف لا محل له { مُّسَنَّدَةٌ } إلى الحائط ، شبهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكاً غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبهوا به في عدم الانتفاع ، أو لأنهم أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام ، { خُشُبٌ } أبو عمرو غير عباس وعلي جمع خشبة كبدنة وبدون خشب كثمرة وثمر { يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم } { كُلَّ صَيْحَةٍ } مفعول أول والمفعول الثاني { عَلَيْهِمْ } وتم الكلام أي يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم لخيفتهم ورعبهم يعني إذا نادى منادٍ في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوه إيقاعاً بهم .(3/432)
ثم قال { هُمُ العدو } أي هم الكاملون في العداوة لأن أعدى الأعداء العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي { فاحذرهم } ولا تغترر بظاهرهم { قاتلهم الله } دعاء عليهم أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك { أنى يُؤْفَكُونَ } كيف يعدلون عن الحق تعجباً من جهلهم وضلالتهم .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ } عطفوها وأمالوها إعراضاً عن ذلك واستكباراً { لَوَّوْاْ } بالتخفيف : نافع { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ } يعرضون { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } عن الاعتذار والاستغفار . رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتلهم ، ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر وسنان الجهني حليف لابن أبي واقتتلا ، فصرخ جهجاه : يا للمهاجرين ، وسنان : يا للأنصار ، فأعان جهجاهاً جعال من فقراء المهاجرين ولطم سناناً فقال عبد الله لجعال وأنت هناك وقال : ما صحبنا محمداً إلا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال : سمن كلبك يأكلك . أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، عني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لقومه : والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد . فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث فقال : أنت والله الذليل المبغض في قومك ، ومحمد على رأسه تاج المعراج في عز من الرحمن وقوة من المسلمين . فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب . فأخبر زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله . فقال : إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب . قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصارياً . قال : فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه . وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله : أنت صاحب الكلام الذي بلغني؟ قال : والله أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك وإن زيداً لكاذب فهو قوله { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } فقال الحاضرون : يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام عسى أن يكون قدوهم . فلما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد : يا غلام إن الله قد صدقك وكذب المنافقين . فلما بان كذب عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك فلوى رأسه فقال : أمرتموني أن أومن فآمنت وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت وما بقي لي إلا أن أسجد لمحمد ، فنزل { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله } ولم يلبث إلا أياماً حتى اشتكى ومات .(3/433)
{ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } أي ما داموا على النفاق . والمعنى سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم ، أو لأن الله لا يغفر لهم . وقرىء { استغفرت } على حذف حرف الاستفهام لأن «أم» المعادلة تدل عليه { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين * هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } يتفرقوا { وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السماوات والأرض } أي وله الأرزاق والقسم فهو رازقهم منها وإن أبى أهل المدينة أن ينفقوا عليهم { ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ } ولكن عبد الله وأضرابه جاهلون لا يفقهون ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان .(3/434)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا } من غزوة بني المصطلق { إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل وَلِلَّهِ العزة } الغلبة والقوة { وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين وهم الأخصاء بذلك كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين . وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة : ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه ، والغني الذي لا فقر معه! وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلاً قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً . قال : ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية { ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ * ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ } لا تشغلكم { أموالكم } والتصرف فيها والسعي في تدبير أمرها بالنماء وطلب النتاج { وَلاَ أولادكم } وسروركم بهم وشفقتكم عليهم والقيام بمؤنهم { عَن ذِكْرِ الله } أي عن الصلوات الخمس أو عن القرآن { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } يريد الشغل بالدنيا عن الدين . وقيل : من يشتغل بتثمير أمواله عن تدبير أحواله وبمرضاة أولاده عن إصلاح معاده { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } في تجارتهم حيث باعوا الباقي بالفاني .
{ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رزقناكم } «من» للتبعيض والمراد بالإنفاق الواجب { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت } أي من قبل أن يرى دلائل الموت ويعاين ما ييأس معه من الإمهال ويتعذر عليه الإنفاق { فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى } هلا أخرت موتي { إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } إلى زمان قليل { فَأَصَّدَّقَ } فأتصدق وهو جواب «لولا» { وَأَكُن مّنَ الصالحين } من المؤمنين . والآية في المؤمنين . وقيل : في المنافقين . { وأكون } أبو عمرو بالنصب عطفاً على اللفظ ، والجزم على موضع { فَأَصَّدَّقَ } كأنه قيل : إن أخرتني أصدق وأكن { وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً } عن الموت { إِذَا جَاء أَجَلُهَا } المكتوب في اللوح المحفوظ { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } { يَعْمَلُونَ } حماد ويحيى ، والمعنى أنكم إذا علمتم أن تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه ، وأنه هاجم لا محالة ، وأن الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها من منع واجب وغيره ، لم يبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجب والاستعداد للقاء الله تعالى ، والله أعلم بالصواب .(3/435)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
{ يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل ، وذلك لأن الملك على الحقيقة له لأنه مبدىء كل شيء والقائم به ، وكذا الحمد لأن أصول النعم وفروعها منه ، وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء وحمد غيره اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده { هُوَ الذى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } أي فمنكم آتٍ بالكفر وفاعل له ، ومنكم آتٍ بالإيمان وفاعل له ، ويدل عليه { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي عالم وبصير بكفركم وإيمانكم اللذين هما من عملكم . والمعنى هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من العدم ، وكان يجب أن تكونوا بأجمعكم شاكرين ، فما بالكم تفرقتم أمماً فمنكم كافر ومنكم مؤمن؟ وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم وهو رد لقول من يقول بالمنزلة بين المنزلتين . وقيل : هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ، ومنكم مؤمن به .
{ خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } بالحكمة البالغة وهو أن جعلها مقار المكلفين ليعملوا فيجازيهم { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي جعلكم أحسن الحيوان كله وأبهاه بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور ، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب ، ومن كان دميماً مشوه الصورة سمج الخلقة فلا سماجة ثمّ ، ولكن الحسن على طبقات فلانحطاطها عما فوقها لا تستملح ولكنها غير خارجة عن حد الحسن ، وقالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما ، الجمال والبيان { وَإِلَيْهِ المصير } فأحسنوا سرائركم كما أحسن صوركم { يَعْلَمُ مَا فِى السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ والله عَلِيمُ بِذَاتِ الصدور } نبه بعلمه ما في السماوات والأرض ، ثم بعلمه بما يسره العباد ويعلنونه ، ثم بعلمه بذات الصدور أن شيئاً من الكليات والجزئيات غير خافٍ عليه فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه . وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد وكل ما ذكره بعده قوله { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصى الخالف ولا تشكر نعمته .
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } الخطاب لكفار مكة { نَبَؤُاْ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } يعني قوم نوح وهود وصالح ولوط { فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } أي ذاقوا وبال كفرهم في الدنيا { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في العقبى .
{ ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعد لهم من العذاب في الآخرة { بِأَنَّهُ } بأن الشأن والحديث { كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات } بالمعجزات { فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } أنكروا الرسالة للبشر ولم ينكروا العبادة للحجر { فَكَفَرُواْ } بالرسل { وَتَوَلَّواْ } عن الإيمان { واستغنى الله } أطلق ليتناول كل شيء ومن جملته أيمانهم وطاعتهم { والله غَنِىٌّ } عن خلقه { حَمِيدٌ } على صنعه .(3/436)
{ زَعَمَ الذين كَفَرُواْ } أي أهل مكة ، والزعم ادعاء العلم ويتعدى تعدي العلم { أَن لَّن يُبْعَثُواْ } «أن» مع ما في حيزه قائم مقام المفعولين وتقديره أنهم لن يبعثوا { قُلْ بلى } هو إثبات لما بعد «لن» وهو البعث { وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ } أكد الإخبار باليمين . فإن قلت : ما معنى اليمين على شيء أنكروه؟ قلت : هو جائز لأن التهديد به أعظم موقعاً في القلب فكأنه قيل لهم : ما تنكرونه كائن لا محالة . { ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ } البعث { عَلَى الله يَسِيرٌ } هين { فَئَامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم { والنور الذى أَنزَلْنَا } يعني القرآن لأنه يبين حقيقة كل شيء فيهتدي به كما بالنور { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فراقبوا أموركم { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ } انتصب الظرف بقوله { لَتُنَبَّؤُنَّ } أو بإضمار «اذكر» { لِيَوْمِ الجمع } ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغبن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء ، كما ورد في الحديث ، ومعنى ذلك يوم التغابن . وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم استعظام له وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا } صفة للمصدر أي عملاً صالحاً { يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُدْخِلْهُ } وبالنون فيهما : مدني وشامي { جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفوز العظيم الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أُوْلَئِكَ أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير } .
{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } شدة ومرض وموت أهل أو شيء يقتضي همًّا { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } بعلمه وتقديره ومشيئته كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه { وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ } للاسترجاع عند المصيبة حتى يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون . أو يشرحه للازدياد من الطاعة والخير ، أو يهد قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وعن مجاهد : إن ابتلي صبر وإن أعطى شكر وإن ظلم غفر { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَولَّيْتُمْ } عن طاعة الله وطاعة رسوله { فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين } أي فعليه التبليغ وقد فعل { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التوكل عليه حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه .(3/437)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ } أي إن من الأزواج أزواجاً يعادين بعولتهن ويخاصمنهم ، ومن الأولاد أولاداً يعادون آباءهم ويعقّونهم { فاحذروهم } الضمير للعدو أو للأزواج والأولاد جميعاً أي لما علمتم أن هؤلاء لا يخلون من عدوّ فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم { وَإِن تَعْفُواْ } عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها { وَتَصْفَحُواْ } تعرضوا عن التوبيخ { وَتَغْفِرُواْ } تستروا ذنوبهم { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم . قيل : إن ناساً أرادوا الهجرة عن مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا : تنطلقون وتضيعوننا . فرقوا لهم ووقفوا ، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فزين لهم العفو .(3/438)
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{ إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } بلاء ومحنة لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ولا بلاء أعظم منهما { والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي في الآخرة وذلك أعظم من منفعتكم بأموالكم وأولادكم . ولم يدخل فيه «من» كما في العداوة لأن الكل لا يخلو عن الفتنة وشغل القلب وقد يخلو بعضهم عن العداوة { فاتقوا الله مَا استطعتم } جهدكم ووسعكم ، قيل : هو تفسير لقوله { حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] { واسمعوا } ما توعظون به { وَأَطِيعُواْ } فيما تؤمرون به وتنهون عنه { وَأَنْفِقُواْ } في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها { خَيْراً لأَِنفُسِكُمْ } أي انفاقاً خيراً لأنفسكم . وقال الكسائي : يكن الإنفاق خيراً لأنفسكم والأصح أن تقديره ائتوا خيراً لأنفسكم وافعلوا ما هو خير لها ، وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر وبيان ، لأن هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وما أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } أي البخل بالزكاة والصدقة الواجبة { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون * إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً } بنية وإخلاص ، وذكر القرض تلطف في الاستدعاء { يضاعفه لَكُمْ } يكتب لكم بالواحدة عشراً أو سبعمائة إلى ما شاء من الزيادة { وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله شَكُورٌ } يقبل القليل ويعطي الجزيل { حَلِيمٌ } يقيل الجليل من ذنب البخيل أو يضعف الصدقة لدافعها ولا يعجل العقوبة لمانعها { عالم الغيب } أي يعلم ما استتر من سرائر القلوب { والشهادة } أي ما انتشر من ظواهر الخطوب { العزيز } المعز بإظهار العيوب { الحكيم } في الإخبار عن الغيوب ، والله أعلم .(3/439)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
{ يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم يا فلان افعلوا كذا إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه وأنه قدوة قومه ، فكان هو وحده في حكم كلهم وسادّاً مسد جميعهم . وقيل : التقدير يا أيها النبي والمؤمنون . ومعنى { إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } إذا أردتم تطليقهن وهممتم به على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه كقوله عليه السلام « من قتل قتيلاً فله سلبه » ومنه : كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي . { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فطلقوهن مستقبلات لعدتهن ، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم { فِى قبل عدتهن } وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدتها ، والمراد أن تطلق المدخول بهن من المعتدات بالحيض في طهر لم يجامعهن فيه ، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن وهذا أحسن الطلاق { وَأَحْصُواْ العدة } واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن ، وخوطب الأزواج لغفلة النساء .
{ واتقوا الله رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ } حتى تنقضي عدتهن { مِن بُيُوتِهِنَّ } من مساكنهن التي يسكنها قبل العدة وهي بيوت الأزواج ، وأضيفت إليهن لاختصاصها بهن من حيث السكنى ، وفيه دليل على أن السكنى واجبة ، وأن الحنث بدخول دار يسكنها فلان بغير ملك ثابت فيما إذا حلف لا يدخل داره . ومعنى الإخراج أن لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن ، وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك إيذاناً بأن إذنهم لا أثر له في رفع الحظر { وَلاَ يَخْرُجْنَ } بأنفسهن إن أردن ذلك { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ } قيل : هي الزنا أي إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن . وقيل : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } أي الأحكام المذكورة { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى } أيها المخاطب { لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } بأن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها ، والمعنى فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ولا تخرجوهن من بيوتهن لعلكم تندمون فتراجعون .
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } قاربن آخر العدة { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي فأنتم بالخيار إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان ، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتقاء الضرار وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلاً للعدة عليها وتعذيباً لها { وَأَشْهِدُواْ } يعني عند الرجعة والفرقة جميعاً ، وهذا الإشهاد مندوب إليه لئلا يقع بينهما التجاحد { ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ } من المسلمين { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } لوجهه خالصاً وذلك أن يقيموها لا للمشهود له ولا للمشهود عليه ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الضرر { ذلكم } الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط { يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } أي إنما ينتفع به هؤلاء { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } هذه جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة ، والمعنى ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد { يَجْعَلِ الله لَهُ مَخْرَجاً } مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ويفرج عنه ويعطه الخلاص .(3/440)
{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه ، ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ } . أي ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ومخلصاً من غموم الدنيا والآخرة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها فقال : « مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ومن يتق الله » فما زال يقرؤها ويعيدها ، ورُوي أن عوف بن مالك أسر المشركون ابناً له فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة فقال : « ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » فقالت : نعم ما أمرنا به فجعلا يقولان ذلك ، فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدو فاستاقها فنزلت هذه الآية { وَمَن يَتَوَكَّلْ على الله } يكل أمره إليه عن طمع غيره وتدبير نفسه { فَهُوَ حَسْبُهُ } كافيه في الدارين { إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ } حفص أي منفذ أمره ، غيره { بالغٌ أمرَه } أي يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَىْء قَدْراً } تقديراً وتوقيتاً ، وهذا بيان لوجوب التوكل على الله وتفويض الأمر إليه ، لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل .
{ واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ } رُوي أن ناساً قالوا : قد عرفنا عدة ذوات الإقراء فما عدة اللائي لم يحضن؟ فنزلت { إِنِ ارتبتم } أي أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن { فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } أي فهذا حكمهن .(3/441)
وقيل : إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس ، وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين أهو دم حيض أو استحاضة فعدتهن ثلاثة أشهر ، وإذا كانت عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك { واللائي لَمْ يَحِضْنَ } هن الصغائر وتقديره واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر فحذفت الجملة لدلالة المذكور عليها { وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ } عدتهن { أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } والنص يتناول المطلقات والمتوفي عنهم أزواجهن . وعن علي وابن عباس رضي الله عنهم : عدة الحامل المتوفي عنها زوجها أبعد الأجلين { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } ييسر له من أمره ويحلل من عقده بسبب التقوى { ذَلِكَ أَمْرُ الله } أي ما علم من حكم هؤلاء المعتدات { أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } من اللوح المحفوظ { وَمَن يَتَّقِ الله } في العمل بما أنزله من هذه الأحكام وحافظ على الحقوق الواجبة عليه { يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } ثم بين التقوى في قوله { وَمَن يَتَّقِ الله } كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل { أَسْكِنُوهُنَّ } وكذا وكذا { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } هي «من» التبعيضية مبعضها محذوف أي أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم أي بعض مكان سكناكم { مّن وُجْدِكُمْ } هو عطف بيان لقوله { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } وتفسير له كأنه قيل : أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه والوجد : الوسع والطاقة . وقرىء بالحركات الثلاث والمشهور الضم . والنفقة والسكنى واجبتان لكل مطلقة ، وعند مالك والشافعي لا نفقة للمبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أبت طلاقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا سكنى لك ولا نفقة " وعن عمر رضي الله عنه : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " لها السكنى والنفقة " { وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ } ولا تستعملوا معهن الضرار { لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ } في المسكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن أو يشغل مكانهن أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج .
{ وَإِن كُنَّ } أي المطلقات { أولات حَمْلٍ } ذوات أحمال { فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وفائدة اشتراط الحمل أن مدة الحمل ربما تطول فيظن ظان النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل فنفي ذلك الوهم { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } يعني هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولداً من ظئرهن أو منهن بعد انقطاع عصمة الزوجية { فَئَاتُوهُنَ أُجُورَهُنَ } فحكمهن في ذلك حكم الأظآر ، ولا يجوز الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبن خلافاً للشافعي رحمه الله { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ } أي تشاوروا على التراضي في الأجرة ، أو ليأمر بعضكم بعضاً ، والخطاب للآباء والأمهات { بِمَعْرُوفٍ } بما يليق بالسنة ويحسن في المروءة فلا يماكس الأب ولا تعاسر الأم لأنه ولدهما وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ } تضايقتم فلم ترض الأم بما ترضع به الأجنبية ولم يزد الأب على ذلك { فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه ، وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة . وقوله { لَهُ } أي للأب أي سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه .(3/442)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله } أي لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه يريد ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات ، ومعنى { قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } ضيق أي رزقه الله على قدر قوته { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ مَآ ءاتَاهَا } أعطاها من الرزق { سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } بعد ضيق في المعيشة سعة وهذا وعد لذي العسر باليسر .
{ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ } من أهل قرية { عَتَتْ } أي عصت { عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ } أعرضت عنه على وجه العتو والعناد { فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً } بالاستقصاء والمناقشة { وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً } { نُّكْراً } مدني وأبو بكر منكراً عظيماً { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً } أي خساراً وهلاكاً ، والمراد حساب الآخرة وعذابها وما يذوقون فيها من الوبال ويلقون من الخسر . وجيء به على لفظ الماضي لأن المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة وما هو كائن فكأن قد { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } تكرير للوعيد وبيان لكونه مترقباً كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب { فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين ءامَنُواْ } فليكن لكم ذلك يا أولي الألباب من المؤمنين لطفاً في تقوى الله وحذر عقابه ، ويجوز أن يراد إحصاء السيئات واستقصاؤها عليهم في الدنيا وإثباتها في صحائف الحفظة وما أصيبوا به من العذاب في العاجل ، وأن يكون { عَتَتْ } وما عطف عليه صفة للقرية و { أَعَدَّ الله لَهُمْ } جواباً ل { كأين } { قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً } أي القرآن . وانتصب { رَسُولاً } بفعل مضمر تقديره أرسل رسولاً أو بدل من { ذِكْراً } كأنه في نفسه ذكراً وعلى تقدير حذف المضاف أي قد أنزل الله إليكم ذا ذكر رسولاً ، أو أريد بالذكر الشرف كقوله { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] أي ذا شرف ومجد عند الله وبالرسول جبريل أو محمد عليهما السلام { يَتْلُواْ } أي الرسول أو الله عز وجل { عَلَيْكُمْ ءايات الله مبينات لّيُخْرِجَ } الله .
{ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح ، أو ليخرج الذين علم أنهم يؤمنون { مِنَ الظلمات إِلَى النور } من ظلمات الكفر أو الجهل إلى نور الإيمان أو العلم { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا يُدْخِلْهُ } وبالنون : مدني وشامي { جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَدًا } وحد وجمع حملاً على لفظ «من» ومعناه { قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } فيه معنى التعجب والتعظيم لما رزق المؤمنين من الثواب { الله الذى خَلَقَ } مبتدأ وخبر { سَبْعَ سماوات } أجمع المفسرون على أن السماوات سبع { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } بالنصب عطفاً على { سَبْعَ سموات } قيل : ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه الآية ، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وغلظ كل سماء كذلك ، والأرضون مثل السماوات .(3/443)
وقيل : الأرض واحدة إلا أن الأقاليم سبعة { يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ } أي يجري أمر الله وحكمه بينهن وملكه ينفذ فيهن { لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } اللام يتعلق ب { خُلِقَ } { وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا } هو تمييز أو مصدر من غير لفظ الأول أي قد علم كل شيء علماً وهو علام الغيوب .(3/444)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
{ ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة رضي الله عنها وعلمت بذلك حفصة فقال لها : اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي ، فأخبرت به عائشة وكانتا مصادقتين . وقيل خلابها في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية فنزل جبريل عليه السلام وقال : راجعها فإنها صوّامة قوّامة وإنها لمن نسائك في الجنة . روي أنه شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة وقالتا له : إنا نشم منك ريح المغافير ، وكان يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم التفل فحرم العسل ، فمعناه لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين أو من العسل { تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أزواجك } تفسير ل { تُحَرّمُ } أو حال أو استئناف وكان هذا زلة منه لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله { والله غَفُورٌ } قد غفر لك ما زللت فيه { رَّحِيمٌ } قد رحمك فلم يؤاخذك به { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } قد قدر الله لكم ما تحللون به أيمانكم وهي الكفارة ، أو قد شرع لكم تحليلها بالكفارة ، أو شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها وذلك أن يقول «إن شاء الله» عقيبها حتى لا يحنث ، وتحريم الحلال يمين عندنا . وعن مقاتل« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية» . وعن الحسن أنه لم يكفر لأنه كان مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين { والله مولاكم } سيدكم ومتولي أموركم . وقيل : مولاكم أولى بكم من أنفسكم فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم أنفسكم { وَهُوَ العليم } بما يصلحكم فيشرعه لكم { الحكيم } فيما أحل وحرم .
{ وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه } يعني حفصة { حَدِيثاً } حديث مارية وإمامة الشيخين { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أفشته إلى عائشة رضي الله عنها { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } وأطلع النبي صلى الله عليه وسلم على إفشائها الحديث على لسان جبريل عليه السلام { عَرَّفَ بَعْضَهُ } أعلم ببعض الحديث { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } فلم يخبر به تكرماً . قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام { عَرَّفَ } بالتخفيف : عليّ أي جازى عليه من قولك للمسيء لأعرفن لك ذلك . وقيل : المعروف حديث الإمامة والمعرض عنه حديث مارية . وروي أنه قال لها : ألم أقل لك اكتمي عليّ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله بها أباها { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } نبأ النبي حفصة بما أفشت من السر إلى عائشة { قَالَتْ } حفصة للنبي صلى الله عليه وسلم { مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم } بالسرائر { الخبير } بالضمائر .(3/445)
{ إِن تَتُوبَا إِلَى الله } خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما ، وجواب الشرط محذوف والتقدير : إن تتوبا إلى الله فهو الواجب ودل على المحذوف { فَقَدْ صَغَتْ } مالت { قُلُوبُكُمَا } عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } بالتخفيف : كوفي وإن تعاونا عليه بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه } وليه وناصره . وزيادة { هُوَ } إيذان بأنه يتولى ذلك بذاته { وَجِبْرِيلُ } أيضاً وليه { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } ومن صلح من المؤمنين أي كل من آمن وعمل صالحاً . وقيل : من بريء من النفاق . وقيل : الصحابة . وقيل : واحد أريد به الجمع كقولك لا يفعل هذا الصالح من الناس تريد الجنس . وقيل : أصله صالحو المؤمنين فحذفت الواو من الخط موافقة للفظ { والملئكة } على تكاثر عددهم { بَعْدَ ذَلِكَ } بعد نصرة الله وجبريل وصالحي المؤمنين { ظَهِيرٍ } فوج مظاهر له فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه ، ولما كانت مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله قال بعد ذلك تعظيماً لنصرتهم ومظاهرتهم .
{ عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ } { يُبْدِلَهُ } مدني وأبو عمرو فالتشديد للكثرة { أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ } فإن قلت : كيف تكون المبدلات خيراً منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟ قلت : إذا طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة ، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيراً منهن { مسلمات مؤمنات } مقرات مخلصات { قانتات } مطيعات ، فالقنوت هو القيام بطاعة الله وطاعة الله في طاعة رسوله { تائبات } من الذنوب أو راجعات إلى الله وإلى أمر رسوله { عابدات } لله { سائحات } مهاجرات أو صائمات . وقيل : للصائم سائح لأن السائح لا زاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره { ثيبات وَأَبْكَاراً } إنما وسط العاطف بين الثيبات والأبكار دون سائر الصفات لأنهما صفتان متنافيتان بخلاف سائر الصفات .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ } بترك المعاصي وفعل الطاعات { وَأَهْلِيكُمْ } بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم { نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة } نوعاً من النار لا تتقد إلا بالناس والحجارة كما يتقد غيرها من النيران بالحطب { عَلَيْهَا } يلي أمرها وتعذيب أهلها { مَلَئِكَةٌ } يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم { غِلاَظٌ شِدَادٌ } في أجرامهم غلظة وشدة أو غلاظ الأقوال شداد الأفعال { لاَّ يَعْصُونَ الله } في موضع الرفع على النعت { مَا أَمَرَهُمْ } في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي أمره كقوله(3/446)
{ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } [ طه : 93 ] أو لا يعصونه فيما أمرهم { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وليست الجملتان في معنى واحد ، إذ معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ، ومعنى الثانية أنهم يؤدون ما يؤمرون به ولا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه { يأَيُّهَا الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار لا تعتذروا لأنه لا عذر لكم ، أو لأنه لا ينفعكم الاعتذار .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً } صادقة عن الأخفش رحمه الله . وقيل : خالصة . يقال : عسل ناصح إذا خلص من الشمع . وقيل : نصوحاً من نصاحة الثوب أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك ، ويجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها ، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها ، وبضم النون : حماد ويحيى وهو مصدر أي ذات نصوح أو تنصح نصوحاً وجاء مرفوعاً «إن التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع» وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم يعود فيه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي الاستغفار باللسان والندم بالجنان والإقلاع بالإركان .
{ عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سيئاتكم } هذا على ما جرت به عادة الملوك من الإجابة ب «عسى» و«لعل» ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت { وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } ونصب { يَوْمَ } ب { يدخلكم } { لاَ يُخْزِى الله النبى والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ } فيه تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر { نُورُهُم } مبتدأ { يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } في موضع الخبر { يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } يقولون ذلك إذا انطفأ نور المنافقين { واغفر لَنَا إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ياأيها النبى جاهد الكفار } بالسيف { والمنافقين } بالقول الغليظ والوعد البليغ . وقيل : بإقامة الحدود عليهم { واغلظ عَلَيْهِمْ } على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة باللسان { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } .(3/447)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
{ ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين } مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين بلا محاباة ، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من النسب والمصاهرة وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبياً بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين بإفشاء أسرارهما ، فلم يغن الرسولان عنهما أي عن المرأتين بحق ما بينهما وبينهما من الزواج اغناء ما من عذاب الله . وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة : ادخلا النار مع سائر الداخلين الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء ، أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط .
{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ } هي آسية بنت مزاحم آمنت بموسى فعذبها فرعون بالأوتاد الأربعة { إِذْ قَالَتِ } وهي تعذب { رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الجنة } فكأنها أرادت الدرجة العالية لأنه تعالى منزه عن المكان فعبرت عنها بقولها عندك { وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } أي من عمل فرعون أو من نفس فرعون الخبيثة وخصوصاً من عمله وهو الكفر والظلم والتعذيب بغير جرم { وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين } من القبط كلهم ، وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين { وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ التى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } من الرجال { فَنَفَخْنَا } فنفخ جبريل بأمرنا { فِيهِ } في الفرج { مِن رُّوحِنَا } المخلوقة لنا { وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا } أي بصحفه التي أنزلها على إدريس وغيره { وَكُتُبِهِ } بصري وحفص ، يعني الكتب الأربعة { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } لما كان القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين غلب ذكوره على إناثه . و«من» للتبعيض ، ويجوز أن يكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين لأنها من أعقاب هارون أخ موسى عليهما السلام . ومثل حال المؤمنين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص شيئاً من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله مع كونها زوجة أعدى أعداء الله ، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة ، والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفاراً . وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه ، وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين وأن لا يتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم .(3/448)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
مكية وهي ثلاثون آية وتسمى الواقية والمنجية لأنها تقي قارئها من عذاب القبر وجاء مرفوعاً من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب
بسم الله الرحمن الرحيم
{ تبارك } تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين { الذى بِيَدِهِ الملك } أي بتصرفه الملك والاستيلاء على كل موجود وهو مالك الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء { وَهُوَ على كُلّ شَىْءٍ } من المقدورات أو من الإنعام والانتقام { قَدِيرٌ } قادر على الكمال { الذى خَلَقَ الموت } خبر مبتدأ محذوف أو بدل من الذي قبله { والحياة } أي ما يصح بوجوده الإحساس والموت ضده ، ومعنى خلق الموت والحياة إيجاد ذلك المصحح وإعدامه ، والمعنى خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون { لِيَبْلُوَكُمْ } ليمتحنكم بأمره ونهيه فيما بين الموت الذي يعم الأمير والأسير والحياة التي لا تفي بعليل ولا طبيب فيظهر منكم ما علم أنه يكون منكم فيجازيكم على عملكم لا على علمه بكم { أَيُّكُمْ } مبتدأ وخبره { أَحْسَنُ عَمَلاً } أي أخلصه وأصوبه ، فالخالص أن يكون لوجه الله ، والصواب أن يكون على السنة . والمراد أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل ، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح فما وراءه إلا البعث والجزاء الذي لا بد منه . وقدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه ، فقدم لأنه فيما يرجع إلى المسوق له الآية أهم . ولما قدم الموت الذي هو أثر صفة القهر على الحياة التي هي أثر اللطف ، قدم صفة القهر على صفة اللطف بقوله { وَهُوَ العزيز } أي الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل { الغفور } الستور الذي لا ييأس منه أهل الإساءة والزلل .
{ الذى خَلَقَ سَبْعَ سماوات طِبَاقًا } مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا خصفها طبقاً على طبق ، وهذا وصف بالمصدر ، أو على ذات طباق أو على طوبقت طباقاً . وقيل : جمع طبق كجمال وجمال . والخطاب في { مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن } للرسول أو لكل مخاطب { مِن تفاوت } { تَفَوُتٍ } حمزة وعلي . ومعنى البناءين واحد كالتعاهد والتعهد أي من اختلاف واضطراب . وعن السدي : من عيب . وحقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه ، وهذه الجملة صفة ل { طِبَاقاً } وأصلها ما ترى فيهن من تفاوت ، فوضع { خَلْقِ الرحمن } موضع الضمير تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت ، وهو أنه خلق الرحمن وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب { فارجع البصر } رده إلى السماء حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة فلا تبقى معك شبهة فيه { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } صدوع وشقوق جمع فطر وهو الشق { ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } كرر النظر مرتين أي كرتين مع الأولى .(3/449)
وقيل : سوى الأولى فتكون ثلاث مرات . وقيل : لم يرد الاقتصار على مرتين بل أراد به التكرير بكثرة أي كرر نظرك ودققه هل ترى خللاً أو عيباً . وجواب الأمر { يَنقَلِبَ } يرجع { إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا } ذليلاً أو بعيداً مما تريد وهو حال من البصر { وَهُوَ حَسِيرٌ } كليل معي ولم ير فيها خللاً .
{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا } القربى أي السماء الدنيا منكم { بمصابيح } بكواكب مضيئة كإضاءة الصبح ، والمصابيح السرج فسميت بها الكواكب ، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بإيقاد المصابيح . فقيل : ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بأي مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة { وجعلناها رُجُوماً للشياطين } أي لأعدائكم الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات ، قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به . والرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به . ومعنى كونها رجوماً للشياطين أن ينفصل عنها شهاب قبس يؤخذ من نار فيقتل الجني أو يخبله ، لأن الكواكب لا تزول عن أماكنها لأنها قارة في الفلك على حالها { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } للشياطين { عَذَابَ السعير } في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا .
{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } ولكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم { عَذَابُ جَهَنَّمَ } ليس الشياطين المرجومون مخصوصون بذلك { وَبِئْسَ المصير } المرجع جهنم { إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا } طرحوا في جهنم كما يطرح الحطب في النار العظيمة { سَمِعُواْ لَهَا } لجهنم { شَهِيقًا } صوتاً منكراً كصوت الحمير شبه حسيسها المنكر الفظيع بالشهيق { وَهِىَ تَفُورُ } تغلي بهم غليان المرجل بما فيه { تَكَادُ تَمَيَّزُ } أي تتميز يعني تتقطع وتتفرق { مِنَ الغيظ } على الكفار فجعلت كالمغتاظة عليهم استعارة لشدة غليانها بهم .
{ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ } جماعة من الكفار { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا } مالك وأعوانه من الزبانية توبيخاً لهم { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } رسول يخوفكم من هذا العذاب { قَالُواْ بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ } اعتراف منهم بعدل الله وإقرار بأنه تعالى أزاح عللهم ببعث الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه { فَكَذَّبْنَا } أي فكذبناهم { وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْءٍ } مما يقولون من وعد ووعيد وغير ذلك { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ } أي قال الكفار للمنذرين : ما أنتم إلا في خطأ عظيم . فالنذير بمعنى الإنذار . ثم وصف به منذروهم لغلوهم في الإنذار كأنهم ليسوا إلا إنذاراً ، وجاز أن يكون هذا كلام الخزنة للكفار عن إرادة القول ومرادهم بالضلال الهلاك ، أو سموا جزاء الضلال باسمه كما سمي جزاء السيئة والاعتداء سيئة واعتداء ويسمى المشاكلة في علم البيان ، أو كلام الرسل لهم حكوه للخزنة أي قالوا لنا هذا فلم نقبله { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ } الإنذار سماع طالب الحق { أَوْ نَعْقِلُ } أي نعقله عقل متأمل { مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير } في جملة أهل النار ، وفيه دليل على أن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وأنهما حجتان ملزمتان { فاعترفوا بِذَنبِهِمْ } بكفرهم في تكذيبهم الرسل { فَسُحْقًا لأصحاب السعير } وبضم الحاء : يزيد وعلي ، فبعداً لهم عن رحمة الله وكرامته اعترفوا أو جحدوا فإن ذلك لا ينفعهم .(3/450)
وانتصابه على أنه مصدر وقع موقع الدعاء .
{ إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } قبل معاينة العذاب { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } للذنوب { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } أي الجنة { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ } ظاهره الأمر بأحد الأمرين : الإسرار والإجهار ، ومعناه ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما . رُوي أن مشركي مكة كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل بما قالوه فيه ونالوه منه فقالوا فيما بينهم : أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فنزلت . ثم علله بقوله { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها فكيف لا يعلم ما تكلم به؟ { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } «من» في موضع رفع بأنه فاعل { يَعْلَم } { وَهُوَ اللطيف الخبير } أنكر أن لا يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر من خلقها وصفته أنه اللطيف أي العالم بدقائق الأشياء الخبير العالم بحقائق الأشياء ، وفيه إثبات خلق الأقوال فيكون دليلاً على خلق أفعال العباد . وقال أبو بكر بن الأصم وجعفر بن حرب : { مَنْ } مفعول والفاعل مضمر وهو الله تعالى فاحتالا بهذا لنفي خلق الأفعال .
{ هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } لينة سهلة مذللة لا تمنع المشي فيها { فامشوا فِى مَنَاكِبِهَا } جوانبها استدلالاً واسترزاقاً أو جبالها أو طرقها { وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ } أي من رزق الله فيها { وَإِلَيْهِ النشور } أي وإليه نشوركم فهو سائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم { ءامِنْتُمْ مَّن فِى السماء } أي من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه فكأنه قال : أأمنتم خالق السماء وملكه ، أو لأنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء ، وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه فقيل لهم على حسب اعتقادهم : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعالٍ عن المكان { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض } كما خسف بقارون { فَإِذَا هِىَ تَمُورُ } تضطرب وتتحرك { أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السماء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا } حجارة أن يرسل بدل من بدل الاشتمال وكذا { أَن يَخْسِفَ } { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } أي إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم { وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } من قبل قومك { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي إنكاري عليهم إذ أهلكتهم .(3/451)
ثم نبه على قدرته على الخسف وإرسال الحاصب بقوله { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير } جمع طائر { فَوْقَهُمْ } في الهواء { صافات } باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن { وَيَقْبِضْنَ } ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن . و { يقبضن } معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى أي يصففن ويقبضن ، أو صافات وقابضات . واختيار هذا التركيب باعتبار أن أصل الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والهواء للطائر كالماء للسابح . والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طارىء بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح { مَا يُمْسِكُهُنَّ } عن الوقوع عند القبض والبسط { إِلاَّ الرحمن } بقدرته وإلا فالثقيل يتسفل طبعاً ولا يعلو ، وكذا لو أمسك حفظه وتدبيره عن العالم لتهافتت الأفلاك و { مَا يُمْسِكُهُنَّ } مستأنف وإن جعل حالاً من الضمير في { يقبضن } يجوز { إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ } يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب .(3/452)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{ أَمَّنْ } مبتدأ خبره { هذا } ويبدل من { هذا } { الذى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ } ومحل { يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن } رفع نعت ل { جُندٌ } محمول على اللفظ والمعنى من المشار إليه بالنصر غير الله تعالى { إِنِ الكافرون إِلاَّ فِى غُرُورٍ } أي ما هم إلا في غرور { أَمَّنْ هذا الذى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه وهذا على التقدير ، ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم فكأنهم الجند الناصر والرازق . فلما لم يتعظوا أضرب عنهم فقال { بَل لَّجُّواْ } تمادوا { فِى عُتُوٍّ } استكبار عن الحق { وَنُفُورٍ } وشراد عنه لثقله عليهم فلم يتبعوه . ثم ضرب مثلاً للكافرين والمؤمنين فقال { أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ } أي ساقطاً على وجهه يعثر كل ساعة ويمشي معتسفاً وخبر من { أهدى } أرشد . فأكب مطاوع كبه يقال : كببته فأكب { أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً } مستوياً منتصباً سالماً من العثور والخرور { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } على طريق مستوٍ . وخبر { منْ } محذوف لدلالة { أهدى } عليه ، وعن الكلي : عني بالمكب أو جهل ، وبالسوي النبي عليه السلام { قُلْ هُوَ الذى أَنشَأَكُمْ } خلقكم ابتداء { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } خصها لأنها آلات العلم { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } هذه النعم لأنكم تشركون بالله ولا تخلصون له العبادة ، والمعنى تشكرون شكراً قليلاً و«ما» زائدة . وقيل : القلة عبارة عن العدم { قُلْ هُوَ الذى ذَرَأَكُمْ } خلقكم { فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } للحساب والجزاء .
{ وَيَقُولُونَ } أي الكافرون للمؤمنين استهزاء { متى هذا الوعد } الذي تعدوننا به يعني العذاب { إِن كُنتُمْ صادقين } في كونه فأعلمونا زمانه { قُلْ إِنَّمَا العلم } أي علم وقت العذاب { عِندَ الله وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ } مخوّف { مُّبِينٌ } أبين لكم الشرائع { فَلَمَّا رَأَوْهُ } أي الوعد يعني العذاب الموعود { زُلْفَةً } قريباً منهم وانتصابها على الحال { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } أي ساءت رؤية الوعد وجوههم بأن علتها الكآبة والمساءة وغشيتها القتَرة والسواد { وَقِيلَ هذا الذى } القائلون الزبانية { كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } تفتعلون من الدعاء أي تسألون تعجيله وتقولون ائتنا بما تعدنا ، أو هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون وقرأ يعقوب { تَدْعُونَ } .
{ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ الله } أي أماتني الله كقوله { إِن امرؤ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] { وَمَن مَّعِىَ } من أصحابي { أَوْ رَحِمَنَا } أو أخر في آجالنا { فَمَن يُجِيرُ } ينجي { الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } مؤلم . كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فأمر بأن يقول لهم : نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنيين ، إما أن نهلك كما تتمنون فتقلب إلى الجنة ، أو نرحم بالنصرة عليكم متربصون لإحدى الحسنيين ، إما أن نهلك كما تتمنون فتقلب إلى الجنة ، أو نرحم بالنصرة عليكم كما نرجو ، فأنتم ما تصنعون مِنْ مجيركم وأنتم كافرون من عذاب النار لا بد لكم منه { قُلْ هُوَ الرحمن } أي الذي أدعوكم إليه الرحمن { ءَامَنَّا بِهِ } صدقنا به ولم نكفر به كما كفرتم { وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } فوضنا إليه أمورنا { فَسَتَعْلَمُونَ } إذا نزل بكم العذاب وبالياء : علي { مَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ } نحن أم أنتم { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً } غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء ، وهو وصف بالمصدر كعدل بمعنى عادل { فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ } جارٍ يصل إليه من أراده .(3/453)
وتليت عند ملحد فقال : يأتي بالمعول والمعن فذهب ماء عينه في تلك الليلة وعمي . وقيل : إنه محمد بن زكريا المتطبب زادنا الله بصيرة .(3/454)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
مكية وهي اثنتان وخمسون
آية بسم الله الرحمن الرحيم
{ ن } الظاهر أن المراد به هذا الحرف من حروف المعجم . وأما قول الحسن : إنه الدواة ، وقول ابن عباس : إنه الحوت الذي عليه الأرض واسمه بهموت ، فمشكل لأنه لا بد له من الإعراب سواء كان اسم جنس أو اسم علم ، فالسكون دليل على أنه من حروف المعجم { والقلم } أي ما كتب به اللوح ، أو قلم الملائكة ، أو الذي يكتب به الناس ، أقسم به لما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي ما يسطره الحفظة أو ما يكتب به من الخير من كتب . و«ما» موصولة أو مصدرية ، وجواب القسم { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ } أي بإنعامه عليك بالنبوة وغيرها ف { أَنتَ } اسم «ما» وخبرها { بِمَجْنُونٍ } و { بِنِعْمَةِ رَبّكَ } اعتراض بين الاسم والخبر ، والباء في { بِنِعْمَةِ رَبّكَ } تتعلق بمحذوف ومحله النصب على الحال والعامل فيها { بِمَجْنُونٍ } وتقديره : ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك . ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي وهو جواب قولهم { وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] { وَإِنَّ لَكَ } على احتمال ذلك والصبر عليه { لأَجْرًا } لثواباً { غَيْرَ مَمْنُونٍ } غير مقطوع أو غير ممنون عليك به { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قيل : هو ما أمره الله تعالى به في قوله : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] . وقالت عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن أي ما فيه من مكارم الأخلاق . وإنما استعظم خلقه لأنه جاد بالكونين وتوكل على خالقهما .
{ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } أي عن قريب ترى ويرون وهذا وعد له ووعيد لهم { بِأَيِيّكُمُ المفتون } المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون ، والباء مزيدة ، أو المفتون مصدر كالمعقول أي بأيكم الجنون . وقال الزجاج : الباء بمعنى «في» تقول : كنت ببلد كذا أي في بلد كذا ، وتقديره في أيكم المفتون أي في أي الفريقين منكم المجنون : فريق الإسلام أو فريق الكفر؟ { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } أي هو أعلم بالعقلاء هم والمهتدون { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } تهييج للتصميم على معاصاتهم وقد أرادوه على أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة ويكفوا عنه غوائلهم { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ } لو تلين لهم { فَيُدْهِنُونَ } فيلينون لك . ولم ينصب بإضمار «أن» وهو جواب التمني لأنه عدل به إلى طريق آخر ، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون أي فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك .(3/455)
{ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ } كثير الحلف في الحق والباطل وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف { مَّّهِينٍ } حقير في الرأي والتمييز من المهانة وهي القلة والحقارة ، أو كذاب لأنه حقير عند الناس { هَمَّازٍ } عياب طعان مغتاب { مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم ، والنميم والنميمة : السعاية { مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ } بخيل ، والخير : المال أو مناع أهله من الخير وهو الإسلام ، والمراد الوليد بن المغيرة عند الجمهور وكان يقول لبنيه العشرة : من أسلم منكم منعته رفدي { مُعْتَدٍ } مجاوز في الظلم حده { أَثِيمٍ } كثير الآثام { عُتُلٍ } غليظ جاف { بَعْدَ ذَلِكَ } بعدما عد له من المثالب { زَنِيمٍ } دعي . وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده . وقيل : بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية ، والنطفة إذا خبثت الناشىء منها . رُوي أنه دخل على أمه وقال : إن محمداً وصفني بعشر صفات ، وجدت تسعاً فيّ ، فأما الزنيم فلا علم لي به ، فإن أخبرتني بحقيقته وإلا ضربت عنقك . فقالت : إن أباك عنين وخفت أن يموت فيصل ماله إلى غير ولده فدعوت راعياً إلى نفسي فأنت من ذلك الراعي .
{ أَن كَانَ ذَا مَالٍ } متعلق بقوله { وَلاَ تُطِعِ } أي ولا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال أي ليساره وحظه من الدنيا ، ويجوز أن يتعلق بما بعده أي لأن كان ذا مال { وَبَنِينَ } كذب بآياتنا يدل عليه { إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا } أي القرآن { قَالَ أساطير الأولين } ولا يعمل فيه { قَالَ } لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله . { أأن } حمزة وأبو بكر أي ألأن كان ذا مال كذب؟ { أأن } شامي ويزيد ويعقوب وسهل . قالوا : لما عاب الوليد النبي صلى الله عليه وسلم كاذباً باسم واحد وهو المجنون سماه الله تعالى بعشرة أسماء صادقاً ، فإن كان من عد له أن يجزي المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة ، كان من فضله أن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً { سَنَسِمُهُ } سنكويه { عَلَى الخرطوم } على أنفه مهانة له وعلماً يعرف به ، وتخصيص الأنف بالذكر لأن الوسم عليه أبشع . وقيل : خطم بالسيف يوم بدر فبقيت سمة على خرطومه .
{ إِنَّا بلوناهم } امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع حتى أكلوا الجيف والرمم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : « اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف » { كَمَا بَلَوْنَا أصحاب الجنة } هم قوم من أهل الصلات كانت لأبيهم هذه الجنة بقرية يقال لها ضروان وكانت على فرسخين من صنعاء ، وكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي على الفقراء .(3/456)
فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال ، فحلفوا ليصرمنها مصبحين في السدف خيفة من المساكين ولم يستثنوا في يمينهم ، فأحرق الله جنتهم . وقال الحسن : كانوا كفاراً . والجمهور على الأول { إِذْ أَقْسَمُواْ } حلفوا { لَيَصْرِمُنَّهَا } ليقطعن ثمرها { مُّصْبِحِينَ } داخلين في الصبح قبل انتشار الفقراء ، حال من فاعل { لَيَصْرِمُنَّهَا } { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } ولا يقولون إن شاء الله . وسمي استثناء وإن كان شرطاً صورة لأنه يؤدي مؤدي الاستثناء من حيث إن معنى قولك «لأخرجن إن شاء الله» و«لا أخرج إلا أن يشاء الله» واحد { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ } نزل عليها بلاء . قيل : أنزل الله تعالى عليها ناراً فأحرقتها { وَهُمْ نَائِمُونَ } أي في حال نومهم { فَأَصْبَحَتْ } فصارت الجنة { كالصريم } كالليل المظلم أي احترقت فاسودت ، أو كالصبح أي صارت أرضاً بيضاء بلا شجر . وقيل : كالمصرومة أي كأنها صرمت لهلاك ثمرها .(3/457)
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
{ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } نادى بعضهم بعضاً عند الصباح { أَنِ اغدوا } باكروا { على حَرْثِكُمْ } ولم يقل «إلى حرثكم» لأن الغدوّ إليه ليصرموه كان غدوّاً عليه أو ضمن الغدوّ معنى الإقبال أي فأقبلوا على حرثكم باكرين { إِن كُنتُمْ صارمين } مريدين صرامه { فانطلقوا } ذهبوا { وَهُمْ يتخافتون } يتسارّون فيما بينهم لئلا يسمعوا المساكين { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا } أي الجنة و«إن» مفسرة وقرىء بطرحها بإضمار القول أي يتخافتون يقولون لا يدخلنها { اليوم عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ } والنهي عن دخول المساكين . نهى عن التمكين أي لا تمكنوه من الدخول .
{ وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ } على جد في المنع { قادرين } عند أنفسكم على المنع كذا عن نفطويه ، أو الحرد القصد والسرعة أي وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وزي منفعتها عن منفعتها عن المساكين ، أو هو علم للجنة أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم .
{ فَلَمَّا رَأَوْهَا } أي جنتهم محترقة { قَالُواْ } في بديهة وصولهم { إِنَّا لَضَالُّونَ } أي ضللنا جنتنا وما هي بها لما رأوا من هلاكها ، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } أعدلهم وخيرهم { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ } هلا تستثنون إذ الاستثناء التسبيح لالتقائهما في معنى التعظيم لله ، لأن الاستثناء تفويض إليه والتسبيح تنزيه له ، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم . أو لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم! كان أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك : اذكروا الله وانتقامه من المجرمين وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة فعصوه فعيرهم ولهذا { قَالُواْ سبحان رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين } فتكلموا بعد خراب البصرة بما كان يدعوهم إلى التكلم به أولاً ، وأقروا على أنفسهم بالظلم في منع المعروف وترك الاستثناء ونزهوه عن أن يكون ظالماً { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يتلاومون } يلوم بعضهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين ، ويحيل كل واحد منهم اللائمة على الآخر .
ثم اعترفوا جميعاً بأنهم تجاوزوا الحد بقوله { قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين } بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء { عسى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا } وبالتشديد : مدني وأبو عمرو { خَيْراً مّنْهَا } من هذه الجنة { إِنَّا إلى رَبّنَا راغبون } طالبون منه الخير راجون لعفوه . عن مجاهد : تابوا فأبدلوا خيراً منها . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : بلغني أنهم أخلصوا فأبدلهم بها جنة تسمى الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً { كَذَلِكَ العذاب } أي مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه من عذاب الدنيا لمن سلك سبيلهم { وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ } أعظم منه { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } لما فعلوا ما يفضي إلى هذا العذاب .(3/458)
ثم ذكر ما عنده للمؤمنين فقال :
{ إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ } عن الشرك { عِندَ رَبِّهِمْ } أي في الآخرة { جنات النعيم } جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص بخلاف جنات الدنيا { أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين } استفهام إنكار على قولهم لو كان ما يقول محمد حقاً فنحن نعطي في الآخرة خيراً مما يعطي هو ومن معه كما في الدنيا . فقيل لهم : أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين؟ ثم قيل لهم على طريقة الالتفات { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } هذا الحكم الأعوج وهو التسوية بين المطيع والعاصي ، كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم { أَمْ لَكُمْ كتاب } من السماء { فِيهِ تَدْرُسُونَ } تقرؤون في ذلك الكتاب { إنّ لكم فيه لما تخيّرون } أي إن ما تختارونه وتشتهونه لكم . والأصل تدرسون أن لكم ما تخيرون بفتح «أن» لأنه مدروس لوقوع الدرس عليه ، وإنما كسرت لمجيء اللام ، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين * سلام على نُوحٍ } [ الصافات : 78-79 ] . وتخير الشيء واختاره أخذ خيره { أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا } عهود مؤكدة بالأيمان { بالغة } نعت { أيمان } ويتعلق { إلى يَوْمِ القيامة } ببالغة أي أنها تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم ، أو بالمقدر في الظرف أي هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج من عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } به لأنفسكم وهو جواب القسم لأن معنى { أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا } أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد .
{ سَلْهُمْ } أي المشركين { أَيُّهُم بذلك } الحكم { زَعِيمٌ } كفيل بأنه يكون ذلك { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ } أي ناس يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فيه { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صادقين } في دعواهم يعني أن أحداً لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ، ولا عهد به عند الله ، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله بهذا { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } ناصب الظرف { فَلْيَأْتُواْ } أو «اذكر» مضمراً . والجمهور على أن الكشف عن الساق عبارة عن شدة الأمر وصعوبة الخطب ، فمعنى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } يوم يشتد الأمر ويصعب ولا كشف ثمة ولا ساق ، ولكن كنى به عن الشدة لأنهم إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق ، وهذا كما نقول : للأقطع الشحيح يده مغلولة ، ولا يد ثمة ولا غل ، وإنما هو كناية عن البخل . وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان ، ولو كان الأمر كما زعم المشبه لكان من حق الساق أن تعرف لأنها ساق معهودة عنده { وَيُدْعَوْنَ } أي الكفار ثمة { إِلَى السجود } لا تكليف ولكن توبيخاً على تركهم السجود في الدنيا { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } ذلك لأن ظهورهم تصير كصياصي البقر لا تنثني عند الخفض والرفع { خاشعة } ذليلة حال من الضمير في { يُدْعَونَ } { أبصارهم } أي يدعون في حال خشوع أبصارهم { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } يغشاهم صغار { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ } على ألسن الرسل { إِلَى السجود } في الدنيا { وَهُمْ سالمون } أي وهم أصحاء فلا يسجدون فلذلك منعوا عن السجود ثَمَّ .(3/459)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
{ فَذَرْنِى } . يقال : ذرني وإياه أي كله إليّ فإني أكفيكه { وَمَن يُكَذِّبُ } معطوف على المفعول أو مفعول معه { بهذا الحديث } بالقرآن ، والمراد كل أمره إليَّ وخل بيني وبينه فإني عالم بما ينبغي أن يفعل به ، مطيق له ، ولا تشغل قلبك بشأنه وتوكل عليّ في الانتقام منه ، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد للمكذبين { سَنَسْتَدْرِجُهُم } سندنيهم من العذاب درجة درجة . يقال : استدرجه إلى كذا أي استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه ، واستدراج الله تعالى العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة فيجعلون رزق الله ذريعة إلى ازياد المعاصي { مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج . قيل : كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها . قال عليه السلام " إذا رأيت الله تعالى ينعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وتلا الآية " { وَأُمْلِى لَهُمْ } وأمهلهم { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } قوي شديد فسمى إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للهلاك . والأصل أن معنى الكيد والمكر والاستدراج هو الأخذ من جهة الأمن ، ولا يجوز أن يسمى الله كائداً وماكراً ومستدرجاً .
{ أَمْ تَسْئَلُهُمْ } على تبليغ الرسالة { أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ } غرامة { مُّثْقَلُونَ } فلا يؤمنون استفهام بمعنى النفي أي لست تطلب أجراً على تبليغ الوحي فيثقل عليهم ذلك فيمتنعوا لذلك { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } أي اللوح المحفوظ عند الجمهور { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } منه ما يحكمون به { فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ } وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم لأنهم وإن أمهلوا لم يهملوا { وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت } كيونس عليه السلام في العجلة والغضب على القوم حتى لا تبتلى ببلائه . والوقف على الحوت لأن «إذ» ليس بظرف لما تقدمه ، إذ النداء طاعة فلا ينهى عنه بل مفعول محذوف أي اذكر { إِذْ نادى } دعا ربه في بطن الحوت ب { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] { وَهُوَ مَكْظُومٌ } مملوء غيظاً من كظم السقاء إذا { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ } رحمة { مّن رَّبِّهِ } أي لولا أن الله أنعم عليه بإجابة دعائه وقبول عذره { لَنُبِذَ } من بطن الحوت { بالعرآء } بالفضاء { وَهُوَ مَذْمُومٌ } معاتب بزلته لكنه رحم فنبذ غير مذموم { فاجتباه رَبُّهُ } اصطفاه لدعائه وعذره { فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين } من المستكملين لصفات الصلاح ولم يبق له زلة . وقيل : من الأنبياء . وقيل : من المرسلين . والوجه هو الأول لأنه كان مرسلاً ونبياً قبله لقوله تعالى : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين * إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون }(3/460)
[ الصافات : 139-140 ] . الآيات .
{ وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم } وبفتح الياء : مدني . «إن» مخففة من الثقيلة واللام علمها . زلقة وأزلقة أزاله عن مكانه أي قارب الكفار من شدة نظرهم إليك شزراً بعيون العداوة أن يزيلوك بأبصارهم عن مكانك ، أو يهلكوك لشدة حنقهم عليك . وكانت العين في بني أسد فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله إلا هلك . فأريد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله مثل ذلك فقال : لم أر كاليوم مثله رجلاً فعصمه الله من ذلك . وفي الحديث : " العين حق وإن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر " وعن الحسن : رقية العين هذه الآية : { لَمَّا سَمِعُواْ الذكر } القرآن { وَيَقُولُونَ } حسداً على ما أوتيت من النبوة { إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } إن محمداً لمجنون حيرة في أمره وتنفيراً عنه { وَمَا هُوَ } أي القرآن { إِلاَّ ذِكْرٌ } وعظ { للعالمين } للجن والإنس يعني أنهم جننوه لأجل القرآن وما القرآن إلا موعظة للعالمين ، فكيف يجنن من جاء بمثله؟ وقيل : لما سمعوا الذكر أي ذكره عليه السلام وما هو أي محمد عليه السلام إلا ذكر شرف للعالمين فكيف ينسب إليه الجنون؟ والله أعلم .(3/461)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
{ الحاقة } الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها ، من حق يحق بالكسر أي وجب { مَا الحاقة } مبتدأ وخبر وهما خبر { الحاقة } والأصل الحاقة ما هي أي أيّ شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها أي حقها أن يستفهم عنها لعظمها ، فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التهويل { وَمَا أَدْرَاكَ } وأي شيء أعلمك { مَا الحاقة } يعني أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها ، لأنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية المخلوقين . و «ما» رفع بالابتداء و { أَدْرَاكَ } الخبر ، والجملة بعده في موضع نصب لأنها مفعول ثانٍ ل «أدرى» { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة } أي بالحاقة فوضعت القارعة موضعها لأنها من أسماء القيامة ، وسميت بها لأنها تقرع الناس بالأفزاع والأهوال . ولما ذكرها وفخمها أتبع ذكر ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم .
{ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة . واختلف فيها فقيل الرجفة ، وقيل الصيحة ، وقيل الطاغية مصدر كالعافية أي بطغيانهم ، ولكن هذا لا يطابق قوله { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ } أي بالدبور لقوله صلى الله عليه وسلم : " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " { صَرْصَرٍ } شديدة الصوت من الصرة الصيحة ، أو باردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها { عَاتِيَةٍ } شديد العصف أو عتت على خزانها فلم يضبطوها بإذن الله غضباً على أعداء الله { سَخَّرَهَا } سلطها { عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وثمانية أَيَّامٍ } وكان ابتداء العذاب يوم الأربعاء آخر الشهر إلى الأربعاء الأخرى { حُسُوماً } أي متتابعة لا تنقطع جمع حاسم كشهود تمثيلاً لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء بعد أخرى حتى ينحسم ، وجاز أن يكون مصدراً أي تحسم حسوماً بمعنى تستأصل استئصالاً { فَتَرَى } أيها المخاطب { القوم فِيهَا } في مهابها أو في الليالي والأيام { صرعى } حال جمع صريع { كَأَنَّهُمْ } حال أخرى { أَعْجَازُ } أصول { نَخْلٍ } جمع نخلة { خَاوِيَةٍ } ساقطة أو بالية { فَهَلْ ترى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ } من نفس باقية أو من بقاء كالطاغية بمعنى الطغيان .
{ وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ } ومن تقدمه من الأمم { وَمِن قَبْلِهِ } بصري وعلي أي ومن عنده من أتباعه { والمؤتفكات } قرى قوم لوط فهي ائتفكت أي انقلبت بهم { بِالْخَاطِئَةِ } بالخطأ أو بالفعلة أو بالأفعال ذات الخطأ العظيم { فَعَصَوْاْ } أي قوم لوط { رَسُولَ رَبّهِمْ } لوطاً { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } شديدة زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح { إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء } ارتفع وقت الطوفان على أعلى جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعاً { حملناكم } أي آباءكم { فِى الجارية } في سفينة نوح عليه السلام { لِنَجْعَلَهَا } أي الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين { لَكُمْ تَذْكِرَةً } عبرة وعظة { وَتَعِيَهَا } وتحفظها { أُذُنٌ } بضم الذال : غير نافع { واعية } حافظة لما تسمع .(3/462)
قال قتادة : وهي أذن عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت .
{ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور نَفْخَةٌ واحدة } هي النفخة الأولى ويموت عندها الناس ، والثانية يبعثون عندها { وَحُمِلَتِ الأرض والجبال } رفعتا عن موضعهما { فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة } دقتا وكسرتا أي ضرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيباً مهيلاً وهباء منبثاً { فَيَوْمَئِذٍ } فحينئذ { وَقَعَتِ الواقعة } نزلت النازلة وهي القيامة ، وجواب «إذا» { وَقَعَتِ } و { يَوْمَئِذٍ } بدل من «إذا» { وانشقت السماء } فتّحت أبواباً { فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } مسترخية ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة { والملك } للجنس بمعنى الجمع وهو أعم من الملائكة { على أَرْجَائِهَا } جوانبها واحدها رجا مقصور لأنها إذا انشقت وهي مسكن الملائكة فيلجؤن إلى أطرافها { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ } فوق الملك الذين على أرجائها { يَوْمَئِذٍ ثمانية } منهم ، واليوم تحمله أربعة وزيدت أربعة أخرى يوم القيامة . وعن الضحاك : ثمانية صفوف . وقيل : ثمانية أصناف .
{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } للحساب ، والسؤال شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحواله { لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا . وبالياء : كوفي غير عاصم . وفي الحديث : " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات : فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعندها تطير الصحف فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله " { فَأَمَّا } تفصيل للعرض { مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ } سروراً به لما يرى فيه من الخيرات خطاباً لجماعته { هَاؤُمُ } اسم للفعل أي خذوا { اقرؤا كتابيه } تقديره هاؤم كتابي اقرؤا كتابيه فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، والعامل في { كتابيه } { اقرءوا } عند البصريين لأنهم يعملون الأقرب . والهاء في { كتابيه } و { حِسَابِيَهْ } و { مَالِيَهْ } و { سلطانيه } للسكت ، وحقها أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل ، وقد استحب إيثار الوقف إيثاراً لثباتها لثبوتها في المصحف { إِنّى ظَنَنتُ } علمت . وإنما أجرى الظن مجرى العلم ، لأن الظن الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام ، ولأن ما يدرك بالاجتهاد فلما يخلو عن الوسواس والخواطر وهي تفضي إلى الظنون ، فجاز إطلاق لفظ الظن عليها لما لا يخلو عنه { أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ } معاين حسابي { فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } ذات رضا يرضى بها صاحبها كلابن { فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } رفيعة المكان أو رفيعة الدرجات أو رفيعة المباني والقصور وهو خبر بعد خبر { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } ثمارها قريبة من مريدها ينالها القائم والقاعد والمتكىء يقال لهم :(3/463)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
{ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً } أكلاً هنيئاً لا مكروه فيهما ولا أذى أو هنئتم هنيئاً على المصدر { بِمَا أَسْلَفْتُمْ } بما قدمتم من الأعمال الصالحة { فِى الأيام الخالية } الماضية من أيام الدنيا . وعن ابن عباس : هي في الصائمين أي كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله .
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه } لما يرى فيها من الفضائح { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } أي يا ليتني لم أعلم ما حسابي { ياليتها } يا ليت الموتة التي متها { كَانَتِ القاضية } أي القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقي { مَا أغنى عَنِّى مَالِيَهْ } أي لم ينفعني ما جمعته في الدنيا ، ف «ما» نفي والمفعول محذوف أي شيئاً { هَلَكَ عَنّى سلطانيه } ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيراً ذليلاً . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ضلت عني حجتي أي بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا فيقول الله تعالى لخزنة جهنم { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } أي اجمعوا يديه إلى عنقه { ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ } أي أدخلوه يعني ثم لا تصلوه إلا الجحيم وهي النار العظمى ، أو نصب { الجحيم } بفعل يفسره { صَلُّوهُ } { ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا } طولها { سَبْعُونَ ذِرَاعاً } بذراع الملك . عن ابن جريج : وقيل لا يعرف قدرها إلا الله { فَاْسْلُكُوهُ } فأدخلوه . والمعنى في تقدم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية .
{ إِنَّهُ } تعليل كأنه قيل : ما له يعذب هذا العذاب الشديد؟ فأجيب بأنه { كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم * وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } على بذل طعام المسكين ، وفيه إشارة إلى أنه كان لا يؤمن بالبعث لأن الناس لا يطلبون من المساكين الجزاء فيما يطعمونهم وإنما يطعمونهم لوجه الله ورجاء الثواب في الآخرة ، فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم أي أنه مع كفره لا يحرّض غيره على إطعام المحتاجين ، وفيه دليل قوي على عظم جرم حرمان المسكين لأنه عطفه على الكفر وجعله دليلاً عليه وقرينة له ، ولأنه ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض إذا كان بهذه المنزلة فتارك الفعل أحق . وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلنخلع نصفها بهذا . وهذه الآيات ناطقة على أن المؤمنين يرحمون جميعاً ، والكافرين لا يرحمون لأنه قسّم الخلق نصفين فجعل صنفاً منهم أهل اليمين ووصفهم بالإيمان فحسب بقوله { إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ } وصنفاً منهم أهل الشمال ووصفهم بالكفر بقوله { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم } وجاز أن الذي يعاقب من المؤمنين إنما يعاقب قبل أن يؤتى كتابه بيمينه { فَلَيْسَ لَهُ اليوم هاهنا حَمِيمٌ } قريب يرفع عنه ويحترق له قلبه { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } غسالة أهل النار ، فعلين من الغسل ، والنون زائدة وأريد به هنا ما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون } الكافرون أصحاب الخطايا وخطىء الرجل إذا تعمد الذنب .(3/464)
{ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } من الأجسام والأرض والسماء .
{ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } من الملائكة والأرواح فالحاصل أنه أقسم بجميع الأشياء { إِنَّهُ } أي إن القرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } أي محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل عليه السلام أي بقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند الله { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } كما تدعون { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ } كما تقولون { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } وبالياء فيهما : مكي وشامي ويعقوب وسهل . وبتخفيف الذال : كوفي غير أبي بكر . والقلة في معنى العدم يقال : هذه أرض قلما تنبت أي لا تنبت أصلاً ، والمعنى لا تؤمنون ولا تذكرون البتة { تَنزِيلٌ } هو تنزيل بياناً لأنه قول رسول نزل عليه { مّن رّبّ العالمين ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل } ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله { لأخَذْنَا مِنْهُ باليمين } لقتلناه صبراً كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معالجة بالسخط والانتقام ، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول ، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته ، وخص اليمين لأن القتّال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخد بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ، ومعنى لأخذنا منه باليمين لأخدنا بيمينه ، وكذا { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } لقطعنا وتينه وهو نياط القلب إذا قطع مات صاحبه { فَمَا مِنكُم } الخطاب للناس أو للمسلمين { مّنْ أَحَدٍ } «من» زائدة { عَنْهُ } عن قتل محمد وجمع { حاجزين } وإن كان وصف { أَحَدٍ } لأنه في معنى الجماعة ومنه قوله تعالى { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] { وَإِنَّهُ } وإن القرآن { لِتَذْكِرَةٌ } لعظة { لّلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ وَإِنَّهُ } وإن القرآن { لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين } به المكذبين له إذا رأوا ثواب المصدقين به { وَإِنَّهُ } وإن القرآن { لَحَقُّ اليقين } لعين اليقين ومحض اليقين { فَسَبِّحْ باسم رَبّكَ العظيم } فسبح الله بذكر اسمه العظيم وهو قوله سبحان الله .(3/465)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
مكية وهي أربع وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَأَلَ سَآئِلٌ } هو النضر بن الحرث قال : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] أو هو النبي صلى الله عليه وسلم دعا بنزول العذاب عليهم . ولما ضمن سأل معنى دعا عدى تعديته كأنه قيل : دعا داع { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } من قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ومنه قوله تعالى : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة } [ الدخان : 55 ] . و { سال } بغير همز : مدني وشامي وهو من السؤال أيضاً إلا أنه خفف بالتليين و { سَائِلٌ } مهموز إجماعاً { للكافرين } صفة ل { عَذَابِ } أي بعذاب واقع كائن للكافرين { لَيْسَ لَهُ } لذلك العذاب { دَافِعٌ } راد { مِّنَ الله } متصل بواقع أي واقع من عنده أو بدافع أي ليس له دافع من جهته تعالى إذا جاء وقته { ذِي المعارج } أي مصاعد السماء للملائكة جمع معرج وهو موضع العروج . ثم وصف المصاعد وبعد مداها في العلو والارتفاع فقال { تَعْرُجُ } تصعد . وبالياء : علي { الملائكة والروح } أي جبريل عليه السلام خصه بالذكر بعد العموم لفضله وشرفه ، أو خلق هم حفظة على الملائكة كما أن الملائكة حفظة علينا ، أو أرواح المؤمنين عند الموت { إِلَيْهِ } إلى عرشه ومهبط أمره { فِى يَوْمٍ } من صلة تعرج { كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } من سني الدنيا لو صعد فيه غير الملك ، أو «من» صلة { وَاقِعٍ } أي يقع في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم وهو يوم القيامة ، فإما أن يكون استطالة له لشدته على الكفار ، أو لأنه على الحقيقة كذلك فقد قيل فيه خمسون موطناً كل موطن ألف سنة ، وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر .
{ فاصبر } متعلق ب { سَأَلَ سَائِلٌ } لأن استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتكذيب بالوحي ، وكان ذلك مما يضجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بالصبر عليه { صَبْراً جَمِيلاً } بلا جزع ولا شكوى { إِنَّهُمْ } إن الكفار { يَرَوْنَهُ } أي العذاب أو يوم القيامة { بَعِيداً } مستحيلاً { وَنَرَاهُ قَرِيباً } كائناً لا محالة ، فالمراد بالبعيد من الإمكان وبالقريب القريب منه . نصب { يَوْمَ تَكُونُ السماء } ب { قَرِيبًا } أي يمكن في ذلك اليوم أو هو بدل عن { فِى يَوْمٍ } فيمن علقه ب { وَاقِعٍ } { كالمهل } كدردي الزيت أو كالفضة المذابة في تلونها { وَتَكُونُ الجبال كالعهن } كالصوف المصبوغ ألواناً لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ، فإذا بست وطيرت في الجو اشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } لا يسأل قريب عن قريب لاشتغاله بنفسه .(3/466)
وعن البزي والبرجمي : بضم الياء أي ولا يسأل قريب عن قريب أي لا يطالب به ولا يؤخذ بذنبه .
{ يُبَصَّرُونَهُمْ } صفة أي حميماً مبصرين معرفين إياهم ، أو مستأنف كأنه لما قال { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } قيل : لعله لا يبصره . فقيل : يبصرونهم ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم . والواو ضمير الحميم الأول و «هم» ضمير الحميم الثاني أي يبصر الأحماء الأحماء فلا يخفون عليهم . وإنما جمع الضميران وهما للحميمين لأن فعيلاً يقع موقع الجمع { يَوَدُّ المجرم } يتمنى المشرك وهو مستأنف ، أو حال من الضمير المرفوع ، أو المنصوب من { يُبَصَّرُونَهُمْ } { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ } وبالفتح : مدني وعلي على البناء للإضافة إلى غير متمكن { بِبَنِيهِ * وصاحبته } وزوجته { وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ } وعشيرته الأدنين { التى تُئْوِيهِ } تضمه انتماء إليها . وبغير همز : يزيد . { وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً } من الناس { ثُمَّ يُنجِيهِ } الافتداء عطف على { يفتدى } .
{ كَلاَّ } ردع للمجرم عن الودادة وتنبيه على أنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب { إِنَّهَا } إن النار ، ودل ذكر العذاب عليها ، أو هو ضمير مبهم ترجم عنه الخبر أو ضمير القصة { لظى } علم للنار { نَزَّاعَةً } حفص والمفضل على الحال المؤكدة ، أو على الاختصاص للتهويل . وغيرهما بالرفع خبر بعد خبر ل «إن» أو على «هي نزاعة» { للشوى } لأطراف الإنسان كاليدين والرجلين ، أو جمع شواة وهي جلدة الرأس تنزعها نزعاً فتفرقها ثم تعود إلى ما كانت { تَدْعُواْ } بأسمائهم يا كافر يا منافق إليّ إليّ ، أو تهلك من قولهم دعاك الله أي أهلكك ، أو لما كان مصيره إليها جعلت كأنها دعته { مَنْ أَدْبَرَ } عن الحق { وتولى } عن الطاعة { وَجَمَعَ } المال { فَأَوْعَى } فجعله في وعاء ولم يؤد حق الله منه .(3/467)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
{ إِنَّ الإنسان } أريد به الجنس ليصح استثناء المصلين منه { خُلِقَ هَلُوعاً } عن ابن عباس رضي الله عنهما : تفسيره ما بعده { إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } والهلع : سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير . وسأل محمد بن عبد الله بن طاهر ثعلباً عن الهلع فقال : قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس ، وهذا طبعه وهو مأمور بمخالفة طبعه وموافقة شرعه . والشر : الضر والفقر . والخير : السعة والغنى أو المرض والصحة { إِلاَّ المصلين * الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ } أي صلواتهم الخمس { دَائِمُونَ } أي يحافظون عليها في مواقيتها . وعن ابن مسعود رضي الله عنه { والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ } يعني الزكاة لأنها مقدرة معلومة أو صدقة يوظفها الرجل على نفسه يؤديها في أوقات معلومة { لَّلسَّائِلِ } الذي يسأل { والمحروم } الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنياً فيحرم { والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين } أي يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة { والذين هُم مّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } خائفون . واعترض بقوله { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } بالهمز : سوى أبي عمرو أي لا ينبغي لأحد وإن بالغ في الاجتهاد والطاعة أن يأمنه وينبغي أن يكون مترجحاً بين الخوف والرجاء .
{ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون * إِلاَّ على أزواجهم } نسائهم { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم } أي إمائهم { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } على ترك الحفظ { فَمَنِ ابتغى } طلب منكحاً { وَرَآءَ ذلك } أي غير الزوجات والمملوكات { فأولئك هُمُ العادون } المتجاوزون عن الحلال والحرام . وهذه الآية تدل على حرمة المتعة ووطء الذكران والبهائم والاستمناء بالكف { والذين هُمْ لأماناتهم } { لأمانتهم } مكي ، وهي تتناول أمانات الشرع وأمانات العباد { وَعَهْدِهِمْ } أي عهودهم ويدخل فيها عهود الخلق والنذور والأيمان { راعون } حافظون غير خائنين ولا ناقضين . وقيل : الأمانات ما تدل عليه العقول والعهد ما أتى به الرسول .
{ وَالَّذِينَ هُمْ بشهاداتهم } { بشهادتهم } سهل . وبالألف : حفص وسهل ويعقوب . { قَائِمُونَ } يقيمونها عند الحكام بلا ميل إلى قريب وشريف وترجيح للقوي على الضعيف إظهاراً للصلابة في الدين ورغبة في إحياء حقوق المسلمين { وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } كرر ذكر الصلاة لبيان أنها أهم ، أو لأن إحداهما للفرائض والأخرى للنوافل . وقيل : الدوام عليها الاستكثار منها والمحافظة عليها أن لا تضيع عن مواقيتها ، أو الدوام عليها أداؤها في أوقاتها والمحافظة عليها حفظ أركانها وواجباتها وسننها وآدابها { أولئك } أصحاب هذه الصفات { فِى جنات مُّكْرَمُونَ } هما خبران .(3/468)
{ فَمَالِ } كتب مفصولاً اتباعاً لمصحف عثمان رضي الله عنه { الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ } نحوك معمول { مُهْطِعِينَ } مسرعين حال من { الذين كَفَرُواْ } { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال } عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن شماله { عِزِينَ } حال أي فرقاً شتى جمع عزة وأصلها عزوة كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزى إليه الأخرى فهم مفترقون . كان المشركون يحتفّون حول النبي صلى الله عليه وسلم حلقاً حلقاً وفرقاً فرقاً يستمعون ويستهزئون بكلامه ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت { أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ } بضم الياء وفتح الخاء : سوى المفضل { جَنَّةَ نَعِيمٍ } كالمؤمنين { كَلاَّ } ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة { إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ } أي من النطفة المذرة ولذلك أبهم إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره ، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم ، ويقولون لندخلن الجنة قبلهم؟ أو معناه : إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلهم ، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد الجنة إلا بالإيمان فلم يطمع أن يدخلها من لا إيمان له { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق } مطالع الشمس { والمغارب } ومغاربها { إِنَّا لقادرون * على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مّنْهُمْ } على أن نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم وأطوع لله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } بعاجزين .
{ فَذَرْهُمْ } فدع المكذبين { يَخُوضُواْ } في باطلهم { وَيَلْعَبُواْ } في دنياهم { حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ } فيه العذاب { يَوْمَ } بدل من { يَوْمَهُمُ } { يَخْرُجُونَ } بفتح الياء وضم الراء : سوى الأعشى { مّنَ الأجداث } القبور { سِرَاعاً } جمع سريع حال أي إلى الداعي { كَأَنَّهُمْ } حال { إلى نُصُبٍ } شامي وحفص وسهل { نُصُبٍ } المفضل . { نَصَبٌ } غيرهم وهو كل ما نصب وعبد من دون الله { يُوفِضُونَ } يسرعون { خاشعة } حال من ضمير { يُخْرِجُونَ } أي ذليلة { أبصارهم } يعني لا يرفعونها لذلتهم { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } يغشاهم هوان { ذَلِكَ اليوم الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ } في الدنيا وهم يكذبون به .(3/469)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
{ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً } قيل : معناه بالسريانية الساكن { إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ } خوّف أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل . ومحله عند الخليل جر ، وعند غيره نصب ، أو «أن» مفسرة بمعنى «أي» لأن في الإرسال معنى القول { قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } عذاب الآخرة أو الطوفان { قَالَ ياقوم } أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة { إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ } مخوف { مُّبِينٌ } أبين لكم رسالة الله بلغة تعرفونها { أَنِ اعبدوا الله } وحدوه و «أن» هذه نحو { أَنْ أَنذِرِ } في الوجهين { واتقوه } واحذروا عصيانه { وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، وإنما اضافه إلى نفسه لأن الطاعة قد تكون لغير الله تعالى بخلاف العبادة { يَغْفِرْ لَكُمْ } جواب الأمر { مّن ذُنُوبِكُمْ } للبيان كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] . أو للتبعيض لأن ما يكون بينه وبين الخلق يؤاخذ به بعد الإسلام كالقصاص وغيره كذا في شرح التأويلات . { وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو وقت موتكم { إِنَّ أَجَلَ الله } أي الموت { إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء أجلكم لآمنتم . قيل : إن الله تعالى قضى مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة وإن لم يؤمنوا أهلكهم على رأس تسعمائة ، فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي تبلغوا ألف سنة ، ثم أخبر أن الأجل إذا جاء لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت . وقيل : إنهم كانوا يخافون على أنفسهم الإهلاك من قومهم بإيمانهم وإجابتهم لنوح عليه السلام ، فكأنه عليه السلام أمّنهم من ذلك ووعدهم أنهم بإيمانهم يبقون إلى الأجل الذي ضرب لهم لو لم يؤمنوا أي أنكم إن أسلمتم بقيتم إلى أجل مسمى آمنين من عدوكم .
{ قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً } دائباً بلا فتور { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلاَّ فِرَاراً } عن طاعتك ، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده وإن لم يكن الدعاء سبباً للفرار في الحقيقة وهو كقوله : { وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] . والقرآن لا يكون سبباً لزيادة الرجس وكان الرجل يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام فيقول : احذر هذا فلا يغرنك فإن أبي قد وصاني به { وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ } إلى الإيمان بك { لِتَغْفِرَ لَهُمْ } أي ليؤمنوا فتغفر لهم فاكتفى بذكر المسبب { جَعَلُواْ أصابعهم فِى * ءاذَانِهِمْ } سدوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي { واستغشوا ثِيَابَهُمْ } وتغطوا بثيابهم لئلا يبصرون كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله { وَأَصَرُّواْ } وأقاموا على كفرهم { واستكبروا استكبارا } وتعظموا عن إجابتي ، وذكر المصدر دليل على فرط استكبارهم .(3/470)
{ ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا } مصدر في موضع الحال أي مجاهراً ، أو مصدر دعوتهم ك «قعد القرفصاء» لأن الجهار أحد نوعي الدعاء يعني أظهرت لهم الدعوة في المحافل { ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } أي خلطت دعاءهم بالعلانية بدعاء السر ، فالحاصل أنه دعاهم ليلاً ونهاراً في السر ، ثم دعاهم جهاراً ، ثم دعاهم في السر والعلن ، وهكذا يفعل الآمر بالمعروف يبتدىء بالأهون ثم بالأشد فالأشد ، فافتتح بالمناصحة في السر فلما لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة ، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان . و «ثُم» تدل على تباعد الأحوال لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما .
{ فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ } من الشرك لأن الاستغفار طلب المغفرة ، فإن كان المستغفر كافراً فهو من الكفر ، وإن كان عاصياً مؤمناً فهو من الذنوب { إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } لم يزل غفاراً لذنوب من ينيب إليه { يُرْسِلِ السماء } المطر { عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً } كثيرة الدرور ومفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث { وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ } يزدكم أموالاً وبنين { وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات } بساتين { وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } جارية لمزارعكم وبساتينكم ، وكانوا يحبون الأموال والأولاد فحرّكوا بهذا على الإيمان . وقيل : لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة أو سبعين ، فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخصب ورفع عنهم ما كانوا فيه . وعن عمر رضي الله عنه أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له : ما رأيناك استسقيت! فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر . شبه عمر الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء وقرأ الآيات . وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال : استغفر الله . وشكا إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، فأمرهم كلهم بالاستغفار . فقال له الربيع بن صبيح : أتاك رجال يشكون أبواباً فأمرتهم كلهم بالاستغفار فتلا الآيات .
{ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } لا تخافون لله عظمة . عن الأخفش قال : والرجاء هنا الخوف لأن مع الرجاء طرفاً من الخوف ومن اليأس والوقار العظمة ، أو لا تأملون له توقيراً أي تعظيماً . والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } في موضع الحال أي ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه ، وهي حال موجبة للإيمان به لأنه خلقكم أطواراً أي تارات وكرّاتٍ خلقكم أولاً نطفاً ثم خلقكم علقاً ثم خلقكم مضغاً ثم خلقكم عظاماً ولحماً ، نبههم أولاً على النظر في أنفسكم لأنها أقرب ، ثم على النظر في العالم وما سوّى فيه من العجائب الدالة على الصانع بقوله { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً } بعضاً على بعض { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } أي في السماوات وهو في السماء الدنيا ، لأن بين السماوات ملابسة من حيث إنها طباق وجاز أن يقال فيهن كذا وإن لم يكن في جميعهن كما يقال : في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها .(3/471)
وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم . أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماوات ، وظهورهما مما يلي الأرض ، فيكون نور القمر محيطاً بجميع السماوات لأنها لطيفة لا تحجب نوره { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } مصباحاً يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره ، وضوء الشمس أقوى من نور القمر ، وأجمعوا على أن الشمس في السماء الرابعة { والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض } أنشأكم استعير الإنبات للإنشاء { نَبَاتاً } فنبتم نباتاً { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } بعد الموت { وَيُخْرِجُكُمْ } يوم القيامة { إِخْرَاجاً } أكده بالمصدر أي أيّ إخراج { والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً } مبسوطة { لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا } لتتقلبوا عليها كما يتقلب الرجل على بساطه { سُبُلاً } طرقاً { فِجَاجاً } واسعة أو مختلفة .
{ قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى } فيما أمرتهم به من الإيمان والاستغفار { واتبعوا } أي السفلة والفقراء { مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ } أي الرؤساء وأصحاب الأموال والأولاد { وَوُلْده } مكي وعراقي غير عاصم وهو جمع ولد كأسد وأسد { إَلاَّ خَسَارًا } في الآخرة .
{ وَمَكَرُواْ } معطوف على { لَّمْ يَزِدْهُ } وجمع الضمير وهو راجع إلى «من» لأنه في معنى الجمع . والماكرون هم الرؤساء ، ومكرهم احتيالهم في الدنيا وكيدهم لنوح وتحريش الناس على أذاه وصدهم عن الميل إليه { مَكْراً كُبَّاراً } عظيماً وهو أكبر من الكبار وقرىء به وهو أكبر من الكبير { وَقَالُواْ } أي الرؤساء لسفلتهم { لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ } على العموم أي عبادتها { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً } بفتح الواو وضمها وهو قراءة نافع ، لغتان : صنم على صورة رجل { وَلاَ سُوَاعاً } هو على صورة امرأة { وَلاَ يَغُوثَ } هو على صورة أسد { وَيَعُوقَ } هو على صورة فرس وهما لا ينصرفان للتعريف ووزن الفعل إن كانا عربيين ، وللتعريف والعجمة إن كانا أعجميين { وَنَسْراً } هو على صورة نسر أي هذه الأصنام الخمسة على الخصوص ، وكأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فخصوها بعد العموم ، وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب؛ فكان ود لكلب ، وسواع لهمدان ، ويغوث لمذحج ، ويعوق لمراد ، ونسر لحمير . وقيل : هي أسماء رجال صالحين كان الناس يقتدون بهم بين آدم ونوح ، فلما ماتوا صوروهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى العبادة ، فلما طال الزمان قال لهم إبليس : إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم { وَقَدْ أَضَلُّواْ } أي الأصنام كقوله(3/472)
{ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ } [ ابراهيم : 36 ] { كَثِيراً } من الناس أو الرؤساء { وَلاَ تَزِدِ الظالمين } عطف على { رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى } على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد { قَالَ } وبعد الواو النائبة عنه ، ومعناه قال رب إنهم عصوني وقال لا تزد الظالمين أي قال هذين القولين وهما في محل النصب لأنهما مفعولاً { قَالَ } { إِلاَّ ضَلاَلاً } هلاكاً كقوله { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } { مّمَّا خطيئاتهم } { خطاياهم } أبو عمرو أي ذنوبهم { أُغْرِقُواْ } بالطوفان { فَأُدْخِلُواْ نَاراً } عظيمة وتقديم { مّمَّا خطيئاتهم } لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان وإدخالهم في النيران إلا من أجل خطيئاتهم . وأكد هذا المعنى بزيادة «ما» وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا ، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم ، وإن كانت كبراهن والفاء في { فادخلوا } للإيذان بأنهم عذبوا بالإحراق عقيب الإغراق فيكون دليلاً على إثبات عذاب القبر { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً } ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله .
{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } أي أحداً يدور في الأرض وهو فيعال من الدور وهو من الأسماء المستعملة في النفي العام { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ } ولا تهلكهم { يُضِلُّواْ عِبَادَكَ } يدعوهم إلى الضلال { وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } إلا من إذا بلغ فجر وكفر وإنما قال ذلك لأن الله تعالى أخبره بقوله : { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ } [ هود : 36 ] { رَّبّ اغفر لِى ولوالدى } وكانا مسلمين واسم أبيه لمك ، واسم أمه شمخاء ، وقيل : هما آدم وحواء وقرىء { ولولَدَيَّ } يريد ساماً وحاماً { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ } منزلي أو مسجدي أو سفينتي { مُؤْمِناً } لأنه علم أن من دخل بيته مؤمناً لا يعود إلى الكفر { وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } إلى يوم القيامة . خص أولاً من يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه ، ثم عم المؤمنين والمؤمنات { وَلاَ تَزِدِ الظالمين } أي الكافرين { إِلاَّ تَبَاراً } هلاكاً فأهلكوا . قال ابن عباس رضي الله عنهما : دعا نوح عليه السلام بدعوتين : إحداهما للمؤمنين بالمغفرة ، وأخرى على الكافرين بالتبار ، وقد أجيبت دعوته في حق الكفار بالتبار فاستحال أن لا تستجاب دعوته في حق المؤمنين . واختلف في صبيانهم حين أغرقوا فقيل : أعقم الله أرحام نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا . وقيل : علم الله براءتهم فأهلكوا بغير عذاب والله أعلم .(3/473)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
{ قُلْ } يا محمد لأمتك { أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ } أن الأمر والشأن . أجمعوا على فتح { أَنَّهُ } لأنه فاعل { أوحى } و { أَن لَّوْ استقاموا } و { أَن المساجد } للعطف على { أَنَّهُ استمع } ف «أن» مخفقة من الثقيلة و { أَن قَدْ أَبْلَغُواْ } لتعدي { يَعْلَمْ } إليها ، وعلى كسر ما بعد فاء الجزاء وبعد القول نحو { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } { وَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا } لأنه مبتدأ محكي بعد القول ، واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من { أَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } إلى { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } ففتحها شامي وكوفي غير أبي بكر عطفاً على { أَنَّهُ استمع } أو على محل الجار والمجرور في { آمَنا بِهِ } تقديره : صدقناه وصدقنا { أَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } إلى آخرها ، وكسرها غيرهم عطفاً على { إِنَّا سَمِعْنَا } وهم يقفون على آخر الآيات { استمع نَفَرٌ } جماعة من الثلاثة إلى العشرة { مّن الجن } جن نصيبين { فَقَالُواْ } لقومهم حين رجعوا إليهم من استماع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً } عجيباً بديعاً مبايناً لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه . والعجب ما يكون خارجاً عن العادة ، وهو مصدر وضع موضع العجيب { يَهْدِى إِلَى الرشد } يدعوا إلى الصواب أو إلى التوحيد والإيمان { فَآمَنا بِهِ } بالقرآن . ولما كان الإيمان به إيماناً بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً } من خلقه ، وجاز أن يكون الضمير في { بِهِ } لله تعالى لأن قوله { بِرَبّنَا } يفسره .
{ وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } عظمته . يقال : جد فلان في عيني أي عظم ، ومنه قول عمر أو أنس : كان الرجل إذ قرأ البقرة وآل عمران جد فينا أي عظم في عيوننا { مَا اتخذ صاحبة } زوجة { وَلاَ وَلَداً } كما يقول كفار الجن والإنس { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } جاهلنا أو إبليس إذ ليس فوقه سفيه { عَلَى الله شَطَطاً } كفراً لبعده عن الصواب من شطت الدار أي بعدت ، أو قولاً يجوز فيه عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد إليه ، والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً } قولاً كذباً ، أو مكذوباً فيه ، أو نصب على المصدر إذ الكذب نوع من القول أي كان في ظننا أن أحداً لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم؛ كان الرجل من العرب إذا نزل بمخوف من الأرض قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد كبير الجن فقال { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن فَزَادوهُمْ } أي زاد الإنس الجن باستعاذتهم بهم { رَهَقاً } طغياناً وسفهاً وكبراً بأن قالوا : سدنا الجن الإنس أو فزاد الجن الإنس رهقاً إثماً لاستعاذتهم بهم ، وأصل الرهق غشيان المحظور { وَأَنَّهُمْ } وأن الجن { ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ } يا أهل مكة { أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً } بعد الموت أي أن الجن كانوا ينكرون البعث كإنكاركم ، ثم بسماع القرآن اهتدوا وأقروا بالبعث فهلا أقررتم كما أقروا .(3/474)
{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء } طلبنا بلوغ السماء واستماع أهلها ، واللمس . المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف { فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً } جمعاً أقوياء من الملائكة يحرسون : جمع حارس ، ونصب على التمييز . وقيل : الحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذا وصف بشديد ولو نظر إلى معناه لقيل شداداً { وَشُهُباً } جمع شهاب أي كواكب مضيئة .
{ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا } من السماء قبل هذا { مقاعد لِلسَّمْعِ } لاستماع أخبار السماء يعني كنا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشهب قبل المبعث { فَمَن يَسْتَمِعِ } يرد الاستماع { الآن } بعد المبعث { يَجِدْ لَهُ } لنفسه { شِهَاباً رَّصَداً } صفة ل { شِهَاباً } بمعنى الراصد أي يجد شهاباً راصداً له ولأجله ، أو هو اسم جمع للراصد على معنى ذوي شهاب راصدين بالرجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع ، والجمهور على أن ذلك لم يكن قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : كان الرجم في الجاهلية ولكن الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأوقات فمنعوا من الاستراق أصلاً بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم .(3/475)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
{ وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ } عذاب { أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض } بعدم استراق السمع { أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } خيراً ورحمة { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون } الأبرار المتقون { وَمِنَّا } قوم { دُونِ ذَلِكَ } فحذف الموصوف وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه أو أرادوا غير الصالحين { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً } بيان للقسمة المذكورة أي كنا ذوي مذاهب متفرقة أو أديان مختلفة . والقدد جمع قدة وهي القطعة من قددت السير أي قطعته { وَأَنَّا ظَنَنَّا } أيقنا { أَن لَّن نُّعْجِزَ الله } لن نفوته { فِى الأرض } حال أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } مصدر في موضع الحال أي ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء ، وهذه صفة الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى } القرآن { ءَامَنَّا بِهِ } بالقرآن أو بالله { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ } فهو لا يخاف مبتدأ وخبر { بَخْساً } نقصاً من ثوابه { وَلاَ رَهَقاً } أي ولا ترهقه ذلة من قوله : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [ يونس : 27 ] وقوله : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } [ يونس : 26 ] . وفيه دليل على أن العمل ليس من الإيمان { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } المؤمنون { وَمِنَّا القاسطون } الكافرون الجائرون عن طريق الحق ، قسط : جار وأقسط عدل { فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً } طلبوا هدى والتحري طلب الأحرى أي الأولى { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ } في علم الله { لِجَهَنَّمَ حَطَباً } وقوداً ، وفيه دليل على أن الجني الكافر يعذب في النار ويتوقف في كيفية ثوابهم { وَأَنْ } مخففة من الثقيلة يعني وأنه وهي من جملة الموحى أي أوحى إلى أن الشأن { لَوْ استقاموا } أي القاسطون { عَلَى الطريقة } طريقة الإسلام { لأسقيناهم مَّاءً غَدَقاً } كثيراً ، والمعنى لوسعنا عليهم الرزق ، وذكر الماء الغدق لأنه سبب سعة الرزق .
{ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ } القرآن أو التوحيد أو العبادة { يَسْلُكْهُ } بالياء : عراقي غير أبي بكر يدخله { عَذَاباً صَعَداً } شاقاً مصدر صعد يقال : صعد صعداً وصعوداً ، فوصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح . أي ما شق عليّ .
{ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } من جملة الموحى أي أوحي إلى أن المساجد أي البيوت المبنية للصلاة فيها لله . وقيل : معناه ولأن المساجد لله فلا تدعوا على أن اللام متعلقة ب { لاَّ تَدْعُواْ } أي { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } في المساجد لأنها خالصة لله ولعبادته .(3/476)
وقيل : المساجد أعضاء السجود وهي الجبهة واليدان والركبتان والقدمان { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } محمد عليه السلام إلى الصلاة وتقديره وأوحي إلى أنه لما قام عبد الله { يَدْعُوهُ } يعبده ويقرأ القرآن ولم يقل نبي الله أو رسول الله لأنه من أحب الأسماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأنه لما كان واقعاً في كلامه صلى الله عليه وسلم عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع ، أو لأن عبادة عبد الله لله ليست بمستبعد حتى يكونوا عليه لبداً { كَادُواْ } كاد الجن { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } جماعات جمع لبدة تعجباً مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه به وإعجاباً بما تلاه من القرآن لأنهم رأوا ما لم يروا مثله { قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبّى } وحده { قَالَ } غير عاصم وحمزة { وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } في العبادة فلم تتعجبون وتزدحمون علي؟ { قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً } مضرة { وَلاَ رَشَداً } نفعاً ، أو أراد بالضر الغي بدليل قراءة أبي { غَيّاً وَلاَ رَشَداً } يعني لا أستطيع أن أضركم وأن أنفعكم لأن الضار والنافع هو الله .
{ قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ الله أَحَدٌ } لن يدفع عني عذابه أحد إن عصيته كقول صالح عليه السلام : { فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ } [ هود : 63 ] { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } ملتجأ .
{ إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله } استثناء من { لا أَمْلِكُ } أي لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغاً من الله و { قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى } اعتراض لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه . وقيل : { بَلاَغاً } بدل من { مُلْتَحَدًا } أي لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به يعني لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به فإن ذلك ينجيني . وقال الفراء : هذا شرط وجزاء وليس باستثناء و «إن» منفصلة من «لا» وتقديره : أن لا أبلغ بلاغاً أي إن لم أبلغ لم أجد من دونه ملتجأ ولا مجيراً لي كقولك إن لا قياماً فقعوداً ، والبلاغ في هذه الوجوه بمعنى التبليغ { ورسالاته } عطف على { بَلاَغاً } كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات أي إلا أن أبلغ عن الله فأقول قال الله كذا ناسباً لقوله إليه ، وأن أبلغ رسالته التي أرسلني بها بلا زيادة ونقصان . و «من» ليست بصلة للتبليغ لأنه يقال : بلّغ عنه ، إنما هي بمنزلة «من» في { بَرَاءةٌ مّنَ الله } [ التوبة : 1 ] أي بلاغاً كائناً من الله .
{ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } في ترك القبول ، لما أنزل على الرسول لأنه ذكر على أثر تبليغ الرسالة { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا أَبَداً } وحد في قوله { لَهُ } وجمع في { خالدين } للفظ من ومعناه { حتى } يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال كأنه قيل : لا يزالون على ما هم عليه حتى { إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } من العذاب { فَسَيَعْلَمُونَ } عند حلول العذاب بهم { مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } أهم أم المؤمنون؟ أي الكافر لا ناصر له يومئذ والمؤمن ينصره الله وملائكته وأنبياؤه { قُلْ إِنْ أَدْرِى } ما أدري { أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } من العذاب { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى } وبفتح الياء : حجازي وأبو عمرو { أَمَدًا } غاية بعيدة يعني أنكم تعذبون قطعاً ولكن لا أدري أهو حالّ أم مؤجل { عالم الغيب } هو خبر مبتدأ أي هو عالم الغيب { فَلاَ يُظْهِرُ } فلا يطلع { على غَيْبِهِ أَحَداً } من خلقه { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } إلا رسولاً قد ارتضاه لعلم بعض الغيب ليكون إخباره عن الغيب معجزة له فإن يطلعه على غيبة ما شاء .(3/477)
و { مِن رَّسُولٍ } بيان ل { مَنِ ارتضى } والولي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم عليه ، ولكنه أخبر بناء على رؤياه أو بالفراسة على أن كل كرامة للولي فهي معجزة للرسول . وذكر في التأويلات قال بعضهم في هذه الآية بدلالة تكذيب المنجمة وليس كذلك فإن فيهم من يصدق خبره ، وكذلك المتطببة يعرفون طبائع النبات وذا لا يعرف بالتأمل فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره وبقي علمه في الخلق .
{ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ } يدخل { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } يدي رسول { وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم حتى يبلغ الوحي { لِيَعْلَمَ } الله { أَن قَدْ أَبْلَغُواْ } أي الرسل { رسالات رَبِّهِمْ } كاملة بلا زيادة ولا نقصان إلى المرسل إليهم أي ليعلم الله ذلك موجوداً حال وجوده كما كان يعلم ذلك قبل وجوده أنه يوجد ، وحد الضمير في { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } للفظ «من» ، وجمع في { أَبْلَغُواْ } لمعناه { وَأَحَاطَ } الله { بِمَا لَدَيْهِمْ } بما عند الرسل من العلم { وأحصى كُلَّ شَىْءٍ عَدَداً } من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحار ، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ و { عَدَدًا } حال أي وعلم كل شيء معدوداً محصوراً أو مصدر في معنى إحصاء ، والله أعلم .(3/478)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
مكية وهي تسع عشرة آية بصري وثمان عشرة شامي
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يأَيُّهَا المزمل } أي المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها بإدغام التاء في الزاي . كان النبي صلى الله عليه وسلم نائماً بالليل متزملاً في ثيابه فأمر بالقيام للصلاة بقوله { قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ } بدل من { اليل } و { إِلاَّ قَلِيلاً } استثناء من قوله { نّصْفَهُ } تقديره : قم نصف الليل إلا قليلاً من نصف الليل { أَوِ انقص مِنْهُ } من النصف . بضم الواو : غير عاصم وحمزة { قَلِيلاً } إلى الثلث { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } على النصف إلى الثلثين ، والمراد التخيير بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه ، وإن جعلت { نِّصْفَهُ } بدلاً من { قَلِيلاً } كان مخيراً بين ثلاثة أشياء : بين قيام نصف الليل تاماً ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه . وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل وإلا فإطلاق لفظ القليل ينطلق على ما دون النصف ولهذا قلنا : إذا أقرّ أن لفلان عليه ألف درهم إلا قليلاً أنه يلزمه أكثر من نصف الألف { وَرَتّلِ القرءان } بين وفصل من الثغر المرتل أي المفلج الأسنان ، وكلام رَتَلٌ بالتحريك أي مرتل ، وثغر رتل أيضاً إذا كان مستوي البنيان . أو اقرأ على تؤدة بتبيين الحروف وحفظ الوقوف وإشباع الحركات { تَرْتِيلاً } هو تأكيد في إيجاب الأمر به وأنه لا بد منه للقارىء { إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ } سننزل عليك { قَوْلاً ثَقِيلاً } أي القرآن لما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين ، أو ثقيلاً على المنافقين ، أو كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف الخفيف .
{ إِنَّ نَاشِئَةَ اليل } بالهمزة : سوى ورش : قيام الليل . عن ابن مسعود رضي الله عنه . فهي مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعلة كالعافية ، أو العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث ، أو ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة فساعة ، وكان زين العابدين رضي الله عنه يصلي بين العشاءين ويقول هذه ناشئة الليل { هِىَ أَشَدُّ } { وطاءً } { وفاقا } شامي وأبو عمرو أي يواطيء فيها قلب القائم لسانه . وعن الحسن : أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق . وغيرهما { وَطْأ } أي أثقل على المصلي من صلاة النهار لطرد النوم في وقته من قوله صلى الله عليه وسلم : « اللهم اشدد وطأتك على مضر » { وَأَقْوَمُ قِيلاً } وأشد مقالاً وأثبت قراءة لهدوء الأصوات وانقطاع الحركات { إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } تصرفاً وتقلباً في مهماتك وشواغلك ففرّغ نفسك في الليل لعبادة ربك أو فراغاً طويلاً لنومك وراحتك { واذكر اسم رَبِّكَ } ودم على ذكره في الليل والنهار ، وذكر الله يتناول التسبيح والتهليل والتكبير والصلاة وتلاوة القرآن ودراسة العلم { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ } انقطع إلى عبادته عن كل شيء .(3/479)
والتبتل : الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره . وقيل : رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله { تَبْتِيلاً } في اختلاف المصدر زيادة تأكيد أي بتّلك الله فتبتل تبتيلاً أو جيء به مراعاة لحق الفواصل .
{ رَّبُّ المشرق والمغرب } بالرفع أي هو رب أو مبتدأ خبره { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } وبالجر : شامي وكوفي غير حفص بدل من { رَبَّكَ } وعن ابن عباس رضي الله عنهما على القسم بإضمار حرف القسم نحو : الله لأفعلن ، وجوابه لا إله إلا هو كقولك : والله لا أحد في الدار إلا زيد { فاتخذه وَكِيلاً } ولياً وكفيلاً بما وعدك من النصر ، أو إذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب وأن لا إله إلا هو فاتخذه كافياً لأمورك . وفائدة الفاء أن لا تلبث بعد أن عرفت في تفويض الأمور إلى الواحد القهار إذ لا عذر لك في الانتظار بعد الإقرار .
{ واصبر على مَا يَقُولُونَ } فيّ من الصاحبة والولد وفيك من الساحر والشاعر { واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً } جانبهم بقلبك وخالفهم مع حسن المحافظة وترك المكافأة . وقيل : هو منسوخ بآية القتال { وَذَرْنِى } أي كِلْهم إليّ فأنا كافيهم { والمكذبين } رؤساء قريش مفعول معه أو عطف على { ذَرْنِى } أي دعني وإياهم { أُوْلِى النعمة } التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرة { وَمَهِّلْهُمْ } إمهالاً { قَلِيلاً } إلى يوم بدر أو إلى يوم القيامة { إِنَّ لَدَيْنَا } للكافرين في الآخرة { أَنكَالاً } قيوداً ثقالاً جمع نِكْل { وَجَحِيماً } ناراً محرقة { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } أي الذي ينشب في الحلوق فلا ينساغ يعني الضريع والزقوم { وَعَذَاباً أَلِيماً } يخلص وجعه إلى القلب . ورُوي « أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق » وعن الحسن أنه أمسى صائماً فأتي بطعام فعرضت له هذه الآية فقال : ارفعه . ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال : ارفعه ، وكذلك الليلة الثالثة فأخبر ثابت البناني وغيره فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق .(3/480)
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
{ يَوْمَ } منصوب بما في { لَدَيْنَا } من معنى الفعل أي استقر للكفار لدينا كذا وكذا يوم { تَرْجُفُ الأرض والجبال } أي تتحرك حركة شديدة { وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً } رملاً مجتمعاً من كثب الشيء إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول { مَّهِيلاً } سائلاً بعد اجتماعه { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ } يا أهل مكة { رَسُولاً } يعني محمداً عليه السلام { شاهدا عَلَيْكُمْ } يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم { كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } يعني موسى عليه السلام { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } أي ذلك الرسول «إذ» النكرة وإذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول { فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً } شديداً غليظاً . وإنما خص موسى وفرعون لأن خبرهما كان منتشراً بين أهل مكة لأنهم كانوا جيران اليهود { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً } هو مفعول { تَتَّقُونَ } أي كيف تتقون عذاب يوم كذا إن كفرتم؟ أو ظرف أي فكيف لكم التقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ أو منصوب ب { كَفَرْتُمْ } على تأويل جحدتم أي كيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء لأن تقوى الله خوف عقابه { يَجْعَلُ الولدان } صفة ل { يَوْماً } والعائد محذوف أي فيه { شِيباً } من هوله وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه السلام : قم فابعث بعث النار من ذريتك وهو جمع أشيب . وقيل : هو على التمثيل للتهويل يقال لليوم الشديد : يوم يشيب نواصي الأطفال .
{ السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } وصف لليوم بالشدة أيضاً أي السماء على عظمها وإحكامها تنفطر به أي تنشق فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ والتذكير على تأويل السماء بالسقف أو السماء شيء منفطر ، وقوله { بِهِ } أي بيوم القيامة يعني أنها تنفطر لشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشيء بما يفطر به { كَانَ وَعْدُهُ } المصدر مضاف إلى المفعول وهو اليوم ، أو إلى الفاعل وهو الله عز وجل { مَفْعُولاً } كائناً { إِنَّ هذه } الآيات الناطقة بالوعيد { تَذْكِرَةٌ } موعظة { فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } أي فمن شاء اتعظ بها واتخذ سبيلاً إلى الله بالتقوى والخشية .
{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى } أقل فاستعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز ، وإذا بعدت كثر ذلك { مِن ثُلُثَىِ اليل } بضم اللام : سوى هشام { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } منصوبان عطف على { أدنى } مكي وكوفي ، ومن جرهما عطف على { مِن ثُلُثَىِ } { وَطَائِفَةٌ } عطف على الضمير في { تَقُومُ } وجاز بلا توكيد لوجود الفاصل { مِّنَ الذين مَعَكَ } أي ويقوم ذلك المقدار جماعة من أصحابك { والله يقدراليل والنهار } أي ولا يقدر على تقدير الليل والنهار ولا يعلم مقادير ساعاتهما إلا الله وحده .(3/481)
وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه { يقدر } هو الدال على أنه مختص بالتقدير ، ثم إنهم قاموا حتى انتفخت أقدامهم فنزل { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير إلا بشدة ومشقة وفي ذلك حرج { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } فخفف عليكم وأسقط عنكم فرض قيام الليل { فاقرءوا } في الصلاة والأمر للوجوب أو في غيرها والأمر للندب { مَا تَيَسَّرَ } عليكم { مِنَ القرءان } روى أبو حنيفة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : من قرأ مائة آية في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين . وقيل : أراد بالقرآن الصلاة لأنه بعض أركانها أي فصلوا ما تيسر عليكم ولم يتعذر من صلاة الليل وهذا ناسخ للأول ، ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس ، ثم بين الحكمة في النسخ وهي تعذر القيام على المرضى والمسافرين والمجاهدين فقال { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ } أي أنه مخففة من الثقيلة والسين بدل من تخفيفها وحذف اسمها { مَّرْضَى } فيشق عليهم قيام الليل .
{ وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأرض } يسافرون { يَبْتَغُونَ } حال من ضمير { يَضْرِبُونَ } { مِن فَضْلِ الله } رزقه بالتجارة أو طلب العلم { وَءاخَرُونَ يقاتلون فِى سَبِيلِ الله } سوّى بين المجاهد والمكتسب لأن كسب الحلال جهاد . قال ابن مسعود رضي الله عنه : أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء . وقال ابن عمر رضي الله عنهما : ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } كرر الأمر بالتيسير لشدة احتياطهم { وَأَقِيمُواْ الصلاوة } المفروضة { وَءَاتُواْ الزكواة } الواجبة { وَأَقْرِضُواُ الله } بالنوافل . والقرض لغة : القطع فالمقرض يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره ، وكذا المتصدق يقطع ذلك القدر من ماله فيجعله لله تعالى ، وإنما أضافه إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما تصدق به عليه وهذا لأن الفقير معاون له في تلك القربة فلا يكون له عليه منة بل المنة للفقير عليه { قَرْضًا حَسَنًا } من الحلال بالاخلاص { وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } أي ثوابه وهو جزاء الشرط { عِندَ الله هُوَ خَيْراً } مما خلفتم وتركتم فالمفعول الثاني ل { تَجِدُوهُ } { خيراً } و { هُوَ } فصل . وجاز وإن لم يقع بين معرفتين لأن أفعل من أشبه المعرفة لامتناعه من حرف التعريف { وَأَعْظَمَ أَجْراً } وأجزل ثواباً { واستغفروا الله } من السيئات والتقصير في الحسنات { إِنَّ الله غَفُورٌ } يستر على أهل الذنب والتقصير { رَّحِيمٌ } يخفف عن أهل الجهد والتوفيق وهو على ما يشاء قدير ، والله أعلم .(3/482)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
مكية وهي ست وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كنت على جبل حراء : فنوديت يا محمد إنك رسول الله . فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئاً ، فنظرت إلى فوقي فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض يعني الملك الذي ناداه فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت : دثروني دثروني » فدثرته خديجة فجاء جبريل وقرأ { ياأيها المدثر } أي المتلفف بثيابه من الدثار وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار . والشعار : الثوب الذي يلي الجسد وأصله المتدثر فأدغم { قُمْ } من مضجعك أو قم قيام عزم وتصميم { فَأَنذِرْ } فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا ، أو فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد . وقيل : سمع من قريش ما كرهه فاغتم فتغطى بثوبه مفكراً كما يفعل المغموم فقيل له : يا أيها الصارف أذى الكفار عن نفسك بالدثار ، قم فاشتغل بالأنذار وإن آذاك الفجار { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } واختص ربك بالتكبير وهو التعظيم أي لا يكبر في عينك غيره وقل عندما يعروك من غير الله : الله أكبر . ورُوي أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الله أكبر » فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي ، وقد يحمل على تكبير الصلاة . ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل : وما كان فلا تدع تكبيره .
{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } بالماء من النجاسة لأن الصلاة لا تصح إلا بها وهي الأولى في غير الصلاة ، أو فقصر مخالفة للعرب في تطويلهم الثياب وجرّهم الذيول إذ لا يؤمن معه إصابة النجاسة ، أو طهر نفسك مما يستقذر من الأفعال يقال : فلان طاهر الثياب إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ، وفلان دنس الثياب للغادر ولأن من طهر باطنه يطهر ظاهره ظاهراً { والرجز } بضم الراء : يعقوب وسهل وحفص ، وغيرهم بالكسر العذاب والمراد ما يؤدي إليه { فاهجر } أي أثبت على هجره لأنه كان بريئاً منه { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } بالرفع وهو منصوب المحل على الحال أي لا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه كثيراً أو طالباً أكثر مما أعطيت فإنك مأمور بأجلّ الأخلاق وأشرف الآداب ، وهو من منّ عليه إذا أنعم عليه . وقرأ الحسن { تَسْتَكْثِرُ } بالسكون جواباً للنهي { وَلِرَبِّكَ فاصبر } ولوجه الله فاستعمل الصبر على أوامره ونواهيه وكل مصبور عليه ومصبور عنه { فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور } نفخ في الصور وهي النفخة الأولى وقيل الثانية { فذلك } إشارة إلى وقت النقر وهو مبتدأ { يَوْمَئِذٍ } مرفوع المحل بدل من { ذلك } { يَوْمٌ عَسِيرٌ } خبر كأنه قيل : فيوم النقر يوم عسير .(3/483)
والفاء في { فَإِذَا } للتسبيب وفي { فَذَلِكَ } للجزاء كأنه قيل : اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه . والعامل في { فَإِذَا } ما دل عليه الجزاء أي فإذا نقر في الناقور عسر الأمر { عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ } وأكد بقوله { غَيْرُ يَسِيرٍ } ليؤذن بأنه يسير على المؤمنين أو عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا .
{ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ } أي كله إليّ يعني الوليد بن المغيرة وكان يلقب في قومه بالوحيد و { مِنْ خلقت } معطوف أو مفعول معه { وَحِيداً } حال من الياء في { ذَرْنِى } أي ذرني وحدي معه فإني أكفيك أمره ، أو من التاء في { خلقت } أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد ، أو من الهاء المحذوفة ، أو من أي خلقته منفرداً بلا أهل ولا مال ثم أنعمت عليه { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } مبسوطاً كثيراً أو ممدوداً بالنماء وكان له الزرع والضرع والتجارة . وعن مجاهد : كان له مائة ألف دينار . وعنه أن له أرضاً بالطائف لا ينقطع ثمرها { وَبَنِينَ شُهُوداً } حضوراً معه بمكة لغناهم عن السفر وكانوا عشرة أسلم منهم خالد وهشام وعمارة { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } وبسطت له الجاه والرياسة فأتممت عليه نعمتي الجاه والمال واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه فيرجو أن أزيد في ماله وولده من غير شكر . وقال الحسن : أن أزيد أن أدخله الجنة فأوتيه مالاً وولداً كما قال { لأوتين مالاً وولداً } { كَلاَّ } [ مريم : 77 ] ردع له وقطع لرجائه أي لا يجمع له بعد اليوم بين الكفر والمزيد من النعم ، فلم يزل بعد نزول الآية في نقصان من المال والجاه حتى هلك { إِنَّهُ كان لآياتنا } للقرآن { عَنِيداً } معانداً جاحداً وهو تعليل للردع على وجه الاستئناف كأن قائلاً قال : لم لا يزاد؟ فقيل : إنه جحد آيات المنعم وكفر بذلك نعمته والكافر لا يستحق المزيد { سَأُرْهِقُهُ } سأغشيه { صَعُوداً } عقبة شاقة المصعد وفي الحديث " الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبد " { إِنَّهُ فَكَّرَ } تعليل للوعيد كأن الله تعالى عاجله بالفقر والذل بعد الغنى والعز لعناده ، ويعاقبه في الآخرة بأشد العذاب لبلوغه بالعناد غايته ، وتسميته القرآن سحراً يعني أنه فكر ماذا يقول في القرآن { وَقَدَّرَ } في نفسه ما يقوله وهيأه .
{ فَقُتِلَ } لعن { كَيْفَ قَدَّرَ } تعجيب من تقديره { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } كرر للتأكيد و«ثم» يشعر بأن الدعاء الثاني أبلغ من الأول { ثُمَّ نَظَرَ } في وجوه الناس أو فيما قدر { ثُمَّ عَبَسَ } قطب وجهه { وَبَسَرَ } زاد في التقبض والكلوح { ثُمَّ أَدْبَرَ } عن الحق { واستكبر } عنه أو عن مقامه وفي مقاله .(3/484)
و { ثُمَّ نَظَرَ } عطف على { فَكَّرَ وَقَدَّرَ } والدعاء اعتراض بينهما ، وإيراد «ثم» في المعطوفات لبيان أن بين الأفعال المعطوفة تراحياً { فَقَالَ إِنْ هذا } ما هذا { إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } يروى عن السحرة . رُوي أن الوليد قال لبني مخزوم : والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى . فقالت قريش : صبأ والله الوليد . فقال أبو جهل وهو ابن أخيه : أنا أكفيكموه ، فقعد إليه حزيناً وكلمه بما أحماه فقام الوليد ، فأتاهم فقال : تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق؟ وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط؟ وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك : اللهم لا . ثم قالوا : فما هو؟ ففكر فقال : ما هو إلا ساحر ، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثر عن مسيلمة وأهل بابل ، فارتج النادي فرحاً وتفرقوا متعجبين منه . وذكر الفاء دليل على أن هذه الكلمة لما خطرت بباله نطق بها من غير تلبث { إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر } ولم يذكر العاطف بين هاتين الجملتين لأن الثانية جرت مجرى التوكيد للأولى .(3/485)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
{ سَأُصْلِيهِ } سأدخله بدل من { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } { سَقَرَ } علم لجهنم ولم ينصرف للتعريف والتأنيث { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } تهويل لشأنها { لاَ تُبْقِى } أي هي لا تبقى لحماً { وَلاَ تَذَرُ } عظماً أو لا تبقى شيئاً يبقى فيها إلا أهلكته ولا تذره هالكاً بل يعود كما كان { لَوَّاحَةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هي لواحة { لِّلْبَشَرِ } جمع بشرة وهي ظاهرة الجلد أي مسوّدة للجلود ومحرقة لها { عَلَيْهَا } على سقر { تِسْعَةَ عَشَرَ } أي يلي أمرها تسعة عشر ملكاً عند الجمهور . وقيل : صنفاً من الملائكة . وقيل : صفاً . وقيل : نقيباً { وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار } أي خزنتها { إِلاَّ ملائكة } لأنهم خلاف جنس المعذبين فلا تأخذهم الرأفة والرقة لأنهم أشد الخلق بأساً فللواحد منهم قوة الثقلين .
{ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ } تسعة عشر { إِلاَّ فِتْنَةً } أي ابتلاء واختبار { لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } حتى قال أبو جهل : لما نزلت { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } أما يستطيع كل عشر منكم أن يأخذوا واحداً منهم وأنتم الدهم ، فقال أبو الأشد وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين فنزلت { وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار إِلاَّ ملائكة } أي وما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون . وقالوا : في تخصيص الخزنة بهذا العدد مع أنه لا يطلب في الأعداد العلل أن ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار ، وستة يسوقونهم ، وستة يضربونهم بمقامع الحديد ، والآخر خازن جهنم وهو مالك وهو الأكبر . وقيل : في سقر تسعة عشر دركاً وقد سلط على كل درك ملك . وقيل : يعذب فيها بتسعة عشر لوناً من العذاب وعلى كل لون ملك موكل . وقيل : إن جهنم تحفظ بما تحفظ به الأرض من الجبال وهي تسعة عشر وإن كان أصلها مائة وتسعين إلا أن غيرها يشعب عنها { لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله { وَيَزْدَادَ الذين ءَامَنُواْ } بمحمد وهو عطف على { لِيَسْتَيْقِنَ } { إيمانا } لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل ، أو يزدادوا يقيناً لموافقة كتابهم كتاب أولئك { وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون } هذا عطف أيضاً ، وفيه توكيد للاستيقان وزيادة الإيمان إذ الاستيقان وازدياد الإيمان دالان على انتفاء الارتياب . ثم عطف على { لِيَسْتَيْقِنَ } أيضاً .
{ وَلِيَقُولَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } نفاق { والكافرون } المشركون فإن قلت : النفاق ظهر في المدينة والسورة مكية . قلت : معناه وليقول المنافقون الذين يظهرون في المستقبل بالمدينة بعد الهجرة والكافرون بمكة { مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } وهذا إخبار بما سيكون كسائر الإخبارات بالغيوب وذا لا يخالف كون السورة مكية .(3/486)
وقيل : المراد بالمرض الشك والارتياب لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين . و { مَثَلاً } تمييز لهذا أو حال منه كقوله : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءَايَةً } [ الأعراف : 73 ] [ هود : 64 ] ولما كان ذكر العدد في غاية الغرابة وأن مثله حقيق بأن تسير به الركبان سيرها بالأمثال سمي مثلاً ، والمعنى أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب ، وأي معنى أراد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين ، وغرضهم إنكاره أصلاً وأنه ليس من عند الله وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء } الكاف نصب و«ذلك» إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يعني إضلال المنافقين والمشركين حتى قالوا ما قالوا ، وهدي المؤمنين بتصديقه ، ورؤية الحكمة في ذلك يضل الله من يشاء من عباده وهو الذي علم منه اختيار الضلال { وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ } وهو الذي علم منه اختيار الاهتداء ، وفيه دليل خلق الأفعال ووصف الله بالهداية والإضلال . لما قال أبو جهل لعنه الله : أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر نزل { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ } لفرط كثرتها { إِلاَّ هُوَ } فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها { وَمَا هِىَ } متصل بوصف سقر وهي ضميرها أي وما سقر وصفتها { إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ } أي تذكرة للبشر أو ضمير الآيات التي ذكرت فيها .
{ كَلاَّ } إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون { والقمر } أقسم به لعظم منافعه { واليل إِذْ أَدْبَرَ } نافع وحفص وحمزة ويعقوب وخلف . وغيرهم { إِذَا دبرٍ } ودبر بمعنى أدبر ومعناهما ولى وذهب . وقيل : أدبر ولى ومضى ، ودبر جاء بعد النهار { والصبح إِذَا أَسْفَرَ } أضاء وجواب القسم .
{ إِنَّهَا } إن سقر { لإِحْدَى الكبر } هي جمع الكبرى أي لإحدى البلايا أو الدواهي الكبر ، ومعنى كونها إحداهن أنها من بينهن واحدة في العظم لا نظيرة لها كما تقول : هو أحد الرجال وهي إحدى النساء { نَذِيراً } تمييز من { إِحْدَى } أي إنها لإحدى الدواهي إنذاراً كقولك : هي إحدى النساء عفافاً . وأبدل من { لّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مّنكُمْ } بإعادة الجار { أَن يَتَقَدَّمَ } إلى الخير { أَوْ يَتَأَخَّرَ } عنه . وعن الزجاج : إلى ما أمر وعما نهى . { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } هي ليست بتأنيث «رهين» في قوله { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } [ الطور : 21 ] لتأنيث النفس ، لأنه لو قصدت الصفة لقيل رهين ، لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهن ، والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك { إِلاَّ أصحاب اليمين } أي أطفال المسلمين لأنهم لا أعمال لهم يرهنون بها ، أو إلا المسلمين فإنهم فكوا رقابهم بالطاعة كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق { فِي جنات } أي هم في جنات لا يكتنه وصفها { يَتَسَاءَلُونَ عَنِ المجرمين } يسأل بعضهم بعضاً عنهم أو يتساءلون غيرهم عنهم { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ } أدخلكم فيها .(3/487)
ولا يقال لا يطابق قوله { مَا سَلَكَكُمْ } وهو سؤال للمجرمين قوله { يَتَسَاءلُونَ* عَنِ المجرمين } وهو سؤال عنهم ، وإنما يطابق ذلك لو قيل يتساءلون المجرمين ما سلككم ، لأن { مَا سَلَكَكُمْ } ليس ببيان للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم ، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون : قلنا لهم ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ، إلا أنه اختصر كما هو نهج القرآن . وقيل : «عن» زائدة .
{ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } أي لم نعتقد فرضيتها { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين } كما يطعم المسلمون { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين } الخوض : الشروع في الباطل . أي نقول الباطل والزور في آيات الله { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين } الحساب والجزاء { حتى أتانا اليقين } الموت { فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين } من الملائكة والنبيين والصالحين لأنها للمؤمنين دون الكافرين . وفيه دليل ثبوت الشفاعة للمؤمنين في الحديث : " إن من أمتي من يدخل الجنة بشفاعته أكثر من ربيعة ومضر " { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة } عن التذكير وهو العظة أي القرآن { مُعْرِضِينَ } مولين حال من الضمير نحو : مالك قائماً { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ } أي حمر الوحش حال من الضمير في { مُعْرِضِينَ } { مُّسْتَنفِرَةٌ } شديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها . وبفتح الفاء : مدني وشامي أي استنفرها غيرها { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } حال و«قد» معها مقدرة . والقسورة : الرماة أو الأسد فعولة من القسر وهو القهر والغلبة ، شبهوا في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر بحمر جدت في نفارها .
{ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } قراطيس تنشر وتقرأ وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها : من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر فيها باتباعك . ونحوه قوله : { لَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 93 ] وقيل : قالوا إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار { كَلاَّ } ردع لهم عن تلك الإرادة وزجر عن اقتراح الآيات . ثم قال : { بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة } فلذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة وقال : إن القرآن تذكرة بليغة كافية { فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } أي فمن شاء أن يذكره ولا ينساه فعل . فإن نفع ذلك عائد إليه { وَمَا يَذْكُرُونَ } وبالتاء : نافع ويعقوب { إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله } إلا وقت مشيئة الله وإلا بمشيئة الله { هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } في الحديث : " هو أهل أن يتقي وأهل أن يغفر لمن اتقاه " والله أعلم .(3/488)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
{ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } أي أقسم . عن ابن عباس : و «لا» كقوله { لّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] وقوله :
في بئر لا حور سرى وما شعر ... وكقوله :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد ضمير القلب لا يتقطع
وعليه الجمهور وعن الفراء : «لا» رد لإنكار المشركين البعث كأنه قيل : ليس الأمر كما تزعمون ثم قيل : أقسم بيوم القيامة . وقيل : أصله لأقسم كقراءة ابن كثير على أن اللام للابتداء و { أُقْسِمُ } خبر مبتدأ محذوف أي لأنا أقسم ويقويه أنه في «الإمام» بغير الألف ثم أشبع فظهر من الإشباع ألف ، وهذا اللام يصحبه نون التأكيد في الأغلب وقد يفارقه { وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة } الجمهور على أنه قسم آخر . وعن الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة فهي صفة ذم وعلى القسم صفة مدح أي النفس المتقية التي تلوم على التقصير في التقوى وقيل : هي نفس آدم لم تزل تلوم على فعلها التي خرجت به من الجنة ، وجواب القسم محذوف أي لتبعثن دليله { أَيَحْسَبُ الإنسان } أي الكافر المنكر للبعث { أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } بعد تفرقها ورجوعها رفاتاً مختلطاً بالتراب .
{ بلى } أوجبت ما بعد النفي أي بلى نجمعها { قادرين } حال من الضمير في { نَّجْمَعَ } أي نجمعها قادرين على جمعها وإعادتها كما كانت { على أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ } أصابعه كما كانت في الدنيا بلا نقصان وتفاوت مع صغرها فكيف بكبار العظام . { بَلْ يُرِيدُ الإنسان } عطف على { أَيَحْسَبُ } فيجوز أن يكون مثله استفهاماً { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان { يَسْئَلُ أَيَّانَ } متى { يَوْمُ القيامة } سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة { فَإِذَا بَرِقَ البصر } تحير فزعاً وبفتح الراء : مدني شَخَصَ { وَخَسَفَ القمر } وذهب ضوؤه أو غاب من قوله { فَخَسَفْنَا بِهِ } [ القصص : 81 ] وقرأ أبو حيوة بضم الخاء { وَجُمِعَ الشمس والقمر } أي جمع بينهما في الطلوع من المغرب أو جمعاً في ذهاب الضوء ويجمعان فيقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى { يَقُولُ الإنسان } الكافر { يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر } هو مصدر أي الفرار من النار أو المؤمن أيضاً من الهول . وقرأ الحسن بكسر الفاء وهو يحتمل المكان والمصدر { كَلاَّ } ردع عن طلب المفر { لاَ وَزَرَ } لا ملجأ { إلى رَبِّكَ } خاصة { يَوْمَئِذٍ المستقر } مستقر العباد أو موضع قرارهم من جنة أو نار مفوّض ذلك لمشيئته ، من شاء أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار .
{ يُنَبَّؤُاْ الإنسان يَوْمَئِذٍ } يخبر { بِمَا قَدَّمَ } من عمل عمله { وَأَخَّرَ } ما لم يعمله .
{ بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } شاهد .(3/489)
والهاء للمبالغة كعلامة أو أنثه لأنه أراد به جوارحه إذ جوارحه تشهد عليه ، أو هو حجة على نفسه والبصيرة الحجة قال الله تعالى : { قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } [ الأنعام : 104 ] وتقول لغيرك أنت حجة على نفسك . و { بَصِيرَةٌ } رفع بالابتداء وخبره { على نَفْسِهِ } تقدم عليه والجملة خبر الإنسان كقولك : زيد على رأسه عمامة . والبصيرة على هذا يجوز أن يكون الملك الموكل عليه { وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } أرخى ستوره والمعذار الستر . وقيل : ولو جاء بكل معذرة ما قبلت منه فعليه من يكذب عذره . والمعاذير ليس بجمع معذرة لأن جمعها معاذر بل هي اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ } بالقرآن { لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } بالقرآن . وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ في القرآن قبل فراغ جبريل كراهة أن يتفلت منه فقيل له : لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ لتأخذه على عجلة ، ولئلا يتفلت منك . ثم علل النهي عن العجلة بقوله { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } في صدرك { وَقُرْءَانَهُ } وإثبات قراءته في لسانك ، والقرآن القراءة ونحوه { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] { فَإِذَا قرأناه } أي قرأه عليك جبريل فجعل قراءة جبريل قراءته { فاتبع قُرْءَانَهُ } أي قراءته عليك { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } إذا أشكل عليك شيء من معانيه .(3/490)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
{ كَلاَّ } ردع عن إنكار البعث أو ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن العجلة وإنكار لها عليه ، وأكده بقوله { بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة } كأنه قيل : بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة الدنيا وشهواتها { وَتَذَرُونَ الآخرة } الدار الآخرة ونعيمها فلا تعملون لها والقراءة فيهما بالتاء : مدني وكوفي { وُجُوهٌ } هي وجوه المؤمنين { يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } حسنة ناعمة { إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } بلا كيفية ولا جهة ولا ثبوت مسافة . وحمل النظر على الانتظار لأمر ربها أو لثوابه لا يصح لأنه يقال : نظرت فيه أي تفكرت ، ونظرته انتظرته ، ولا يعدى ب «إلى» إلا بمعنى الرؤية مع أنه لا يليق الانتظار في دار القرار { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } كالحة شديدة العبوسة وهي وجوه الكفار { تَظُنُّ } تتوقع { أَن يُفْعَلَ بِهَا } فعل هو في شدته { فَاقِرَةٌ } داهية تقصم فقار الظهر { كَلاَّ } ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل : ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين { إِذَا بَلَغَتِ } أي الروح وجاز وإن لم يجر لها ذكر لأن الآية تدل عليها { التراقى } العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال جمع ترقوة { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } يقف حفص على { مَنْ } وقيفة أي قال حاضر والمحتضر بعضهم لبعض أيكم يرقيه مما به من الرقية من حد ضرب ، أو هو من كلام الملائكة : أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب من الرقي من حد علم .
{ وَظَنَّ } أيقن المحتضر { أَنَّهُ الفراق } أن هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة { والتفت الساق بالساق } التوت ساقاه عند موته . وعن سعيد بن المسيب : هما ساقاه حين تلفان في أكفانه . وقيل : شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة على أن الساق مثل في الشدة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هما همّان : همّ الأهل والولد وهمّ القدوم على الواحد الصمد { إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } هو مصدر ساقه أي مساق العباد إلى حيث أمر الله إما إلى الجنة أو إلى النار { فَلاَ صَدَّقَ } بالرسول والقرآن { وَلاَ صلى } الإنسان في قوله : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } [ القيامة : 3 ] { ولكن كَذَّبَ } بالقرآن { وتولى } عن الإيمان أو فلا صدق ماله يعني فلا زكاه { ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى } يتبختر وأصله يتمطط أي يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه فأبدلت الطاء ياء لاجتماع ثلاثة أحرف متماثلة .
{ أولى لَكَ } بمعنى ويل لك وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره { فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى } كرر للتأكيد كأنه قال : ويل لك فويل لك ثم ويل لك فويل لك .(3/491)
وقيل : ويل لك يوم الموت ، وويل لك في القبر ، وويل لك حين البعث ، وويل لك في النار . { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى } أيحسب الكافر أن يترك مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يبعث ولا يجازى؟ { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىٍّ يمنى } بالياء : ابن عامر وحفص أي يراق المني في الرحم ، وبالتاء يعود إلى النطفة { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً } أي صار المني قطعة دم جامد بعد أربعين يوماً { فَخَلَقَ فسوى } فخلق الله منه بشراً سوياً { فَجَعَلَ مِنْهُ } من الإنسان { الزوجين الذكر والأنثى } أي من المني الصنفين { أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى } أليس الفعّال لهذه الأشياء بقادر على الإعادة؟ وكان صلى الله عليه وسلم إذا قرأها يقول : « سبحانك بلى » والله أعلم .(3/492)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
مكية وهي إحدى وثلاثون آية
{ هَلْ أتى } قد مضى { عَلَى الإنسان } آدم عليه السلام { حِينٌ مّنَ الدهر } أربعون سنة مصوراً قبل نفخ الروح فيه { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } لم يذكر اسمه ولم يدر ما يراد به لأنه كان طيناً يمر به الزمان ولو غير موجود لم يوصف بأنه قد أتى عليه حين من الدهر . ومحل { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } النصب على الحال من الإنسان أي أتى عليه حين من الدهر غير مذكور { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان } أي ولد آدم ، وقيل الأول ولد آدم أيضاً و { حِينٌ مِّنَ الدهر } على هذا مدة لبثه في بطن أمه إلى أن صار شيئاً مذكوراً بين الناس { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } نعت أو بدل منها أي من نطفة قد امتزج فيها الماآن . ومشجه ومزجه بمعنى و { نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } كبرمة أعشار فهو لفظ مفرد غير جمع ولذا وقع صفة للمفرد { نَّبْتَلِيهِ } حال أي خلقناه مبتلين أي مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي له { فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً } ذا سمع وبصر .
{ إِنَّا هديناه السبيل } بيّنا له طريق الهدى بأدلة العقل والسمع { إِمَّا شَاكِراً } مؤمناً { وَإِمَّا كَفُوراً } كافراً حالان من الهاء في { هديناه } أي إن شكر وكفر فقد هديناه السبيل في الحالين أو من السبيل أي عرّفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وأما سبيلاً كفوراً . ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز . ولما ذكر الفريقين أتبعهما ما أعد لهما فقال { إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسلا } جمع سلسلة بغير تنوين : حفص ومكي وأبو عمرو وحمزة ، وبه ليناسب { أغلالا وَسَعِيراً } إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب : غيرهم { وأغلالا } جمع غُلٍّ { وَسَعِيراً } ناراً موقدة . وقال { إِنَّ الأبرار } جمع بر أو بار كرب وأرباب وشاهد وأشهاد وهم الصادقون في الإيمان أو الذين لا يؤذون الذرّ ولا يضمرون الشر { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } خمر فنفس الخمر تسمى كأساً . وقيل : الكأس الزجاجة إذا كان فيها خمر { كَانَ مِزَاجُهَا } ما تمزج به { كافورا } ماء كافور وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده { عَيْناً } بدل منه { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } أي منها أو الباء زائدة أو هو محمول على المعنى أي يلتذ بها أو يروي بها . وإنما قال أولاً بحرف «من» وثانياً بحرف الباء لأن الكأس مبتدأ شربهم وأول غايته ، وأما العين فيها يمزجون شرابهم فكأنه قيل : يشرب عباد الله بها الخمر { يُفَجّرُونَهَا } يجرونها حيث شاءوا من منازلهم { تَفْجِيرًا } سهلاً لا يمتنع عليهم .
{ يُوفُونَ بالنذر } بما أوجبوا على أنفسهم ، وهو جواب «من» عسى أن يقول : ما لهم يرزقون ذلك؟ والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأن من وفّى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى { ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ } شدائده { مُسْتَطِيراً } منتشراً من استطار الفجر { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ } أي حب الطعام من الاشتهاء والحاجة إليه أو على حب الله { مِسْكِيناً } فقيراً عاجزاً عن الاكتساب { وَيَتِيماً } صغيراً لا أب له { وَأَسِيراً } مأسوراً مملوكاً أو غيره .(3/493)
ثم عللوا إطعامهم فقالوا :
{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله } أي لطلب ثوابه أو هو بيان من الله عز وجل عما في ضمائرهم ، لأن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئاً { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً } هدية على ذلك { وَلاَ شُكُوراً } ثناء وهو مصدر كالشكر { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا } أي إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة ، أو إنا نخاف من ربنا فنتصدق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف { يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } وصف اليوم بصفة أهله من الأشقياء نحو : نهارك صائم . والقمطرير الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه .
{ فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم } صانهم من شدائده { ولقاهم } أعطاهم بدل عبوس الفجار { نَضْرَةً } حسناً في الوجوه { وَسُرُوراً } فرحاً في القلوب { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } بصبرهم على الإيثار . نزلت في علي وفاطمة وفضة جارية لهما ، لما مرض الحسن والحسين رضي الله عنهما نذروا صوم ثلاثة أيام فاستقرض علي رضي الله عنه من يهودي ثلاثة أصوع من الشعير ، فطحنت فاطمة رضي الله عنها كل يوم صاعاً وخبزت فآثروا بذلك ثلاثة عشايا على أنفسهم مسكيناً ويتيماً وأسيراً ولم يذوقوا إلا الماء في وقت الإفطار . { جَنَّةً } بستاناً فيه مأكل هنيء { وَحَرِيراً } ملبساً بهياً { مُتَّكِئِينَ } حال من «هم» في { جزاهم } { فِيهَا } في الجنة { على الأرآئك } الأسرة جمع الأريكة { لاَ يَرَوْنَ } حال من الضمير المرفوع في { مُتَّكِئِينَ } غير رائين { فِيهَا } في الجنة { شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير فظلها دائم وهواؤها معتدل ، لا حر شمس يحمي ولا شدة برد تؤذي . وفي الحديث : " هواء الجنة سجسج لا حر ولا قرّ " فالزمهرير البرد الشديد . وقيل : القمر أي الجنة مضيئة لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها } قريبة منهم ظلال أشجارها عطفت على جنة أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها كأنهم وعدوا بجنتين لأنهم وصفوا بالخوف بقوله : { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا } { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] { وَذُلِّلَتْ } سخرت للقائم والقاعد والمتكىء وهو حال من { دَانِيَةٌ } أي تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها عليهم ، أو معطوفة عليها أي ودانية عليهم ظلالها ومذللة { قُطُوفُهَا } ثمارها جمع قطف .(3/494)
{ تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ } أي يدير عليهم خدمهم كئوس الشراب . والآنية جمع إناء وهو وعاء الماء { وَأَكْوابٍ } أي من فضة جمع كوب وهو إبريق لا عروة له { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ } «كان» تامة أي كونت فكانت قوارير بتكوين الله نصب على الحال { قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ } أي مخلوقة من فضة فهي جامعة لبياض الفضة وحسنها وصفاء القوارير وشفيفها حيث يرى ما فيها من الشراب من خارجها . قال ابن عباس رضي الله عنهما : قوارير كل أرض من تربتها وأرض الجنة فضة . قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بالتنوين فيهما . وحمزة وابن عامر وأبو عمرو وحفص بغير تنوين فيهما . وابن كثير بتنوين الأول والتنوين في الأول لتناسب الآي المتقدمة والمتأخرة ، وفي الثاني لإتباعه الأول . والوقف على الأول قد قيل ولا يوثق به لأن الثاني بدل من الأول { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } صفة ل { قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ } أي أهل الجنة قدروها على أشكال مخصوصة فجاءت كما قدروها تكرمة لهم ، أو السقاة جعلوها على قدر ريّ شاربها فهي ألذ لهم وأخف عليهم . وعن مجاهد : لا تفيض ولا تغيض .
{ وَيُسْقَوْنَ } أي الأبرار { فِيهَا } في الجنة { كَأْساً } خمراً { كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً } بدل من { زَنجَبِيلاً } { فِيهَا } في الجنة { تسمى } تلك العين { سَلْسَبِيلاً } سميت العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها ، والعرب تستلذه وتستطيبه . وسلسبيلاً لسلاسة انحدارها وسهولة مساغها . قال أبو عبيدة : ماء سلسبيل أي عذب طيب .(3/495)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان } غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين ، أو ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدماً لأهل الجنة { مُّخَلَّدُونَ } لا يموتون { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ } لحسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم { لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } وتخصيص المنثور لأنه أزين في النظر من المنظوم { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ } ظرف أي في الجنة وليس ل { رَأَيْت } مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع في كل مرئي تقديره وإذا اكتسبت الرؤية في الجنة { رَأَيْتَ نَعِيماً } كثيراً { وَمُلْكاً كَبِيراً } واسعاً . يروى أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه . وقيل : ملك لا يعقبه هلك ، أو لهم فيها ما يشاؤون أو تسلم عليهم الملائكة ويستأذنون في الدخول عليهم { عاليهم } بالنصب على أنه حال من الضمير في { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ } أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب . وبالسكون : مدني وحمزة على أنه مبتدأ خبره { ثِيَابُ سُندُسٍ } أي ما يعلوهم من ملابسهم ثياب سندس رقيق الديباج .
{ خُضْرٌ } جمع أخضر { وَإِسْتَبْرَقٌ } غليظ يرفعهما حملاً على الثياب : نافع وحفص ، وبجرهما : حمزة وعلي حملاً على { سُندُسٍ } وبرفع الأول وجر الثاني أو عكسه : غيرهم { وَحُلُّواْ } عطف على { وَيَطُوفُ } { أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } وفي سورة «الملائكة» : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } [ الحج : 23 ] . قال ابن المسيب : لا أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة : واحدة من فضة وأخرى من ذهب وأخرى من لؤلؤ . { وسقاهم رَبُّهُمْ } أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص . وقيل : إن الملائكة يعرضون عليهم الشراب فيأبون قبوله منهم ويقولون : لقد طال أخذنا من الوسائط فإذا هم بكاسات تلاقي أفواههم بغير أكف من غيب إلى عبد { شَرَاباً طَهُوراً } ليس برجس كخمر الدنيا لأن كونها رجساً بالشرع لا بالعقل ولا تكليف ثم ، أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة يقال لأهل الجنة { إِنَّ هَذَا } النعيم { كَانَ لَكُمْ جَزَاءً } لأعمالكم { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } محموداً مقبولاً مرضياً عندنا حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً .
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً } تكرير الضمير بعد إيقاعه اسماً لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليستقر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله مفرقاً إلا حكمة وصواباً ومن الحكمة الأمر بالمصابرة { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } عليك بتبليغ الرسالة واحتمال الأذية وتأخير نصرتك على أعدائك من أهل مكة { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ } من الكفرة للضجر من تأخير الظفر { ءَاثِماً } راكباً لما هوى إثم داعياً لك إليه { أَوْ كَفُوراً } فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه ، لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل ما هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر ، فنهى أن يساعدهم على الأولين دون الثالث .(3/496)
وقيل : الآثم عتبة لأنه كان ركاباً للمآثم والفسوق . والكفور : الوليد لأنه كان غالياً في الكفر والجحود . والظاهر أن المراد كل آثم وكافر أي لا تطع أحدهما ، وإذا نهي عن طاعة أحدهما لا بعينه فقد نهى عن طاعتهما معاً ومتفرقاً . ولو كان بالواو لجاز أن يطيع أحدهما لأن الواو للجمع فيكون منهياً عن طاعتهما معاً لا عن طاعة أحدهما ، وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه كان عن طاعتهما جميعاً أنهى . وقيل : «أو» بمعنى «ولا» أي ولا تطع آثماً ولا كفوراً { واذكر اسم رَبِّكَ } صلِّ له { بُكْرَةً } صلاة الفجر { وَأَصِيلاً } صلاة الظهر والعصر .
{ وَمِنَ اليل فاسجد لَهُ } وبعض الليل فصّل صلاة العشاءين { وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } أي تهجد له هزيعاً طويلاً من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه .
{ إِنَّ هَؤُلآء } الكفرة { يُحِبُّونَ العاجلة } يؤثرونها على الآخرة { وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ } قدامهم أو خلف ظهورهم { يَوْماً ثَقِيلاً } شديداً لا يعبئون به وهو القيامة لأن شدائده تثقل على الكفار { نَّحْنُ خلقناهم وَشَدَدْنَا } أحكمنا { أَسْرَهُمْ } خلقهم عن ابن عباس رضي الله عنهما والفراء { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً } أي إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في الخلقة ممن يطيع { إِنَّ هذه } السورة { تَذْكِرَةٌ } عظة { فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } بالتقرب إليه بالطاعة له واتباع رسوله { وَمَا تَشَاءُونَ } اتخاذ السبيل إلى الله . وبالياء : مكي وشامي وأبو عمرو . ومحل { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } النصب على الظرف أي إلا وقت مشيئة الله ، وإنما يشاء الله ذلك ممن علم منه اختياره ذلك . وقيل : هو لعموم المشيئة في الطاعة والعصيان والكفر والإيمان فيكون حجة لنا على المعتزلة { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بما يكون منهم من الأحوال { حَكِيماً } مصيباً في الأقوال والأفعال { يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ } وهم المؤمنون { فِى رَحْمَتِهِ } جنته لأنها برحمته تنال وهو حجة على المعتزلة لأنهم يقولون قد شاء أن يدخل كلاً في رحمته لأنه شاء إيمان الكل ، والله تعالى أخبر أنه يدخل من يشاء في رحمته وهو الذي علم منه أنه يختار الهدى { والظالمين } الكافرين لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها ونصب بفعل مضمر يفسره { أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } نحو : أوعد وكافأ .(3/497)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
مكية وهي خمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والمرسلات عُرْفاً * فالعاصفات عَصْفاً * والناشرات نَشْراً * فالفارقات فَرْقاً * فالملقيات ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً } أقسم سبحانه وتعالى بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره فعصفن في مضيهن ، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي ، أو نشرن الشرائع في الأرض ، أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أو حين ففرقن بين الحق والباطل ، فألقين ذكراً إلى الأنبياء عليهم السلام عذراً للمحقين أو نذراً للمبطلين . أو أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن ، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه كقوله { ويجعله كِسَفًا } [ الروم : 48 ] فألقين ذكراً إما عذراً للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها ، واما نذراً للذين لا يشكرون وينسبون ذلك إلى الأنواء ، وجعلن ملقيات للذكر باعتبار السببية . { عُرْفاً } حال أي متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضه بعضاً ، أو مفعول له أي أرسلن للإحسان والمعروف . و { عَصْفاً } و { نَشْراً } مصدران . { أَوْ نُذْراً } أبو عمرو وكوفي غير أبي بكر وحماد . والعذر والنذر مصدران من عذر إذا محا الإساءة ، ومن أنذر إذا خوف على فعل كالكفر والشكر . وانتصابهما على البدل من { ذِكْراً } أو على المفعول له .
{ إِنَّمَا تُوعَدُونَ } إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة { لَوَاقِعٌ } لكائن نازل لا ريب فيه ، وهو جواب القسم ولا وقف إلى هنا لوصل الجواب بالقسم { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } محيت أو ذهب بنورها وجواب { فَإِذَا } محذوف والعامل فيها جوابها وهو وقوع الفصل ونحوه ، و { النجوم } فاعل فعل يفسره { طُمِسَتْ } { وَإِذَا السماء فُرِجَتْ } فتحت فكانت أبواباً { وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ } قلعت من أماكنها { وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ } أي وقتت كقراءة أبي عمرو أبدلت الهمزة من الواو ، ومعنى توقيت الرسل تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } أخرت وأمهلت ، وفيه تعظيم لليوم وتعجيب من هوله والتأجيل من الأجل كالتوقيت من الوقت { لِيَوْمِ الفصل } بيان ليوم التأجيل وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل } تعجيب آخر وتعظيم لأمره { وَيْلٌ } مبتدأ وإن كان نكرة لأنه في أصله مصدر منصوب ساد مسد فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه { سلام عَلَيْكُمُ } [ الرعد : 24 ] { يَوْمَئِذٍ } ظرفه { لّلْمُكَذِّبِينَ } بذلك اليوم خبره .
{ أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين } الأمم الخالية المكذبة { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين } مستأنف بعد وقف ، وهو وعيد لأهل مكة أي ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم .(3/498)
{ كذلك } مثل ذلك الفعل الشنيع { نَفْعَلُ بالمجرمين } بكل من أجرم { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بما أوعدنا { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاءٍ مَّهِينٍ } حقير وهو النطفة { فجعلناه } أي الماء { فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ } مقر يتمكن فيه وهو الرحم ومحل { إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } الحال أي مؤخر إلى مقدار من الوقت معلوم قد علمه الله وحكم به وهو تسعة أشهر أو ما فوقها أو ما دونها { فَقَدَّرْنَا } فقدرنا ذلك تقديراً { فَنِعْمَ القادرون } فنعم المقدرون له نحن أو فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن ، والأول أحق لقراءة نافع وعلي بالتشديد ، ولقوله { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [ عبس : 19 ] { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بنعمة الفطرة .(3/499)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
{ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً } هو كفت الشيء إذا ضمه وجمعه وهو اسم ما يكفت كقولهم الضمام لما يضم وبه انتصب { أَحْيَاءً وأمواتا } كأنه قيل : كافتة أحياء وأمواتاً ، أو بفعل مضمر يدل عليه { كِفَاتاً } وهو تكفت أي تكفت أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها ، والتنكير فيهما للتفخيم أي تكفت أحياء لا يعدون وأمواتاً لا يحصرون { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ } جبالاً ثوابت { شامخات } عاليات { وأسقيناكم مَّاءً فُرَاتاً } عذاباً { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بهذه النعمة { انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي يقال للكافرين يوم القيامة سيروا إلى النار التي كنتم بها تكذبون { انطلقوا } تكرير للتوكيد { إلى ظِلٍّ } دخان جهنم { ذِى ثلاث شُعَبٍ } يتشعب لعظمه ثلاث شعب وهكذا الدخان العظيم يتفرق ثلاث فرق { لاَّ ظَلِيلٍ } نعت ظل أي لا مظل من حر ذلك اليوم وحر النار { وَلاَ يُغْنِى } في محل الجر أي وغير مغنٍ لهم { مِنَ اللهب } من حر اللهب شيئاً { إِنَّهَا } أي النار { تَرْمِى بِشَرَرٍ } هو ما تطاير من النار { كالقصر } في العظم . وقيل : هو الغليظ من الشجر الواحدة قصرة { كَأَنَّهُ جمالت } كوفي غير أبي بكر جمع جمل جمالات غيرهم جمع الجمع { صُفْرٌ } جمع أصفر أي سود تضرب إلى الصفرة ، وشبه الشرر بالقصر لعظمه وارتفاعه ، وبالجمال للعظم والطول واللون { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بأن هذه صفتها .
{ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } وقرىء بنصب اليوم أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ ، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية وعن قوله { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [ الزمر : 31 ] فقال : في ذلك اليوم مواقف في بعضها يختصمون وفي بعضها لا ينطقون . أو لا ينطقون بما ينفعهم فجعل نطقهم كلا نطق .
{ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ } في الاعتذار { فَيَعْتَذِرُونَ } عطف على { يُؤْذَنُ } منخرط في سلك النفي أي لا يكون لهم إذن واعتذار { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بهذا اليوم { هذا يَوْمُ الفصل } بين المحق والمبطل والمحسن والمسيء بالجزاء { جمعناكم } يا مكذبي محمد { والأولين } والمكذبين قبلكم { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ } حيلة في دفع العذاب { فَكِيدُونِ } فاحتالوا عليّ بتخليص أنفسكم من العذاب . والكيد متعدٍ تقول : كدت فلاناً إذا احتلت عليه { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بالبعث .
{ إِنَّ المتقين } من عذاب الله { فِى ظلال } جمع ظل { وَعُيُونٍ } جارية في الجنة { وفواكه مِمَّا يَشْتَهُونَ } أي لذيذة مشتهاة { كُلُواْ واشربوا } في موضع الحال من ضمير { المتقين } في الظرف الذي هو { فِى ظلال } أي هم مستقرون في ظلال مقولاً لهم ذلك { هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } فأحسنوا تجزوا بهذا { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ } بالجنة { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ } كلام مستأنف خطاب للمكذبين في الدنيا على وجه التهديد كقوله :(3/500)
{ اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] { قَلِيلاً } لأن متاع الدنيا قليل { إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } كافرون أي إن كل مجرى يأكل ويتمتع أياماً قلائل ثم يبقى في الهلاك الدائم { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } بالنعم { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا } اخشعوا لله وتواضعوا إليه بقبول وحيه واتباع دينه ودعوا هذا الاستكبار { لاَ يَرْكَعُونَ } لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على استكبارهم ، أو إذا قيل لهم صلوا لا يصلون { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } بالأمر والنهي { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ } بعد القرآن { يُؤْمِنُونَ } أي إن لم يؤمنوا بالقرآن مع أنه آية مبصرة ومعجزة باهرة من بين الكتب السماوية فبأي كتاب بعده يؤمنون؟! والله أعلم .(4/1)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
مكية وهي أربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ عَمَّ } أصله «عن ما» وقرىء بها ، ثم أدغمت النون في الميم فصار «عما» وقرىء بها ، ثم حذفت الألف تخفيفاً لكثرة الاستعمال في الاستفهام وعليه الاستعمال الكثير ، وهذا استفهام تفخيم للمستفهم عنه لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية { يَتَسَاءلُونَ } يسأل بعضهم بعضاً أو يسألون غيرهم من المؤمنين ، والضمير لأهل مكة كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث ويسألون المؤمنين عنه على طريق الاستهزاء { عَنِ النبإ العظيم } أي البعث وهو بيان للشأن المفخم وتقديره : عم يتساءلون يتساءلون عن النبإ العظيم { الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } فمنهم من يقطع بإنكاره ومنهم من يشك . وقيل : الضمير للمسلمين والكافرين وكانوا جيعاً يتساءلون عنه ، فالمسلم يسأل ليزداد خشية ، والكافر يسأل استهزاء { كَلاَّ } ردع عن الاختلاف أو التساؤل هزؤاً { سَيَعْلَمُونَ } وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون عياناً أن ما يستاءلون عنه حق { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } كرر الردع للتشديد و«ثم» يشعر بأن الثاني أبلغ من الأول وأشد .
{ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض } لما أنكروا البعث . قيل لهم : ألم يخلق من أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة فلم تنكرون قدرته على البعث وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات؟ أو قيل لهم : لم فعل هذه الأشياء والحكيم لا يفعل عبثاً وإنكار البعث يؤدي إلى أنه عابث في كل ما فعل؟ { مهادا } فراشاً فرشناها لكم حتى سكنتموها { والجبال أَوْتَاداً } للأرض لئلا تيمد بكم { وخلقناكم أزواجا } ذكر أو أنثى { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } قطعاً لأعمالكم وراحة لأبدانكم والسبت القطع { وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً } ستراً يستركم عن العيون إذا أردتم إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه { وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } وقت معاش تتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً } سبع سموات { شِدَاداً } جمع شديدة أي محكمة قوية لا يؤثّر فيها مرور الزمان أو غلاظاً غلظ كل واحدة مسيرة خمسمائة عام { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } مضيئاً وقّاداً أي جامعاً للنور والحرارة والمراد الشمس { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات } أي السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر ، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض ، أو الرياح لأنها تنشىء السحاب وتدر أحلافه فيصح أن تجعل مبدأ للإنزال ، وقد جاء أن الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب { مَاءً ثَجَّاجاً } منصباً بكثرة { لِّنُخْرِجَ بِهِ } بالماء { حَبّاً } كالبر والشعير { وَنَبَاتاً } وكلأ { وجنات } بساتين { أَلْفَافاً } ملتفة الأشجار واحدها لف كجذع وأجذاع ، أو لفيف كشريف وأشراف ، أو لا واحد له كأوزاع ، أو هي جمع الجمع فهي جمع لف واللف جمع لفاء وهي شجرة مجتمعة .(4/2)
ولا وقف من { أَلَمْ نَجْعَلِ } إلى { أَلْفَافاً } الوقف الضروري على { أَوْتَاداً } و { مَعَاشاً } .
{ إِنَّ يَوْمَ الفصل } بين المحسن والمسيء والمحق والمبطل { كَانَ ميقاتا } وقتاً محدوداً ومنتهى معلوماً لوقوع الجزاء أو ميعاداً للثواب والعقاب .
{ يَوْمَ يُنفَخُ } بدل من { يَوْمُ الفصل } أو عطف بيان { فِى الصور } في القرن { فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } حال أي جماعات مختلفة أو أمماً كل أمة مع رسولها { وَفُتِحَتِ السماء } خفيف : كوفي أي شقت لنزول الملائكة { فَكَانَتْ أبوابا } فصارت ذات أبواب وطرق وفروج ومالها اليوم من فروج { وَسُيِّرَتِ الجبال } عن وجه الأرض { فَكَانَتْ سَرَاباً } أي هباء تخيّل الشمس أنه ماء { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } طريقاً عليه ممر الخلق فالمؤمن يمر عليها والكافر يدخلها . وقيل : المرصاد الحد الذي يكون فيه الرصد أي هي حد الطاغين الذين يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم ، أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها لأن مجازهم عليها { للطاغين مَئَاباً } للكافرين مرجعاً { لابثين } ماكثين حال مقدرة من الضمير في { للطاغين } حمزة { لَّبِثِينَ } واللبث أقوى إذ اللابث من وجد منه اللبث وإن قل ، واللبث من شأنه اللبث والمقام في المكان { فِيهَا } في جهنم { أَحْقَاباً } ظرف جمع حقب وهو الدهر ولم يرد به عدد محصور بل الأبد كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية ، ولا يستعمل الحقب والحقبة إلا إذا أريد تتابع الأزمنة وتواليها . وقيل : الحقب ثمانون سنة . وسئل بعض العلماء عن هذه الآية فأجاب بعد عشرين سنة { لابثين فِيهَا أَحْقَاباً } .
{ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } أي غير ذائقين حال من ضمير { لابثين } فإذا انقضت هذه الأحقاب التي عذبوا فيها بمنع البرد والشراب بدلوا بأحقاب أخر فيها عذاب آخر وهي أحقاب بعد أحقاب لا انقطاع لها . وقيل : هو من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه حقاب فينتصب حالاً عنهم أي لابثين فيها حقبين جهدين و { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } تفسير له . وقوله { إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } استثناء منقطع أي { لاَ يَذُوقُونَ } في جهنم أو في الأحقاب { بَرْداً } روْحاً ينفس عنهم حر النار أو نوماً ومنه منع البرد البرد ، { وَلاَ شَرَاباً } يسكن عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً ماء حاراً يحرق ما يأتي عليه { وَغَسَّاقاً } ماء يسيل من صديدهم . وبالتشديد : كوفي غير أبي بكر { جَزَاءً } جوزوا جزاء { وفاقا } موافقاً لأعمالهم مصدر بمعنى الصفة أو ذا وفاق . ثم استأنف معللاً فقال { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } لا يخافون محاسبة الله إياهم أو لم يؤمنوا بالبعث فيرجوا حساباً { وَكَذَّبُواْ بئاياتنا كِذَّاباً } تكذيباً وفعّال في باب فعّل كله فاش { وَكُلَّ شىْءٍ } نصب بمضمر يفسره { أحصيناه كتابا } مكتوباً في اللوح حال أو مصدر في موضع إحصاء ، أو أحصيناً في معنى كتبنا لأن الاحصاء يكون بالكتابة غالباً . وهذه الآية اعتراض لأن قوله { فَذُوقُواْ } مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات أي فذوقوا جزاءكم والالتفات شاهد على شدة الغضب { فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } في الحديث " هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار» . "(4/3)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } مفعل من الفوز يصلح مصدراً أي نجاة من كل مكروه وظفراً بكل محبوب ويصلح للمكان وهو الجنة . ثم أبدل منه بدل البعض من الكل فقال { حَدَائِقَ } بساتين فيها أنواع الشجر المثمر جمع حديقة { وأعنابا } كروماً عطف على { حَدَائِقَ } { وَكَوَاعِبَ } نواهد { أَتْرَاباً } لدات مستويات في السن { وَكَأْساً دِهَاقاً } مملوءة .
{ لاّ يسمعون فيها } في الجنة حال من ضمير خبر «إن» { لغواً } باطلاً { ولا كِذَّاباً } الكسائي : خفيف بمعنى مكاذبة أي لا يكذب بعضهم بعضاً ولا يكاذبه { جزاءً } مصدر أي جزاهم جزاء { مّن رَّبِّكَ عطاءً } مصدر أو بدل من { جزاء } { حساباً } صفة يعني كافياً أو على حسب أعمالهم { رّبِّ السّماواتِ والأرضِ وما بينهما الرّحمنِ } بجرهما : ابن عامر وعاصم بدلاً من { ربك } ومن رفعهما ف { رب } خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره { الرحمن } أو { الرحمن } صفته و { لا يملكون } خبر ، أو هما خبران والضمير في { لا يملكونَ } لأهل السماوات والأرض ، وفي { منه خطاباً } لله تعالى أي لا يملكون الشفاعة من عذابه تعالى إلا بإذنه أو لا يقدر أحد أن يخاطبه تعالى خوفاً { يومَ يقومُ } إن جعلته ظرفاً ل { لا يملكون } لا تقف على { خطاباً } وإن جعلته ظرفاً ل { لا يتكلمون } تقف { الرُّوحُ } جبريل عند الجمهور وقيل هو ملك عظيم ما خلق الله تعالى بعد العرش خلقاً أعظم منه { والملائكة صَفَّاً } حال أي مصطفين { لاّ يتكلّمون } أي الخلائق ثم خوفاً من { إلاّ من أذن له الرَّحمانُ } في الكلام أو الشفاعة { وقال صواباً } حقاً بأن قال المشفوع له لا إله إلا الله في الدنيا أو لا يؤذن إلا لمن يتكلم بالصواب في أمر الشفاعة .
{ ذلك اليوم الحقُّ } الثابت وقوعه { فمن شاءَ اتّخَذَ إلى ربّه مئاباً } مرجعاً بالعمل الصالح { إنّا أنذرناكم } أيها الكفار { عذاباً قريباً } في الآخرة لأن ما هو آتٍ قريب { يَوْمَ ينظُرُ المرءُ } الكافر لقوله : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } { ما قدّمت يداه } من الشر لقوله : { وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم } [ الأنفال : 50-51 ] . وتخصيص الأيدي لأن أكثر الأعمال تقع بها وإن احتمل أن لا يكون للأيدي مدخل فيما ارتكب من الآثام { وَيقولُ الكَافِرُ } وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة الذم ، أو المرء عام وخص منه الكافر وما قدمت يداه ما عمل من خير وشر ، أو هو المؤمن لذكر الكافر بعده وما قدم من خير . و«ما» استفهامية منصوبة ب { قدمت } أي ينظر أي شيء قدمت يداه ، أو موصولة منصوبة ب { ينظر } يقال : نظرته يعني نظرت إليه والراجع من الصلة محذوف أي ما قدمته { يا ليتني كنت تراباً } في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف أوليتني كنت تراباً في هذا اليوم فلم أبعث . وقيل : يحشر الله الحيوان غير المكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ثم يرده تراباً ، فيود الكافر حاله . وقيل : الكافر إبليس يتمنى أن يكون كآدم مخلوقاً من التراب ليثاب ثواب أولاده المؤمنين ، والله أعلم .(4/4)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
ست وأربعون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والنّازعات غَرْقاً* والنّاشطاتِ نشطاً* والسّابحاتِ سبحاً* فالسّابقاتِ سبقاً* فالمدبّرات أمراً } لا وقف إلى هنا . ولزم هنا لأنه لو وصل لصار { يوم } ظرف { المدبرات } وقد انقضى تدبير الملائكة في ذلك اليوم . أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد غرقاً أي إغراقاً في النزع أي تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها ومواضع أظفارها ، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم كما رسم لهم . أو بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب ، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب من قولك ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد ، والتي تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر ، وإسناد التدبير إليها لأنها من أسبابه . أو بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب ، وإغراقها في النزع أن تقطع الفلك كله حتى تنحط في أقصى الغرب ، والتي تخرج من برج إلى برج والتي تسبح في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمراً من علم الحساب . وجواب القسم محذوف وهو «لتبعثن» لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة .
{ يوم تَرْجُفُ } تتحرك حركة شديدة والرجف شدة الحركة { الرَّاجِفَةُ } النفخة الأولى وصفت بما يحدث بحدوثها لأنها تضطرب بها الأرض حتى يموت كل من عليها { تَتْبَعُهَا } حال عن الراجفة { الرَّادِفَةُ } النفخة الثانية لأنها تردف الأولى وبينهما أربعون سنة ، والأولى تميت الخلق والثانية تحييهم { قلوبٌ يومئذٍ } قلوب منكري البعث { وَاجِفَةٌ } مضطربة من الوجيب وهو الوجيف . وانتصاب { يوم ترجف } بما دل عليه { قلوب يومئذ واجفة } أي يوم ترجف وجفت القلوب ، وارتفاع { قلوب } بالابتداء و { واجفة } صفتها { أبصارُها } أي أبصار أصحابها { خاشِعَةٌ } ذليلة لهول ما ترى حبرها { يقولونَ } أي منكرو البعث في الدنيا استهزاء وإنكاراً للبعث { أَءِنَّا لمردودون في الحافرةِ } استفهام بمعنى الإنكار أي أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر فنعود أحياء كما كنا؟ والحافرة الحالة الأولى يقال لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه : رجع إلى حافرته أي إلى حالته الأولى . ويقال : النقد عند الحافرة أي عند الحالة الأولى ، وهي الصفقة أنكروا البعث . ثم زادوا استبعاداً فقالوا { أَءِذا كنا عظاماً نَّخِرَةً } بالية { ناخرة } : كوفي غير حفص . وفَعِلَ أبلغ من فاعل يقال : نخر العظم فهو نخر وناخر . والمعنى أنرد إلى الحياة بعد أن صرنا عظاماً بالية؟ و«إذا» منصوب بمحذوف وهو «نبعث» { قالوا } أي منكرو البعث { تِلْكَ } رجعتنا { إذاً كَرَّةٌ خاسرةٌ } رجعة ذات خسران أو خاسر أصحابها ، والمعنى أنها إن صحت وبعثنا فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها وهذا استهزاء منهم { فَإِنَّما هي زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } متعلق بمحذوف أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله عز وجل فإنها سهلة هينة في قدرته فما هي إلا صيحة واحدة يريد النفخة الثانية من قولهم : زجر البعير إذا صاح عليه { فإذا هم بالسَّاهِرةِ } فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعدما كانوا أمواتاً في جوفها . وقيل : الساهرة أرض بعينها بالشأم إلى جنب بيت المقدس أو أرض مكة أو جهنم .(4/5)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
{ هل أتاك حديث موسى } استفهام يتضمن التنبيه على أن هذا مما يجب أن يشيع والتشريف للمخاطب به { إذ ناداه رَبُّهُ } حين ناداه { بالوَادِ المقَدَّسِ } المبارك المطهر { طوًى } اسمه { اذهب إلى فرعون } على إرادة القول { إنَّهُ طغى } تجاوز الحد في الكفر والفساد .
{ فقل هل لّك إلى أن تزكى } هل لك ميل إلى أن تتطهر من الشرك والعصيان بالطاعة والإيمان . وبتشديد الزاي : حجازي { وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ } وأرشدك إلى معرفة الله بذكر صفاته فتعرفه { فتخشى } لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال الله تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] أي العلماء به . وعن بعض الحكماء : اعرف الله فمن عرف الله لم يقدر أن يعصيه طرفة عين . فالخشية ملاك الأمور من خشي الله أتى منه كل خير ، ومن آمن اجترأ على كل شر . ومنه الحديث « من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل » بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه باللطف في القول ويستنزله بالمداراة عن عتوه كما أمر بذلك في قوله تعالى : { فقولا له قولاً ليناً } [ طه : 44 ] { فأراه الآية الكبرى } أي فذهب فأرى موسى فرعون العصا أو العصا واليد البيضاء لأنهما في حكم آية واحدة { فَكَذَّبَ } فرعون بموسى والآية الكبرى وسماهما ساحراً وسحراً { وعصى } الله تعالى { ثمّ أدْبَرَ } تولى عن موسى { يسعى } يجتهد في مكايدته ، أو لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسرع في مشيته وكان طيّاشاً خفيفاً { فَحَشَرَ } فجمع السحرة وجنده { فنادى } في المقام الذي اجتمعوا فيه معه { فقال أنا ربّكم الأعلى } لا رب فوقي وكانت لهم أصنام يعبدونها { فأخذه الله نكال الآخرة } عاقبة الله عقوبة الآخرة والنكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم . ونصبه على المصدر لأن أخذ بمعنى نكل كأنه قيل : نكل الله به نكال الآخرة أي الإحراق { والأولى } أي الإغراق ، أو نكال كلمتيه الآخرة وهي { أنا ربكم الأعلى } والأولى وهي { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] وبينهما أربعون سنة أو ثلاثون أو عشرون { إنّ في ذلك } المذكور { لَعِبْرَةً لّمن يخشى } الله .
{ ءَأنتُمْ } يا منكري البعث { أشَدُّ خَلْقاً } أصعب خلقاً وإنشاء { أم السَّمَاءُ } مبتدأ محذوف الخبر أي أم السماء أشد خلقاً . ثم بين كيف خلقها فقال { بناها } أي الله . ثم بين البناء فقال { رَفَعَ سَمْكَهَا } أعلى سقفها . وقيل : جعل مقدار ذهابها في سمت العلو رفيعاً مسيرة خمسمائة عام { فسواها } فعدلها مستوية بلا شقوق ولا فطور { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } أظلمه { وأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أبرز ضوء شمسها ، وأضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلمتها والشمس سراجها { والأَرْضَ بَعْدَ ذلك دَحَاهَا } بسطها وكانت مخلوقة غير مدحوة فدحيت من مكة بعد خلق السماء بألفي عام .(4/6)
ثم فسر البسط فقال { أَخْرَجَ منها مَاءَها } بتفجير العيون { ومَرْعَاهَا } كلأها ولذا لم يدخل العاطف على { أخرج } أو { أخرج } حال بإضمار «قد» .
{ والجبال أرساها } أثبتها وانتصاب الأرض والجبال بإضمار دحاً وأرسى على شريطة التفسير { متاعاً لَّكُمَ ولأنعامِكُمْ } فعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعماكم { فإذا جاءتِ الطَّامَّةُ الكبرى } الداهية العظمى التي تطم على الدواهي أي تعلو وتغلب وهي النفخة الثانية ، أو الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار .
{ يوم يَتَذَكَّرُ الإنسانُ } بدل من { إذا جاءت } أي إذا رأى أعماله مدونة في كتابه يتذكرها وكان قد نسيها { ما سعى } مصدرية أي سعيه أو موصولة { وبُرِّزَتِ الجحيم } وأظهرت { لمن يرى } لكل راء لظهورها ظهوراً بيناً .
{ فأمّا } جواب { فإذا } أي إذا جاءت الطامة فإن الأمر كذلك { من طغى } جاوز الحد فكفر { وَءَاثَرَ الحَياةَ الدُّنْيَا } على الآخرة باتباع الشهوات { فإن الجَحِيمَ هِيَ المأوى } المرجع أي مأواه ، والألف واللام بدل من الإضافة وهذا عند الكوفيين ، وعند سيبويه وعند البصريين هي المأوى له { وأمّا من خاف مَقَامَ رَبِّهِ } أي علم أن له مقاماً يوم القيامة لحساب ربه { ونهى النَّفْسَ } الأمارة بالسوء { عن الهوى } المؤذي أي زجرها عن اتباع الشهوات . وقيل : هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها ، والهوى ميل النفس إلى شهواتها { فإنّ الجَنَّةَ هِيَ المأوى } أي المرجع { يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أيَّانَ مُرْسَاهَا } متى إرساؤها أي إقامتها يعني متى يقيمها الله تعالى ويثبتها { فِيمَ أنتَ مِن ذِكْرَاهَآ } في شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به أي ما أنت من ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء كقولك : ليس فلان من العلم في شيء . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت ، فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها أي أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها .
{ إلى رَبِّكَ مُنتَهَاها } منتهى علمها متى تكون لا يعلمها غيره ، أو فيم إنكار لسؤالهم عنها أي فيم هذا السؤال . ثم قال { أنت من ذكراها } أي إرسالك وأنت آخر الأنبياء علامة من علاماتها فلا معنى لسؤالهم عنها ، ولا يبعد أن يوقف على هذا على { فيم } وقيل { فيم أنت من ذكراها } متصل بالسؤال أي يسألونك عن الساعة أيان مرساها ويقولون أين أنت من ذكراها . ثم استأنف فقال { إلى ربك منتهاها } { إنّما أنت منذر من يخشاها } أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يخاف شدائدها . { منذر } منون : يزيد وعباس { كَأنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا } أي الساعة { لم يَلْبَثُوا } في الدنيا { إلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } أي ضحى العشية استقلوا مدة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من الهول كقوله : { لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } [ الأحقاف : 35 ] [ يونس : 45 ] وقوله : { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } [ الكهف : 19 ] [ المؤمنون : 113 ] وإنما صحت إضافة الضحى إلى العشية للملابسة بينهما لاجتماعهما في نهار واحد ، والمراد أن مدة لبثهم لم تبلغ يوماً كاملاً ولكن أحد طرفي النهار عشيته أو ضحاه ، والله أعلم .(4/7)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
{ عَبَسَ } كلح أي النبي صلى الله عليه وسلم { وَتَوَلَّى } أعرض { أن جَاءَهُ } لأن جاءه ومحله نصب لأنه مفعول له ، والعامل فيه { عبس } أو تولى على اختلاف المذهبين { الأعمى } عبد الله بن أم مكتوم ، وأم مكتوم أم أبيه ، وأبوه شريح بن مالك ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو أشراف قريش إلى الإسلام فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه بعدها ويقول : " مرحباً بمن عاتبني فيه ربي " واستخلفه على المدينة مرتين { وما يدريك } وأي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى { لعلّه يزكى } لعل الأعمى يتطهر بما يسمع منك من دنس الجهل . وأصله يتزكى فأدغمت التاء في الزاي ، وكذا { أو يَذَّكَّرُ } يتعظ { فَتَنفَعَهُ } نصبه عاصم غير الأعشى جواباً ل «لعل» وغيره رفعه عطفاً على { يذكر } { الذكرى } ذكراك أي موعظتك أي أنك لا تدري ما هو مترقب منه من ترك ، أو تذكر ولو دريت لما فرط ذلك منك .
{ أمّا مَنِ استغنى } أي من كان غنياً بالمال { فأَنتَ لَهُ تصدى } تتعرض بالإقبال عليه حرصاً على إيمانه { تصدى } بإدغام التاء في الصاد : حجازي { وما عليك ألاّ يزّكّى } وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام إن عليك إلا البلاغ { وأمّا من جاءَكَ يسعى } يسرع في طلب الخير { وهو يخشى } الله أو الكفار أي أذاهم في إتيانك أو الكبوة كعادة العميان { فأنت عنه تلهّى } تتشاغل وأصله تتلهى . ورُوي أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط ولا تصدى لغني . ورُوي أن الفقراء في مجلس الشورى كانوا أمراء . { كَلاَّ } ردع أي لا تعد إلى مثله { إنَّها } إن السورة أو الآيات { تذكرةٌ } موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها { فمن شاء ذكره } فمن شاء أن يذكره ذكره . أو ذكر الضمير لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ ، والمعنى فمن شاء الذكر ألهمه الله تعالى إياه { في صُحُفٍ } صفة ل { تذكرة } أي أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هي في صحف { مُّكَرَّمَةٍ } عند الله { مَّرْفُوعَةٍ } في السماء أو مرفوعة القدر والمنزلة { مُّطَهَّرَةٍ } عن مس غير الملائكة أو عما ليس من كلام الله تعالى { بأيدي سفرةٍ } كتبة جمع سافر أي الملائكة ينتسخون الكتب من اللوح { كِرَامٍ } على الله أو عن المعاصي { بررةٍ } أتقياء جمع بار .
{ قتل الإنسَانُ } لعل الكافر أو هو أمية أو عتبة { ما أكْفَرَهُ } استفهام توبيخ أي أي شيء حمله على الكفر ، أو هو تعجب أي ما أشد كفره { مِنْ أيِّ شيءٍ خَلَقَهُ } من أي حقير خلقه! وهو استفهام ومعناه التقرير .(4/8)
ثم بين ذلك الشيء فقال { مِن نُّطفةٍ خلقه فَقَدَّرَهُ } على ما يشاء من خلقه .
{ ثمّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ } نصب السبيل بإضمار يسر أي ثم سهل له سبيل الخروج من بطن أمه أو بين له سبيل الخير والشر { ثمّ أمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } جعله ذا قبر يواري فيه لا كالبهائم كرامة له قبر الميت دفنه وأقبره الميت أمره بأن يقبره ومكنه منه { ثمّ إذا شاء أنشره } أحياه بعد موته { كَلاَّ } ردع للإنسان عن الكفر { لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ } لم يفعل هذا الكافر ما أمره الله به من الإيمان .
ولما عدد النعم في نفسه من ابتداء حدوثه إلى آن انتهائه أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه فقال { فلينظر الإنسان إلى طعامه } الذي يأكله ويحيا به كيف دبرنا أمره { أَنَّا } بالفتح : كوفي على أنه بدل اشتمال من الطعام ، وبالكسر على الاستئناف : غيرهم { صَبَبْنَا الماءَ صبًّا } يعني المطر من السحاب { ثمّ شققنا الأرض شقًّا } بالنبات { فأنبتنا فيها حبًّا } كالبر والشعير وغيرهما مما يتغذى به { وعنباً } ثمرة الكرم أي الطعام والفاكهة { وَقَضْباً } رطبة سمي بمصدر قضبه أي قطعه لأنه يقضب مرة بعد مرة { وزيتوناً وَنَخْلاً وحدائِقَ } بساتين { غُلْباً } غلاظ الأشجار جمع غلباء { وفاكهةً } لكم { وأبًّا } مرعى لدوابكم { مَّتَاعاً } مصدر أي منفعة { لّكم ولأنعامكم فإذا جاءت الصَّاخَّةُ } صيحة القيامة لأنها تصخ الآذان أي تصمها وجوابه محذوف لظهوره { يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وأُمِّهِ وأَبِيهِ } لتبعات بينه وبينهم أو لاشتغاله بنفسه { وصاحِبَتِهِ } وزوجته { وَبَنِيهِ } بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أحب . قيل : أول من يفر من أخيه هابيل ، ومن أبويه إبراهيم ، ومن صاحبته نوح ولوط ، ومن ابنه نوح { لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنهُمْ يَوْمَئذٍ شَأْنٌ } في نفسه { يُغنِيهِ } يكفيه في الاهتمام به ويشغله عن غيره .
{ وجوهٌ يومئذٍ مُّسْفِرَةٌ } مضيئة من قيام الليل أو من آثار الوضوء { ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } أي أصحاب هذه الوجوه وهم المؤمنون ضاحكون مسرورون { ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرةٌ } غبار { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } يعلو الغبرة سواد كالدخان ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه { أولئك } أهل هذه الحالة { هُمُ الْكَفَرَةُ } في حقوق الله { الفَجَرَةُ } في حقوق العباد ، ولما جمعوا الفجور إلى الكفر جمع إلى سواد وجوههم الغبرة ، والله أعلم .(4/9)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
مكية وهي تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إذا الشّمس كُوِّرَتْ } ذهب بضوئها من كورت العمامة إذا لفقتها أي يلف ضوءها لفاً فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق . وارتفاع { الشمس } بالفاعلية ورافعها فعل مضمر يفسره { كورت } لأن «إذا» يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط { وإذا النّجوم انكدرت } تساقطت { وإذا الجبال سُيِّرَت } عن وجه الأرض وأبعدت أو سيرت في الجو تسيير السحاب { وإذا العشارُ } جمع عشراء وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة { عُطِّلَتْ } أهملت عطلها أهلها لاشتغالهم بأنفسهم وكانوا يحبسونها إذا بلغت هذه الحالة لعزتها عندهم ويعطلون ما دونها . { عطلت } بالتخفيف عن اليزيدي { وإذا الوُحُوشُ حُشِرَتْ } جمعت من كل ناحية . قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص فإذا قضى بينها ردت أتراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم كالطاوس ونحوه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : حشرها موتها . يقال : إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم حشرتم السنة .
{ وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ } { سُجّرَتْ } مكي وبصري من سجر التنور إذا ملأه بالحطب أي ملئت ، وفجر بعضاً إلى بعض حتى تعود بحراً واحداً . وقيل : ملئت نيراناً لتعذيب أهل النار { وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ } قرنت كل نفس بشكلها الصالح مع الصالح في الجنة والطالح مع الطالح في النار ، أو قرنت الأرواح بالأجساد ، أو بكتبها وأعمالها ، أو نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين { وَإِذَا الموءودة } المدفونة حية ، وكانت العرب تئد البنات خشية الإملاق وخوف الاسترقاق { سُئِلَتْ } سؤال تلطف لتقول بلا ذنب قتلت ، أو لتدل على قاتلها ، أو هو توبيخ لقاتلها بصرف الخطاب عنه كقوله : { أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] الآية { بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } وبالتشديد : يزيد . وفيه دليل على أن أطفال المشركين لا يعذبون ، وعلى أن التعذيب لا يكون بلا ذنب { وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ } { فُتِحَتْ } وبالتخفيف : مدني وشامي وعاصم وسهل ويعقوب . والمراد صحف الأعمال تطوى صحيفة الإنسان عند موته ثم تنشر إذا حوسب ، ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم { وَإِذَا السماء كُشِطَتْ } قال الزجاج : قلعت كما يقلع السقف { وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ } أوقدت إيقاداً شديداً . بالتشديد : شامي ومدني وعاصم غير حماد ويحيى للمبالغة { وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ } أدنيت من المتقين كقوله : { وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ ق : 31 ] . فهذه اثنتا عشرة خصلة ست منها في الدنيا والباقية في الآخرة . ولا وقف مطلقاً من أول السورة إلى { مَّا أَحْضَرَتْ } لأن عامل النصب في { إِذَا الشمس } وفيما عطف عليه جوابها وهو { عَلِمَتْ نَفْسٌ } أي كل نفس ولضرورة انقطاع النفس على كل آية جوز الوقف { مَّا أَحْضَرَتْ } من خير وشر .(4/10)
{ فَلاَ أُقْسِمُ } «لا» زائدة { بالخنس } بالرواجع بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوله { الجوار } السيارة { الكنس } الغيب من كنس الوحش إذا دخل كناسه . قيل : هي الدراري الخمسة : بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري ، تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تختفي تحت ضوء الشمس ، فخنوسها رجوعها وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس . وقيل : هي جميع الكواكب { واليل إِذَا عَسْعَسَ } أقبل بظلامه أو أدبر فهو من الأضداد .
{ والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } امتد ضوءه . ولما كان إقبال الصبح يلازمه الروح والنسيم جعل ذلك نفساً له مجازاً وجواب القسم { إِنَّهُ } أي القرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ } أي جبريل عليه السلام . وإنما أضيف القرآن إليه لأنه هو الذي نزل به { كَرِيمٍ } عند ربه { ذِى قُوَّةٍ } قدرة على ما يكلف لا يعجز عنه ولا يضعف { عِندَ ذِى العرش } عند الله { مَّكِينٍ } ذي جاه ومنزلة . ولما كانت على حال المكانة على حسب حال المكين قال { عِندَ ذِى العرش } ليدل على عظم منزلته ومكانته { مطاع ثَمَّ } أي في السماوات يطيعه من فيها أو عند ذي العرش أي عند الله يطيعه ملائكته المقربون يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه { أَمِينٍ } على الوحي { وَمَا صاحبكم } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { بِمَجْنُونٍ } كما تزعم الكفرة وهو عطف على جواب القسم .
{ وَلَقَدْ رَءَاهُ } رأى محمد جبريل عليهما السلام على صورته { بالأفق المبين } بمطلع الشمس { وَمَا هُوَ عَلَى الغيب } وما محمد على الوحي { بِضَنِينٍ } ببخيل من الضن وهو البخل أي لا يبخل بالوحي كما يبخل الكهان رغبة في الحلوان بل يعلمه كما علم ولا يكتم شيئاً مما علم . { بظنين } مكي وأبو عمرو وعلي أي بمتهم فينقص شيئاً مما أوحي إليه أو يزيد فيه من الظنة وهي التهمة { وَمَا هُوَ } وما القرآن { بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ } طريد وهو كقوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } [ الشعراء : 210 ] . أي ليس هو بقول بعض المسترقة للسمع وبوحيهم إلى أوليائهم من الكهنة { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق أي تذهب؟ . مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدو لهم عنه إلى الباطل . وقال الزجاج : معناه فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم؟ وقال الجنيد : فأين تذهبون عنا وإن من شيء إلا عندنا { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين } ما القرآن إلا عظة للخلق { لِمَن شَاءَ مِنكُمْ } بدل من { العالمين } { أَن يَسْتَقِيمَ } أي القرآن ذكر لمن شاء الاستقامة يعني أن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعوظين جميعاً { وَمَا تَشَاءُونَ } الاستقامة { إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ العالمين } مالك الخلق أجمعين .(4/11)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
مكية وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا السماء انفطرت } انشقت { وَإِذَا الكواكب انتثرت } تساقطت { وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ } فتح بعضها إلى بعض وصارت البحار بحراً واحداً { وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ } بحثت وأخرج موتاها وجواب «إذا» { عَلِمَتْ نَفْسٌ } أي كل نفس برة وفاجرة { مَّا قَدَّمَتْ } ما عملت من طاعة { وَأَخَّرَتْ } وتركت فلم تعمل أو ما قدمت من الصدقات وما أخرت من الميراث { ياأيها الإنسان } قيل : الخطاب لمنكري البعث { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم * الذى خَلَقَكَ } أي شيء خدعك حتى ضيعت ما وجب عليك مع كرم ربك حيث أنعم عليك بالخلق والتسوية والتعديل؟ وعنه عليه السلام حين تلاها غره جهله . وعن عمر رضي الله عنه : غره حمقه . وعن الحسن : غره شيطانه . وعن الفضيل : لو خوطبت أقول غرتني ستورك المرخاة . وعن يحيى بن معاذ أقول : غرني برك بي سالفاً وآنفاً { فَسَوَّاكَ } فجعلك مستوي الخلق سالم الأعضاء { فَعَدَلَكَ } فصيّرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت فيه فلم يجعل إحدى اليدين أطول ، ولا إحدى العينين أوسع ، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود ، أو جعلك معتدل الخلق تمشي قائماً لا كالبهائم . وبالتخفيف : كوفي وهو بمعنى المشدد أي عدّل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت فكنت معتدل الخلقة متناسباً { فِى أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ } «ما» مزيد للتوكيد أي ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر ، ولم تعطف هذه الجملة كما عطف ما قبلها لأنها بيان ل { عدلك } والجار يتعلق ب { رَكَّبَكَ } على معنى وضعك في بعض الصور ومكنك فيها ، أو بمحذوف أي ركبك حاصلاً في بعض الصور .
{ كَلاَّ } ردع عن الغفلة عن الله تعالى { بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين } أصلاً وهو الجزاء أو دين الإسلام فلا تصدقون ثواباً ولا عقاباً { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين } أعمالكم وأقوالكم من الملائكة { كِرَاماً كاتبين } يعني أنكم تكذبون بالجزاء والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم . وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء وأنه عند الله من جلائل الأمور ، وفيه إنذار وتهويل للمجرمين ولطف للمتقين . وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال : ما أشدها من آية على الغافلين! { إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ } إن المؤمنين لفي نعيم الجنة { وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ } وإن الكفار لفي النار { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين } يدخلونها يوم الجزاء .
{ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ } أي لا يخرجون منها كقوله تعالى : { وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } [ المائدة : 37 ] [ البقرة : 167 ] . ثم عظم شأن يوم القيامة فقال { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين } فكرر للتأكيد والتهويل وبينه بقوله { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } أي لا تستطيع دفعاً عنها ولا نفعاً لها بوجه وإنما تملك الشفاعة بالإذن . { يَوْم } بالرفع : مكي وبصري أي هو يوم ، أو بدل من { يَوْم الدين } ومن نصب فبإضمار «اذكر» أو بإضمار يدانون لأن الدين يدل عليه { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } أي لا أمر إلا لله تعالى وحده فهو القاضي فيه دون غيره .(4/12)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
مختلف فيها وهي ست وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَيْلٌ } مبتدأ خبره { لّلْمُطَفّفِينَ } للذين يبخسون حقوق الناس في الكيل والوزن { الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ } أي إذا أخذوا بالكيل من الناس يأخذون حقوقهم وافية تامة . ولما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم أبدل على مكان من للدلالة على ذلك ، ويجوز أن يتعلق «على» ب { يَسْتَوْفُونَ } ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الاختصاص أي يستوفون على الناس خاصة . وقال الفراء : «من» و «على» يعتقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه ، فإذا قال : اكتلت عليك فكأنه قال : أخذت ما عليك ، وإذا قال : اكتلت منك فكأنه قال : استوفيت منك . والضمير المنصوب في { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } راجع إلى الناس أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل . وإنما لم يقل أو اتزنوا كما قيل { أَوْ وَّزَنُوهُمْ } اكتفاء ، ويحتمل أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء ، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين { يُخْسِرُونَ } ينقصون يقال خسر الميزان وأخسره .
{ أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني يوم القيامة . أدخل همزة الاستفهام على «لا» النافية توبيخاً وليست «ألا» هذه للتنبيه ، وفيه إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة ، ولو ظنوا أنهم يبعثون ما نقصوا في الكيل والوزن . وعن عبد الملك بن مروان أن أعرابياً قال له : لقد سمعت ما قال الله في المطففين ، أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن ونصب؟! { يَوْمَ يَقُومُ الناس } بمبعوثون { لِرَبّ العالمين } لأمره وجزائه . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ هنا بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده { كَلاَّ } ردع وتنبيه أي ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب ، ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه .
ثم اتبعه وعيد الفجار على العموم فقال { إِنَّ كتاب الفجار } صحائف أعمالهم { لَفِى } { سِجّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كتاب مَّرْقُومٌ } فإن قلت : قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سجين وفسر سجيناً بكتاب مرقوم فكأنه قيل : إن كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه؟ قلت : سجين كتاب جامع هو ديوان الشرّ دوّن الله فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس ، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة ، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه من رقم الثياب علامتها .(4/13)
والمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان . وسمي سجيناً فعّيلاً من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم ، أو لأنه مطروح تحت الأرض السابعة في مكان وحش مظلم وهو مسكن إبليس وذريته ، وهو اسم علم منقول من وصف كحاتم منصرف لوجود سبب واحد وهو العلمية فحسب { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ } يوم يخرج المكتوب { لّلْمُكَذّبِينَ الذين يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدين } الجزاء والحساب { وَمَا يُكَذّبُ بِهِ } بذلك اليوم { إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ } مجاوز للحد { أَثِيمٍ } مكتسب للإثم { إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا } أي القرآن { قَالَ أساطير الأولين } أي أحاديث المتقدمين . وقال الزجاج : أساطير أباطيل واحدها أسطورة مثل أحدوثة وأحاديث .
{ كَلاَّ } ردع للمعتدي الأثيم عن هذا القول { بَلْ } نفي لما قالوا ويقف حفص على { بَل } وقيفة { رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } عطاها كسبهم أي غلب على قلوبهم حتى غمرها ما كانوا يكسبون من المعاصي . وعن الحسن : الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب . وعن الضحاك : الرين موت القلب . وعن أبي سليمان : الرين والقسوة زماماً الغفلة ودواؤهما إدمان الصوم فإن وجد بعد ذلك قسوة فليترك الإدام .
{ كَلاَّ } ردع عن الكسب الرائن على القلب { إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ } عن رؤية ربهم { يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } لممنوعون والحجب : المنع قال الزجاج : في الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم وإلا لا يكون التخصيص مفيداً . وقال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في العقبى عن رؤيته . وقال مالك بن أنس رحمه الله : لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه . وقيل : عن كرامة ربهم لأنهم في الدنيا لم يشكروا نعمه فيئسوا في الآخرة عن كرامته مجازاة . والأول أصح لأن الرؤية أقوى الكرامات فالحجب عنها دليل الحجب عن غيرها { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم } ثم بعد كونهم محجوبين عن ربهم لداخلون النار { ثُمَّ يُقَالُ هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي هذا العذاب هو الذي كنتم تكذبون به في الدنيا وتنكرون وقوعه .
{ كَلاَّ } ردع عن التكذيب { إِنَّ كتاب الأبرار } ما كتب من أعمالهم والأبرار المطيعون الذين لا يطففون ويؤمنون بالبعث لأنه ذكر في مقابلة الفجار ، وبيّن الفجار بأنهم المكذبون بيوم الدين . وعن الحسن : البر الذي لا يؤذي الذر { لَفِى عِلِّيِّينَ } هو علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع «عليّ» فعيل من العلو سمي به لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة ، أو لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريماً له { وَمَا أَدْرَاكَ } ما الذي أعلمك يا محمد { مَا عِلِّيُّونَ } أي شيء هو { كتاب مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المقربون } تحضره الملائكة .(4/14)
قيل : يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء إذا رفع { إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ } تنعم في الجنان { على الأرآئك } الأسرة في الحجال { يَنظُرُونَ } إلى كرامة الله ونعمه وإلى أعدائهم كيف يعذبون { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم } بهجة التنعم وطراوته { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ } شراب خالص لا غش فيه { مَّخْتُومٍ * ختامه مِسْكٌ } تختم أوانيه بمسك بدل الطين الذي يختم به الشراب في الدنيا . أمر الله تعالى بالختم عليه إكراماً لأصحابه أو ختامه مسك مقطعه رائحة مسك أي توجد رائحة المسك عند خاتمة شربه . { خاتمه } عليّ { وَفِى ذَلِكَ } الرحيق أو النعيم { فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون } فليرغب الراغبون وذا إنما يكون بالمسارعة إلى الخيرات والانتهاء عن السيئات { وَمِزَاجُهُ } ومزاج الرحيق { مِن تَسْنِيمٍ } هو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنّمه إذا رفعه لأنها أرفع شراب في الجنة ، أو لأنها تأتيهم من فوق وتنصب في أوانيهم { عَيْناً } حال أو نصب على المدح { يَشْرَبُ بِهَا } أي منها { المقربون } عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم : يشربها المقربون صرفاً وتمزج لأصحاب اليمين .
{ إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ } كفروا { كَانُواْ مِنَ الذين ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ } في الدنيا استهزاء بهم .
{ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } يشير بعضهم إلى بعض بالعين طعناً فيهم وعيباً لهم . قيل : جاء علي رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا وقالوا : أترون هذا الأصلع فنزلت قبل أن يصل عليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ } أي إذا رجع إلى الكفار منازلهم { انقلبوا فَكِهِينَ } متلذذين بذكرهم والسخرية منهم . وقرأ غير حفص { فاكهين } أي فرحين { وَإِذَا رَأَوْهُمْ } وإذا رأى الكافرون المؤمنين { قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ } أي خدع محمد هؤلاء فضلوا وتركوا اللذات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات ، فقد تركوا الحقيقة بالخيال وهذا هو عين الضلال { وَمَا أُرْسِلُواْ } وما أرسل الكفار { عَلَيْهِمْ } على المؤمنين { حافظين } يحفظون عليهم أحوالهم ويرقبون أعمالهم بل أمروا بإصلاح أنفسهم فاشتغالهم بذلك أولى بهم من تتبع غيرهم وتسفيه أحلامهم { فاليوم } أي من يوم القيامة { الذين ءَامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ } ثم كما ضحكوا منهم هنا مجازاة { عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ } حال أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والاستكبار وهم على الأرائك آمنون . وقيل : يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم : هلموا إلى الجنة ، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم فيضحك المؤمنون منهم { هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } هل جوزوا بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا إذا فعل بهم ما ذكر؟ والله أعلم .(4/15)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
{ إِذَا السماء انشقت } تصدعت وتشققت { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا } سمعت وأطاعت وأجابت ربها إلى الانشقاق ولم تأب ولم تمتنع { وَحُقَّتْ } وحق لها أن تسمع وتطيع لأمر الله إذ هي مصنوعة مربوبة لله تعالى { وَإِذَا الأرض مُدَّتْ } بسطت وسويت باندكاك جبالها وكل أمت فيها { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا } ورمت ما في جوفها من الكنوز والموتى { وَتَخَلَّتْ } وخلت غاية الخلو حتى لم يبق شيء في باطنها كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو . يقال : تكرم الكريم إذا بلغ جهده في الكرم وتكلف فوق ما في طبعه { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا } في إلقاء ما في بطنها وتخليها { وَحُقَّتْ } وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع ، وحذف جواب «إذا» ليذهب المقدر كل مذهب ، أو اكتفاء بما على بمثلها من سورتي التكوير والانفطار ، أو جوابه ما دل عليه { فملاقيه } أي إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه .(4/16)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
{ ياأيها الإنسان } خطاب للجنس { إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً } جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت وما بعده من الحال الممثلة باللقاء { فملاقيه } الضمير للكدح وهو جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها ، والمراد جزاء الكدح إن خيراً فخير وإن شراً فشر . وقيل : لقاء الكدح لقاء كتاب فيه ذلك الكدح يدل عليه قوله { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ } أي كتاب عمله { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } سهلاً هيناً وهو أن يجازي على الحسنات ويتجاوز عن السيئات . وفي الحديث « من يحاسب يعذب » فقيل : فأين قوله { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } ؟ قال : « ذلكم العرض من نوقش في الحساب عذب » { وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ } إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين ، أو إلى فريق المؤمنين ، أو إلى أهله في الجنة من الحور العين { مَسْرُوراً } فرحاً { وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاءَ ظَهْرِهِ } قيل : تغل يمناه إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره { فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً } يقول : يا ثبوراه والثبور الهلاك { ويصلى } عراقي غير علي { سَعِيراً } أي ويدخل جهنم { إِنَّهُ كَانَ } في الدنيا { فِى أَهْلِهِ } معهم { مَسْرُوراً } بالكفر يضحك ممن آمن بالبعث . قيل : كان لنفسه متابعاً وفي مراتع هواه راتعاً .
{ إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } لن يرجع إلى ربه تكذيباً بالبعث . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت تفسيره حتى سمعت أعرابية تقول لبنتها : حوري أي ارجعي { بلى } إيجاب لما بعد النفي في { لَّن يَحُورَ } أي بلى ليحورن { إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ } وبأعماله { بَصِيراً } لا يخفى عليه فلا بد أن يرجعه ويجازيه عليها .
{ فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق } فأقسم بالبياض بعد الحمرة أو الحمرة { واليل وَمَا وَسَقَ } جمع وضم والمراد ما جمعه من الظلمة والنجم ، أو من عمل فيه من التهجد وغيره { والقمر إِذَا اتسق } اجتمع وتم بدراً افتعل من الوسق { لَتَرْكَبُنَّ } أيها الإنسان على إرادة الجنس { طَبَقاً عَن طَبقٍ } حالاً بعد حال ، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول . والطبق ما طابق غيره يقال : ما هذا بطبق لذا أي لا يطابقه ، ومنه قيل للغطاء الطبق ، ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة من قولهم : هو على طبقات ، أي لتركبن أحوالاً بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها . ومحل { عَن طَبقٍ } نصب على أنه صفة ل { طَبَقاً } أي طبقاً مجاوزاً لطبق ، أو حال من الضمير في { لَتَرْكَبُنَّ } أي لتركبن طبقاً مجاوزين لطبق .(4/17)
وقال مكحول : في كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه . وبفتح الباء : مكي وعلي وحمزة . والخطاب له عليه السلام أي طبقاً من طباق السماء بعد طبق أي في المعراج .
{ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } فما لهم في أن لا يؤمنوا { وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرءان لاَ يَسْجُدُونَ } لا يخضعون { بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ } بالبعث والقرآن { والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أخبرهم خبراً يظهر أثره على بشرتهم { إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } استثناء منقطع { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } غير مقطوع أو غير منقوص ، والله أعلم .(4/18)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
مكية وهي اثنتان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والسماء ذَاتِ البروج } هي البروج الاثنا عشر . وقيل : النجوم أو عظام الكواكب { واليوم الموعود } يوم القيامة { وشاهد وَمَشْهُودٍ } أي وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه ، والمراد بالشاهد من يشهد فيه من الخلائق كلهم ، وبالمشهود فيه ما في ذلك اليوم من عجائبه . وطريق تنكيرهما إما ما ذكرته في قوله { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } [ التكوير : 14 ] كأنه قيل : ما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود ، وإما للإبهام في الوصف كأنه قيل : وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما . وقد كثرت أقاويل المفسرين فيهما فقيل : محمد صلى الله عليه وسلم ويوم القيامة أو عيسى وأمته لقوله : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [ المائدة : 117 ] . أو أمة محمد وسائر الأمم ، أو الحجر الأسود والحجيج ، أو الأيام والليالي وبنو آدم للحديث : « ما من يوم إلا وينادي أنا يوم جديد وعلى ما يفعل فيّ شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة » أو الحفظة وبنو آدم ، أو الله تعالى والخلق لقوله تعالى : { وكفى بالله شَهِيداً } [ الفتح : 28 ] [ النساء : 79 ] أو الأنبياء ومحمد عليهم السلام . وجواب القسم محذوف يدل عليه { قُتِلَ أصحاب الأخدود } أي لعن كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء إنهم ملعونون يعني كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود ، وهو خد أي شق عظيم في الأرض .
رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضموا إليه غلاماً ليعلمه السحر . وكان في طريق الغلام راهب فسمع منه فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس فأخذ حجراً فقال : « اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها » فقتلها فكان الغلام بعد ذلك يبرىء الأكمه والأبرص . وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله من رد عليك بصرك؟ فقال : ربي . فغضب فعذبه فدل على الغلام ، فعذبه فدل على الراهب ، فلم يرجع الراهب عن دينه فقدّ بالمنشار ، وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا ، فذهب به إلى قرقور فلجّجوا به ليغرقوه فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول : باسم الله رب الغلام ثم ترميني به ، فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه فمات فقال الناس : آمنا برب الغلام . فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر . فخدّ أخدوداً وملأها ناراً فمن لم يرجع عن دينه طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق فألقي الصبي وأمه فيها { النار } بدل اشتمال من الأخدود { ذَاتِ الوقود } وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس { إِذْ } ظرف لقتل أي لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها { هُمْ عَلَيْهَا } أي الكفار على ما يدنو منها من حافات الأخدود { قُعُودٌ } جلوس على الكراسي { وَهُمْ } أي الكفار { على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين } من الإحراق { شُهُودٌ } يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب ، وفيه حث للمؤمنين على الصبر وتحمل أذى أهل مكة { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ } وما عابوا منهم وما أنكروا إلا الإيمان كقوله :(4/19)
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... وقوله :
ما نقموا من بني أمية إل ... لاّ أنهم يحلمون إن غضبوا
وقرىء { نَقَمُواْ } بالكسر والفصيح هو الفتح { بالله العزيز الحميد } ذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به وهو كونه عزيزاً غالباً قادرا يخشى عقابه حميداً منعماً يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه { الذى لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقريراً لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل ، وأن الناقمين أهل لانتقام الله منهم بعذاب عظيم { والله على كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ } وعيد لهم يعني أنه علم ما فعلوا وهو مجازيهم عليه .(4/20)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
{ إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات } يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود ، ومعنى فتنوهم عذبوهم بالنار وأحرقوهم { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } لم يرجعوا عن كفرهم { فَلَهُمْ } في الآخرة { عَذَابُ جَهَنَّمَ } بكفرهم { وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } في الدنيا لما رُوي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم ، ويجوز أن يريد الذين فتنوا المؤمنين أي بلوهم بالأذى على العموم والمؤمنين المفتونين ، وأن للفاتنين عذابين في الآخرة لكفرهم ولفتنتهم .
{ إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ذَلِكَ الفوز الكبير } أي الذين صبروا على تعذيب الأخدود أو هو عام { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } البطش : الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم ، والمراد أخذه الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ } أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد أن صيرهم تراباً ، دل باقتداره على الابداء والإعادة على شدة بطشه ، أو أوعد الكفرة بأنه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم إذ لم يشكروا نعمة الابداء وكذبوا بالإعادة { وَهُوَ الغفور } الساتر للعيوب العافي عن الذنوب { الودود } المحب لأوليائه . وقيل : الفاعل لأهل الطاعة ما يفعله الودود من إعطائهم ما أرادوا { ذُو العرش } خالقه ومالكه { المجيد } وبالجر : حمزة وعلي على أنه صفة للعرش ومجد الله عظمته ومجد العرش علوه وعظمه { فَعَّالٌ } خبر مبتدأ محذوف { لِّمَا يُرِيدُ } تكوينه فيكون فيه دلالة خلق أفعال العباد .
{ هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود } أي قد أتاك خبر الجموع الطاغية في الأمم الخالية { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } بدل من { الجنود } وأراد بفرعون إياه وآله والمعنى قد عرفت تكذيب تلك الجنود للرسل وما نزل بهم لتكذيبهم { بَلِ الذين كَفَرُواْ } من قومك { فِى تَكْذِيبٍ } واستيجاب للعذاب ولا يعتبرون بالجنود لا لخفاء حال الجنود عليهم لكن يكذبونك عناداً { والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ } أي عالم بأحوالهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه ، والإحاطة بهم من ورائهم مثل لأنهم لا يفوتونه كما لا يفوت الشيء المحيط به { بَلْ هُوَ } بل هذا الذي كذبوا به { قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ } شريف عالي الطبقة في الكتب وفي نظمه وإعجازه ليس كما يزعمون أنه مفترى وأنه أساطير الأولين { فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } من وصول الشياطين إليه { مَّحْفُوظٍ } : نافع صفة للقرآن أي من التغيير والتبديل . واللوح عند الحسن شيء يلوح للملائكة فيقرؤونه ، وعند ابن عباس رضي الله عنهما وهو من درة بيضاء طولها ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، قلمه نور وكل شيء فيه مسطور . مقاتل : هو على يمين العرش . وقيل : أعلاه معقود بالعرش وأسفله في حجر ملك كريم ، والله أعلم .(4/21)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
مكية وهي سبع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والسماء والطارق * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق * النجم الثاقب } عظم قدر السماء في أعين الخلق لكونها معدن رزقهم ومسكن ملائكته ، وفيها خلق الجنة فأقسم بها وبالطارق والمراد جنس النجوم ، أو جنس الشهب التي يرجم بها لعظم منفعتها ، ثم فسره بالنجم الثاقب أي المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه ، ووصف بالطارق لأنه يبدو بالليل كما يقال للآتي ليلاً طارق ، أو لأنه يطرق الجني أي يصكه . وجواب القسم { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } لأن { لَّمّاً } إن كانت مشددة بمعنى «إلا» كقراءة عاصم وحمزة وابن عامر فتكون «إن» نافية أي ما كل نفس إلا عليها حافظ ، وإن كانت مخففة كقراءة غيرهم فتكون «إن» مخففة من الثقيلة أي إن كل نفس لعليها حافظ يحفظها من الآفات ، أو يحفظ عملها ورزقها وأجلها ، فإذا استوفى ذلك مات . وقيل : هو كاتب الأعمال ف «ما» زائدة واللام فارقة بين الثقيلة والخفيفة ، و { حَافِظٌ } مبتدأ و { عَلَيْهَا } الخبر ، والجملة خبر { كُلٌّ } وأيتهما كانت فهي مما يتلقى به القسم .
{ فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ } لما ذكر أن على كل نفس حافظاً أمره بالنظر في أول أمره ليعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل ليوم الجزاء ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته . و { مِمَّ خُلِقَ } استفهام أي من أي شيء خلق جوابه { خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ } والدفق : صب فيه دفع . والدفق في الحقيقة لصاحبه والإسناد إلى الماء مجاز . وعن بعض أهل اللغة : دفقت الماء دفقاً : صببته ودفق الماء بنفسه أي انصب . ولم يقل من ماءين لامتزاجهما في الرحم واتحادهما حين ابتدىء في خلقه { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب } من صلب الرجل وترائب المرأة وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة . وقيل : العظم والعصب من الرجل واللحم والدم من المرأة { إِنَّهُ } إن الخالق لدلالة خلق عليه ومعناه إن الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفة { على رَجْعِهِ } على إعادته خصوصاً { لَقَادِرٌ } لبيّن القدرة لا يعجز عنه كقوله : إنني لفقير أي لبيّن الفقر . ونصب { يَوْمَ تبلى } أي تكشف برجعه أو بمضمر دل عليه قوله { رَجْعِهِ } أي يبعثه يوم تبلى { السرائر } ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وما أخفى من الأعمال { فَمَا لَهُ } فما للإنسان { مِن قُوَّةٍ } في نفسه على دفع ما حل به { وَلاَ نَاصِرٍ } يعينه ويدفع عنه .
{ والسماء ذَاتِ الرجع } أي المطر وسمي به لعوده كل حين { والأرض ذَاتِ الصدع } هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات { إِنَّهُ } إن القرآن { لَقَوْلٌ فَصْلٌ } فاصل بين الحق والباطل كما قيل له فرقان { وَمَا هوَ بالهزل } باللعب والباطل يعني أنه جد كله ومن حقه ، وقد وصفه الله بذلك أن يكون مهيباً في الصدور معظماً في القلوب ، يرتفع به قارئه وسامعه أن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح { أَنَّهُمْ } يعني مشركي مكة { يَكِيدُونَ كَيْداً } يعملون المكايد في إبطال أمر الله وأطفاء نور الحق { وَأَكِيدُ كَيْداً } وأجازيهم جزاء كيدهم باستدراجي لهم من حيث لا يعلمون فسمي جزاء الكيد كيداً كما سمي جزاء الاعتداء والسيئة اعتداء وسيئة وإن لم يكن اعتداء وسيئة ، ولا يجوز إطلاق هذا الوصف على الله تعالى إلا على وجه الجزاء كقوله :(4/22)
{ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] { يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] { الله يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] { فَمَهِّلِ الكافرين } أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به { أَمْهِلْهُمْ } أنظرهم فكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين والتصبير { رُوَيْداً } مهلاً يسيراً ولا يتكلم بها إلا مصغّرة وهي من رادت الريح ترود روداً تحركت حركة ضعيفة .(4/23)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
مكية وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى } نزه ذاته عما لا يليق به ، والاسم صلة وذلك بأن يفسر الأعلى بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار لا بمعنى العلو في المكان . وقيل : قل سبحان ربي الأعلى . وفي الحديث لما نزلت قال عليه السلام : " اجعلوها في سجودكم " { الذى خَلَقَ فسوى } أي خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية ولم يأت به متفاوتاً غير ملتئم ولكن على إحكام واتساق ، دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم ، أو سوَّاه على ما فيه منفعة ومصلحة { والذى قَدَّرَ فهدى } أي قدر لكل حيوان ما يصلحه فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به ، أو فهدى وأضل ولكن حذف وأضل اكتفاء كقوله : { يُضِلُّ مَن يَشَآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء } [ النحل : 93 ] [ فاطر : 8 ] . { قُدِرَ } عليّ { والذى أَخْرَجَ المرعى } أنبت ما ترعاه الدواب { فَجَعَلَهُ غُثَاءً } يابساً هشيماً { أحوى } أسود { فأحوى } صفة الغثاء { أحوى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } سنعلمك القرآن حتى تنساه { إِلاَّ مَا شَاء الله } أن ينسخه وهذا بشارة من الله لنبيه أن يحفظ عليه الوحي حتى لا ينفلت منه شيء إلا ما شاء الله أن ينسخه فيذهب به عن حفظه برفع حكمه وتلاوته . وسأل ابن كيسان النحوي جنيداً عنه فقال : فلا ننسى العمل به فقال : مثلك يصدر . وقيل : قوله { فَلاَ تنسى } على النهي والألف مزيدة للفاصلة كقوله : { السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] أي فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى } أي إنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل مخافة التفلت والله يعلم جهرك معه وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر ، أو ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان ، أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم وما ظهر وما بطن من أحوالكم .
{ وَنُيَسِّرُكَ لليسرى } معطوف على { سَنُقْرِئُكَ } وقوله { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى } اعتراض ومعناه ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل يعني حفظ الوحي . وقيل : للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع أو نوفقك لعمل الجنة { فَذَكِّرْ } عظ بالقرآن { إِن نَّفَعَتِ الذكرى } جواب «إن» مدلول قوله { فَذَكِّرْ } قيل : ظاهره شرط ومعناه استبعاد لتأثير الذكرى فيهم . وقيل : هو أمر بالتذكير على الإطلاق كقوله : { فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ } [ الغاشية : 21 ] . غير مشروط بالنفع { سَيَذَّكَّرُ } سيتعظ ويقبل التذكرة { مَن يخشى } الله وسوء العاقبة { وَيَتَجَنَّبُهَا } ويتباعد عن الذكرى فلا يقبلها { الأشقى } الكافر أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم .(4/24)
قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة { الذى يَصْلَى النار الكبرى } يدخل نار جهنم والصغرى نار الدنيا { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا } فيستريح من العذاب { وَلاَ يحيى } حياة يتلذذ بها . وقيل : «ثم» لأن الترجح بين الحياة والموت أفظع من الصلي فهو متراخٍ عنه في مراتب الشدة .
{ قَدْ أَفْلَحَ } نال الفوز { مَن تزكى } تطهر من الشرك أو تطهر للصلاة أو أدى الزكاة تفعل من الزكاة كتصدق من الصدقة { وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ } وكبر للافتتاح { فصلى } الخمس وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنها ليست من الصلاة ، لأن الصلاة عطفت عليها وهو يقتضي المغايرة ، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه وصلى له . وعن الضحاك : وذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى صلاة العيد { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا } على الآخرة فلا تفعلون ما به تفلحون . والمخاطب به الكافرون دليله قراءة أبي عمرو { يؤثرون } بالياء { والآخرة خَيْرٌ وأبقى } أفضل من نفسها وأدوم { إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى } هذا إشارة إلى قوله { قَدْ أَفْلَحَ } إلى { أبقى } أي أن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف أو إلى ما في السورة كلها ، وهو دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة لأنه جعله مذكوراً في تلك الصحف مع أنه لم يكن فيها بهذا النظم وبهذه اللغة { صُحُفِ إبراهيم وموسى } بدل من { الصحف الأولى } وفي الأثر وفي صحف إبراهيم : ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه .(4/25)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
مكية وهي ست وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ هَلُ } بمعنى «قد» { أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية } الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها يعني القيامة . وقيل : النار من قوله : { وتغشى وُجُوهَهُمْ النار } [ إبراهيم : 50 ] { وُجُوهٌ } أي وجوه الكفار ، وإنما خص الوجه لأن الحزن والسرور إذا استحكما في المرء أثراً في وجهه { يَوْمَئِذٍ } يوم إذ غشيت { خاشعة } ذليلة لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } تعمل في النار عملاً تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، وارتقاؤها دائبة في صعود من نار وهبوطها في حدور منها . وقيل : عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها وتنعمت فهي في نصب منها في الآخرة . وقيل : هم أصحاب الصوامع ومعناه أنها خشعت الله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب والتهجد الواصب { تصلى نَاراً حَامِيَةً } تدخل ناراً قد أحميت مدداً طويلة فلا حر يعدل حرها { تصلى } أبو عمرو وأبو بكر { تسقى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ } من عين ماء قد انتهى حرها ، والتأنيث في هذه الصفات والأفعال راجعة إلى الوجوه والمراد أصحابها بدليل قوله { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } وهو نبت يقال له الشِّبرِق فإذا يبس فهو ضريع وهو سم قاتل ، والعذاب ألوان والمعذبون طبقات ، فمنهم أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع ، فلا تناقض بين هذه الآية وبين قوله { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } [ الحاقة : 36 ] { لاَّ يُسْمِنُ } مجرور المحل لأنه وصف { ضَرِيعٍ } { وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ } أي منفعتا الغذاء منتفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة السمن في البدن .
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ } ثم وصف وجوه المؤمنين ولم يقل ووجوه لأن الكلام الأول قد طال وانقطع { نَّاعِمَةٌ } متنعمة في لين العيش { لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب { فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } من علو المكان أو المقدار { لاَ تَسْمَعُ } يا مخاطب أو الوجوه { فِيهَا لاغية } أي لغواً أو كلمة ذات لغو أو نفساً تلغو ، لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم . { لاَ يَسْمَعُ فِيهَا لاغية } : مكي وأبو عمرو : { لاَّ تُسْمَعُ فِيهَا لاغية } نافع { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } أي عيون كثيرة كقوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ الانفطار : 5 ] { فِيهَا سُرُرٌ } جمع سرير { مَّرْفُوعَةٍ } من رفعة المقدار أو السمك ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوله ربه من الملك والنعيم .
{ وَأَكْوابٌ } جمع كوب وهو القدح . وقيل : آنية لا عروة لها { مَّوْضُوعَةٌ } بين أيديهم ليتلذذوا بها بالنظر إليها أو موضوعة على حافات العيون معدة للشرب { وَنَمَارِقُ } وسائد { مَصْفُوفَةٌ } بعضها إلى جنب بعض مساند ومطارح أينما أراد أن يجلس جلس على مسودة واستند إلى الأخرى { وَزَرَابِيُّ } وبسط عراض فاخرة جمع زربية { مَبْثُوثَةٌ } مبسوطة أو مفرقة في المجالس .(4/26)
ولما أنزل الله تعالى هذه الآيات في صفة الجنة ، وفسر النبي عليه السلام بأن ارتفاع السرير يكون مائة فرسخ ، والأكواب الموضوعة لا تدخل في حساب الخلق لكثرتها ، وطول النمارق كذا وعرض الزرابي كذا ، أنكر الكفار وقالوا : كيف يصعد على هذا السرير ، وكيف تكثر الأكواب هذه الكثرة ، وتطول النمارق هذا الطول ، وبسط الزرابي هذا الانبساط ولم نشاهد ذلك في الدنيا؟ فقال الله تعالى { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ } طويلة ثم تبرك حتى تركب أو يحمل عليها ثم تقوم فكذا السرير يطأطىء للمؤمن كما يطأطىء الإبل { وَإِلَى السماء كَيْفَ رُفِعَتْ } رفعاً بعيد المدى بلا إمساك وعمد ، ثم نجومها تكثر هذه الكثرة فلا تدخل في حساب الخلق فكذا الأكواب { وَإِلَى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ } نصباً ثابتاً فهي راسخة لا تميل مع طولها فكذا النمارق { وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ } سطحاً بتمهيد وتوطئة فهي كلها بساط واحد تنبسط من الأفق إلى الأفق فكذا الزرابي؛ ويجوز أن يكون المعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه ، وتخصيص هذه الأربعة باعتبار أن هذا خطاب للعرب وحث لهم على الاستدلال ، والمرء إنما يستدل بما تكثر مشاهدته له ، والعرب تكون في البوادي ونظرهم فيها إلى السماء والأرض والجبال والإبل فهي أعز أموالهم وهم لها أكثر استعمالاً منهم لسائر الحيوانات ، ولأنها تجمع جميع المآرب المطلوبة من الحيوان وهي النسل والدر والحمل والركوب والأكل بخلاف غيرها ، ولأن خلقها أعجب من غيرها فإنه سخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعاز ضعيفاً ولا تمانع صغيراً ، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار ، وجعلها بحيث تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ، ثم تنهض بما حملت وتجرها إلى البلاد الشاحطة ، وصبرها على احتمال العطش حتى إن ظمأها لترتفع إلى العشر فصاعداً ، وجعلها ترعى كل نابت في البراري مما لا يرعاه سائر البهائم .
{ فَذَكِّرْ } فذكرهم بالأدلة ليتفكروا فيها { إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ } ليس عليك إلا التبليغ { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } بمسلط كقوله { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] ، { بمصيطر } : مدني وبصري وعلي وعاصم { إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ * فَيْعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر } الاستثناء منقطع أي لست بمسؤول عليهم ولكن من تولى منهم وكفر بالله فإن لله الولاية عليه والقهر فهو يعذبه العذاب الأكبر وهو عذاب جهنم . وقيل : هو استثناء من قوله { فَذَكِّرْ } أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض { إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ } رجوعهم ، وفائدة تقديم الظرف التشديد في الوعيد وإن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } فنحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها جزاء أمثالهم و «على» لتأكيد الوعيد لا للوجوب إذ لا يجب على الله شيء .(4/27)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والفجر } أقسم بالفجر وهو الصبح كقوله { والصبح إِذَا أَسْفَرَ } [ المدثر : 34 ] ، أو بصلاة الفجر { وَلَيالٍ عَشْرٍ } عشر ذي الحجة أو العشر الأول من المحرم ، أو الآخر من رمضان . وإنما نكرت لزيادة فضيلتها { والشفع والوتر } شفع كل الأشياء ووترها أو شفع هذه الليالي ووترها ، أو شفع الصلاة ووترها ، أو يوم النحر لأنه اليوم العاشر ويوم عرفة لأنه اليوم التاسع ، أو الخلق والخالق . { والوتر } حمزة وعلي ، وبفتح الواو غيرهما ، وهما لغتان : فالفتح حجازي والكسر تميمي . وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم فقال { واليل } وقيل : أريد به ليلة القدر { إِذَا يَسْرِ } إذا يمضي وياء { يَسْرِ } تحذف في الدرج اكتفاء عنها بالكسرة ، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة . وسأل واحد الأخفش عن سقوط الياء فقال : لا ، حتى تخدمني سنة فسأله بعد سنة فقال : الليل لا يسري وإنما يسرى فيه ، فلما عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقة . وقيل : معنى يسري : يسرى فيه كما يقال : ليل نائم أي ينام فيه .
{ هَلْ فِى ذَلِكَ } أي فيما أقسمت به من هذه الأشياء { قَسَمٌ } أي مقسم به { لِّذِى حِجْرٍ } عقل سمي به لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي كما سمي عقلاً ونهية لأنه يعقل وينهى ، يريد هل تحقق عنده أن تعظم هذه الأشياء بالإقسام بها ، أو هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر أي هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه؟ أو هل في القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لذي عقل ولب؟ والمقسم عليه محذوف وهو قوله «ليعذبن» يدل عليه قوله { أَلَمْ تَرَ } إلى قوله : { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } . ثم ذكر تعذيب الأمم التي كذبت الرسل فقال { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذاتِ العماد } أي ألم تعلم يا محمد علماً يوازي العيان في الإيقان؟ وهو استفهام تقرير قيل : لعقب عاد ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عاد ما يقال لبني هاشم هاشم ، ثم قيل للأولين منهم : عاد الأولى ، والإرم تسمية لهم باسم جدهم ومن بعدهم عاد الأخيرة ، ف { إِرَمَ } عطف بيان ل { عَادٍ } وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة . وقيل : إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها ويدل عليه قراءة ابن الزبير { بِعَادٍ * إِرَمَ } على الإضافة وتقديره بعاد أهل إرم كقوله { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة ، فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة وإن كانت صفة للبلدة أنها ذات أساطين .(4/28)
ورُوي أنه كان لعاد ابنان : شداد وشديد فملكا وقهرا ، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال : أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة ، وأساطينها من الزبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الأشجار والأنهار . ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته ، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا . وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثمة ، وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال : هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا والله ذلك الرجل { التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى البلاد } أي مثل عاد في قوتهم وطول قامتهم ، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع ، أو لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا { وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر } قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتاً . قيل : أول من نحت الجبال والصخور ثمود ، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة { بالواد } بوادي القرى { وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } أي ذي الجنود الكثيرة وكانت لهم مضارب كثيرة يضربونها إذا نزلوا . وقيل : كان له أوتاد يعذب الناس بها كما فعل بآسية { الذين } في محل النصب على الذم ، أو الرفع على «هم الذين» ، أو الجر على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون { طَغَوْاْ فِى البلاد } تجاوزوا الحد { فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد } بالكفر والقتل والظلم { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } مجاز عن إيقاع العذاب بهم على أبلغ الوجوه إذا الصب يشعر بالدوام والسوط بزيادة الإيلام أي عذبوا عذاباً مؤلماً دائماً { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } وهو المكان الذي يترقب فيه الرصد مفعال من رصده ، وهذا مثل لإرصاده العباد وأنهم لا يفوتونه ، وأنه عالم بما يصدر منهم وحافظه فيجازيهم عليه إن خيراً فخير وإن شراً فشر .(4/29)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
{ فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } أي ضيق عليه وجعله بمقدار بلغته ، { فَقَدَرَ } شامي ويزيد { فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ } أي الواجب لمن ربه بالمرصاد أن يسعى للعاقبة ولا تهمه العاجلة ، وهو قد عكس فإنه إذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر ، قال : ربي أكرمني أي فضلني بما أعطاني فيرى الإكرام في كثرة الحظ من الدنيا ، وإذا امتحنه بالفقر فقدر عليه رزقه ليصبر ، قال : ربي أهانني فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا لأنه لا تهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها ، فرد عليه زعمه بقوله { كَلاَّ } أي ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلته بل الإكرام في توفيق الطاعة والإهانة في الخذلان ، وقوله تعالى : { فَيَقُولُ } خبر المبتدأ الذي هو الإنسان ، ودخول الفاء لما في «أما» من معنى الشرط ، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتلاء ، وكذا { فَيَقُولُ } الثاني خبر لمبتدأ تقديره : وأما هو إذا ما ابتلاه ربه . وسمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء لأن كل واحد منهما اختبار للعبد ، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر ، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع ، ونحوه قوله تعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] . وإنما أنكر قوله { رَبّى أَكْرَمَنِ } مع أنه أثبته بقوله { فَأَكْرَمَهُ } لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته وهو قصده إن الله أعطاه ما أعطاه إكراماً له لاستحقاقه كقوله { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى } [ القصص : 78 ] وإنما أعطاه الله تعالى ابتلاء من غير اسحقاق منه .
{ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين } أي بل هناك شر من هذا القول وهو أن الله يكرمهم بالغنى فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة وحض أهله على طعام المسكين { وَتَأْكُلُونَ التراث } أي الميراث { أَكْلاً لَّمّاً } ذا لم وهو الجمع بين الحلال والحرام ، وكانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ويأكلون تراثهم مع تراثهم { وَتُحِبُّونَ المال } يقال حبه وأحبه بمعنى { حُبّاً جَمّاً } كثيراً شديداً مع الحرص ومنع الحقوق ، { رَبِّى } حجازي وأبو عمرو { يكرمون } { وَلاَ يحضون } { وَيَأْكُلُونَ } { وَّيُحِبُّونَ } بصري { كَلاَّ } ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم . ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرطوا فيه حين لا تنفع الحسرة فقال { إِذَا دُكَّتِ الأرض } إذا زلزلت { دَكّاً دَكّاً } دكاً بعد دك أي كرر عليها الدك حتى عادت هباء منبثاً .(4/30)
{ وَجَآءَ رَبُّكَ } تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قهره وسلطانه ، فإن واحداً من الملوك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور عساكره وخواصه ، وعن ابن عباس : أمره وقضاؤه { والملك صَفّاً صَفّاً } أي ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس { وَجِاْىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } قيل : إنها برزت لأهلها كقوله : { وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ } [ الشعراء : 91 ] . وقيل : هو مجرى على حقيقته ففي الحديث « يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها » { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان } أي يتعظ { وأنى لَهُ الذكرى } ومن أين له منفعة الذكرى؟ { يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } هذه وهي حياة الآخرة أي يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة في الحياة الفانية لحياتي الباقية .
{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } أي لا يتولى عذاب الله أحد لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم { وَلاَ يُوثِقُ } بالسلاسل والأغلال { وَثَاقَهُ أَحَدٌ } قال صاحب الكشاف : لا يعذب أحد أحداً كعذاب الله ولا يوثق أحد أحداً كوثاق الله . { لاَّ يُعَذِّبُ } { وَلاَ يُوثِقُ } علي وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره ، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف وهو الكافر . وقيل : هو أبي بن خلف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه لتناهيه في كفره وعناده .
ثم يقول الله تعالى للمؤمن { ياأيتها النفس } إكراماً له كما كلم موسى عليه السلام أو يكون على لسان ملك { المطمئنة } الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن وهي النفس المؤمنة ، أو المطمئنة إلى الحق التي سكّنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك . ويشهد للتفسير الأول قراءة أبي { يأَيَّتُهَا النفس الآمنةالمطمئنة } وإنما يقال لها عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة { ارجعى إلى } موعد { رَبِّكِ } أو ثواب ربك { رَّاضِيَةٍ } من الله بما أوتيت { مَّرْضِيَّةً } عند الله بما عملت { فادخلى فِى عِبَادِى } في جملة عبادي الصالحين فانتظمي في سلكهم { وادخلى جَنَّتِى } معهم . وقال أبو عبيدة : أي مع عبادي أو بين عبادي أي خواصي كما قال : { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين } [ النمل : 19 ]
وقيل : النفس الروح ومعناه فادخلي في أجساد عبادي كقراءة عبد الله بن مسعود { فِي جسد عبدي } ولما مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم ير على خلقته فدخل في نعشه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر ولم يدر من تلاها . قيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب . وقيل : في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال : اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك ، فحول الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله . وقيل : هي عامة في المؤمنين إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب .(4/31)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
{ لآ أُقْسِمُ بهذا البلد } أقسم سبحانه بالبلد الحرام وبما بعده على أن الإنسان خلق مغموراً في مكابدة المشاق . واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } أي ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد يعني مكة كما يستحل الصيد في غير الحرم . عن شرحبيل : يحرمون أن يقتلوا بها صيداً ويستحلون إخراجك وقتلك ، وفيه تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم في عداوته . أو سلى رسول الله بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه فقال : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } . أي وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر ، وذلك أن الله تعالى فتح عليه مكة وأحلها له وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له ، فأحل ما شاء وحرم ما شاء ، قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ومقيس بن صبابة وغيرهما ، وحرم دار أبي سفيان ونظير قوله { وَأَنتَ حِلٌّ } في الاستقبال قوله : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } [ الزمر : 30 ] . وكفاك دليلاً على أنه للاستقبال أن السورة مكية بالاتفاق ، وأين الهجرة من وقت نزولها فما بال الفتح؟
{ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } هما آدم وولده ، أو كل والد وولده ، أو إبراهيم وولده ، و «ما» بمعنى «من» أو بمعنى «الذي» { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } جواب القسم { فِى كَبَدٍ } مشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة . وعن ذي النون : لم يزل مربوطاً بحبل القضاء مدعواً إلى الائتمار والانتهاء . والضمير في { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } لبعض صناديد قريش الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد ، ثم قيل هو أبو الأشد . وقيل : الوليد بن المغيرة . والمعنى أيظن هذا الصنديد القوي في قومه المتصعب للمؤمنين أن لن تقوم قيامه ولن يقدر على الانتقام منه ، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم وأنه { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } أي كثيراً جمع لبدة وهو ما تلبد أي كثر واجتمع ، يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } حين كان ينفق ما ينفق رياء وافتخاراً يعني أن الله تعالى كان يراه وكان عليه رقيباً . ثم ذكر نعمه عليه فقال { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } يبصر بهما المرئيات { وَلِسَاناً } يعبر عما في ضميره { وَشَفَتَيْنِ } يستر بهما ثغره ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ { وهديناه النجدين } طريقي الخير والشر المفضيين إلى الجنة والنار وقيل الثديين .(4/32)
{ فَلاَ اقتحم العقبة * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } يعني فلم يشكر تلك الآيادي والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب أو إطعام اليتامى والمساكين ، ثم بالإيمان الذي هو أصل كل طاعة وأساس كل خير ، بل غمط النعم وكفر بالمنعم . والمعنى أن الإنفاق على هذا الوجه مرضي نافع عند الله لا أن يهلك ماله لبداً في الرياء والفخار . وقلما تستعمل «لا» مع الماضي إلا مكررة ، وإنما لم تكرر في الكلام الأفصح لأنه لما فسر اقتحام القبة بثلاثة أشياء صار كأنه أعاد «لا» ثلاث مرات وتقديره : فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً ولا آمن . والاقتحام الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة ، والقُحمة الشدة فجعل الصالحة عقبة وعملها اقتحاماً لها في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس . وعن الحسن : عقبة والله شديدة مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان . والمراد بقوله { مَا العقبة } ما اقتحامها ومعناه أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله . وفك الرقبة تخليصها من الرق والإعانة في مال الكتابة .
{ فَكَّ رَقَبَةً * أَوْ إِطْعَامٌ } مكي وأبو عمرو وعلي على الإبدال من اقتحم العقبة ، وقوله { وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة } اعتراض . غيرهم { فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ } على : اقتحامها فك رقبة أو إطعام . والمسغبة المجاعة ، والمقربة القرابة ، والمتربة الفقر ، مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب . يقال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي . وترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب فيكون مأواه المزابل ووصف اليوم بذي مسغبة كقولهم همٌّ ناصب أي ذو نصب . ومعنى { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } أي داوم على الإيمان . وقيل : «ثم» بمعنى الواو . وقيل : إنما جاء ب «ثم» لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت ، إذ الإيمان هو السابق على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به { وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن { وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة } بالتراحم فيما بينهم { أولئك أصحاب الميمنة } أي المصوفون بهذه الصفات من أصحاب الميمنة { والذين كَفَرُواْ بئاياتنا } بالقرآن أو بدلائلنا { هُمْ أصحاب المشئمة } أصحاب الشمال والميمنة والمشأمة اليمين والشمال ، أو اليمن والشؤم أي الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهن { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدةٌ } وبالهمز : أبو عمرو وحمزة وحفص أي مطبقة من أوصدت الباب وآصدته إذا أطبقته وأغلقته والله أعلم .(4/33)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
{ والشمس وضحاها } وضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها { والقمر إِذَا تلاها } تبعها في الضياء والنور وذلك في النصف الأول من الشهر يخلف القمر الشمس في النور { والنهار إِذَا جلاها } جلى الشمس وأظهرها للرائين وذلك عند انتفاخ النهار وانبساطه ، لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء . وقيل : الضمير للظلمة أو للدنيا أو للأرض وإن لم يجر لها ذكر كقوله : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ } [ فاطر : 45 ] { واليل إِذَا يغشاها } يستر الشمس فتظلم الآفاق . والواو الأولى في نحو هذا للقسم بالاتفاق ، وكذا الثانية عند البعض . وعند الخليل : الثانية للعطف لأن إدخال القسم على القسم قبل تمام الأول لا يجوز ، ألا ترى أنك لو جعلت موضعها كلمة الفاء أو «ثم» لكان المعنى على حاله؟ وهما حرفاً عطف فكذا الواو . ومن قال : إنها للقسم احتج بأنها لو كانت للعطف لكان عطفاً على عاملين ، لأن قوله { واليل } مثلاً مجرور بواو القسم و { إِذَا يغشى } منصوب بالفعل المقدر الذي هو أقسم فلو جعلت الواو في { والنهار إِذَا تجلى } للعطف لكان النهار معطوفاً على الليل جراً ، و { إِذَا تجلى } معطوفاً على { إِذَا يغشى } نصباً فصار كقولك : إن في الدار زيداً أو في الحجرة عمراً . وأجيب بأن واو القسم تنزل منزلة الباء والفعل حتى لم يجز إبراز الفعل معها فصارت كأنها العاملة نصباً وجراً ، وصارت كعامل واحد له عملان ، وكل عامل له عملان يجوز أن يعطف على معموليه بعاطف واحد بالاتفاق نحو : ضرب زيد عمراً وبكر خالداً ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما ، فكذا هنا .
و «ما» مصدرية في { والسماء وَمَا بناها * والأرض وَمَا طحاها * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } أي وبنائها وطحوها أي بسطها وتسوية خلقها في أحسن صورة عند البعض وليس بالوجه لقوله { فَأَلْهَمَهَا } لما فيه من فساد النظم ، والوجه أن تكون موصولة وإنما أوثرت على «من» لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل : والسماء ، والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها . وإنما نكرت النفس لأنه أراد نفساً خاصة من بين النفوس وهي نفس آدم كأنه قال : وواحدة من النفوس ، أو أراد كل نفس ، والتنكير للتكثير كما في { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ الانفطار : 5 ] { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } فأعلمها طاعتها ومعصيتها أفهمها أن أحدهما حسن والآخر قبيح { قَدْ أَفْلَحَ } جواب القسم والتقدير : لقد أفلح ، قال الزجاج : صار طول الكلام عوضاً عن اللام . وقيل : الجواب محذوف وهو الأظهر تقديره ليدمدمن الله عليهم أي على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً ، وأما { قَدْ أَفْلَحَ } فكلام تابع لقوله { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } على سبيل الاستطراد وليس من جواب القسم في شيء { مَن زكاها } طهرها الله وأصلحها وجعلها زاكية { وَقَدْ خَابَ مَن دساها } أغواها الله ، قال عكرمة : أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس أغواها الله .(4/34)
ويجوز أن تكون التدسية والتطهير فعل العبد ، والتدسية : النقص والإخفاء بالفجور وأصل دسّى دسس ، والياء بدل من السين المكررة .
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } بطغيانها إذ الحامل لهم على التكذيب طغيانهم { إِذِ انبعث } حين قام بعقر الناقة { أشقاها } أشقى ثمود قدار بن سالف وكان أشقر أزرق قصيراً . و «إذ» منصوب ب { كَذَّبَتْ } أو بالطغوى { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله } صالح عليه السلام { نَاقَةُ الله } نصب على التحذير أي احذروا عقرها { وسقياها } كقولك : الأسد الأسد { فَكَذَّبُوهُ } فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا { فَعَقَرُوهَا } أي الناقة أسند الفعل إليهم وإن كان العاقر واحداً لقوله : { فَنَادَوْاْ صاحبهم فتعاطى فَعَقَرَ } [ القمر : 29 ] . لرضاهم به { فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } أهلكهم هلاك استئصال { بِذَنبِهِمْ } بسبب ذنبهم وهو تكذيبهم الرسول وعقرهم الناقة { فَسَوَّاهَا } فسوى الدمدمة عليهم لم يفلت منها صغيرهم ولا كبيرهم { وَلاَ يَخَافُ عقباها } ولا يخاف الله عاقبة هذه الفعلة أي فعل ذلك غير خائف أن تلحقه تبعة من أحد كما يخاف من يعاقب من الملوك ، لأنه فعل في ملكه وملكه { لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ، { فَلاَ يَخَافُ } مدني وشامي .(4/35)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
إحدى وعشرون آية مكية بسم الله الرحمن الرحيم { واليل إِذَا يغشى } المغشي ، أما الشمس من قوله { واليل إِذَا يغشاها } [ الشمس : 4 ] أو النهار من قوله { يغشى اليل النهار } [ الأعراف : 54 ] أو كل شيء يواريه بظلامه من قوله { إِذَا وَقَبَ } [ الفلق : 3 ] { والنهار إِذَا تجلى } ظهر بزوال ظلمة الليل { وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خق الذكر والأنثى من ماء واحد ، وجواب القسم { إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } إن عملكم لمختلف وبيان الاختلاف فيما فصل على أثره { فَأَمَّا مَنْ أعطى } حقوق ماله { واتقى } ربه فاجتنب محارمه { وَصَدَّقَ بالحسنى } بالملة الحسنى وهي ملة الإسلام ، أو بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، أو بالكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله { فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى } فسنهيئه للخلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه ربه { وَأَمَّا مَن بَخِلَ } بماله { واستغنى } عن ربه فلم يتقه أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى { وَكَذَّبَ بالحسنى } بالإسلام أو الجنة { فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى } للخلة المؤدية إلى النار فتكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد ، أو سمى طريقة الخير باليسرى لأن عاقبتها اليسر ، وطريقة الشر بالعسرى لأن عاقبتها العسر ، أو أراد بهما طريقي الجنة والنار .
{ وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى } ولم ينفعه ماله إذا هلك ، وتردى تفعّل من الردى وهو الهلاك ، أو تردى في القبر أو في قعر جهنم أي سقط { إِنَّ عَلَيْنَا للهدى } إن علينا الإرشاد إلى الحق بنصب الدلائل وبيان الشرائع { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى } فلا يضرنا ضلال من ضل ولا ينفعنا اهتداء من اهتدى ، أو أنهما لنا فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق { فَأَنذَرْتُكُمْ } خوفتكم { نَاراً تلظى } تتلهب { لاَ يصلاها } لا يدخلها للخلود فيها { إِلاَّ الأشقى الذى كَذَّبَ وتولى } إلا الكافر الذي كذب الرسل وأعرض عن الإيمان { وَسَيُجَنَّبُهَا } وسيبعد منها { الأتقى } المؤمن { الذى يُؤْتِى مَالَهُ } للفقراء { يتزكى } من الزكاء أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً لا يريد به رياء ولا سمعة ، أو يتفعل من الزكاة و { يتزكى } إن جعلته بدلاً من { يؤتى } فلا محل له لأنه داخل في حكم الصلة ، والصلاة لا محل لها ، وإن جعلته حالاً من الضمير في { يؤتى } فمحله النصب .
قال أبو عبيدة : الأشقى بمعنى الشقي وهو الكافر ، والأتقى بمعنى التقي وهو المؤمن لأنه لا يختصر بالصلى أشقى الأشقياء ، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء ، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد ناراً مخصوصة بالأشقى فما تصنع بقوله : { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى } ، لأن التقي يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة ، وقيل : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيها ، فقيل { الأشقى } وجعل مختصاً بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له ، وقيل الأتقى وجعل مختصاً بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له ، وقيل : هما أبو جهل وأبو بكر .(4/36)
وفيه بطلان زعم المرجئة لأنهم يقولون لا يدخل النار إلا كافر { وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ } أي وما لأحد عند الله نعمة يجازيه بها إلا أن يفعل فعلا يبتغي به وجه ربه فيجازيه عليه { الأعلى } هو الرفيع بسلطانه المنيع في شأنه وبرهانه ، ولم يرد به العلو من حيث المكان فذا آية الحدثان { وَلَسَوْفَ يرضى } موعد بالثواب الذي يرضيه ويقرّ عينه وهو كقوله تعالى لنبيه عليه السلام : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] .(4/37)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
مكية وهي إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والضحى } المراد وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس . وإنما خص وقت الضحى بالقسم لأنها الساعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام وألقى فيها السحرة سجداً ، أو النهار كله لمقابلته بالليل في قوله { واليل إِذَا سجى } سكن ، والمراد سكون الناس والأصوات فيه ، وجواب القسم { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } ما تركك منذ اختارك وما أبغضك منذ أحبك والتوديع مبالغة في الودع ، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك ، روي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً فقال المشركون : إن محمداً ودعه ربه وقلاه ، فنزلت . وحذف الضمير من { قلى } كحذفه من الذاكرات في قوله : { والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] ، يريد والذاكراته ونحوه : { فاوى } ، { فهدى } ، { فأغنى } وهو اختصار لفظي لظهور المحذوف { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى } أي ما أعد الله لك في الآخرة من المقام المحمود والحوض المورود والخير الموعود خير مما أعجبك في الدنيا ، وقيل : وجه اتصاله بما قبله أنه لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك وأنك حبيب الله ، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك لتقدمه على الأنبياء وشهادة أمته على الأمم وغير ذلك .
{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ } في الآخرة من الثواب ومقام الشفاعة وغير ذلك { فترضى } ولما نزلت قال صلى الله عليه وسلم " إذا لا أرضى قط وواحد من أمتي في النار " واللام الداخلة على «سوف» لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة ، والمبتدأ محذوف تقديره : ولأنت سوف يعطيك ، ونحوه لأقسم فيمن قرأ كذلك لأن المعنى لأنا أقسم ، وهذا لأنها إن كانت لام قسم فلامه لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد فتعين أن تكون لام الابتداء ، ولامه لا تدخل إلا على المبتدأ والخبر فلا بد من تقدير مبتدأ وخبر كما ذكرنا ، كذا ذكره صاحب الكشاف . وذكر صاحب الكشاف هي لام القسم ، واستغنى عن نون التوكيد لأن النون إنما تدخل ليؤذن أن اللام لام القسم لا لام الابتداء ، وقد علم أنه ليس للابتداء لدخولها على «سوف» لأن لام الابتداء لا تدخل على «سوف» ، وذكر أن الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير يؤذن بأن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر .
ثم عدد عليه نعمه من أول حاله ليقيس المترقب من فضل الله على ما سلف منه لئلا يتوقع إلا الحسنى وزيادة الخير ، ولا يضيق صدره ولا يقل صبره فقال { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً } وهو من الوجود الذي بمعنى العلم والمنصوبان مفعولاه ، والمعنى ألم تكن يتيماً حين مات أبواك { فاوى } أي فآواك إلى عمك أبي طالب وضمك إليه حتى كفلك ورباك { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ } أي غير عالم ولا واقف على معالم النبوة وأحكام الشريعة وما طريقة السمع { فهدى } فعرفك الشرائع والقرآن .(4/38)
وقيل : ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب فرده إلى القافلة . ولا يجوز أن يفهم به عدول عن حق ووقوع في غي فقد كان عليه الصلاة السلام من أول حاله إلى نزول الوحي عليه معصوماً من عبادة الأوثان وقاذورات أهل الفسق والعصيان { وَوَجَدَكَ عَائِلاً } فقيراً { فأغنى } فأغناك بمال خديجة أو بمال أفاء عليك من الغنائم { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } فلا تغلبه على ماله وحقه لضعفه { وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ } فلا تزجره فابذل قليلاً أو رد جميلاً . وعن السدي : المراد طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ } أي حدث بالنبوة التي آتاك الله وهي أجل النعم ، والصحيح أنها تعم جميع نعم الله عليه ويدخل تحته تعليم القرآن والشرائع والله أعلم .(4/39)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
مكية وهي ثمان آيات
بسم الله الرحما ن الرحيم
{ ألم نشرح لك
صدرك } استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار فأفاد إثبات الشرح فكأنه قيل : شرحنا لك صدرك ، ولذا عطف عليه { وضعنا } اعتباراً للمعنى أي فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم حتى وسع هموم النبوة ودعوة الثقلين ، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل ، وعن الحسن : مليء حكمة وعلماً { صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } وخففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها ، وقيل : هو زلة لا تعرف بعينها وهي ترك الأفضل مع إتيان الفاضل ، والأنبياء يعاتبون بمثلها ووضعه عنه أن غفر له ، والوزر : الحمل الثقيل { الذى أَنقَضَ ظَهْرَكَ } أثقله حتى سمع نقيضه وهو صوت الانتقاض { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } ورفع ذكره أن قرن ذكر الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والخطب والتشهد وفي غير موضع من القرآن : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ محمد : 33 ] [ التغابن : 12 ] . { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } [ النساء : 13 ] . { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] . وفي تسميته رسول الله ونبي الله ومنه ذكره في كتب الأولين . وفائدة لك ما عرف في طريقة الإبهام والإيضاح لأنه يفهم بقوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ } أن ثم مشروحاً ، ثم أوضح بقوله { صَدْرَكَ } ما علم مبهماً وكذلك { لَكَ ذِكْرَكَ } ، و { عَنكَ وِزْرَكَ } .
{ فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } أي إن مع الشدة التي أنت فيها من مقاساة بلاء المشركين يسراً بإظهاري إياك عليهم حتى تغلبهم . وقيل : كان المشركون يعيرون رسول الله والمؤمنين بالفقر حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله ، فذكره ما أنعم به عليه من جلائل النعم . ثم قال { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } كأنه قال : خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسراً ، وجيء بلفظ «مع» لغاية مقاربة اليسر العسر زيادة في التسلية ولتقوية القلوب ، وإنما قال عليه السلام عند نزولها " لن يغلب عسر يسرين " لأن العسر أعيد معرفاً فكان واحداً لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى ، واليسر أعيد نكرة والنكرة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى ، فصار المعنى إن مع العسر يسرين . قال أبو معاذ : يقال إن مع الأمير غلاماً إن مع الأمير غلاماً ، فالأمير واحد ومعه غلامان . وإذا قال : إن مع أمير غلاماً وإن مع الأمير الغلام ، فالأمير واحد والغلام واحد . وإذا قيل : إن مع أمير غلاماً وإن مع أمير غلاماً فهما أميران وغلامان كذا في «شرح التأويلات» .
{ فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب } أي فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الرب ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء ، واختلف أنه قبل السلام أو بعده ، ووجه الاتصال بما قبله أنه لما عدد عليه نعمه السالفة ومواعيده الآتية بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها ، وأن يواصل بين بعضها وبعض ولا يخلي وقتاً من أوقاته منها فإذا فرغ من عبادة ذنبها بأخرى { وإلى رَبّكَ فارغب } واجعل رغبتك إليه خصوصاً ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } [ إبراهيم : 11 ] .(4/40)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
مكية وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والتين والزيتون } أقسم بهما لأنهما عجيبان من بين الأشجار المثمرة ، روي أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه : " كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم ، فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس " وقال : " نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة " وقال : " هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي " وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو تينكم هذا وزيتونكم هذا ، وقيل : هما جبلان بالشام منبتاهما { وَطُورِ سِينِينَ } أضيف الطور وهو الجبل إلى سينين وهي البقعة ونحو سينون بيرون في جواز الإعراب بالواو والياء والإقرار على الياء وتحريك النون بحركات الإعراب { وهذا البلد } يعني مكة { الأمين } من أمن الرجل أمانة فهو أمين ، وأمانته أنه يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه . ومعنى القسم بهذه الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والأولياء ، فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشؤه ، والطور : المكان الذي نودي منه موسى ، ومكة مكان البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد نبينا ومبعثه صلوات الله عليهم أجمعين . أو الأولان قسم بمهبط الوحي على عيسى ، والثالث على موسى ، والرابع على محمد عليهم السلام .
وجواب القسم { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } وهو جنس { فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية أعضائه { ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين } أي ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية أن رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً يعني أقبح من قبح صورة وهم أصحاب النار ، أو أسفل من أهل الدركات ، أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره بعد اعتداله ، وابيض شعره بعد سواده ، وتشننّ جلده وكلّ سمعه وبصره ، وتغير كل شيء منه ، فمشيه دليف ، وصوته خفات ، وقوته ضعف ، وشهامته خرف { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } ودخل الفاء هنا دون سورة الانشقاق للجمع بين اللغتين ، والاستثناء على الأول متصل ، وعلى الثاني منقطع أي ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى والزمنى فلهم ثواب غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على الابتلاء بالشيخوخة والهرم ، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة . والخطاب في { فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين } للإنسان على طريقة الالتفات أي فما سبب تكذيبك بعد هذا البيان القاطع والبرهان الساطع بالجزاء؟ والمعنى أن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوى ، ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق ، وأن من قدر على خلق الإنسان وعلى هذا كله لم يعجز عن إعادته ، فما سبب تكذيبك بالجزاء؟ أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي فمن ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل؟ ف «ما» بمعنى «من» { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله وهو من الحكم والقضاء والله أعلم .(4/41)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)
مكية وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
عن ابن عباس ومجاهد : هي أول سورة نزلت . والجمهور على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ } محل { باسم رَبّكَ } النصب على الحال أي اقرأ مفتتحاً باسم ربك كأنه قيل : قل باسم الله ثم اقرأ الذي خلق . ولم يذكر الخلق مفعولاً لأن المعنى الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه ، أو تقديره خلق كل شيء فيتناول كل مخلوق لأنه مطلق فليس بعض المخلوقات بتقديره أولى من بعض . وقوله { خَلَقَ الإنسان } تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه ولأن التنزيل إليه ، ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان إلا أنه ذكر مبهماً ثم مفسراً تفخيماً لخلقه ودلالة على عجيب فطرته { مِنْ عَلَقٍ } وإنما جمع ولم يقل من علقة لأن الإنسان في معنى الجمع { اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم } الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كريم ينعم على عباده النعم ويحلم عنهم ، فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه ، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال { الذى عَلَّمَ } الكتابة { بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة ، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به .
{ كَلاَّ } ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه { إِنَّ الإنسان ليطغى } نزلت في أبي جهل إلى آخر السورة { أَن رَّءاهُ } أن رأى نفسه . يقال في أفعال القلوب : رأيتني وعلمتني ، ومعنى الرؤية العلم ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين { استغنى } هو المفعول الثاني { إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى } تهديد للإنسان من عاقبة الطغيان على طريق الالتفات . والرجعى مصدر بمعنى الرجوع أي إن رجوعك إلى ربك فيجازيك على طغيانك { أَرَءيْتَ الذى ينهى عَبْداً إِذَا صلى } أي أرأيت أبا جهل ينهى محمداً عن الصلاة { أَرَءيْتَ إِن كَانَ على الهدى } أي إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله { أَوْ أَمَرَ بالتقوى } أو كان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد { أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى } أرأيت إن كان ذلك الناهي مكذباً بالحق متولياً عنه كما نقول نحن { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى } ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب حاله ، وهذا وعيد وقوله { الذى ينهى } مع الجملة الشرطية مفعولا { أَرَأَيْتَ } وجواب الشرط محذوف تقديره : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى؟ وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني وهذا كقولك : إن أكرمتك أتكرمني؟ و { أَرَأَيْتَ } الثانية مكررة زائدة للتوكيد .(4/42)
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
{ كَلاَّ } ردع لأبي جهل عن نهيه عن عبادة الله وأمره بعبادة الأصنام . ثم قال { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ } عما هو فيه { لَنَسْفَعاً بالناصية } لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار ، والسفع : القبض على الشيء وجذبه بشدة ، وكتبها في المصحف بالألف على حكم الوقف ، واكتفى بلام العهد عن الإضافة للعلم بأنها ناصية المذكور { نَاصِيَةٍ } بدل من { الناصية } لأنها وصفت بالكذب والخطأ بقوله { كاذبة خَاطِئَةٍ } عن الإسناد المجازي وهما لصاحبها حقيقة وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك «ناصية كذاب خاطىء» { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزبانية } النادي المجلس الذي يجتمع فيه القوم ، والمراد أهل النادي . روي أن أبا جهل مر بالنبي عليه السلام وهو يصلي فقال : ألم أنهك فأغلظ له رسول الله عليه السلام فقال : أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً فنزل . والزبانية لغة الشرط الواحد زبنية من الزبن وهو الدفع ، والمراد ملائكة العذاب وعنه عليه السلام " لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عياناً " { كَلاَّ } ردع لأبي جهل { لاَ تُطِعْهُ } أي اثبت على ما أنت عليه من عصيانه كقوله { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } [ القلم : 8 ] { واسجد } ودم على سجودك يريد الصلاة { واقترب } وتقرب إلى ربك بالسجود فإن أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد كذا الحديث والله أعلم .(4/43)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
مكية وقيل مدنية وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر } عظم القرآن حيث أسند إنزاله إليه دون غيره . وجاء بضميره دون اسمه الظاهر للاستغناء عن التنبيه عليه ورفع مقدار الوقت الذي أنزله فيه . روي أنه أنزل جملة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثم كان ينزله جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة . ومعنى ليلة القدر ليلة تقدير الأمور وقضائها . والقدر بمعنى التقدير ، أو سميت بذلك لشرفها على سائر الليالي وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان ، كذا روى أبو حنيفة رحمه الله عن عاصم عن ذرّ أن أبيّ بن كعب كان يحلف على ليلة القدر أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان وعليه الجمهور . ولعل الداعي إلى إخفائها أن يحيى من يريدها الليالي الكثيرة طلباً لموافقتها ، وهذا كإخفاء الصلاة الوسطى ، واسمه الأعظم ، وساعة الإجابة في الجمعة ، ورضاه في الطاعات ، وغضبه في المعاصي . وفي الحديث : « من أدركها يقول اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عني » { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر } أي لم تبلغ درايتك غاية فضلها .
ثم بين له ذلك بقوله { لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } ليس فيها ليلة القدر . وسبب ارتفاع فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من تنزل الملائكة والروح وفصل كل أمر حكيم . وذكر في تخصيص هذه المدة أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المؤمنون من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي { تَنَزَّلُ الملائكة } إلى السماء الدنيا أو إلى الأرض { والروح } جبريل أو خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة أو الرحمة { فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ } أي تنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل وعليه وقف { سلام هِىَ } ما هي إلا سلامة خبر ومبتدأ أي لا يقدّر الله فيها إلا السلامة والخير ويقضي في غيرها بلاء وسلامة ، أو ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون على المؤمنين . قيل : لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة { حتى مَطْلَعِ الفجر } أي إلى وقت طلوع الفجر . بكسر اللام : علي وخلف ، وقد حرم من السلام الذين كفروا والله أعلم .(4/44)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
مختلف فيها وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ } بمحمد صلى الله عليه وسلم { مّنْ أَهْلِ الكتاب } أي اليهود والنصارى وأهل الرجل أخص الناس به وأهل الإسلام من يدين به { والمشركين } عبدة الأصنام { مُنفَكّينَ } منفصلين عن الكفر وحذف لأن صلة «الذين» تدل عليه { حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } الحجة الواضحة والمراد محمد صلى الله عليه وسلم يقول : لم يتركوا كفرهم حتى يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث أسلم بعض وثبت على الكفر بعض { رَسُولٌ مّنَ الله } أي محمد عليه السلام وهو بدل من { البينة } { يَتْلُواْ } يقرأ عليهم { صُحُفاً } قراطيس { مُّطَهَّرَةٍ } من الباطل { فِيهَا } في الصحف { كُتُبٌ } مكتوبات { قَيّمَةٌ } مستقيمة ناطقة بالحق والعدل { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } فمنهم من أنكر نبوته بغياً وحسداً ، ومنهم من آمن . وإنما أفرد أهل الكتاب بعدما جمع أولاً بينهم وبين المشركين ، لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم ، فإذا وصفوا بالتفرق عنه كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف .
{ وَمَا أُمِرُواْ } يعني في التوراة والإنجيل { إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } من غير شرك ولا نفاق { حُنَفَاء } مؤمنين بجميع الرسل مائلين عن الأديان الباطلة { وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكواة وَذَلِكَ دِينُ القيمة } أي دين الملة القيمة { إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِى نَارِ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ البرية إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية } ونافع يهمزهما والقراء على التخفيف ، والنبي والبرية مما استمر الاستعمال على تخفيفه ورفض الأصل { جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جنات عَدْنٍ } إقامة { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ الله عَنْهُمْ } بقبول أعمالهم { وَرَضُواْ عَنْهُ } بثوابها { ذلك } أي الرضا { لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ } وقوله { خَيْرُ البرية } يدل على فضل المؤمنين من البشر على الملائكة ، لأن البرية الخلق ، واشتقاقها من برأ الله الخلق . وقيل : اشتقاقها من البرَى وهو التراب ، ولو كان كذلك لما قرءوا { البريئة } بالهمز كذا قاله الزجاج والله أعلم .(4/45)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
مختلف فيها وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } أي إذا حركت زلزالها الشديد الذي ليس بعده زلزال . وقرىء بفتح الزاء فالمكسور مصدر والمفتوح اسم { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } أي كنوزها وموتاها جمع ثقل وهو متاع البيت ، جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها { وَقَالَ الإنسان } زلزلت هذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها ، وذلك عند النفخة الثانية حين تزلزل وتلفظ موتاها أحياء فيقولون ذلك لما يبهرهم من الأمر الفظيع كما يقولون { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ يس : 52 ] وقيل : هذا قول الكافر لأنه كان لا يؤمن بالبعث ، فأما المؤمن فيقول { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون } [ يس : 52 ] { يَوْمَئِذٍ } بدل من «إذا» وناصبها { تُحَدّثُ } أي تحدث الخلق { أَخْبَارَهَا } فحذف أول المفعولين لأن المقصود ذكر تحديثها الإخبار لا ذكر الخلق . قيل : ينطقها الله وتخبر بما عمل عليها من خير وشر . وفي الحديث : " تشهد على كل واحد بما عمل على ظهرها " { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } أي تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها أي إليها وأمره إياها بالتحديث { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس } يصدرون عن مخارجهم من القبور إلى الموقف { أَشْتَاتاً } بيض الوجوه آمنين وسود الوجوه فزعين ، أو يصدرون عن الموقف أشتاتاً يتفرق بهم طريقا الجنة والنار { لّيُرَوْاْ أعمالهم } أي جزاء أعمالهم { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } نملة صغيرة { خَيْرًا } تمييز { يَرَهُ } أي ير جزاءه { وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } قيل : هذا في الكفار والأول في المؤمنين . ويروى أن أعرابياً أخر خيراً يره فقيل له : قدمت وأخرت فقال :
خذا بطن هرشي أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشي لهن طريق
وروي أن جد الفرزدق أتاه عليه السلام ليستقرئه فقرأ عليه هذه الآية فقال : حسبي حسبي ، وهي أحكم آية وسميت الجامعة والله أعلم .(4/46)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
مختلف فيها وهي إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والعاديات ضَبْحاً } أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح ، والضبح : صوت أنفاسها إذا عدون . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه حكاه فقال : أح أح . وانتصاب { ضَبْحاً } على يضبحن ضبحاً { فالموريات } تورى نار الحباحب وهي ما ينقدح من حوافرها { قَدْحاً } قادحات صاكات بحوافرها الحجارة ، والقدح : الصك ، والإيراء : إخراج النار ، تقول : قدح فأورى وقدح فأصلد . وانتصب { قَدْحاً } بمانتصب به { ضَبْحاً } { فالمغيرات } تغير على العدو { صُبْحاً } في وقت الصبح { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } فهيجن بذلك الوقت غباراً { فَوَسَطْنَ بِهِ } بذلك الوقت { جَمْعاً } من جموع الأعداء ووسطه بمعنى توسطه . وقيل : الضمير لمكان الغارة أو للعدو الذي دل عليه . { والعاديات } وعطف { فَأَثَرْنَ } على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه لأن المعنى واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن . وجواب القسم { إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } لكفور أي إنه لنعمة ربه خصوصاً لشديد الكفران { وَإِنَّهُ } وإن الإنسان { على ذلك } على كنوده { لَشَهِيدٌ } يشهد على نفسه ، أو وإن الله على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد { وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ } وإنه لأجل حب المال لبخيل ممسك ، أو إنه لحب المال لقوي وهو لحب عبادة الله ضعيف { أَفَلاَ يَعْلَمُ } الإنسان { إِذَا بُعْثِرَ } بعث { مَا فِى القبور } من الموتى و«ما» بمعنى «من» { وَحُصِّلَ مَا فِى الصدور } ميز ما فيها من الخير والشر { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } لعالم فيجازيهم على أعمالهم من الخير والشر ، وخص { يَوْمَئِذٍ } بالذكر وهو عالم بهم في جميع الأزمان لأن الجزاء يقع يومئذ والله أعلم .(4/47)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
مكية وهي إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ القارعة } مبتدأ { مَا } مبتدأ ثانٍ { القارعة } خبره والجملة خبر المبتدأ الأول ، وكان حقه ما هي وإنما كرر تفخيماً لشأنها { وَمَا أَدْرَاكَ مَا القارعة } أي أيّ شيء أعلمك ما هي ومن أين علمت ذلك؟ { يَوْمٍ } نصب بمضمر دلت عليه القارعة أي تقرع يوم { يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث } شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كل جانب كما يتطاير الفراش إلى النار ، وسمي فراشاً لتفرشه وانتشاره { وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش } وشبه الجبال بالعهن وهو الصوف المصبغ ألوناً لأنها ألوان { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها } [ فاطر : 27 ] وبالمنفوش منه لتفرق أجزائها { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه } باتباعهم الحق وهي جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله ، أو جمع ميزان وثقلها رجحانها { فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } ذات رضا أو مرضية { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ موازينه } باتباعهم الباطل { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } فمسكنه ومأواه النار . وقيل : للمأوى أمٌّ على التشبيه لأن الأم مأوى الولد ومفزعه { وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ } الضمير يعود إلى { هَاوِيَةٌ } والهاء للسكت ثم فسرها فقال { نَارٌ حَامِيَةٌ } بلغت النهاية في الحرارة والله أعلم .(4/48)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
مكية وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ ألهاكم التكاثر } شغلكم التباري في الكثرة والتباهي بها في الأموال والأولاد عن طاعة الله { حتى زُرْتُمُ المقابر } حتى أدرككم الموت على تلك الحال ، أو حتى زرتم المقابر وعددتم من في المقابر من موتاكم { كَلاَّ } ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بدينه { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } عند النزع سوء عاقبة ما كنتم عليه { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } في القبور { كَلاَّ } تكرير الردع للإنذار والتخويف { لَّوْ تَعْلَمُونَ } جواب «لو» محذوف أي لو تعلمون ما بين أيديكم { عِلْمَ اليقين } علم الأمر يقين أي كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور لما ألهاكم التكاثر ، أو لفعلتم ما لا يوصف ولكنكم ضلال جهلة { لَتَرَوُنَّ الجحيم } هو جواب قسم محذوف والقسم لتوكيد الوعيد { لَتَرَوُنَّ } ، بضم التاء : شامي وعلي { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا } كرره معطوف ب «ثم» تغليظاً في التهديد وزيادة في التهويل ، أو الأول بالقلب والثاني بالعين { عَيْنَ اليقين } أي الرؤية التي هي نفس اليقين وخالصته { ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } عن الأمن والصحة فيم أفنيتموهما؟ عن ابن مسعود رضي الله عنه . وقيل : عن التنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه . وعن الحسن ما سوى كنّ يؤويه وثوب يواريه وكسرة تقويه وقد روي مرفوعاً والله أعلم .(4/49)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
مختلف فيها وهي ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ والعصر } أقسم بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله تعالى : { والصلاوة الوسطى } [ البقرة : 238 ] صلاة العصر في مصحف حفصة ، ولأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم ، أو أقسم بالعشي كما أقسم بالضحى لما فيها من دلائل القدرة ، أو أقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب ، وجواب القسم { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } أي جنس الإنسان لفي خسران من تجاراتهم { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا فربحوا وسعدوا { وَتَوَاصَوْاْ بالحق } بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره وهو الخير كله من توحيد الله وطاعته واتباع كتبه ورسله { وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } عن المعاصي وعلى الطاعات وعلى ما يبلو به الله عباده ، { وَتَوَاصَوْاْ } في الموضعين فعل ماضٍ معطوف على ماض قبله والله أعلم .(4/50)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
مكية وهي تسع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَيْلٌ } مبتدأ خبره { لّكُلّ هُمَزَةٍ } أي الذي يعيب الناس من خلفهم { لُّمَزَةٍ } أي من يعيبهم مواجهة . وبناء «فعلة» يدل على أن ذلك عادة منه . قيل : نزلت في الأخنس بن شريق وكانت عادته الغيبة والوقيعة . وقيل : في أمية بن خلف . وقيل : في الوليد . ويجوز أن يكون السبب خاصاً والوعيد عاماً ليتناول كل من باشر ذلك القبيح { الذى } بدل من كل أو نصب على الذم { جَمَعَ مَالاً } { جَمَعَ } شامي وحمزة وعلي مبالغة جمع وهو مطابق لقوله { وَعَدَّدَهُ } أي جعله عدة لحوادث الدهر { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } أي تركه خالداً في الدنيا لا يموت أو هو تعريض بالعمل الصالح وأنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم ، فأما المال فما أخلد أحداً فيه { كَلاَّ } ردع له عن حسبانه { لَيُنبَذَنَّ } أي الذي جمع { فِى الحطمة } في النار التي شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحطمة } تعجيب وتعظيم { نَارُ الله } خبر مبتدأ محذوف أي هي نار الله { الموقدة } نعتها { التى تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة } يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم وهي أوساط القلوب ، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ولا أشد تألماً منه بأدنى أذى يمسه ، فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه؟ وقيل : خص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة ، ومعنى اطلاع النار عليها أنها تشتمل عليها { إِنَّهَا عَلَيْهِم } أي النار أو الحطمة { مُّؤْصَدَةُ } مطبقة { فِى عَمَدٍ } { بضمتين } كوفي حفص ، الباقون { فِى عَمَدٍ } وهما لغتان في جمع عماد كإهاب وأهب وحمار وحمر { مُّمَدَّدَةِ } أي تؤصد عليهم الأبواب وتمدد على الأبواب العمد استيثاقاً في استيثاق . في الحديث : " المؤمن كيس فطن وقاف متثبت لا يعجل عالم ورع ، والمنافق همزة لمزة حطمة كحاطب الليل لا يبالي من أين اكتسب وفيم أنفق " والله أعلم .(4/51)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
مكية وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ } { كَيْفَ } في موضع نصب ب { فِعْلَ } لا ب { أَلَمْ تَرَ } لما في { كَيْفَ } من معنى الاستفهام ، والجملة سدت مسد مفعولي { تَرَ } وفي { أَلَمْ تَرَ } تعجيب أي عجّب الله نبيه من كفر العرب وقد شاهدت هذه العظمة من آيات الله ، والمعنى إنك رأيت آثار صنع الله بالحبشة وسمعت الأخبار به متواتراً فقامت لك مقام المشاهدة { بأصحاب الفيل } روي أن أبرهة ابن الصباح ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي ، بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس ، وأراد أن يصرف إليها الحاج فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً فأغضبه ذلك . وقيل : أججت رفقة من العرب ناراً فحملتها الريح فأحرقتها فحلف ليهدمن الكعبه ، فخرج بالحبشة ومعه فيل اسمه محمود وكان قوياً عظيماً واثنا عشر فيلاً غيره ، فلما بلغ المغمس خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى ، وعبى جيشه وقدم الفيل ، وكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى اليمن هرول ، وأرسل الله طيراً مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة ، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره ، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ففروا وهلكوا ، وما مات أبرهة حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة ، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتاً بين يديه .
وروي أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير فخرج إليه فيها فعظم في عينه وكان رجلاً جسيماً وسيماً . وقيل : هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رءوس الجبال ، فلما ذكر حاجته قال : سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وشرفكم في قديم الدهر ، فألهاك عنه ذود أخذلك فقال : أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ } في تضييع وإبطال . يقال : ضلل كيده إذا جعله ضالاً ضائعاً . وقيل لامرىء القيس : الملك الضليل لأنه ضلل ملك أبيه أي ضيعه يعني أنهم كادوا البيت أوّلاً ببناء القليس ليصرفوا وجوه الحاج إليه فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه ، وكادوه ثانياً بإرادة هدمه فضلل كيدهم بإرسال الطير عليهم { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ } حزائق الواحدة إبالة . قال الزجاج : جماعات من ههنا وجماعات من ههنا { تَرْمِيهِم } وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه { يرميهم } أي الله أو الطير لأنه اسم جمع مذكر وإنما يؤنث على المعنى { بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ } هو معرب من سنككل وعليه الجمهور أي الآجر { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } زرع أكله الدود .(4/52)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
مكية وهي أربع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ لإيلاف قُرَيْشٍ } متعلق بقوله { فَلْيَعْبُدُواْ } أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين . ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط أي إن نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة ، أو بما قبله أي { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ لإيلاف قُرَيْشٍ } يعني أن ذلك الإتلاف لهذا الإيلاف وهذا كالتضمين في الشعر ، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلا به ، وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة بلا فصل . ويروى عن الكسائي ترك التسمية بينهما ، والمعنى أنه أهلك الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك فيحترموهم فضل احترام حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم فلا يجترىء أحد عليهم . وقيل : المعنى اعجبوا لإيلاف قريش { لإِلاف قُرَيْشٍ } شامي أي لمؤالفة قريش . وقيل : يقال ألفته ألفاً وإلافاً . وقريش ولد النضر بن كنانة سموه بتصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار ، والتصغير للتعظيم فسموه بذلك لشدتهم ومنعتهم تشبيهاً بها . وقيل : من القرش وهو الجمع والكسب لأنهم كانوا كسابين بتجاراتهم وضربهم في البلاد { إيلافهم رِحْلَةَ الشتاء والصيف } أطلق الإيلاف ثم أبدل عنه المقيد بالرحلتين تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً لعظيم النعمة فيه . ونصب الرحلة ب { إيلافهم } مفعولاً به وأراد رحلتي الشتاء والصيف فأفرد لأمن الإلباس . وكانت لقريش رحلتان يرحلون في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام ، فيمتارون ويتجرون ، وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله فلا يتعرض لهم وغيرهم يغار عليهم { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ } والتنكير في { جُوعٍ } و { خوْفٍ } لشدتهما يعني أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما ، وآمنهم من خوف عظيم وهو خوف أصحاب الفيل ، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم . وقيل : كانوا قد أصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة ، وآمنهم من خوف الجذام لا يصيبهم ببلدهم . وقيل : ذلك كله بدعاء إبراهيم عليه السلام .(4/53)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
مختلف فيها وهي سبع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ أَرَءيْتَ الذى يُكَذّبُ بالدين } أي هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو إن لم تعرفه { فَذَلِكَ الذى } يكذب بالجزاء هو الذي { يَدُعُّ اليتيم } أي يدفعه دفعاً عنيفاً بجفوة وأذى ويرده رداً قبيحاً بزجر وخشونة { وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } ولا يبعث أهله على بذل طعام المسكين ، جعل علم التكذيب الجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف أي لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد لخشي الله وعقابه ولم يقدم على ذلك ، فحين أقدم عليه دل أنه مكذب بالجزاء . ثم وصل به قوله { فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ الذين هُمْ يُرَاءونَ وَيَمْنَعُونَ الماعون } يعني بهذا المنافقين لا يصلونها سراً لأنهم لا يعتقدون وجوبها ويصلونها علانية رياء . وقيل : فويل للمنافقين الذين يدخلون أنفسهم في جملة المصلين صورة وهم غافلون عن صلاتهم ، وأنهم لا يريدون بها قربة إلى ربهم ولا تأدية للفرض فهم ينخفضون ويرتفعون ولا يدرون ماذا يفعلون ، ويظهرون للناس أنهم يؤدون الفرائض ويمنعون الزكاة وما فيه منفعة . وعن أنس والحسن قالا : الحمد لله الذي قال { عَن صلاتهم } ولم يقل «في صلاتهم» لأن معنى «عن» أنهم ساهون عنها سهو ترك لها وقلة التفات إليها ذلك فعل المنافقين ، ومعنى «في» أن السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس وذلك لا يخلو عنه مسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته فضلاً عن غيره . والمراءاة مفاعلة من الإراءة لأن المرائي يرائي الناس عمله وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به ، ولا يكون الرجل مرائياً بإظهار الفرائض فمن حقها الإعلان بها لقوله صلى الله عليه وسلم : " ولا غمة في فراض الله " والإخفاء في التطوع أولى فإن أظهره قاصداً للاقتداء به كان جميلاً ، والماعون : الزكاة . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ما يتعاور في العادة من الفأس والقدر والدلو والمقدحة ونحوها ، وعن عائشة رضي الله عنها : الماء والنار والملح والله أعلم .(4/54)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
مكية وهي ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّا أعطيناك الكوثر } هو فوعل من الكثرة وهو المفرط الكثرة ، وقيل : هو نهر في الجنة أحلى من العسل ، وأشد بياضاً من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزبد ، حافتاه الزبرجد وأوانيه من فضة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو الخير الكثير فقيل له : إن ناساً يقولون هو نهر في الجنة فقال : هو من الخير الكثير { فَصَلّ لِرَبّكَ } فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه وشرفك وصانك من منن الخلق مراغماً لقومك الذين يعبدون غير الله { وانحر } لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفاً لعبدة الأوثان في النحر لها { إِنَّ شَانِئَكَ } أي من أبغضك من قومك بمخالفتك لهم { هُوَ الابتر } المنقطع عن كل خير لا أنت ، لأن كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولادك وأعقابك ، وذكرك مرفوع على المنابر وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر ، يبدأ بذكر الله ويثني بذكرك ، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف ، فمثلك لا يقال له أبتر إنما الأبتر هو شانئك المنسي في الدنيا والآخرة . قيل : نزلت في العاص بن وائل سماه الأبتر ، والأبتر الذي لا عقب له وهو خبر «إن» و«هو» فصل .(4/55)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
ست آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ ياأيها الكافرون } المخاطبون كفرة مخصوصون قد علم الله أنهم لا يؤمنون . روي أن رهطاً من قريش قالوا : يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، فقال : معاذ الله أن أشرك بالله غيره ، قالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك فنزلت ، فغدا إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقرأها عليهم فآيسوا { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } أي لست في حالي هذه عابداً ما تعبدون { وَلاَ أَنتُمْ عابدون } الساعة { مَا أَعْبُدُ } يعني الله { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } ولا أعبد فيما أستقبل من الزمان ما عبدتم { وَلا أَنتُمْ } فيما تستقبلون { عابدون مَا أَعْبُدُ } وذكر بلفظ ما لأن المراد به الصفة أي لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق ، أو ذكر بلفظ «ما» ليتقابل اللفظان ولم يصح في الأول «من» وصح في الثاني «ما» بمعنى «الذي» { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } لكم شرككم ولي توحيدي ، وبفتح الياء : نافع وحفص ، وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فقال له : " نابذ يا ابن مسعود فقرأ { قُلْ ياأيها الكافرون } ثم قال له في الركعة الثانية : أخلص . فقرأ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } فلما سلم ، قال يا ابن مسعود سل تجب " والله أعلم .(4/56)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
مدنية وهي ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا } منصوب ب { سَبِّحِ } وهو لما يستقبل ، والإعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة . وروي أنها نزلت في أيام التشريق بمنىٍ في حجة الوداع { جَاء نَصْرُ الله والفتح } النصر الإغاثة والإظهار على العدو ، والفتح فتح البلاد ، والمعنى نصر الله صلى الله عليه وسلم على العرب أو على قريش وفتح مكة ، أو جنس نصر الله المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم { وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ } هو حال من { الناس } على أن { رَأَيْتُ } بمعنى أبصرت أو عرفت ، أو مفعول ثانٍ على أنه بمعنى علمت { فِى دِينِ الله أفواجا } هو حال من فاعل يدخلون ، وجواب «إذا» { فَسَبّحْ } أي إذا جاء نصر الله إياك على من ناواك وفتح البلاد ، ورأيت أهل اليمن يدخلون في ملة الإسلام جماعات كثيرة بعدما كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً واثنين اثنين { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } فقل : سبحان الله حامداً له أو فصل له { واستغفره } تواضعاً وهضماً للنفس أو دم على الاستغفار { إِنَّهُ كَانَ } ولم يزل { تَوبَا } التواب الكثير القبول للتوبة وفي صفة العباد الكثير الفعل للتوبة . ويروى أن عمر رضي الله عنه لما سمعها بكى وقال : الكمال دليل الزوال ، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها سنتين والله أعلم .(4/57)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
مكية وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ } التباب : الهلاك ومنه قولهم أشابّة أم تابّة أي هالكة من الهرم؟ والمعنى هلكت يداه لأنه فيما يروى أخذ حجراً ليرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَتَبَّ } وهلك كله أو جعلت يداه هالكتين والمراد هلاك جملته كقوله { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] ومعنى { وَتَبَّ } وكان ذلك وحصل ، كقوله :
جزائي جزاء الله شر جزائه ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
وقد دلت عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : { وَقَد تَبَّ } ، روي أنه لما نزل { وأنذر عشيرتك الأقربين } رقى الصفا " وقال : يا صباحاه فاستجمع إليه الناس من كل أوب . فقال عليه الصلاة والسلام : يا بني عبد المطلب يا بني فهر إن أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي؟ قالوا : نعم . قال : «فإني نذير لكم بين يدي الساعة " فقال أبو لهب : تباً لك ألهذا دعوتنا فنزلت . وإنما كناه والتكنية تكرمة لاشتهاره بها دون الاسم ، أو لكراهة اسمه فاسمه عبد العزى ، أو لأن مآله إلى نار ذات لهب فوافقت حاله كنيته ، { أَبِى لَهَبٍ } مكي { مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ } «ما» للنفي { وَمَا كَسَبَ } مرفوع و«ما» موصولة أو مصدرية أي ومكسوبه أو وكسبه أي لم ينفعه ماله الذي ورثه من أبيه ، أو الذي كسبه بنفسه ، أو ماله التالد والطارف ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما كسب ولده . وروي أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي { سيصلى نَاراً } سيدخل { سيصلى } البرجمي عن أبي بكر ، والسين للوعيد أي هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته { ذَاتَ لَهَبٍ } توقد { وامرأته } هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان { حَمَّالَةَ الحطب } كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : كانت تمشي بالنميمة فتشعل نار العداوة بين الناس . ونصب عاصم { حَمَّالَةَ الحطب } على الشتم وأنا أحب هذه القراءة ، وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميل من أحب شتم أم جميل . وعلى هذا يسوغ الوقف على { امرأته } لأنها عطفت على الضمير في { سيصلى } أي سيصلى هو وامرأته والتقدير : أعني حمالة الحطب ، وغيره رفع { حَمَّالَةَ الحطب } على أنها خبر وامرأته أو هي حمالة { فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ } حال أو خبر آخر . والمسد الذي فتل من الحبال فتلاً شديداً من ليف كان أو جلد أو غيرهما ، والمعنى في جيدها حبل مما مسد من الحبال وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون تحقيراً لها وتصويراً لها بصورة بعض الحطابات لتجزع من ذلك ويجزع بعلها ، وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة والله أعلم .(4/58)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
أربع آيات مكية عند الجمهور وقيل : مدنية عند أهل البصرة
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } هو ضمير الشأن و { الله أَحَدٌ } هو الشأن كقولك : هو زيد منطلق كأنه قيل : الشأن هذا وهو أن الله واحد لا ثاني له ، ومحل { هُوَ } الرفع على الابتداء والخبر هو الجملة ، ولا يحتاج إلى الراجح لأنه في حكم المفرد في قولك : زيد غلامك في أنه هو المبتدأ في المعنى ، وذلك أن قوله { الله أَحَدٌ } هو الشأن الذي عبارة عنه وليس : كذلك زيد أبوه منطلق ، فإن زيداً أو الجملة يدلان على معنيين مختلفين فلا بد مما يصل بينهما . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : قالت قريش : يا محمد صف لنا ربك الذي تدعونا إليه فنزلت . يعني الذي سألتموني وصفه هو الله تعالى . وعلى هذا { أَحَدٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هو أحد وهو بمعنى واحد ، وأصله وحد فقلبت الواو همزة لوقوعها طرفاً .
والدليل على أنه واحد من جهة العقل أن الواحد إما أن يكون في تدبير العالم وتخليقه كافياً أولاً ، فإن كان كافياً كان الآخر ضائعاً غير محتاج إليه وذلك نقص والناقص لا يكون إلهاً ، وإن لم يكن كافياً فهو ناقص . ولأن العقل يقتضي احتياج المفعول إلى فاعل والفاعل الواحد كافٍ وما وراء الواحد فليس عدد أولي من عدد فيفضي ذلك إلى وجود أعداد لا نهاية لها وذا محال . فالقول بوجود إلهين محال ، ولأن أحدهما إما أن يقدر على أن يستر شيئاً من أفعاله عن الآخر أو لا يقدر ، فإن قدر لزم كون المستور عنه جاهلاً ، وإن لم يقدر لزم كونه عاجزاً . ولأنا لو فرضنا معدوماً ممكن الوجود فإن لم يقدر واحد منهما على إيجاده كان كل واحد منهما عاجزاً والعاجز لا يكون إلهاً ، وإن قدر أحدهما دون الآخر فالآخر لا يكون إلهاً ، وإن قدراً جميعاً فإما أن يوجداه بالتعاون فيكون كل واحد منهما محتاجاً إلى إعانة الآخر فيكون كل واحد منهما عاجزاً ، وإن قدر كل واحد منهما على إيجاده بالاستقلال فإذا أوجده أحدهما فإما أن يبقى الثاني قادراً عليه وهو محال ، لأن إيجاد الموجود محال ، وإن لم يبق فحينئذ يكون الأول مزيلاً قدرة الثاني فيكون عاجزاً ومقهوراً تحت تصرفه فلا يكون إلهاً . فإن قلت : الواحد إذا أوجد مقدور نفسه فقد زالت قدرته فيلزمكم أن يكون هذا الواحد قد جعل نفسه عاجزاً . قلنا : الواحد إذا أوجد مقدور نفسه فقد نفذت قدرته ، ومن نفذت قدرته لا يكون عاجزاً ، وأما الشريك فما نفذت قدرته بل زالت قدرته بسبب قدرة الآخر فكان ذلك تعجيزاً .
{ الله الصمد } هو فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده ، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج .(4/59)
والمعنى هو الله الذي تعرفونه وتقرون بأنه خالق السماوات والأرض وخالقكم ، وهو واحد لا شريك له ، وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق ولا يستغنون عنه وهو الغني عنهم { لَمْ يَلِدْ } لأنه لا يجانس حتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا ، وقد دل على هذا المعنى بقوله : { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة } [ الأنعام : 101 ] { وَلَمْ يُولَدْ } لأن كل مولود محدث وجسم وهو قديم لا أول لوجوده إذ لو لم يكن قديماً لكان حادثاً لعدم الواسطة بينهما ، ولو كان حادثاً لافتقر إلى محدث ، وكذا الثاني والثالث فيؤدي إلى التسلسل وهو باطل . وليس بجسم لأنه اسم للمتركب ولا يخلو حينئذ من أن يتصف كل جزء منه بصفات الكمال فيكون كل جزء إلهاً فيفسد القول به كما فسد بإلهين ، أو غير متصف بها بل بأضدادها من سمات الحدوث وهو محال { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ولم يكافئه أحد أي لم يماثله .
سألوه أن يصفه لهم فأوحى إليه ما يحتوي على صفاته تعالى ، فقوله : { هُوَ الله } إشارة إلى أنه خالق الأشياء وفاطرها ، وفي طي ذلك وصفه بأنه قادر عالم لأن الخلق يستدعي القدرة والعلم لكونه واقعاً على غاية إحكام واتساق وانتظام ، وفي ذلك وصفه بأنه حي لأن المتصف بالقدرة والعلم لا بد وأن يكون حياً ، وفي ذلك وصفه بأنه سميع بصير مريد متكلم إلى غير ذلك من صفات الكمال ، إذ لو لم يكن موصوفاً بها لكان موصوفاً بأضدادها وهي نقائص وذا من أمارات الحدوث فيستحيل اتصاف القديم بها ، وقوله : { أَحَدٌ } وصف بالوحدانية ونفي الشريك ، وبأنه المتفرد بإيجاد المعدومات والمتوحد بعلم الخفيات ، وقوله : { الصمد } وصف بأنه ليس إلا محتاجاً إليه وإذا لم يكن إلا محتاجاً إليه فهو غني لا يحتاج إلى أحد ويحتاج إليه كل أحد ، وقوله { لَمْ يَلِدْ } نفي للشبه والمجانسة ، وقوله { وَلَمْ يُولَدْ } نفي للحدوث ووصف بالقدم والأولية .
وقوله { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } نفي أن يماثله شيء . ومن زعم أن نفي الكفء وهو المثل في الماضي لا يدل على نفيه للحال والكفار يدعونه في الحال فقد تاه في غيه ، لأنه إذا لم يكن فيما مضى لم يكن في الحال ضرورة إذ الحادث لا يكون كفؤاً للقديم ، وحاصل كلام الكفرة يئول إلى الإشراك والتشبيه والتعطيل ، والسورة تدفع الكل كما قررنا ، واستحسن سيبويه تقديم الظرف إذا كان مستقراً أي خبراً لأنه لما كان محتاجاً إليه قدم ليعلم من أول الأمر أنه خبر لا فضلة ، وتأخيره إذا كان لغواً أي فضلة لأن التأخير مستحق للفضلات . وإنما قدم في الكلام الأفصح لأن الكلام سيق لنفي المكافأة عن ذات الباريء سبحانه ، وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف فكان الأهم تقديمه .(4/60)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
مختلف فيها وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق } أي الصبح أو الخلق أو هو واد في جهنم أوجبٌّ فيها { مِن شَرّ مَا خَلَقَ } أي النار أو الشيطان . و«ما» موصولة والعائد محذوف ، أو مصدرية ويكون الخلق بمعنى المخلوق . وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه { مِن شَرّ } بالتنوين و«ما» على هذا مع الفعل بتأويل المصدر في موضع الجر بدل من { شَرُّ } أي شر خلقه أي من خلق شر ، أو زائدة { وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } الغاسق : الليل إذا اعتكر ظلامه ، ووقوبه دخول ظلامه في كل شيء ، وعن عائشة رضي الله عنها : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأشار إلى القمر فقال : تعوذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب ، ووقوبه دخوله في الكسوف واسوداده { وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد } النفاثات : النساء أو النفوس أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين ، والنفث : النفخ مع ريق وهو دليل على بطلان قول المعتزلة في إنكار تحقق السحر وظهور أثره { وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } أي إذا ظهر حسده وعمل بمقتضاه لأنه إذا لم يظهر فلا ضرر يعود منه على حسده بل هو الضار لنفسه لاغتمامه بسرور غيره ، وهو الأسف على الخير عند الغير . والاستعاذة من شر هذه الأشياء بعد الاستعاذة من شر ما خلق إشعار بأن شر هؤلاء أشد ، وختم بالحسد ليعلم أنه شرها وهو أول ذنب عصي الله به في السماء من إبليس ، وفي الأرض من قابيل . وإنما عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه ، لأن كل نفاثة شريرة فلذا عرفت { النفاثات } ونكر { غَاسِقٍ } لأن كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض ، وكذلك كل حاسد لا يضر ، ورب حسد يكون محموداً كالحسد في الخيرات والله أعلم .(4/61)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
مختلف فيها وهي ست آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس } أي مربيهم ومصلحهم { مَلِكِ الناس } مالكهم ومدبر أمورهم { إله الناس } معبودهم . ولم يكتف بإظهار المضاف إليه مرة واحدة لأن قوله : { مَلِكِ الناس إله الناس } عطف بيان ل { رَبّ الناس } لأنه يقال لغيره رب الناس وملك الناس ، وأما إله الناس فخاص لا شركة فيه . وعطف البيان للبيان فكأنه مظنة للإظهار دون الإضمار . وإنما أضيف الرب إلى الناس خاصة وإن كان رب كل مخلوق تشريفاً لهم ، ولأن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس فكأنه قيل : أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهو إلههم ومعبودهم . وقيل : أراد بالأول الأطفال . ومعنى الربوبية يدل عليه ، وبالثاني الشبان ولفظ الملك المنبىء عن السياسة يدل عليه ، وبالثالث الشيوخ ولفظ الإله المنبىء عن العبادة يدل عليه ، وبالرابع الصالحين إذ الشيطان مولع بإغوائهم ، وبالخامس المفسدين لعطفه على المعوذ منه { مِن شَرّ الوسواس } هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة ، وأما المصدر فوسواس بالكسر كالزلزال والمراد به الشيطان سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه لأنها شغله الذي هو عاكف عليه ، أو أريد ذو الوسواس والوسوسة الصوت الخفي { الخناس } الذي عادته أن يخنس منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والبتات لما روي عن سعيد بن جبير إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى ، وإذا غفل رجع ووسوس إليه { الذى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ الناس } في محل الجر على الصفة ، أو الرفع ، أو النصب على الشتم ، وعلى هذين الوجهين يحسن الوقف على الخناس { مِنَ الجنة والناس } بيان للذي يوسوس على أن الشيطان ضربان : جني وإنسي كما قال { شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال لرجل : هل تعوذت بالله من شيطان الإنس؟ روي أنه عليه السلام سحر فمرض فجاءه ملكان وهو نائم فقال أحدهما لصاحبه : ما باله . فقال : طُبّ . قال : ومن طبه؟ قال : لبيد بن أعصم اليهودي . قال : وبم طبه؟ قال : بمشط ومشاطة في جف طلعة تحت راعوفة في بئر ذي أروان . فانتبه صلى الله عليه وسلم فبعث زبيراً وعلياً وعماراً رضي الله عنهم فنزحوا ماء البئر وأخرجوا الجف ، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه ، وإذا فيه وتر معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر ، فنزلت هاتان السورتان ، فكلما قرأ جبريل آية انحلت عقدة حتى قام صلى الله عليه وسلم عند انحلال العقدة الأخيرة كأنما نشط من عقال وجعل جبريل يقول : باسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك . ولهذا جوز الاسترقاء بما كان من كتاب الله وكلام رسوله عليه السلام لا بما كان بالسريانية والعبرانية والهندية ، فإنه لا يحل اعتقاده والاعتماد عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأقوالنا ومن شر ماعملنا وما لم نعمل ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ونبيه وصفيه ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، صلى الله عليه وعلى آله مصابيح الأنام وأصحابه مفاتيح دار السلام صلاة دائمة ما دامت الليالي والأيام .(4/62)