" واعفوا اللحى " .
وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء } أي قالوا هذه عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء وقد مس آباءنا نحو ذلك وما هو بعقوبة الذنب فكونوا على ما أنتم عليه { فأخذناهم بَغْتَةً } فجأة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بنزول العذاب .
واللام في { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى } إشارة إلى أهل القرى التي دل عليها { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ } كأنه قال : ولو أن أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا { ءامَنُواْ } بدل كفرهم { واتقوا } الشرك مكان ارتكابه { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم } { لَفَتَحْنَا } شامي { بركات مّنَ السماء والأرض } أراد المطر والنبات أو لآتيناهم بالخير من كل وجه { ولكن كَذَّبُواْ } الأنبياء { فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بكفرهم وسوء كسبهم ، ويجوز أن تكون اللام للجنس { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } يريد الكفار منهم { أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا } عذابنا { بَيَاتًا } ليلاً أي وقت بيات ، يقال بات بياتاً { وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى } نهاراً . والضحى في الأصل ضوء الشمس إذا أشرقت . والفاء والواو في { أَفَأَمِنَ } و { أَوَ أَمِنَ } حرفا عطف دخل عليهما همزة الإنكار ، والمعطوف عليه { فأخذناهم بَغْتَةً } وقوله { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى } إلى { يَكْسِبُونَ } اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه . وإنما عطفت بالفاء لأن المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة ، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى { أَوَ أَمِنَ } شامي وحجازي على العطف ب «أو» والمعنى إنكار الأمن من أحد هذين الوجهين من إتيان العذاب ليلاً أو ضحى ، فإن قلت : كيف دخل همزة الاستفهام على حرف العطف وهو ينافي الاستفهام؟ قلت : التنافي في المفرد لا في عطف جملة على جملة لأنه على استئناف جملة بعد جملة { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } يشتغلون بما لا يجدي عليهم .
{ أَفَأَمِنُواْ } تكرير لقوله { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } { مَكْرَ الله } أخذه العبد من حيث لا يشعر .(1/381)
وعن الشبلي قدس الله روحه العزيز : مكره بهم تركه إياهم على ما هم عليه . وقالت ابنة الربيع بن خيثم لأبيها : مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال : يا بنتاه إن أباك يخاف البيات أراد قوله { أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا } { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } إلا الكافرون الذين خسروا أنفسهم حتى صاروا إلى النار .
{ أَوَلَمْ يَهْدِ } يبين { لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ } { أَن لَّوْ نَشَاء } مرفوع بأنه فاعل { يَهْدِ } «وأن» مخففة من الثقيلة أي أولم يهدِ للذين يخلفون من خلا قبلهم في ديارهم ويرثونهم أرضهم هذا الشأن ، وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم فأهكلنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين ، وإنما عدي فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين { وَنَطْبَعُ } مسأنف أي ونحن نختم { على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } الوعظ { تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا } كقوله { هذا بَعْلِى شَيْخًا } [ هود : 72 ] في أنه مبتدأ وخبر وحال ، أو تكون { القرى } صفة { تِلْكَ } و { نَقُصُّ } خبراً والمعنى : تلك القرى المذكورة من قوم نوح إلى قوم شعيب نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } بالمعجزات { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } عند مجيء الرسل بالبينات { بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } بما كذبوا من آيات الله من قبل مجيء الرسل ، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولاً حين جاءتهم الرسل أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرين مع تتابع الآيات ، واللام لتأكيد النفي . { كذلك } مثل ذلك الطبع الشديد { يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين } لما علم منهم أنهم يختارون الثبات على الكفر { وَمَا وَجَدْنَا لأَِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ } الضمير للناس على الإطلاق يعني أن أكثر الناس نقضوا عهد الله وميثاقه في الإيمان ، والآية اعتراض ، أو للأمم المذكورين فإنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضر ومخافة لئن أنجيتنا لنؤمنن ثم أنجاهم نكثوا { وإن } وإن الشأن والحديث { وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفاسقين } لخارجين عن الطاعة ، والوجود بمعنى العلم بدليل دخول «إن» المخففة واللام الفارقة ، ولا يجوز ذلك إلا في المبتدأ والخبر والأفعال الداخلة عليهما .(1/382)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم } الضمير للرسل في قوله { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } أو للأمم { موسى بئاياتنا } بالمعجزات الواضحات { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا } فكفروا بآياتنا ، أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من وادٍ واحد { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] أو فظلموا الناس بسببها حين آذوا من آمن ، أو لأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلماً حيث وضعوا الكفر غير موضعه وهو موضع الإيمان { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } حيث صاروا مغرقين { وَقَالَ موسى يافرعون } يقال لملوك مصر «الفراعنة» كما يقال لملوك فارس «الأكاسرة» ، وكأنه قال : يا ملك مصر واسمه قابوس أو الوليد بن مصعب بن الريان { إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ العالمين } إليك . قال فرعون : كذبت . فقال موسى : { حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق } أي أنا حقيق على قول الحق أي واجب على قول الحق أن أكون قائله والقائم به . { حَقِيقٌ عَلَىَّ } نافع أي واجب عليّ ترك القول على الله إلا الحق أي الصدق ، وعلى هذه القراءة تقف على { العالمين } وعلى الأول يجوز الوصل على جعل { حَقِيقٌ } وصف الرسول ، و«علي» بمعنى الباء كقراءة أبي أي إني رسول خليق بأن لا أقول ، أو يعلق «على» بمعنى الفعل في الرسول أي إني رسول حقيق جدير بالرسالة أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مِّن رَبُّكُمْ } بما يبين رسالتي { فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسراءيل } فخلهم يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم . وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي غلب فرعون على نسل الأسباط واستعبدهم فأنقذهم الله بموسى عليه السلام ، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف عليه السلام مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام { مَعِىَ } حفص { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ } من عند من أرسلك { فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فأتني بها لتصح دعواك ويثبت صدقك فيها { فَأُلْقِىَ } موسى عليه السلام { عصاه } من يده { فَإِذَا هِىَ } { إِذَا } هذه للمفاجأة وهي من ظروف المكان بمنزلة «ثمة» و«هناك» { ثُعْبَانٌ } حية عظيمة { مُّبِينٌ } ظاهر أمره . روي أنه كان ذكراً فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً ، وضع لحيه الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر ، ثم توجه نحو فرعون فهرب وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك ، وحمل على الناس فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً ، فصاح فرعون : يا موسى خذه وأنا أومن بك فأخذه موسى فعاد عصاً { وَنَزَعَ يَدَهُ } من جيبه { فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين } أي فإذا هي بيضاء للنظارة ، ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يجمع الناس للنظر إليه .(1/383)
روي أنه أرى فرعون يده وقال : ما هذه؟ فقال : يدك ثم أدخلها في جيبه ونزعها فإذا هي بيضاء غلب شعاعها شعاع الشمس ، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة .
{ قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ } عالم بالسحر ماهر فيه قد خيل إلى الناس العصاحية والآدم أبيض . وهذا الكلام قد عزي إلى فرعون في سورة «الشعراء» وأنه قال للملأ ، وهنا عزي إليهم فيحتمل أنه قد قاله هو وقالوه هم فحكي قوله ثمّة وقولهم هنا ، أو قاله ابتداء فتلقنه منه الملأ فقالوه لأعقابهم { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ } يعني مصر { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } تشيرون من آمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي ، وهو من كلام فرعون قاله للملأ لما قالوا له { إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم } { قَالُواْ أَرْجِهْ } بسكون الهاء : عاصم وحمزة أي أخر واحبس أي أخر أمره ولا تعجل ، أو كأنه هم بقتله فقالوا : أخر قتله واحبسه ولا تقتله ليتبين سحره عند الخلق { وَأَخَاهُ } هرون { وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين } جامعين .
{ يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ } { سَحَّارٍ } : حمزة وعلي . أي يأتوك بكل ساحر عليم مثله في المهارة أو بخير منه { وَجَاء السحرة فِرْعَوْنَ } يريد فأرسل إليهم فحضروا { قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا } على الخبر وإثبات الأجر العظيم حجازي وحفص . ولم يقل «فقالوا» لأنه على تقدير سؤال سائل ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله { قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا } لجعلاً على الغلبة . والتنكير للتعظيم كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر عظيم { إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ } إن لكم لأجراً { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } عندي فتكونون أول من يدخل وآخر من يخرج ، وكانوا ثمانين ألفاً أو سبعين ألفاً أو بضعة وثلاثين ألفاً { قَالُواْ يا موسى إَمَا أَن تُلْقِىَ } عصاك { وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } لما معنا ، وفيه دلالة على أن رغبتهم في أن يلقوا قبله حيث أكد ضميرهم المتصل بالمنفصل وعرف الخبر { قَالَ } لهم موسى عليه السلام { أَلْقَوْاْ } تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه كما يفعل المتناظرون قبل أن يتحاوروا الجدال ، وقد سوغ لهم موسى ما رغبوا فيه ازدراء لشأنهم وقلة مبالاة بهم واعتماداً على أن المعجزة لن يغلبها سحر أبداً { فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس } أروها بالحيل والشعوذة وخيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه . روي أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا هي أمثال الحيات قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضاً { واسترهبوهم } وأرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم استدعوا رهوبتهم بالحيلة { وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } في باب السحر أو في عين من رآه .(1/384)
{ وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ } - تلقف - تبتلع { تَلْقَفْ } حفص { مَا يَأْفِكُونَ } «ما» موصولة أو مصدرية يعني ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه ، أو إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك . روي أنها لما تلقفت ملء الوادي من الخشب والحبال ورفعها موسى فرجعت عصاً كما كانت ، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة ، أو فرقها أجزاء لطيفة قالت السحرة : لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا { فَوَقَعَ الحق } فحصل وثبت { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْلَمُونَ } من السحر { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } أي فرعون وجنوده والسحرة { وانقلبوا صاغرين } وصاروا أذلاء مبهوتين { وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين } وخروا سجداً لله كأنما ألقاهم ملقٍ لشدة خرورهم ، أو لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا فكانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة { قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين رَبّ موسى وهارون } هو بدل مما قبله { قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ } على الخبر : حفص . وهذا توبيخ منه لهم . وبهمزتين : كوفي غير حفص . فالأولى همزة الاستفهام ومعناه الإنكار والاستبعاد { قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } قبل إذني لكم { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا } إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الصحراء لغرض لكم وهو { أن تَخْرُجُواْ مِن مّصْرَ القبط وتسكنوا بني إسرائيل } { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وعيد أجمله ثم فصله بقوله :
{ لأَقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } من كل شق طرفاً { ثُمَّ لأَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } هو أول من قطع من خلاف وصلب { قَالُواْ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } فلا نبالي بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته ، أو إنا جميعاً يعنون أنفسهم وفرعون نقلب إلى الله فيحكم بيننا { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بئايات رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا } وما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله ، أرادوا وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر وهو الإيمان ومنه قوله
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي اصبب صباً ذريعاً . والمعنى هب لنا صبراً واسعاً وأكثره علينا حتى يفيض علينا ويغمرنا كما يفرغ الماء إفراغاً { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } ثابتين على الإسلام { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض } أرض مصر بالاستعلاء فيها وتغيير دين أهلها لأنه وافق السحرة على الإيمان ستمائة ألف نفر { ويذرك وءالهتك } عطف على { لِيُفْسِدُواْ } قيل : صنع فرعون لقومه أصناماً وأمرهم أن يعبدوها تقرباً إليه كما يعبد عبدة الأصنام الأصنام ويقولون ليقربونا إلى الله زلفى ، ولذلك(1/385)
{ قَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] { قَالَ } فرعون مجيباً للملإ { سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون } { سَنُقَتّلُ } حجازي أي سنعيد عليهم قتل الأبناء ليعلموا أنا على ما كنا عليه من الغلبة والقهر وأنهم مقهورون تحت أيدينا كما كانوا ، ولئلا يتوهم العامة أنه هو المولود الذي تحدث المنجمون بذهاب ملكنا على يده فيثبطهم ذلك عن طاعتنا ويدعوهم إلى اتباعه { قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا } قال لهم ذلك حين جزعوا من قول فرعون سنقتل أبناءهم تسلية لهم ووعداً بالنصر عليهم { إِنَّ الأرض } اللام للعهد أي أرض مصر أو للجنس فيتناول أرض مصر تناولاً أولياً { للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } فيه تنميته إياهم أرض مصر { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } بشارة بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم ومن القبط . وأخليت هذه الجملة عن الواو لأنها جملة مستأنفة بخلاف قوله { وَقَالَ الملأ } لأنها معطوفة على ما سبقها من قوله { قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } { قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى إلى أن استنبىء وإعادته عليهم بعد لك ، وذلك اشتكاء من فرعون واستبطاء لوعد النصر { قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض } تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل وكشف عنه وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم . وعن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان ، وطلب المنصور زيادة لعمرو فلم توجد فقرأ عمرو هذه الآية ، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال : قد بقي { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } .(1/386)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين } سني القحط وهن سبع سنين ، والسنة من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم { وَنَقْصٍ مّن الثمرات } قيل : السنون لأهل البوادي ونقص الثمرات للأمصار { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } ليتعظوا فينتبهوا على أن ذلك لإصرارهم على الكفر ، ولأن الناس في حال الشدة أضرع حدوداً وأرق أفئدة . وقيل : عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروهاً في ثلثمائة وعشرين سنة ، ولو أصابه في تلك المدة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية { فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة } الصحة والخصب { قَالُواْ لَنَا هذه } أي هذه التي نستحقها { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } جدب ومرض { يَطَّيَّرُواْ } أصله «يّتطيروا» فأدغمت التاء في الطاء لأنها من طرف اللسان وأصول الثنايا { بموسى وَمَن مَّعَهُ } تشاءموا بهم وقالوا هذه بشؤمهم ولولا مكانهم لما أصابتنا . وإنما دخل «إذا» في الحسنة وعرفت الحسنة و «إن» في السيئة ونكرت السيئة ، لأن جنس الحسنة وقوعه كالكائن لكثرته ، وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ } سبب خيرهم وشرهم { عَندَ الله } في حكمه ومشيئته والله هو الذي قدر ما يصيبهم من الحسنة والسيئة { قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله } [ النساء : 78 ] { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أصل «مهما» ما ما ، فما الأولى للجزاء ضمت إليها «ما» المزيدة المؤكدة للجزاء في قوك «متى» ما تخرج أخرج { أَيْنَمَا تَكُونُواْ } [ النساء : 78 ] { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } [ الزخرف : 41 ] إلا أن الألف قلبت هاء استثقالاً لتكرير المتجانسين وهو المذهب السديد البصري ، وهو في موضع النصب ب { تَأْتِنَا } أي أيما شيء تحضرنا تأتنا به ، و { مّنْ ءايَةٍ } تبيين ل { مَهْمَا } والضمير في { بِهِ } و { بِهَا } راجع إلى { مَهْمَا } إلا أن الأول ذكر على اللفظ والثاني أنث على المعنى لأنها في معنى الآية ، وإنما سموها آية اعتباراً لتسمية موسى أو قصدوا بذلك الاستهزاء { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان } ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل . قيل : طفا الماء فوق حروثهم وذلك أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره . وقيل : دخل الماء في بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ، فمن جلس غرق ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة ، أو هو الجدري أو الطاعون { والجراد } فأكلت زروعهم وثمارهم وسقوف بيوتهم وثيابهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء { والقمل } وهي الدباء وهو أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها ، أو البراغيث ، أو كبار القردان { والضفادع } وكانت تقع في طعامهم وشرابهم حتى إذا تكلم الرجل تقع في فيه { والدم } أي الرعاف .(1/387)
وقيل : مياههم انقلبت دماً حتى إن القبطي والإسرائيلي إذا اجتمعا على إناء فيكون ما يلي القبطي دماً . وقيل : سال عليهم النيل دماً { ءايات } حال من الأشياء المذكورة { مّفَصَّلاَتٍ } مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله أو مفرقات بين كل آيتين شهر { فاستكبروا } عن الإيمان بموسى { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } .
{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز } العذاب الأخير وهو الدم ، أو العذاب المذكور واحداً بعد واحد { قَالُواْ يا موسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } «ما» مصدرية أي بعهده عندك وهو النبوة ، والباء تتعلق ب { ادع } أي ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك { لئن كشفت عنّا الرّجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل .
فلمّا كشفنا عنهم الرّجز إلى أجلٍ } إلى حد من الزمان { هُم بالغوه } لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله { إذا هم ينكثون } جواب { لَّمّاً } أي فلما كشفنا عنهم فاجأوا النكث ولم يؤخروه { فانتقمنا مِنْهُمْ } هو ضد الإنعام كما أن العقاب هو ضد الثواب { فأغرقناهم فِي اليم } هو البحر الذي لا يدرك قعره ، أو هو لجة البحر ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لأن المنتفعين به يقصدونه { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بئاياتنا وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين } أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها وقلة فكرهم فيها { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } هم بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه بالقتل والاستخدام { مشارق الأرض ومغاربها } يعني أرض مصر والشام { التى بَارَكْنَا فِيهَا } بالخصب وسعة الأرزاق وكثرة الأنهار والأشجار { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى على بَنِى إِسْرءيلَ } هو قوله : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض } [ الأعراف : 129 ] أو { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض } إلى { مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } [ القصص : 5 ] . والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة و«على» صلة { تَمُتْ } أي مضت عليهم واستمرت من قولك تم علي الأمر إذا مضى عليه { بِمَا صَبَرُواْ } بسبب صبرهم وحسبك به حاثاً على الصبر ودالاً على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه ، ومن قابله بالصبر ضمن الله له الفرج { وَدَمَّرْنَا } أهلكنا { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } من العمارات وبناء القصور { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } من الجنات ، أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره . وبضم الراء : شامي وأبو بكر . وهذا آخر قصة فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله .
ثم أتبعه قصة بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من فرعون ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر وغير ذلك ، ليتسلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رآه من بني إسرائيل بالمدينة { وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر } روي أنهم عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعدما أهلك الله فرعون وقومه فصاموه شكراً لله { فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ } فمروا عليهم { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ } يواظبون على عبادتها وكانت تماثيل بقر .(1/388)
وبكسر الكاف : حمزة وعلي . { قَالُواْ يا موسى اجعل لَّنَا إلها } صنماً نعكف عليه { كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ } أصنام يعكفون عليها . و «ما» كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها . قال يهودي لعلي رضي الله عنه : اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه . فقال : قلتم { اجعل لَّنَا إلها } ولم تجف أقدامكم { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى فوصفهم بالجهل المطلق وأكده { إِنَّ هَؤُلآء } يعني عبدة تلك التماثيل { مُتَبَّرٌ } مهلك من التبار { مَّا هُمْ فِيهِ } أي يتبر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدي . وفي إيقاع { هَؤُلاء } اسماً ل «إن» وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها واسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم ألبتة .
{ وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ما عملوا من عبادة الأصنام باطل مضمحل .(1/389)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
{ قال أغير الله أبغيكم إلهاً } أي أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبوداً { وهو فضّلكم على العالمين } حال أي على عالمي زمانكم { وإذ أنجيناكم مّن ءال فرعون } { أنجاكم } شامي { يسومونكم سوء العذاب } يبغونكم شدة العذاب من سام السلعة إذا طلبها ، وهو استئناف لا محل له ، أو حال من المخاطبين ، أو من { آل فرعون } { يقتّلون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم } { يقتلون } نافع { وفي ذلكم } أي في الإنجاء أو في العذاب { بلآءٌ } نعمة أو محنة { مّن رّبّكم عظيمٌ وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً } لإعطاء التوراة { وأتممناها بعشرٍ } روي أن موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهي شهر ذي القعدة ، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك ، فأوحى الله إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فأمره أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لذلك { فتمّ ميقات ربّه } ما وقت له من الوقت وضربه له { أربعين ليلةً } نصب على الحال أي تم بالغاً هذا العدد ، ولقد أجمل ذكر الأربعين في «البقرة» وفصلها هنا { وقال موسى لأخيه هارون } هو عطف بيان { لأخيه } { اخلفني في قومي } كن خليفتي فيهم { وأصلح } ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل { ولا تتّبع سبيل المفسدين } ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه .
{ ولمّا جآء موسى لميقاتنا } لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا . ومعنى اللام الاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا { وكلّمه ربّه } بلا واسطة ولا كيفية . وروي أنه كان يسمع الكلام من كل جهة . وذكر الشيخ في التأويلات أن موسى عليه السلام سمع صوتاً دالاً على كلام الله تعالى ، وكان اختصاصه باعتبار أنه أسمعه صوتاً تولى تخليقه من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسباً لأحد من الخلق ، وغيره يسمع صوتاً مكتسباً للعباد فيفهم منه كلام الله تعالى ، فلما سمع كلامه طمع في رؤيته لغلبة شوقه فسأل الرؤية بقوله { قال ربّ أرني أنظر إليك } ثاني مفعولي { أرني } محذوف أي أرني ذاتك أنظر إليك يعني مكني من رؤيتك بأن تتجلى لي حتى أراك { أرني } مكي . وبكسر الراء مختلسة : أبو عمرو ، وبكسر الراء مشبعة : غيرهما وهو دليل لأهل السنة على جواز الرؤية ، فإن موسى عليه السلام اعتقد أن الله تعالى يرى حتى سأله واعتقاد جواز ما لا يجوز على الله كفر { قال لن تراني } بالسؤال بعين فانية بل بالعطاء والنوال بعين باقية ، وهو دليل لنا أيضر لأنه لم يقل لن أرى ليكون نفياً للجواز ، ولو لم يكن مرئياً لأخبر به بأنه ليس بمرئي إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه } بقي على حاله { فسوف ترياني } وهو دليل لنا أيضاً لأنه علق الرؤية باستقرار الجبل وهو ممكن ، وتعليق الشيء بما هو ممكن يدل على إمكانه كالتعليق بالممتنع يدل على امتناعه ، والدليل على أنه ممكن قوله { جعله دكاً } ولم يقل «اندك» وما أوجده تعالى كان جائزاً أن لا يوجد لو لم يوجده لأنه مختار في فعله ، ولأنه تعالى ما أيأسه عن ذلك ولا عاتبه عليه ولو كان ذلك محالاً لعاتبه كما عاتب نوحاً عليه السلام بقوله :(1/390)
{ إني أعظك أن تكون من الجاهلين } [ هود : 46 ] حيث سأل إنجاء ابنه من الغرق .
{ فلمّا تجلى ربّه للجبل } أي ظهر وبان ظهوراً بلا كيف . قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : معنى التجلي للجبل ما قاله الأشعري إنه تعالى خلق في الجبل حياة وعلماً ورؤية حتى رأى ربه ، وهذا نص في إثبات كونه مرئياً ، وبهذه الوجزة يتبين جهل منكري الرؤية وقولهم بأن موسى عليه السلام كان عالماً بأنه لا يرى ولكن طلب قومه أن يريهم ربه كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهره } [ البقرة : 55 ] فلطلب الرؤية ليبين الله تعالى أنه ليس بمرئي باطل إذ لو كان كما زعموا لقال أرهم ينظروا إليك ثم يقول له : لن يروني . ولأنها لو لم تكن جائزة لما أخر موسى عليه السلام الرد عليهم بل كان يرد عليهم وقت قرع كلامهم سماعه لما فيه من التقرير على الكفر ، وهو عليه السلام بعث لتغييره لا لتقريره ، ألا ترى أنهم لما قالوا له { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } لم يمهلهم بل رد عليهم من ساعته بقوله { إنكم قوم تجهلون } { جعله دكًّا } مدكوكاً مصدر بمصدر بمعنى المفعول كضرب الأمير والدق والدك أخوان . { دكاء } : حمزة وعلي . أي مستوية بالأرض لا أكمة فيها وناقة دكاء لا سنام لها { وخرّ موسى صعقاً } حال أي سقط مغشياً عليه { فلمّآ أفاق } من صعقته { قال سبحانك تبت إليك } من السؤال في الدنيا { وأنا أوّل المؤمنين } بعظمتك وجلالك ، وبأنك لا تعطي الرؤية في الدنيا مع جوازها . وقال الكعبي والأصم : معنى قوله { أرني أنظر إليك } أرني آية أعلمك بها بطريق الضرورة كأني أنظر إليك { لن تراني } لن تطيق معرفتي بهذه الصفة { ولكن انظر إلى الجبل } فإني أظهر له آية ، فإن ثبت الجبل لتجليها و { استقر مكانه } فسوف تثبت لها وتطيقها . وهذا فاسد لأنه قال { أرني أنظر إليك } ولم يقل «إليها» وقال { لن تراني } ولم يقل لن ترى آيتي وكيف يكون معناه لن ترى آيتي وقد أراه أعظم الآيات حيث جعل الجبل دكاً .
{ قَالَ ياموسى إِنَّي اصْطَفيْتُكَ عَلَى النَّاس } اخترتك على أهل زمانك { برسالتي } هي أسفار التوراة { برسالتي } : حجازي { وبكلامي } وبتكليمي إياك { فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ } أعطيتك من شرف النبوة والحكمة { وَكُن مِّنَ الشاكرين } على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم .(1/391)
قيل : خر موسى صعقاً يوم عرفة ، وأعطي التوراة يوم النحر . ولما كان هارون وزيراً وتابعاً لموسى تخصص الاصطفاء بموسى عليه السلام .
{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح } الألواح التوراة جمع لوح وكانت عشرة ألواح . وقيل : سبعة وكانت من زمرد . وقيل : من خشب نزلت من السماء فيها التوراة { مِن كُلَّ شَيْءٍ } في محل النصب على أنه مفعول { كتبنا } { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } بدل منه والمعنى كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام . وقيل : أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعبر لم يقرأها كلها إلا أربعة نفر : موسى ويوشع وعزير وعيسى { فَخُذْهَا } فقلنا له خذها عطفاً على { كتبنا } والضمير للألواح أو { لكل شيء } لأنه في معنى الأشياء { بِقُوَّةٍ } بجد وعزيمة فعل أولي العزم من الرسل { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } أي فيها ما هو حسن وأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر ، فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب كقوله { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } [ الزمر : 55 ]
{ سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } دَارَ فرعون وقومه وهي مصر ، ومنازل عاد وثمود والقرون المهلكة كيف أقفرت منهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكّل بكم مثل نكالهم أو جهنم { سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي } عن فهمها . قال ذو النون قدس الله روحه : أبى الله أن يكرم قلوب الباطلين بمكنون حكمة القرآن { الَّذِينَ يَتكَبَّرُونَ } يتطاولون على الخلق ويأنفون عن قبول الحق . وحقيقته التكلف للكبرياء التي اختصت بالباري عزت قدرته { فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } هو حال أي يتكبرون غير محقين لأن التكبر بالحق لله وحده { وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ } من الآيات المنزلة عليهم { لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ } طريق صلاح الأمر وطريق الهدى . { الرَّشد } : حمزة وعلي . وهما كالسقم والسقم { لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ } الضلال { يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } ومحل { ذلك } الرفع أي ذلك الصرف { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بآياتنا } بسب تكذيبهم { وَكَانُوا عَنْهَا غافلين } غفلة عناد واعراض لا غفلة سهو وجهل { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بئاياتنا وَلِقَآءِ الآخِرةِ } هو من إضافة المصدر إلى المفعول به أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها { حَبِطَتْ أعمالهم } خبر { والذين } { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وهو تكذيب الأحوال بتكذيب الإرسال .
{ واتّخذ قوم موسى من بعده } من بعد ذهابه إلى الطور { من حليّهم } وإنما نسبت إليهم مع أنها كانت عواري في أيديهم لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة ، وفيه دليل على أن من حلف أن لا يدخل دار فلان فدخل داراً استعارها يحنث ، على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين كما ملكوا غيرها من أملاكهم .(1/392)
وفيه دليل على أن الاستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها ، نعم المتخذ هو السامري ولكنهم رضوا به فأسند الفعل إليهم . والحلي جمع «حلى» وهو اسم ما يتحسن به من الذهب والفضة { حليهم } : حمزة وعلي للإتباع { عجلاً } مفعول { اتخذ } { جسداً } بدل منه أي بدناً ذا لحم ودم كسائر الأجساد { لّه خوارٌ } هو صورت البقر والمفعول الثاني محذوف أي إلهاً . ثم عجب من عقولهم السخيفة فقال { ألم يروا } حين اتخذوه إلهاً { أنّه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلاً } لا يقدر على كلام ولا على هداية سبيل حتى لا يختاروه على من { لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته } [ الكهف : 109 ] . وهو الذي هدى الخلق إلى سبيل الحق بما ركز في العقول من الأدلة وبما أنزل في الكتب . ثم ابتدأ فقال { اتّخذوه } إلهاً فأقدموا على هذا الأمر المنكر { وكانوا ظالمين ولمّا سقط في أيديهم } ولما اشتد ندمهم على عبادة العجل . وأصله أن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه وقع فيها وسقط مسند إلى في أيديهم وهو من باب الكناية . وقال الزجاج : معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم كما يقال «حصل في يده مكروه» وإن استحال أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين { ورأوا أنّهم قد ضلّوا } وتبينوا ضلالهم تبيناً كأنهم أبصروه بعيونهم { قالوا لئن لّم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا } { لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا } حمزة وعلي . وانتصاب { ربّنا } على النداء { لنكوننّ من الخاسرين } المغبونين في الدنيا والآخرة .
{ ولمّا رجع موسى } من الطور { إلى قومه } بني إسرائيل { غضبان } حال من { موسى } { أسفاً } حال أيضاً أي حزيناً { قال بئسما خلفتموني } قمتم مقامي وكنتم خلفائي { من بعدي } والخطاب لعبدة العجل من السامري وأشياعه ، أو لهارون ومن معه من المؤمنين ، ويدل عليه قوله { اخلفني في قومي } والمعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله ، أو حيث لم تكفوا من عبد غير الله ، وفاعل { بئس } مضمر يفسره { ما خلفتموني } والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم . ومعنى { من بعدي } بعد قوله { خلفتموني } من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله ونفي الشركاء عنه ، أو من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأكفهم عن عبادة البقرة حين قالوا { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف { أعجلتم } أسبقتم بعبادة العجل { أمر ربّكم } وهو إتياني لكم بالتوراة بعد أربعين ليلة . وأصل العجلة طلب الشيء قبل حينه . وقيل : عجلتم بمعنى تركتم { وألقى الألواح } ضجراً عند استماعه حديث العجل غضباً لله ، وكان في نفسه شديد الغضب وكان هارون ألين منه جانباً ، ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل من موسى ، فتكسرت فرفعت ستة أسباعها وبقي سبع واحد ، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي هدى ورحمة { وأخذ برأس أخيه } بشعر رأسه غضباً عليه حيث لم يمنعهم من عبادة العجل { يجرّه إليه } عتاباً عليه لا هواناً به وهو حال من موسى { قال ابن أمّ } بني الابن مع الأم على الفتح ك «خمسة عشر» وبكسر الميم : حمزة وعلي وشامي ، لأنه أصله أمي فحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة ، وكان ابن أمه وأبيه .(1/393)
وإنما ذكر الأم لأنها كانت مؤمنة ولأن ذكرها أدعى إلى العطف { إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني } أي إني لم آل جهداً في كفهم بالوعظ والإنذار ولكنهم استضعفوني وهموا بقتلي { فلا تشمت بي الأعدآء } الذين عبدوا العجل أي لا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إلي { ولا تجعلني مع القوم الظّالمين } أي قريناً لهم بغضبك علي . فلما اتضح له عذر أخيه .(1/394)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
{ قال ربّ اغفر لي ولأخي } ليرضي أخاه وينفي الشماتة عنه بإشراكه معه في الدعاء ، والمعنى اغفر لي ما فرط مني في حق أخي ولأخي إن كان فرط في حسن الخلافة { وأدخلنا في رحمتك } عصمتك في الدنيا وجنتك في الآخرة { وأنت أرحم الراحمين إنّ الّذين اتّخذوا العجل } إلهاً { سينالهم غضبٌ مّن رّبّهم } هو ما أمروا به من قتل أنفسهم توبة { وذلّةٌ في الحياة الدّنيا } خروجهم من ديارهم فالغربة تذل الأعناق أو ضرب الجزية عليهم { وكذلك نجزي المفترين } الكاذبين على الله ولا فرية أعظم من قول السامري «هذا إلهكم وإله موسى» { والّذين عملوا السّيّئات } من الكفر والمعاصي { ثم تابوا } رجعوا إلى الله { من بعدها وءامنوآ } وأخلصوا الإيمان { إنّ ربّك من بعدها } أي السيئات أو التوبة { لغفورٌ } لستور عليهم محاء لما كان منهم { رّحيمٌ } منعم عليهم بالجنة . و «إن» مع اسمها وخبرها خبر { الذين } وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل وغيرهم عظم جنايتهم أولاً ، ثم أردفها بعظم رحمته ليعلم أن الذنوب وإن عظمت فعفوه أعظم . ولما كان الغضب لشدته كأنه هو الآمر لموسى بما فعل قيل :
{ ولمّا سكت عن مّوسى الغضب } وقال الزجاج : معناه سكن وقريء به { أخذ الألواح } التي ألقاها { وفي نسختها } وفيما نسخ منها أي كتب فعلة بمعنى مفعول كالخطبة { هدًى وّرحمةٌ لّلّذين هم لربّهم يرهبون } دخلت اللام لتقدم المفعول وضعف عمل الفعل فيه باعتباره { واختار موسى قومه } أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل { سبعين رجلاً } قيل : اختار من اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة فبلغوا اثنين وسبعين رجلاً فقال : ليتخلف منكم رجلان فقعد كالب ويوشع { لّميقاتنا } لاعتذارهم عن عبادة العجل { فلمّآ أخذتهم الرّجفة } الزلزلة الشديدة { قال ربّ لو شئت أهلكتهم مّن قبل } بما كان منهم من عبادة العجل { وإيّاى } لقتلي القبطي { أتهلكنا بما فعل السّفهآء منّا } أتهلكنا عقوبة بما فعل الجهال منا وهم أصحاب العجل { إن هي إلاّ فتنتك } ابتلاؤك وهو راجع إلى قوله { فإنا قد فتنا قومك من بعدك } [ طه : 85 ] فقال موسى : هي تلك الفتنة التي أخبرتني بها أو هي ابتلاء الله تعالى عباده بما شاء ، { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] { تضلّ بها } بالفتنة { من تشآء } من علمت منهم اختيار الضلالة { وتهدي } بها { من تشآء } من علمت منهم اختيار الهدى { أنت وليّنا } مولانا القائم بأمورنا { فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا } وأثبت لنا واقسم { في هذاه الدّنيا حسنةً } عاقبة وحياة طيبة وتوفيقا في الطاعة { وفي الآخرة } الجنة { إنّا هدنآ إليك } تبنا إليك وهاد إليه يهود إذا رجع وتاب والهود جمع هائد وهو التائب .
{ قال عذابي } من صفته أني { أصيب به من أشآء } أي لا أعفو عنه { ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ } أي من صفة رحمتي أنها واسعة تبلغ كل شيء ، ما من مسلم ولا كافر إلا وعليه أثر رحمتي في الدنيا { فسأكتبها } أي هذه الرحمة { للّذين يتّقون } الشرك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم { ويؤتون الزكواة } المفروضة { والّذين هم بآياتنا } بجميع كتبنا { يؤمنون } لا يكفرون بشيء منها { الّذين يتّبعون الرّسول } الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به وهو القرآن { النّبيّ } صاحب المعجزات { الأمّيّ الّذي يجدونه } أي يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بني إسرائيل { مكتوباً عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف } بخلع الأنداد وإنصاف العباد { وينهاهم عن المنكر } عبادة الأصنام وقطيعة الأرحام { ويحلّ لهم الطّيّبات } ما حرم عليهم من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها ، أو ما طاب في الشريعة مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح وما خلا كسبه من السحت { ويحرّم عليهم الخبائث } ما يستخبث كالدم والميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، أو ما خبث في الحكم كالربا والرشوة ونحوهما من المكاسب الخبيثة { ويضع عنهم إصرهم } هو الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه عن الحراك لثقله ، والمراد التكاليف الصعبة كقتل النفس في توبتهم وقطع الأعضاء الخاطئة .(1/395)
{ آصارهم } شامي على الجمع { والأغلال الّتي كانت عليهم } هي الأحكام الشاقة نحو : بت القضاء بالقصاص عمداً كان أو خطأ من غير شرع الدية ، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب ، وإحراق الغنائم وظهور الذنوب على أبواب البيوت ، وشبهت بالغل للزومها لزوم الغل { فالّذين ءامنوا به } بمحمد صلى الله عليه وسلم { وعزّروه } وعظموه أو منعوه من العدو حتى لا يقوي عليه عدو وأصل العزر المنع ومنه التعزير لأنه منع عن معاودة القبيح كالحد فهو المنع { ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه } أي القرآن «ومع» متعلق ب { اتبعوا } أي واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته { أولئك هم المفلحون } الفائزون بكل خير والناجون من كل شر .
{ قل يا أيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم } بعث كل رسول إلى قومه خاصة وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الإنس وكافة الجن { جميعاً } حال من { إليكم } { الّذي له ملك السموات والأرض } في محل النصب بإضمار أعني وهو نصب على المدح { لآ إله إلاّ هو } بدل من الصلة وهي { له ملك السماوات والأرض } وكذلك { يحيي ويميت } وفي { لا إله إلا هو } بيان للجملة قبلها لأن من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة ، وفي { يحيي ويميت } بيان لاختصاصه بالإلهية إذ لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره { فئامنوا بالله ورسوله النّبيّ الأمّيّ الّذي يؤمن بالله وكلماته } أي الكتب المنزلة { واتّبعوه لعلّكم تهتدون } ولم يقل فآمنوا بالله وبي بعد قوله { إني رسول الله إليكم } لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه ، ولما في الالتفات من مزية البلاغة ، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به هو هذا الشخص الموصوف بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته كائناً من كان أنا أو غيري إظهاراً للنصفة وتفادياً من العصبية لنفسه { ومن قوم موسى أمّةٌ يهدون بالحقّ } أي يهدون الناس محقين أو بسبب الحق الذي هم عليه { وبه يعدلون } وبالحق يعدلون بينهم في الحكم لا يجورون .(1/396)
قيل : هم قوم وراء الصين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج ، أو هم عبد الله بن سلام وأضرابه .
{ وقطعناهم } وصيرناهم قطعاً أي فرقاً وميزنا بعضهم من بعض { اثنتي عشرة أسباطاً } كقولك اثنتي عشرة قبيلة ، والأسباط أولاد الولد جمع سبط وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام . نعم مميز ما عدا العشرة مفرد فكان ينبغي أن يقال اثني عشر سبطاً ، لكن المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة وكل قبيلة أسباط لا سبط فوضع «أسباط» موضع «قبيلة» { أمماً } بدل من { اثنتي عشرة } أي وقطعناهم أمماً لأن كل أسباط كانت أمة عظيمة وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى { وأوحينآ إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بّعصاك الحجر } فضرب { فانبجست } فانفجرت { منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كلّ أناسٍ مّشربهم } هو اسم جمع غير تكسير { وظلّلنا عليهم الغمام } وجعلناه ظليلاً عليهم في التيه { وأنزلنا عليهم المنّ والسلوى } وقلنا لهم { كلوا من طيّبات ما رزقناكم وما ظلمونا } أي وما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم { ولكن كانوآ أنفسهم يظلمون } ولكن كانوا يضرون أنفسهم ويرجع وبال ظلمهم إليهم .(1/397)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } واذكر إذ قيل لهم { اسكنوا هذه القرية } بيت المقدس { وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيئاتكم } { تَغْفِر لَكُمْ } مدني وشامي { خطيئاتكم } مدني { خطاياكم } أبو عمرو { خَطِئتكم } شامي { سَنَزِيدُ المحسنين فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مّنَ السماء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } ولا تناقض بين قوله { اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا } في هذه السورة وبين قوله في سورة«البقرة» { ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ } [ البقرة : 85 ] لوجود الدخول والسكنى . وسواء قدموا الحطة على دخول الباب أو أخروها فهم جامعون بينهما . وترك ذكر الرغد لا يناقض إثباته ، وقوله { نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم سَنَزِيدُ المحسنين } موعد بشيئين بالغفران وبالزيادة ، وطرح الواو لا يخل بذلك لأنه استئناف مرتب على قول القائل : وماذا بعد الغفران؟ فقيل له : { سَنَزِيدُ المحسنين } وكذلك زيادة { مِنْهُمْ } زيادة بيان و { أَرْسَلْنَا } و { أَنزَلْنَا } و { يَظْلِمُونَ } و { يَفْسُقُونَ } من وادٍ واحد .
{ وَسْئَلْهُمْ } واسأل اليهود { عَنِ القرية } أيلة أو مدين وهذا السؤال للتقريع بقديم كفرهم { التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر } قريبة منه { إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت } إذ يتجاورون حد الله فيه وهو اصطيادهم في يوم السبت وقد نهوا عنه { إِذْ يَعْدُونَ } في محل الجر بدل من { القرية } والمراد بالقرية أهلها كأنه قيل : واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت وهو من بدل الاشتمال { إِذْ تَأْتِيهِمْ } منصوب ب { يَعْدُونَ } أو بدل بعد بدل { حِيتَانُهُمْ } جمع حوت أبدلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها { يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا } ظاهرة على وجه الماء جمع شارع حال من الحيتان ، والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد ، والمعنى إذ يعدون في تعظيم اليوم وكذا قوله { يَوْمَ سَبْتِهِمْ } معناه يوم تعظيمهم أمر السبت ويدل عليه { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } و { يَوْمٍ } ظرف { لاَ تَأْتِيهِمْ } { كذلك نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بفسقهم { وَإِذْ قَالَتِ } معطوف على { إِذْ يَعْدُونَ } وحكمه كحكمه في الإعراب { أُمَّةٌ مّنْهُمْ } جماعة من صلحاء القرية الذين أيسوا من وعظهم بعدما ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم لآخرين لا يقلعون عن وعظهم { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا } وإنما قالوا ذلك لعلمهم أن الوعظ لا ينفع فيهم { قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ } - معذرة - أي موعظتنا إبلاء عذر إلى الله لئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى التفريط { مَعْذِرَةً } حفص على أنه مفعول له أي وعظناهم للمعذرة { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ولطمعنا في أن يتقوا .(1/398)
{ فَلَمَّا نَسُواْ } أي أهل القرية لما تركوا { مَا ذُكّرُواْ بِهِ } ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء } من العذاب الشديد { وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ } الراكبين للمنكر والذين قالوا لم تعظون من الناجين ، فعن الحسن : نجت فرقتان وهلكت فرقة وهم الذين أخذوا الحيتان { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } شديد . يقال : بؤس يبؤس بأساً إذا اشتد فهو بئيس . { بِئْسَ } : شامي { بيس } مدني { بيئس } على وزن فيعل : أبو بكر غير حماد { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين } أي جعلناهم قردة أذلاء مبعدين . وقيل : فلما عتوا تكرير لقوله { فَلَمَّا نَسُواْ } والعذاب البئيس : هو المسخ . قيل : صار الشبان قردة والشيوخ خنازير وكانوا يعرفون أقاربهم ويبكون ولا يتكلمون ، والجمهور على أنها ماتت بعد ثلاث . وقيل : بقيت وتناسلت .
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } أي أعلم وأجرى مجرى فعل القسم ، ولذا أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } أي كتب على نفسه ليسلطن على اليهود { إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ } من يوليهم { سُوء العذاب } فكانوا يؤدون الجزية إلى المجوس إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب } للكفار { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } للمؤمنين { وقطعناهم فِي الأرض } وفرقناهم فيها فلا تخلو بلد عن فرقة { أُمَمًا مّنْهُمُ الصالحون } الذين آمنوا منهم بالمدينة أو الذين وراء الصين { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه وهم الفسقة ومحل { دُونِ ذَلِكَ } الرفع وهو صفة لموصوف محذوف أي ومنهم ناس منحطون عن الصلاح { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } بالنعم والنقم والخصب والجدب { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ينتهون فينيبون { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } من بعد المذكورين { خَلْفٌ } وهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والخلف بدل السوء بخلاف الخلف فهو الصالح { وَرِثُواْ الكتاب } التوراة ووقفوا على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم ولم يعملوا بها { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى } هو حال من الضمير في { وَرِثُواْ } والعرض : المتاع أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها وهو من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب ، والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم . وفي قوله { هذا الأدنى } تخسيس وتحقير { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } لا يؤاخذنا الله بما أخذنا ، والفعل مسند إلى الأخذ أو إلى الجار والمجرور أي لنا { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } الواو للحال أي يرجعون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب } أي الميثاق المذكور في الكتاب { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } أي أخذ عليهم الميثاق في كتابهم أن لا يقولوا على الله إلا الصدق ، وهو عطف ل { مّيثَاقُ الكتاب } { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } وقرءوا ما في الكتاب وهو عطف على { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم } لأنه تقرير فكأنه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه { والدار الآخرة خَيْرٌ } من ذلك العرض الخسيس { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الرشا والمحارم { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أنه كذلك وبالتاء : مدني وحفص .(1/399)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
{ والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب } { يُمَسّكُونَ } أبو بكر والإمساك والتمسيك والتمسك الاعتصام والتعلق بشيء { وَأَقَامُواْ الصلاة } خص الصلاة مع أن التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة لأنها عماد الدين و { الذين } مبتدأ والخبر { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } أي إنا لا نضيع أجرهم . وجاز أن يكون مجروراً عطفاً على { الذين يَتَّقُونَ } و { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } اعتراض { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ } واذكروا إذا قلعناه ورفعناه كقوله { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } [ البقرة : 63 ] { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } هي كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب { وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } وعلموا أنه ساقط عليهم ، وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ . وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم . فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من سقوطه ، فلذلك لا ترى يهودياً يسجد على حاجبه الأيسر ويقولون هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة ، وقلنا لهم { خُذُواْ مَا ءاتيناكم } من الكتاب { بِقُوَّةٍ } وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه { واذكروا مَا فِيهِ } من الأوامر والنواهي ولا تنسوه { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ما أنتم عليه .
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ } أي واذكروا إذ أخذ { مِن ظُهُورِهِمْ } بدل من { بَنِى ءادَمَ } والتقدير : وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم { ذُرّيَّتُهُم } ومعنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم إخراجهم من أصلاب آبائهم { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا } هذا من باب التمثيل ، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الهدى والضلالة ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم : ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا : بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك { أَن تَقُولُواْ } مفعول له أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول كراهة أن يقولوا { يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين } لم ننبه عليه { أَوْ تَقُولُواْ } أو كراهة أن يقولوا { إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ } فاقتدينا بهم لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والاقتداء بالآباء ، كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } أي كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتركه سنة لنا { وكذلك } ومثل ذلك التفصيل البليغ { نُفَصّلُ الآيات } لهم { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن شركهم نفصلها .(1/400)
إلى هذا ذهب المحققون من أهل التفسير ، منهم الشيخ أبو منصور والزجاج والزمخشري ، وذهب جمهور المفسرين إلى أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من ظهر آدم مثل الذر وأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم بقوله { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ } فأجابوه ب { بلى } . قالوا : وهي الفطرة التي فطر الله الناس عليها . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أخرج الله من ظهر آدم ذريته وأراه أياهم كهيئة الذر وأعطاهم العقل وقال : هؤلاء ولدك آخذ عليهم الميثاق أن يعبدوني . قيل : كان ذلك قبل دخول الجنة بين مكة والطائف . وقيل : بعد النزول من الجنة . وقيل : في الجنة . والحجة للأولين أنه قال { مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } ولم يقل من ظهر آدم ، ولأنا لا نتذكر ذلك فأنى يصير حجة . { ذرياتهم } مدني وبصري وشامي { أَن تَقُولُواْ } { أَوْ تَقُولُواْ } : أبو عمرو .
{ واتل عَلَيْهِمْ } على اليهود { نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا } هو عالم من علماء بني إسرائيل وقيل : هو بلعم بن باعوراء أوتي علم بعض كتب الله { فانسلخ مِنْهَا } فخرج من الآيات بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره { فَأَتْبَعَهُ الشيطان } فلحقه الشيطان وأدركه وصار قريناً له { فَكَانَ مِنَ الغاوين } فصار من الضالين الكافرين . روي أن قومه طلبوا منه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى فلم يزالوا به حتى فعل وكان عنده اسم الله الأعظم .
{ وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه } إلى منازل الأبرار من العلماء { بِهَا } بتلك الآيات { ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض } مال إلى الدنيا ورغب فيها { واتبع هَوَاهُ } في إيثار الدنيا ولذاتها على الآخرة ونعيمها { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ } أي تزجره وتطرده { يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ } غير مطرود { يَلْهَثْ } والمعنى فصفته التي هي مثل في الخسة والضعة كصفة الكلب في أخس أحواله وأذلها وهي حال دوام اللهث به ، سواء حمل عليه أي شد عليه وهيج فطرد ، أو ترك غير متعرض له بالحمل عليه ، وذلك أن سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا حرك ، أما الكلب فيلهث في الحالين فكان مقتضى الكلام أن يقال : ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعناه منزلته ، فوضع هذا التمثيل موضع فحططناه أبلغ حط . ومحل الجملة الشرطية النصب على الحال كأنه قيل : كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالين . وقيل : لما دعا بلعم على موسى خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب . وقيل : معناه هو ضال وعظ أو ترك . وعن عطاء : من علم ولم يعمل فهو كالكلب ينبح إن طرد أو ترك { ذلك مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } من اليهود بعد أن قرءوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه { فاقصص القصص } أي قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فيحذرون مثل عاقبته إذا ساروا نحو سيرته { سَاء مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } هي مثل القوم فحذف المضاف ، وفاعل { سَاء } مضمر أي ساء المثل مثلاً .(1/401)
وانتصاب { مَثَلاً } على التمييز { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } معطوف على { كَذَّبُواْ } فيدخل في حيز الصلة أي الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم ، أو منقطع عن الصلة أي وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب ، وتقديم المفعول به للاختصاص أي وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعد إلى غيرها { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى } حمل على اللفظ { وَمَن يُضْلِلِ } أي ومن يضلله { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } حمل على المعنى ، ولو كان الهدي من الله البيان كما قالت المعتزلة ، لاستوى الكافر والمؤمن إذ البيان ثابت في حق الفريقين فدل أنه من الله تعالى التوفيق والعصمة والمعونة ، ولو كان ذلك للكافر لاهتدى كما اهتدى المؤمن .
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس } هم الكفار من الفريقين المعروضون عن تدبر آيات الله ، والله تعالى علم منهم اختيار الكفر فشاء منهم الكفر وخلق فيهم ذلك وجعل مصيرهم جهنم لذلك . ولا تنافي بين هذا وبين قوله { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] لأنه إنما خلق منهم للعبادة من علم أنه يعبده ، وأما من علم أنه يكفر به فإنما خلقه لما علم أنه يكون منه . فالحاصل أن من علم منه في الأزل أنه يكون منه العبادة خلقه للعبادة ، ومن علم منه أن يكون منه الكفر خلقه لذلك ، وكم من عامٍ يراد به الخصوص وقول المعتزلة بأن هذه لام العاقبة أي لما كان عاقبتهم جهنم جعل كأنهم خلقوا لها فراراً عن إرادة المعاصي عدول عن الظاهر { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } الحق ولا يتفكرون فيه { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } الرشد { وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا } الوعظ { أُوْلَئِكَ كالأنعام } في عدم الفقه والنظر الاعتبار والاستماع للتفكر { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } من الأنعام لأنهم كابروا العقول وعاندوا الرسول وارتكبوا الفضول ، فالأنعام تطلب منافعها وتهرب عن مضارها وهم لا يعلمون مضارهم حيث اختاروا النار ، وكيف يستوي المكلف المأمور والمخلى المعذور؟ فالآدمي روحاني شهواني سماوي أرضي ، فإن غلب روحه هواه فاق ملائكة السماوات ، وإن غلب هواه روحه فاقته بهائم الأرض { أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون } الكاملون في الغفلة .(1/402)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
{ وَللَّهِ الأسماء الحسنى } التي هي أحسن الأسماء لأنها تدل على معانٍ حسنة؛ فمنها ما يستحقه بحقائقه كالقديم قبل كل شيء ، والباقي بعد كل شيء ، والقادر على كل شيء ، والعالم بكل شيء ، والواحد الذي ليس كمثله شيء ، ومنها ما تستحسنه الأنفس لآثارها كالغفور والرحيم والشكور والحليم ، ومنها ما يوجب التخلق به كالفضل والعفو ، ومنها ما يوجب مراقبة الأحوال كالسميع والبصير والمقتدر ، ومنها ما يوجب الإجلال كالعظيم والجبار والمتكبر { فادعوه بِهَا } فسموه بتلك الأسماء { وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ } واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى ، وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه نحو أن يقولون : يا سخي يا رفيق ، لأنه لم يسم نفسه بذلك . ومن الإلحاد تسميته بالجسم والجوهر والعقل والعلة { يُلْحِدُونَ } حمزة لحد وألحد مال { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } للجنة لأنه في مقابلة { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } { أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } في أحكامهم . قيل : هم العلماء والدعاة إلى الدين ، وفيه دلالة على أن إجماع كل عصر حجة { والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم } سنستدنيهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم { مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ما يراد بهم وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع إنهماكهم في الغي ، فكلما جدد الله عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجددوا معصية فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن ترادف النعم أثره من الله تعالى وتقريب وإنما هو خذلان منه وتبعيد ، وهو استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة { وَأُمْلِى لَهُمْ } عطف على { سَنَسْتَدْرِجُهُم } وهو غير داخل في حكم السين أي أمهلهم { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } أخذي شديد . سماه كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان . ولما نسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجنون نزل { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم } محمد عليه السلام و «ما» نافية بعد وقف أي أولم يتفكروا في قولهم ، ثم نفى عنه الجنون بقوله ما بصاحبهم { مّن جِنَّةٍ } جنون { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } منذر من الله موضع إنذاره { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ } نظر استدلال { فِى مَلَكُوتِ السماوات والأرض } الملكوت الملك العظيم { وَمَا خَلَقَ الله مِن شَىْء } وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس لا يحصرها العدد { وَأَنْ عسى } «أن» مخففة من الثقيلة وأصله «وأنه عسى» ، والضمير ضمير الشأن وهو في موضع الجر بالعطف على { مَلَكُوتَ } ، والمعنى أولم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى { أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } ولعلهم يموتون عما قريب فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم قبل مفاجأة الأجل وحلول العقاب { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ } بعد القرآن { يُؤْمِنُونَ } إذا لم يؤمنوا به ، وهو متعلق ب { عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } كأنه قيل : لعل أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الفوت؟ وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق؟ وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا؟ { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } أي يضلله الله { وَيَذَرُهُمْ } بالياء : عراقي ، وبالجزم : حمزة وعلي عطفاً على محل { فَلاَ هَادِيَ لَهُ } كأنه قيل : من يضلل الله لا يهده أحد { وَيَذَرُهُمْ } والرفع على الاستئناف أي وهو يذرهم .(1/403)
الباقون : بالنون { فِي طغيانهم } كفرهم { يَعْمَهُونَ } يتحيرون . ولما سألت اليهود أو قريش عن الساعة متى تكون نزل .
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة } وهي من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا . وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها ، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق { أَيَّانَ } متى واشتقاقه من «أي» فعلان منه لأن معناه أي وقت { مرساها } إرساؤها مصدر مثل المدخل بمعنى الإدخال ، أو وقت إرسائها أي إثباتها ، والمعنى متى يرسيها الله { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي } أي علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به لم يخبر به أحداً من ملك مقرب ولا نبي مرسل ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } لا يظهر أمرها لا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده { ثَقُلَتْ فِى السماوات واللأرض } أي كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة ، ويتمنى أن يتجلى له علمها وشق عليه خفاؤها ، وثقل عليه أو ثقلت فيها لأن أهلها يخافون شدائدها وأهوالها { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } فجأة على غفلة منكم { يسئلونك كأنّك خفيٌّ عنها } كأنك عالم بها وحقيقته كأنك بليغ في السؤال عنها ، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه استحكم علمه فيه . وأصل هذا التركيب المبالغة ، ومنه إحفاء الشارب ، أو { عَنْهَا } متعلق ب { يَسْأَلُونَكَ } أي يسألونك عنها كأنك حفي أي عالم بها { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } وكرر { يَسْأَلُونَكَ } و { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } للتأكيد ولزيادة { كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا } وعلى هذا تكرير العلماء في كتبهم لا يخلون المكرر من فائدة ، منهم محمد بن الحسن رحمه الله { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أنه المختص بالعلم بها { قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء الله } هو إظهار للعبودية وبراءة عما يختص بالربوبية من علم الغيب أي أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر كالمماليك إلا ما شاء مالكي من النفع لي والدفع عني { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِىَ السوء } أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها ، ولم أكن غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب .(1/404)
وقيل : الغيب الأجل ، والخير العمل ، والسوء الوجل . وقيل : لاستكثرت لاعتددت من الخصب للجدب . والسوء الفقر وقد رد . { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } إن أنا إلا عبد أرسلت نذيراً وبشيراً ، وما من شأني أن أعلم الغيب . والسلام في { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يتعلق بالنذير والبشير لأن النذارة والبشارة إنما ينفعان فيهم ، أو بالبشير وحده والمتعلق بالنذير محذوف أي إلا نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون .
{ هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } هي نفس آدم عليه السلام { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } حواء خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } ليطمئن ويميل لأن الجنس إلى الجنس أميل خصوصاً إذا كان بعضاً منه ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه . وذكر { لِيَسْكُنَ } بعدما أنث في قوله { واحدة } منها زوجها ذهاباً إلى معنى النفس ليبين أن المراد بها آدم { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } جامعها { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا } خف عليها ولم تلق منه ما يلقي بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى ولم تستثقله كما يستثقلنه { فَمَرَّتْ بِهِ } فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق ، أو حملت حملاً خفيفاً يعني النطفة فمرت به فقامت به وقعدت .
{ فَلَمَّا أَثْقَلَت } حان وقت ثقل حملها { دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا } دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعي ويلتجأ إليه فقالا { لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا } لئن وهبت لنا ولداً سوياً قد صلح بدنه أو ولداً ذكراً لأن الذكورة من الصلاح { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } لك . والضمير في { ءاتَيْتَنَا } و { لَنَكُونَنَّ } لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما .
{ فَلَمَّا ءاتاهما صالحا } أعطاهما ما طلباه من الولد الصالح السوي { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء } أي آتى أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وكذلك { فِيمَا ءاتاهما } أي آتى أولادهما دليله { فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } حيث جمع الضمير ، وآدم وحواء بريئان من الشرك ، ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله تسميتهم أولادهم بعبد العزي وعبد مناف وعبد شمس ونحو ذلك ، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم ، أو يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم آل قصي أي هو الذي خلقكم من نفس واحدة قصي ، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزي وعبد قصي وعبد الدار .(1/405)
والضمير في { أَيُشْرِكُونَ } لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك . { شركاً } مدني وأبو بكر أي ذوي شرك وهم الشركاء . { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } يعني الأصنام { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أجريت الأصنام مجرى أولي العلم بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة ، والمعنى أيشركون مالاً يقدر على خلق شيء وهم يخلقون لأن الله خالقهم ، أو الضمير في { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } للعابدين أي أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم مخلوقو الله فليعبدوا خالقهم ، أو للعابدين والمعبودين وجمعهم كأولي العلم تغليباً للعابدين { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ } لعبدتهم { نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث كالكسر وغيره بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم { وَإِن تَدْعُوهُمْ } وإن تدعوا هذه الأصنام { إِلَى الهدى } إلى ما هو هدى ورشاد أو إلى أن يهدوكم أي وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى { لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } إلى مرادكم وطلبتكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله . { لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } نافع { سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون } عن دعائهم في أنه لا فلاح معهم ولا يجيبونكم ، والعدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية لرؤوس الآي { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } أي مخلوقون مملوكون أمثالكم { فادعوهم } لجلب نفع أو دفع ضر { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } فليجيبوا { إِن كُنتُمْ صادقين } في أنهم آلهة . ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالهم فقال { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا } مشيكم { أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا } يتناولون بها { أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي فلم تعبدون ما هو دونكم { قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ } واستعينوا بهم في عدواتي { ثُمَّ كِيدُونِ } جميعاً أنتم وشركاؤكم . وبالياء : يعقوب وافقه أبو عمرو في الوصل { فَلاَ تُنظِرُونِ } فإني لا أبالي بكم وكانوا قد خافوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك . وبالياء يعقوب { إِنَّ وَلِيّىَ } ناصري عليكم { الله الذى نَزَّلَ الكتاب } أوحى إليّ وأعزني برسالته { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } ومن سنته أن ينصر الصالحين من عباده ولا يخذلهم .(1/406)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
{ والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } من دون الله { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه { وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } المرئي .
{ خُذِ العفو } هو ضد الجهد أي ما عفا لك من أخلاق الناس وأفعالهم ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا كقوله عليه السلام " يسروا ولا تعسروا " { وَأْمُرْ بالعرف } بالمعروف والجميل من الأفعال ، أو هو كل خصلة يرتضيها العقل ويقبلها الشرع { وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين } ولا تكافيء السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم واحلم عليهم ، وفسرها جبريل عليه السلام بقوله : صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك . وعن الصادق أمر الله نبيه عليه السلام بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ } وإما ينخسنك منه نخس أي بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به { فاستعذ بالله } ولا تطعه . والنزغ : والنخس كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي . وجعل النزع نازغاً كما قيل جد جده ، أو أريد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب كقول أبي بكر رضي الله عنه : إن لي شيطاناً يعتريني { إنّه سميعٌ } لنزغه { عَلِيمٌ } بدفعه { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان } { طيف } مكي وبصري وعليّ أي لمة منه مصدر من قولهم «طاف به الخيال يطيف طيفاً» . وعن أبي عمرو : هما واحد وهي الوسوسة . وهذا تأكيد لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان ، وأن عادة المتقين إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته { تَذَكَّرُواْ } ما أمر الله به ونهى عنه { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } فأبصروا السداد ودفعوا وسوسته . وحقيقته أن يفروا منه إلى الله فيزدادوا بصيرة من الله بالله { وإخوانهم } وأما إخوان الشياطين من شياطين الإنس فإن الشياطين { يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } أي يكونون مدداً لهم فيه ويعضدونهم { يَمُدُّونَهُمْ } من الإمداد : مدني { ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا ، وجاز أن يراد بالإخوان الشياطين ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين والأول أوجه ، لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا . وإنما جمع الضمير في { إخوانهم } والشيطان مفرد لأن المراد به الجنس .
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ } مقترحة { قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها } هلا اخترتها أي اختلقتها كما اختلقت ما قبلها { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى } ولست بمقترح لها { هذا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } هذا القرآن دلائل تبصركم وجوه الحق { وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } به .(1/407)
{ وَإِذَا قُرِىء القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في الصلاة وغيرها . وقيل : معناه إذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له . وجمهور الصحابة رضي الله عنهم على أنه في استماع المؤتم . وقيل : في استماع الخطبة . وقيل : فيهما وهو الأصح { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك { تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } متضرعاً وخائفاً { وَدُونَ الجهر مِنَ القول } ومتكلماً كلاماً دون الجهر لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر { بالغدو والأصال } لفضل هذين الوقتين . وقيل : المراد إدامة الذكر باستقامة الفكر . ومعنى بالغدو بأوقات الغدو وهي الغدوات ، والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل وهو العشي { وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين } من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه { إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ } مكانة ومنزلة لا مكاناً ومنزلاً يعني الملائكة { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } لا يتعظمون عنها { وَيُسَبّحُونَهُ } وينزهونه عما لا يليق به { وَلَهُ يَسْجُدُونَ } ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره ، والله أعلم .(1/408)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
مدنية وهي خمس أو ست أو سبع وسبعون آية
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول } النفل الغنيمة لأنها من فضل الله وعطائه ، والأنفال الغنائم . ولقد وقع اختلاف بين المسلمين في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله كيف تقسم ولمن الحكم في قسمتها للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعاً؟ فقيل له : قل لهم هي لرسول الله وهو الحاكم فيها خاصة يحكم ما يشاء ليس لأحد غيره فيها حكم . ومعنى الجمع بين ذكر الله والرسول أن حكمها مختص بالله ورسوله يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ، ويمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوضاً إلى رأي أحد { فاتقوا الله } في الاختلاف والتخاصم وكونوا متآخين في الله { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } أحوال بينكم يعني ما بينكم من الأحوال التي تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق ، وقال الزجاج : معنى { ذَاتَ بِيْنِكُمْ } حقيقة وصلكم . والبين الوصل أي فاتقوا الله وكونوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله به . قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين على السواء { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } فيما أمرتم به في الغنائم وغيرها { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } كاملي الإيمان { إِنَّمَا المؤمنون } إنما الكاملو الإيمان { الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فزعت لذكره استعظاماً له وتهيباً من جلاله وعزه وسلطانه { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاياته } أي القرآن { زَادَتْهُمْ إيمانا } ازدادوا بها يقيناً وطمأنينة ، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه ، أو زادتهم إيماناً بتلك الآيات لأنهم لم يؤمنوا بأحكامها قبل { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يعتمدون ولا يفوضون أمورهم إلى غير ربهم لا يخشون ولا يرجون إلا إياه { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } جمع بين أعمال القلوب من الوجل والإخلاص والتوكل ، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } هو صفة لمصدر محذوف أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً ، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون } كقولك «هو عبد الله حقاً» أي حق ذلك حقاً . وعن الحسن رحمه الله أن رجلاً سأله أمؤمن أنت؟ قال : إن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله : { إِنَّمَا المؤمنون } الآية . فلا أدري أنا منهم أم لا . وعن الثوري : من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ، أي كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقاً فلا يقطع بأنه مؤمن حقاً ، وبهذا يتشبث من يقول أنا مؤمن إن شاء الله .(1/409)
وكان أبو حنيفة رحمه الله لا يقول ذلك . وقال لقتادة : لم تستثني في إيمانك؟ قال : اتباعاً لإبراهيم في قوله { والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين } [ الشعراء : 82 ] فقال له : هلا اقتديت به في قوله { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى } [ البقرة : 260 ] ، وعن إبراهيم التيمي : قل أنا مؤمن حقاً فإن صدقت أثبت عليه ، وإن كذبت فكفرك أشد من كذبك . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من لم يكن منافقاً فهو مؤمن حقاً . وقد احتج عبد الله على أحمد فقال : إيش اسمك؟ فقال : أحمد ، فقال : أتقول أنا أحمد حقاً أو أنا أحمد إن شاء الله؟ فقال : أنا أحمد حقاً . فقال : حيث سماك والداك لا تستثني وقد سماك الله في القرآن مؤمناً تستثني . { لَّهُمْ درجات } مراتب بعضها فوق بعض على قدر الأعمال { عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ } وتجاوز لسيئاتهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } صافٍ عن كد الاكتساب وخوف الحساب .
الكاف في { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } في محل النصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدر ، والتقدير : قل الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون { مِن بَيْتِكَ } يريد بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها لأنها مهاجرة ومسكنة فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه { بالحق } إخراجاً متلبساً بالحكمة والصواب { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ } في موضع الحال أي أخرجك في حال كراهتهم . وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان ، فأخبر جبريل النبي عليه السلام فأخبر أصحابه فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم ، فلما خرجوا علمت قريش بذلك فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهو النفير في المثل السائر : لا في العير ولا في النفير . فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فأبى وسار بمن معه إلى بدر وهو ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة ونزل جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين ، إما العير وإما قريشاً . فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال : « العير أحب إليكم أم النفير » قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدو . فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّد عليهم فقال : « إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل » فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو . فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال انظر أمرك فامض ، فوالله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار .(1/410)
ثم قال المقداد بن عمرو : امض لما أمرك الله فإنا معك حيث أحببت ، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : { اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . ما دامت عين منا تطرف ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال سعد بن معاذ : امض يا رسول الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، فسر بنا على بركة الله . ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشطه قول سعد ثم قال : «سيروا على بركة الله أبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» وكانت الكراهة من بعضهم لقوله { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ } قال الشيخ أبومنصور رحمه الله : يحتمل أنهم منافقون كرهوا ذلك اعتقاداً ، ويحتمل أن يكونوا مخلصين ، وأن يكون ذلك كراهة طبع لأنهم غير متأهبين له .(1/411)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
{ يجادلونك فِي الحق } الحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقي النفير لإيثارهم عليه تلقي العير { بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } بعد إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ينصرون وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير ، وهلا قلت لنا لنستعد وذلك لكراهتهم القتال { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ } شبه حالهم في فرط فزعهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة بحال من يعتل إلى القتل ويساق على الصغار إلى الموت وهو مشاهد لأسبابه ناظر إليها لا يشك فيها . وقيل : كان خوفهم لقلة العدد وإنهم كانوا رجالة وماكان فيهم إلا فارسان { وإذ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين } «إذ» منصوب ب «اذكر» و { إِحْدَى } مفعول ثانٍ { أَنَّهَا لَكُمْ } بدل من { إِحْدَى الطائفتين } وهما العير والنفير والتقدير : وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ } أي العير وذات الشوكة ذات السلاح ، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم أي تتمنون أن تكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا سلاح لها ولا تريدون الطائفة الأخرى { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ } أي يثبته ويعليه { بكلماته } بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة ، وبما قضى من قتلهم وطرحهم في قليب بدر { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } آخرهم والدابر الآخر فاعل من دبر إذا أدبر . وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة ، وسفساف الأمور ، والله تعالى يريد معالي الأمور ، ونصرة الحق ، وعلو الكلمة ، وشتان ما بين المرادين ، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة وكسر قوتهم بضعفكم وأعزكم وأذلهم { لِيُحِقَّ الحق } متعلق ب { يقطع } أو بمحذوف تقديره ليحق الحق { وَيُبْطِلَ الباطل } فعل ذلك والمقدر متأخر ليفيد الاختصاص أي ما فعله إلا لهما ، وهو إثبات الإسلام وإظهاره ، وإبطال الكفر ، ومحقه ، وليس هذا بتكرار لأن الأول تمييز بين الإرادتين ، وهذا بيان لمراده فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } المشركون ذلك
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } بدل من { إِذْ يَعِدُكُمُ } أو متعلق بقوله { لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل } واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال طفقوا يدعون الله يقولون أي ربنا انصرنا على عدوك ، يا غياث المستغيثين أغثنا . وهي طلب الغوث وهو التخليص من المكروه { فاستجاب لَكُمْ } فأجاب . وأصل { أَنّي مُمِدُّكُمْ } «بأني ممدكم» فحذف الجار وسلط عليه { استجاب } فنصب محله { بِأَلْفٍ مّنَ الملئكة مُرْدِفِينَ } { مُردفِينَ } مدني . غيره بكسر الدال . فالكسر على أنهم أردفوا غيرهم ، والفتح على أنه أردف كل ملك ملكاً آخر .(1/412)
يقال : ردفه إذا تبعه ، وأردفته إياه إذا اتبعه { وَمَا جَعَلَهُ الله } أي الإمداد الذي دل عليه ممدكم { إِلاَّ بشرى } إلا بشارة لكم بالنصر { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } يعني أنكم استغثتم وتضرعتم لقلتكم فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر وتسكيناً منكم وربطاً على قلوبكم { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } أي ولا تحسبوا النصر من الملائكة فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة ، أو وما النصر من الملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند الله ، والمنصور من نصره الله . واختلف في قتال الملائكة يوم بدر فقيل : نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر رضي الله عنه ، وميكائل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي رضي الله عنه في صورة الرجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلت حتى قال أبو جهل لابن مسعود : من أين كان يأتينا الضرب ، ولا نرى الشخص ، قال : من قبل الملائكة . قال : فهم غلبونا لا أنتم . وقيل : لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كافٍ في إهلاك أهل الدنيا . { أَنَّ الله عَزِيزٌ } بنصر أوليائه { حَكِيمٌ } بقهر أعدائه .
{ إِذْ يُغَشّيكُمُ } بدل ثانٍ من { إِذْ يَعِدُكُمُ } أو منصوب بالنصر أو بإضمار اذكر . { يُغَشّيكُمُ } مدني { النعاس } النوم والفاعل هو الله على القراءتين . { يُغَشّيكُمُ النعاس } مكي ، وأبو عمرو { ءامِنَةً } مفعول له أي إذ تنعسون أمنة بمعنى أمناً أي لأمنكم ، أو مصدر أي فأمنتم أمنة فالنوم يزيح الرعب ويريح النفس { مِنْهُ } صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من الله { وَيُنَزّلُ } بالتخفيف : مكي وبصري ، وبالتشديد : وغيرهم { عَلَيْكُم مّن السماء مَاء } مطراً { لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } بالماء من الحدث والجنابة { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } وسوسته إليهم وتخويفه إياهم من العطش ، أو الجنابة من الاحتلام ، لأنه من الشيطان وقد وسوس إليهم أن لا نصرة مع الجنابة { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } بالصبر { وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام } أي بالماء إذ الأقدام كانت تسوخ في الرمل ، أو بالربط لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر يثبت القدم في مواطن القتال { إِذْ يُوحِى } بدل ثالث من { إِذْ يَعِدُكُمُ } أو منصوب ب { يُثَبّتُ } { رَبُّكَ إِلَى الملئكة أَنّي مَعَكُمْ } بالنصر { فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ } بالبشرى وكان الملك يسير أمام الصف في صورة رجل ويقول : أبشروا فإن الله ناصركم { سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } هو امتلاء القلب من الخوف و { الرعب } شامي وعلي { فاضربوا } أمر للمؤمنين أو الملائكة ، وفيه دليل على أنهم قاتلوا { فَوْقَ الأعناق } أي أعالي الأعناق التي هي المذابح تطييراً للرؤوس ، أو أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق يعني ضرب الهام { واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } هي الأصابع يريد الأطراف ، والمعنى فاضربوا المقاتل والشوي لأن الضرب إما أن يقع على مقتل أو غير مقتل ، فأمرهم أن يجمعوا عليهم النوعين { ذلك } إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل وهو مبتدأ خبره { بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } أي ذلك العقاب وقع عليهم بسبب مشاقتهم أي مخالفتهم وهي مشتقة من الشق لأن كلا المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه ، وكذا المعاداة والمخاصمة لأن هذا في عدوة وخُصم أي جانب وذاك في عدوة وخصم { وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } والكاف في ذلك لخطاب الرسول أو لكل أحد ، وفي { ذلكم } للكفرة على طريقة الالتفات ، ومحله الرفع على «ذلكم العقاب أو العقاب» { ذلكم فَذُوقُوهُ } .(1/413)
والواو في { وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار } بمعنى «مع» أي ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة فوضع الظاهر موضع الضمير .
{ ا يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً } حال من { الذين كَفَرُواْ } . والزحف الجيش الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيباً من زحف الصبي إذا دب على استه قليلاً قليلاً سمي بالمصدر { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } فلا تنصرفوا عنهم منهزمين أي إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير وأنتم قليل ، فلا تفروا فضلاً أن تدانوهم في العدد أو تساووهم ، أو حال من المؤمنين أو من الفريقين أي إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم .
{ وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً } مائلاً { لّقِتَالٍ } هو الكر بعد الفر يخيل عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه وهو من خدع الحرب { أَوْ مُتَحَيّزاً } منضماً { إلى فِئَةٍ } إلى جماعة من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها وهما حالان من ضمير الفاعل في { يُوَلّهِمْ } { فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } ووزن متحيز «متفيعل» لا «متفعل» ، لأنه من حاز يحوز ، فبناء متفعل منه متحوز . ولما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا وكان القاتل منهم يقول تفاخراً قتلت وأسرت قيل لهم { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } والفاء جواب لشرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم . ولما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : خذ قبضة من تراب فارمهم بها فرمى بها في وجوههم وقال " شاهت الوجوه " فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا قيل { وَمَا رَمَيْتَ } يا محمد { إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } يعني أن الرمية التي رميتها أنت لم ترمها أنت على الحقيقة ، لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمي البشر ، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم ، وفي الآية بيان أن فعل العبد مضاف إليه كسباً وإلى الله تعالى خلقاً لا كما تقول الجبرية والمعتزلة ، لأنه أثبت الفعل من العبد بقوله { إِذْ رَمَيْتَ } ثم نفاه عنه وأثبته لله تعالى بقوله { ولكن الله رمى } ، { ولكن الله قَتَلَهُمْ } ، { ولكن الله رمى } بتخفيف { لَكِنِ } شامي وحمزة وعلي { وَلِيُبْلِيَ المؤمنين } وليعطيهم { مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا } عطاء جميلاً ، والمعنى وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل وما فعل إلا لذلك { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لدعائهم { عَلِيمٌ } بأحوالهم { ذلكم } إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع أي الأمر ذلكم { وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين } معطوف على { ذلكم } أي المراد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين .(1/414)
{ مُوهِنُ كَيْدِ } شامي وكوفي غير حفص . { مُوهِنُ كَيْدِ } حفص ، { مُوهِنُ } غيرهم .
{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } إن تستنصروا فقد جاءكم النصر عليكم وهو خطاب لأهل مكة ، لأنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة قالوا : اللهم إن كان محمد على حق فانصره ، وإن كنا على الحق فانصرنا . وقيل : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } خطاب للمؤمنين { وإن } للكافرين أي { وإن تنتهوا } عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { فهو } أي الانتهاء { خَيْرٌ لَّكُمْ } وأسلم { وَإِن تَعُودُواْ } لمحاربته { نَعُدْ } لنصرته عليكم { وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ } جمعكم { شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } عدداً { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } بالفتح مدني وشامي وحفص أي ولأن الله مع المؤمنين بالنصر كان ذلك ، وبالكسر غيرهم ويؤيده قراءة عبد الله { والله مَعَ المؤمنين } { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ } عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن المعنى أطيعوا رسول الله كقوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ولأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقوله «الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان» أو يرجع الضمير إلى الأمر بالطاعة أي ولا تولوا عن هذا الأمر وأمثاله ، وأصله ولا تتولوا فحذف إحدى التاءين تخفيفاً { وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } أي وأنتم تسمعونه ، أو ولا تتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تخالفوه وأنتم تسمعون أي تصدقون لأنكم مؤمنون لستم كالصم المكذبين من الكفرة .(1/415)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
{ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا } أي ادعوا السماع وهم المنافقون وأهل الكتاب { وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } لأنهم ليسوا بمصدقين فكأنهم غير سامعين ، والمعنى أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها أشبه سماعكم سماع من لا يؤمن . ثم قال { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ } أي إن شر من يدب على وجه الأرض البهائم ، وإن شر البهائم الذين هم صم عن الحق لا يعقلونه ، جعلهم من جنس البهائم ثم جعلهم شرها لأنهم عاندوا بعد الفهم وكابروا بعد العقل { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ } في هؤلاء الصم والبكم { خَيْرًا } صدقاً ورغبة { لأسْمَعَهُمْ } لجعلهم سامعين حتى يسمعوا سماع المصدقين { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ } عنه أي ولو أسمعهم وصدقوا لارتدوا بعد ذلك ولم يستقيموا { وَهُم مُّعْرِضُونَ } عن الإيمان . { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } وحد الضمير أيضاً كما وحده فيما قبله ، لأن استجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كاستجابته ، والمراد بالاستجابة الطاعة والامتثال وبالدعوة البعث والتحريض { لِمَا يُحْيِيكُمْ } من علوم الديانات والشرائع لأن العلم حياة كما أن الجهل موت قال الشاعر
لا تعجبنّ الجهول حلته ... فذاك ميت وثوبه كفن
أو لمجاهدة الكفار لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم ، أو للشهادة لقوله تعالى { بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ } [ آل عمران : 169 ] { واعلموا أَنَّ الله يحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } أي يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله ، أو بينه وبين ما تمناه بقلبه من طول الحياة فيفسخ عزائمه { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } واعلموا أنكم إليه تحشرون فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة { واتقوا فِتْنَةً } عذاباً { لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } هو جواب للأمر أي إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم ، وجاز أن تدخل النون المؤكدة في جواب الأمر لأن فيه معنى النهي كما إذا قلت «انزل عن الدابة لا تطرحك» وجاز «لا تطرحنك» . و «من» في { مّنكُمْ } للتبعيض { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } إذا عاقب .
{ واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } «إذ» مفعول به لا ظرف أي واذكروا وقت كونكم أقلة أذلة { مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرض } أرض مكة قبل الهجرة : يستضعفكم قريش { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس } لأن الناس كانوا لهم أعداء مضادين { فأواكم } إلى المدينة { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } بمظاهرة الأنصار وبإمداد الملائكة يوم بدر { وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات } من الغنائم ولم تحل لأحد قبلكم { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } هذه النعم .(1/416)
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله } بأن تعطلوا فرائضه { والرسول } بأن لا تستنوا به { وَتَخُونُواْ } جزم عطف على { لاَ تَخُونُواْ } أي ولا تخونوا { أماناتكم } فيما بينكم بأن لا تحفظوها { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } تبعه ذلك ووباله ، أو وأنتم تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو ، أو وأنتم علماء تعلمون حسن الحسن وقبح القبيح ، ومعنى الخون النقص كما أن معنى الإيفاء التمام ، ومنه تخوّنه إذا انتقصه ، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء ، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه { واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } أي سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم والعذاب ، أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده { وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } فعليكم أن تحرصوا على طلب ذلك وتزهدوا في الدنيا ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد { ياأيها الذين ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } نصراً لأنه يفرق بين الحق والباطل ، وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله ، أو بياناً وظهوراً يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض من قولهم «سطع الفرقان» أي طلع الفجر ، أو مخرجاً من الشبهات وشرحاً للصدور ، أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان وفضلاً ومزية في الدنيا والآخرة { وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } أي الصغائر { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ذنوبكم أي الكبائر { والله ذُو الفضل العظيم } على عباده .
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } لما فتح الله عليه ذكّره مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم . والمعنى واذكر إذ يمكرون بك ، وذلك أن قريشاً لما أسلمت الأنصار فرقوا أن يتفاقم أمره فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره ، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال : أنا شيخ من نجد دخلت مكة فسمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً . فقال أبو البختري : رأيي أن تحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتربصوا به ريب المنون . فقال إبليس : بئس الرأي ، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم . فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع واسترحتم . فقال إبليس : بئس الرأي ، يفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم . فقال أبو جهل لعنه الله : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا . فقال اللعين : صدق هذا الفتى هو أجودكم رأياً ، فتفرقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله ، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن له الله في الهجرة ، فأمر علياً فنام في مضجعه وقال له : اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه .(1/417)
وباتوا مترصدين ، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله سعيهم واقتفوا أثره فأبطل الله مكرهم { لِيُثْبِتُوكَ } ليحبسوك ويوثقوك { أَوْ يَقْتُلُوكَ } بسيوفهم { أَوْ يُخْرِجُوكَ } من مكة { وَيَمْكُرُونَ } ويخفون المكايد له { وَيَمْكُرُ الله } ويخفي الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة { والله خَيْرُ الماكرين } أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيراً .
كان عليه السلام يقرأ القرآن ويذكر أخبار القرون الماضي في قراءته فقال النضر بن الحارث : لو شئت لقلت مثل هذا . وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وأحاديث العجم فنزل { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي القرآن { قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين } وهذا صلف منهم ووقاحة ، لأنهم دعوا إلى أن يأتوا بسورة واحدة من مثل هذا القرآن فلم يأتوا به .(1/418)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
{ وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا } أي القرآن { هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } هذا اسم «كان» و «هو» فصل و { الحق } خبر «كان» . رُوي أن النضر لما قال { إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين } قال له النبي عليه الصلاة والسلام " ويلك هذا كلام الله " فرفع النضر رأسه إلى السماء وقال { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } أي إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل { أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } بنوع آخر من جنس العذاب الأليم فقتل يوم بدر صبراً . وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال : أجهل من قومي قومك ، قالوا لرسول الله عليه السلام حين دعاهم إلى الحق { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } ولم يقولوا : إن كان هذا هو الحق فاهدنا له { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } اللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم لأنك بعثت رحمة للعالمين وسنته أن لا يعذب قوماً عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم ، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم { وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } هو في موضع الحال ومعناه نفي الاستغفار عنهم أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم ، أو معناه وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين . { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله } أي وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وهو معذبهم إذا فارقتهم ، وما لهم ألا يعذبهم الله { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، وإخراجهم رسول الله والمؤمنين من الصد وكانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء فقيل { وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ } وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمر الحرم { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون } من المسلمين . وقيل : الضميران راجعان إلى الله { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند أو أردا بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاءً } صفيراً كصوت المكاء وهو طائر مليح الصوت ، وهو فعال من مكا يمكوا إذا صفر { وَتَصْدِيَةً } وتصفيقاً تفعلة من الصدى ، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم ويصفرون فيها ويصفقون ، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته يخلطون عليه { فَذُوقُواْ العذاب } عذاب القتل والأسر يوم بدر { بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } بسبب كفركم .(1/419)
ونزل في المطعين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً وكلهم من قريش ، وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وهو سبيل الله { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } ثم تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة ، فكأن ذاتها تصير ندماً وتنقلب حسرة { ثُمَّ يُغْلَبُونَ } آخر الأمر وهو من دلائل النبوة لأنه أخبر عنه قبل وقوعه فكان كما أخبر { والذين كَفَرُواْ } والكافرون منهم { إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه .
واللام في { لِيَمِيزَ الله الخبيث } الفريق الخبيث من الكفار { مِنَ الطيب } أي من الفريق الطيب من المؤمنين ، متعلقة ب { يُحْشَرُونَ } { ليميّز } حمزة وعلي { وَيَجْعَلَ الخبيث } الفريق الخبيث { بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً } فيجمعه { فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ } أي الفريق الخبيث { أولئك } إشارة إلى الفريق الخبيث { هُمُ الخاسرون } أنفسهم وأموالهم .
{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي أبي سفيان وأصحابه { إِن يَنتَهُواْ } عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام { يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } لهم من العداوة { وَإِن يَعُودُواْ } لقتاله { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين } بالإهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى ، أو معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي ، وبه احتج أبو حنيفة رحمه الله في أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط { وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ } ويضمحل عنهم كل دين باطل ويبقى فيهم دين الإسلام وحده { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن الكفر وأسلموا { فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يثيبهم على إسلامهم { وَإِن تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا { فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ } ناصركم ومعينكم فثقوا بولايته ونصرته { نِعْمَ المولى } لا يضيع من تولاه { وَنِعْمَ النصير } لا يغلب من نصره . والمخصوص بالمدح محذوف .
{ واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم } «ما» بمعنى «الذي» ، ولا يجوز أن يكتب إلا مفصولاً إذ لو كتب موصولاً لوجب أن تكون «ما» كافة و { غَنِمْتُمْ } صلته والعائد محذوف والتقدير : الذي غنمتموه { مِّن شَىْء } بيانه قيل حتى الخيط والمخيط { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } والفاء إنما دخلت لما في «الذي» من معنى المجازاة و «أن» وما عملت فيه في موضع رفع على أنه خبر مبدأ تقديره : فالحكم أن لله خمسة { وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } فالخمس كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم على خمسة أسهم : سهم لرسول الله ، وسهم لذي قرابته من بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل استحقوه حينئذ بالنصرة لقصة عثمان وجبير بن مطعم ، وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل ، وأما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسهمه ساقط بموته ، وكذلك سهم ذوي القربى ، وإنما يعطون لفقرهم ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل .(1/420)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان على ستة : لله والرسول سهمان ، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر رضي الله عنه الخمس على ثلاثة ، وكذا عمر ومن بعده من الخلفاء رضي الله عنهم ، ومعنى { لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } لرسول الله كقوله { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] { إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله } فاعملوا به وارضوا بهذه القسمة فالإيمان يوجب الرضا بالحكم والعمل بالعلم { وَمَا أَنزَلْنَا } معطوف على { بالله } أي إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل { على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان } يوم بدر { يَوْمَ التقى الجمعان } الفريقان من المسلمين والكافرين ، والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ وهو بدل من { يَوْمَ الفرقان } { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } يقدر على أن ينصر القليل على الكثير كما فعل بكم يوم بدر . { إِذْ أَنتُم } بدل من { يَوْمَ الفرقان } والتقدير : اذكروا إذ أنتم { بِالْعُدْوَةِ } شط الوادي ، وبالكسر فيهما : مكي وأبو عمرو { الدنيا } القربى إلى جهة المدينة تأنيث الأدنى { وَهُم بالعدوة القصوى } البعدى عن المدينة تأنيث الأقصى ، وكلتاهما فعلى من بنات الواو ، والقياس قلب الواو ياء كالعليا تأنيث الأعلى ، وأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل { والركب } أي العير وهو جمع راكب في المعنى { أَسْفَلَ مِنكُمْ } نصب على الظرف أي مكاناً أسفل من مكانكم يعني في أسفل الوادي بثلاثة أميال ، وهو مرفوع المحل لأنه خبر المبتدأ { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ } أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال { لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد } لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له { ولكن } جمع بينكم بلا ميعاد { لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } من إعزاز دينه وإعلاء كلمته ، أو اللام تتعلق بمحذوف أي ليقضي الله أمراً كان ينبغي أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك . قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : القضاء يحتمل الحكم أي ليحكم ما قد علم أنه يكون كائناً ، أو ليتم أمراً كان قد أراده ، وما أراد كونه فهو مفعول لا محالة وهو عز الإسلام وأهله وذل الكفر وحزبه ويتعلق ب { يَقْضِى } { لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ } { حيي } نافع وأبو عمرو ، فالإدغام لالتقاء المثلين ، والإظهار لأن حركة الثاني غير لازمة ، لأنك تقول في المستقبل «يحيا» والإدغام أكثر .(1/421)
استعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة حتى لا يبقى له على الله حجة ، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به ، وذلك أن وقعة بدر من الآيات الواضحة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها ، ولهذا ذكر فيها مراكز الفريقين ، وأن العير كانت أسفل منهم مع أنهم قد علموا ذلك كله مشاهدة ليعلم الخلق أن النصر والغلبة لا تكون بالكثرة والأسباب بل بالله تعالى ، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضاً لا بأس بها ، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة ، وكان العيروراء ظهور العدو مع كثرة عددهم وعدتهم وقلة المسلمين وضعفهم ثم كان ما كان { بَيّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ } لأقوالهم { عَلِيمٌ } بكفر من كفر وعقابه وبإيمان من آمن وثوابه .(1/422)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ الله } نصب بإضمار «اذكر» ، أو هو متعلق بقوله { لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي بعلم المصالح إذ يقللهم في عينك { فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } أي في رؤياك ، وذلك أن الله تعالى أراه إياهم في رؤياه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فكان ذلك تشجيعاً لهم على عدوهم { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } لجبنتم وهبتم الإقدام { ولتنازعتم فِي الأمر } أمر القتال وترددتم بين الثبات والفرار { ولكن الله سَلَّمَ } عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع .
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ } الضميران مفعولان أي وإذ يبصركم إياهم { إِذِ التقيتم } وقت اللقاء { فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } هو نصب على الحال . وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا . قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة وكانوا ألفاً { وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور . قيل : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ثم كثرهم فيما بعده ليجترئوا عليه قلة مبالاة بهم ثم تفجأهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا ، ويجوز أن يبصروا الكثير قليلاً بأن يستر الله بعضهم بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين ، قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين وكان بين يديه ديك واحد فقال : مالي لا أرى هذين الديكين أربعة : { لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مفعولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } فيحكم فيها بما يريد { تَرْجَعُ } شامي وحمزة وعلي .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } إذا حاربتم جماعة من الكفار وترك وصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار ، واللقاء اسم غالب للقتال { فاثبتوا } لقتالهم ولا تفروا { واذكروا الله كَثِيراً } في مواطن الحرب مستظهرين بذكره مستنصرين به داعين له على عدوكم : اللهم اخذلهم اللهم اقطع دابرهم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة ، وفيه إشعار بأن على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هماً ، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } في الأمر بالجهاد والثبات مع العدو وغيرهما { وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ } فتجبنوا وهو منصوب بإضمار «أن» ويدل عليه { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي دولتكم يقال : «هبت رياح فلان» إذا دالت له الدولة ونفذ أمره ، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيته بالريح وهبوبها .(1/423)
وقيل : لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله ، وفي الحديث " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " { واصبروا } في القتال مع العدو وغيره { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } أي معينهم وحافظهم { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم بَطَراً وَرِئَاءَ الناس } هم أهل مكة حين نفروا لحماية العير فأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فأبى أبو جهل وقال : حتى نقدم بدراً ونشرب بها الخمور وننحر الجزور وتعزف علينا القيان ونطعم بها العرب ، فذلك بطرهم ورياؤهم الناس بإطعامهم فوافوها فسقوا كأس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيام ، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم ، وأن يكونوا من أهل التقوى والكآبة والحزن من خشية الله مخلصين أعمالهم لله . والبطر أن تشغله كثرة النعمة عن شكرها . { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } دين الله { والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } عالم وهو وعيد .
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس } واذكر إذ زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون . وغالب مبني نحو «لا رجل» و { لَكُمْ } في موضع رفع خبر «لا» . تقديره : لا غالب كائن لكم { وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } أي مجير لكم أوهمهم أن طاعة الشيطان مما يجيرهم { فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان } فلما تلاقى الفريقان { نَكَصَ } الشيطان هارباً { على عَقِبَيْهِ } أي رجع القهقرى { وَقَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ } أي رجعت عما ضمنت لكم من الأمان . روي أن إبليس تمثل لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم في جند من الشياطين معه راية ، فلما رأى الملائكة تنزل نكص فقال له الحارث بن هشام : أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال : { إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ } أي الملائكة وانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة . فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم ، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان { إِنّي أَخَافُ الله } أي عقوبته { والله شَدِيدُ العقاب } اذكروا { إِذْ يَقُولُ المنافقون } بالمدينة { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هو من صفة المنافقين ، أو أريد والذين هم على حرف ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام { غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ } يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم فخرجوا وهم ثلثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف . ثم قال جواباً لهم { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله } يكل إليه أمره { فَإِنَّ الله عَزِيزٌ } غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي { حَكِيمٌ } لا يسوي بين وليه عدوه .
{ وَلَوْ تَرَى } ولو عاينت وشاهدت لأن «لو» ترد المضارع إلى معنى الماضي كما ترد «إن» الماضي إلى معنى الاستقبال { إِذْ } نصب على الظرف { يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ } بقبض أرواحهم { الملائكة } فاعل { يَضْرِبُونَ } حال منهم { وُجُوهُهُمْ } إذا أقبلوا { وأدبارهم } ظهورهم وأستاههم إذا أدبروا ، أو وجوههم عند الإقدام وأدبارهم عند الانهزام .(1/424)
وقيل : في { يَتَوَفَّى } ضمير الله تعالى ، و { الملائكة } مرفوعة بالابتداء و { يَضْرِبُونَ } خبر والأول الوجه ، لأن الكفار لا يستحقون أن يكون الله متوفيهم بلا واسطة دليله قراءة ابن عامر { تتوفى } بالتاء { وَذُوقُواْ } ويقولون لهم ذوقوا معطوف على { يَضْرِبُونَ } { عَذَابَ الحريق } أي مقدمة عذاب النار ، أو ذوقوا عذاب الآخرة بشارة لهم به ، أو يقال لهم يوم القيامة : ذوقوا . وجواب «لو» محذوف أي لرأيت أمراً فظيعاً .
{ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي كسبت وهو رد على الجبرية ، وهو من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة . و { ذلك } رفع بالابتداء و { بِمَا قَدَّمَتْ } خبره { وَأَنَّ الله } عطف عليه أي ذلك العذاب بسببين : بسبب كفركم ومعاصيكم ، وبأن الله { لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } لأن تعذيب الكفار من العدل . وقيل : ظلام للتكثير لأجل العبيد ، أو لنفي أنواع الظلم . الكاف في { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } في محل الرفع أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون ، ودأبهم عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه أي داوموا عليه { والذين مِن قَبْلِهِمْ } من قبل قريش أو من قبل آل فرعون { كَفَرُواْ } تفسير لدأب آل فرعون { بئايات الله فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب } والمعنى جروا على عادتهم في التكذيب فأجرى عليه مثل ما فعل بهم في التعذيب { ذلك } العذاب أو الانتقام { بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } بسبب أن الله لم يصح في حكمته أن يغير نعمته عند قوم حتى يغيروا مابهم من الحال ، نعم لم يكن لآل فرعون ومشركي مكة حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة ، لكن لما تغيرت الحال المرضية إلى المسخوطة تغيرت الحال المسخوطة إلى أسخط منها ، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام ، فلما بعث إليهم بالآيات فكذبوه وسعوا في إراقة دمه ، غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ } لما يقولوا مكذبو الرسل { عَلِيمٌ } بما يفعلون { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } تكرير للتأكيد ، أو لأن في الأولى الأخذ بالذنوب بلا بيان ذلك ، وهنا بين أن ذلك هو الإهلاك والاستئصال { والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بئايات رَبِّهِمْ } وفي قوله { بآيات رَبِّهِمْ } زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق { فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَونَ } بماء البحر { وَكُلٌّ } وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش { كَانُواْ ظالمين } أنفسهم بالكفر والمعاصي .
{ إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي أصروا على الكفر فلا يتوقع منهم الإيمان { الذين عاهدت مِنْهُمْ } بدل من { الذين كَفَرُواْ } أي الذين عاهدتهم من الذين كفروا وجعلهم شر الدواب ، لأن شر الناس الكفار وشر الكفار المصرون وشر المصرين الناكثون للعهود { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } في كل معاهدة { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون بما فيه من العار والنار .(1/425)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب } فإما تصادفنهم وتظفرن بهم { فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } ففرق من محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم من وراءهم من الكفرة حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم . وقال الزجاج : افعل بهم ما تفرق به جمعهم وتطرد به من عداهم { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } لعل المشردين من ورائهم يتعظون { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ } معاهدين { خِيَانَةً } نكثاً بأمارات تلوح لك { فانبذ إِلَيْهِمْ } فاطرح إليهم العهد { على سَوَاءٍ } على استواء منك ومنهم في العلم بنقض العهد وهو حال من النابذ والمنبوذ إليهم أي حاصلين على استواء في العلم { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } الناقضين للعهود { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } بالياء وفتح السين : شامي وحمزة ويزيد وحفص ، وبالتاء وفتح السين : أبو كبر ، وبالتاء وكسر السين : غيرهم { الذين كَفَرُواْ سَبَقُواْ } فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم { أَنَّهُمْ } شامي أي لأنهم ، وكل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل غير أن المكسورة على طريقة الاستئناف ، والمفتوحة تعليل صريح؛ فمن قرأ بالتاء ف { الذين كَفَرُواْ } مفعول أول والثاني { سَبَقُواْ } ومن قرأ بالياء ف { الذين كَفَرُواْ } فاعل و { سَبَقُواْ } مفعول تقديره أن سبقوا فحذف «أن» ، و «أن» مخففة من الثقيلة أي أنهم سبقوا فسد مسد المفعولين ، أو يكون الفاعل مضمراً أي ولا يحسبن محمد الكافرين سابقين ومن ادعى . تفرد حمزة بالقراءة ، ففيه نظر لما بيناه من عدم تفرده بها . وعن الزهري أنها نزلت فيمن أفلت من فل المشركين .
{ وَأَعِدُّواْ } أيها المؤمنون { لَهُمْ } لناقضي العهد أو لجميع الكفار { مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ } من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها وفي الحديث " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثاً على المنبر . وقيل : هي الحصون { وَمِن رِّبَاطِ الخيل } هو اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، أو هو جمع ربيط كفصيل وفصال ، وخص الخيل من بين ما يتقوى به كقوله { وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] { تُرْهِبُونَ بِهِ } بما استطعتم { عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } أي أهل مكة { وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } غيرهم وهم اليهود ، أو المنافقون ، أو أهل فارس ، أو كفرة الجن . في الحديث " إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا دارا فيها فرس عتيق " وروي أن صهيل الخيل يرهب الجن { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } لا تعرفونهم بأعيانهم { الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } يوفر عليكم جزاؤه { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } في الجزاء بل تعطون على التمام { وَإِن جَنَحُواْ } ما لوا جنح له وإليه مال { لِلسَّلْمِ } للصلح وبكسر السين : أبو بكر وهو مؤنث تأنيث ضدها وهو الحرب { فاجنح لَهَا } فمل إليها { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم فإن الله كافيك وعاصمك من مكرهم { إِنَّهُ هُوَ السميع } لأقوالك { العليم } بأحوالك { وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ } يمكروا ويغدروا { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } كافيك الله { هُوَ الذي أَيَّدَكَ } قواك { بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين } جميعاً أو بالأنصار .(1/426)
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } قلوب الأوس والخزرج بعد تعاديهم مائة وعشرين سنة { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي بلغت عداوتهم مبلغاً لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر عليه { ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } بفضله ورحمته وجمع بين كلمتهم بقدرته ، فأحدث بينهم التوادّ والتحابّ وأماط عنهم التباغض والتماقت { إِنَّهُ عَزَيْرٌ } يقهر من يخدعونك { حَكِيمٌ } ينصر من يتبعونك . { ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } الواو بمعنى «مع» وما بعده منصوب ، والمعنى كفاك وكفى أتباعك المؤمنين الله ناصراً . ويجوز أن يكون في محل الرفع أي كفاك الله وكفاك أتباعك من المؤمنين . قيل : أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت { ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال } التحريض المبالغة في الحث على الأمر من الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى يشفي على الموت { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الذين كَفَرُواْ } هذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله وتأييده { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } بسبب أن الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ، بخلاف من يقاتل على بصيرة وهو يرجو النصر من الله . قيل : كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة ، ثم ثقل عليهم ذلك فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين بقوله { الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } { ضعفاً } عاصم وحمزة { فَإِن يَكُن مِّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ } بالياء فيهما : كوفي ، وافقه البصري في الأولى والمراد الضعف في البدن { يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين } وتكرير مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده ، للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة لا تتفاوت ، إذ الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف ، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين .(1/427)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ } ما صح له ولا استقام { أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } { أَن تَكُونَ } : بصري { حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } الإثخان كثرة القتل والمبالغة فيه من الثخانة وهي الغلظ والكثافة حتى يذل الكفر بإشاعة القتل في أهله ، ويعز الإسلام بالاستيلاء والقهر ، ثم الأسر بعد ذلك . رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه وعقيل فاستشار النبي عليه السلام أبا بكر فيهم فقال : قومك وأهلك ، استبقهم لعل الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك . وقال عمر رضي الله عنه : كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر ، وإن الله أغناك عن الفداء ، مكن علياً من عقيل ، وحمزة من العباس ، ومكني من فلان لنسيب له ، فلنضرب أعناقهم . فقال عليه السلام : " مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم حيث قال : { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ) إبراهيم : 36 ) ومثلك يا عمر كمثل نوح حيث قال : { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } ) نوح : 26 ) " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم : " إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم " فقالوا : بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد فلما أخذوا الفداء نزلت الآية { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } متاعها يعني الفداء سماه عرضاً لقلة بقائه وسرعة فنائه { والله يُرِيدُ الآخرة } أي ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل { والله عَزِيزٌ } يقهر الأعداء { حَكِيمٌ } في عتاب الأولياء .
{ لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله } لولا حكم من الله { سَبَقَ } أن لا يعذب أحداً على العمل بالاجتهاد وكان هذا اجتهاداً منهم لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم ، وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد ، وخفي عليهم إن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم ، أو ما كتب الله في اللوح أن لا يعذب أهل بدر ، أو ألا يؤاخذ قبل البيان والإعذار . وفيما ذكر من الاستشارة دلالة على جواز الاجتهاد فيكون حجة على منكري القياس . { كِتَابٌ } مبتدأ و { مِنَ الله } صفته أي لولا كتاب ثابت من الله و { سَبَقَ } صفة أخرى له ، وخبر المبتدأ محذوف أي لولا كتاب بهذه الصفة في الوجود ، و { سَبَقَ } لا يجوز أن يكون خبراً لأن «لولا» أبداً { لَمَسَّكُمْ } لنالكم وأصابكم { فِيمَا أَخَذْتُمْ } من فداء الأسرى { عَذَابٌ عظِيمٌ } روي أن عمر رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت .(1/428)
فقال : « أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة » لشجرة قريبة منه . وروي أنه عليه السلام قال : « لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ » لقوله كان الإثخان في القتل أحب إليّ { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } رُوي أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدوا أيديهم إليها فنزلت . وقيل : هو إباحة للفداء لأنه من جملة الغنائم . والفاء للتسبيب والسبب محذوف ، ومعناه قد أحللت لكم الغنائم فكلوا { حلالا } مطلقاً عن العتاب والعقاب من حل العقال وهو نصب على الحال من المغنوم ، أو صفة للمصدر أي أكلاً حلالاً { طَيِّباً } لذيذاً هنيئاً أو حلالاً بالشرع طيباً بالطبع { واتقوا الله } فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه { إِنَّ الله غَفُورٌ } لما فعلتم من قبل { رَّحِيمٌ } بإحلال ما غنمتم . { ياأيها النبي قُل لّمَن فِي أَيْدِيكُم } في ملكتكم كأن أيديكم قابضة عليهم { مِّنَ الاسرى } جمع أسير من الأسارى أبو عمرو جمع أسرى { إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } خلوص إيمان وصحة نية { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } من الفداء ، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه أو يثيبكم في الآخرة { وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } رُوي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفاً ، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ منه ما قدر على حمله وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة ، وكان له عشرون عبداً وإن أدناهم ليتجر في عشرين ألفاً وكان يقول : أنجز الله أحد الوعدين وأنا على ثقة من الآخر { وَإِن يُرِيدُواْ } أي الأسرى { خِيَانَتَكَ } نكث ما بايعوك عليه من الإسلام بالردة أو منع ما ضمنوه من الفداء { فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ } في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } فأمكنك منهم أي أظفرك بهم كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوالخيانة { والله عَلِيمٌ } بالمال { حَكِيمٌ } فيما أمر في الحال .
{ إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ } من مكة حباً لله ورسوله { وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } هم المهاجرون { والذين ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ } أي آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم وهم الأنصار { أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } أي يتولى بعضهم بعضاً في الميراث ، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة وبالنصرة دون ذوي القرابات حتى نسخ ذلك بقوله { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } وقيل : أراد به النصرة والمعاونة { والذين ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } من مكة { مَا لَكُم مّن ولايتهم } من توليهم في الميراث { ولايتهم } حمزة .(1/429)
وقيل : هما واحد { مّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } فكان لا يرث المؤمن الذي لم يهاجر ممن آمن وهاجر ، ولما أبقى للذين لم يهاجروا اسم الإيمان وكانت الهجرة فريضة فصاروا بتركها مرتكبين كبيرة ، دل على أن صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان { وَإِنِ استنصروكم } أي من أسلم ولم يهاجر { فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر } أي إن وقع بينهم وبين الكفار قتال وطلبوا معونة فواجب عليكم أن تنصروهم على الكافرين { إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ } فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدئون بالقتال ، إذ الميثاق مانع من ذلك { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تحذير عن تعدي حد الشرع .
{ والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } ظاهره إثبات الموالاة بينهم ، ومعناه نهي المسلمين عن موالاة الكفار وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانوا أقارب وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضاً . ثم قال { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } أي إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضاً حتى في التوارث تفضيلاً لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ، ولم تجعلوا قرابة الكفار كلا قرابة { تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة ، لأن المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً { والذين ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والسكن والانسلاخ من المال والدنيا لأجل الدين والعقبى { لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لا منة فيه ولا تنغيص ولا تكرار ، لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم مع الوعد الكريم والأولى للأمر بالتواصل { والذين ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ } يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة { وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ } جعلهم منهم تفضلاً وترغيباً { وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } وأولوا القرابات أولى بالتوارث وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة { فِي كتاب الله } في حكمه وقسمته أوفى اللوح ، أو في القرآن وهو آية المواريث وهو دليل لنا على توريث ذوي الأرحام { أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه . قسم الناس أربعة أقسام : قسم آمنوا وهاجروا ، وقسم آمنوا ونصروا ، وقسم آمنوا ولم يهاجروا ، وقسم كفروا ولم يؤمنوا .(1/430)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
مدنية وهي مائة وتسع وعشرون آية كوفي ومائة وثلاثون غيره
لها أسماء : براءة ، التوبة ، المقشقشة ، المبعثرة ، المشردة ، المخزية ، الفاضحة ، المثيرة ، الحافرة ، المنكلة ، المدمدمة ، لأن فيها التوبة على المؤمنين وهي تقشقش من النفاق أي تبرىء منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين وتبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها ، وتفضحهم وتنكلهم وتشردهم وتخزيهم وتدمدم عليهم . وفي ترك التسمية في ابتدائها أقوال؛ فعن علي وابن عباس رضي الله عنهم ، أن بسم الله أمان وبراءة نزلت لرفع الأمان . وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه سورة أو آية قال : " اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا " وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أين نضعها ، وكانت قصتها تشبه قصة الأنفال لأن فيها ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود ، فلذلك قرنت بينهما وكانتا تدعيان القرينتين وتعدان السابعة من الطوال وهي سبع . وقيل : اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : الأنفال وبراءة سورة واحدة نزلت في القتال ، وقال بعضهم : هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان ، وتركت بسم الله لقول من قال هما سورة واحدة .
{ بَرَاءةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة { مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مّنَ المشركين } من لابتداء الغاية متعلق بمحذوف ، وليس بصلة كما في قولك « برئت من الذين»أي هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم كما تقول «كتاب من فلان إلى فلان» ، أو مبتدأ لتخصيصها بصفتها والخبر { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ } كقولك «رجل من بني تميم في الدار» والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم { فَسِيحُواْ فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } فسيروا في الأرض كيف شئتم . والسيح : السير على مهل . روي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا لا يتعرض لهم ، وهي الأشهر الحرم في قوله { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها . وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان ، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد ، وأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على موسم سنة تسع ، ثم أتبعه علياً راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر . فقال : لا يؤدّي عني إلا رجل مني . فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/431)
فلما لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور . فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحثهم على مناسكهم وقال عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس ، إني رسول رسول الله إليكم فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ، ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ، فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف؛ والأشهر الأربعة : شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، أو عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر ، وكانت حرماً لأنهم أمنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم ، أو على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها . والجمهور على إباحة القتال في الأشهر الحرم وأن ذلك قد نسخ { واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } لا تفوتونه وإن أمهلكم { وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين } مذلهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب .
{ وَأَذّان مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس } ارتفاعه كارتفاع { بَرَاءةٌ } على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ، والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء ، والفرق بين الجملة الأولى والثانية أن الأولى إخبار بثبوت البراءة ، والثانية إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت . وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين ، وعلق الأذان بالناس ، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث { يَوْمَ الحج الأكبر } يوم عرفة لأن الوقوف بعرفة معظم أفعال الحج ، أو يوم النحر لأن فيه تمام الحج من الطواف ، والنحر ، والحلق ، والرمي ، ووصف الحج بالأكبر ، لأن العمرة تسمى الحج الأصغر { أَنَّ الله بَرِىء مّنَ المشركين } أي بأن الله حذفت صلة الأذان تخفيفاً { وَرَسُولُهُ } عطف على المنوي في { بَرِيء } أو على الابتداء وحذف الخبر أي ورسوله بريء ، وقرىء بالنصب عطفاً على إسم «إن» ، وبالجر على الجوار ، أو على القسم كقولك «لعمرك» . وحكي أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال : إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء ، فلببه الرجل إلى عمر فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعلم العربية { فَإِن تُبْتُمْ } من الكفر والغدر { فَهُوَ } أي التوبة { خَيْرٌ لَّكُمْ } من الأصرار على الكفر { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } عن التوبة أو تبتم على التولي والإعراض عن الإسلام { فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله } غير سابقين الله ولا فائتين أخذه وعقابه { وَبَشّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } مكان بشارة المؤمنين بنعيم مقيم { إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين } استثناء من قوله(1/432)
{ فَسِيحُواْ فِى الأرض } والمعنى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم منهم { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } من شروط العهد أي وفوا بالعهد ولم ينقضوه . وقرىء { لَمْ ينقضوكم } أي عهدكم وهو أليق لكن المشهورة أبلغ لأنه في مقابلة التمام { وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً } ولم يعاونوا عليكم عدواً { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ } فأدوه إليهم تاماً كاملاً { إلى مُدَّتِهِمْ } إلى تمام مدتهم ، والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين : لكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ولا تجعلوا الوفي كالغادر { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } يعني أن قضية التقوى ألا يسوّي بين الفريقين فاتقوا الله في ذلك .
{ فَإِذَا انسلخ } مضى أو خرج { الأشهر الحرم } التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا { فاقتلوا المشركين } الذين نقضوكم وظاهروا عليكم { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } من حل أو حرم { وَخُذُوهُمْ } وأسروهم ، والأخذ : الأسر { واحصروهم } وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد { واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } كل ممر ومجتاز ترصدونهم به ، وانتصابه على الظرف . { فَإِن تَابُواْ } عن الكفر { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر ، أو فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم { أَنَّ الله غَفُورٌ } بستر الكفر والغدر بالإسلام { رَّحِيمٌ } برفع القتل قبل الأداء بالإلتزام { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } { أَحَدٌ } مرتفع بفعل شرط مضمر يفسره الظاهر أي وإن استجارك أحد استجارك ، والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه واستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمّنه { حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر على أن المستأمن لا يؤذي وليس له الإقامة في دارنا ويمكن من العود { ذلك } أي الأمر بالإجارة في قوله { فَأَجِرْهُ } { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا أو يفهموا الحق { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ } { كَيْفَ } استفهام في معنى الاستنكار أي مستنكر أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم . ثم استدرك ذلك بقوله { إِلاَّ الذين عاهدتم } أي ولكن الذين عاهدتم منهم { عِندَ المسجد الحرام } ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم { فَمَا استقاموا لَكُمْ } ولم يظهر منهم نكث أي فما أقاموا على وفاء العهد { فاستقيموا لَهُمْ } على الوفاء .(1/433)
و «ما» شرطية أي فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } يعني أن التربص بهم من أعمال المتقين .
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، وحذف الفعل لكونه معلوماً أي كيف يكون لهم عهد وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم أي يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ } لا يراعوا حلفاً ولا قرابة { وَلاَ ذِمَّةً } عهداً { يُرْضُونَكُم بأفواههم } بالوعد بالإيمان والوفاء بالعهد وهو كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد { وتأبى قُلُوبُهُمْ } الإيمان والوفاء بالعهد { وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون } ناقضون العهد أو متمردون في الكفر ، لا مروءة تمنعهم عن الكذب ، ولا شمائل تردعهم عن النكث كما يوجد ذلك في بعض الكفرة من التفادي عنهما .(1/434)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
{ اشتروا } استبدلوا { بئايات الله } بالقرآن { ثَمَناً قَلِيلاً } عرضاً يسيراً وهو إتباع الأهواء والشهوات { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } فعدلوا عنه وصرفوا غيرهم { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي بئس الصنيع صنيعهم { لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } ولا تكرار ، لأن الأول على الخصوص حيث قال { فيكُمْ } والثاني على العموم لأنه قال { فِى مُؤْمِنٍ } { وَأُوْلَئِكَ هُمُ المعتدون } المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة { فَإِن تَابُواْ } عن الكفر { وَأَقَامُواْ الصلاة وَءاتَوُاْ الزكواة فإخوانكم } فهم إخوانكم على حذف المبتدأ { فِى الدين } لا في النسب { وَنُفَصّلُ الأيات } ونبينها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } يفهمون فيتفكرون فيها وهذا اعتراض ، كأنه قيل : وإن من تأمل تفصيلها فهو العالم تحريضاً على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها { وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } أي نقضوا العهود المؤكد بالأيمان { وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ } وعابوه { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم وهم رؤساء الشرك ، أو زعماء قريش الذين هموا بإخراج الرسول وقالوا : إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة . { أَئِمَّةَ } بهمزتين : كوفي وشامي ، الباقون : بهمزة واحدة غير ممدودة بعدها ياء مكسرورة ، أصلها «أأممة» لأنها جمع إمام كعماد وأعمدة ، فنقلت حركة الميم الأولى إلى الهمزة الساكنة وأدغمت في الميم الأخرى . فمن حقق الهمزتين أخرجهما على الأصل ، ومن قلب الثانية ياء فلكسرتها { إنهم لا أيمان لهم } وإنما أثبت لهم الإيمان في قوله { وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم } لأنه أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال { لا إيمان لَهُمْ } على الحقيقة وهو دليل لنا على أن يمين الكافر لا تكون يميناً ، ومعناه عند الشافعي رحمه الله أنهم لا يوفون بها لأن يمينهم يمين عنده حيث وصفها بالنكث . { لا أيمان } شامي أي لا إسلام { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } متعلق ب { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } وما بينها اعتراض أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم انتهاءهم عما هم عليه بعدما وجد منهم من العظائم ، وهذا من غاية كرمه على المسيء . ثم حرض على القتال فقال :
{ أَلاَ تقاتلون قَوْماً نَّكَثُواْ أيمانهم } التي حلفوها في المعاهدة { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } من مكة { وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } بالقتال والبادىء أظلم فما يمنعكم من أن تقاتلوهم ، وبخهم بترك مقاتلتهم وحضهم عليها ، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب { أَتَخْشَوْنَهُمْ } توبيخ على الخشية منهم { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } بأن تخشوه فقاتلوا أعداءه { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فاخشوه أي إن قضية الإيمان الكامل أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه .(1/435)
ولما وبخهم الله على ترك القتال جرد لهم الأمر به بقوله :
{ قاتلوهم } ووعدهم النصر ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم بقوله { يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } قتلاً { وَيُخْزِهِمْ } أسراً { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } يغلّبكم عليهم { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } طائفة منهم وهم خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } لما لقوا منهم من المكروه وقد حصل الله هذه المواعيد كلها فكان دليلاً على صحة نبوته { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء } ابتداء كلام وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره وكان ذلك أيضاً ، فقد أسلم ناس منهم كأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ، وهي ترد على المعتزلة قولهم «إن الله تعالى شاء أن يتوب على جميع الكفرة لكنهم لا يتوبون باختيارهم» . { والله عَلِيمٌ } يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان { حَكِيمٌ } في قبول التوبة { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ } «أم» منقطعة والهمزة فيها للتوبيخ على وجود الحسبان أي لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين المخلص منكم وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً } أي بطانة من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ولما معناها التوقع ، وقد دلت على أن تبين ذلك متوقع كائن ، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين . { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } معطوف على { جاهدوا } داخل في حيز الصلة كأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله ، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كقولك «ما علم الله مني ما قيل فيّ» . تريد ما وجد ذلك مني ، والمعنى أحسبتم أن تتركوا بلا مجاهدة ولا براءة من المشركين { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من خير أو شر فيجازيكم عليه .
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ } ما صح لهم وما استقام { أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } { مساجد الله } مكي وبصري يعني المسجد الحرام ، وإنما جمع في القراءة بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد ، ولأن كل بقعة منه مسجد ، أو أريد جنس المساجد وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ، وهو آكد إذ طريقه طريق الكناية كما تقول : «فلان لا يقرأ كتب الله» فإنه أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك { شَهِدِينَ على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } باعترافهم بعبادة الأصنام وهو حال من الواو في { يَعْمُرُواْ } والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متضادين عمارة متعبدات الله مع الكفر بالله وبعبادته { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم وَفِى النار هُمْ خالدون } دائمون { إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله } عمارتها رمُّ ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا ، لأنها بنيت للعبادة والذكر ومن الذكر درس العلم { مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الأخر } ولم يذكر الإيمان بالرسول عليه السلام لما علم أن الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول لاقترانهما في الأذان والإقامة وكلمة الشهادة وغيرها ، أو دل عليه بقوله { وَأَقَامَ الصلاة وَءاتَى الزكواة } وفي قوله { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } تنبيه على الإخلاص ، والمراد الخشية في أبواب الدين بأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف ، إذ المؤمن قد يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها .(1/436)
وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها : فأريد نفي تلك الخشية عنهم { فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسم لأطماعهم في الانتفاع بأعمالهم لأن { عَسَى } كلمة إطماع ، والمعنى إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتداً بها عند الله دون من سواهم .(1/437)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله واليوم الأخر وجاهد فِى سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية ، ولا بد من مضاف محذوف تقديره : أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله . وقيل : المصدر بمعنى الفاعل يصدقه قراءة ابن الزبير { سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام } والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة وأن يسوي بينهم ، وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر لأنهم وضعوا المدح والفخر في غير موضعهما . نزلت جواباً لقول العباس حين أسر فطفق علي رضي الله عنه يوبخه بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم تذكر مساوينا وتدع محاسننا . فقيل : أولكم محاسن؟ فقال : نعمر المسجد ونسقي الحاج ونفك العاني . وقيل : افتخر العباس بالسقاية وشيبة بالعمارة ، وعلي رضي الله عنه بالإسلام والجهاد ، فصدق الله تعالى علياً { الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ } أولئك { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } من أهل السقاية والعمارة { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون } لا أنتم والمختصون بالفوز دونهم { يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم } { يُبْشُرهم } حمزة { بِرَحْمَةٍ مّنْهُ ورضوان وجنات } تنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرف { لَّهُمْ فِيهَا } في الجنات { نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } دائم { خالدين فِيهَا أَبَداً إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لا ينقطع . لما أمر الله النبي عليه السلام بالهجرة جعل الرجل يقول لابنه ولأخيه ولقرابته : إنا قد أمرنا بالهجرة ، فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه ، ومنهم من تتعلق به زوجته أو ولده فيقول تدعنا بلا شيء فنضيع فيجلس معهم ويدع الهجرة فنزل { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وإخوانكم أَوْلِيَاء إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان } أي آثروه واختاروه { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ } أي ومن يتولى الكافرين { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } .
{ قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وإخوانكم وأزواجكم وَعَشِيرَتُكُمْ } أقاربكم وعشيراتكم أبو بكر { وأموال اقترفتموها } اكتسبتموها { وتجارة تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } فوات وقت نفاقها { ومساكن تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } وهو عذاب عاجل أو عقاب آجل أو فتح مكة { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } والآية تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين ، إذ لا تجد عند أورع الناس ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والأموال والحظوظ .
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } كوقعة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة . وقيل : إن المواطن التي نصر الله فيها النبي عليه السلام والمؤمنين ثمانون موطناً ، ومواطن الحرب مقاماتها ومواقفها { وَيَوْمَ } أي واذكروا يوم { حُنَيْنٍ } وادٍ بين مكة والطائف كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً ، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة ، فساءت رسول الله عليه الصلاة والسلام { إِذْ } بدل من { يَوْمٍ } { أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } فأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة وزل عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود ، فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهو ثابت في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجام دابته ، وأبو سفيان ابن الحارث بن عمه آخذاً بركابه فقال للعباس : «صح بالناس» وكان صيَّتاً ، فنادى : يا أصحاب الشجرة فاجتمعوا وهم يقولون : لبيك ، لبيك نزلت الملائكة عليهم الثياب البيض على خيول بلق ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفأ من تراب فرماهم به ثم قال :(1/438)
" انهزموا ورب الكعبة " فانهزموا وكان من دعائه عليه السلام يومئذ " اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان " وهذا دعاء موسى عليه السلام يوم انفلاق البحر { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } «ما» مصدرية والباء بمعنى «مع» أي مع رُحبها وحقيقته ملتبسة برحبها على أن الجار والمجرور في موضع الحال كقولك «دخلت عليه بثياب السفر» أي متلبساً بها ، والمعنى لم تجدوا موضعاً لفراركم عن أعدائكم فكأنها ضاقت عليكم { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } ثم انهزمتم { ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ } رحمته التي سكنوا بها وأمنوا { على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } يعني الملائكة وكانوا ثمانية آلاف أو خمسة أو ستة عشر ألفاً { وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ } بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري . { وذلك جَزَاء الكافرين } .(1/439)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
{ ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاءُ } وهم الذين أسلموا منهم { والله غَفُورٌ } بستر كفر العدو بالإسلام { رَّحِيمٌ } بنصر الولي بعد الانهزام . { ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } أي ذوو نجس وهو مصدر ، يقال نجس نجساً وقذر قذراً لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم ، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في وصفهم بها { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام } فلا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية { بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبو بكر رضي الله عنه على الموسم ، ويكون المراد من نهي القربان النهي عن الحج والعمرة وهو مذهبنا ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله يمنعون من المسجد الحرام خاصة وعند مالك يمنعون منه ومن غيره . وقيل : نهى المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي فقراً بسبب منع المشركين من الحج وما كان لكم في قدومهم عليكم من الإرفاق والمكاسب { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } من الغنائم أو المطر والنبات أو من متاجر حجيج الإسلام { إِن شَاءَ } هو تعليم لتعليق الأمور بمشيئة الله تعالى لتنقطع الآمال إليه { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بأحوالكم { حَكِيمٌ } في تحقيق آمالكم ، أو عليم بمصالح العباد حكيم فيما حكم وأراد ونزل في أهل الكتاب { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } لأن اليهود مثنيّة والنصارى مثلثة { وَلاَ باليوم الأخر } لأنهم فيه على خلاف ما يجب حيث يزعمون أن لا أكل في الجنة ولا شرب { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ } لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة ، أو لا يعملون بما في التوراة والإنجيل { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق } ولا يعتقدون دين الإسلام الذي هو الحق . يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } بيان للذين قبله ، وأما المجوس فملحقون بأهل الكتاب في قبول الجزية ، وكذا الترك والهنود وغيرهما بخلاف مشركي العرب لما رُوي الزهري أن النبي عليه السلام صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب { حتى يُعْطُواْ الجزية } إلى أن يقبلوها ، وسميت جزية لأنه مما يجب على أهلها أن يجزوه أي يقضوه ، أو هي جزاء على الكفر على التحميل في تذليل { عَن يَدٍ } أي عن يدٍ مواتية غير ممتنعة ولذا قالوا : أعطى بيده إذا انقاد ، وقالوا : نزع يده عن الطاعة . أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة لا مبعوثاً على يدٍ أحد ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ { وَهُمْ صاغرون } أي تؤخذ منهم على الصغار والذل وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ، ويسلمها وهو قائم ، والمتسلم جالس ، وأن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيبه ويقال له أدِّ الجزية يا ذمي وإن كان يؤديها ويزخ في قفاه وتسقط بالإسلام .(1/440)
{ وَقَالَتِ اليهود } كلهم أو بعضهم { عُزَيْرٌ ابن الله } مبتدأ وخبر كقوله { المسيح ابن الله } وعزير اسم أعجمي ، ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه ، ومن نون . وهم عاصم وعلي فقد جعله عربياً { وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بأفواههم } أي قول لا يعضده برهان ولا يستند إلى بيان ، فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ عن معنى تحته كالألفاظ المهملة { يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } لا بد فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم ، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً يعني أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم ، يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث ، أو الضمير للنصارى أي يضاهي قولهم { المسيح ابن الله } قول اليهود { عُزَيْرٌ ابن الله } لأنهم أقدم منهم { يضاهئون } عاصم . وأصل المضاهاة المشابهة ، والأكثر ترك الهمز واشتقاقه من قولهم «امرأة ضهياء» وهي التي أشبهت الرجال بأنها لا تحيض كذا قاله الزجاج ، { قاتلهم الله } أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا { أنى يُؤْفَكُونَ } كيف يصرفون عن الحق بعد قيام البرهان .
{ اتخذوا } أي أهل الكتاب { أحبارهم } علماءهم { ورهبانهم } نساكهم { أَرْبَابًا } آلهة { مِّن دُونِ الله } حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله كما يطاع الأرباب في أوامرهم ونواهيهم { والمسيح ابن مَرْيَمَ } عطف على { أحبارهم } أي اتخذوه رباً حيث جعلوه ابن الله { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا } يجوز الوقف عليه لأن ما بعده يصلح ابتداء يصلح وصفاً لواحداً { لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه له عن الإشراك { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى من الإشراق ليطفئه بنفخه . أجرى { ويأبى الله } مجرى { لاَ يُرِيدُ الله } ولذا وقع في مقابله { يُرِيدُونَ } وإلا فلا يقال : كرهت أو أبغضت إلا زيداً .
{ هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } محمداً عليه السلام { بالهدى } بالقرآن { وَدِينِ الحق } الإسلام { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه { عَلَى الدين كُلِّهِ } على أهل الأديان كلهم ، أو ليظهر دين الحق على كل دين { وَلَوْ كَرِهَ المشركون * يا أيها الذين آمنوا إنَّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس } استعار الأكل للأخذ { بالباطل } أي بالرشا في الأحكام { وَيَصُدُّونَ } سفلتهم { عَن سَبِيلِ الله } دينه { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة } يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان للدلالة على اجتماع خصلتين ذميمتين فيهم : أخذ الرشا وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الخير .(1/441)
ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ، ويقرن بينهم وبين المرتشين من أهل الكتاب تغليظاً . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً ، وما بلغ أن يزكي فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً » ولقد كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم كعبد الرحمن بن عوف وطلحة يقتنون الأموال ويتصرفون فيها وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية ، لأن الإعراض اختيار للأفضل والاقتناء مباح لا يذم صاحبه { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } الضمير راجع إلى المعنى لأن كل واحد منهما دنانير ودراهم ، فهو كقوله : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] . أو أريد الكنوز ولأموال ، أو معناه ولا ينفقونها والذهب كما أن معنى قوله :
فإني وقيار بها لغريب ... وقيار كذلك . وخصا بالذكر من بين سائر الأموال لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء . وذكر كنزهما دليل على ما سواهما { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .(1/442)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
ومعنى قوله { يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ } أن النار تحمي عليها أي توقد ، وإنما ذكر الفعل لأنه مسند إلى الجار والمجرور ، أصله يوم تحمى النار عليها ، فلما حذفت النار قيل { يحمى } لانتقاد الإسناد عن النار إلى عليها كما تقول «رفعت القصة إلى الأمير» فإن لم تذكر القصة قلت «رفع إلى الأمير» { فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } وخصت هذه الأعضاء لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم ، أو معناه يكوون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم { هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ } يقال لهم هذا ما كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وهو توبيخ { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } أي وبال المال الذي كنتم تكنزونه ، أو وبال كونكم كانزين .
{ إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } من غير زيادة ، والمراد بيان أن أحكام الشرع تبتني على الشهور القمري المحسوبة بالأهلة دون الشمسية { فِي كتاب الله } فيما أثبته وأوجبه من حكمته أو في اللوح { يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ثلاثة سرد : ذو القعدة للقعود عن القتال ، وذو الحجة للحج ، والمحرم لتحريم القتال فيه ، وواحد فرد وهو رجب لترجيب العرب إياه أي لتعظيمه { ذلك الدين القيم } أي الدين المستقيم لا ما يفعله أهل الجاهلية يعني أن تحريم الأربعة الأشهر هو الدين المستقيم ودين إبراهيم وإسماعيل ، وكانت العرب تمسكت به فكانوا يعظمونها ويحرمون القتال فيها حتى أحدثت النسيء فغيروا { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ } في الحرم أو في الاثني عشر { أَنفُسَكُمْ } بارتكاب المعاصي { وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً } حال من الفاعل أو المفعول { كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً } جميعاً { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أي ناصر لهم حثهم على التقوى بضمان النصرة لأهلها { إِنَّمَا النسيء } بالهمزة مصدر نسأه إذا أخره ، وهو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر . وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ، فكانوا يحرمون من بين شهور العام أربعة أشهر { زِيَادَةٌ فِي الكفر } أي هذا الفعل منهم زيادة في كفرهم { يُضَلُّ } كوفي غير أبي بكر { بِهِ الذين كَفَرُواْ } بالنسيء . والضمير في { يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا } للنسيء أي إذا أحلوا شهراً من الأشهر الحرم عاماً رجعوا فحرموه في العام القابل { لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين .(1/443)
واللام تتعلق ب { يُحِلُّونَهُ } و { يحرمونه } أو ب { يحرمونه } فحسب وهو الظاهر { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله } أي فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله من القتال ، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها { زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أعمالهم } زين الشيطان لهم ذلك فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } حال اختيارهم الثبات على الباطل .
ا { ياأيها الذين ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا } اخرجوا { فِى سَبِيلِ الله اثاقلتم } تثاقلتم وهو أصله إلا أن التاء أدغمت في الثاء فصارت ثاء ساكنة ، فدخلت ألف الوصل لئلا يبتدأ بالساكن أي تباطأتم { إِلَى الأرض } ضمن معنى الميل والإخلاد فعدي ب «إلى» أي ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه ، أو ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم ، وكان ذلك في غزوة تبوك استنفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم ذلك . وقيل : ماخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلاّ ورّي عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة { أَرَضِيتُم بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } بدل الآخرة { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة } في جنب الآخر { إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ } إلى الحرب { يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا } سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين ، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع ، وأنه غني عنهم في نصرة دينه لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً . وقيل : الضمير في { وَلاَ تَضُرُّوهُ } للرسول عليه السلام لأن الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره ووعده كائن لا محالة { والله على كُلّ شَيْءٍ } من التبديل والتعذيب وغيرهما { قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد ، فدل بقوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت { إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ } أسند الإخراج إلى الكفار لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه { ثَانِيَ اثنين } أحد اثنين كقوله { ثالث ثلاثة } وهما رسول الله وأبو بكر ، وانتصابه على الحال { إِذْ هُمَا } بدل من { إِذْ أَخْرَجَهُ } { فِي الغار } هو نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثاً فيه ثلاثاً { إِذْ يَقُولُ } بدل ثانٍ { لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } بالنصرة والحفظ . قيل : طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه السلام :(1/444)
« ما ظنك باثنين الله ثالثهما » وقيل : لما دخل الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم أعم أبصارهم » فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون قد أخذ الله بأبصارهم عنه وقالوا : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله وليس ذلك لسائر الصحابة { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ } ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه { عَلَيْهِ } على النبي صلى الله عليه وسلم أو على أبي بكر لأنه كان يخاف وكان عليه السلام ساكن القلب { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } هم الملائكة صرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه ، أو أيده بالملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ } أي دعوتهم إلى الكفر { السفلى وَكَلِمَةُ الله } دعوته إلى الإسلام { هِىَ } فصل { العليا } { وَكَلِمَةُ الله } بالنصب : يعقوب بالعطف ، والرفع على الاستئناف أوجه إذ هي كانت ولم تزل عالية { والله عَزِيزٌ } يعز بنصره أهل كلمته { حَكِيمٌ } يذل أهل الشرك بحكمته .(1/445)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
{ انفروا خِفَافًا } في النفور لنشاطكم له { وَثِقَالاً } عنه لمشقته عليكم ، أو خفافاً لقلة عيالكم وثقالاً لكثرتها ، أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه ، أو ركباناً ومشاة أو شباباً وشيوخاً ، أو مهازيل وسماناً ، أو صحاحاً ومراضاً { وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ } إيجاب للجهاد بهما إن إمكن ، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة { فِي سَبِيلِ الله ذلكم } الجهاد { خَيْرٌ لَّكُمْ } من تركه { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } كون ذلك خيراً فبادروا إليه . ونزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين { لَوْ كَانَ عَرَضًا } هو ما عرض لك من منافع الدنيا ، يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر أي لو كان ما دعوا إليه مغنماً { قَرِيبًا } سهل المأخذ { وَسَفَرًا قَاصِدًا } وسطاً مقارباً ، والقاصد والقصد المعتدل { لاَّتَّبَعُوكَ } لوافقوك في الخروج { ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة } المسافة الشاطة الشاقة { وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } . من دلائل النبوة لأنه أخبر بما سيكون بعد القفول فقالوا كما أخبر ، و { بالله } متعلق ب { سَيَحْلِفُونَ } ، أو هو من جملة كلامهم ، والقول مراد في الوجهين أي سيحلفون يعني المتخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ، أو سيحلفون بالله يقولون لو استطعنا . وقوله { لخرجنا } سد مسد جوابي القسم و { لَوْ } جميعاً . ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة أو استطاعة الأبدان كأنهم تمارضوا { يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ } بدل من { سَيَحْلِفُونَ } أو حال منه أي مهلكين ، والمعنى أنهم يهلكونها بالحلف الكاذب ، أو حال من { لَخَرَجْنَا } أي لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها على المسير في تلك الشقة { والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون } فيما يقولون . { عَفَا الله عَنكَ } كناية عن الزلة لأن العفو رادف لها وهو من لطف العتاب بتصدير العفو في الخطاب ، وفيه دلالة فضله على سائر الأنبياء عليهم السلام حيث لم يذكر مثله لسائر الأنبياء عليهم السلام { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } بيان لما كنى عنه بالعفو ، ومعناه مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلّوا لك بعللهم وهلا استأنيت بالإذن! { حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين } يتبين لك الصادق في العذر من الكاذب فيه . وقيل : شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما : إذنه للمنافقين ، وأخذه الفدية من الأسارى ، فعاتبه الله . وفيه دليل جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام لأنه عليه السلام إنما فعل ذلك بالاجتهاد ، وإنما عوتب مع أن له ذلك لتركه الأفضل وهم يعاتبون على ترك الأفضل { لا يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر أَن يجاهدوا } ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا { بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ والله عَلِيمٌ بالمتقين } عدة لهم بأجزل الثواب .(1/446)
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } يعني المنافقين وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً { وارتابت قُلُوبُهُمْ } شكوا في دينهم واضطربوا في عقيدتهم { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } يتحيرون لأن التردد ديدن المتحير كما أن الثبات ديدن المتبصر { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ } للخروج أو للجهاد { عُدَّةً } أهبة لأنهم كانوا مياسير ، ولما كان { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج } معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو قيل : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } نهوضهم للخروج كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم { فَثَبَّطَهُمْ } فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث والتثبيط التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه { وَقِيلَ اقعدوا } أي قال بعضهم لبعض ، أو قاله الرسول عليه السلام غضباً عليهم ، أو قاله الشيطان بالوسوسة { مَعَ القاعدين } هو ذم لهم وإلحاق بالنساء والصبيان والزمني الذين شأنهم القعود في البيوت .
{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ } بخروجهم معكم { إِلاَّ خَبَالاً } إلا فساداً وشراً ، والاستثناء متصل لأن المعنى ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً ، والاستثناء المنقطع أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه كقولك «ما زداوكم خيراً إلا خبالاً» والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور ، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الشيء فكان استثناء متصلاً لأن الخبال بعضه { ولأَوْضَعُواْ خلالكم } ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين . يقال : وضع البعير وضعاً إذا أسرع . وأوضعته أنا . والمعنى ولأوضعوا ركائبهم بينكم ، والمراد الإسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشي . وخط في المصحف { وَلاَ أوضعوا } بزيادة الألف لأن الفتحة كانت تكتب ألفاً قبل الخط العربي ، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحها ألفاً أخرى ونحوه { أَوْ لاَ أذبحنه } [ النمل : 21 ] { يَبْغُونَكُمُ } حال من الضمير في { أوضعوا } { إِلَى الفتنة } أي يطلبون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم { وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ } أي نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم { والله عَلِيمٌ بالظالمين } بالمنافقين { لَقَدِ ابتغوا الفتنة } بصد الناس أو بأن يفتكوا به عليه السلام ليلة العقبة ، أو بالرجوع يوم أحد { مِن قَبْلُ } من قبل غزوة تبوك { وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور } ودبروا لك الحيل والمكايد ودوّروا الآراء في إبطال أمرك { حتى جَاءَ الحق } وهو تأييدك ونصرك { وَظَهَرَ أَمْرُ الله } وغلب دينه وعلا شرعه { وَهُمْ كارهون } أي على رغم منهم .(1/447)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي وَلاَ تَفْتِنّي } ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت ، أولا تلقني في الهلكة فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي . وقيل : قال الجد بن قيس المنافق : قد علمت الأنصار إني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم ولكني أعينك بمالي فاتركني { أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ } يعني أن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } الآن لأن أسباب الإحاطة معهم أو هي تحيط بهم يوم القيامة { إِن تُصِبْكَ } في بعض الغزوات { حَسَنَةٌ } ظفر وغنيمة { تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } نكبة وشدة في بعضها نحو ما جرى يوم أحد { يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا } الذي نحن متسمون به من الحذ والتيقط والعمل بالحزم { مِن قَبْلُ } من قبل ما وقع { وَيَتَوَلَّواْ } عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم { وَّهُمْ فَرِحُونَ } مسرورون { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } أي قضى من خير أو شر { هُوَ مولانا } أي الذي يتولانا ونتولاه { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا } تنتظرون بنا { إِلا إِحْدَى الحسنيين } وهما النصرة والشهادة { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } إحدى السوءيين إما { أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ } وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود { أَوْ } بعذاب { بِأَيْدِينَا } وهو القتل على الكفر { فَتَرَبَّصُواْ } بنا ما ذكرنا { إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } ما هو عاقبتكم { قُلْ أَنفِقُواْ } في وجوه البر { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } طائعين أو مكرهين نصب على الحال . { كَرْهاً } حمزة وعلي وهو أمر في معنى الخبر ومعناه { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } أنفقتم طوعاً أو كرهاً ونحوه { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] وقوله
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، ولا نلومك أسأت إلينا أو أحسنت ، وقد جاز عكسه في قولك «رحم الله زيداً» ، ومعنى عدم القبول أنه عليه السلام يردها عليهم ولا يقبلها أو لا يثيبها الله . وقوله { طَوْعاً } أي من غير إلزام من الله ورسوله و { كَرْهاً } أي ملزمين ، وسمي الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه { إِنَّكُمْ } تعليل لرد إنفاقهم { كُنتُمْ قَوْماً فاسقين } متمردين عاتين .
{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم } وبالياء : حمزة وعلي { إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ } أنهم فاعل «منع» وهم و { أَن تُقْبَلَ } مفعولاه أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم { بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى } جمع كسلان { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون } لأنهم لا يريدون بهما وجه الله تعالى ، وصفهم بالطوع في قوله { طَوْعاً } وسلبه عنهم ههنا لأن المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو من رؤسائهم ، وما طوعهم ذلك إلا عن كراهة واضطرار لا عن رغبة واختبار .(1/448)
{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا } الإعجاب بالشيء أن تسر به سرور راضٍ به متعجب من حسنه ، والمعنى فلا تستحسن ما أوتوا من زينة الدنيا فإن الله إنما أعطاهم ما أعطاهم ليعذبهم بالمصائب فيها ، أو بالإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له ، أو بنهب أموالهم وسبي أولادهم ، أو بجمعها وحفظها وحبها والبخل بها والخوف عليها وكل هذا عذاب { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون } وتخرج أرواحهم ، وأصل الزهوق الخروج بصعوبة ، ودلت الآية على بطلان القول بالأصلح لأنه أخبر أن إعطاء الأموال والأولاد لهم للتعذيب والأماتة على الكفر وعلى إرادة الله تعالى المعاصي ، لأن إرادة العذاب بإرادة ما يعذب عليه ، وكذا إرادة الإماتة على الكفر { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } لمن جملة المسلمين { وَمَا هُم مّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } يخافون القتل وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً } مكاناً يلجئون إليه متحصنين من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة { أَوْ مغارات } أو غيراناً { أَوْ مُدَّخَلاً } أو نفقاً يندسون فيه وهو مفتعل من الدخول { لَّوَلَّوَاْ إِلَيْهِ } لأقبلوا نحوه { وَهُمْ يَجْمَحُونَ } يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء من الفرس الجموح { وَمِنْهُمُ } ومن المنافقين { مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك { فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } «إذا» للمفاجأة أي وإن لم يعطوا منها فاجئوا السخط ، وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين وما فيه صلاح أهله ، لأنه عليه السلام استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله راغبون } جواب «لو» محذوف تقديره : ولو أنهم رضوا لكان خيراً لهم ، والمعنى ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم وقالوا : كفانا فضل الله وصنعه ، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون .(1/449)
ثم بين مواضعها التي توضع فيها فقال :
{ إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء والمساكين } قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة أي هي مختصة بهم لا تتجاوز إلى غيرهم كأنه قيل : إنما هي لهم لا لغيرهم كقولك «إنما الخلافة لقريش» تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم ، فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها ، وأن تصرف إلى بعضها كما هو مذهبنا ، وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين أنهم قالوا : في أي صنف منها وضعتها أجزأك . وعند الشافعي رحمه الله : لا بد من صرفها إلى الأصناف وهو المروي عن عكرمة . ثم الفقير الذي لا يسأل لأن عنده ما يكفيه للحال والمسكين الذي يسأل لأنه لا يجد شيئاً فهو أضعف حالاً منه ، وعند الشافعي رحمه الله على العكس { والعاملين عَلَيْهَا } هم السعادة الذين يقبضونها { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } على الإسلام أشراف من العرب ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم على أن يسلموا وقوم منهم أسلموا فيعطيهم تقريراً لهم على الإسلام { وَفِي الرقاب } هم المكاتبون يعانون منها { والغارمين } الذين ركبتهم الديون { وَفِي سَبِيلِ الله } فقراء الغزاة أو الحجيج المنقطع بهم { وابن السبيل } المسافر المنقطع عن ماله ، وعدل عن اللام إلى «في» في الأربعة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن «في» للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها . وتكرير «في» في قوله { وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل } فيه فضل وترجيح لهذين على الرقاب والغارمين . وإنما وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ليدل بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات حاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم ، حسماً لأطماعهم وإشعاراً بأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم وما لها ، وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها! وسهم المؤلفة قلوبهم سقط بإجماع الصحابة في صدر خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم ، والحكم متى ثبت معقولاً لمعنى خاص يرتفع وينتهي بذهاب ذلك المعنى { فَرِيضَةً مّنَ الله } في معنى المصدر المؤكد لأن قوله { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ } معناه فرض الله الصدقات لهم { والله عَلِيمٌ } بالمصلحة { حَكِيمٌ } في القسمة .
{ وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد ، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة ، وإيذاؤهم له هو قولهم فيه { هُوَ أُذُنٌ } قصدوا به المذمة وأنه من أهل سلامة القلوب والعزة ، ففسره الله تعالى بما هو مدح له وثناء عليه فقال { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } كقولك «رجل صدق» تريد الجودة والصلاح كأنه قيل : نعم هو أذن ولكن نعم الأذن ، ويجوز أن يريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بأذن في غير ذلك .(1/450)
ثم فسر كونه أذن خير بأنه { يُؤْمِنُ بالله } أي يصدق بالله لما قام عنده من الأدلة { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار ، وعدي فعل الإيمان بالباء إلى الله ، لأنه قصد به التصديق بالله الذي هو ضد الكفر به ، وإلى المؤمنين باللام لأنه قصد السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقه لكونهم صادقين عنده ، ألا ترى إلى قوله { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] كيف ينبو عن الباء { وَرَحْمَةٌ } بالعطف على { أذن } { وَرَحْمَةٌ } : حمزة عطف على { خَيْرٍ } أي هو أذن خير وأذن رحمة لا يسمع غيرها ولا يقبله { لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ } أي وهو رحمة الذين آمنوا منكم أي أظهروا الإيمان أيها المنافقون حيث يقبل إيمانكم الظاهر ولا يكشف أسراركم ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، أو هو رحمة للمؤمنين حيث استنقذهم من الكفر إلى الإيمان ويشفع لهم في الآخرة بإيمانهم في الدنيا { والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الدارين .(1/451)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{ يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الخطاب للمسلمين ، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم فقيل لهم { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } أي إن كنتم مؤمنين كما تزعمون ، فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق . وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسول الله فكانا في حكم شيء واحد كقولك «إحسان زيد وإجماله نعشني» أو والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك .
{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ } أن الأمر والشأن { مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ } يجاوز الحد بالخلاف وهي مفاعلة من الحد كالمشاقة من الشق { فَأَنَّ لَهُ } على حذف الخبر أي فحق أن له { نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلك الخزي العظيم * يَحْذَرُ المنافقون } خبر بمعنى الأمر أي ليحذر المنافقون { أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ } { تُنَزَّلَ } بالتخفيف : مكي وبصري { تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } من الكفر والنفاق ، والضمائر للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم دليله { قُلِ استهزءوا } ، أو الأولان للمؤمنين ، والثالث للمنافقين ، وصح ذلك لأن المعنى يقود إليه { قُلِ استهزءوا } أمر تهديد { إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } مظهر ما كنتم تحذرونه أي تحذرون إظهاره من نفاقكم ، وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم وفي استهزائهم بالإسلام وأهله حتى قال بعضهم : وددت أني قدّمت فجلدت مائة وأنه لا ينزل فينا شيء يفضحنا { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } بينا رسول الله يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونها ، هيهات هيهات . فأطلع الله نبيه على ذلك فقال : احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا . فقالوا : يا نبي الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك ، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر ، أي ولئن سألتهم وقلت لهم لم قلتم ذلك؟ لقالوا : إنما كنا نخوض ونلعب { قُلْ } يا محمد { قُلْ أبالله وءاياته وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه ، فجعلوا كأنهم معترفون ، باستهزائهم وبأنه موجود فيهم حتى وبخوا بإخطائهم موقع الاستهزاء حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير ، وذلك إنما يستقيم بعد ثبوت الاستهزاء { لاَ تَعْتَذِرُواْ } لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم { قَدْ كَفَرْتُمْ } قد أظهرتم كفركم باستهزائكم { بَعْدَ إيمانكم } بعد إظهاركم الإيمان { إن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ } بتوبتهم وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق { نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } مصرين على النفاق غير تائبين منه { أَن يُعفَ تُعَذّبَ طَائِفَةٌ } غير عاصم .(1/452)
{ المنافقون والمنافقات } الرجال المنافقون كانوا ثلثمائة والنساء المنافقات مائة وسبعين { بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ } أي كأنهم نفس واحدة ، وفيه نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } [ التوبة : 56 ] وتقرير لقوله { وَمَا هُم مّنكُمْ } [ التوبة : 56 ] ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين فقال { يَأْمُرُونَ بالمنكر } بالكفر والعصيان { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف } عن الطاعة والإيمان { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } شحاً بالمبارّ والصدقات والإنفاق في سبيل الله { نَسُواْ الله } تركوا أمره أو أغفلوا ذكره { فَنَسِيَهُمْ } فتركهم من رحمته وفضله { إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون } هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير ، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف به المنافقون حين بالغ في ذمهم { وَعَدَ الله المنافقين والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا } مقدرين الخلود فيها { هِىَ } أي النار { حَسْبُهُمْ } فيه دلالة على عظم عذابها وأنه بحيث لا يزاد عليه { وَلَعَنَهُمُ الله } وأهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } دائم معهم في العاجل لا ينفكون عنه وهو ما يقاسونه من تعب النفاق ، والظاهر المخالف للباطن خوفاً من المسلمين وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم . الكاف في { كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فَاسْتَمْتَعْتُمْ بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم } محلها رفع أي أنتم مثل الذين من قبلكم ، أو نصب على فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم أي تلذذوا بملاذ الدنيا . والخلاق النصيب مشتق من الخلق وهو التقدير أي ما خلق للإنسان بمعنى قدر من خير { وَخُضْتُمْ } في الباطل { كالذي خَاضُواْ } كالفوج الذي خاضوا ، أو كالخوض الذي خاضوا . والخوض الدخول في الباطل واللهو ، وإنما قدم { فاستمتعوا بخلاقهم } وقوله ( كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } مغن عنه ليذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة } في مقابلة قوله { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [ العنكبوت : 27 ] { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون }
ثم ذكر نبأ من قبلهم فقال :
{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ } هو بدل من { الذين } { وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبراهيم وأصحاب مَدْيَنَ } وأهل مدين وهم قوم شعيب { والمؤتفكات } مدائن قوم لوط ، وائتفاكهن انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر { أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } فما صح منه أن يظلمهم بإهلاكهم لأنه حكيم فلا يعاقبهم بغير جرم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بالكفر وتكذيب الرسل { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } في التناصر والتراحم { يَأْمُرُونَ بالمعروف } بالطاعة والإيمان { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } عن الشرك والعصيان { وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله } السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في «سأنتقم منك يوماً» { إِنَّ الله عزيزٌ } غالب على كل شيء قادر عليه فهو يقدر على الثواب والعقاب { حَكِيمٌ } واضع كلا موضعه { وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيّبَةً } يطيب فيها العيش وعن الحسن رحمه الله : قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد { فِى جنات عَدْنٍ } هو علم بدليل قوله(1/453)
{ جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن } [ مريم : 61 ] وقد عرفت أن «الذي» و «التي» وضعا لوصف المعارف بالجمل وهي مدينة في الجنة { ورضوان مّنَ الله } وشيء من رضوان الله { أَكْبَرُ } من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة { ذلك } إشارة إلى ما وعد أو إلى الرضوان { هُوَ الفوز العظيم } وحده دون ما يعده الناس فوزاً .(1/454)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
{ ياأيها النبى جاهد الكفار } بالسيف { والمنافقين } بالحجة { واغلظ عَلَيْهِمْ } في الجهادين جميعاً ولا تحابهم ، وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه يجاهد بالحجة وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } جهنم . أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه . منهم الجلاس بن سويد فقال : والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لأخواننا الذين خلّفناهم وهم سادتنا فنحن شر من الحمير . فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس : أجل والله إن محمداً صادق وأنت شر من الحمار . وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضر فحلف بالله ما قال ، فرفع عامر يده فقال : اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزل { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر } يعني إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير ، أو هي استهزاؤهم فقال الجلاس : يا رسول الله والله لقد قلته وصدق عامر فتاب الجلاس وحسنت توبته { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم } وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام ، وفيه دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد لأنه قال { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم } { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } من قتل محمد عليه السلام أو قتل عامر لرده على الجلاس . وقيل : أرادوا أن يتوجوا ابن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا نَقَمُواْ } وما أنكروا وما عابوا { إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة ، فآثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى { فَإِن يَتُوبُواْ } عن النفاق { يَكُ } التوب { خَيْراً لَّهُمْ } وهي الآية التي تاب عندها الجلاس { وَإِن يَتَوَلَّوْا } يصروا على النفاق { يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا والأخرة } بالقتل والنار { وَمَا لَهُمْ فِى الأرض مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } ينجيهم من العذاب . { وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله } روي أن ثعلبة بن حاطب قال : يا رسول الله ادع الله يرزقني مالاً فقال عليه السلام : « يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه » فراجعه وقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه . فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل وادياً وانقطع عن الجمعة والجماعة ، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : كثر ماله حتى لا يسعه وادٍ فقال :(1/455)
" يا ويح ثعلبة " فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ، ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال : ما هذه إلا جزية وقال : ارجعا حتى أرى رأيي ، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه : «يا ويح ثعلبة» مرتين ، فنزلت فجاء ثعلبة بالصدقة فقال : إن الله منعني أن أقبل منك فجعل التراب على رأسه ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ، وجاء بها إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها ، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه { لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ } أي المال { لَنَصَّدَّقَنَّ } لنخرجن الصدقة والأصل «لنتصدقن» ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين } بإخراج الصدقة { فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ } أعطاهم الله المال ونالوا مناهم { بَخِلُواْ بِهِ } منعوا حق الله ولم يفوا بالعهد { وَتَوَلَّواْ } عن طاعة الله { وَّهُم مُّعْرِضُونَ } مصرون على الإعراض .
{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ } فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم لأنه كان سبباً فيه { إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } أي جزاء فعلهم وهو يوم القيامة { بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين ، ومنه جعل خلف الوعد ثلث النفاق . { أَلَمْ يَعْلَمُواْ } يعني المنافقين { أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ } ما أسروه من النفاق بالعزم على إخلاف ما وعدوه { ونجواهم } وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها { وَأَنَّ الله علام الغيوب } فلا يخفى عليه شيء { الذين } محله النصب أو الرفع على الذم ، أو الجر على البدل من الضمير في { سِرَّهُمْ ونجواهم } { يَلْمِزُونَ المطوعين } يعيبون المطوعين المتبرعين { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصدقات } متعلق ب { يَلْمِزُونَ } . رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال : كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت أربعة لعيالي فقال عليه السلام : " بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت " فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً ، وتصدق عاصم بمائة وسق من تمر { والذين } عطف على { المطوعين } { لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } طاقتهم . وعن نافع { جَهْدَهُمْ } وهما واحد . وقيل : الجهد الطاقة والجهد المشقة وجاء أبو عقيل بصاعٍ من تمر فقال : بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعاً لعيالي ، وجئت بصاع فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء ، وأما صاع أبي عقيل فالله غني عنه { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } فيهزءون { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } جازاهم على سخريتهم وهو خبر غير دعاء { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم .(1/456)
ولما سأل عبد الله بن عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبيه في مرضه نزل { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وقد مر أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير وليس على التحديد والغاية ، إذ لو استغفر لهم مدة حياته لن يغفر لهم لأنهم كفار والله لا يغفر لمن كفر به ، والمعنى وإن بالغت في الاستغفار فلن يغفر الله لهم . وقد وردت الأخبار بذكر السبعين وكلها تدل على الكثرة لا على التحديد والغاية ، ووجه تخصيص السبعين من بين سائر الأعداد أن العدد قليل وكثير ، فالقليل ما دون الثلاث ، والكثير الثلاث فما فوقها ، وأدنى الكثير الثلاث وليس لأقصاه غاية . والعدد أيضاً نوعان : شفع ووتر ، وأول الإشفاع اثنان ، وأول الأوتار ثلاثة ، والواحد ليس بعدد ، والسبعة أول الجمع الكثير من النوعين لأن فيها أوتاراً ثلاثة وأشفاعاً ثلاثة ، والعشرة كمال الحساب لأن ما جاوز العشرة فهو إضافة الآحاد إلى العشرة كقولك «اثنا عشر وثلاثة عشرة» إلى «عشرين» ، والعشرون تكرير العشرة مرتين ، والثلاثون تكريرها ثلاث مرات وكذلك إلى مائة ، فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه ، وكمال الحساب والكثرة منه ، فصار السبعون أدنى الكثير من العدد من كل وجه ولا غاية لأقصاه فجاز أن يكون تخصيص السبعين لهذا المعنى والله أعلم { ذلك } إشارة إلى اليأس من المغفرة { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ } ولا غفران لكافرين { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } الخارجين عن الإيمان ما داموا مختارين للكفر والطغيان { فَرِحَ المخلفون } المنافقون الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لهم وخلّفهم بالمدينة في غزوة تبوك ، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان { بِمَقْعَدِهِمْ } بقعودهم عن الغزو { خلاف رَسُولِ الله } مخالفة له وهو مفعول له ، أو حال أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له { وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله } أي لم يفعلوا ما فعله المؤمنون من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله ، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الحر } قال بعضهم لبعض أو قالوا للمؤمنين تثبيطاً { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } استجهال لهم لأن من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل .(1/457)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
{ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا } أي فيضحكون قليلاً على فرحهم بتخلفهم في الدنيا ويبكون كثيراً جزاء في العقبى ، إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيرهُ . يروي أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من النفاق { فَإِن رَّجَعَكَ الله } أي ردك من تبوك . وإنما قال { إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ } لأن منهم من تاب من النفاق ومنهم من هلك { فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ } إلى غزوة بدر غزوة تبوك { فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا } وبسكون الياء : حمزة وعلي وأبو بكر { وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا } { مَعِىَ } حفص { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ } أول ما دعيتم إلى غزوة تبوك { فاقعدوا مَعَ الخالفين } مع من تخلف بعد . وسأل ابن عبد الله بن أبي وكان مؤمناً أن يكفن النبي صلى الله عليه وسلم أباه في قميصه ويصلي عليه فقبل ، فاعترض عمر رضي الله عنه في ذلك فقال عليه السلام : " ذلك لا ينفعه وإني أرجو أن يؤمن به ألف من قومه " فنزل { وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم } من المنافقين يعني صلاة الجنازة . روي أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب التبرك بثوب النبي صلى الله عليه وسلم { مَّاتَ } صفة ل { أَحَدٌ } { أَبَدًا } ظرف ل { تَصِلُ } وكان عليه السلام إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فقيل : { وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون } تعليل للنهي أي أنهم ليسوا بأهل للصلاة عليهم لأنهم كفروا بالله ورسوله { وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون } التكرير للمبالغة والتأكيد وأن يكون على بال من المخاطب لا ينساه وأن يعتقد أنه مهم ، ولأن كل آية في فرقة غير الفرقة الأخرى .
{ وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } يجوز أن يراد سورة بتمامها وأن يراد بعضها كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه { أَنْ ءامِنُواْ بالله } بأن آمنوا أو هي «أن» المفسرة { وجاهدوا مَعَ رَسُولِهِ استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ } ذوو الفضل والسعة { وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين } مع الذين لهم عذر في التخلف كالمرضى والزمنى { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } أي النساء جمع «خالفة» { وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ } ختم عليها لاختيارهم الكفر والنفاق { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الهلاك والشقاوة { لكن الرسول والذين ءامَنُواْ جاهدوا *** بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ } أي إن تخلف هؤلاء فقد نهض إلى الغزو من هو خير منهم { وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الخيرات } تناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ .(1/458)
وقيل : الحور لقوله { فِيهِنَّ خيرات } [ الرحمن : 70 ] { وأولئك هُمُ المفلحون } الفائزون بكل مطلوب { أَعَدَّ الله لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا ذلك الفوز العظيم } قوله { أَعَدَّ } دليل على أنها مخلوقة .
{ وَجَاء المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } هو من عذّر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ، وحقيقته أن يوهم أن له عذراً فيما فعل ولا عذر له ، أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين وهم الذين يعتذرون بالباطل قيل : هم أسد وغطفان قالوا : إن لنا عيالاً وإن بنا جهداً فأذن لنا في التخلف { وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ } هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا فظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان { سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ } من الأعراب { عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار { لَّيْسَ عَلَى الضعفاء } الهرمى والزمنى { وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } هم الفقراء من مزينة وجهينة وبني عذرة { حَرَجٌ } إثم وضيق في التأخر { إِذَا نَصَحُواْ الله وَرَسُولُهِ } بأن آمنوا في السر والعلن وأطاعوا كما يفعل الناصح بصاحبه { مَا عَلَى المحسنين } المعذورين النّاصحين { مّن سَبِيلٍ } أي لا جناح عليهم ولا طريق للعتاب عليهم { والله غَفُورٌ } يغفر تخلفهم { رَّحِيمٌ } بهم { وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } لتعطيهم الحمولة { قُلْتَ } حال من الكاف في { أَتَوْكَ } و «قد» قبله مضمرة أي إذا ما أتوك قائلاً { لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا } هو جواب «إذا» { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع } أي تسيل كقولك «تفيض دمعاً» وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض و «من» للبيان كقولك «أفديك من رجل» ، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز ، ويجوز أن يكون { قُلْتَ لاَ أَجِدُ } استئنافاً كأنه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولوا فقيل : ما لهم تولوا باكين؟ فقيل : { قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض { حَزَناً } مفعول له { أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } لئلا يجدوا ما ينفقون ومحله نصب على أنه مفعول له ، وناصبة { حَزَناً } والمستحملون أبو موسى الأشعري وأصحابه ، أو البكاؤون وهم ستة نفر من الأنصار .(1/459)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
{ إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَئْذِنُونَكَ } في التخلف { وَهُمْ أَغْنِيَاءُ } وقوله { رَضُواْ } استئناف كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل : رضوا { بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } أي بالانتظام في جملة الخوالف { وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ } يقيمون لأنفسهم عذراً باطلاً { إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } من هذه السفرة { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ } بالباطل { لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } لن نصدقكم وهو علة للنهي عن الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به { قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } علة لانتفاء تصديقهم لأنه تعالى إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم { وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } أتنيبون أم تثبتون على كفركم { ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة } أي تردون إليه وهو عالم كل سر وعلانية { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فيجازيكم على حسب ذلك .
{ سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } لتتركوهم ولا توبخوهم { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } فأعطوهم طلبتهم { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } تعليل لترك معاتبتهم أي أن المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم لأنهم أرجاسٍ لا سبيل إلى تطهيرهم { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمَ } ومصيرهم النار يعني وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً فلا تتكلفوا عتابهم { جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي يجزون جزاء كسبهم { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } أي غرضهم بالحلف بالله طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم { فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين } أي فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطاً عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها ، وإنما قيل ذلك لئلا يتوهم أن رضا المؤمنين يقتضي رضا الله عنهم .
{ الأعراب } أهل البدو { أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } من أهل الحضر لجفائهم وقسوتهم وبعدهم عن العلم والعلماء { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ } وأحق بأن لا يعلموا { حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ } يعني حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام ومنه قوله عليه السلام : « إن الجفاء والقسوة في الفدادين » يعني الأكرة لأنهم يفدون أي يصيحون في حروثهم والفديد الصياح { والله عَلِيمٌ } بأحوالهم { حَكِيمٌ } في إمهالهم { وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } أي يتصدق { مَغْرَمًا } غرامة وخسراناً لأنه لا ينفق إلا تقيّة من المسلمين ورياء لا لوجه الله وابتاء المثوبة عنده { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوآئر } أي دوائر الزمان وتبدل الأحوال بدور الأيام لتذهب غلبتكم عليه فيتخلص من إعطاء الصدقة { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء } أي عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعون وقوعها في المسلمين .(1/460)
{ السوء } مكي وأبو عمرو وهو العذاب ، و { السوء } بالفتح ذم للدائرة كقولك «رجل سوء» في مقابلة قولك «رجل صدق» { والله سَمِيعٌ } لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة { عَلِيمٌ } بما يضمرونه . { وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } في الجهاد والصدقات { قربات } أسباباً للقربة { عَندَ الله } وهو مفعول ثان ل { يَتَّخِذُ } { وصلوات الرسول } أي دعاءه لأنه عليه السلام كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله «اللهم صل على آل أبي أوفى» { أَلا إِنَّهَا } أي النفقة أو صلوات الرسول { قُرْبَةٌ لَّهُمْ } { قُرْبَةٌ } نافع . وهذا شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات ، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفي التنبيه ، والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه ، وكذلك { سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ } أي جنته وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدل هذا الكلام على رضا الله من المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها { إِنَّ الله غَفُورٌ } يستر عيب المخل { رَّحِيمٌ } يقبل جهد المقل { والسابقون } مبتدأ { الأولون } صفة لهم { مِنَ المهاجرين } تبيين لهم وهم الذين صلوا إلى القبلتين ، أو الذين شهدوا بدراً أو بيعة الرضوان { والأنصار } عطف على { المهاجرين } أي ومن الأنصار وهم أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } من المهاجرين والأنصار فكانوا سائر الصحابة . وقيل : هم الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة والخبر { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ } بأعمالهم الحسنة { وَرَضُواْ عَنْهُ } بما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية { وَأَعَدَّ لَهُمْ } عطف على { رَضِيَ } { جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار } { مِن تَحْتِهَا } : مكي { خالدين فِيهَا أَبَداً ذلك الفوز العظيم } .(1/461)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم } يعني حول بلدتكم وهي المدينة { مّنَ الأعراب منافقون } وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حولها { وَمِنْ أَهْلِ المدينة } عطف على خبر المبتدأ الذي هو { مِمَّنْ حَوْلَكُم } والمبتدأ { منافقون } ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت «ومن أهل المدينة قوم» { مَرَدُواْ عَلَى النفاق } أي تمهروا فيه على أن مردوا صفة موصوف محذوف ، وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاماً مبتدأ ، أو صفة ل { منافقون } فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره ، ودل على مهارتهم فيه بقوله { لاَ تَعْلَمُهُمْ } أي يخفون عليك مع فطنتك وصدق فراستك لفرط تنوقهم في تحامي ما يشككك في أمرهم . ثم قال { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي لا يعلمهم إلا الله ولا يطلع على سرهم غيره ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } هما القتل وعذاب القبر ، أو الفضيحة وعذاب القبر ، أو أخذ الصدقات من أموالهم ونهك أبدانهم { ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ } أي عذاب النار .
{ وَءَاخَرُونَ } أي قوم آخرون سوى المذكورين { اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ } أي لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا نادمين وكانوا عشرة ، فسبعة منهم لما بلغهم ما نزل في المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين ، وكانت عادته كلما قدم من سفر فرآهم موثقين فسأل عنهم ، ففذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم فقال« : " وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم» " فنزلت ، فأطلقهم فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا فقال : " «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» " فنزل { خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً } { خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا } خروجاً إلى الجهاد { وَءاخَرَ سَيِّئاً } تخلفاً عنه ، أو التوبة والإثم وهو من قولهم «بعت الشاء شاة ودرهما» أي شاة بدرهم ، فالواو بمعنى الباء لأن الواو للجمع والباء للإلصاق فيتناسبان ، أو المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر فكل واحد منهما مخلوط ومخلوط به كقولك «خلطت الماء واللبن» تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه بخلاف قولك «خلطت الماء باللبن» لأنك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به . وإذا قلته بالواو فقد جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما كأنك قلت «خلطت الماء باللبن واللبن بالماء» { عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } ولم يذكر توبتهم لأنه ذكر اعترافهم بذنوبهم وهو دليل على التوبة { خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً } كفارة لذنوبهم .(1/462)
وقيل : هي الزكاة { تُطَهِّرُهُمْ } عن الذنوب وهو صفة ل { صَدَقَة } والتاء للخطاب أو لغيبة المؤنث . والتاء في { وَتُزَكِّيهِمْ } للخطاب لا محالة { بِهَا } بالصدقة والتزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم ، والسنة أن يدعو المصدق لصاحب الصدقة إذا أخدها { إِنَّ صلواتك } { صلاتك } كوفي غير أبي بكر . قيل : الصلاة أكثر من الصلوات لأنها للجنس { صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ } يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم { والله سَمِيعٌ } لدعائك أو سميع لاعترافهم بذنوبهم ودعائهم { عَلِيمٌ } بما في ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم .
{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ } المراد المتوب عليهم أي ألم يعلموا قيل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم { أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } إذا صحت { وَيَأْخُذُ الصدقات } ويقبلها إذا صدرت على خلوص النية وهو للتخصيص أي إن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الله هو الذي يقبل التوبة ويردها فاقصدوه بها ووجهوها إليها { وَأَنَّ الله هُوَ التواب } كثير قبول التوبة { الرحيم } يعفو الحوبة .
{ وَقُلِ } لهؤلاء التائبين { اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون } أي فإن عملكم لا يخفى خيراً كان أو شراً على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم ، أو غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة ، فقد رُوي أنه لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا : هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت . وقوله تعالى { فَسَيَرَى الله } . وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة { وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب } ما يغيب عن الناس { والشهادة } ما يشاهدونه { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } تنبئة تذكير ومجازاة عليه { وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله } بغير همز : مدني وكوفي غير أبي بكر . { مرجئون } غيرهم من أرجيته وأرجأته إذا أخرته ، ومنه المرجئة أي وآخرون من المتخلفين موقوفون إلى أن يظهر أمر الله فيهم { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ } إن أصروا ولم يتوبوا { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } إن تابوا وهم ثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع ، تخلفوا عن غزوة تبوك وهم الذين ذكروا في قوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ } { والله عَلِيمٌ } برجائهم { حَكِيمٌ } في إرجائهم ، وإما للشك وهو راجع إلى العباد أي خافوا عليهم العذاب وارجو لهم الرحمة . ورُوي أنه عليه السلام أمر أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل ذلك الفريق من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم ، فلما علموا أن أحداً لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم ونصحت توبتهم فرحمهم الله .(1/463)
{ والذين اتخذوا مَسْجِدًا } تقديره : ومنهم الذين اتخذوا . { الذين } بغير واو . مدني وشامي ، وهو مبتدأ خبره محذوف أي جازيناهم . رُوي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم ، فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله يصلي فيه ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام وهو الذي قال لرسول الله عليه السلام يوم أحد : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه فقال : " إني على جناح سفر وإذا قدمنا من تبوك إن شاء الله صلينا فيه " فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت عليه فقال لوحشي قاتل حمزة ومعن بن عدي وغيرهما : «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه» ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة ، ومات أبو عامر بالشام { ضِرَارًا } مفعول له وكذا ما بعد أي مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء { وَكُفْراً } وتقوية للنفاق { وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين } لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم { وَإِرْصَادًا لِّمَنْ } وإعداداً لأجل من { حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ } وهو الراهب أعدوه له ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياء أو سمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله ، أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار { مِن قَبْلُ } متعلق ب { حَارَبَ } أي من قبل بناء هذا المسجد يعني يوم الخندق { وَلَيَحْلِفُنَّ } كاذبين { إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين { والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون } في حلفهم { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } للصلاة { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى } اللام للابتداء و { أُسِّسَ } نعت له وهو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء أو وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة ، مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } من أيام وجوده . قيل : القياس فيه مذ ، لأنه لابتداء الغاية في الزمان ، و «من» لابتداء الغاية في المكان ، والجواب إن من عام في الزمان والمكان { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } مصلياً { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين } قيل : لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقفوا على باب مسجد قباء ، فإذا لأنصار جلوس فقال :(1/464)
« أمؤمنون أنتم؟ » فسكت القوم . ثم أعادها فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم ، فقال عليه السلام : « أترضون بالقضاء » قالوا : نعم . قال : « أتصبرون على البلاء؟ » قالوا : نعم . قال : « أتشكرون في الرخاء؟ » قالوا : نعم . قال عليه السلام : « مؤمنون أنتم ورب الكعبة » فجلس ثم قال : « يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ » فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي عليه السلام : { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } قيل : هو عام في التطهر عن النجاسات كلها . وقيل : هو التطهر من الذنوب بالتوبة . ومعنى محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب للشيء ، ومعنى محبة الله إياهم أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه .(1/465)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } وضع أساس ما يبنيه { على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } هذا سؤال تقرير وجوابه مسكوت عنه لوضوحه ، والمعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة وهي تقوى الله ورضوانه ، خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وهو الباطل والنفاق الذي مثله شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك ، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى . والشفا : الحرف والشفير ، وجرف الوادي : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهياً ، والهار الهائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط ، ووزنه فعل قصر عن فاعل كخلف من خالف ، وألفه ليس فاعل إنما هي عينه وأصله «هور» فقلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل وكنه أمره { أَفَمَنْ أُسَّسَ بُنْيَانَهُ } شامي ونافع { جرْف } شامي وحمزة ويحيى { هارِ } بالإمالة : أبو عمرو وحمزة في رواية ويحيى { فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ } فطاح به الباطل في نار جهنم . ولما جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها . قال جابر : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حين انهار { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } لا يوفقهم للخير عقوبة لهم على نفاقهم { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ } لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم { إِلاَّ أَن تَقَطَّع قُلُوبُهُمْ } شامي وحمزة وحفص أي تتقطع . غيرهم { تُقطّع } أي إلا أن تقطع قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء فحينئذ يسلون عنه ، وأما ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة ، ثم يجوز أن يكون ذكر التقطع تصويراً لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار ، أو معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم { والله عَلِيمٌ } بعزائمهم { حَكِيمٌ } في جزاء جرائمهم .
{ إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء . ورُوي : تاجرهم ، فأغلى لهم الثمن . وعن الحسن : أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها . ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي وهو يقرؤها فقال : بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستشهد { يقاتلون فِى سَبِيلِ الله } بيان محل التسليم { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } أي تارة يقتلون العدو وطوراً يقتلهم العدو .(1/466)
{ فَيُقتلون وَيَقْتلون } حمزة وعلي { وَعْدًا عَلَيْهِ } مصدر أي وعدهم بذلك وعداً { حَقّاً } صفته ، أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته { فِي التوراة والإنجيل والقرءان } وهو دليل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه . ثم قال { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكريم منا فكيف بأكرم الأكرمين ، ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ { فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذى بَايَعْتُمْ بِهِ } فافرحوا غاية الفرح فإنكم تبيعون فانياً بباقٍ { وذلك هُوَ الفوز العظيم } قال الصادق : ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها .
{ التائبون } رفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين ، أو هو مبتدأ خبره { العابدون } أي الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة ، وما بعده خبر بعد خبر أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال . وعن الحسن : هم الذين تابوا من الشرك وتبرءوا من النفاق { الحامدون } على نعمة الإسلام { السائحون } الصائمون لقوله عليه السلام « سياحة أمتي الصيام » أو طلبة العلم لأنهم يسيحيون في الأرض يطلبونه في مظانه ، أو السائرون في الأرض للاعتبار { الركعون الساجدون } المحافظون على الصلوات { الآمرون بالمعروف } بالإيمان والمعرفة والطاعة { والناهون عَنِ المنكر } عن الشرك والمعاصي ودخلت الواو للإشعار بأن السبعة عقد تام ، أو للتضاد بين الأمر والنهي كما في قوله : { ثيبات وَأَبْكَاراً } [ التحريم : 5 ] { والحافظون لِحُدُودِ الله } أوامره ونواهيه ، أو معالم الشرع { وَبَشّرِ المؤمنين } المتصفين بهذه الصفات .
وهمّ عليه السلام أن يستغفر لأبي طالب فنزل { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى } أي ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم } من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا على الشرك ، ثم ذكر عذر إبراهيم فقال { وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } أي وعد أبوه إياه أن يسلم أو هو وعد أباه أن يستغفر وهو قوله { لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] دليله قراءة الحسن { وَعَدَهَا أَبَاهُ } ومعنى استغفاره سؤاله المغفرة له بعد ما أسلم أو سؤاله إعطاء الإسلام الذي به يغفر له { فَلَمَّا تَبَيَّنَ } من جهة الوحي { لَهُ } لإبرهيم { أَنَّهُ } أن أباه { عَدُوٌّ لِلَّهِ } بأن يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه { تَبَرَّأَ مِنْهُ } وقطع استغفاره { إِنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ } هو المتأوه شفقاً وفرقاً ، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته كان يتعطف على أبيه الكافر { حَلِيمٌ } هو الصبور على البلاء الصفوح عن الأذى ، لأنه كان يستغفر لأبيه وهو يقول لأرجمنك { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } أي ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور ، لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ، ولا يخذلهم إلا إذا قدموا عليه بعد بيان حظره وعلمهم بأنه واجب الاجتناب ، وأما قبل العلم والبيان فلا ، وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين ، والمراد ب { مَّا يَتَّقُونَ } ما يجب اتقاؤه للنهي ، فأما ما يعلم بالعقل فغير موقوف على التوقيف { أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } .(1/467)
{ إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }(1/468)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{ لَقَدْ تَابَ الله على النبى } أي تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه كقوله { عَفَا الله عَنكَ } [ التوبة : 43 ] { والمهاجرين والأنصار } فيه بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار { الذين اتبعوه فِى سَاعَةِ العسرة } في غزوة تبوك ومعناه في وقتها . والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق وكانوا في عسرة من الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد ، ومن الزاد تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة ، وبلغت بهم الشدة حتى اقتسم التمرة اثنان وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء ، ومن الماء حتى نحروا الإبل وعصروا كرشها وشربوه ، وفي شدة زمان من حرارة القيظ ومن الجدب والقحط { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ } عن الثبات على الإيمان أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه . وفي { كَادَ } ضمير الشأن والجملة بعده في موضع النصب وهو كقولهم «ليس خلق الله مثله» أي ليس الشأن خلق الله مثله { يزيغ } حمزة وحفص { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } تكرير للتوكيد { إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثلاثة } أي وتاب على الثلاثة وهم : كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، وهو عطف على { النبى } { الذين خُلّفُواْ } عن الغزو { حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } برحبها أي مع سعتها وهو مثل للحيرة في أمرهم كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرون فيه قلقاً وجزعاً { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور لأنها حرجت من فرط الوحشة والغم { وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ } وعلموا أن لا ملجأ من سخط الله إلا إلى استغفاره { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } بعد خمسين يوماً { لِيَتُوبُواْ } ليكونوا من جملة التوابين { إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } عن أبي بكر الوراق أنه قال : التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة هؤلاء الثلاثة .
{ ا ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } في إيمانهم دون المنافقين ، أو مع الذين لم يتخلفوا ، أو مع الذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً . والآية تدل على أن الاجماع حجة لأنه أمر بالكون مع الصادقين فلزم قبول قولهم { مَا كَانَ لأهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله } المراد بهذا النفي النهي وخص هؤلاء بالذكر وإن استوى كل الناس في ذلك ، لقربهم منه ولا يخفى عليه خروجه { وَلاَ يَرْغَبُواْ } ولا أن يضنوا { بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } عما يصيب نفسه أي لا يختاروا إبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد بل أمروا بأن يصحبوه في البأساء والضراء ويلقوا أنفسهم بين يديه في كل شدة { ذلك } النهي عن التخلف { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } عطش { وَلاَ نَصَبٌ } تعب { وَلاَ مَخْمَصَةٌ } مجاعة { فِى سَبِيلِ الله } في الجهاد { وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا } ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم { يَغِيظُ الكفار } يغضبهم ويضيق صدورهم { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً } ولا يصيبون منهم إصابة بقتل أو أسر أو جرح أو كسر أو هزيمة { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } عن ابن عباس رضي الله عنهما : لكل روعة سبعون ألف حسنة .(1/469)
يقال : نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام في كل ما يسوؤهم . وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك ، وعلى أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم ، وقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر وقد قدما بعد تقضي الحرب . والموطىء إما مصدر كالمورد ، وإما مكان . فإن كان مكاناً فمعنى { يَغِيظُ الكفار } يغيظهم وطؤه { إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } أي أنهم محسنون والله لا يبطل ثوابهم { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً } في سبيل الله { صَغِيرَةً } ولو تمرة { وَلاَ كَبِيرَةً } مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا } أي أرضاً في ذهابهم ومجيئهم وهو كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل ، وهو في الأصل فاعل من «ودى» إذا سال ومنه الودْيُ ، وقد شاع في الاستعمال بمعنى الأرض { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } من الإنفاق وقطع الوادي { لِيَجْزِيَهُمُ الله } متعلق ب { كتَبَ } أي أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء { أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي يجزيهم على كل واحد جزاء أحسن عمل كان لهم فيلحق ما دونه به توفيراً لأجرهم .
{ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } اللام لتأكيد النفي أي أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح للإفضاء إلى المفسدة { فَلَوْلاَ نَفَرَ } فحين لم يكن نفير الكافة فهلا نفر { مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ } أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير { لّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين } ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا المشاق في تحصيلها { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } وليجعلوا مرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم { إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ } دون الأغراض الخسيسة من التصدر والترؤس والتشبه بالظلمة في المراكب والملابس { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ما يجب اجتنابه . وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثاً بعد غزوة تبوك بعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن التفقه في الدين ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ، ويبقى سائرهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، إذ الجهاد بالحجاج أعظم أثراً من الجهاد بالنصال .(1/470)
والضمير في { لّيَتَفَقَّهُواْ } للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة من بينهم { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصّلوا في أيام غيبتهم من العلوم . وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه { ياأيها الذين ءَامَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ } يقربون منكم { مِّنَ الكفار } . القتال واجب مع جميع الكفرة قريبهم وبعيدهم ، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب . وقد حارب النبي صلى الله عليه وسلم قومه ، ثم غيرهم من عرب الحجاز ، ثم الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق وغيره ، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } شدة وعنفاً في المقال قبل القتال { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } بالنصرة والغلبة .
{ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } «ما» صلة مؤكدة { فَمِنْهُمْ } فمن المنافقين { مَن يِقُولُ } بعضهم لبعض { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه } السورة { إيمانا } إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين و { أَيُّكُمْ } مرفوع بالابتداء وقيل : هو قول المؤمنين للحث والتنبيه { فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إيمانا } يقيناً وثباتاً أو خشية أ و إيماناً بالسورة لأنهم لم يكونوا آمنوا بها تفصيلاً { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } يعدون زيادة التكليف بشارة التشريف .
{ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شك ونفاق فهو فساد يحتاج إلى علاج كالفساد في البدن { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } كفراً مضموماً إلى كفرهم { وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون } هو إخبار عن إصرارهم عليه إلى الموت { أَوْ لاَ يَرَوْنَ } يعني المنافقين وبالتاء : حمزة خطاب للمؤمنين { أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ } يبتلون بالقحط والمرض وغيرهما { فِي كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ } عن نفاقهم { وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } لا يعتبرون . أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوبون بما يرون من دولة الإسلام ، ولا هم يذكرون بما يقع بهم من الاصطدام { وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي وسخرية به قائلين { هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ } من المسلمين لننصرف فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم ، أو إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين أشار بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد إن قمتم من حضرته عليه السلام { ثُمَّ انصرفوا } عن حضرة النبي عليه السلام مخافة الفضيحة { صَرَفَ الله قُلُوبَهُم } عن فهم القرآن { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } لا يتدبرون حتى يفقهوا { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ } محمد عليه السلام { مّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم ومن نسبكم عربي قرشي مثلكم { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } شديد عليه شاق لكونه بعضاً منكم عنتكم ولقاؤكم المكروه ، فهو يخاف عليكم الوقوع في العذاب { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } على إيمانكم { بالمؤمنين } منكم ومن غيركم { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } قيل : لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَإِن تَوَلَّوْاْ } فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك { فَقُلْ حَسْبِيَ الله } فاستعن بالله وفوض إليه أمورك فهو كافيك معرتهم وناصرك عليهم { لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } فوضت أمري إليه { وَهُوَ رَبُّ العرش } هوأعظم خلق الله ، خلق مطافاً لأهل السماء وقبلة للدعاء { العظيم } بالجر وقرىء بالرفع على نعت الرب جل وعز .(1/471)
عن أبيّ : آخر آية نزلت { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } الآية .(1/472)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
مئة وتسعة آيات مكية ، وكذا ما بعدها إلى سورة النور
{ الر } ونحوه ممال : حمزة وعلي وأبو عمرو ، وهو تعديد للحروف على طريق التحدي { تِلْكَ ءايات الكتاب } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات ، والكتاب السورة { الحكيم } ذي الحكمة لاشتماله عليها ، أو المحكم عن الكذب والافتراء والهمزة { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا } لإنكار التعجب والتعجب منه { أَنْ أَوْحَيْنَا } اسم « كان » و { عجباً } خبره ، واللام في { للناس } متعلق بمحذوف هو صفة ل { عجباً } فلما تقدم صار حالاً { إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس } بأن أنذر أو هي مفسرة إذ الإيحاء فيه معنى القول { وَبَشّرِ الذين ءَامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ } بأن لهم . ومعنى اللام في { للناس } أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منه ، والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر وأن يكون رجلاً من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم ، فقد كانوا يقولون : العجب أن الله لم يجد رسولاً إلى الناس إلا يتيم أبي طالب : وأن يذكر لهم البعث وينذر بالنيران ويبشر بالجنان ، وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب ، لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلاَّ بشراً مثلهم ، وإرسال اليتيم أو الفقير ليس بعجب أيضاً ، لأن الله تعالى إنما يختار للنبوة من جمع أسبابها ، والغنى والتقدم في الدنيا ليس من أسبابها . والبعث للجزاء على الخير والشر هو الحكمة العظمى ، فكيف يكون عجباً ، إنما العجب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء { قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ } أي : سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة . ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد ، وباعاً لأن صاحبها يبوع بها ، فقيل « لفلان : قدم في الخير » وإضافتها إلى { صدق } دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة ، أو مقام صدق ، أو سبق السعادة { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } { إن هذا } الكتاب { لسحر } مدني وبصري وشامي ، ومن قرأ { لساحر } فهذه إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كذابين في تسميته سحراً .(1/473)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
{ إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } أي استولى فقد يقدس الديان عن المكان والمعبود عن الحدود { يُدَبّرُ } يقضي ويقدر على مقتضى المحكمة { الأمر } أي أمر الخلق كله وأمر ملكوت السماوات والأرض والعرش . ولما ذكر ما يدل على عظمته وملكه من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش ، أتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة عل العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور عن قضائه وتقديره وكذلك قوله : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } دليل على عزته وكبريائه { ذلكم } العظيم الموصوف بما وصف به { الله رَبُّكُمُ } وهو الذي يستحق العبادة { فاعبدوه } وحدوه ولا تشركوا به بعض خلقه من إنسان أو ملك فضلاً عن جماد لا يضر ولا ينفع { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أفلا تتدبرون فتستدلون بوجوب المصالح والمنافع على وجود المصلح النافع { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } حال أي لا ترجعون لي العاقبة إلا إليه فاستعدوا للقائه والمرجع الرجوع أو مكان الرجوع { وَعَدَ الله } مصدر مؤكد لقوله إليه مرجعكم { حَقّاً } مصدر مؤكد لقوله : { وعد الله } { إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه { ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات } أي الحكمة بإبداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم { بالقسط } بالعدل وهو متعلق ب { يجزي } أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم أو بقسطهم أي بما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا إذ الشرك ظلم { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] وهذا أوجه لمقابلة قوله : { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } ولوجه كلامي(1/474)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
{ هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء } الياء فيه منقلبة عن واو «ضواء» لكثرة ما قبلها وقلبها قنبل همزة لأنها للحركة أجمل { والقمر نُوراً } والضياء أقوى من النور فلذا جعله للشمس { وَقَدَّرَهُ } وقدر القمر أي وقدر مسيره { مَنَازِلَ } أو وقدره ذا منازل كقوله { والقمر قدرناه منازل } [ ياس : 39 ] { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين } أي عدد السنين والشهور فاكتفى بالسنين لاشتمالها على الشهور { والحساب } وحساب الآجال والمواقيت المقدرة بالسنين والشهور { مَا خَلَقَ الله ذلك } المذكور { إِلاّ } ملتبساً { بالحق } الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثاً { يُفَصّلُ الآيات } مكي وبصري وحفص وبالنون غيرهم { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } فينتفعون بالتأمل فيها .
{ إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار } في مجيء كل واحد منهما خلف الآخر أو في اختلاف لونيهما { وَمَا خَلَقَ الله فِى السماوات والأرض } من الخلائق { لآيات لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } خصهم بالذكر لأنهم يحذرون الآخر فيدعوهم الحذر إلى النظر .(1/475)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{ إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } لا يتوقعونه أصلاً ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم عن التفطن للحقائق أو لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف { وَرَضُواْ بالحياة الدنيا } من الآخرة وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي { واطمأنوا بِهَا } وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها فبنوا شديداً وأملوا بعيداً { والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا غافلون } لا يتفكرون فيها ، ولا وقف عليه لأن خبر «إن» { أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النار } ف { أولئك } مبتدأ و«مأواهم» مبتدأ ثان و«النار» خبره والجملة خبر أولئك والباء في { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يتعلق بمحذوف دل عليه الكلام وهو جوزوا { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك الطريق السديد المؤدي إلى الثواب ولذا جعل { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } بياناً له وتفسيراً ، إذ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها ، أو يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة ، ومنه الحديث " إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له : أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة ، والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له : أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار " وهذا دليل على أن الإيمان المجرد منج حيث قال : { بإيمانهم } ولم يضم إليه العمل الصالح { فِي جنات النعيم } متعلق ب { تجري } أو حال من { الأنهار } { دعواهم فِيهَا سبحانك اللهم } أي دعاؤهم لأن { اللهم } نداء لله ومعناه : اللهم إنا نسبحك أي يدعون الله بقولهم { سبحانك اللهم } تلذذا بذكره لا عبادة { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } أي يحيي بعضهم بعضاً بالسلام أو هي تحية الملائكة إياهم ، وأضيف المصدر إلى المفعول أو تحية الله لهم { وَءَاخِرُ دعواهم } وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح { أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } أن يقولوا الحمد الله رب العالمين { أن } مخففة من الثقيلة وأصله أنه الحمد لله رب العالمين ، والضمير للشأن . قيل : أو كلامهم التسبيح وآخره التحميد فيبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه ويختمون بالشكر والثناء عليه ويتكلمون بينهما بما أرادوا(1/476)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{ وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير } أصله ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير ، فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم ، والمراد أهل مكة وقولهم { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] أي ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } لأميتوا وأهلكوا . { لقضى إليهم أجلهم } شامي على البناء للفاعل وهو الله عز وجل { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِى طُغْيَانِهِمْ } شركهم وضلالهم { يَعْمَهُونَ } يترددون ، ووجه اتصاله بما قبله أن قوله { ولو يعجل الله } متضمن معنى نفي التعجيل كأنه قيل . ولا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم في طغيانهم أي فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم إلزاماً للحجة عليهم { وَإِذَا مَسَّ الإنسان } أصابه والمراد به الكافر { الضر دَعَانَا } أي دعا الله لإزالته { لِجَنبِهِ } في موضع الحال بدليل عطف الحالين أي { أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا } عليه أي دعانا مضطجعاً . وفائدة ذكر هذه الأحوال أن معناه أن المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر ، فهو يدعونا في حالاته كلها سواء كان مضطجعاً عاجزاً عن النهوض ، أو قاعداً لا يقدر على القيام ، أو قائماً لا يطيق المشي { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ } أزلنا ما به { مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرّ مَّسَّهُ } أي مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر ونسي حال الجهد ، أو مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به ، والأصل «كأنه لم يدعنا» فخفف وحذف ضمير الشأن { كذلك } مثل ذلك التزيين { زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ } للمجاوزين الحد في الكفر زين الشيطان بوسوسته { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الإعراض عن الذكر واتباع الكفر .(1/477)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ } يا أهل مكة { لَمَّا ظَلَمُواْ } أشركوا وهو ظرف { أهلكنا } والواو في { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } للحال أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم { بالبينات } بالمعجزات { وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } إن بقوا ولم يهلكوا لأن الله علم منهم أنهم يصرون على كفرهم ، وهو عطف على { ظلموا } أو اعتراض ، واللام لتأكيد النفي يعني أن السبب في إِهلاكهم تكذيبهم للرسل ، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل { كذلك } مثل ذلك الجزاء يعني الإهلاك { نَجْزِي القوم المجرمين } وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثُمَّ جعلناكم خلائف فِى الأرض مِن بَعْدِهِم } الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناها { لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } أي لننظر أتعملون خيراً أو شراً فنعاملكم على حسب عملكم . و { كيف } في محل النصب ب { تعملون } لا ب { ننظر } ، لأن معنى الاستفهام فيه يمنع أن يتقدم عليه عامله ، والمعنى أنتم بمنظر منا فانظروا كيف تعملون ، أبالاعتبار بماضيكم أم الاغترار بما فيكم؟ قال عليه السلام : « الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون » {
وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ } حال { قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } لما غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد لأهل الطغيان { ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا } ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك { أَوْ بَدّلْهُ } بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها ، فأمر بأن يجيب عن التبديل لأنه داخل تحت قدرة الإنسان وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة وأن يسقط ذكر الآلهة بقوله : { قُلْ مَا يَكُونُ لِي } ما يحل لي { أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَائي نَفْسِي } من قبل نفسي { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } لا أتبع إلا وحي الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تبديل ، لأن الذي أتيت به من عند الله لا من عندي فأبدله { إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } بالتبديل من عند نفسي { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي يوم القيامة . وأما الإتيان بقرآن آخر فلا يقدر عليه الإنسان ، وقد ظهر لهم العجز عنه إلا أنهم كانوا لا يعترفون بالعجز ويقولون لو نشاء لقلنا مثل هذا . ولا يحتمل أن يريدوا بقوله { أئت بقرآن غير هذا أو بدله } من جهة الوحي لقوله : { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } وغرضهم في هذا الاقتراح الكيد ، أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله فأبدل مكانه آخر ، وأما اقتراح التبديل فلاختبار الحال ، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فينجوا منه أولا يهلكه فيسخروا منه ، فيجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لإفترائه على الله(1/478)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
{ قُل لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإظهاره أمراً عجيباً خارجاً عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يشاهد العلماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يغلب كل كلام فصيح ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحوناً بعلوم الأصول والفروع والإخبار عن الغيوب التي لا يعلمها إلا الله { وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } ولا أعلمكم الله بالقرآن على لساني { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ } من قبل نزول القرآن أي فقد أقمت فيما بينكم أربعين سنة ولم تعرفوني متعاطياً شيئاً من نحوه ولا قدرت عليه ، ولا كنت موصوفاً بعلم وبيان فتتهموني بإختراعه { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فتعلموا أنه ليس إلا من عند الله لا من مثلي ، وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم أئت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه .
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في أنه ذو شريك وذو ولد ، وأن يكون تفادياً مما أضافوه إليه من الافتراء { أو كذّب بآياته } بالقرآن ، فيه بيان أن الكاذب على الله والمكذب بآياته في الكفر سواء { إِنَّهُ لا يُفْلَحُ الْمُجرِمُون }(1/479)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
وَيَعَبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَالا يَضُرُّهُمْ } إن تركوا عبادتها { وَلاَ يَنفَعُهُمْ } إن عبدوها { وَيَقُولُونَ هَؤُلاء } أي الأصنام { شفعاؤنا عِندَ الله } أي في أمر الدنيا ومعيشتها لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } [ النحل : 38 ] أو يوم القيامة أن يكن بعث ونشور { قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ } أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله ، وإذا لم يكن معلوماً له وهو عالم بجميع المعلومات لم يكن شيئاً . وقوله { فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض } تأكيد لنفيه لأن ما لم يوجد فيهما فهو معدوم { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } نزَّه ذاته عن أن يكون له شريك . وبالتاء : حمزة وعلي وما موصولة أو مصدرية ، أي عن الشركاء الذين يشركونهم به ، أو عن إشراكهم { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم ، وذلك في عهد آدم عليه السلام إلى أن قتل قابيل هابيل ، أو بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين دياراً { فاختلفوا } فصاروا مللاً { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } عاجلاً { فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } فيما اختلفوا فيه وليميز المحق من المبطل وسبق كلمته لحكمة ، وهي أن هذه الدار دار تكليف وتلك الدار دار ثواب وعقاب .
{ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } أي آية من الآيات التي اقترحوها { فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ } أي هو المختص بعلم الغيب فهو العالم بالصارف عن إنزال الآيات المقترحة لا غير { فانتظروا } نزول ما اقترحتموه { إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرينَ } لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات(1/480)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
{ وَإِذَا أَذَقْنَا الناس } أهل مكة { رَحْمَةً } خصباً وسعة { مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ } يعني القحط والجوع { إذا لهم مَّكْرٌ في ءاياتنا } أي مكروا بآياتنا بدفعها وإنكارها . رُوي أنه تعالى سلط القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم بالحياة ، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه ف { إذا } الأولى للشرط ، والثانية جوابها وهي للمفاجأة وهو كقوله { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [ الروم : 36 ] أي وإن تصبهم سيئة قنطوا ، وإذا أذقنا الناس رحمة مكروا . والمكر إخفاء الكيد وطيه من الجارية الممكورة المطوية الخلق ، ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم . وإنما قال : { قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا } ولم يصفهم بسرعة المكر لأن كلمة المفاجأة دلت على ذلك كأنه قال : وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجأوا وقوع المكر منهم وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤوسهم من مس الضراء { إِنَّ رُسُلَنَا } يعني الحفظة { يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } إعلام بأن ما تظنونه خافياً لا يخفى على الله وهو منتقم منكم . وبالياء : سهل .
{ هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ فِى البر والبحر } يجعلكم قادرين على قطع المسافات بالأرجل والدواب والفلك الجارية في البحار ، أو يخلق فيكم السير { ينشرُكم } شامي { حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك } أي السفن { وَجَرَيْنَ } أي السفن { بِهِمُ } بمن فيها رجوع من الخطاب إلى الغيبة للمبالغة { بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } لينة الهبوب لا عاصفة ولا ضعيفة { وَفَرِحُواْ بِهَا } بتلك الريح للينها واستقامتها { جَاءتْهَا } أي الفلك أو الريح الطيبة أي تلقتها { رِيحٌ عَاصِفٌ } ذات عصف أي شديدة الهبوب { وَجَاءهُمُ الموج } هو ما علا على الماء { مّن كُلّ مَكَانٍ } من البحر أو من جميع أمكنة الموج { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أهلكوا جعل إحاطة العدو بالحي مثلاً في الإهلاك { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } من غير إشراك به لأنهم لا يدعون حينئذ معه غيره يقولون : { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه } الأهوال أو من هذه الريح { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } لنعمتك مؤمنين بك متمسكين بطاعتك ، ولم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد { حتى } بما في حيزها كأنه قيل : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن بالهلاك والدعاء بالإنجاء ، وجواب : { إذا } { جاءتها } و { دعوا } بدل من { ظنوا } لأن دعاءهم من لوازم ظنهم للهلاك فهو ملتبس به(1/481)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
{ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُم يَبْغُونَ فِى الأرض } يفسدون فيها { بِغَيْرِ الحق } باطلاً أي مبطلين { ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } أي ظلمكم يرجع إليكم كقوله { مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] { مَّتَاعَ الحياة الدنيا } حفص أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا { وعلى أنفسكم } خبر ل { بغيكم } . غيره بالرفع على أنه خبر { بغيكم } و { على أنفسكم } صلته كقوله { فبغى عليهم } ) القصص : 76 ) ومعناه إنما بغيكم على أمثالكم ، أو هو خبر و { متاع } خبر بعد خبر أو { متاع } خبر مبتدأ مضمر أي هو متاع الحياة الدنيا ، وفي الحديث « أسرع الخير ثواباً صلة الرحم ، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة » ورُوي « ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين » وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لو بغى جبل على جبل لدك الباغي وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه : البغي والنكث والمكر . قال الله تعالى : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ وَمِنْ نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } [ الفتح : 10 ] { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فنخبركم به ونجازيكم عليه
{ إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء } من السحاب { فاختلط بِهِ } بالماء { نَبَاتُ الأرض } أي فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً { مِمَّا يَأْكُلُ الناس } يعني الحبوبِ والثمار والبقول { والأنعام } يعني الحشيش { حتى إِذَا أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا } زينتها بالنبات واختلاف ألوانه { وازينت } وتزينت به وهو أصله وأدغمت التاء في الزاي وهو كلام فصيح ، جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين { وَظَنَّ أَهْلُهَا } أهل الأرض { أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها { أَتَاهَا أَمْرُنَا } عذابنا وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم { لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا } فجعلناها زرعاً { حَصِيداً } شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } كأن لم يغن زرعها أي لم يلبث ، حذف المضاف في هذه المواضع لا بد منه ليستقيم المعنى { بالأمس } هو مقل في الوقت القريب كأنه قيل { كأن لم تغن } آنفاً { كذلك نُفَصّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فينتفعون بضرب الأمثال ، وهذا من التشبيه المركب شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال ، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه . وحكمة التشبيه ، التنبيه على أن الحياة صفوها شبيبتها وكدرها شيبتها كما أن صفو الماء في أعلى الإناء قال(1/482)
ألم تر أن العمر كأس سلافة ... فأوله صفو وآخره كدْر
وحقيقته تزيين جثة الطين بمصالح الدنيا والدين كاختلاط النبات على اختلاف التلوين ، فالطينة الطيبة تنبت بساتين الأنس ، ورياحين الروح ، وزهرة الزهد ، وكروم الكرم ، وحبوب الحب ، وحدائق الحقيقة ، وشقائق الطريقة ، والخبيثة تخرج خلاف الخلف ، وثمام الاسم ، وشوك الشرك ، وشيح الشح ، وحطب العطب ، ولعاع اللعب ، ثم يدعوه معاده كما يحين للحرث حصاده فتزايله الحياة مغتراً كما يهيج النبات مصفراً فتغيب جثة في الرمس كأن لم تغن بالأمس إلى أن يعود ربيع البعث وموعد العرض والبحث ، وكذلك حال الدنيا كالماء ينفع قليله ويهلك كثيره ، ولا بد من ترك ما زاد كما لا بد من أخذ الزاد ، وآخذ المال لايخلو من زلة ، كما أن خائض الماء لا ينجو من بلة ، وجمعه وإمساكه تلف صاحبه ، وإهلاكه فما دون النصاب كضحضاح ماء يجاوز بلا احتماء ، والنصاب كنهر حائل بين المجتاز . والجواز إلى المفاز لا يمكن إلا بقنطرة وهي الزكاة ، وعمارتها بذل الصلات ، فمتى اختلت القنطرة غرّقته أمواج القناطير المقنطرة ، وعن هذا قال عليه السلام : « الزكاة قنطرة الإسلام » وكذا المال يساعد الأوغاد دون الأمجاد كما أن الماء يجتمع في الوهاد دون النجاد ، وكذلك الماء لا يجتمع إلا بكد البخيل كما أن الماء لا يجتمع إلا بسد المسيل ، ثم يفنى ويتلف ولا يبقى كالماء في الكف .(1/483)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{ والله يَدْعُواْ إِلَى دَارُ السلام } هي الجنة أضافها إلى اسمه تعظيماً لها ، أو السلام السلامة لأن أهلها سالمون من كل مكروه . وقيل : لفشو السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم { إلا قيلا سلاماً سلاماً } [ الواقعة : 26 ] { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } ويوفق من يشاء { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } إلى الإسلام أو طريق السنة ، فالدعوة عامة على لسان رسول الله بالدلالة ، والهداية خاصة من لطف المرسل بالتوفيق والعناية ، والمعنى يدعو العباد كلهم إلى دار السلام ولا يدخلها إلا المهديون(1/484)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
{ لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } آمنوا بالله ورسله { الحسنى } المثوبة الحسنى وهي الجنة { وَزِيَادَةٌ } رؤية الرب عز وجل كذا عن أبي بكر وحذيفة وابن عباس وأبي موسى الأشعري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم ، وفي بعض التفاسير أجمع المفسرون على أن الزيادة النظر إلى الله تعالى . وعن صهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا دخل أهل الجنة يقول الله تبارك وتعالى : أتريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال : فنرفع الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم » ثم تلا { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } والعجب من صاحب الكشاف أنه ذكر هذا الحديث لا بهذه العبارة وقال : إنه حديث مدفوع مع أنه مرفوع قد أورده صاحب المصابيح في الصحاح . وقيل : الزيادة المحبة في قلوب العباد . وقيل : الزيادة مغفرة من الله ورضوان { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ } ولا يغشى وجوههم { قَتَرٌ } غبرة فيها سواد { وَلاَ ذِلَّةٌ } ولا أثر هوان ، والمعنى ولا يرهقهم ما يرهق أهل النار { أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون } { والذين كَسَبُواْ } عطف على { للذين أحسنوا } أي وللذين كسبوا { السيئات } فنون الشرك { جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } الباء زائدة كقوله { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] أو التقدير جزاء سيئة مقدر بمثلها { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } ذل وهوان { مَا لَهُم مِنَ الله } من عقابه { مِنْ عَاصِمٍ } أي لا يعصمهم أحد من سخطه وعقابه { كأنما أُغشيت وجوهُهم قِطعاً من الليل مظلماً } أي جعل عليها غطاء من سواد الليل أي هم سود الوجوه . و { قطعاً } جمع قطعة وهو مفعول ثان { أُغشيت } . قِطْعاً مكي وعلي من قوله { بِقِطْعٍ مّنَ اليل } [ هود : 81 ] وعلى هذه القراءة { مظلماً } صفة لقطع ، وعلى الأول حال من { الليل } والعامل فيه { أغشيت } لأن { من الليل } صفة ل { قطعاً } فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة ، أو معنى الفعل في { من الليل } { أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون . }(1/485)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } أي الكفار وغيرهم { جَمِيعاً } حال { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ } أي الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم { أَنتُمْ } أكد به الضمير في { مكانكم } لسده مسد قوله الزموا { وَشُرَكَاؤُكُمْ } عطف عليه { فَزَيَّلْنَا } ففرَّقنا { بَيْنَهُمْ } وقطعنا أقرانهم والوصل التي كانت بينهم في الدنيا { وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ } من عبدوه من دون الله من أولي العقل أو الأصنام ينطقها الله عز وجل { مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا الله أنداداً فأطعتموهم وهو قوله : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ } إلى قوله : { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن ) } سبأ : 41 ) { فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي كفى الله شهيداً وهو تمييز { إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين } { إن } مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية { هُنَالِكَ } في ذلك المكان أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان { تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ } تختبر وتذوق { مَّا أَسْلَفَتْ } من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن ، أنافع أم ضار ، أمقبول أم مردود ، وقال الزجاج : تعلم كل نفس ما قدمت . { تتلو } حمزة وعلي ، أي تتبع ما أسلفت لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو النار ، أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر ، كذا على الأخفش { وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق } ربهم الصادق في ربوبيته لأنهم كانوا يتلون ما ليس لربوبيته حقيقة ، أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم العدل الذي لا يظلم أحداً { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } وضاع عنهم ما كانوا يدّعون أنهم شركاء لله ، أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة .(1/486)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء } بالمطر { والأرض } بالنبات { أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار } من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة ، أومن يحميهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء { وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى } أي الحيوان والفرخ والزرع ، والمؤمن والعالم من النطفة ، والبيضة والحب والكافر والجاهل وعكسها { وَمَن يُدَبّرُ الأمر } ومن يلي تدبير أمر العالم كله جاء بالعموم بعد الخصوص { فَسَيَقُولُونَ الله } فسيجيبونك عند سؤالك إن القادر على هذه هو الله { فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } الشرك في العبودية إذ اعترفتم بالربوبية { فَذَلِكُمُ الله } أي من هذه قدرته هو الله { رَبُّكُمُ الحق } الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } أي لا واسطة بين الحق والضلال ، فمن تخطى الحق وقع في الضلال { فأنى تُصْرَفُونَ } عن الحق إلى الضلال وعن التوحيد إلى الشرك { كذلك } مثل ذلك الحق { حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ } { كلمات } شامي ومدني ، أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق فكذلك حقت كلمة ربك { عَلَى الذين فَسَقُواْ } تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بدل من «الكلمة» أي حق عليهم انتفاء الإيمان ، أو حق عليهم كلمة الله أن إيمانهم غير كائن ، أو أراد بالكلمة العدة بالعذاب أنهم لا يؤمنون تعليل أي لأنهم لا يؤمنون(1/487)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَؤُا الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } إنما ذكر { ثم يعيده } وهم غير مقرين بالإعادة ، لأنه لظهور برهانها جعل أمراً مسلماً على أن فيهم من يقر بالإعادة أو يحتمل إعادة غير البشر كإعادة الليل والنهار وإعادة الإنزال والنبات { قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } أمر نبيه بأن ينوب عنهم في الجواب يعني أنهم لا تدعهم مكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فكلهم عنهم { فأنى تُؤْفَكُونَ } فكيف تصرفون عن قصد السبيل .
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق } يرشد إليه { قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يهدى } يقال هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين ويقال هدى بنفسه بمعنى اهتدى كما يقال شرى بمعنى اشترى ، ومنه قراءة حمزة وعلي { أمن لا يهدي } بمعنى يهتدي { لا يَهّدىِ } بفتح الياء والهاء وتشديد الدال : مكي وشامي وورش ، وبإشمام الهاء فتحة : أبو عمرو ، وبكسر الهاء وفتح الياء : عاصم غير يحيى ، والأصل { يهتدي } وهي قراءة عبد الله فأدغمت التاء في الدال وفتحت الهاء بحركة التاء وكسرت لالتقاء الساكنين ، وبكسر الياء والهاء وتشديد الدال : يحيى لاتباع ما بعدها وبسكون الهاء وتشديد الدال مدني غير ورش ، والمعنى أن الله وحده هو الذي يهدي للحق بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم ، وبما وفقهم وألهمهم ووقفهم على الشرائع بإرسال الرسل ، فهل من شركائكم - الذين جعلتم أنداداً لله - أحد يهدي إلى الحق مثل هداية الله؟ ثم قال : { أفمن يهدي إلى الحق أحق } بالاتباع أم الذي لا يهدي أي لا يهتدي بنفسه أولا يهدي غيره إلا أن يهديه الله . وقيل : معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن يهدي إلا أن ينقل ، أولا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حياً ناطقاً فيهديه { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } بالباطل حيث تزعمون أنهم أنداد الله(1/488)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ } في قولهم للأصنام إنها آلهة وإنها شفعاء عند الله والمراد بالأكثر الجميع { إِلاَّ ظَنّا } بغير دليل وهو اقتداؤهم بأسلافهم ظناً منهم إنهم مصيبون { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق } وهو العلم { شَيْئاً } في موضع المصدر أي إغناء { إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } من اتباع الظن وترك الحق .
{ وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى مِن دُونِ الله } أي افتراء من دون الله ، والمعنى وما صح وما استقام أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى { ولكن } كان { تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة { وَتَفْصِيلَ الكتاب } وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع من قوله { كتاب الله عليكم { } [ النساء : 24 ] { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ العالمين } داخل في حيز الاستدراك كأنه قال : ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب كائناً من رب العالمين ، ويجوز أن يراد : ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه لا ريب في ذلك ، فيكون { من رب العالمين } متعلقاً ب { تصديق } و { تفصيل } ويكون { لا ريب فيه } اعتراضًاً كما تقول «زيد لا شك فيه كريم» { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } بل أيقولون اختلقه { قُلْ } إن كان الأمر كما تزعمون { فَأتُواْ } أنتم على وجه الافتراء { بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } أي شبيهة به في البلاغة وحسن النظم فأنتم مثلي في العربية { وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله } أي وادعوا من دون الله من استطعتم من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله { إِن كُنتُمْ صادقين } أنه افتراء { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه ، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم . ومعنى التوقع في { ولما يأتهم تأويله } أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل تقليداً للآباء ، وكذبوه بعد التدبر تمرداً وعناداً ، فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به ، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي وجربوا قواهم في المعارضة وعرفوا عجزهم عن مثله فكذبوا به بغياً وحسداً .
{ كذلك } مثل ذلك التكذيب { كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني كفار الأمم الماضية كذبوا رسلهم قبل النظر في معجزاتهم وقبل تدبرها عناداً وتقليداً للآباء ، ويجوز أن يكون معنى { ولما يأتهم تأويله } ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق ، يعني أنه كتاب معجز من جهتين من جهة إعجاز نظمه ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز وقبل أن يجربوا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين }(1/489)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
{ وَمِنْهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } بالنبي أو بالقرآن أي يصدق به فيه نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند بالتكذيب { وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ } لا يصدق به ويشك فيه ، أو يكون للاستقبال أي ومنهم من سيؤمن به ومنهم من سيصر { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين } بالمعاندين أو المصرين { وَإِن كَذَّبُوكَ } وإن تمّوا على تكذيبك ويئست من إجابتهم { فَقُل لّي عَمَلِي } جزاء عملي { وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } جزاء أعمالكم { أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ } فكل مؤاخد بعمله { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعملت الشرائع ولكنهم لا يعون ولا يقبلون فهم كالصم { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم ، لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوي الصوت ، فإذا اجتمع سلب العقل والسمع فقد تم الأمر .(1/490)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
{ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } ومنهم ناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يصدقون { أَفَأَنْتَ تَهْدِى العمى وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } أتحسب أنك تقدر على هداية العمي ولو انضم إلىّ فقد البصر فقد البصيرة ، لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ، وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء يعني أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا كالصم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } { ولكنِ الناس } حمزة وعلي . أي لم يظلمهم بسلب آلة الاستدلال ولكنهم ظلموا أنفسهم بترك الاستدلال حيث عبدوا جماداً وهم أحياء { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } وبالياء : حفص { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار } استقصروا مدة لبثهم في الدنيا أو في قبورهم لهول ما يرون { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً وذلك عند خروجهم من القبور ، ثم ينقطع التعارف بينهم لشدة الأمر عليهم { كأن لم يلبثوا } حال من «هم» أي نحشرهم مشبهين بمن لم يلبثوا إلا ساعة . و«كأن» مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي كأنهم . و { يتعارفون بينهم } حال بعد حال ، أو مستأنف على تقديرهم يتعارفون بينهم { قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله } على إرادة القول أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك ، أو هي شهادة من الله على خسرانهم ، والمعنى أنهم وضعوا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } للتجارة عارفين بها وهو استئناف فهي معنى التعجب كأنه قيل ما أخسرهم { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ } من العذاب { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } قبل عذابهم { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } جواب { نتوفينك } وجواب { نرينك } محذوف أي وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك ، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة { ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ } ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها وهو العقاب كأنه قيل : ثم الله معاقب على ما يفعلون . وقيل : «ثم» هنا بمعنى «الواو» .(1/491)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
{ وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ } يبعث إليهم لينبههم على التوحيد ويدعوهم إلى دين الحق { فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ } بالبينات فكذبوه ولم يتبعوه { قُضِىَ بَيْنَهُمْ } بين النبي ومكذبيه { بالقسط } بالعدل فأنجى الرسول وعذب المكذبين ، أو لكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضى بينهم بالقسط { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } لا يعذب أحد بغير ذنبه . ولما قال { وإما نرينك بعض الذي نعدهم } أي من العذاب استعجلوا لما وعدوا من العذاب نزل { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } أي وعد العذاب { إِن كُنتُمْ صادقين } أن العذاب نازل وهو خطاب منهم للنبي والمؤمنين { قُلْ } يا محمد { لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّا } من مرض أو فقر { وَلاَ نَفْعاً } من صحة أو غنى { إِلاَّ مَا شَاء الله } استثناء منقطع أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن فكيف أملك لكم الضر وجلب العذاب { لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } لكل أمة وقت معلوم للعذاب مكتوب في اللوح فإذا جاء وقت عذابهم لا يتقدمون ساعة ولا يتأخرون فلا تستعجلوا { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ } الذي تستعجلونه { بَيَاتًا } نصب على الظرف أي وقت بيات وهو الليل وأنتم ساهون نائمون لا تشعرون { أَوْ نَهَارًا } وأنتم مشتغلون بطلب المعاش والكسب { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } أي من العذاب ، والمعنى أن العذاب كله مكروه موجب للنفور فأي شيء تستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال؟ والاستفهام في { ماذا } يتعلق ب { أرأيتم } لأن المعنى أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون . وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال ، أو تعرفوا الخطأ فيه . ولم يقل «ماذا يستعجلون منه» لأنه أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام ، أو { ماذا يستعجل منه المجرمون } جواب الشرط نحو «إن أتيتك ماذا تطعمني» ثم تتعلق الجملة ب { أرأيتم } أو(1/492)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
{ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } العذاب { ءَامنتُم بِهِ } جواب الشرط و { ماذا يستعجل منه المجرمون } اعتراض . والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان . ودخول حرف الاستفهام على « ثم» كدخوله على «الواو» و«الفاء» في { أفأمن أهل القرى } { أو أمن أهل القرى } { الئان } على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به { وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } َأي بالعذاب تكذيباً واستهزاء . { آلان } بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام : نافع { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } عطف على «قيل» المضمر قبل { الآن } { ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد } أي الدوام { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } من الشرك والتكذيب .
{ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ } ويستخبرونك فيقولون { أَحَقٌّ هُوَ } وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء والضمير للعذاب الموعود { قُلْ } يا محمد { إِى وَرَبّي } نعم والله { إِنَّهُ لَحَقٌّ } إن العذاب كائن لا محالة { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } بفائتين العذاب وهو لاحق بكم لا محالة { وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ } كفرت وأشركت وهو صفة ل { نفس } أي ولو أن لكل نفس ظالمة { مَّا فِى الأرض } في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها { لاَفْتَدَتْ بِهِ } لجعلته فدية لها . يقال فداه فافتدى ، ويقال افتداه أيضاً بمعنى فداه { وَأَسرُّوا الندامةَ لما رأؤا العذاب } وأظهروها من قولهم «أسر الشيء» إذا أظهره ، أو أخفوها عجزاً عن النطق لشدة الأمر فأسر من الأضداد { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالقسط } بين الظالمين والمظلومين دل عل ذلك ذكر الظلم { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ثم أتبع ذلك الإعلام بأن له الملك كله بقوله(1/493)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
{ أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السماوات والأرض } فكيف يقبل الفداء ، وأنه المثيب المعاقب وما وعده من الثواب أو العقاب فهو حق لقوله : { أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله } بالثواب أو بالعذاب { حَقّ } كائن { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ } هو القادر على الإحياء والإماتة لا يقدر عليهما غيره { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وإلى حسابه وجزائه المرجع فيخاف ويرجى { ياأيها الناس قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ } أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد ، والموعظة التي تدعو إلى كل مرغوب وتزجر عن كل مرهوب ، فما في القرآن من الأوامر والنواهي داع إلى كل مرغوب وزاجر عن كل مرهوب إذ الأمر يقتضي حسن المأمور به فيكون مرغوباً هو يقتضي النهي عن ضده وهو قبيح وعلى هذا النهي { وَشِفَاء لِمَا فِى الصدور } أي صدوركم من العقائد الفاسدة { وهدى } من الضلالة { وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ } لمن آمن به منكم .
{ قُلْ } يا محمد { بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا بذلك فليفرحوا ، والتكرير للتأكيد ، والتقدير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه ، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح ، أو بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا وهما كتاب الله والإسلام . في الحديث « من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه » وقرأ الآية { هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } وبالتاء شامي ، { فلتفرحوا } يعقوب(1/494)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
{ قُلْ أَرَءيْتُمْ } أخبروني { مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ } «ما» منصوب ب { أنزل } أو ب { أرأيتم } أي أخبرونيه { فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً } فبعضتموه وقلتم هذا حلال وهذا حرام كقوله { ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } [ الأنعام : 139 ] نعم الأرزاق تخرج من الأرض ولكن لما نيطت أسبابها بالسماء نحو المطر الذي به تنبت الأرض النبات ، والشمس التي بها النضج وينع الثمار ، أضيف إنزالها إلى السماء { قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ } متعلق ب { أرأيتم } و { قل } تكرير للتوكيد ، والمعنى أخبروني الله أذن لكم في التحليل والتحريم فأنتم تفعلون ذلك بإذنه { أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } أم أنتم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه ، أو الهمزة للإنكار و«أم» منقطعة بمعنى بل أتفترون على الله تقريراً للإفتراء . والآية زاجرة عن التجوز فيما يسأل من الأحكام ، وباعثة على وجوب الاحتياط فيه ، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان وإلا فهو مفتر على الديان { وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } ينسبون ذلك إليه { يَوْمُ القيامة } منصوب بالظن وهو ظن واقع فيه أي أي شيء ظن المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } حيث أنعم عليهم بالعمل ورحمهم بالوحي وتعليم الحلال والحرام { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } هذه النعمة ولا يتبعون ما هدوا إليه .(1/495)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
{ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ } «ما» نافية والخطاب للنيي صلى الله عليه وسلم والشأن الأمر { وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ } من التنزيل كأنه قيل : وما تتلو من التنزيل { مِن قُرْءانٍ } لأن كل جزء منه قرآن ، والإضمار قبل الذكر تفخيم له أو من الله عز وجل { وَلاَ تَعْمَلُونَ } أنتم جميعاً { مِنْ عَمَلٍ } أي عمل { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا } شاهدين رقباء نحصي عليكم { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } تخوضون من أفاض في الأمر إذا اندفع فيه { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ } وما يبعد وما يغيب ، وبكسر الزاي : على حيث كان { مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ } وزن نملة صغيرة { فِي الأرض وَلاَ فِى السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ } رفعهما حمزة على الابتداء والخبر { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } يعني اللوح المحفوظ ، ونصبهما غيره على نفي الجنس ، وقدمت الأرض على السماء هنا وفي «سبأ» قدمت السماوات ، لأن العطف بالواو وحكمه حكم التثنية { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله } هم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة ، أو هم الذين تولى الله هداهم بالبرهان الذي آتاهم فتولوا القيام بحقه والرحمة لخلقه ، أو هم المتحابون في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ، أوهم المؤمنون المتقون بدليل الآية الثانية { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } إذا خاف الناس { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } إذا حزن الناس { الذين ءَامَنُواْ } منصوب بإضمار أعني أو لأنه صفة لأولياء ، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين آمنوا { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } الشرك والمعاصي { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا } ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير موضع من كتابه ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له " وعنه عليه السلام : " ذهبت النبوة وبقيت المبشرات والرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة " وهذا لأن مدة الوحي ثلاث وعشرون سنة ، وكان في ستة أشهر منها يؤمر في النوم بالإنذار ، وستة أشهر من ثلاث وعشرين سنة جزء من ستة وأربعين جزءاً ، أو هي محبة الناس له والذكر الحسن ، أولهم البشرى عند النزع بأن يرى مكانه في الجنة { وَفِي الآخرة } هي الجنة { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله } تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده { ذلك } إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين { هُوَ الفوز العظيم } وكلتا الجملتين اعتراض ، ولا يجب أن يقع بعد الاعتراض كلام كما تقول «فلان ينطق بالحق والحق أبلج»وتسكت .(1/496)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
{ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } تكذيبهم وتهديدهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك { إِنَّ العزة } استئناف بمعنى التعليل كأنه قيل : مالي لا أحزن؟ فقيل : إن العزة { لِلَّهِ } إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً لا يملك أحد شيئاً منهما ، لا هم ولا غيرهم ، فهو يغلبهم وينصرك عليهم { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] أو به يتعزز كل عزيز فهو يعزك ودينك وأهلك ، والوقف لازم على { قولهم } لئلا يصير { إن العزة } مقول الكفار { جَمِيعاً } حال { هُوَ السميع } لما يقولون { العليم } بما يدبرون ويعزمون عليه وهو مكافئهم بذلك { أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السماوات وَمَنْ فِى الأرض } يعني العقلاء وهم الملائكة والثقلان ، وخصهم ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له وفي مَلكَته ولا يصلح أحد منهم للربوبية ولا أن يكون شريكاً له فيها ، فما وراءهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون له نداً وشريكاً { وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء } «ما» نافية أي وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء لأن شركة الله في الربوبية محال { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } إلا ظنهم أنهم شركاء الله { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } يحزرون ويقدّرون أن تكون شركاء تقديراً باطلاً ، أو استفهامية أي وأي شيء يتبعون و { شركاء } على هذا نصب ب { يدعون } وعلى الأول ب { يتبع } وكان حقه وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء ، فاقتصر على أحدهما للدلالة والمحذوف مفعول { يدعون } أو موصولة معطوفة على { من } كأنه قيل : ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم .
ثم نبه على عظيم قدرته وشمول نعمته على عباده بقوله(1/497)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
{ هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } أي جعل لكم الليل مظلماً لتستريحوا فيه من تعب التردد في النهار { والنهار مُبْصِراً } مضيئاً لتبصروا فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم { إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع مذكر معتبر { قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سبحانه } تنزيه له عن اتخاذ الولد وتعجب من كلمتهم الحمقاء { هُوَ الغني } علة لنفي الولد لأنه إنما يطلب الولد ضعيف ليتقوى به ، أو فقير ليستعين به ، أو ذليل ليتشرف به ، والكل أمارة الحاجة فمن كان غنياً غير محتاج كان الولد عنه منفياً ، ولأن الولد بعض الوالد فيستدعي أن يكون مركباً ، وكل مركب ممكن ، وكل ممكن يحتاج إلى الغير فكان حادثاً فاستحال القديم أن يكون له ولد { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } ملكاً ولا تجتمع النبوة معه { إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا } ما عندكم من حجة بهذا القول ، والباء حقها أن تتعلق بقوله { إن عندكم } على أن يجعل القول مكانا ل { سلطان } كقولك «ما عندكم بأرضكم موز» كأنه قيل : إن عندكم فيما تقولون سلطان ، ولما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين فقال : { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } بإضافة الولد إليه { لاَ يُفْلِحُونَ } لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة .(1/498)
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
{ متاع فِى الدنيا } أي افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا حيث يقيمون به رياستهم في الكفر ومناصبة النبي صلى الله عليه وسلم بالتظاهر به { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد } المخلد
{ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } بكفرهم .
{ واتل عَلَيْهِمْ } واقرأ عليهم { نَبَأَ نُوحٍ } خبره مع قومه والوقف عليه لازم إذ لو وصل لصار «إذ» ظرفا لقوله { واتل } بل التقدير واذكر { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم إن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ } عظم وثقل كقوله { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين { } [ البقرة : 45 ] { مَّقَامِى } مكاني يعني نفسه كقوله { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] أي خاف ربه ، أو قيامي ومكثي بين أظهركم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، أو مقامي { وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ الله } هم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم بينًا وكلامهم مسموعاً { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } أي فوضت أمري إليه { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه { وَشُرَكَاءكُمْ } الواو بمعنى «مع» أي فأجمعوا أمركم مع شركائكم { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أي غماً عليكم وهما والغم والغمة كالكرب والكربة ، أو ملتبساً في خفية . والغمة السترة من غمه إذا ستره ومنه الحديث " لاغمة في فرائض الله " أي لا تستر ولكن يجاهر بها ، والمعنى ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهرونني به { ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ } ذلك الأمر الذي تريدون بي أي أدوا إلى ما هو حق عندكم من هلاكي كما يقضي الرجل غريمه ، أو اصنعوا ما أمكنكم { وَلاَ تُنظِرُونَ } ولا تمهلوني { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } فإن أعرضتم عن تذكيري ونصحي { فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ } فأوجب التولي ، أو فما سألتكم من أجر ففاتني ذلك بتوليكم { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة أي ما نصحتكم إلا لله لا لغرض من أغراض ، الدنيا وفيه دلالة منع أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم الديني { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } من المستسلمين لأوامره ونواهيه { إن أجري } بالفتح : مدني وشامي وأبو عمرو وحفص .(1/499)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
{ فَكَذَّبُوهُ } فداموا على تكذيبه { فنجيناه } من الغرق { وَمَن مَّعَهُ فِى الفلك } في السفينة { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ } يخلفون الهالكين بالغرق { وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بآياتنا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين } هو تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله وتسلية له .
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ } من بعد نوح عليه السلام { رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ } أي هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعباً { فَجَآءُوهُم بالبينات } بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } فأصروا على الكفر بعد المجيء { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } من قبل مجيئهم ، يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها كأن لم يبعث إليهم أحد { كَذَلِكَ نَطْبَعُ } من ذلك الطبع نختم { على قُلوبِ المعتدين } المجاوزين الحد في التكذيب { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم } من بعد الرسل { موسى وهارون إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ بئاياتنا } بالآيات التسع { فاستكبروا } عن قبولها وأعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها ويتعظموا عن قبولها { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } كفاراً ذوي آثام عظام فلذلك استكبروا عنها واجترؤوا على ردها { فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا } فلما عرفوا أنه هو الحق وأنه من عند الله { قَالُواْ } لحبهم الشهوات { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } وهم يعلمون أن الحق أبعد شيء من السحر .(1/500)
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
{ قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءكُمْ } هو إنكار ومقولهم محذوف أي هذا سحر ، ثم استأنف إنكاراً آخر فقال : { أَسِحْرٌ هذا } خبر ومبتدأ { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } أي لا يظفر .
{ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } لتصرفنا { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } من عبادة الأصنام أو عبادة فرعون { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء } أي الملك لأن الملوك موصوفون بالكبرياء والعظمة والعلو { فِى الأرض } أرض مصر { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } بمصدقين فيما جئتما به { ويكن } حماد ويحيى { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتونى بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ } { سحار } حمزة وعلي { فَلَمَّا جَاء السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقُواْ قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر } «ما» موصولة واقعة مبتدأ ، أو { جئتم به } صلتها و { السحر } خبر أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله . { آلسحر } بعد وقف : أبو عمرو على الاستفهام ، فعلى هذه القراءة «ما» استفهامية أيْ أيّ شيء جئتم به أهو السحر { إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } يظهر بطلانه { إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين } لايثبته بل يدمره { وَيُحِقُّ الله الحق } ويثبّته { بكلماته } بأوامره وقضاياه أو يظهر الإسلام بعداته بالنصرة { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } ذلك { فَمَا ءامَنَ لموسى } في أول أوامره { إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ } إلا طائفة من ذراري بني إسرائيل كأنه قيل : إلا أولاد من أولاد قومه ، وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون ، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف ، أو الضمير في { قومه } لفرعون والذرية مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنة وماشطته والضمير في { وَملإيهِمْ } يرجع إلى فرعون بمعنى آل فرعون كما يقال ربيعة ومضر ، أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له ، أو إلى الذرية أي على خوف من فرعون وخوف من أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم دليله قوله { أَن يَفْتِنَهُمْ } يريد أن يعذبهم فرعون { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض } لغالب فيها قاهر { وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } في الظلم والفساد وفي الكبر والعتو بادعائه الربوبية .(2/1)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
{ وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله } صدقتم به وبآياته { فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون { إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ } شرط في التوكل الإسلام وهو أن يسلموا نفوسهم لله أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظ للشيطان فيها ، لأن التوكل لا يكون مع التخليط { فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا } إنما قالوا ذلك لأن القوم كانوا مخلصين ، لاجرم أن الله قبل توكلهم وأجاب دعاءهم ونجاهم ، وأهلك من كانوا يخافونه وجعلهم خلفاء في أرضه ، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين } موضع فتنة لهم أي عذاب يعذبوننا أو يفتنوننا عن ديننا أي يضلوننا والفاتن المضل عن الحق { وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين } أي من تعذيبهم وتسخيرهم { وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } تبوأ المكان اتخذه مباءة كقوله «توطنه» إذا اتخذه وطناً ، والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه { واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة ، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة وكانوا في أول الأمر مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المسلمون على ذلك في أول الإسلام بمكة { وَأَقِيمُواْ الصلاوة } في بيوتكم حتى تأمنوا { وَبَشّرِ المؤمنين } يا موسى ، ثنى الخطاب أولاً ثم جمع ثم وحد آخراً لأن اختيار مواضع العبادة مما يفوض إلى الأنبياء ، ثم جمع لأن اتخاذ المساجد والصلاة فيها واجب على الجمهور ، وخص موسى عليه السلام بالبشارة تعظيماً لها وللمبشر بها .(2/2)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
{ وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً } هو ما يتزين به من لباس أو حلي أو فرش أو أثاث أو غير ذلك { وَأَمْوَالاً } أي نقداً ونعماً وضيعة { في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك } ليضلوا الناس عن طاعتك كوفي ولا وقف على { الدنيا } لأن قوله { ليضلوا } متعلق ب { آتيت } و { ربنا } تكرار . الأول للإلحاح في التضرع . قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : إذا علم منهم أنهم يضلون الناس عن سبيله آتاهم ما آتاهم ليضلوا عن سبيله وهو كقوله { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] فتكون الآية حجة على المعتزلة { رَبَّنَا اطمس على أموالهم } أي أهلكها وأذهب آثارها لأنهم يستعينون بنعمتك على معصيتك ، والطمس المحو والهلاك . قيل : صارت دراهمهم ودنانيرهم حجارة كهيئاتها منقوشة . وقيل وسائر أموالهم كذلك { واشدد على قُلُوبِهِمْ } اطبع على قلوبهم واجعلها قاسية { فَلاَ يُؤْمِنُواْ } جواب الدعاء الذي هو اشدد { حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } إلى أن يروا العذاب الأليم وكان كذلك ، فإنهم لم يؤمنوا إلى الغرق ، وكان ذلك إيمان يأس فلم يقبل . وإنما دعا عليهم بهذا لما أيس من إيمانهم وعلم بالوحي أنهم لا يؤمنون ، فأما قبل أن يعلم بأنهم لا يؤمنون فلا يسع له أن يدعو بهذا الدعاء لأنه أرسل إليهم ليدعوهم إلى الإيمان ، وهو يدل على أن الدعاء على الغير بالموت على الكفر لا يكون كفراً { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } قيل كان موسى عليه السلام يدعو وهارون يؤمّن فثبت أن التأمين دعاء فكان إخفاؤه أولى ، والمعنى أن كلمة واحدة مستجاب وما طلبتما كائن ولكن في وقته { فاستقيما } فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والتبليغ { وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } ولا تتبعان طريق الجهلة الذين لا يعلمون صدق الإجابة وحكمة الإمهال فقد كان بين الدعاء والإجابة أربعون سنة . { ولا تتبعان } بتخفيف النون وكسرها لالتقاء الساكنين تشبيها بنون التثنية : شامي ، وخطأه بعضهم لأن النون الخفيفة واجبة السكون . وقيل : هو إخبار عما يكونان عليه وليس بنهي ، أو هو حال وتقديره فاستقيما غير متبعين .(2/3)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر } هو دليل لنا على خلف الأفعال { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ } فلحقهم . يقال : تبعته حتى أتبعته { بَغِيّاً } تطاولاً { وَعَدْوًا } ظلماً وانتصباً على الحال أو على المفعول له { حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق } ولا وقف عليه لأن { قَالَ ءامَنتُ } جواب { إذا } - { أَنَّهُ } - إنه حمزة وعلي على الاستئناف بدل من { آمنت } وبالفتح غيرهما على حذف الباء التي هي صلة الإيمان { لا إله إِلاَّ الذى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إسراءيل وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد حيث قال : { آمنت } ثم قال : { وأنا من المسلمين } كرر فرعون المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصاً على القبول ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته وكانت المرة الواحدة تكفي في حالة الاختيار { الئان } أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك . قيل : قال ذلك حين ألجمه الغرق والعامل فيه أتؤمن { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين } من الضالين المضلين عن الإيمان . روي أن جبريل عليه السلام أتاه بفتيا : ما قول الأميرفي عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه ، فكتب فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماءه أن يغرق في البحر فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل عليه السلام خطه فعرفه .(2/4)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
{ فاليوم نُنَجّيكَ } نلقيك بنجوة من الأرض فرماه الماء إلى الساحل كأنه ثور { بِبَدَنِكَ } في موضع الحال أي الحال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن أو ببدنك كاملاً سوياً لم ينقص منه شيء ولم يتغير ، أو عرياناً لست إلا بدنا من غير لباس ، أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها . وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه { بأبدانك } وهو مثل قولهم هو«بأجرامه» أي ببدنك كله وافياً بأجزائه ، أو بدروعك لأنه ظاهر بينها { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً } لمن وراءك من الناس علامة وهم بنو إسرائيل ، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق . وقيل : أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدقوه فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه . وقيل : { لمن خلفك } لمن يأتي بعدك من القرون ومعنى كونه آية أن يظهر للناس عبوديته وأن ما كان يدعيه من الربوبية محال ، وأنه مع ما كان عليه من عظم الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه فما الظن بغيره { وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون ولقد بوأنا بني اسرائيل مبوأ صدق } منزلاً صالحاً مرضياً وهو مصر والشام { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات فَمَا اختلفوا } في دينهم { حتى جَاءهُمُ العلم } أي التوراة وهم اختلفوا في تأويلها كما اختلف أمة محمد صلى الله عليه وسلم في تأويل الآيات من القرآن أو المراد العلم بمحمد واختلاف بني إسرائيل وهم أهل الكتاب اختلافهم في صفته أنه هو أم ليس هو بعد ما جاءهم العلم أنه هو { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } يميز الحق من المبطل ويجزي كلا جزاءه .
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ } لما قدم ذكر بني إسرائيل - وهم قراء الكتاب - ووصفهم بأن العلم قد جاءهم لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب في التوراة والإنجيل وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، أراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وبصحة نبوته صلى الله عليه وسلم ويبالغ في ذلك فقال : فإن وقع لك شك فرضاً وتقديراً ، وسبيل من خالجته شبهة أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته أو بمباحثة العلماء فسل علماء أهل الكتاب فإنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك بحيث يصلحون لمراجعة مثلك فضلاً عن غيرك . فالمراد وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشك فيه ثم قال : { لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ } أي ثبت عندك بالآيات الواضحة والبراهين اللائحة أن ما أتاك هو الحق الذي لا مجال فيه للشك { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } الشاكين ولا وقف عليه للعطف .(2/5)
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)
{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين } أي فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله أو هو على طريقة التهييج والإلهاب كقوله { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين } [ القصص : 86 ] { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } [ القصص : 87 ] ولزيادة التثبيت والعصمة ولذلك قال عليه السلام عند نزوله : " لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق " أوخوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد أمته أي وإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم كقوله { وأنزلنا إليكم نوراً مبينا } [ النساء : 174 ] أو الخطاب لكل سامع يجوز عليه الشك كقول العرب «إذا عز أخوك فهن» أو «إن» للنفي أي فما كنت في شك فاسأل أي لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ولكن لتزداد يقينا كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى . فإن قلت : إنما يجيء «إن» للنفي إذا كان بعده «إلا» كقوله : { إِنِ الكافرون إِلاَّ فِى غُرُورٍ } [ الملك : 20 ] قلت : ذاك غير لازم ألا ترى إلى قوله { إن أمسكهما من أحد من بعده } [ فاطر : 41 ] فإن للنفي وليس بعده «إلا»
{ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبّكَ } ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً أو قوله { لأملأن جهنم } الآية ولا وقف على { لاَ يُؤْمِنُونَ } لأن(2/6)
وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ } تتعلق بما قبلها { حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } أي عند اليأس فيؤمنون ولا ينفعهم ، أو عند القيامة ولا يقبل منهم { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ } فهلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل المعاينة ولم تؤخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بختفه { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } بأن يقبل الله منها بوقوعه في وقت الاختيار { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } استثناء منقطع أي ولكن قوم يونس ، أو متصل والجملة في معنى النفي كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس ، وانتصابه على أصل الاستثناء { لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } إلى آجالهم . رُوي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضباً ، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح كلهم وعجوا أربعين ليلة وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ، وفرّقوا بين النساء والصبيان والدواب وأولادها ، فحن بعضهم إلى بعض وأظهروا الإيمان والتوبة ، فرحمهم وكشف عنهم - وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة - وبلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى إن الرجل كان يقلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنيايه فيرده . وقيل : خرجوا لما نزل بهم العذاب إلى شيخ من بقية علمائهم فقال لهم : قولوا ياحي حين لا حي ، وياحي محيي الموتى ، وياحي لا إله إلا أنت . فقالوها فكشف الله عنهم . وعن الفضيل قدس الله روحه قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل ، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله .(2/7)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ } على وجه الإحاطة والشمول { جَمِيعاً } مجتمعين على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه ، أخبر عن كمال قدرته ونفوذ مشيئته أنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم ولكنه شاء أن يؤمن به من علم منه اختيار الإيمان به ، وشاء الكفر ممن علم أنه يحتار الكفر ولا يؤمن به . وقول المعتزلة : المراد بالمشيئة مشيئة القسر والإلجاء أي لو خلق فيهم الإيمان جبراً لآمنوا لكن قد شاء أن يؤمنوا اختياراً فلم يؤمنوا دليله { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } - أي ليس إليك مشيئة الإكراه والجبر في الإيمان إنما ذلك إليّ - فاسد لأن الإيمان فعل العبد وفعله ما يحصل بقدرته ولا يتحقق ذلك بدون الاختيار . وتأويله عندنا أن الله تعالى لطفاً لو أعطاهم لآمنوا كلهم عن اختيار ولكن علم منهم أنهم لا يؤمنون فلم يعطهم ذلك وهو التوفيق . والاستفهام في { أفأنت } بمعنى النفي أي لا تملك أنت يا محمد أن تكرههم على الإيمان لأنه يكون بالتصديق والإقرار ولا يمكن الإكراه على التصديق .
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } بمشيئته أو بقضائه أو بتوفيقه وتسهيله أو بعلمه { وَيَجْعَلُ الرجس } أي العذاب أو السخط أو الشيطان أي ويسلط الشيطان { عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ } لا ينتفعون بعقولهم ، { ونجعل } حماد ويحيى { قُلِ انظروا } نظر استدلال واعتبار { مَاذَا فِى السماوات والأرض } من الآيات والعبر باختلاف الليل والنهار وخروج الزروع والثمار { وَمَا تُغْنِى الآيات } «ما» نافيه { والنذر } والرسل المنذورون أو الانذارات { عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } لا يتوقع إيمانهم وهم الذين لا يعقلون .(2/8)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
{ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } يعني وقائع الله فيهم كما يقال أيام العرب لوقائعها { قُلْ فانتظروا إِنَّى مَعَكُمْ مّنَ المنتظرين ثُمَّ نُنَجّى رُسُلُنَا } معطوف على كلام محذوف يدل عليه { إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا على حكاية الأحوال الماضية { والذين ءامَنُواْ } ومن آمن معهم { كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين } أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين و { حقاً علينا } اعتراض أي حق ذلك علينا حقاً . { ننجي } بالتخفيف : علي وحفص .
{ قُلْ ياأيها الناس } يا أهل مكة { إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى } وصحته وسداده فهذا ديني فاستمعوا وصفه ، ثم وصف دينه قال : { فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } أي الأصنام { ولكن أَعْبُدُ الله الذى يَتَوَفَّاكُمْ } يميتكم ، وصفه بالتوفي ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقي ويعبدون دون ما لا يقدر على شيء { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين } أي بأن أكون يعني أن الله أمرني بذلك بما ركب فيّ من العقل وبما أوحى إليّ في كتابه { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ } أي وأوحى إليّ أن أقم ليشاكل قوله أي استقم مقبلا بوجهك على ما أمرك الله ، أو استقم إليه ولا تلتفت يميناً ولا شمالا { حَنِيفاً } حال من الدين أو الوجه { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين }(2/9)
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
{ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَالاً يَنفَعُكَ } إن دعوته { وَلاَ يَضُرُّكَ } إن خذلته { فَإِن فَعَلْتَ } فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فكنى عنه بالفعل إيجازاً { فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين } «إذا» جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان ، وجعل { من الظالمين } لأنه لا ظلم أعظم من الشرك .
{ وَإِن يَمْسَسْكَ الله } يصبك { بِضُرّ } مرض { فَلاَ كاشف لَهُ } لذلك الضر { إِلاَّ هُوَ } إلاَّ الله { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } عافية { فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } فلا رادَّ لمراده { يُصَيبُ بِهِ } بالخير { مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } قطع بهذه الآية على عباده طريق الرغبة والرهبة إلا إليه والاعتماد إلا عليه { وَهُوَ الغفور } المكفر بالبلاء { الرحيم } المعافي بالعطاء ، أتبع النهي عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر أن الله هو الضار النافع الذي إن أصابك بضر لم يقدر على كشفه إلا هو وحده دون كل أحد ، فكيف بالجماد الذي لا شعور به؟ وكذا إن أرادك بخير لم يرد أحد ما يريده بك من الفضل والإحسان فكيف بالأوثان؟ وهو الحقيق إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها وهو أبلغ من قوله { إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ } [ الزمر : 38 ] وإنما ذكر المس في أحدهما والإرادة في الآخر كأنه أراد أن يذكر الأمرين : الإرادة والإصابة في كل واحد من الضر والخير ، وأنه لاراد لما يريد منهما ولا مزيل لما يصيب به منهما ، فأوجز الكلام بأن ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما والإرادة في الآخر ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله { يصيب به من يشاء من عباده } { قُلْ يا أَيُّهَا الناس } يا أهل مكة { قَدْ جَاءكُمُ الحق } القرآن أو الرسول { مِن رَّبّكُمْ فَمَنُ اهتدى } اختار الهدى واتبع الحق { فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ } فما نفع باختياره إلا لنفسه { وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه ودل اللام و«على» على معنى النفع والضرر { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } بحفيظ موكول إلى أمركم إنما أنا بشير ونذير .(2/10)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
{ واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر } على تكذيبهم وإيذائهم { حتى يَحْكُمَ الله } لك بالنصر عليهم والغلبة { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } لأنه المطلع على السرائر فلا يحتاج إلى بينة وشهود .(2/11)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
{ الر كِتَابٌ } أي هذا كتاب فهو خبر مبتدأ محذوف { أُحكمت ءاياته } صفة له أي نظمت نظماً رصيناً محكماً لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم { ثُمَّ فُصّلَتْ } كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية وآية أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة ، أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد أي بين ولخص . وليس معنى « ثم» التراخي في الوقت ولكن في الحال { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } صفة أخرى ل { كتاب } أو خبر بعد خبر أوصلة ل { أحكمت } و { فصلت } أي من عنده أحكامها وتفصيلها { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } مفعول له أي لئلا تعبدوا أو «أن» مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل قال : لا تعبدوا إلا الله أو أمركم أن لا تعبدوا إلا الله { إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } أي من الله { وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ } أي أمركم بالتوحيد والاستغفار { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } أي استغفروه من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة { يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا } يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية من عيشة واسعة ونعمة متتابعة { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى أن يتوفاكم { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس منه شيئاً { وَإِن تَوَلَّوْاْ } وإن تتولوا { فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } هو يوم القيامة .(2/12)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
{ إلى الله مَرْجِعُكُمْ } رجوعكم { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } فكان قادراً على إعادتكم { أَلآ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } يزورّون عن الحق وينحرفون عنه لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره ومن أزورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } ليطلبوا الخفاء من الله فلا يطلع رسوله والمؤمنون على ازورارهم { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } يتغطون بها أي يريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم كراهة لاستماع كلام الله كقول نوح عليه السلام { جَعَلُواْ أصابعهم فِى ءاذانهم واستغشوا ثِيَابَهُمْ } { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم فلا وجه لتوصلهم لي ما يريدون من الاستخفاء والله مطلع على ثنيهم صدورهم واستغشائهم ثيابهم ونفاقهم غير نافق عنده قيل نزلت في المنافقين { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } بما فيها .
{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } تفضلاً لا وجوباً { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا } مكانه من الأرض ومسكنه { وَمُسْتَوْدَعَهَا } حيث كان مودعاً قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة { كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها في اللوح يعني ذكرها مكتوب فيه مبين { وَهُوَ الذى خَلَقَ السماوات والأرض } وما بينهما { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } من الأحد إلى الجمعة تعليماً للتأني { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء } أي فوقه يعني ما كان تحته خلق قبل خلق السماوات والأرض إلا الماء ، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السماوات والأرض . قيل بدأه بخلق يا قوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء ثم خلق ريحاً فأقر الماء على متنه ثم وضع عرشه على الماء وفي وقوف العرش على الماء أعظم اعتبار لأهل الأفكار { لِيَبْلُوَكُمْ } أي خلق السماوات والأرض وما بينهما للمتحن فيهما ولم يخلق هذه الأشياء لأنفسها { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أكثر شكراً وعنه عليه السلام « أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله فمن شكر وأطاع أثابه ومن كفر وعصى عاقبه » ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال : { ليبلوكم } أي ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أشار بهذا إلى القرآن لأن القرآن هو الناطق بالبعث فإذا جعلوا سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره { ساحر } حمزة وعلي يريدون الرسول والساحر كاذب مبطل { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب } عذاب الآخرة أو عذاب يوم بدر { إلى أُمَّةٍ } إلى جماعة من الأوقات { مَّعْدُودَةً } معلومة أو قلائل والمعنى إلى حين معلوم { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } ما يمنعه من النزول استعجالاً له على وجه التكذيب والاستهزاء { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ } العذاب { لَّيْسَ } العذاب { مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } ويوم منصوب ب { مصروفاً } أي ليس العذاب مصروفاً عنهم يوم يأتيهم { وَحَاقَ بِهِم } وأحاط بهم { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } العذاب الذي كانوا به يستعجلون وإنما وضع يستهزئون موضع يستعجلون لأن استعجالهم كان على وجه الاستهزاء
.(2/13)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان } هو للجنس { مِنَّا رَحْمَةً } نعمة من صحة وأمن وجدة . واللام في { لئن } لتوطئة القسم { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } ثم سلبناه تلك النعمة وجواب القسم { إِنَّهُ لَيَئُوسٌ } شديد اليأس من أن يعود إلى مثل تلك النعمة المسلوبة قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه { كَفُورٌ } عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله نسّاء له { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ } وسعنا عليه النعمة بعد الفقر الذي ناله { لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عَنّي } أي المصائب التي ساءتني { إِنَّهُ لَفَرِحٌ } أشر بطر { فَخُورٌ } على الناس بما أذاقه الله من نعمائه قد شغله الفرح والفخر عن الشكر { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } في المحنة والبلاء { وَعَمِلُواْ الصالحات } وشكروا في النعمة والرخاء { أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } يعني الجنة كانوا يقترحون عليه آيات تعنتا لا استرشاداً لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم . ومن اقتراحاتهم { لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك } [ الفرقان : 7 ] وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به فكان يضيق صدر رسول صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه فهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردهم له وتهاونهم به { وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } بأن تتلوه عليهم ولم يقل ضيق ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت لأنه عليه السلام كان أفسح الناس صدراً ولأنه أشكل ب { تارك } { أَن يَقُولُواْ } مخافة أن يقولوا { لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ } هلا أنزل عليه ما اقترحنا من الكنز لننفقه والملائكة لنصدقه ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه { إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ } أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه ، ولا عليك أن ردوا أو تهاونوا { والله على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ } يحفظ ما يقولون وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل ، فتوكل عليه وكل أمرك إليه وعليك بتبليغ الوحي بقلب فسيح وصدر منشرح غير ملتفت إلى استكبارهم ولا مبال بسفههم واستهزائهم .(2/14)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
{ أَمْ يَقُولُونَ } «أم» منقطعة { افتراه } الضمير لما يوحى إليك { قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ } تحداهم أولا بعشر سور ثم بسورة واحدة كما يقول المخابر في الخط لصاحبه : اكتب عشر أسطر نحو ما أكتب فإذا تبين له العجز عن ذلك قال : اقتصرت منك على سطر واحد { مّثْلِهِ } في الحسن والجزالة . ومعنى { مثله } أمثاله ذهاباً إلى مماثلة كل واحدة منها له { مُفْتَرَيَاتٍ } صفة ل { عشر سور } . لما قالوا افتريت القرآن واختلقته من عندك وليس من عند الله ، أرضى معهم العنان وقال : هبوا أني اختلقته من عند نفسي فأتوا أنتم أيضاً بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم فأنتم عرب فصحاء مثلي { وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله } إلى المعاونة على المعارضة { إِن كُنتُمْ صادقين } أنه مفترى { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } أي أنزل ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه واعلموا عند ذلك أن لا إله إلا الله وحده وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم ، وإنما جمع الخطاب بعد إفراده وهو قوله { لكم فاعلموا } بعد قوله { قل } لأن الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يحدثونهم أو لأن الخطاب للمشركين . والضمير في { فإن لم يستجيبوا } لمن استطعتم أي فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على المعارضة لعلمهم بالعجز عنه فاعلموا أنما أنزل بعلم الله أي بإذنه أو بأمره { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } متبعون للإسلام بعد هذه الحجة القاطعة . ومن جعل الخطاب للمسلمين فمعناه فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقيناً على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد فهل أنتم مسلمون مخلصون .(2/15)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } نوصل إليهم أجور أعمالهم وافيه كاملة من غير بخس في الدنيا ، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق ، وهم الكفار أو المنافقون { أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الأخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } وحبط في الآخرة ما صنعوه أو صنيعهم أي لم يكن لهم ثواب لأنهم لم يزيدوا به الآخرة إنما أرادوا به الدنيا وقد وفى إليهم ما أرادوا { وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي كان عملهم في نفسه باطلاً لأنه لم يعمل لغرض صحيح والعمل الباطل لا ثواب له { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } أمن كان يريد الحياة الدنيا كما كان على بينة من ربه أي لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم يعني أن بين الفريقين تبايناً بينا وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره كان على بينة من ربه أي على برهان من الله وبيان أن دين الإسلام وهو دليل العقل { وَيَتْلُوهُ } ويتبع ذلك البرهان { شَاهِدٌ } يشهد بصحته وهو القرآن { مِنْهُ } من الله أو من القرآن فقد مر ذكره آنفاً { وَمِن قَبْلِهِ } ومن قبل القرآن { كِتَابُ موسى } وهو التوراة أي ويتلو ذلك البرهان أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى عليه السلام { إِمَاماً } كتاباً مؤتماً به في الدين قدوة فيه { وَرَحْمَةً } ونعمة عظيمة على المنزل إليهم وهما حالان { أولئك } أي من كان على بينة { يُؤْمِنُونَ بِهِ } بالقرآن { وَمن يَكْفُرْ بِهِ } بالقرآن { مّن الأحزاب } يعني أهل مكة ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم { فالنار مَوْعِدُهُ } مصيره ومورده { فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ } شك { مِنْهُ } من القرآن أو من الموعد { إِنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ } يحبسون في الموقف وتعرض أعمالهم { وَيَقُولُ الأشهاد هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ } ويشهد عليهم الأشهاد من الملائكة والنبيين بأنهم الكذابون على الله بأنه اتخذ ولداً وشريكاً { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } الكاذبين على ربهم والأشهاد جمع شاهد كأصحاب وصاحب أو شهيد كشريف وأشراف { الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } يصرفون الناس عن دينه { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد { وَهُمْ بالأخرة هُمْ كافرون } «هم» الثانية لتأكيد كفرهم بالآخرة واختصاصهم به { أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ } أي ما كانوا { مُعْجِزِينَ فِى الأرض } بمعجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم { وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء } من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم وهو من كلام الأشهاد { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } لأنهم أضلوا الناس عن دين الله يضعّف مكي وشامي { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع } أي استماع الحق { وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } الحق { أُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } حيث اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله { وَضَلَّ عَنْهُم } وبطل عنهم وضاع ما اشتروه وهو { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من الآلهة وشفاعتها .(2/16)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون } بالصد والصدود وفي لا جرم أقوال أحدها أن لا رد لكلام سابق أي ليس الأمر كما زعموا ومعنى { جرم } كسب وفاعله مضمر و { أنهم في الآخرة } في محل النصب والتقدير كسب قولهم خسرانهم في الآخرة وثانيها أن { لا جرم } كلمتان ركبتا فصار معناهما حقاً و«أن» في موضع رفع بأنه فاعل لحق أي حق خسرانهم ، وثالثها أن معناه لا محالة . { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ } واطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع من الخبت وهي الأرض المطمئنة { أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون } { مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع } شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصير والسميع { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } يعني الفريقين { مَثَلاً } تشبيها وهو نصب على التمييز { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } فتنتفعون بضرب المثل .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي بأني والمعنى أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام وهو قوله { إني لكم نذير مبين } بالكسر فلما اتصل به الجار فتح كما فتح في «كأن» والمعنى على الكسر وبكسر الألف شامي ونافع وعاصم وحمزة على إرادة القول { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } أن مفسرة متعلقة ب { أرسلنا } أو ب { نذير } { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } وصف اليوم بأليم من الإسناد المجازي لوقوع الألم فيه { فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } يريد الأشراف لأنهم يملؤون القلوب هيبة والمجالس أبهة أو لأنهم ملئوا بالأحلام والآراء الصائبة { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكاً أو ملكاً { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } أخساؤنا جمع الأرذل { بَادِىَ } وبالهمزة : أبو عمرو { الرأى } وبغير همز : أبو عمرو أي اتبعوك ظاهر الرأي ، أو أول الرأي من بدا يبدو إذا أظهر أو بدأ يبدأ إذا فعل الشيء أولاً ، وانتصابه على الظرف أصله وقت حدوث ظاهر رأيهم أو أول رأيهم ، فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه ، أرادوا أن اتباعهم لك شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر ولو تفكروا ما اتبعوك . وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية لأنهم كانوا جهالا ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال كما ترى أكثر المتسمّين بالإسلام يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم ولقد زل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله وإنما يبعده ولا يرفعه بل يضعه { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } في مال ورأي يعنون نوحاً وأتباعه { بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين } أي نوحاً في الدعوة ومتبعيه في الإجابة والتصديق يعني تواطأتم على الدعوة والإجابة تسبيباً للرياسة .(2/17)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
{ قَالَ يَا قَوْمٌ أَرَءيْتُمْ } أخبروني { إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ } برهان { مّن رَّبّى } وشاهد منه يشهد بصحة دعواي { وآتني رحمةً من عنده } يعني النبوة { فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ } -أي خفيت . { فعميت } : حمزة وعلي وحفص أي أخفيت أي فعميت عليكم البينة فلم تهدكم كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغيرها ، وحقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء لأن الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } أي الرحمة { وَأَنتُمْ لَهَا كارهون } لا تريدونها ، والواو دخلت هنا تتمة للميم . وعن أبي عمرو إسكان الميم ووجهه أن الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة فظنها الراوي سكوناً وهو لحن ، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر .(2/18)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
{ وياقوم لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ } على تبليغ الرسالة لأنه مدلول قوله { إني لكم نذير } { مَالاً } أجراً يثقل عليكم إن أديتم أو عليّ أن أبيتم { إِنْ أَجْرِىَ } مدني وشامي وأبو عمرو وحفص { إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنو } جواب لهم حين سألوا طردهم ليؤمنوا به أنفة من المجالسة معهم { أَنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ } فيشكونني إليه إن طردتهم { ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل ، أو تجهلون لقاء ربكم أو أنهم خير منكم { وياقوم مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله } من يمنعني من انتقامه { إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } تتعظون { وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله } فأدعي فضلاً عليكم بالغنى حتى تجحدوا فضلي بقولكم { وما نرى لكم علينا من فضل } { وَلا أَعْلَمُ الغيب } حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم وهو معطوف على { عندي خزائن الله } أي لا أقول عندي خزائن الله ولا أقول أنا أعلم الغيب { وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ } حتى تقولوا إلى { ما أنت إلا بشر مثلنا } { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ } ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم { لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا } في الدنيا والآخرة لهوانه عليه مساعدة لكم ونزولاً على هواكم { الله أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ } من صدق الاعتقاد وإنما على قبول ظاهر إقرارهم إذ لا أطلع على خفي أسرارهم { إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين } إن قلت شيئاً من ذلك . والازدراء افتعال من زرى عليه إذا عابه وأصله تزتري فأبدلت التاء دالاً .
{ قَالُواْ يَا نُوحٌ قَدْ جَادَلْتَنَا } خاصمتنا { فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } في وعدك
.(2/19)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء } أي ليس الإتيان بالعذاب إليّ وإنما هو إلى من كفرتم به { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي لم تقدروا على الهرب منه { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى } هو إعلام موضع الغي ليتقي والرشد ليقتفي { ولكني } { إني } { نصحَي } مدني وأبو عمرو { إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } أي يضلكم وهذا شرط دخل على شرط فيكون الثاني مقدماً في الحكم لما عرف . تقديره : إن كان الله يريد أن يغويكم لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ، وهو دليل بين لنا في إرادة المعاصي { هُوَ رَبُّكُمْ } فيتصرف فيكم على قضية إرادته { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم على أعمالكم { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } بل أيقولون افتراه { قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } أي إن صح أني افتريته فعلي عقوبة إجرامي أي افترائي يقال أجرم الرجل إذا أذنب { وَأَنَاْ بَرِىء } أي ولم يثبت ذلك وأنا بريء منه . ومعنى { مّمَّا تُجْرَمُونَ } من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم
{ وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَم يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ }
إقناط من إيمانهم وأنه غير متوقع ، وفيه دليل على أن للإيمان حكم التجدد كأنه قال : إن الذي آمن يؤمن في حادث الوقت ، وعلى ذلك يخرج الزيادة التي ذكرت في الإيمان بالقرآن { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } فلا تحزن حزن بائس مستكين والابتئاس افتعال من البؤس وهو الحزن والفقر ، والمعنى فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك فقد حان وقت الانتقام من أعدائك .(2/20)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
{ واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا } هو في موضع الحال أي اصنعها محفوظاً وحقيقته ملتبساً بأعيننا كأن لله معه أعينا تكلؤه من أن يزيغ في صنعته عن الصواب { وَوَحينَا } وأنا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع . عن ابن عباس رضي الله عنهما : لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطير { وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ } ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } محكوم عليهم بالإغراق وقد قضى به وجف القلم فلا سبيل إلى كفه { وَيَصْنَعُ الفلك } حكاية حال ماضية { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } من عمله السفينة وكان يعملها في برية في أبعد موضع من الماء فكانوا يتضاحكون منه ويقولون له يا نوح صرت بحاراً بعدما كنت نبياً { قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } عند رؤية الهلاك { كَمَا تَسْخَرُونَ } منا عند رؤية الفلك . روي أن نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة من خشب الساج في سنتين وكان طولها ثلثمائة ذراع أو ألفاً ومائتي ذراع وعرضها خمسون ذراعاً ، أو ستمائة ذراع وطولها في السماء ثلاثون ذراعا وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام ، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام ، وركب نوح ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله حاجزاً بين الرجال والنساء { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ } «من» في محل النصب ب «تعلمون» أي فسوف تعلمون الذي يأتيه { عَذَابٌ يُخْزِيهِ } ويعني به إياهم ويريد بالعذاب عذاب الدنيا وهو الغرق { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ } وينزل عليه { عَذَابٌ مُّقِيمٌ } وهو عذاب الآخرة .(2/21)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
{ حتى } هي التي يبدأ بعدها الكلام أدخلت على الجملة من الشرط والجزاء وهي غاية لقوله { ويصنع الفلك } أي وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد ، وما بينهما من الكلام حال من { يصنع } أي يصنعها والحال أنه كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ، وجواب { كلما } { سخروا } { وقال } استئناف على تقدير سؤال سائل ، أو { قال } جواب و { سخروا } بدل من { مر } أو صفة ل { ملأ } { إِذَا جَاء أَمْرُنَا } عذابنا { وَفَارَ التنور } هو كناية عن اشتداء الأمر وصعوبته . وقيل : معناه جاش الماء من تنور الخبز ، وكان من حجر لحواء فصار إلى نوح عليه السلام . وقيل : التنور وجه الأرض { قُلْنَا احمل فِيهَا } في السفينة { مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين } تفسيره في سورة المؤمنين { وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } عطف على { اثنين } وكذا { وَمَنْ ءامَنَ } أي واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم ، واستثنى من أهله من سبق عليه القول إنه من أهل النار وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر بتقديره وإرادته جل خالق العباد عن أن يقع في الكون خلاف ما أراد { وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } قال عليه السلام : " كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم " وقيل : كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة . وقيل : كانوا اثنين وسبعين رجالاً ونساء وأولاد نوح : سام وحام ويافث ونساؤهم ، فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء { وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } { بسم الله } متصل ب { اركبوا } حالاً من الواو أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها ، إما لأن المجرى والمرسى للوقت ، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء حذف منهما الوقت المضاف كقولهم «خفوق النجم» ويجوز أن يكون { بسم الله مجرها ومرساها } جملة برأسها غير متعلقة بما قبلها وهي مبتدأ وخبر يعني أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أي باسم الله إجراؤها وإرساؤها ، وكان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست : { مجريها } بفتح الميم وكسر الراء من جرى إما مصدر أو وقت : حمزة وعلي وحفص ، وبضم الله الميم وكسر الراء : أبو عمرو ، والباقون : بضم الميم وفتح الراء { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ } لمن آمن منهم { رَّحِيمٌ } حيث خلصهم
.(2/22)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
{ وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ } متصل بمحذوف دل عليه { اركبوا فيها بسم الله } كأنه قيل : فركبوا فيها يقولون بسم الله وهي تجري بهم أي السفينة تجري وهم فيها { فِى مَوْجٍ كالجبال } يريد موج الطوفان وهو جمع موجة كتمر وتمرة وهو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه بدخول الرياح الشديدة في خلاله ، شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها { ونادى نُوحٌ ابنه } كنعان . وقيل : يام . والجمهور على أنه ابنه الصلبي . وقيل : كان ابن امرأته { وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ } عن أبيه السفينة «مفعل» من عزله عنه إذ نجاه وأبعده أو في معزل عن دين أبيه { يابنيى } بفتح الياء : عاصم ، اقتصاراً عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة من قولك «يا بنيا» . غيره بكسر الياء اقتصاراً عليه من ياء الإضافة { اركب مَّعَنَا } في السفينة أي أسلم واركب { وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين * قَالَ سَاوِى } ألجأ { إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء } يمنعني من الغرق { قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ } إلا الراحم وهو الله تعالى ، أو لا عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين ، وذلك أنه لما جعل الجبل عاصماً من الماء قال له لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد وهو مكان من رحم الله ونجاهم يعني السفينة ، أو هو استثناء منقطع كأنه قيل : ولكن من رحمه الله فهو المعصوم كقوله { مالهم به من علم إلا اتباع الظن } [ النساء : 157 ] { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج } بين ابنه والجبل أو بين نوح وابنه { فَكَانَ مِنَ المغرقين } فصار أو فكان في علم الله(2/23)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
{ وَقِيلَ ياأرض ابلعى مَاءكِ } انشفي وتشربي ، والبلع : النشف { وياسمآء أَقْلِعِى } أمسكي { وَغِيضَ الماء } نقص من غاضه إذا نقصه وهو لازم ومتعد { وَقُضِىَ الامر } وأنجز ما وعد الله نوحاً من إهلاك قومه { واستوت } واستقرت السفينة بعد أن طافت الأرض كلها ستة أشهر { عَلَى الجودى } وهو جبل بالموصل { وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ للظالمين } أي سحقاً لقوم نوح الذين غرقوا . يقال : بعد بعداً وبَعَداً إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ولذلك اختص بدعاء السوء
والنظر في هذه الآية من أربع جهات : من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول : إن الله تعالى لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغيض ، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضي ، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت ، وأبقينا الظلمة غرقى ، بني الكلام على تشبيه المراد بالأمر الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته العصيان ، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويراً لاقتداره العظيم ، وأن السماوات والأرض منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة لإرادته فيها تغييراً وتبديلاً كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته ، وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده . ثم بنى على تشبيه هذا نظم الكلام فقال عز وجل { وَقِيلَ } على سبيل المجاز على الإرادة الواقع بسببها قول القائل ، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو { يا أرض } { ويا سماء } ثم قال مخاطباً لهما { يا أرض } { ويا سماء } على سبيل الاستعارة للشبه المذكور ، ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو أعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي ، ثم استعار الماء للغذاء تشبيهاً له بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات كتقوي الآكل بالطعام ، ثم قال { ماءك } بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز لاتصال الماء بالأرض كاتصال الملك بالمالك ، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم التأني ، ثم قال { وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا } ولم يصرح بمن أغاض الماء ، ولا بمن قضى الأمر ، وسوى السفينة وقال بعداً ، كما لم يصرح بقائل { يا أرض } { ويا سماء } سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر وتكوين مكون قاهر ، وأن فاعلها واحد لا يشارك في فعله فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ، ولا أن يكون الغائض والقاضي والمسوي غيره .(2/24)
ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلماً لأنفسهم ، إظهاراً لمكان السخط وأن ذلك العذاب الشديد ما كان إلا لظلمهم .
ومن جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها ، وذلك أنه اختير «يا» دون أخواتها لكونها أكثر استعمالاً ، ولدلالتها على بعد المنادي الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة والملكوت وإبداء العزة والجبروت ، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به ، ولم يقل «يا أرضي» لزيادة التهاون إذ الإضافة تستدعي القرب ، ولم يقل «يا أيتها الأرض» للاختصار . واختير لفظ الأرض والسماء لكونهما أخف وأدور ، واختير { ابلعي } على «ابتلعي» لكونه أخصر وللتجانس بينه وبين { أقلعي } وقيل { أقلعي } ولم يقل «عن المطر»! وكذا لم يقل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ويا سماء أقلعي فأقلعت اختصاراً ، واختير { غيض } على «غيّض» وقيل «الماء» دون أن يقول «ماء الطوفان» و { الأمر } ولم يقل« أمر نوح وقومه» لقصد الاختصار والاستغناء بحرف العهد عن ذلك ، ولم يقل «وسويت على الجودي» أي أقرت على نحو { قيل } { وغيض } اعتباراً لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله { وهي تجري بهم } إرادة للمطابقة ، ثم قيل { بعداً للقوم } ولم يقل «ليبعد القوم» طلباً للتأكيد مع الاختصار . هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم ، وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل ، فذلك أنه قدم النداء على الأمر : ف { قيل يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي } ولم يقل «ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء» جرياً على مقتضى اللازم فيمن كان مأموراً حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصداً بذلك لمعنى الترسيخ ، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء وابتدأ به لابتداء الطوفان منها ، ثم اتبع { وغيض الماء } لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها ، ثم ذكر ما هو المقصود القصة وهو قوله { وقضي الأمر } أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء نوح ومن معه في الفلك وعلى هذا فاعتبر .
ومن جهة الفصاحة المعنوية وهي كما ترى نظم للمعاني لطيف ، وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد ولا التواء يشيّك الطريق إلى المرتاد ومن جهة الفصاحة اللفظية ، فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة ، سليمة عن التنافر ، بعيدة عن البشاعة ، عذبة على العذبات ، سلسة على الأسَلات ، كل منها كالماء في السلاسة ، وكالعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة ، ومن ثم أطبق المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية ، ولله در شأن التنزيل لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر ، ولا تظنن الآية مقصورة على المذكور فلعل المتروك أكثر من المسطور .(2/25)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ } نداؤه ربه دعاؤه له وهو قوله { رب } مع ما بعده من اقتضاء وعده في تنجية أهله { إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى } أي بعض أهلي لأنه كان ابنه من صلبه أو كان ربيباً له فهو بعض أهله { وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق } وإن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به ، وقد وعدتني أن تنجي أهلي فما بال ولدي { وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } أي أعلم الحكام وأعدلهم إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل . ورب غريق في الجهل والجور من متقلدي الحكومة في زمانك قد لقب أقضى القضاة ، ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر { قَالَ يَا نُوحٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } ثم علل لانتفاء كونه من أهله بقوله { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح } وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن نسيبك في دينك وإن كان حبشياً وكنت قرشياً لصيقك ، ومن لم يكن على دينك وإن كان أمسّ أقاربك رحماً فهو أبعد بعيد منك ، وجعلت ذاته عملاً غير صالح مبالغة في ذمه كقولها : فإنما هي إقبال وإدبار
أو التقدير : إنه ذو عمل ، وفيه إشعار بأنه إنما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم لا لأنهم أهله ، وهذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوته . { عمِل غير صالح } علي قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : كان عند نوح عليه السلام أن ابنه كان على دينه لأنه كان ينافق وإلا لا يحتمل أن يقول { ابني من أهلي } ويسأله نجاته ، وقد سبق منه النهي عن سؤال مثله بقوله { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } فكان يسأله على الظاهر الذي عنده كما كان أهل النفاق يظهرون الموافقة لنبينا عليه السلام ويضمرون الخلاف له ولم يعلم بذلك حتى أطلعه الله عليه ، وقوله { ليس من أهلك } أي من الذين وعدت النجاة لهم وهم المؤمنون حقيقة في السر والظاهر { فَلاَ تَسْأَلْنى } اجتزاء بالكسر عن الياء : كوفي { تسألْني } بصري { تسألّني } مدني { تسألَن } ِّ شامي فحذف الياء واجتزأ بالكسرة والنون نون التأكيد { تسألن } َّ مكي { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } بجواز مسألته { إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } هو كما نهى رسولنا بقوله { فلا تكونن من الجاهلين } { [ الأنعام : 35 ] قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } أي من أن أطلب منك من المستقبل ما لا علم لي بصحته تأدباً بأدبك واتعاظاً بموعظتك { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى } ما فرط مني { وَتَرْحَمْنِى } بالعصمة عن العود إلى مثله { أَكُن مّنَ الخاسرين قِيلَ يانوح اهبط بسلام مّنَّا } بتحية منا أو بسلامة من الغرق { وبركات عَلَيْكَ } هي الخيرات النامية وهي في حقه بكثرة ذريته وأتباعه ، فقد جعل أكثر الأنبياء من ذريته وأئمة الدين في القرون الباقية من نسله { وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ } «من» للبيان ، فتراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات أو قيل لهم أمم لأن الأمم تتشعب منهم ، أو لابتداء الغاية أي على أمم ناشئة ممن معك وهي الأمم إلى آخر الدهر وهو الوجه { وَأُمَمٌ } رفع بالابتداء { سَنُمَتّعُهُمْ } في الدنيا بالسعة في الرزق والخفض في العيش صفة والخبر محذوف تقديره ، وممن معك أمم سنمتعهم ، وإنما حذف لأن ممن معك يدل عليه { ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي في الآخرة ، والمعنى أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشؤون ممن معك .(2/26)
وممن معك أمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء ، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة ، وعن محمد بن كعب : دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إِلى يوم القيامة وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر .(2/27)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
{ تِلْكَ } إشارة إلى قصة نوح عليه السلام ومحلها الرفع على الابتداء والجمل بعدها وهي { مِنْ أَنْبَاء الغيب نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ } أخبار أي تلك القصة بعض أنباء الغيب موحاة إليك مجهولة عندك وعند قومك { مّن قَبْلِ هذا } الوقت أو من قبل إيحائي إليك وإخبارك بها { فاصبر } على تبليغ الرسالة وأذى قومك كما صبر نوح ، وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما كان لنوح وقومه { إِنَّ العاقبة } في الفوز والنصر والغلبة { لّلْمُتَّقِينَ } عن الشرك .
{ وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ } واحداً منهم ، وانتصابه للعطف على { أرسلنا نوحاً } أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم { هُودًا } عطف بيان { قَالَ يَا قََوْم اعبدوا الله } وحدوه { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } بالرفع : نافع صفة على محل الجار والمجرور ، وبالجر : عليّ على اللفظ { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } تفترون على الله الكذب باتخاذكم الأوثان له شركاء { ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الذى فَطَرَنِى } ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول لأن شأنهم النصيحة والنصيحة لا يمحضها إلا حسم المطامع ، وما دام يتوهم شيء منها لم تنجع ولم تنفع { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } إذ تردون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من الله وهو ثواب الآخرة ، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك .(2/28)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
{ ويَا قَوْمِ استغفروا رَبَّكُمْ } آمنوا به { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } من عبادة غيره { يُرْسِلِ السماء } أي المطر { عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً } حال أي كثير الدرر { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } إنما قصد استمالتهم إلى الإيمان بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين فكانوا أحوج شيء إلى الماء . وكانوا مدلين بما أوتوا من شدة البطش والقوة . وقيل : أراد القوة بالمال أو على النكاح . وقيل حبس عنهم القطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم فوعدهم هود عليه السلام المطر والأولاد على الإيمان والاستغفار . وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه وفد على معاوية ، فلما خرج قال له بعض حجابه : إني رجل ذو مال ولا يولد لي علمني شيئاً لعل الله يرزقني ولدا . فقال الحسن : عليك بالاستغفار ، فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة ، فولد له عشرة بنين ، فبلغ ذلك معاوية فقال : هلا سألته مم قال ذلك؟ فوفد وفدة أخرى فسأله الرجل فقال : ألم تسمع قول هود : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } وقول نوح : { ويمددكم بأموال وبنين } [ نوح : 12 ] { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ } ولا تعرضوا عني وعما أدعو إليه { مُّجْرِمِينَ } مصرين على إجرامكم وآثامكم
{ قَالُواْ يَا هُودٍ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ } كذب منهم وجحود كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } [ الرعد : 27 ] مع فوت آياته الحصر { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ } هو حال من من الضمير في { تاركي آلهتنا } كأنه قيل : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك فيما يدعوهم إليه أقناطاً له من الإجابة { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء } «إن» حرف نفي فنفى جميع القول إلا قولاً واحداً وهو قولهم { اعتراك } أصابك { بعض آلهتنا بسوء } بجنون وخبل وتقدير ما نقول قولًا إل هذه المقالة أي قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء { قَالَ إِنِى أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ }(2/29)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
أي من إشراككم آلهة من دونه ، والمعنى إني أشهد الله أني برىء مما تشركون واشهدوا أنتم أيضاً إني برىء من ذلك . وجىء به على لفظ الأمر بالشهادة كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه : أشهد على أني لا أحبك تهكما به واستهانة بحاله { فَكِيدُونِى جَمِيعًا } أنتم وآلهتكم { ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } لا تمهلون فإني لا أبالي بكم وبكيدكم ولا أخاف معرتكم وإن تعاونتم علي ، وكيف تضرني آلهتكم وما هي إلا جماد لا يضر ولا ينفع؟ وكيف تنتقم مني إذا نلت منها وصددت عن عبادتها بأن تخبلني وتذهب بعقلي؟ { إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } أي مالكها ، ولما ذكر توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم ، وصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم ، ومن كون كل دابة في قبضته وملكته وتحت قهره وسلطانه والأخذ بالناصية تمثيل لذلك { إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ } إن ربي على الحق لا يعدل عنه ، أو إن ربي يدل على صراط مستقيم { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ } هو في موضع فقد ثبتت الحجة عليكم { وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ } كلام مستأنف أي ويهلككم الله ويجىء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم { وَلاَ تَضُرُّونَهُ } بتوليكم { شَيْئاً } من ضرر قط إذ لا يجوز علي المضار وإنما تضرون أنفسكم { إِنَّ رَبّى على كُلّ شَىْء حَفِيظٌ } رقيب عليه مهيمن فما تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم ، أو من كان رقيباً على الأشياء كلها حافظاً لها وكانت الأشياء مفتقرة إلى حفظه عن المضار لم يضر مثله مثلكم .(2/30)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
{ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } وكانوا أربعة آلاف { بِرَحْمَةٍ مّنَّا } أي بفضل منا لا بعملهم أو بالإيمان الذي أنعمنا عليهم { وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } وتكرار { نجينا } للتأكيد أو الثانية من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه { تِلْكَ عَادٌ } إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال : سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا ، ثم استأنف وصف أحوالهم فقال : { جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله لا نفرق بين أحد من رسله { واتبعوا أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } يريد رؤساءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل لأنهم الذين يجبرون الناس على الأمور ويعاندون ربهم ومعنى اتباع أمرهم طاعتهم { وَأُتْبِعُواْ فِى هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة } لما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين { أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ } تكرار «ألا» مع النداء على كفرهم والدعاء عليهم تهويل لأمرهم وبعث على الاعتبار ، بهم والحذر من مثل حالهم ، والدعاء ب { بعدا } ً بعد هلاكهم وهو دعاء بالهلاك للدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له { قَوْمِ هُودٍ } عطف بيان { لعاد } وفيه فائدة لأن عادا عادان : الأولى القديمة التي هي قوم هود والقصة فيهم ، والأخرى إرم .
{ وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَالَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض } لم ينشئكم منها إلا هو وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب ثم خلقهم من آدم { واستعمركم فِيهَا } وجعلكم عمارها وأراد منكم عمارتها ، أو استعمركم من العمر أي أطال أعماركم فيها وكانت أعمارهم من ثلثمائة إلى ألف ، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار وعمروا الأعمار الطوال مع ما فيهم من الظلم فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم ، فأوحى الله إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي { فاستغفروه } فاسألوا مغفرته بالإيمان { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ } داني الرحمة { مُّجِيبٌ } لمن دعاه .(2/31)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
{ قَالُواْ يَا صالح قَدْ كُنتَ فِينَا } فيما بيننا { مَرْجُوّا قَبْلَ هذا } للسيادة والمشاورة في الأمور أو كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } حكاية حال ماضية { وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } من التوحيد { مُرِيبٍ } موقع في الريبة من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة { قَالَ ياقوم أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةً مّن رَّبّى وءاتانى مِنْهُ رَحْمَةً } نبوة ، أتى بحرف الشك مع أنه على يقين أنه على بينة لأن خطابه للجاحدين فكأنه قال قدروا أني على بينة من ربي ، وأنني نبي على الحقيقة وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره { فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله } فمن يمنعني من عذاب الله { إِنْ عَصَيْتُهُ } في تبليغ رسالته ومنعكم عن عبادة الأوثان { فَمَا تَزِيدُونَنِى } بقولكم : { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } { غَيْرَ تَخْسِيرٍ } بنسبتكم إياي إلى الخسار أو بنسبتي إياكم إلى الخسران .
{ ياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً } نصب على الحال قد عمل فيها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل و { لكم } متعلق { بآية } حالاً منها متقدمة ، لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها فلما تقدمت انتصبت على الحال { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله } أي ليس عليكم رزقها مع أن لكم نفعها { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء } عقر أو نحر { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } عاجل { فَعَقَرُوهَا } يوم الأربعاء { فَقَالَ } صالح { تَمَتَّعُواْ } استمتعوا بالعيش { فِى دَارِكُمْ } في بلدكم وتسمى البلاد الديار لأنه يدار فيها أي يتصرف أو في دار الدنيا { ثلاثة أَيَّامٍ } ثم تهلكون فهلكوا يوم السبت { ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } أي غير مكذوب فيه فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به ، أو وعد غير كذب على أن المكذوب مصدر كالمعقول .(2/32)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
{ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } بالعذاب أو عذابنا { نَجَّيْنَا صالحا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا } قال الشيخ رحمه الله : هذا يدل على أن من نجى إنما نجى برحمة الله تعالى لا بعمله كما قال عليه السلام : " لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله " { وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ } بإضافة الخزي إلى اليوم وانجرار اليوم بالإضافة . وبفتحها مدني وعلي ، لأنه مضاف إلى «إذ» وهو مبني ، وظروف الزمان إذا أضيفت إلى الأسماء المبهمة والأفعال الماضية بنيت واكتسبت البناء من المضاف إليه كقوله : على حين عاتبت المشيب على الصبا
والواو للعطف وتقديره : ونجيناهم من خزي يومئذ أي من ذله وفضيحته ، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وانتقامه . وجاز أن يريد ب { يومئذ } يوم القيامة كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوى } القادر على تنجية أوليائه { العزيز } الغالب بإهلاك أعدائه { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة } أي صيحة جبريل عليه السلام { فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ } منازلهم { جاثمين } ميتين { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } لم يقيموا فيها { ألا إن ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ } { ثمودَ } حمزة وحفص { أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ } { لِثَمُودٍ } علي : فالصرف للذهاب إلى الحي أو الأب الأكبر ، ومنعه للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة(2/33)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
{ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا } جبريل وميكائيل وإسرافيل أو جبريل مع أحد عشر ملكاً { إبراهيم بالبشرى } هي البشارة بالولد أو بهلاك قوم لوط والأول أظهر { قَالُواْ سَلاَماً } سلمنا عليك سلاماً { قَالَ سلام } أمركم سلام { سِلم } حمزة وعلي بمعنى السلام { فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ } فما لبث في المجيء به بل عجل فيه ، أو فما لبث مجيئه ، والعجل ولد البقرة : وكان مال إبراهيم البقر { حَنِيئذٍ } مشوي بالحجارة المحماة { فَلَمَّا رَءا أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } نكر وأنكر بمعنى وكانت عادتهم أنه إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوه وإلا خافوه . والظاهرة أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه أو لتعذيب قومه دليله قوله { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } أي أضمر منم خوفاً { قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ } بالعذاب ، وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيم أرسلوا ، وإنما قالوا { لا تخف } لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير في وجهه { وامرأته قَائِمَةٌ } وراء الستر تسمع تحاورهم أو على رؤوسهم تخدمهم { فَضَحِكَتْ } سروراً بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الخبائث ، أو من غفلة قوم لوط مع قرب العذاب ، أو فحاضت { فبشرناها بإسحاق } وخصت بالبشارة لأن النساء أعظم سروراً بالولد من الرجال ، ولأنه لم يكن لها ولد وكان لإبراهيم ولد وهو إسماعيل { وَمِن وَرَاء إسحاق } ومن بعده { يَعْقُوبَ } بالنصب : شامي وحمزة وحفص ، بفعل مضمر دل عليه فبشرناها أي فبشرناها بإسحاق ووهبنا لها يعقوب من وراء إسحاق . وبالرفع : غيرهم على الابتداء والظرف قبله خبر كما تقول «في الدار زيد» .
{ قَالَتْ ياويلتاى } الألف مبدلة من ياء الإضافة وقرأ الحسن يا ويلتي بالياء على الأصل { ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ } ابنة تسعين سنة { وهذا بَعْلِى شَيْخًا } ابن مائة وعشرين سنة ، { هذا } مبتدأ و { بعلي } خبره و { شيخا } ً حال ، والعامل معنى الإشارة التي دلت عليه ذا أو معنى التنبيه الذي دل عليه «هذا» { إِنَّ هذا لَشَىْء عَجِيبٌ } أن يولد ولد من هرمين وهو استبعاد من حيث العادة .(2/34)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
{ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } قدرته وحكمته . وإنما أنكرت الملائكة تعجبها لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوة ، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب وإلى ذلك أشارت الملائكة حيث قالوا { رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت } أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة فليست بمكان عجيب ، وهو كلام مستأنف علل به إنكار التعجب كأنه قيل : إياك والتعجب لأن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم . وقيل : الرحمة : النبوة ، والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم وأهل البيت نصب على النداء أو على الاختصاص { إِنَّهُ حَمِيدٌ } محمود بتعجيل النعم { مَّجِيدٌ } ظاهر الكرم بتأجيل النقم
{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع } الفزع وهو ما أوجس من الخيفة حين نكر أضيافه { وَجَاءتْهُ البشرى } بالولد { يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ } أي لما اطمأن قلبه بعد الخوف وملىء سروراً بسبب البشرى فرغ للمجادلة . وجواب { لما } محذوف تقديره أقبل يجادلنا ، أو { يجادلنا } جواب { لما } وإنما جيء به مضارعاً لحكاية الحال ، والمعنى يجادل رسلنا . ومجادلته إياهم أنهم قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية فقال : أرأيتم لو كان فيها خمسون مؤمناً أتهلكونها؟ قالوا : لا ، قال : فأربعون؟ قالوا : لا ، قال : فثلاثون؟ قالوا : لا حتى بلغ العشرة قالوا : لا قال : أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا : لا فعند ذلك قال { إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله } العنكبوت : 32 ) { إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ } غير عجول على كل من أساء إليه أو كثير الاحتمال ممن آذاه ، صفوح عمن عصاه { أَوَّاهٌ } كثير التأوه من خوف الله { مُّنِيبٌ } تائب راجع إلى الله ، وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة والرحمة فبين أن ذلك مما حمله على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع عنهم العذاب ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة كما حمله على الاستغفار لأبيه فقالت الملائكة .(2/35)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
{ يإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا } الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك { إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ } قضاؤه وحكمه { وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } لا يرد بجدال وغير ذلك عذاب مرتفع باسم الفاعل وهو { آتيهم } تقديره وإنهم يأتيهم . ثم خرجوا من عند إبراهيم متوجهين نحو قوم لوط وكان بين قرية إبراهيم وقوم لوط أربعة فراسخ .
{ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً } لما أتوه ورأى هيئاتهم وجمالهم { سِىء بِهِمْ } أحزن لأنه حسب أنهم إِنس فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } تمييز أي وضاق بمكانهم صدره { وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ } شديد . روي أن الله تعالى قال لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا : وما أمرهم؟ قال . أشهد الله إنها لشر قرية في الأرض عملاً . قال ذلك أربع مرات فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها . { وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } يسرعون كأنما يدفعون دفعاً { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات } ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش حتى مرنوا عليها وقل عندهم استقباحها فلذلك جاؤوا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء { قَالَ يَا قَوْمٌ هؤلاءآء بَنَاتِى } فتزوجوهن أراد أن يقي أضيافه ببناته وذلك غاية الكرم ، وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزاً في ذلك الوقت كما جاز في الابتداء في هذه الأمة ، فقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبه بن أبي لهب وأبي العاص وهما كافران . وقيل كان لهم سيدان مطاعان فأراد لوط أن يزوجهما ابنتيه { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } أحل { هؤلاء } مبتدأ { وبناتي } عطف بيان و { هن } فصل و { أطهر } خبر المبتدأ أو { بناتي } خبر و { هن أطهر } مبتدأ وخبر { فاتقوا الله } بإيثارهن عليهم { وَلاَ تُخْزُونِ } ولا تهينوني ولا تفضحوني من الخزي ، أو ولا تخجلوني من الخزاية وهي الحياء ، وبالياء : أبو عمرو في الوصل { فِى ضَيْفِى } في حق ضيوفي فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزى الرجل وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } أي رجل واحد يهتدي إلى طريق الحق وفعل الجميل والكف عن السوء .(2/36)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
{ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ } حاجة لأن نكاح الإناث أمر خارج عن فمذهبنا إتيان الذكران { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } عنوا إتيان الذكور وما لهم فيه من الشهوة { قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } جواب« لو» محذوف أي لفعلت بكم ولصنعت . والمعنى لو قويت عليكم بنفسي أو أويت إلى قوي أستند إليه وأتمنع به فيحميني منكم ، فشبه القوي العزيز بالركن من الجبل في شدته ومنعته . روي أنه أغلق بابه حين جاؤوا وجعل ترادّهم ما حكى الله عنه وتجادلهم . فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب .(2/37)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
{ قَالُواْ يا لُوطٍ } إن ركنك لشديد { إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ } فافتح الباب ودعنا وإياهم ، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام ربه في عقوبتهم فأذن له ، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم كما قال الله تعالى { فطمسنا أعينهم } [ القمر : 37 ] فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون : النجاء ، النجاء فإن في بيت لوط قوماً سحرة { لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } جملة موضحة للتي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصلوا إليه ولم يقدروا على ضرره { فَأَسْرِ } { فاسر } بالوصل : حجازي من سرى { بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ الليْلِ } طائفة منه أو نصفه { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } بقلبه إلى ما خلف أو لا ينظر إلى ما وراءه أو لا يتخلف منكم أحد { إِلاَّ امرأتك } مستثنى من { فأسر بأهلك } . وبالرفع : مكي وأبو عمرو على البدل من أحد ، وفي إخراجها مع أهله روايتان . روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي ، فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه . فأدركها حجر فقتلها . وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها فإنّ هواها إليهم فلم يسر بها ، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين
{ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ } أي إن الأمر . وروي أنه قال لهم متى موعد هلاكهم؟ قالوا : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح } فقال : أريد أسرع من ذلك فقالوا : { أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا } جعل جبريل عليه السلام جناحه في أسفلها أي أسفل قراها ، ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم وأتبعوا الحجارة من فوقهم وذلك قوله : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ } هي كلمة معربة من سنك كل بدليل قوله { حجارة من طين } ) الذاريات : 33 ) { مَّنْضُودٍ } نعت لسجيل أي متتابع أو مجموع معه للعذاب .(2/38)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
{ مُّسَوَّمَةً } نعت ل { حجارة { أي معلمة للعذاب . قيل : مكتوب على كل واحد اسم من يرمي به { عِندَ رَبّكَ } في خزائنه أو في حكمه { وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ } بشيء بعيد ، وفيه وعيد لأهل مكة فإن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرَض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة ، أو الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في مسايرهم .
{ وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً } هو اسم مدينتهم أو اسم جدهم مدين بن إبراهيم أي وأرسلنا شعيباً إلى ساكني مدين أو إلى بني مدين { قَالَ يَا قَوْمٌ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال } أي المكيل بالمكيال { والميزان } والموزون بالميزان { إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف ، أو أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون { وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } مهلك من قوله { وأحيط بثمره } [ الكهف : 42 ] وأصله من إحاطة العدو والمراد عذاب الاستئصال في الدنيا أو عذاب الآخرة { وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان } أتموهما { بالقسط } بالعدل . نهوا أولاً عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول لزيادة الترغيب فيه ، وجيء به مقيداً بالقسط أي ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية من غير زيادة ولا نقصان { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ } البخس : النقص ، كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء فنهوا عن ذلك { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ } العشى والعيث أشد الفساد نحو السرقة والغارة وقطع السبيل ، ويجوز أن يجعل البخس والتطفيف عثيا منهم في الأرض { بَقِيَّتُ الله } ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم { خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } بشرط أن تؤمنوا . نعم بقية الله خير للكفرة أيضاً لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس والتطفيف إلا أن فائدتها تظهر مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ولا تظهر مع عدمه لانغماس صاحبها في غمرات الكفر وفي ذلك تعظيم للإيمان وتنبيه على جلالة شأنه ، أو المراد إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح به إياكم { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } لنعمه عليكم فاحفظوها بترك البخس .(2/39)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
{ قَالُواْ يا شُعَيْبٌ أصلواتك } وبالتوحيد . كوفي غير أبي بكر { تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أموالنا مَا نشاؤا } كان شعيب عليه السلام كثير الصلوات وكان قومه يقولون له ما تستفيد بهذا؟ فكان يقول : إنها تأمر بالمحاسن وتنهى عن القبائح . فقالوا على وجه الاستهزاء أصلواتك تأمرك أن تأمرنا بترك عبادة ما كان يعبد آباؤنا ، أو أن نترك التبسط في أموالنا ما نشاء من إيفاء ونقص . وجاز أن تكون الصلوات آمرة مجازاً كما سماها الله تعالى ناهية مجازاً { إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد } أي السفية الضال وهذه تسمية على القلب استهزاء ، أو إنك حليم رشيد عندنا ولست تفعل بنا ما يقتضيه حالك { قَالَ ياقوم أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ } من لدنه { رِزْقًا حَسَنًا } يعني النبوة والرسالة أو مالاً حلالاً من غير بخس وتطفيف . وجواب أرأيتم محذوف أي أخبروني إن كنت على حجة واضحة من ربي وكنت نبياً على الحقيقة ، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي ، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ يقال : خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده . ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول : خالفني إلى الماء يريد ، أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذاهب عنه صادراً ، ومنه قوله : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَلِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح } ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهي عن المنكر { مَا استطعت } ظرف أي مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكناً منه لا آلو فيه جهداً { وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله } وما كوني موفقاً لإصابة الحق فيما آتى وآذر إلا بمعونته وتأييده { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } اعتمدت { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أرجع في السراء والضرآء . «جرم» مثل «كسب» في تعديه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين ومنه قوله :(2/40)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
{ وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم } أي لا يكسبنكم خلافي إصابة العذاب { مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالح } وهو الغرق والريح والرجفة { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ } في الزمان فهم أقرب الهالكين منكم ، أو في المكان فمنازلهم قريبة منكم أو فيما يستحق به الهلاك وهو الكفر والمساوىء . وسُوِّي في قريب وبعيد وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما { واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ } يغفر لأهل الجفاء من المؤمنين { وَدُودٌ } يحب أهل الوفاء من الصالحين { قَالُواْ يا شُعَيْبٌ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ } أي لا نفهم صحة ما تقول وإلا فكيف لا يفهم كلامه وهو خطيب الأنبياء { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا } لا قوة لك ولا عز فيما بيننا فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروهاً { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك } ولولا عشيرتك لقتلناك بالرجم وهو شر قتلة وكان رهطه من أهل ملتهم فلذلك أظهروا الميل إليهم والإكرام لهم { وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم ، وإنما يعز علينا رهطك لأنهم من أهل ديننا . وقد دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام واقع في الفاعل لا في الفعل كأنه قيل : وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا ولذلك(2/41)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
{ قَالَ } في جوابهم { ياقوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله } ولو قيل وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب . وإنما قال : { أرهطي أعز عليكم من الله } والكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه ، لأن تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله ، وحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله ألا ترى إلى قوله تعالى { من يطع الرسول فقد أطاع الله { } [ النساء : 80 ] } واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً } ونسيتموه وجعلتموه كالشيء المبنوذ وراء الظهر لا يعبأ به والظهري منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب كقولهم في النسبة إلى الأمس أمسى { إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } قد أحاط بأعمالكم علماً فلا يخفى عليه شيء منها .
{ وَيَا قَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } هي بمعنى المكان يقال : مكان ومكانة ومقام ومقامة ، أو مصدر من مكن مكانة فهومكين إذا تمكن من الشيء يعني اعملوا فارين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك ، والشنآن لي ، أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين لها { إِنّى عامل } على حسب ما يؤتيني الله من النصرة والتأييد ويمكنني { سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } «من» استفهامية معلقة لفعل العلم من عمله فيها كأنه قيل : سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه أي يفضحه ، وأينا هو كاذب . أو موصولة قد عمل فيها كأنه قيل : سوف تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب في زعمكم ودعواكم . وإدخال الفاء في { سوف } وصل ظاهر بحرف وضع للوصل ، ونزعها وصل تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا : فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال : سوف تعلمون . والإتيان بالوجهين للتفنن في البلاغة وأبلغهما الاستئناف { وارتقبوا } وانتظروا العاقبة وما أقول لكم { إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ } منتظر ، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب بمعنى الضارب ، أو بمعنى المراقب كالعشير بمعنى المعاشر ، أو بمعنى المرتقب كالرفيع بمعنى المرتفع .(2/42)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
{ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } صاح بهم جبريل صيحة فهلكوا . وإنما ذكر في آخر قصة عاد ومدين { ولما جاء } وفي آخر قصة ثمود ولوط { فلما جاء } لأنهما وقعا بعد ذكر الموعد وذلك قوله : { إن موعدهم الصبح } { ذلك وعد غير مكذوب } فجيء بالفاء الذي هو للتسبيب كقولك«وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت» . وأما الأخريان فقد وقعتا مبتدأتين فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة { فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين } الجاثم اللازم لمكانه لا يريم يعني أن جبريل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم بحيث هو بغتة { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين { أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ } البعد بمعنى البعد وهو الهلاك كالرشد بمعنى الرشد ألا ترى إلى قوله : { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } وَقرىء { كما بعُدت } والمعنى في البناءين واحد وهو نقيض القرب إلا أنهم فرقوا بين البعد من جهة الهلاك وبين غيره ، فغيروا البناء كما فرقوا بين ضماني الخير والشر فقالوا : وعد وأوعد .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بآياتنا وسلطان مُّبِينٍ } المراد به العصا لأنها أبهرها { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فاتبعوا } أي الملأ { أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } هو تجهيل لمتبعيه حيث تابعوه على أمره وهو ضلال مبين ، وذلك أنه ادعى الإلهية وهو بشر مثلهم ، وجاهر بالظلم والشر الذي لا يأتي إلا من شيطان ومثله بمعزل عن الألوهية . وفيه أنهم عاينوا الآيات والسلطان المبين وعلموا أن مع موسى الرشد والحق ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في أمره رشد قط ، أو المراد وما أمره بصالح حميد العاقبة ويكون قوله :(2/43)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة } أي يتقدمهم وهم على عقبه تفسيراً له وإيضاحاً أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته والرشد يستعمل في كل ما يحمد ويرتضى كما استعمل الغي في كل ما يذم ويقال قدَمه بمعنى تقدمه { فَأَوْرَدَهُمُ النار } أدخلهم . وجيء بلفظ الماضي لأن الماضي يدل على أمر موجود مقطوع به فكأنه قيل : يقدمهم فيوردهم النار لا محالة يعني كما كان قدوة لهم في الضلال كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه { وَبِئْسَ الورد } المورد و { المورود } الذي وردوه شبه بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء وشبه أتباعه بالواردة ثم قال : وبئس الورد المورود الذي يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش والنار ضده { وَأُتْبِعُواْ فِى هذه } أي الدنيا { لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة } أي يلعنون في الدنيا ويلعنون في الآخرة { بِئْسَ الرفد المرفود } رفدهم أي بئس العون المعان أو بئس العطاء المعطى { ذلك } مبتدأ { مِنْ أَنْبَاء القرى } خبر { نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعض أبناء القرى المهلكة مقصوص عليك { مِنْهَا } من القرى { قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } أي بعضها باق وبعضها عافي الأثر كالزرع القائم على ساقه والذي حصد والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب { وَمَا ظلمناهم } بإهلاكنا إياهم { ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بارتكاب ما به أهلكوا { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ } فما قدرت أن ترد عنهم بأس الله { التى يَدْعُونَ } يعبدون وهي حكاية حال ماضية { مِن دُونِ الله مِن شَىْء لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ } عذابه و { لما } منصوب ب { ما أغنت } { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } تخسير . يقال : تب إذا خسر وتببه غيره أوقعه في الخسران يعني وما أفادتهم عبادة غير الله شيئاً بل أهلكتهم .(2/44)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
{ وكذلك } محل الكاف الرفع أي ومثل ذلك الأخذ { أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القرى } أي أهلها { وَهِىَ ظالمة } حال من { القرى } { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } مؤلم شديد صعب على المأخوذ وهذا تحذير لكل قرية ظالمة من كفار مكة وغيرها فعلى كل ظالم أن يبادر التوبة ولا يغتر بالإمهال { إِنَّ فِى ذَلِكَ } فيما قص الله من قصص الأمم الهالكة { لآيَةً } لعبرة { لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة } أي اعتقد صحته ووجوده { ذلك } إشارة إلى يوم القيامة لأن عذاب الآخرة دل عليه { يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } وهو مرفوع بمجموع كما يرفع فعله إذا قلت يجمع له الناس . وإنما آثر اسم المفعول على فعله لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم . وإنه أثبت أيضاً لإسناد الجمع إلى الناس وأنهم لا ينفكون منه يجمعون للحساب والثواب والعقاب { وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } أي مشهود فيه فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد
{ وَمَا نُؤَخّرُهُ } أي اليوم المذكور . الأجل يطلق على مدة التأجيل كلها وعلى منتهاها ، والعد إنما هو للمدة لا لغايتها ومنتهاها ، فمعنى قوله { وما نؤخره } { إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ } إلا لانتهاء مدة معدودة بحذف المضاف ، أو ما نؤخر هذا اليوم إلا لتنتهي المدة التي ضربناها لبقاء الدنيا { يَوْمَ يَأْتِ } وبالياء مكي ، وافقه أبو عمرو ونافع وعلي في الوصل ، وإثبات الياء هو الأصل إذ لا علة توجب حذفها ، وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل ونظيره { مَا كُنَّا نَبْغِ } [ الكهف : 64 ] وفاعل { يأت } ضمير يرجع إلى قوله { يوم مجموع له الناس } لا اليوم المضاف إلى { يأت } و { يوم } منصوب باذكر أو بقوله { لاَ تَكَلَّمُ } أي لا تتكلم { نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي لا يشفع أحد إلا بإذن الله ، { مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] { فَمِنْهُمْ } الضمير لأهل الموقف لدلالة { لا تكلم نفس } عليه وقد مر ذكر الناس في قوله { مجموع له الناس } { شَقِيٌّ } معذب { وَسَعِيدٌ } أي ومنهم سعيد أي منعم .(2/45)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
{ فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } هو أول نهيق الحمار { وَشَهِيقٌ } هو آخره ، أو هما إخراج النفس ورده ، والجملة في موضع الحال والعامل فيها الاستقرار الذي في النار { خالدين فِيهَا } حال مقدرة { مَا دَامَتِ السماوات والأرض } في موضع النصب أي مدة دوام السماوات والأرض ، والمراد سماوات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد . والدليل على أن لها سماوات وأرضاً قوله { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } [ إبراهيم : 48 ] وقيل : ما دام فوق وتحت ولأنه لا بد لأهله الآخرة مما يقلهم ويظلهم إما سماء أو عرش وكل ما أظلك فهو سماء ، أو هو عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع كقول العرب : ما لاح كوكب ، وغير ذلك من كلمات التأبيد { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } هو استثناء من الخلود في عذاب النار ، وذلك لأن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده بل يعذبون بالزمهرير وأنواع من العذاب سوى عذاب النار ، أو ب { ما شاء } بمعنى من شاء وهم قوم يخرجون من النار ويدخلون الجنة فيقال لهم الجهنميون وهم المستثنون من أهل الجنة أيضاً لمفارقتهم إياها بكونهم في النار أياماً ، فهؤلاء لم يشقوا شقاوة من يدخل النار على التأبيد ، ولا سعدوا سعادة من لا تمسه النار ، وهو مروي عن ابن عباس والضحاك وقتادة رضي الله عنهم { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } بالشقي والسعيد { وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ } { سُعدوا } حمزة وعلي وحفص . سَعد لازم وسعَده يسعَده متعد { فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } هو استثناء من الخلود في نعيم الجنة وذلك أن لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وهو رؤية الله تعالى ورضوانه ، أو معناه إلا من شاء أن يعذبه بقدر ذنبه قبل أن يدخله الجنة . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الاستثناء في الآيتين لأهل الجنة » ومعناه ما ذكرنا أنه لا يكون للمسلم العاصي الذي دخل النار خلود في النار حيث يخرج منها ، ولا يكون له أيضاً خلود في الجنة لأنه لم يدخل الجنة ابتداء ، والمعتزلة لما لم يروا خروج العصاة من النار ردوا الأحاديث المروية في هذا الباب { وكفى به إثماً مبيناً } [ النساء : 50 ] { عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } غير مقطوع ولكنه ممتد إلى غير نهاية كقوله : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ الإنشقاق : 25 ] وهو نصب على المصدر أي أعطوا عطاء . قيل : كفرت الجهمية بأربع آيات { عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } . { أُكُلُهَا دَائِمٌ } [ الرعد : 35 ] { وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } [ النحل : 96 ] { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 33 ] لما قص الله قصص عبدة الأوثان وذكر ما أحل بهم من نقمه وما أعد لهم من عذابه قال :(2/46)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
{ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء } أي فلا تشك بعدما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادتهم لما أصاب أمثالهم قبلهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدة بالانتقام منهم ووعيداً . لهم ثم قال : { ما يعبدون إلاّ كَما يَعبدُ ءَابآؤهم من قَبلُ } يريد أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم ، وقد بلغك ما نزل بآبائهم فسينزلن بهم مثله ، وهو استئناف معناه تعليل النهي عن المرية و«ما» في { مما } و { كما } مصدرية أو موصولة أي من عبادتهم وكعبادتهم ، أو مما يعبدون من الأوثان ومثل ما يعبدون منها { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ } حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم أنصباءهم { غَيْرَ مَنقُوصٍ } حال من { نصيبهم } أي كاملاً
.(2/47)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } التوراة { فاختلف فِيهِ } آمن به قوم وكفر به قوم كما اختلف في القرآن وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } إنه لا يعاجلهم بالعذاب { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } بين قوم موسى أو قومك بالعذاب المستأصل { وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ } من القرآن أو من العذاب { مُرِيبٍ } من أراب الرجل إذا كان ذا ريبة على الإسناد المجازي { وَإِنَّ كُلاًّ } التنوين عوض عن المضاف إليه يعني وإن كلهم أي وإن جميع المختلفين فيه «وإن» مشددة { لَّمّاً } مخفف : بصري وعلي ، «ما» مزيدة جيء بها ليفصل بها بين لام «إن» ولام { لَيُوَفّيَنَّهُمْ } وهو جواب قسم محذوف ، واللام في { لما } موطئة للقسم والمعنى وإن جميعهم والله ليوفينهم { رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } أي جزاء أعمالهم من إيمان وجحود وحسن وقبيح . بعكس الأولى : أبو بكر ، مخففان : مكي ونافع على إعمال المخففة عمل الثقيلة اعتباراً لأصلها الذي هو التثقيل ، ولأن «إن» تشبه الفعل والفعل يعمل قبل الحذف وبعده نحو«لم يكن» «ولم يك» فكذا المشبه به مشددتان غيرهم وهو مشكل . وأحسن ما قيل فيه أنه من لممت الشيء جمعته لمَّا ، ثم وقف فصار «لما» ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وجاز أن يكون مثل الدعوى والثروى وما نفيه ألف التأنيث من المصادر . وقرأ الزهري { وإن كلا لما } بالتنوين كقوله : { أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 19 ] وهو يؤيد ما ذكرنا والمعنى ، وإن كلاً ملمومين أي مجموعين كأنه قيل : وإن كلاً جميعاً كقوله { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] وقال صاحب الإيجاز : «لما» فيه معنى الظرف وقد دخل في الكلام اختصار كأنه قيل : وإن كلاً لما بعثوا ليوفينهم ربك أعمالهم . وقال الكسائي : ليس لي بتشديد «لما» علم . { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .(2/48)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
{ فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها غير عادل عنها { وَمَن تَابَ مَعَكَ } معطوف على المستتر في { استقم } وجاز للفاصل يعني فاستقم أنت وليستقم من تاب عن الكفر ورجع إلى الله مخلصاً { وَلاَ تَطْغَوْاْ } ولا تخرجوا عن حدود الله { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فهو مجازيكم فاتقوه . قيل : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كانت أشق عليه من هذه الآية ولهذا قال : " شيبتني هود " { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } ولا تميلوا . قال الشيخ رحمه الله : هذا خطاب لأتباع الكفرة أي لا تركنوا إلى القادة والكبراء في ظلمهم وفيما يدعونكم إليه { فَتَمَسَّكُمُ النار } وقيل : الركون إليهم الرضا بكفرهم . وقال قتادة : ولا تلحقوا بالمشركين . وعن الموفق أنه صلى خلف الإمام فلما قرأ هذه الآية غشي عليه فلما أفاق قيل له فقال : هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم! وعن الحسن جعل الله الدين بين لاءين { ولا تطغوا } { ولا تركنوا } وقال سفيان : في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك . وعن الأوزاعي : ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه " ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برّية هل يسقى شربة ماء فقال : لا ، فقيل له : يموت قال : دعه يموت { وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء } حال من قوله { فتمسكم النار } أي فتمسكم النار وأنتم على هذه الحالة ، ومعناه وما لكم من دون الله من أولياء يقدرون على منعكم من عذابه ولا يقدر على منعكم منه غيره { ثم لا تنصرون } ثم لا ينصركم هو لأنه حكم بتعذيبكم . ومعنى «ثم» الاستبعاد أي النصرة من الله مستبعدة .(2/49)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
{ وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار } غدوة وعشية { وَزُلَفاً مِّنَ اليل } وساعات من الليل جمع زلفة وهي ساعاته القريبة من آخر النهار من أزلفه إذا قربه . وصلاة الغدوة الفجر ، وصلاة العشية الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي ، وصلاة الزلف المغرب والعشاء ، وانتصاب { طرفي النهار } على الظرف لأنهما مضافان إلى الوقت كقولك «أقمت عنده جميع النهار وأتيته نصف النهار وأوله وآخره» . تنصب هذا كله على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه { إِنَّ الحسنات يُذْهِبنَ السيئات } إن الصلوات الخمس يذهبن الذنوب وفي الحديث " إن الصلوات الخمس تكفر ما بينها من الذنوب " أو الطاعات . قال عليه السلام : " أتبع السيئة الحسنة تمحها " أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر { ذلك } إشارة إلى { فاستقم } فما بعده أو القرآن { ذكرى لِلذكِرِينَ } عظة للمتعظين . نزلت في عمرو بن غزية الأنصاري بائع التمر قال لامرأة : في البيت تمر أجود فدخلت فقبلها فندم فجاءه حاكياً باكياً فنزلت فقال عليه السلام : " هل شهدت معنا العصر " قال : نعم . قال : " هي كفارة لك " فقيل : أله خاصة؟ قال : " بل للناس عامة " { واصبر } على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه فلا يتم شيء منه إلا به { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } جاء بما هو مشتمل على جميع الأوامر والنواهي من قوله { فاستقم } إلى قوله { واصبر } وغير ذلك من الحسنات .(2/50)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
{ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ } فهلا كان وهو موضوع للتحضيض ومخصوص بالفعل { أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ } أولوا فضل وخير ، وسمي الفضل والجود بقية لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلاً في الجودة والفضل . ويقال : فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، ومنه قولهم : «في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا» { يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِى الأرض } عجب محمداً عليه السلام وأمته أن لم يكن في الأمم التي ذكر الله إهلاكهم في هذه السورة جماعة من أولىِ العقل والدين ينهون غيرهم عن الكفر والمعاصي { إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } استثناء منقطع أي ولكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي . و«من» في { ممن أنجينا } للبيان لا للتبعيض لأن النجاة للناهين وحدهم بدليل قوله : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ } [ الأعراف : 165 ] { واتبع الذين ظَلَمُواْ } أي التاركون للنهي عن المنكر ، وهو عطف على مضمر أي قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا شهواتهم فهو عطف على « نهوا» { مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ } أي أتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والترفه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهنيء ، ورفضوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونبذوه وراء ظهورهم { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } اعتراض وحكم عليهم بأنهم قوم مجرمون { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى } اللام لتأكيد النفي { بِظُلْمٍ } حال من الفاعل أي لا يصح أن يهلك الله القرى ظالماً لها { وَأَهْلُهَا } قوم { مُصْلِحُونَ } تنزيهًا لذاته عن الظلم . وقيل : الظلم الشرك أي لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون في المعاملات فيما بينهم لا يضمون إلى شركهم فساداً آخر { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } أي متفقين على الإيمان والطاعات عن اختيار ولكن لم يشأ ذلك . وقالت المعتزلة : وهي مشيئة قسر ، وذلك رافع للابتداء فلا يجوز { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } في الكفر والإيمان أي ولكن شاء أن يكونوا مختلفين لما علم منهم اختيار ذلك .(2/51)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
{ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } إلا ناساً عصمهم الله عن الاختلاف فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه { ولذلك خَلَقَهُمْ } أي ولما هم عليه من الاختلاف فعندنا خلقهم للذي علم أنهم سيصيرون إليه من اختلاف أو اتفاق ولم يخلقهم لغير الذي علم أنهم سيصيرون إليه ، كذا في شرح التأويلات { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ } وهي قوله للملائكة لأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } لعلمه بكثرة من يختار الباطل .
{ وَكُلاًّ } التنوين فيه عوض من المضاف إليه كأنه قيل : وكل نبأ وهو منصوب بقوله { نَقُصُّ عَلَيْكَ } وقوله : { مِنْ أَنْبَاء الرسل } بيان لكل وقوله : { مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } بدل من { كلا } { وَجَاءكَ فِى هذه الحق } أي في هذه السورة أو في هذه الأنباء المقتصة ما هو حق { وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } ومعنى تثبيت فؤاده زيادة يقينه لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب { وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } من أهل مكة وغيرهم { اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } على حالكم وجهتكم التي أنتم عليها { إِنَّا عَامِلُونَ } على مكانتنا { وانتظروا } بنا الدوائر { إِنَّا مُنتَظِرُونَ } أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله تعالى من النقم النازلة بأشباهكم { وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض } لا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما فلا تخفى عليه أعمالكم { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ } فلا بد أن يرجع إليه أمرهم وأمرك فينتقم لك منهم . { يُرجع } نافع وحفص { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فإنه كافيك وكافلك { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } وبالتاء : مدني وشامي وحفص ، أي أنت وهم على تغليب المخاطب . قيل : خاتمة التوراة هذه الآية وفي الحديث « من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى » .(2/52)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
{ الر تِلْكَ ءايَاتُ الكتاب المبين } { تلك } إشارة إلى آيات هذه السورة ، و { الكتاب المبين } السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب ، أو التي تبين لمن تدبَّرها أنها من عند الله لا من عند البشر ، أو الواضحة التي لا تشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم ، أو قد أبيِّن فيها ما سألت عنه اليهود من قصة يوسف عليه السلام ، فقد رُوي أن علماء اليهود قالوا للمشركين : سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف عليه السلام { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا } أي أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف عليه السلام في حال كونه قرآناً عربياً ، وسمي بعض القرآن قرآنا لأنه اسم جنس يقع على كله وبعضه { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لكي تفهموا معانيه { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته } [ فصلت : 44 ] { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } نبين لك أحسن البيان . والقاص الذي يأتي بالقصة على حقيقتها عن الزجاج ، وقيل : القصص يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص نقول : قص الحديث يقصه قصصاً ، ويكون فعلاً بمعنى مفعول كالنفض والحسب ، فعلى الأول معناه نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان } أي بإيحائنا إليك هذه السورة على أن يكون { أحسن } منصوباً نصب المصدر لإضافته إليه والمقصوص محذوف لأن { بما أوحينا إليك هذا القرآن } مغن عنه . والمراد بأحسن الاقتصاص أنه اقتص على أبدع طريقة وأعجب أسلوب فإنك لا ترى اقتصاصه في كتب الأولين مقارباً لاقتصاصه في القرآن . وإن أريد بالقصص المقصوص فمعناه نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث ، وإنما كان أحسن لما يتضمن من العبر والحكم والعجائب التي ليس في غيره . والظاهر أنه أحسن ما يقتص في بابه كما يقال «فلان أعلم الناس» أي في فنه ، واشتقاق القصص من قص أثره إذا تبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئاً فشيئاً { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ } الضمير يرجع إلى { ما أوحينا } { لَمِنَ الغافلين } عنه «إن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية يعني وإن الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الجاهلين به
.(2/53)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
{ إِذْ قَالَ } بدل اشتمال من { أحسن القصص } لأن الوقت مشتمل على القصص أو التقدير : أذكر إذ قال { يُوسُفَ } اسم عبراني لا عربي إذ لو كان عربياً لانصرف لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف { لأَبِيهِ } يعقوب { يَاأبَتِي } { أبتَ } شامي وهي تاء تأنيث عوضت عن ياء الإضافة لتناسبهما ، لأن كل واحدة منهما زائدة في آخر الاسم ولهذا قلبت هاء في الوقف . وجاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر كما في رجل ربعة ، وكسرت التاء لتدل على الياء المحذوفة . ومن فتح التاء فقد حذف الألف من «يا أبتا» واستبقى الفتحة قبلها كما فعل من حذف الياء في «يا غلام» { إِنّى رَأَيْتُ } من الرؤيا لا من الرؤية { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا } أسماؤها ببيان النبي عليه السلام : جريان والذيال والطارق وقابس وعمودان والفليق والمصبح والصروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين { والشمس والقمر } هما أبواه أو أبوه وخالته والكواكب إخوته . قيل : الواو بمعنى «مع» أي رأيت الكواكب مع الشمس والقمر . وأجريت مجرى العقلاء في { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } لأنه وصفها بما هو المختص بالعقلاء وهو السجود وكررت الرؤيا لأن الأولى تتعلق بالذات والثانية بالحال ، أو الثانية كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له كأن أباه قال له : كيف رأيتها؟ فقال : رأيتهم لي ساجدين أي متواضعين وهو حال ، وكان ابن ثنتي عشرة سنة يومئذ وكان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة أو ثمانون .(2/54)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
{ قَالَ يَا بَنِي } بالفتح حيث كان . حفص { لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ } هي بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة ، وفرق بينهما بحر في التأنيث كما في القربة والقربى { على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ } جواب النهي أي إن قصصتها عليهم كادوك . عرف يعقوب عليه السلام أن الله يصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين فخاف عليه حسد الإخوة . وإنما لم يقل فيكيدوك كما قال { فيكدوني } [ هود : 55 ] لأنه ضمن معنى فعل يتعدى باللام ليفيد معنى فعل الكيد مع إفادة معنى الفعل المضمن فيكون آكد وأبلغ في التخويف وذلك نحو «فيحتالوا لك» ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر وهو { كَيْدًا إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة فيحملهم على الحسد والكيد .
{ وكذلك } ومثل ذلك الاجتباء الذي دلت عليه رؤياك { يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } يصطفيك ، والاجتباء الاصطفاء افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك ، وجبيت الماء في الحوض جمعته { وَيُعَلّمُكَ } كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل : وهو يعلمك { مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } أي تأويل الرؤيا ، وتأويلها عبارتها وتفسيرها وكان يوسف أعبر الناس للرؤيا ، أو تأويل أحاديث الأنبياء وكتب الله وهو اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى ءالِ يَعْقُوبَ } بأن وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة أي جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكاً ، ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة . وآل يعقوب أهله وهم نسله وغيرهم ، وأصل آل أهل بدليل تصغيره على« أهيل» إلا أنه لا يستعمل إلا فيمن له خطر ، يقال آل النبي وآل الملك ولا يقال آل الحجام ، ولكن أهله ، وإنما علم يعقوب أن يوسف يكون نبياً وإخوته أنبياء استدلالاً بضوء الكواكب فلذا قال { وعلى آل يعقوب } { كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ } أراد الجد وأبا الجد { إبراهيم وإسحاق } عطف بيان ل { أبويك } { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ } يعلم من يحق له الاجتباء { حَكِيمٌ } يضع الأشياء في مواضعها .(2/55)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
{ لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ } أي في قصتهم وحديثهم { ءايات } علامات ودلالات على قدرة الله وحكمته في كل شيء . { آية } مكي { لّلسَّائِلِينَ } لمن سأل عن قصتهم وعرفها ، أو آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب ، وأسماؤهم : يهوذا وروبين وشمعون ولاوي وزبولون ويشجر وأمهم ليا ليان ، ودان ونفتالي وجاد وآشر من سريتين زلفة وبلهة ، فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف .
{ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىَّ أَبِينَا مِنَّا } اللام لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة ، أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر ثابت لاشبهة فيه . وإنما قالوا { وأخوه } وهم إخوته أيضاً لأن أمهما كانت واحدة ، وإنما قيل { أحب } في الاثنين لأن أفعل من لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ولا بين المذكر والمؤنث ، ولا بد من الفرق مع لام التعريف وإذا أضيف ساغ الأمران . والواو في { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } للحال أي أنه يفضلهما في المحبة علينا وهما صغيران لا كفاية فيهما ونحن عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقه ، فنحن أحق بزيادة المحبة منهما لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما { إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضلال مُّبِينٍ } غلط في تدبير أمر الدنيا ولو وصفوه بالضلالة في الدين لكفروا . والعصبة العشرة فصاعدا { اقتلوا يُوسُفَ } من جملة ما حكى بعد قوله { إذ قالوا } كأنهم أطبقوا على ذلك إلا من قال : لا تقتلوا يوسف وقيل : الآمر بالقتل شمعون والباقون كانوا راضين فجعلوا آمرين { أَوِ اطرحوه أَرْضًا } منكورة مجهولة بعيدة عن العمران وهو معنى تنكيرها وإخلائها عن الوصف ولهذا الإبهام نصبت نصب الظروف المبهمة { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم ، والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم ، لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه ، وجاز أن يراد بالوجه الذات كما قال { ويبقى وجه ربك } [ الرحمن : 27 ] { وَتَكُونُواْ } مجزوم عطفاً على { يخل لكم } { مِن بَعْدِهِ } من بعد يوسف أي من بعد كفايته بالقتل أو التغريب ، أو من بعد قتله أو طرحه فيرجع الضمير إلى مصدر «اقتلوا» أو «اطرحوا» { قَوْمًا صالحين } تائبين إلى الله مما جنيتم عليه أو يصلح حالكم عند أبيكم .(2/56)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
{ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ } هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأياً { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } فإن القتل عظيم { وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب } في قعر البئر وما غاب منه عن عين الناظر . غيابات وكذا ما بعده : مدني { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق { إِن كُنتُمْ فاعلين } به شيئاً { قَالُواْ يأَبَانَا مالك لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لناصحون } أي لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونشفق ، عليه وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعادته في حفظه منهم وفيه دليل على أنه أحسن منهم ، بما أوجب أن لا يأمنهم عليه { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ } نرتع نتسع في أكل الفواكه وغيرها والرتعة السعة { وَيَلْعَبْ } ونلعب نتفرج بما يباح كالصيد والرمي والركض . بالياء فيهما مدني وكوفي ، وبالنون فيهما : مكي وشامي وأبو عمرو ، وبكسر العين : حجازي من ارتعى يرتعي افتعال من الرعي { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } من أن يناله مكروه .(2/57)
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
{ قَالَ إِنّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } أي يحزنني ذهابكم به واللام لام الابتداء { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافلون } اعتذر إليهم بأن ذهابهم به مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة وأنه يخاف عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم { قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب } اللام موطئة للقسم والقسم محذوف تقديره والله لئن أكله الذئب . والواو في { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } أي فرقة مجتمعة مقتدرة على الدفع للحال { إِنَّا إِذَا لخاسرون } جواب للقسم مجزىء عن جزاء الشرط أي إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا إذا وخسرناها ، وأجابوا عن عذره الثاني دون الأول لأن ذلك كان يغيظهم .
{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب } أي عزموا على إلقائه في البئر وهي بئر على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب عليه السلام ، وجواب «لما» محذوف تقديره فعلوا به ما فعلوا من الأذى ، فقد روي أنهم لما برزوا به إلى البرية أظهروا له العداوة وضربوه وكادوا يقتلونه فمنعهم يهوذا ، أرداوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم فيحتالوا به على أبيهم ودلوه في البئر ، وكان فيها ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي وكان يهوذا يأتيه بالطعام . ويروى أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف فأخرجه جبريل وألبسه إياه { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ } قيل : أوحي إليه في الصغر كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهما السلام . وقيل : كان إذ ذاك مدركاً { لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا } أي لتحدثن إخوتك بما فعلوا بك { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنك يوسف لعلو شأنك وكبرياء سلطانك ، وذلك أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون ، دعا بالصواع فوضعه على يديه ثم نقره فطن فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف وأنكم ألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيه أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس ، أو يتعلق { وهم لا يشعرون } ب { أوحينا } أي آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوحشة ولا يشعرون بذلك . }(2/58)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
{ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاء } للاستتار والتجسر على الاعتذار { يَبْكُونَ } حال عن الأعمش لا تصدق باكية بعد إخوة يوسف ، فلما سمع صوتهم فزع وقال ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا : لا . قال : فما بالكم وأين يوسف؟ { قَالُواْ يا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي نتسابق في العدو أو في الرمي . والافتعال والتفاعل يشتركان كالإرتماء والترامي وغير ذلك { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا فَأَكَلَهُ الذئب وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } بمصدق لنا { وَلَوْ كُنَّا صادقين } ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا؟! { وَجَاءوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب هو الكذب بعينه والزور بذاته . رُوي أنهم ذبحوا سخلة ولطخوا القميص بدمها وزل عنهم أن يمزقوه ، ورُوي أن يعقوب عليه السلام لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال : أين القيمص ، فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم ، من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه . وقيل : كان في قميص يوسف ثلاث آيات كان دليلاً ليعقوب على كذبهم { وألقاه على وجهه فارتد بصيراً } ودليلاً على براءة يوسف حين قد من دبره . ومحل { على قميصه } النصب على الظرف كأنه قيل : وجاؤا فوق قميصه بدم { قَالَ } يعقوب عليه السلام { بَلْ سَوَّلَتْ } زينت أو سهلت { لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } عظيماً ارتكبتموه { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } خبر أو مبتدأ لكونه موصوفاً أي فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل وهو ما لا شكوى فيه إلى الخلق { والله المستعان } أي استعينه { على } احتمال { مَا تَصِفُونَ } من هلاك يوسف والصبر على الرزء فيه .(2/59)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
{ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ } رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب ، فأخطأوا الطريق فنزلوا قريباً منه ، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران وكان ماؤه ملحاً فعذب حين ألقي فيه يوسف { فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ } هو الذي يرد الماء ليستقي للقوم اسمه مالك بن ذعر الخزاعي { فأدلى دَلْوَهُ } أرسل الدلو ليملأَها فتشبث يوسف بالدلو فنزعوه { قَالَ بُشْرىً } كوفي نادى البشرى كأنه يقول : تعالى فهذا أوانك . غيرهم { بشراي } على إضافتها لنفسه أو هو اسم غلامه فناداه مضافاً إلى نفسه { هذا غُلاَمٌ } قيل : ذهب به فلما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به { وَأَسَرُّوهُ } الضمير للوارد وأصحابه أخفوه من الرفقة ، أو لأخوة يوسف فإنهم قالوا للرفقة : هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه { بضاعة } حال أي أخفوه متاعاً للتجارة ، والبضاعة ما بضع من المال للتجارة أي قطع { والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } بما يعمل أخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنيع { وَشَرَوْهُ } وباعوه { بِثَمَنٍ بَخْسٍ } مبخوس ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً أو زيف { دراهم } بدل من { ثمن } { مَّعْدُودَةً } قليلة تعد عداً ولا توزن لأنهم كانوا يعدون ما دون الأربعين ويزنون الأربعين وما فوقها وكانت عشرين درهماً { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهدين } ممن يرغب عما في يده فيبيعه بالثمن الطفيف ، أو معنى { وشروه } واشتروه يعني الرفقة من إخوته { وكانوا فيه من الزاهدين } أي غير راغبين لأنهم اعتقدوا أنه آبق . ويُروى أن إخوته اتبعوهم وقالوا : استوثقوا منه لا يأبق . و { فيه } ليس من صلة { الزاهدين } أي غير راغبين لأن الصلة لا تتقدم على الموصول ، وإنما هو بيان كأنه قيل : في أي شيء زهدوا؟ فقال : زهدوا فيه .(2/60)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
{ وَقَالَ الذى اشتراه مِن مّصْرَ } هو قطفير وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر والملك يومئذ الريان بن الوليد وقد آمن بيوسف ومات في حياته واشتراه العزيز برَنته ورقاً وحريراً ومسكاً وهو ابن سبع عشرة سنة ، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة ، وآتاه الله الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة { لاِمْرَأَتِهِ } راعيل أو زليخا واللام متعلقة ب { قال } لا ب { اشتراه } { أَكْرِمِى مَثْوَاهُ } اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً أي حسنا مرضياً بدليل قوله { إنه ربي أحسن مثواي } وعن الضحاك : بطيب معاشه ولين لباسه ووطىء فراشه { عسى أَن يَنفَعَنَا } لعله إذا تدرب وراض الأمور وفهم مجاريها نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } أو نتبناه ونقيمه مقام الولد ، وكان قطفير عقيماً وقد تفرس فيه الرشد فقال ذلك { وكذلك } إشارة إلى ما تقدم من إنجائه وعطف قلب العزيز عليه . والكاف منصوب تقديره ومثل ذلك الإنجاء والعطف { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } أي كما أنجيناه وعطَّفنا عليه العزيز كذلك مكنا له { فِي الأرض } أي أرض مصر وجعلناه ملكاً يتصرف فيها بأمره ونهيه { وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } كان ذلك الإنجاء والتمكين { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } لا يمنع عما شاء أو على أمر يوسف بتبليغه ما أراد له دون ما أراد إخوته { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } منتهى استعداد قوته وهو ثمان عشرة سنة أو إحدى وعشرون { آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } حكمة وهو العلم مع العمل واجتناب ما يجهل فيه أو حكماً بين الناس وفقهاً { وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } تنبيه على أنه كان محسناً في عمله متقياً في عنفوان أمره .(2/61)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
{ وَرَاوَدَتْهُ التى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } أي طلبت يوسف أن يواقعها والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب كأن المعنى خادعته عن نفسه أي فعلت فعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه ، وهي عبارة عن التحمل لمواقعته إياها { وَغَلَّقَتِ الأبواب } وكانت سبعة { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } هو اسم لتعال وأقبل وهو مبني على الفتح { هيتُ } مكي بناه على الضم ، { هِيتَ } مدني وشامي واللام للبيان كأنه قيل لك أقول هذا كما تقول هلم لك { قَالَ مَعَاذَ الله } أعوذ بالله معاذاً { إنَّهُ } أي إن الشأن والحديث { رَبّي } سيدي ومالكي يريد قطفير { أَحْسَنَ مَثْوَايَّ } حين قال لك { أكرمي مثواه } فما جزاؤه أن إخوته في أهله { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } الخائبون أو الزناة ، أو أراد بقوله { إنه ربي } الله تعالى لأنه مسبب الأسباب { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } هم عزم { وَهَمَّ بِهَا } هم الطباع مع الامتناع قاله الحسن . وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله : وهم بها هم خطرة ولا صنع للعبد فيما يخطر بالقلب ولا مؤاخذة عليه ، ولو كان همه كهمها لما مدحه الله تعالى بأنه من عباده المخلصين . وقيل : همَّ بها وشارف أن يهم بها ، يقال : هم بالأمر إذا قصده وعزم عليه . وجواب { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } محذوف أي لكان ما كان . وقيل : { وهمّ بها } جوابه ولا يصح ، لأن جواب « لولا» لا يتقدم عليها لأنه في حكم الشرط وله صدر الكلام والبرهان الحجة . ويجوز أن يكون { وهم بها } داخلاً في حكم القسم في قوله { ولقد همت به } ويجوز أن يكون خارجاً . ومن حق القارىء إذا قدر خروجه من حكم القسم وجعله كلاماً برأسه أن يقف على { به } ويبتدىء بقوله { وهم بها } وفيه أيضاً إشعار بالفرق بين الهمين . وفسر همَّ يوسف بأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها ، وفسر البرهان بأنه سمع صوتاً إياك وإياها مرتين فسمع ثالثاً أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضاً على أنملته ، وهو باطل ، ويدل على بطلانه قوله { هي روادتني عن نفسي } ولو كان ذلك منه أيضاً لما برأ نفسه من ذلك ، وقوله { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } ولو كان كذلك لم يكن السوء مصروفاً عنه وقوله { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } ولو كان كذلك لخانه بالغيب ، وقوله { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء } { الآن حصص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } ولأنه لو وجد منه ذلك لذكرت توبته واستغفاره كما كان لآدم ونوح وذي النون وداود عليهم السلام ، وقد سماه الله مخلصاً فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام وجاهد نفسه مجاهدة أولي العزم ناظراً في دلائل التحريم حتى استحق من الله الثناء . ومحل الكاف في { كذلك } نصب أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه ، أو رفع أي الأمر مثل ذلك { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء } خيانة السيد
{ والفحشاء } الزنا { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } بفتح اللام حيث كان : مدني وكوفي أي الذين أخلصهم الله لطاعته ، وبكسرها غيرهم أي الذين أخلصوا دينهم لله . ومعنى { من عبادنا } بعض عبادنا أي هومخلص من جملة المخلصين .(2/62)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
{ واستبقا الباب } وتسابقا إلى الباب ، هي للطلب وهو للهرب ، على حذف الجار وإيصال الفعل كقوله { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] أو على تضمين { استبقا } معنى ابتدارا ففر منها يوسف فأسرع يريد الباب ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج ووحد الباب وإن كان جمعه في قوله { وغلقت الأبواب } لأنه أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار ولما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } اجتذبته من خلفه فانقد أي انشق حين هرب منها إلى الباب وتبعته تمنعه { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لُّدّاً الباب } وصادفا بعلها قطفير مقبلاً يريد أن يدخل ، فلما رأته احتالت لتبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة ولتخويف يوسف طمعاً في أن يواطئها خيفة منها ومن مكرها حيث { قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } «ما» نافيه أي ليس جزاؤه إلا السجن أو عذاب أليم وهو الضرب بالسياط ، ولم تصرح بذكر يوسف وأنه أراد بها سوءً لأنها قصدت العموم أي كل من أراد بأهلك سوءاً فحقه أن يسجن أو يعذب ، لأن ذلك أبلغ فيما قصدت من تخويف يوسف . ولما عرضته للسجن والعذاب ووجب عليه الدفع عن نفسه .(2/63)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
{ قَالَ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى } لولا ذلك لكتم عليها ولم يفضحها { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا } هو ابن عم لها ، وإنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها لتكون أوجب للحجة عليها وأوثق لبراءة يوسف . وقيل : كان ابن خال لها وكان صبياً في المهد . وسمي قوله شهادة لأنه أدى مؤدى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكاذبين وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصادقين } والتقدير : وشهد شاهد فقال : إن كان قميصه : وإنما دل قدّ قميص من قبل على أنها صادقة لأنه يسرع خلفها ليلحقها فيعثر في مقادم قميصه فيشقه ، ولأنه يقبل عليها وهي تدفعه عن نفسه فيتخرق قميصه من قبل . وأما تنكير { قبل } و { دبر } فمعناه من جهة يقال لها قبل ومن جهة يقال لها دبر ، وإنما جمع بين «إن» التي للاستقبال وبين «كان» لأن المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قد .
{ فَلَماَّ رَأَى } قطفير { قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها
{ قَالَ إِنَّهُ } إن قولك { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } أو إن هذا الأمر وهو الاحتيال لنيل الرجال { مِن كَيْدِكُنَّ } الخطاب لها ولأمتها { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } لأنهن ألطف كيداً وأعظم حيلة وبذلك يغلبن الرجال ، والقصريات منهن معهن ما ليس مع غيرهن من البوائق . وعن بعض العلماء : إني أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان ، لأن الله تعالى قال : { إِنَّ كَيْدَ الشيطان ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] وقال لهن { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } { يُوسُفَ } حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث ، وفيه تقريب له وتلطيف لمحله { أَعْرِضْ عَنْ هذا } الأمر واكتمه ولا تتحدث به . ثم قال لراعيل { واستغفرى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين } من جملة القوم المتعمدين للذنب . يقال : خطىء إذا أذنب متعمداً ، وإنما قال بلفظ التذكير تغليباً للذكر على الإناث ، وكان العزيز رجلاً حليماً قليل الغيرة حيث اقتصر على هذا القول .
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ } جماعة من النساء وكن خمساً : امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب . والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثها غير حقيقي ولذا لم يقل قالت وفيه لغتان كسر النون وضمها { فِى المدينة } في مصر { امرأت العزيز } يردن قطفير ، والعزيز الملك بلسان العرب { تُرَاوِدُ فتاها } غلامها يقال فتاي وفتاتي أي غلامي وجاريتي { عَن نَّفْسِهِ } لتنال شهوتها منه { قَدْ شَغَفَهَا حُبّا } تمييز أي قد شغفها حبه يعني خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد ، والشغاف حجاب القلب أو جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب { إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضلال مُّبِينٍ } في خطأ وبعد عن طريق الصواب { فَلَمَّا سَمِعَتْ } راعيل { بِمَكْرِهِنَّ } باغتيابهن وقولهن امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ومقتها .(2/64)
وسمي الاغتياب مكراً لأنه في خفية وحال غيبة كما يخفي الماكر مكره . وقيل كانت استكتمتهن سرها فأفشينه عليها { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } دعتهن . قيل : دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات { وَأَعْتَدَتْ } وهيأت افتعلت من العتاد { لَهُنَّ مُتَّكَئاً } ما يتكئن عليه من نمارق قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن أن يدهشن عند رؤيته ويشغلن عن نفوسهن فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها . لأن المتكىء إذا بهت لشيء وقعت يده على يده { وآتت كل واحدة منهن سكيناً } وكانوا لا يأكلون في ذلك الزمان إلا بالسكاكين كفعل الأعاجم { وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ } بكسر التاء : بصري وعاصم وحمزة ، وبضمها غيرهم .
{ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق ، وكان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء ، وكان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران ، وكان يشبه آدم يوم خلقه ربه . وقيل : ورث الجمال من جدته سارة . وقيل { أكبرن } بمعنى حضن والهاء للسكت ، إذ لا يقال النساء قد حضنه لأنه لا يتعدى إلى مفعول ، يقال : أكبرت المرأة حاضت ، وحقيقته دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله :
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
{ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } وجرحنها كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي تريد جرحتها أي أردن أن يقطعن الطعام الذي في أيديهن فدهشن لما رأينه فخدشن أيديهن { وَقُلْنَ حاش لِلَّهِ } «حاشا» كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء تقول : أساء القوم حاشا زيد . وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة ، فمعنى حاشا لله براءة الله وتنزيه الله . وقراءة أبي عمرو «حاشا لله» نحو قولك سقيا لك ، كأنه قال براءة ، ثم قال : الله ، لبيان من يبرأ وينزه ، وغيره { حاش لله } بحذف الألف الأخيرة والمعنى تنزيه الله من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله { مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } نفين عنه البشرية لغرابة جماله وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم لما ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان .(2/65)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
{ قَالَتْ فذلكن الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ } تقول هو ذلك العبد الكنعناني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه ، تعني إنكن لم تصوّرنه حتى صورته وإلا لتعذرنني في الافتتان به { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم } والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها ، وهذا بيان جلي على أن يوسف عليه السلام بريء مما فسر به أولئك الفريق الهم والبرهان . ثم قلن له : أطع مولاتك ، فقالت راعيل : { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ } الضمير راجع إلى «ما» هي موصولة ، والمعنى ما آمره به . فحذف الجار كما في قوله «أمرتك الخير» أو «ما» مصدرية والضمير يرجع إلى يوسف أي ولئن لم يفعل أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه { لَيُسْجَنَنَّ } ليحبسن والألف في { وَلَيَكُونًا } بدل من النون التأكيد الخفيفة { مِنَ الصاغرين } مع السراق والسفاك والأباق كما سرق قلبي وأبق مني وسفك دمي بالفراق ، فلا يهنأ ليوسف الطعام والشراب والنوم هنالك كما منعني هنا كل ذلك ، ومن لم يرض بمثلي في الحرير على السرير أميراً حصل في الحصير على الحصير حسيراً . فلما سمع يوسف تهديدها .
{ قَالَ رَبّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ } أسند الدعوة إليهن لأنهن قلن له ما عليك لو أجبت مولاتك ، أو افتتنت كل واحدة به فدعته إلى نفسها سراً فالتجأ إلى ربه ، قال رب السجن أحب إلي من ركوب المعصية { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ } فزع منه إلى الله في طلب العصمة { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أمل إليهن . والصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها { وَأَكُن مّنَ الجاهلين } من الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لم يعلم سواء ، أو من السفهاء ، فلما كان في قوله { وإلا تصرف عني كيدهن } معنى طلب الصرف والدعاء قال .(2/66)
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
{ فاستجاب لَهُ رَبُّهُ } أي أجاب الله دعاءه { فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السميع } لدعوات الملتجئين إليه { العليم } بحاله وحالهن { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ } فاعله مضمر لدلالة ما يفسر عليه وهو { ليسجننه } والمعنى بدا لهم بداء أي ظهر لهم رأي ، والضمير في { لهم } للعزيز وأهله { مِنْ بَعْدَمَا رَأَوُاْ الآيات } وهي الشواهد على براءته كقد القميص وقطع الأيدي وشهادة الصبي وغير ذلك { لَيَسْجُنُنَّهُ } لإبداء عذر الحال وإرخاء الستر على القيل والقال ، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها وكان مطواعاً لها وحميلاً ذلولاً ، زمامه في يديها وقد طمعت أن يذلله السجن ويسخره لها ، أو خافت عليه العيون وظنت فيه الظنون فألجأها الخجل من الناس ، والوجل من اليأس ، إلى أن رضيت بالحجاب ، مكان خوف الذهاب ، لتشتفي بخبره ، إذا منعت من نظره { حتى حِينٍ } إلى زمان كأنها اقترحت أن يسجن زماناً حتى تبصر ما يكون منه .
{ وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ } عبدان للملك خبازه وشرابيه بتهمة السم ، فأدخلا السجن ساعة أدخل يوسف لأن «مع» يدل على معنى الصحبة تقول : خرجت مع الأمير تريد مصاحباً له فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له { قَالَ أَحَدُهُمَا } أي شرابيه { إِنّى أَرَانِى } أي في المنام وهي حكاية حال ماضية { أَعْصِرُ خَمْرًا } أي عنباً تسمية للعنب بما يؤول إليه أو الخمر بلغة عمان اسم للعنب { وَقَالَ الآخر } أي خبازه { إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } بتأويل ما رأيناه { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } من الذين يحسنون عبارة الرؤيا أو من المحسنين إلى أهل السجن فإنك تداوي المريض وتعزي الحزين وتوسع على الفقير ، فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا . وقيل : إنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي : إني رأيت كأني في بستان فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فقطفتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته ، وقال الخباز : إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة ، فإذا سباع الطير تنهش منها .(2/67)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
{ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } أي لبيان ماهيته وكيفيته لأن ذلك يشبه تفسير المشكل { قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا } ولما استعبراه ووصفاه بالإحسان افترض ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء وهو الإخبار بالغيب ، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما ويقول : يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت فيكون كذلك وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما ويقبح إليهما الشرك . وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده ، وغرضه أن يقتبس منه ، لم يكن من باب التزكية { ذلكما } إشارة لهما إلى التأويل أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات { مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى } وأوحى به إلي ولم أقله عن تكهن وتنجم { إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالأخرة هُمْ كافرون } يجوز أن يكون كلاماً مبتدأ وأن يكون تعليلاً لما قبله أي علمني ذلك وأوحى به إلي لأني رفضت ملة أولئك وهم أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم { واتبعت مِلَّةَ ءابَاءي إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ } وهي الملة الحنيفية . وتكرير «هم» للتوكيد وذكر الآباء ليريهما أنه من بيت النبوة بعد أن عرفهما أنه نبي يوحى إليه بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوي رغبتهما في اتباع قوله ، والمراد به ترك الابتداء لا أنه كان فيه ثم تركه { مَا كَانَ لَنَا } ما صح لنا معشر الأنبياء { أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَىْء } أي شيء كان صنماً أو غيره . ثم قال : { ذلك } التوحيد { مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } فضل الله فيشركون به ولا ينتهون .(2/68)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
{ ياصاحبى السجن } يا ساكني السجن كقوله { أصحاب النار } [ البقرة : 39 ] و { أصحاب الجنة } [ البقرة : 82 ] { أأرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار } يريد التفرق في العدد والتكاثر أي أن تكون أرباب شتى يستعبدكما هذا ويستعبدكما هذا خير لكما أم يكون لكما رب واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية؟ وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام { مَا تَعْبُدُونَ } خطاب لهما ولمن كان على دينهما من أهل مصر { مِن دُونِهِ } من دون الله { إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } أي سميتم مالا يستحق الإلهية آلهة ثم طفقتم تعبدونها فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء لا مسميات لها ، ومعنى { سميتموها } سميتم بها يقال : سميته زيداً وسميته يزيد { مَّا أَنزَلَ الله بِهَا } بتسميتها { مّن سلطان } حجة { إِنِ الحكم } في أمر العبادة والدين { إلاَ لِلَّهِ } ثم بين ما حكم به فقال { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلك الدين القيم } الثابت الذي دلت عليه البراهين { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } وهذا يدل على أن العقوبة تلزم العبد وإن جهل إذا أمكن له العلم بطريقه .
ثم عبر الرؤيا فقال { ياصاحبى السجن أَمَّا أَحَدُكُمَا } يريد الشرابي { فَيَسْقِى رَبَّهُ } سيده { خَمْرًا } أي يعود إلى عمله { وَأَمَّا الآخر } أي الخباز { فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ } روي أنه قال للأول : ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده ، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه . وقال للثاني : ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتقتل . ولما سمع الخباز صلبه قال : ما رأيت شيئاً فقال يوسف { قُضِىَ الأمر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } أي قطع وتم ما تستفتيان فيه من أمركما وشأنكما أي ما يجر إليه من العاقبة وهي هلاك أحدهما ونجاة الآخر .(2/69)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
{ وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا } الظان هو يوسف عليه السلام إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ، وإن كان بطريق الوحي فالظان هو الشرابي أو يكون الظن بمعنى اليقين { اذكرنى عِندَ رَبّكَ } صفني عند الملك بصفتي وقص عليه قصتي لعله يرحمني ويخلصني من هذه الورطة { فَأَنْسَاهُ الشيطان } فأنسى الشرابي { ذِكْرَ رَبّهِ } أن يذكره لربه أو عند ربه ، أو فأنسى يوسف ذكر الله حين وكل أمره إلى غيره ، وفي الحديث " رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك لما لبث في السجن سبعاً " { فَلَبِثَ فِى السجن بِضْعَ سِنِينَ } أي سبعاً عند الجمهور والبضع ما بين الثلاث إلى التسع .
{ وَقَالَ الملك إِنّى أرى سَبْعَ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات } لما دنا فرج يوسف رأى ملك مصر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته ، رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها . فاستعبرها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها . وقيل : كان ابتداء بلاء يوسف في الرؤيا ثم كان سبب نجاته أيضاً الرؤيا . سمان جمع سمين وسمينة ، والعجاف : المهازيل والعجف الهزال الذي ليس بعده سمانة ، والسبب في وقوع عجاف جمعاً لعجفاء وأفعل وفعلاء لا يجمعان على فعال حمله على نقيضه وهو سمان ، ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض . وفي الآية دلالة على أن السنبلات اليابسة كانت سبعاً كالخضر لأن الكلام مبني على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ويكون قوله { وآخر يابسات } بمعنى وسبعاً أخر { ياأيها الملأ } كأنه أراد الأعيان من العلماء والحكماء
{ أَفْتُونِى فِى رؤياى إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } اللام في { للرؤيا } للبيان ، كقوله { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } أو لأن المفعول به إذا تقدم على الفعل لم يكن في قوته على العمل فيه مثله إذا تأخر عنه فعضد بها ، تقول : عبرت الرؤيا وللرؤيا عبرت ، أو يكون { للرؤيا } خبر «كان» كقولك «كان فلان لهذا الأمر» إذا كان مستقلاً به متمكناً منه ، و { تعبرون } خبر آخر أو حال . وحقيقة عبرت الرؤيا ذكرت عاقبتها وآخر أمرها كما تقول «عبرت النهر» إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره ونحوه «أولت الرؤيا» إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها . وعبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الأثبات ورأيتهم ينكرون عبرت بالتشديد والتعبير والمعبر .(2/70)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
{ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ } أي هي أضغاث أحلام أي تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان . وأصل الأضغاث ما جمع من أخلاط النبات وحزم من أنواع الحشيش ، الواحد ضغث فاستعيرت لذلك ، والإضافة بمعنى من أي أضغاث من أحلام . وإنما جمع وهو حلم واحد تزايداً في وصف الحلم بالبطلان ، وجاز أن يكون قد قص عليهم مع هذه الرؤيا رؤيا غيرها { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بعالمين } أرادوا بالأحلام المنامات الباطلة ، فقالوا : ليس لها عندنا تأويل إنما التأويل للمنامات الصحيحة أو اعترفوا بقصور علمهم وأنهم ليسوا في تأويل الأحلام بخابرين .
{ وَقَالَ الذى نَجَا } من القتل { مِنْهُمَا } من صاحبي السجن { وادكر } بالدال هو الفصيح وأصله «اذتكر» فأبدلت الذال دالاً والتاء دالاً وأدغمت الأولى في الثانية ليتقارب الحرفين . وعن الحسن : «واذكر» ووجهه أنه قلب التاء ذالاً وأدغم أي تذكر يوسف وما شاهد منه { بَعْدَ أُمَّةٍ } بعد مدة طويلة وذلك أنه حين استفتى الملك في رؤياه وأعضل على الملك تأويلها تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه وطلبه إليه أن يذكره عندالملك { أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أنا أخبركم به عمن عنده علمه { فَأَرْسِلُونِ } وبالياء يعقوب أي فابعثوني إليه لأسأله فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال :(2/71)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق } أيها البليغ في الصدق وإنما قال له ذلك لأنه ذاق وتعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه حيث جاء كما أوَّل { أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس } إلى الملك وأتباعه { لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } فضلك ومكانك من العلم فيطلبوك ويخلصوك من محنتك { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ } هو خبر في معنى الأمر كقوله : { تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر وتجاهدون } الصف : 11 ) دليله قوله { فذروه في سنبله } وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في وجود المأمور به فيجعل كأنه موجود فهو يخبر عنه { دَأَبًا } بسكون الهمزة وحفص يحركه وهما مصدرا دأب في العمل ، وهو حال من المأمورين أي دائبين { فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ } كي لا يأكله السوس { إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تَأْكُلُونَ } في تلك السنين { ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ } هو من إسناد المجاز جعل كل أهلهن مسنداً إليهن { مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } أي في السنين المخصبة { إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ } تحرزون وتخبئون .(2/72)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
{ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ } أي من بعد أربع عشرة سنة عام { فِيهِ يُغَاثُ الناس } من الغوث أي يجاب مستغيثهم ، أو من الغيث أي يمطرون يقال : غيثت البلاد إذا مطرت { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } العنب والزيتون والسمسم فيتخذون الأشربة والأدهان . { تعصرون } حمزة فأول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب . والعجاف واليابسات بسنين مجدبة . ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأن العام الثامن يجيء مباركاً كثير الخير غزير النعم ، وذلك من جهة الوحي .
{ وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرسول } ليخرجه من السجن { قَالَ ارجع إلى رَبّكَ } أي الملك { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة } أي حال النسوة { التاى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } إنما تثبت يوسف وتأنى في إجابة الملك وقدم سؤال النسوة ليظهر براءة ساحته عما رمي به وسجن فيه لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه ولئلا يقولوا ما خلد في السجن سبع سنين إلا لأمر عظيم وجرم كبير وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها ، وقال عليه السلام « لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني ، ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرت الباب ولما ابتغيت العذر إن كان لحليماً ذا أناة » ومن كرمه وحسن أدبه أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب واقتصر على ذكر المقطعات أيديهن { إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } أي إن كيدهن عظيم لا يعلمه إلا الله وهو مجازيهن عليه . فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالته فدعا الملك النسوة المقطعات أيديهن ودعا امرأة العزيز ثم .(2/73)
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
{ قَالَ } لهن { مَا خَطْبُكُنَّ } ما شأنكن { إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } هل وجدتن منه ميلاً إليكن { قُلْنَ حَاشَ للَّهِ } تعجبا من قدرته على خلق عفيف مثله { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء } من ذنب { قَالَتِ امرأت العزيز الئن حَصْحَصَ الحق } ظهر واستقر { أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } في قوله { هي روادتني عن نفسي } ولا مزيد على شهادتهم له للبراءة والنزاهة واعترافهن على أنفسهن إنه لم يتعلق بشيء مما قذف به .
ثم رجع الرسول إلى يوسف وأخبره بكلام النسوة وإقرار امرأة العزيز وشهادتها على نفسها فقال يوسف { ذلك } أي امتناعي من الخروج والتثبت لظهور البراءة { لِيَعْلَمَ } العزيز { أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } بظهر الغيب في حرمته ، و { بالغيب } حال من الفاعل أو المفعول على معنى وأنا غائب عنه أو وهو غائب عني ، أو ليعلم الملك أني لم أخن العزيز { وَأَنَّ الله } أي وليعلم أن الله { لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين } لا يسدده وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها أمانة زوجها . ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه لئلا يكون لها مزكياً وليبين أن ما فيه من الأمانة بتوفيق الله وعصمته فقال { وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى } من الزلل وما أشهد لها بالبراءة الكلية ولا أزكيها في عموم الأحوال ، أو في هذه الحادثة لما ذكرنا من الهم الذي هو الخطرة البشرية لا عن طريق القصد والعزم { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء } أراد الجنس أي إن هذا الجنس يأمر بالسوء ويحمل عليه لما فيه من الشهوات { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى } إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة ويجوز أن يكون ما رحم في معنى الزمان أي إلا وقت رحمة ربي يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت العصمة ، أو هو استثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت إلا وقت العصمة أو هو استثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة ، وقيل : هو من كلام امرأة العزيز أي ذلك الذي قلت ليعلم يوسف أني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال الغيبة وجئت بالصدق فيما سئلت عنه ، وما أبرىء نفسي مع ذلك من الخيانة فإني قد خنته حين قذفته وقلت { ما جزاء من أراد بأهلك سوءأً إلا أن يسجن } وأودعته السجن ، تريد الاعتذار مما كان منها إن كل نفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إلا نفسها رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف { إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت وإنما جعل من كلام يوسف ولا دليل عليه ظاهر لأن المعنى يقود إليه . وقيل : هذا من تقديم القرآن وتأخيره أي قوله { ذلك ليعلم } متصل بقوله { فاسئله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } .(2/74)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
{ وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى } أجعله خالصاً لنفسي { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } وشاهد منه ما لم يحتسب { قَالَ } الملك ليوسف { إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } ذو مكانة ومنزلة ، أمين مؤتمن على كل شيء . روي أن الرسول جاءه ومعه سبعون حاجباً وسبعون مركباً وبعث إليه لباس الملوك فقال : أجب الملك ، فخرج من السجن ودعا لأهله : اللهم عطّف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات . وكتب على باب السجن : هذه منازل البلواء وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء . ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثياباً جدداً ، فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان قال : لسان آبائي ، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه وقال : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك . قال : رأيت بقرات فوصف لونهن وأحوالهن ومكان خروجهن ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك وقال له : من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك . قال الملك : ومن لي بهذا ومن يجمعه؟(2/75)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
{ قَالَ } يوسف { اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض } ولني على خزائن أرضك يعني مصر { إِنّى حَفِيظٌ } أمين أحفظ ما تستحفظنيه { عَلِيمٌ } عالم بوجوه التصرف . وصف نفسه بالأمانة والكفاية وهما طلبة الملوك ممن يولونه . وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله وإقامة الحق وبسط العدل والتمكن مما لأجله بعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك فطلبه ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا ، وفي الحديث « رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة » قالوا : وفيه دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عمالة من يد سلطان جائر ، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة الظلمة . وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به . وقيل : كان الملك يصدر عن رأيه ولا يتعرض عليه في كل ما رأى وكان في حكم التابع له .
{ وكذلك } ومثل ذلك التمكين الظاهر { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرض } أرض مصر وكان أربعين فرسخاً في أربعين ، والتمكين الإقدار وإعطاء المكنة { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء } أي كل مكان أراد أن يتخذه منزلاً لم يمنع منه لاستيلائه على جميعها ودخولها تحت سلطانه . { نشاء } مكي { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا } بعطائنا في الدنيا من الملك والغني وغيرهما من النعم { مَّن نَّشَاء } من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } في الدنيا { وَلأَجْرُ الأخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ } يريد يوسف وغيره من المؤمنين إلى يوم القيامة { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } الشرك والفواحش . قال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة ، والفاجر يعجل له الخير في ا لدنيا وماله في الآخرة من خلاق ، وتلا الآية . روي أن الملك توج يوسف وختمه بخاتمه ورداه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر الياقوت ، فقال : أما السرير فأشد به ملكك ، وأما الخاتم فأدبر به أمرك ، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فجلس على السرير ، ودانت له الملوك وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير ثم مات بعد فزوجه الملك امرأته ، فلما دخل عليها قال أليس هذا خيراً مما طلبت! فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفراثيم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء ، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدارهم والدنانير في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر في الثانية ، ثم بالدواب في الثالثة ، ثم بالعبيد والإماء في الرابعة ، ثم بالدور والعقار في الخامسة ، ثم بأولادهم في السادسة ، ثم برقابهم في السابعة ، حتى استرقهم جميعاً ، ثم أعتق أهل مصر عن آخرهم ، ورد عليهم أملاكهم ، وكان لايبيع لأحد من الممتارين أكثر من حمل بعير ، وأصاب أرض كنعان نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا وذلك قوله .(2/76)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
{ وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ } بلا تعريف { وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } لتبدل الزي ولأنه كان من وراء الحجاب ولطول المدة وهو أربعون سنة ، وروي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم : أخبروني من أنتم وما شأنكم؟ قالوا : نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار ، فقال : لعلكم جئتم عيوناً تنظرون عورة بلادي . فقالوا : معاذ الله نحن بنو نبي حزين لفقد ابن كان أحبنا إليه وقد أمسك أخاً له من أمه يستأنس به فقال : ائتوني به إن صدقتم .
{ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ } أعطى كل واحد منهم حمل بعير ، وقرىء بكسر الجيم شاذاً { ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل } أتمه { وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين } كان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم رغبهم بهذا الكلام على الرجوع إليه .(2/77)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
{ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى } فلا أبيعكم طعاماً { وَلاَ تَقْرَبُونِ } أي فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا فهو داخل في حكم الجزاء مجزوم معطوف على محل قوله { فلا كيل لكم } أو هو بمعنى النهي { قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ } سنخادعه عنه ونحتال حتى ننزعه من يده { وَإِنَّا لفاعلون } ذلك لا محالة لانفرط فيه ولا نتوانى . قال : فدعوا بعضكم رهناً ، فتركوا عنده شمعون وكان أحسنهم رأياً في يوسف { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ } كوفي غير أبي بكر { لفتيته } غيرهم ، وهما جمع فتى كإخوة وإخوان في أخ ، وفعلة للقلة ، وفعلان للكثرة أي لغلمانه الكيالين { اجعلوا بضاعتهم فِى رِحَالِهِمْ } أوعيتهم وكانت نعالاً أو أدما أو ورقا وهو أليق بالدس في الرحال { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا } يعرفون حق ردها وحق التكرم بإعطاء البدلين { إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ } وفرغوا ظروفهم { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا ، أو ربما لا يجدون بضاعة بها يرجعون أو ما فيهم من الديانة يعيدهم لرد الأمانة ، أو لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً { فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ } بالطعام وأخبروه بما فعل { قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل } يريدون قول يوسف { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي } لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل فقد منع الكيل { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ } نرفع المانع من الكيل ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه . { يكتل } حمزة وعلي أي يكتل أخوناً فينضم اكتياله إلى اكتيالنا { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } عن أن يناله مكروه
{ قَالَ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ } يعني أنكم قلتم في يوسف { أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإناله لحافظون } كما تقولونه في أخيه ثم خنتم بضمانكم فما يأمنني من مثل ذلك؟ ثم قال { فالله خَيْرٌ حافظا } كوفي غير أبي بكر . فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم وهو حال أو تمييز ، ومن قرأ { حِفظا } ً فهو تمييز لا غير . { وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين } فأرجو أن ينعم عليّ بحفظه ولا يجمع عليّ مصيبتين قال كعب : لما قال { فالله خير حفظاً } قال الله تعالى وعزتي وجلالي لأردن عليك كليهما .(2/78)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
{ وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأبانا مَا نَبْغِى } «ما» للنفي أي ما نبغي في القول ولا تتجاوز الحق أو ما نبغي شيئاً وراء ما فعل بنا من الإحسان ، أو ما نريد منك بضاعة أخرى ، أو للاستفهام أيْ أيّ شيء نطلب وراء هذا؟ { هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا } جملة مستأنفة موضحة لقوله { ما نبغي } والجمل بعدها معطوفة عليها أي أن بضاعتنا ردت إلينا فنستظهر بها { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } في رجوعنا إلى الملك أي نجلب لهم ميرة وهي طعام يحمل من غير بلدك { وَنَحْفَظُ أَخَانَا } في ذهابنا ومجيئنا فما يصيبه شيء مما تخافه { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } نزداد وسق بعير باستصحاب أخينا { ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ } سهل عليه متيسر لا يتعاظمه { قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ } وبالياء : مكي { مَوْثِقًا } عهداً { مِنَ الله } والمعنى حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله أي أراد أن يحلفوا له بالله . وإنما جعل الحلف بالله موثقاً منه لأن الحلف به مما يؤكد به العهود وقد أذن الله في ذلك فهو إذن منه { لَتَأْتُنَّنِى بِهِ } جواب اليمين لأن المعنى حتى تحلفوا لتأتنني به { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } إلا أن تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به فهو مفعول له ، والكلام المثبت وهو قوله { لتأتنني به } في تأويل النفي أي لا تمتنعوا من الإتيان به إلا للإحاطة بكم يعني لا تمتنعوا منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة وهي أن يحاط بكم ، فهو استثناء من أعم العام في المفعول له ، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي فلا بد من تأويله بالنفي { فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } قيل : حلفوا بالله رب محمد عليه السلام { قَالَ } بعضهم يسكت عليه لأن المعنى قال يعقوب { الله على مَا نَقُولُ } من طلب الموثق وإعطائه { وَكِيلٌ } رقيب مطلع غير أن السكتة تفصل بين القول والمقول وذا لا يجوز ، فالأولى يأن يفرق بينهما بالصوت فيقصد بقوة النغمة اسم الله .
{ وَقَالَ يا بَنِى لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ } الجمهور على أنه خاف عليهم العين لجمالهم وجلالة أمرهم ولم يأمرهم بالتفرق في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين في الكرة الأولى ، فالعين حق عندنا وجه بأن يحدث الله تعالى عند النظر إلى الشيء والإعجاب به نقصاناً فيه وخللاه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما فيقول : " أعيذكما بكلمات الله التامة من كل هامة ومن كل عين لامة " وأنكر الجبائي العين وهو مردود بما ذكرنا . وقيل : إنه أحب أن لا يفطن بهم أعداؤهم فيحتالوا لإهلاكهم { وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَىْء } أي إن كان الله أراد بكم سوءاً لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أسرت به عليكم من التفرق وهو مصيبكم لا محالة { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } التوكل تفويض الأمر إلى الله تعالى والاعتماد عليه { وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم } أي متفرقين { مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ } دخولهم من أبواب متفرقة { مّنَ الله مِن شَىْء } أي شيئاً قط حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله وتضاعف المصيبة على أبيهم { إِلاَّ حَاجَةً } استثناء منقطع أي ولكن حاجة { فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } وهي شفقته عليهم { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ } يعني قوله وما أغنى عنكم وعلمه بأن القدر لا يغني عنه الحذر { لّمَا عَلَّمْنَاهُ } لتعليمنا إياه { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك .(2/79)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } ضم إليه بنيامين . وروي أنهم قالوا له هذا أخونا قد جئناك به فقال لهم : أحسنتم فأنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه فقال يوسف : بقي أخوكم وحيداً فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله وقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال : ومن يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف وعانقه ثم { قَالَ } له { إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ } يُوسُف { فَلاَ تَبْتَئِسْ } فلا تحزن { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بنا فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ولا تعلمهم بما أعلمتك وروي أنه قال له فأنا لا أفارقك . قال لقد علمت اغتمام والدي بي فإن حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك ألا أن أنسبك إلا ما لا يحمد . قال : لا أبالي فافعل ما بدا لك . قال : فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم فقال : افعل { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } هيأ أسبابهم وأوفى الكيل لهم { جَعَلَ السقاية فِى رَحْلِ أَخِيهِ } السقاية هي مشربة يُسقى بها وهي الصواع . قيل : كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعاً يكال به لعزة الطعام وكان يشبه الطاس من فضة أو ذهب { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ } ثم نادى مناد آذنه أي أعلمه ، وأذن أكثر الأعلام ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه . روي أنهم ارتلحوا وأمهلهم يوسف عليه السلام حتى انطلقوا ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا ثم قيل لهم { أَيَّتُهَا العير } هي الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء والمراد أصحاب العير { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } كناية عن سرقتهم إياه من أبيه .(2/80)
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
{ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك } هو الصاع { وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } يقوله المؤذن يريد وأنا بحمل البعير كفيل أؤديه إلى من جاء به وأراد وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله { قَالُواْ تالله } قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم { لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأرض } استشهدوا بعلمهم لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم حيث دخلوا وأفواه رواحلهم مشدودة لئلا تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد من أهل السوق ، ولأنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم { وَمَا كُنَّا سارقين } وما كنا نوصف قط بالسرقة { قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ } الضمير للصواع أي فما جزاء سرقته { إِن كُنتُمْ كاذبين } في جحودكم وادعائكم البراءة منه { قَالُواْ جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ } أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله ، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوا في جزائه . وقولهم { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } تقرير للحكم أي فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير ، أو { جزاؤه } مبتدأ والجملة الشرطية كما هي خبره { كذلك نَجْزِى الظالمين } أي السراق بالاسترقاق { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ } فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة حتى بلغ وعاءه فقال : ما أظن هذا أخذ شيئاً فقالوا : والله لا نتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا { ثُمَّ استخرجها } أي الصواع { مِن وِعَاء أَخِيهِ } ذكر ضمير الصواع مرات ثم أنثه لأن التأنيث يرجع إلى السقاية ، أو لأن الصواع يذكر ويؤنث .
الكاف في { كذلك } في محل النصب أي مثل ذلك الكيد العظيم { كِدْنَا لِيُوسُفَ } يعني علمناه إياه { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك } تفسير للكيد وبيان له لأن الحكم في دين الملك أي في سيرته للسارق أن يغرم مثلي ما أخذ لا أن يستعبد { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } أي ما كان ليأخذه إلا بمشيئة الله وإرادته فيه { نَرْفَعُ درجات } بالتنوين : كوفي { مَّن نَّشَاء } أي في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه { وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ } فوقه أرفع درجة منه في علمه أو فوق العلماء كلهم عليهم هم دونه في العلم وهو الله عز وجل
.(2/81)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
{ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَه مِن قَبْلُ } أرادوا يوسف . قيل : دخل كنيسة فأخذ تمثالاً صغيراً من ذهب كانوا يعبدونه فدفنه . وقيل : كان في المنزل دجاجة فأعطاها السائل . وقيل : كانت منطقة لإبراهيم عليه السلام يتوارثها أكابر ولده فورثها إسحاق ، ثم وقعت إلى ابنته وكانت أكبر أولاده فحضنت يوسف وهي عمته بعد وفاة أمه وكانت لا تصبر ، عنه فلما شب أراد يعقوب أن ينزعه منها فعمدت إلى المنطقة فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وقالت : فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها . فوجدوها محزومة على يوسف فقالت : إنه لي سَلَم أفعل به ما شئت فخلاه يعقوب عندها حتى ماتت . وروي أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء وأقبلوا عليه وقالوا له : فضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل ، ما يزال لنا منكم بلاء متى أخذ هذا الصاع . فقال بنو راحيل الذين لا يزال منكم عليهم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم { فَأَسَرَّهَا } أي مقالتهم إنه سرق كأنه لم يسمعها { يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } تمييز أي أنتم شر منزلة في السرق لأنكم سرقتم أخاكم يوسف من أبيه { والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } تقولون أو تكذبون . { قَالُواْ يا أَيُّهَا العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا } في السن وفي القدر { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } أبدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد فإن أباه يتسلى به عن أخيه المفقود { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } إِلينا فأتمم إحسانك أو من عادتك الإحسان فاجر على عادتك ولا تغيرها .(2/82)
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
{ قَالَ مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ } أي نعوذ بالله معاذاً من أن نأخذ فأضيف المصدر إلى المفعول به وحذف من { إِنَّا إِذًا لظالمون } «إذاً» جواب لهم وجزاء لأن المعنى إن أخذنا بدله ظلمنا ، وهذا لأنه وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصاع في رحله واستبعاده فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم { فَلَمَّا استيأسوا } يئسوا وزيادة السين والتاء للمبالغة كما مر في { استعصم } { مِنْهُ } من يوسف وإجابته إياهم { خَلَصُواْ } انفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم { نَجِيّاً } ذوي نجوى أو فوجاً نجيا أي مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً ، أو تمحضوا تناجيا لاستجماعهم لذلك وإفاضتهم فيه بجد واهتمام كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته . فالنجيُّ يكون بمعنى المناجي كالسمير بمعنى المسامر ، وبمعنى المصدر الذي هو التناجي وكان تناجيهم في تدبير أمرهم على أي صفة يذهبون وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم { قَالَ كَبِيرُهُمْ } في السن وهو روبيل ، أو في العقل والرأي وهو يهوذا ، أو رئيسهم وهو شمعون { أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ } «ما» صلة أي ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم ، أو مصدرية ومحل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف وهو من قبل ومعناه وقع من قبل تفريطكم في يوسف { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } فلن أفارق أرض مصر { حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى } في الانصراف إليه { أَوْ يَحْكُمَ الله لِى } بالخروج منها أو بالموت أو بقتالهم { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } لأنه لا يحكم إلا بالعدل .
{ ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يا أَبَانَا إِنَّ ابنك سَرَقَ } وقرىء { سرِّق } أي نسب إلى السرقة { وَمَا شَهِدْنَا } عليه بالسرقة { إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } من سرقته وتيقنا إذ الصواع استخرج من وعائه { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين } وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق .(2/83)
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
{ واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا } يعني مصر أي أرسل إلى أهلها فاسألهم عن كنه القصة { والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا } وأصحاب العير وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام { وِإِنَّا لصادقون } في قولنا فرجعوا إلى أبيهم وقالوا له ما قال لهم أخوهم { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } أردتموه وإلا فمن أدرى ذلك الرجل أن السارق يسترق لولا فتواكم وتعليمكم { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا } بيوسف وأخيه وكبيرهم { إِنَّهُ هُوَ العليم } بحالي في الحزن والأسف { الحكيم } الذي لم يبتلني بذلك إلا لحكمة { وتولى عَنْهُمْ } وأعرض عنهم كراهة لما جاؤوا به { وَقَالَ ياأسفا عَلَى يُوسُفَ } أضاف الأسف وهو أشد الحزن والحسرة إلى نفسه . والألف بدل من ياء الإضافة ، والتجانس بين الأسف ويوسف غير متكلف ونحوه { اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُم } [ التوبة : 38 ] { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [ الأنعام : 26 ] { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الكهف : 104 ] { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } ) النحل : 22 ) وإنما تأسف دون أخيه وكبيرهم لتمادي أسفه على يوسف دون الآخرين ، وفيه دليل على أن الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضاً عنده طرياً { وابيضت عَيْنَاهُ } إذ أكثر الاستعبار ومحقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر . وقيل : قد عمي بصره . وقيل : كان قد يدرك إدراكاً ضعيفاً { مِنَ الحزن } لأن الحزن سبب البكاء الذي حدث منه البياض فكأنه حدث من الحزن . قيل : ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب ويجوز للنبي عليه السلام أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ لأن الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الحزن فلذلك حمد صبره ، ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم ، وقال : « القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون » وإنما المذموم الصياح والنياحة ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب { فَهُوَ كَظِيمٌ } مملوء من الغيظ على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم فعيل بمعنى مفعول بدليل قوله { إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] من كظم السقاء إذا شده على ملئه .(2/84)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
{ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ } أي لا تفتأ فحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس إذ لو كان إثباتاً لم يكن بد من اللام والنون . ومعنى لا تفتأ لا تزال { تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضاً } مشفياً على الهلاك مرضاً { أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله } البث أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس ، أي بنشره أي لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم إنما أشكو إلى ربي داعياً له وملتجئاً إليه فخلوني وشكايتي . وروي أنه أوحى إلى يعقوب . إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فوقف ببابكم مسكين فلم تطعموه وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء ثم المساكين فاصنع طعاماً وادع عليه المساكين . وقيل : اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وأعلم من رحمته أنه يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب ، وروي أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله : هل قبضت روح يوسف؟ فقال : لا والله هو حي فاطلبه وعلمه هذا الدعاء«ياذا المعروف الدائم الذي لا ينقطع معروفه أبداً ولا يحصيه غيرك فرج عني» .(2/85)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
{ يبَنِيَّ اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } فتعرفوا منهما وتطلبوا خبرهما وهو تفعل من الإحساس وهو المعرفة { وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله } ولا تقنطوا من رحمة الله وفرجه { إِنَّهُ } إن الأمر والشأن { لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون } لأن من آمن يعلم أنه متقلب في رحمة الله ونعمته ، وأما الكافر فلا يعرف رحمة الله ولا تقلبه في نعمته فييأس من رحمته ، فخرجوا من عند أبيهم راجعين إلى مصر { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ } على يوسف { قَالُواْ يا أَيُّهَا العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر } الهزال من الشدة والجوع { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً لها من أزجيته إذا دفعته وطردته . قيل : كان دراهم زيوفاً لا تؤخذ إلا بوضيعة . وقيل : كانت صوفاً وسمناً { فَأَوْفِ لَنَا الكيل } الذي هو حقنا { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } وتفضل علينا بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة أوزدنا على حقنا أوهب لنا أخانا { إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين } ولما قالوا مسنا وأهلنا الضر وتضرعوا إليه وطلبوا منه أن يتصدق عليهم ارفضت عيناه ولم يتمالك أن عرفهم نفسه حيث قال : { قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ } أي هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف { وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جاهلون } لا تعلمون قبحه أو إذ أنتم في حد السفه والطيش وفعلهم بأخيه تعريضهم إياه للغم بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه وإيذاؤهم له بأنواع الأذى { قَالُواْ أَءنَّكَ } بهمزتين : كوفي وشامي { لأَنتَ يُوسُفُ } اللام لام الابتداء و { أنت } مبتدأ و { يوسف } خبره ، والجملة خبر «إن» { قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِى } وإنما ذكر أخاه وهم قد سألوه عن نفسه لأنه كان في ذكر أخيه بيان لما سألوه عنه { قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا } بالألفة بعد الفرقة وذكر نعمة الله بالسلامة والكرامة ولم يبدأ بالملامة { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } الفحشاء { وَيِصْبِرْ } عن المعاصي وعلى الطاعة { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } أي أجرهم فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين . وقيل : من يتق مولاه ويصبر على بلواه لا يضيع أجره في دنياه وعقباه .(2/86)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
{ قَالُواْ تالله لَقَدْ اثَرَكَ الله عَلَيْنَا } اختارك وفضلك علينا بالعلم والحلم والتقوى والصبر والحسن { وَإِن كُنَّا لخاطئين } وإن شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين متعمدين للإثم لم نتق ولم نصبر لا جرم أن الله أعزك بالملك وأذلنا بالتمسكن بين يديك { قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } لا تعيير عليكم { اليوم } متعلق بالتثريب أو ب { يغفر } والمعنى لا أثر بكم اليوم وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره من الأيام! ثم ابتدأ فقال { يَغْفِرَ الله لَكُمْ } فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم . يقال : غفر الله لك ويغفر لك على لفظ الماضي والمضارع ، أو اليوم يغفر الله لكم بشارة بعاجل غفران الله . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح فقال لقريش : « ما ترونني فاعلاً بكم » قالوا : نظن خيراً أخ كريم وابن أخ كريم ، وقد قدرت . فقال : « أقول ما قال أخي يوسف لا تثريب عليك اليوم » ورُوي أن أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس : إذا أتيت رسول الله فاتلُ عليه { قال لا تثريب عليكم اليوم } ففعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « غفر الله لك ولمن علمك » ويُروى أن أخوته لما عرفوه أرسلوا إليه أنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشياً ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك ، فقال يوسف : إن أهل مصر وإن ملكت فيهم فإنهم ينظرون إليَّ بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ، ولقد شرفت الآن بكم حيث علم الناس أني من حفدة إبراهيم { وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين } أي إذا رحمتكم وأنا الفقير القتور فما ظنكم بالغني الغفور؟ ثم سألهم عن حال أبيه فقالوا : إنه عمي من كثرة البكاء قال :(2/87)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
{ اذهبوا بِقَمِيصِى هذا } قيل : هو القميص المتواراث الذي كان في تعويذ يوسف ، وكان من الجنة أمره جبريل أن يرسله إليه فإن فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلي ولا سقيم إلا عوفي { فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا } يصر بصيراً . تقول : جاء البناء محكماً أي صار ، أو يأت إلي وهو بصير . قال يهوذا : أنا أحمل قميص الشفاء كما ذهبت بقميص الجفاء . وقيل : حمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً { وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } لينعموا بآثار ملكي كما اغتموا بأخبار هلكي .
{ وَلَمَّا فَصَلَتِ العير } خرجت من عريش مصر . يقال : فصل من البلد فصولاً إذا انفصل منه وجاوز حيطانه { قَالَ أَبُوهُمْ } لولد ولده ومن حوله من قومه { إِنّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } أوجده الله ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمانية أيام { لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ } التفنيد النسبة إلى الفند وهو الخرف وإنكار العقل من هرم . يقال : شيخ مفند . والمعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني .(2/88)
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
{ قَالُواْ } أي أسباطه { تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم } لفي ذهابك عن الصواب قديماً في إفراط محبتك ليوسف أو في خطئك القديم من حب يوسف وكان عندهم أنه قد مات { فَلَمَّا أَن جَاء البشير } أي يهوذا { أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ } طرح البشير القميص على وجه يعقوب أو ألقاه يعقوب { فارتد } فرجع { بَصِيراً } يقال : رده فارتد وارتده إذا ارتجعه { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ } يعني قوله { إني لأجد ريح يوسف } أو قوله { ولا تيأسوا من روح الله } وقوله { إِنّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } كلام مبتدأ لم يقع عليه القول أو وقع عليه والمراد قوله { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون } ورُوي أنه سأل البشير كيف يوسف؟ قال : هو ملك مصر . فقال : ما أصنع بالملك ، على أي دين تركته؟ قال : على دين الإسلام . قال : الآن تمت النعمة { قَالُواْ يأَبَانَا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطئين } أي سل الله مغفرة ما ارتكبنا في حقك وحق ابنك إنا تبنا واعترفنا بخطايانا { قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } أخر الاستغفار إلى وقت السحر ، أو إلى ليلة الجمعة ، أو ليتعرف حالهم في صدق التوبة ، أو إلى أن يسأل يوسف هل عفا عنهم . ثم إن يوسف وجه إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه ، فلما بلغ قريباً من مصر خرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب وهو يمشي يتوكأ على يهوذا .
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ ءاوى إِلَيْهِ } ضم إليه { أَبَوَيْهِ } واعتنقهما . قيل : كانت أمه باقية . وقيل : ماتت وتزوج أبوه خالته والخالة أم كما أن العم أب ومنه قوله { وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } [ البقرة : 133 ] ومعنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر أنه حين استقبلهم أنزلهم في مضرب خيمة أو قصر كان له ثمة فدخلوا عليه وضم إليه أبويه { وَقَالَ } لهم بعد ذلك { ادخُلُوا مِصرَ إن شآء الله ءامنين } من ملوكها وكانوا لا يدخلونها إلا بجواز أو من القحط . ورُوي أنه لما لقيه قال يعقوب عليه السلام : السلام عليك يا مذهب الأحزان ، وقال له يوسف : يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ فقال : بلى ولكن خشيت أن يسلب دينك فيحال بيني وبينك . وقيل : إن يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجال ونساء ، وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلاً سوى الذرية والهرمى ، وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف(2/89)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا } قيل : لما دخلوا مصر وجلس في مجلسه مستوياً على سريره واجتمعوا إليه أكرم أبويه فرفعهما على السرير وخروا له يعني الإخوة الأحد عشر والأبوين سجداً ، وكانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد وقال الزجاج سنة التعظيم في ذلك الوقت أن يسجد للمعظم وقيل ما كانت لا انحناء دون تعفير الجباه وخرورهم سجداً يأباه وقيل وخروا لأجل يوسف سجداً لله شكراً وفيه نبوة أيضاً واختلف في استنبائهم { وَقَالَ يأَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رؤياى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا } أي الرؤيا { رَبّي حَقّاً } أي صادقة وكان بين الرؤيا وبين التأويل أربعين سنة أو ثمانون أو ست وثلاثون أو ثنتان وعشرون { وَقَدْ أَحْسَنَ بَى } يقال : أحسن إليه وبه وكذلك أساء إليه وبه { إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السجن } ولم يذكر الجب لقوله { لا تثريب عليكم اليوم } { وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو } من البادية لأنهم كانوا أصحاب مواشٍ ينتقلون في المياه والمناجع { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى } أي أفسد بيننا وأغرى { إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء } أي لطيف التدبير { إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم } بتأخير الآمال إلى الآجال أو حكم بالائتلاف بعد الاختلاف .(2/90)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
{ رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الملك } ملك مصر { وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } تفسير كتب الله أو تعبير الرؤيا و«من» فيهما للتبعيض إذ لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا وبعض التأويل { فَاطِرَ السماوات والأرض } انتصابه على النداء { أَنتَ وَلِيِّي فِى الدنيا والآخرة } أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا } طلب الوفاة على حال الإسلام كقول يعقوب لولده { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ آل عمران : 102 ] وعن الضحاك : مخلصاً . وعن التستري : مسلِّماً إليك أمري وفي عصمة الأنبياء إنما دعا به يوسف ليقتدي به قومه ومن بعده ممن ليس بمأمون العاقبة ، لأن ظواهر الأنبياء لنظر الأمم إليهم { وَأَلْحِقْنِى بالصالحين } من آبائي أو على العموم . رُوي أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه فأدخله خزائن الذهب والفضة وخزائن الثياب وخزائن السلاح حتى أدخله خزانة القراطيس قال : يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل . فقال : أمرني جبريل . : قال أو ما تسأله؟ قال : أنت أبسط إليه مني فاسأله . فقال جبريل : الله أمرني بذلك لقولك { وأخاف أن يأكله الذئب } فهلا خفتني . ورُوي أن يعقوب أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق ، فمضى بنفسه ودفنه ثمة ثم عاد إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة ، فلما تم أمره طلبت نفسه الملك الدائم فتمنى الموت . وقيل : ما تمناه نبي قبله ولا بعده فتوفاه الله طيباً طاهراً ، فتخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه كلٌ يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يعملوا له صندوقاً من مرمر وجعلوه فيه ودفنوه في النيل بمكان يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلهم فيه شرعاً حتى نقل موسى عليه السلام بعد أربعمائة سنة تابوته إلى بيت المقدس . وولد له أفراثيم وميشا ، وولد لإفراثيم نون ، ولنون يوشع فتى موسى ، ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه .(2/91)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
{ ذلك } إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ { مِنْ أَنبَاء الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ } خبر إن { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } لدى بني يعقوب { إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ } عزموا على ما هموا به من إلقاء يوسف في البئر { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } بيوسف ويبغون له الغوائل ، والمعنى أن هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحي لأنك لم تحضر بني يعقوب حين اتفقوا على إلقاء أخيهم في البئر { وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } أراد العموم أو أهل مكة أي وما هم بمؤمنين ولو اجتهدت كل الاجتهاد على إيمانهم { وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ } على التبليغ أو على القرآن { مِنْ أَجْرٍ } جعل { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ } ما هو إلا موعظة { للعالمين } وحث على طلب النجاة على لسان رسول من رسله { وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ } من علامة ودلالة على الخالق وعلى صفاته وتوحيده { فِى السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا } على الآيات أو على الأرض ويشاهدونها { وَهُمْ عَنْهَا } عن الآيات { مُّعْرِضُونَ } لا يعتبرون بها والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } أي وما يؤمن أكثرهم في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السماوات والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الوثن الجمهور على أنها نزلت في المشركين لأنهم مقرون بالله خالقهم ورازقهم ، وإذا حزبهم أمر شديد دعوا الله ومع ذلك يشركون به غيره . ومن جملة الشرك ما يقوله القدرية من إثبات قدرة التخليق للعبد ، والتوحيد المحض ما يقوله أهل السنة وهو أنه لا خالق إلا الله .(2/92)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
{ أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ } عقوبة تغشاهم وتشملهم { مّنْ عَذَابِ الله أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة } القيامة { بَغْتَةً } حال أي فجأة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بإتيانها .
{ قُلْ هذه سَبِيلِى } هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي ، والسبيل والطريق يذكران ويؤنثان . ثم فسر سبيله بقوله { ادعوا إلى الله على بَصِيرَةٍ } أي أدعو إلى دينه مع حجة واضحة غير عمياء { أَنَاْ } تأكيد للمستتر في { أدعو } { وَمَنِ اتبعنى } عطف عليه أي أدعو إلى سبيل الله أنا ويدعو إليه من اتبعني ، أو { أنا } مبتدأ و { على بصيرة } خبر مقدم و { من اتبعني } عطف على { أنا } يخبر ابتداء بأنه ومن اتبعه على حجة وبرهان لا على هوى { وسبحان الله } وأنزهه عن الشركاء { وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين } مع الله غيره { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } لا ملائكة لأنهم كانوا يقولون لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ، أو ليست فيهم امرأة { نُوحِى } بالنون حفص { إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ القرى } لأنهم أعلم وأحلم وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخرة } أي ولدار الساعة الآخرة { خَيْرٌ لّلَّذِينَ اتقوا } الشرك وآمنوا به { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } وبالياء : مكي وأبو عمرو وحمزة وعلي .(2/93)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
{ حتى إِذَا استيئس الرسل } يئسوا من إيمان القوم { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } كذَّبوا وأيقن الرسل أن قومهم كذبوهم . وبالتخفيف : كوفي أي وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا أي أخلفوا ، أو وظن المرسل إليهم أنهم كذبوا من جهة الرسل أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرفون عليهم ولم يصدقوهم فيه { جَاءهُمْ نَصْرُنَا } للأنبياء والمؤمنين بهم فجأة من غير احتساب { فَنُجّىَ } بنونٍ واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء : شامي وعاصم على لفظ الماضي المبني للمفعول والقائم مقام الفاعل من . الباقون { فننجي } بنونين ثانيتهما ساكنة مخفاة للجيم بعدها وإسكان الياء { مَّن نَّشَاء } أي النبي ومن آمن به { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا } عذابنا { عَنِ القوم المجرمين } الكافرين .
{ لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ } أي في قصص الأنبياء وأممهم أو في قصة يوسف وإخوته { عِبْرَةٌ لأَوْلِى الألباب } حيث نقل من غاية الحب ، إلى غيابة الجب ، ومن الحصير ، إلى السرير ، فصارت عاقبة الصبر سلامة وكرامة ، ونهاية المكر وخامة وندامة { مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى } ما كان القرآن حديثاً مفترى كما زعم الكفار { ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } ولكن تصديق الكتب التي تقدمته { وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء } يحتاج إليه في الدين لأنه القانون الذي تستند إليه السنة والإجماع والقياس { وهدى } من الضلال { وَرَحْمَةً } من العذاب { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بالله وأنبيائه وما نصب بعد «لكن» معطوف على خبر «كان» * عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " علموا أرقاءكم سورة يوسف فأيما عبد تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلماً " قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : في ذكر قصة يوسف عليه السلام وإخوته تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أذى قريش كأنه يقول : إن إخوة يوسف مع موافقتهم إياه في الدين ومع الأخوّة عملوا بيوسف ما عملوا من الكيد والمكر وصبر على ذلك ، فأنت مع مخالفتهم إياك في الدين أحرى أن تصبر على أذاهم . وقال وهب : إن الله تعالى لم ينزل كتاباً إلا وفيه سورة يوسف عليه السلام تامة كما هي في القرآن العظيم ، والله أعلم . .(2/94)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
مكية ، وهي ثلاث وأربعون آية كوفي ، وخمس وأربعون آية شامي
بسم الله الرحمن الرحيم
{ المر } أنا الله أعلم وأرى عن ابن عباس رضي الله عنهما { تِلْكَ } إشارة إلى آيات السورة { آياتالكتاب } أريد بالكتاب السورة أي تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها { والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } أي القرآن كله { الحق } خبر { والذي } { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } فيقولون تقوَّله محمد ثم ذكر ما يوجب الإيمان فقال { الله الذي رَفَعَ السماوات } أي خلقها مرفوعة لا أن تكون موضوعة فرفعها و { الله } مبتدأ والخبر { الذي رفع السماوات } { بِغَيْرِ عَمَدٍ } حال وهو جمع عماد أو عمود { تَرَوْنَهَا } الضمير يعود إلى السماوات أي ترونها كذلك فلا حاجة إلى البيان أو إلى عمد فيكون في موضع جر على أنه صفة ل { عمد } أي بغير عمد مرئية { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } استولى بالاقتدار ونفوذ السلطان { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } لمنافع عباده ومصالح بلاده { كُلٌّ يَجْرِي لأَِجَلٍ مُّسَمًّى } وهو انقضاء الدنيا { يُدَبِّرُ الأمر } أمر ملكوته وربوبيته { يُفَصّلُ الآيات } يبين آياته في كتبه المنزلة { لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } لعلكم توقنون بأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع اليه .(2/95)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
{ وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض } بسطها { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } جبالاً ثوابت { وأنهارا } جارية { وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين } أي الأسود والأبيض والحلو والحامض والصغير والكبير وما أشبه ذلك { يُغْشِي الَّيلَ النَّهارَ } يلبسه مكانه فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً . يغشِّي حمزة وعلي وأبو بكر { إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فيعلمون أن لها صانعاً عليماً حكيماً قادراً { وَفِي الأرض قِطَعٌ متجاورات } بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة طيبة إلى سبخة وكريمة إلى زهيدة وصلبة إلى رخوة وذلك دليل على قادر مدبر مريد موقع لأفعاله على وجه دون وجه { وجنات } معطوفة على قطع { مِّنْ أعناب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صنوان وَغَيْرُ صنوان } بالرفع مكي وبصري وحفص عطف على { قطع } غيرهم بالجر بالعطف على { أعناب } ، والصنوان جمع صنو وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد وعن حفص بضم الصاد وهما لغتان { يسقى بِمَاءٍ واحد } وبالياء عاصم وشامي { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ } وبالياء حمزة وعلي { فِي الأكل } في الثمر . وبسكون الكاف نافع ومكي { إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } عن الحسن مثل اختلاف القلوب في آثارها وأنوارها وأسرارها باختلاف القطع في أنهارها وأزهارها وثمارها { وَإِن تَعْجَبْ } يا محمد من قولهم في إنكار البعث { فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } خبر ومبتدأ أي فقولهم حقيق بأن يتعجب منه لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك كان الإعادة أهون شيء عليه وأيسره فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب { أءِذا كنا تراباً أءِنا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } في محل الرفع بدل من { قولهم } . قرأ عاصم وحمزة كل واحد بهمزتين { أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } أولئك الكافرون المتمادون في كفرهم { وأولئك الأغلال فِي أعناقهم } وصف لهم بالإصرار أو من جملة الوعيد { وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } دل تكرار أولئك على تعظيم الأمر .(2/96)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
َويسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } بالنقمة قبل العافية وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات } أي عقوبات أمثالهم من المكذبين فمالهم لم يعتبروا بها فلا يستهزئوا والمثلة العقوبة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة . { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } أي مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب ومحله الحال أي ظالمين لأنفسهم قال السدي يعني المؤمنين وهي أرجى آية في كتاب الله حيث ذكر المغفرة مع الظلم وهو بدون التوبة فإن التوبة تزيلها وترفعها { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } على الكافرين أو هما جميعاً في المؤمنين لكنه معلق بالمشيئة فيهما أي يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ايَةٌ مّن رَّبِّهِ } لم يعتدوا بالآيات المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عناداً فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى من انقلاب العصا حية وإحياء الموتى فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ } إنما أنت رجل أرسلت منذراً مخوفاً لهم من سوء العاقبة وناصحاً كغيرك من الرسل وما عليك إلا الإتيان بما يصح به أنك رسول منذر وصحة ذلك حاصلة بأي آية كانت والآيات كلها سواء في حصول صحة الدعوى بها { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } من الأنبياء يهديهم إلى الدين ويدعوهم إلى الله بآية خص بها لا بما يريدون ويتحكمون .
{ الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ } «ما» في هذه المواضع الثلاثة موصولة أي يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة وتمام وخداج وحسن وقبح وطول وقصر وغيره ذلك وما تغيضه الأرحام أي ويعلم ما تنقصه يقال غاض الماء وغضته أنا وما تزداده والمراد عدد الولد فإنها تشتمل على واحد واثنين وثلاثة وأربعة أوجسد الولد فإنه يكون تاماً ومخدجاً أو مدة الولادة فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عندنا وإلى أربع عند الشافعي وإلى خمس عند مالك أو مصدرية أي يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } بقدر واحد لا يجازوه ولا ينقص عنه لقوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْء خلقناه بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ](2/97)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
{ عالم الغيب } ما غاب عن الخلق { والشهادة } ما شاهدوه { الكبير } العظيم الشأن الذي كل شيء دونه { المتعال } المستعلي على كل شيء بقدرته أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها . وبالياء في الحالين مكي { سَوَاء مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } أي في علمه { وَمَنْ هو مستخفٍ بالَّيْل } متوارٍ { وَسَارِبٌ بالنهار } ذاهب في سربه أي في طريقه ووجهه يقال سرب في الأرض سروباً . و { سارب } عطف على { من هو مستخف } لا على { مستخف } أو على { مستخف } غير أن { من } في معنى الاثنين والضمير في { لَهُ } مردود على { من } كأنه قيل لمن أسر ومن جهر ومن استخفى ومن سرب { معقبات } جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه والأصل معتقبات فأدغمت التاء في القاف أو هو مفعلات من عقبه إذا جاء على عقبه لأن بعضهم يعقب بعضاً أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه { مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي قدامه ووراءه { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } هما صفتان جميعاً وليس من أمر الله بصلة للحفظ كأنه قيل له معقبات من أمر الله أو يحفظونه من أجل أمر الله أي من أجل أن الله تعالى أمرهم بحفظه أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب بدعائهم له { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ } من العافية والنعمة { حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } من الحال الجميلة بكثرة المعاصي { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً } عذاباً { فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } فلا يدفعه شيء { وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } من دون الله ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم .(2/98)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
{ هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا وَطَمَعًا } انتصبا على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع أو على ذا خوف وذا طمع أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين والمعنى يخاف من وقوع الصواعق عند لمع البرق ويطمع في الغيث قال أبوالطيب
فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجي ... يرجّى الحيا ومنه وتخشى الصواعق
أو يخاف المطر من له فيه ضرر كالمسافر ومن له بيت يكف ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ويطمع فيه من له نفع فيه { وَيُنْشِيءُ السحاب } هو اسم جنس والواحدة سحابة { الثقال } بالماء وهو جميع ثقيلة ، تقول سحابة ثقيلة وسحاب ثقال { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } قيل يسبح سامعو الرعد من العباد الراجين للمطر أي يصيحون بسبحان الله والحمد لله وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « " الرعد ملك موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب» " والصوت الذي يسمع زجره السحاب حتى ينتهي إلى حيث أمر { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء } الصاعقة : نار تسقط من السماء لما ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده وما دل على قدرته الباهرة ووحدانيته قال : { وَهُمْ يجادلون فِي الله } يعني الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلون في الله حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث وإعادة الخلائق بقولهم : { مِنْ يحييا العظام وَهِىَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] ويردون الوحدانية باتخاذ الشركاء ويجعلونه بعض الأجسام بقولهم الملائكة بنات الله . أو الواو للحال أي فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم وذلك أن أربد أخا لبيد بن ربيعة العامري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد عليه مع عامر بن الطفيل قاصدين لقتله فرمى الله عامراً بغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية وأرسل على أربد صاعقة فقتله أخبرني عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد
{ وَهُوَ شَدِيدُ المحال } أي المماحلة وهي شدة المماكرة والمكايدة ومنه تمحل لكذا إذا تكلف لاستعماله الحيلة واجتهد فيه ، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان والمعنى أنه شديد المكر والكيد لأعدائه يأتيهم بالهلكة من يحث لا يحتسبون .(2/99)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
{ لَهُ دَعْوَةُ الحق } أضيفت إلى الحق الذي هو ضد الباطل للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق وأنها بمعزل من الباطل والمعنى أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة ويعطي الداعي سؤله فكانت دعوة ملابسة للحق لكونه حقيقاً بأنه يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه واتصال { شديد المحال } وله دعوة الحق بما قبله على قصة أربد ظاهر لأن إصابته بالصاعقة محال من الله ومكر به من حيث لم يشعر وقد دعا رسول الله عليه وعلى صاحبه بقوله : « اللهم اخسفهما بما شئت » فأجيب فيهما فكانت الدعوة دعوة حق وعلى الأول وعيد للكفرة على مجادلتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلول محاله بهم وإجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم إن دعا عليهم { والذين يَدْعُونَ } والآلهة الذين يدعوهم الكفار { مِن دُونِهِ } من دون الله { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } من طلباتهم { إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ إِلَى الماء لِيَبْلُغَ فَاهُ } الاستثناء من المصدر أي من الاستجابة التي دل عليها لا يستجيبون لأن الفعل بحروفه يدل على المصدر وبصيغته على الزمان وبالضرورة على المكان والحال فجاز استثناء كل منها من الفعل فصار التقدير : لا يستجيبون استجابة إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه إلى الماء أي كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم . واللام في ليبلغ متعلق ب { باسط كفيه } { وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } وما الماء ببالغ فاه { وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضلال } في ضياع لا منفعة فيه لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم وإن دعوا الأصنام لم تستطع إجابتهم
{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض } سجود تعبد وانقياد { طَوْعاً } حال يعني الملائكة والمؤمنين { وَكَرْهًا } يعني المنافقين والكافرين في حال الشدة والضيق { وظلالهم } معطوف على { من } جمع ظل { بالغدو } جمع غداة كقنىً وقناة { والآصال } جمع أصل أصيل . قيل ظل كل شيء يسجد لله بالغدو والآصال ، وظل الكافر يسجد كرهاً وهو كاره ، وظل المؤمن يسجد طوعاً وهو طائع { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض قُلِ الله } حكاية لاعترافهم لأنه إذا قال : لهم من رب السموات والأرض لم يكن لهم بد من أن يقولوا : الله ، دليله قراءة ابن مسعود وأبي { قالوا الله } أو هو تلقين أي فإن لم يجيبوا فلقنهم فإنه لا جواب إلا هذا { قُلْ أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أبعد أن علمتموه رب السماوات والأرض اتخذتم من دونه آلهة { لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّاً } لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا ضرراً عنها فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب فما أبين ضلالتكم .(2/100)
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير } أي الكافر والمؤمن أو من لا يبصر شيئاً ومن لا يخفى عليه شيء { أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور } ملل الكفر والإيمان . { يستوي } كوفي غير حفص { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ } بل أجلعوا ومعنى الهمزة الإنكار { خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } خلقوا مثل خلقه وهو صفة ل { شركاء } أي أنهم لم يتخذوا الله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله { فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ } فاشتبه عليهم مخلوق الله بمخلوق الشركاء حتى يقولوا قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه فاستحقوا العبادة فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلاً أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق { قُلِ الله خالق كُلّ شَيْءٍ } أي خالق الأجسام والأعراض لا خالق غير الله ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق فلا يكون له شريك في العبادة ، ومن قال إن الله لم يخلق أفعال الخلق وهم خلقوها فتشابه الخلق على قولهم { وَهُوَ الواحد } المتوحد بالربوبية { القهار } لا يغالب وما عداه مربوب ومقهور(2/101)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
{ أَنَزلَ } أي الواحد القهار وهو الله سبحانه { مِّنَ السماء } من السحاب { مَآءً } مطراً { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ } جمع واد وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة وإنما نكر لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض { بِقَدَرِهَا } بمقدارها الذي علم الله أنه نافع للممطور عليهم ضار { فاحتمل السيل } أي رفع { زَبَدًا } هو ما علا على وجه الماء من الرغوة والمعنى علاه زبد { رَّابِيًا } منتفخاً مرتفعاً على وجه السيل { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ } بالياء كوفي غير أبي بكر و«من» لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء أو للتبعيض أي وبعضه زبد { فِي النار } حال من الضمير في عليه أي ومما توقدون عليه ثابتاً في النار { ابتغاء حِلْيَةٍ } مبتغين حلية فهو مصدر في موضع الحال من الضمير في توقدون { أَوْ متاع } من الحديد والنحاس والرصاص يتخذ منها الأواني وما يتمتع به في الحضر والسفر وهو معطوف على { حلية } أي زينة من الذهب والفضة { زَبَدٌ } خبث وهو مبتدأ { مّثْلُهُ } نعت له و { مما توقدون } خبر له أي لهذه الفلزّات إذا أغليت زبد مثل زبد الماء .
{ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } أي مثل الحق والباطل { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاءً } حال أي متلاشياً وهو ما تقذفه القدر عند الغليان والبحر عند الطغيان والجفء الرمي وجفأت الرجل صرعته { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس } من الماء والحلي والأواني { فَيَمْكُثُ فِي الأرض } فيثبت الماء في العيون والآبار والحبوب والثمار وكذلك الجواهر تبقى في الأرض مدة طويلة { كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال } ليظهر الحق من الباطل وقيل هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم بأنواع المنافع وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفات وإن ذلك ماكث في الأرض باقٍ بقاء ظاهراً يثبت الماء في منافعه وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة . وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله بزبد السيل الذي يرمي به . وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب . قال الجمهور وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن والقلوب والحق والباطل فالماء القرآن نزل لحياة الجنان كالماء للأبدان والأدوية للقلوب . ومعنى { بقدرها } بقدر سعة القلب وضيقه ، والزبد هواجش النفس ووساوس الشيطان ، والماء الصافي المنتفع به مثل الحق فكما يذهب الزبد باطلاً ويبقى صفو الماء كذلك تذهب هواجس النفس ووساوس الشيطان ويبقى الحق كما هو وأما حلية الذهب والفضة فمثل للأحوال السنية والأخلاق الزكية وأما متاع الحديد والنحاس والرصاص فمثل للأعمال الممدة بالإخلاص المعدة للخلاص فإن الأعمال جالبة للثواب دافعة للعقاب كما أن تلك الجواهر بعضها أداة النفع في الكسب وبعضها آلة الدفع في الحرب وأما الزبد فالرياء والخلل والملل والكسل .(2/102)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
واللام في { لِلَّذِينَ استجابوا } أي أجابوا متعلقة ب { يضرب } أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا { لِرَبِّهِمُ الحسنى } وهي صفة لمصدر { استجابوا } أي استجابوا الاستجابة الحسنى { وَالَّذِينَ لَمْ يَستَجِيبُوا لَهُ } أي للكافرين الذين لم يستجيبوا أي هما مثلاً الفريقين . وقوله { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } كلام مبتدأ في ذكر ما أعد لغير المستجيبين أي لو ملكوا أموال الدنيا وملكوا معها مثلها لبذلوه ليدفعوا عن أنفسهم عذاب الله والوجه أن الكلام قد تم على الأمثال وما بعده كلام مستأنف والحسنى مبتدأ خبره { للذين استجابوا } والمعنى لهم المثوبة الحسنى وهي الجنة { والذين لم يستجيبوا } مبتدأ خبره «لو» مع ما في حيزه { أولئك لَهُمْ سُوءُ الحساب } المناقشة فيه في الحديث « " من نوقش الحساب عذب» " { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ومرجعهم بعد المحاسبة الناس { وَبِئْسَ المهاد } المكان الممهد والمذموم محذوف أي جهنم ، دخلت همزة الإنكار على الفاء في { أَفَمَن يَعْلَمُ } لإنكار أن تقع شبهة ما بعد ما ضرب من المثل في أن حال من علم { أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق } فاستجاب بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب وهو المراد بقوله : { كَمَنْ هُوَ أعمى } كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } أي الذين عملوا على قضايا عقولهم فنظروا واستبصروا .
{ الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } متبدأ والخبر { أولئك لهم عقبى الدار } كقوله { والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللعنة } [ الرعد : 25 ] وقيل هو صفة لأولي الألباب والأول أوجه وعهد الله ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته وأشهدهم على أنفسهم من الشهادة بربوبيته ألست بربكم قالوا بلى { وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق } ما أوثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد تعميم بعد تخصيص(2/103)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
{ والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } من الأَرحام والقرابات ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان { إنما المؤمنون إخوة } بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ونصرتهم والذب عنهم والشفقة عليهم وإفشاء السلام عليهم وعيادة مرضاهم ومنه مراعاة حق الأَصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي وعيده كله { وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } خصوصاً فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ } مطلق فيهما يصير عليه من المصائب في النفوس والأَموال ومشاق التكاليف { ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ } لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل وأوقره عند الزلازل ولا لئلا يعاب في الجزع { وأقاموا الصلاة } داوموا على إقامتها { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي من الحلال وإن كان الحرام رزقاً عندنا { سِرّا وَعَلاَنِيَةً } يتناول النوافل لأَنها في السر أفضل والفرائض لأَن المجاهرة بها أفضل نفياً للتهمة { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } ويدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيء غيرهم أو إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا وإذا أذنبوا تابوا وإذا هربوا أنابوا وإذا رأوا منكراً أمروا بتغييره فهذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة { أولئك لَهُمْ عقبى الدار } عاقبة الدنيا وهي الجنة لأَنها التي أرادها الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها .
{ جنات عَدْنٍ } بدل من عقبى الدار { يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ } أي آمن { مِنْ ءَابَائِهِمْ وأزواجهم وذرياتهم } وقرىء صلُح والفتح أفصح و { من } في محل الرفع بالعطف على الضمير في { يدخلونها } وساغ ذلك وإن لم يؤكد لأَن ضمير المفعول صار فاصلاً وأجاز الزجاج أن يكون مفعولاً معه ووصفهم بالصلاح ليعلم أن الأَنساب لا تنفع بنفسها والمراد أبو كل واحد منهم فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم { والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلِّ بَابٍ } في قدر كل يوم وليلة ثلاث مرات بالهدايا وبشارات الرضا(2/104)
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
{ سلام عَلَيْكُمُ } في موضع الحال إذ المعنى قائلين سلام عليكم أو مسلمين { بِمَا صَبَرْتُمْ } متعلق بمحذوف تقديره هذا بما صبرتم أي هذا الثواب بسبب صبركم عن الشهوات أو على أمر الله أو بسلام أي نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم والأَول أوجه { فَنِعْمَ عقبى الدار } الجنات { والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه } من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض } بالكفر والظلم { أولئك لَهُمُ اللعنة } الإبعاد من الرحمة { وَلَهُمْ سُوءُ الدار } يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا لأنه في مقابلة عقبى الدار وأن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ } أي ويضيق لمن يشاء والمعنى الله وحده وهو يبسط الرزق ويقدر دون غيره { وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا } بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم ولم يقابلوه بالشكر حتى يؤجروا بنعيم الآخرة { وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ متاع } وخفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نزراً يتمتع به كعجلة الراكب وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق .
{ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رَّبّهِ } أي الآية المقترحة { قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء } باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } ويرشد إلى دينه من رجع إليه بقلبه(2/105)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
{ الذين آمنوا } هم الذين أو محله النصب بدل مِن { مِن } { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ } تسكن { بِذِكْرِ الله } على الدوام أو بالقرآن أو بوعده { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } بسبب ذكره تطمئن قلوب المؤمنين { الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } مبتدأ
{ طوبى لَهُمْ } خبره وهو مصدر من طاب كبشرى ومعنى طوبى لك أصبت خيراً وطيباً ومحلها النصب أو الرفع كقولك طيباً لك وطيب لك وسلاماً لك وسلام لك . واللام في { لهم } للبيان مثلها في سقيا لك والواو في { طوبى } منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها كموقن والقراءة في { وَحُسْنُ مَئَابٍ } مرجع . بالرفع والنصب تدل على محليها { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ } مثل ذلك الإرسال أرسلناك إرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات ثم فسر كيف أرسله فقال { فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ } أي أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء { لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك { وَهُمْ يَكْفُرُونَ } وحال هؤلاء أنهم يكفرون { بالرحمن } بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء { قُلْ هُوَ رَبّي } ورب كل شيء { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي هو ربي الواحد المتعالي عن الشركاء { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في نصرتي عليكم { وَإِلَيْهِ مَتَابِ } مرجعي فيثيبني على مصابرتكم . { متابي } و { عقابي } و { مآبي } في الحالين : يعقوب .
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال } عن مقارِّها { أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض } حتى تتصدع وتتزايل قطعاً { أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى } فتسمع وتجيب لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف فجواب «لو» محذوف . أو معناه ولو أن قرآناً وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأَرض وتكليم الموتى وتنبيهم لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه كقوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة } [ الأنعام : 111 ] الآية { بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا } بل لله القدرة على كل شيء وهو قادر على الآيات التي اقترحوها { أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الذين ءَامَنُواْ } أفلم يعلم وهي لغة قوم من النخع وقيل إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه لأَن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون كما استعمل النسيان في معنى الترك لتضمن ذلك ، دليله قراءة علي رضي الله عنه { أفلم يتبين } وقيل إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوي السنات وهذه والله فرية ما فيها مرية { أَن لَّوْ يَشَاءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ } من كفرهم وسوء أعمالهم { قَارِعَةٌ } داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ } أو تحل القارعة قريباً منهم فيفزعون ويتطاير عليهم شررها ويتعدى إليهم شرورها { حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله } أي موتهم أو القيامة أو ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله من العداوة والتكذيب قارعة لأن جيش رسول الله يغير حول مكة ويختطف منهم أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك يوم الحديبية حتى يأتي وعد الله أي فتح مكة { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } أي لا خلف في موعده .(2/106)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
{ وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } الإملاء الإمهال وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله استهزاءً به وتسلية له(2/107)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
{ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ } احتجاج عليهم في إشراكهم بالله يعني أفالله الذي هو رقيب { على كُلّ نَفْسٍ } صالحة أو طالحة { بِمَا كَسَبَتْ } يعلم خيره وشره ويعد لكل جزاءه كمن ليس كذلك . ثم استأنف فقال { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء } أي الأصنام { قُلْ سَمُّوهُمْ } أي سموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم ثم قال : { أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأرض } على «أم» المنقطعة أي بل أتنبئونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السماوات والأرض فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء والمراد نفي أن يكون له شركاء { أَم بظاهر مّنَ القول } بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة كقوله { ذلك قَوْلُهُم بأفواههم } [ التوبه : 30 ] { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَآ } [ يوسف : 40 ] { بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } كيدهم للإسلام بشركهم { وَصُدُّواْ عَنِ السبيل } عن سبيل الله بضم الصاد كوفي وبفتحها غيرهم ومعناه وصدوا المسلمين عن سبيل الله { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } من أحد يقدر على هدايته { لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحياة الدنيا } بالقتل والأسر وأنواع المحن { وَلَعَذَابُ الأخرة أَشَقُّ } أشد لدوامه { وَمَا لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ } من حافظ من عذابه .
{ مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون } صفتها التي هي في غرابة المثل وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم مثل الجنة أو الخبر { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } كما تقول صفة زيد أسمر { أُكُلُهَا دَائِمٌ } ثمرها دائم الوجود لا ينقطع { وِظِلُّهَا } دائم لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس { تِلْكَ عقبى الذين اتقوا } أي الجنة الموصوفة عقبى تقواهم يعني منتهى أمرهم { وَّعُقْبَى الكافرين النار }(2/108)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
{ والذين ءاتيناهم الكتاب } يريد من أسلم من اليهود كابن سلام ونحوه ومن النصارى بأرض الحبشة { يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحزاب } أي ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة ككعب بن الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب وأشياعهما { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم وكانوا ينكرون نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وغير ذلك مما حرفوه وبدلوه من الشرائع { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ } هو جواب للمنكرين أي قل إنما أمرت فيما أنزل إلى بأن أعبد الله ولا أشرك به فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده فانظروا ماذا تنكرون مع ادعائكم وجوب عبادة الله وأن لا يشرك به { إِلَيْهِ ادعوا } خصوصاً لا أدعو إلى غيره { وَإِلَيْهِ } لا إلى غيره { مَئَابٍ } مرجعي وأنتم تقولون مثل ذلك فلا معنى لإنكاركم { وكذلك أنزلناه } ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه والإنذار بدار الجزاء { حُكْمًا عَرَبِيّا } حكمة عربية مترجمة بلسان العرب وانتصابه على الحال كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور يشاركهم فيها فقيل { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ العلم } أي بعد ثبوت العلم بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة { مَالَكَ مِنَ الله مِن وَلِىّ وَلاَ وَاقٍ } أي لا ينصرك ناصر ولا يقيك منه واق وهذا من باب التهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين وأن لا يزال زال عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الثبات بمكان . وكانوا يعيبونه بالزواج والولاد ويقترحون عليه الآيات وينكرون النسخ فنزل { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً } نساءاً وأولاداً { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي ليس في وسعه إتيان الآيات على ما يقترحه قومه وإنما ذلك إلى الله { لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ } لكل وقت حكم يكتب على العباد أي يفرض عليهم على ما تقتضيه حكمته(2/109)
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
{ يَمْحُو الله مَا يَشَاء } ينسخ ما يشاء نسخه { وَيُثَبِّتُ } بدله ما يشاء أو يتركه غير منسوخ أو يمحو من ديوان الحفظة ما يشاء ويثبت غيره أو يمحو كفر التائبين ويثبت إيمانهم أو يميت من حان أجله وعكسه { ويثبّت } مدني وشامي وحمزة وعلي { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } أي أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ لأن كل كائن مكتوب فيه { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم أو توفيناك قبل ذلك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } فيما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب { وَعَلَيْنَا الحساب } وعلينا حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم لا عليك فلا يهمنك إعراضهم ولا تستعجل بعذابهم { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأرض } أرض الكفرة { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } بما نفتح على المسلمين من بلادهم فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام وذلك من آيات النصرة والغلبة ، والمعنى عليك البلاغ الذي حملته ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من النصرة والظفر { والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ } لا راد لحكمه والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله وحقيقته الذي يعقبه أي يقفيه أي بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب والمعنى أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس ، ومحل { لا معقب لحكمه } النصب على الحال كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه كما تقول : جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة له تريد حاسراً { وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا(2/110)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{ وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي كفار الأمم الخالية بأنبيائهم والمكر إرادة المكروه في خفية ثم جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره فقال { فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا } ثم فسر ذلك بقوله { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار } يعني العاقبة المحمودة لأن من علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها فهو المكر كله لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون وهم في غفلة عما يراد بهم الكافر . على إرادة الجنس حجازي وأبو عمرو
{ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً } المراد بهم كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود قالوا : لست مرسلاً ولهذا قال عطاء هي مكية إلا هذه الآية { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } بما أظهر من الأدلة على رسالتي والباء دخلت على الفاعل و { شهيداً } تمييز { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } قيل هو الله عز وجل ، والكتاب : اللوح المحفوظ دليله قراءة من قرأ { ومن عنده علم الكتاب } أي ومن لدنه علم الكتاب لأن علم من علمه من فضله ولطفه ، وقيل ومن هو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم وقال ابن سلام : فيّ نزلت هذه الآية وقيل هو جبريل عليه السلام و { من } في موضع الجر بالعطف على لفظ { الله } أو في موضع الرفع بالعطف على محل الجار والمجرور إذ التقدير كفى الله وعلم الكتاب يرتفع بالمقدر في الظرف فيكون فاعلاً لأن الظرف صلة ل «من» و«من» هنا بمعنى الذي والتقدير من ثبت عنده علم الكتاب وهذا لأن الظرف إذا وقع صلة يعمل عمل الفعل «نحو مررت بالذي في الدار أخوه» فأخوه فاعل كما تقول «بالذي استقر في الدار أخوه» وفي القراءة بكسر ميم «من» يرتفع العلم بالابتداء .(2/111)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
مكية : اثنتان وخمسون آيه
{ آلر كِتَابٌ } هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب يعني السورة ، والجملة التي هي { أنزلناه إِلَيْكَ } في موضع الرفع صفة للنكرة { لِتُخْرِجَ الناس } بدعائك إياهم { مِنَ الظلمات إِلَى النور } من الضلالة إلى الهدى { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } بتيسيره وتسهيله مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب وذلك ما يمنحهم من التوفيق { إلى صراط } بدل من { النور } بتكرير العامل { العزيز } الغالب بالانتقام { الحميد } المحمود على الإنعام { الله } بالرفع مدني وشامي على هو «الله» وبالجر غيرهما على أنه عطف بيان للعزيز الحميد { الذى لَهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض } خلقاً وملكاً . ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل وهو نقيض الوأل وهو النجاة وهو اسم معنى كالهلاك فقال : { وَوَيْلٌ للكافرين مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } وهو مبتدأ وخبر ، وصفة { الذين يَسْتَحِبُّونَ } يختارون ويؤثرون { الحياة الدنيا عَلَى الأخرة وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } عن دينه { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } يطلبون لسبيل الله زيغا واعوجاجاً والأصل ويبغون لها فحذف الجار وأوصل الفعل . { الذين } مبتدأ خبره { أُوْلَئِكَ فِى ضلال بَعِيدٍ } عن الحق . ووصف الضلال بالبعد من الإسناد والمجازي والبعد في الحقيقة للضال لأنه هو الذي يتباعد عن طريق الحق فوصف به فعله كما تقول جد جده ، أو مجرور صفة للكافرين ، أو منصوب على الذم أو مرفوع على أعني الذين أوهم الذين .(2/112)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } إلا متكلماً بلغتهم { لِيُبَيّنَ لَهُمْ } ما هو مبعوث به وله فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولون له : لم نفهم ما خوطبنا به . فإن قلت : إن رسولنا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس جميعاً بقوله { قُلْ يا أَيُّهَا الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة قلت : لا يخلو ما إن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها فلا
حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل فتعين أن ينزل بلسان واحد ، وكان لسان قومه أولى بالتعيين لأنهم أقرب إليه ولأنه أبعد من التحريف والتبديل { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء } من آثر سبب الضلالة { وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ } من آثر سبب الاهتداء { وَهُوَ العزيز } فلا يغالب على مشيئته { الحكيم } فلا يخذل إلا أهل الخذلان { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بآياتنا } التسع { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ } بأن أخرج أو أي أخرج لأن الإرسال فيه معنى القول كأنه قيل : أرسلناه وقلنا له أخرج قومك { مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ، ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها أو بأيام الإنعام حيث ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وفلق لهم البحر { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ } على البلايا { شَكُورٍ } على العطايا كأنه قال لكل مؤمن إذ الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر
.(2/113)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب } «إذ» ظرف للنعمة بمعنى الإنعام أي إنعامه عليكم ذلك الوقت ، أو بدل اشتمال من نعمة الله أي اذكروا وقت إنجائكم { وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ } ذكر في البقرة { يذبحون } [ البقرة : 49 ] وفي الأعراف { يقتلون } [ الأعراف : 141 ] بلا واو ، وهنا مع الواو . والحاصل أن التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيراً للعذاب وبياناً له ، وحيث أثبت الواو جعل التذبيح من حيث إنه زاد على جنس العذاب كأنه جنس آخر { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِى ذلكم بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ } الإشارة إلى العذاب والبلاء المحنة أو إلى الإنجاء والبلاء النعمة . { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً { } [ الأنبياء : 35 ] { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } أي آذن ونظير «تأذن» و«آذن» توعد وأوعد . ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل كأنه قيل : وإذ آذن ربكم إيذاناً بليغاً تنتفي عنده الشكوك والشبه وهو من جملة ما قال موسى لقومه ، وانتصابه للعطف على { نعمة الله عليكم } كأنه قيل : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم والمعنى وإذ تأذن ربكم فقال : { لَئِن شَكَرْتُمْ } يا بني إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها { لأَزِيدَنَّكُمْ } نعمة إلى نعمة فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود وقيل : إذا سمعت النعمة نغمة الشكر تأهبت للمزيد . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لئن شكرتم بالجد في الطاعة لأزيدنكم بالجد في المثوبة { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } ما أنعمت به عليكم { إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ } لمن كفر نعمتي ، أما في الدنيا فسلب النعم وأما في العقبى فتوالى النقم .(2/114)
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
{ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ } يا بني إسرائيل { وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً } والناس كلهم { فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ } عن شكركم { حَمِيدٌ } وإن لم يحمده الحامدون وأنتم ضررتم أنفسكم حيث حرمتموها الخير الذي لا بد لكم منه { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } من كلام موسى لقومه أو ابتداء خطاب لأهل عصر محمد عليه السلام { والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضاً ، أو عطف { الذين من بعدهم } على { قوم نوح } و { لا يعلمهم إلا الله } اعتراض ، والمعنى أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون . ورُوى أنه عليه السلام قال عند نزول هذه الآية : كذب النسابون { جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } بالمعجزات { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ } الضميران يعودان إلى الكفرة أي أخذوا أناملهم بأسنانهم تعجباً أو عضوا عليها تغيظاً ، أو الثاني يعود إلى الأنبياء أي رد القوم أيديهم في أفواه الرسل كيلا يتكلموا بما أرسلوا به { وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ } من الإيمان بالله والتوحيد { مُرِيبٍ } موقع في الريبة { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ } أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه ، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وهو جواب قولهم { وإنا لفي شك } { فَاطِرِ السموات والأرض يَدْعُوكُمْ } إِلَى الإيمان { لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } إِذا آمنتم ولم تجيء مع «من» إلا في خطاب الكافرين كقوله : { واتقوه وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح : 4 ، 3 ] { ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } [ الاحقاف : 31 ] وقال في خطاب المؤمنين : { هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة } إلى أن قال : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ الصف : 11 ، 10 ] وغير ذلك مما يعرف بالاستقراء ، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد { وَيُؤَخّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى وقت قد سماه وبين مقداره .
{ قَالُواْ } أي القوم { إِنْ أَنتُمْ } ما أنتم { إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } لا فضل بيننا وبينكم ولا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوة دوننا { تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا } يعني الأصنام { فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ } بحجة بينة وقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتاً ولجاجا(2/115)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } تسليم قولهم إنهم بشر مثلهم { ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } بالإيمان والنبوة كما منّ علينا { وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بسلطان إِلاَّ بِإِذْنِ الله } جواب لقولهم : { فأتونا بسلطان مبين } والمعنى أن الإتيان بالآية التي قد اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا وإنما هو أمر يتعلق بمشيئة الله تعالى { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وإيذائكم ألا ترى إلى قوله : { وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله } معناه وأي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه { وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه وهو التوفيق لهداية كل منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين قال أبو تراب : التوكل طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والشكر عند العطاء والصبر عند البلاء { وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا آذَيْتُمُونَا } جواب قسم مضمر أي حلفوا على الصبر على أذاهم وأن لا يمسكوا عن دعائهم { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } أي فليثبت المتوكلون على توكلهم حتى لا يكون تكرارا .(2/116)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ } { سبْلنا } { لرسْلهم } أبو عمرو { لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَا } من ديارنا { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أي ليكونن أحد الأمرين إخراجكم أو عودكم وحلفوا على ذلك والعود بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن معه فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد { فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين } القول مضمر أو أجرى الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه { وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ } أي أرض الظالمين وديارهم . في الحديث : « من آذى جاره ورثه الله داره » { ذلك } الإهلاك والإسكان أي ذلك الأمر حق { لِمَنْ خَافَ مَقَامِي } موقفي وهو موقف الحساب أو المقام مقحم أو خاف قيامي عليه بالعلم كقوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] والمعنى أن ذلك حق للمتقين { وَخَافَ وَعِيدِ } { عذابي } وبالياء يعقوب { واستفتحوا } واستنصروا الله على أعدائهم وهو معطوف على أوحى إليهم { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ } وخسر كل متكبر بطر { عَنِيدٍ } مجانب للحق . معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم وقيل : الضمير للكفار ومعناه واستفتح الكفار على الرسل ظناً منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل وخاب كل جبار عنيد منهم ولم يفلح باستفتاحه { مِّن وَرَآئِهِ } من بين يديه { جَهَنَّمُ } وهذا وصف حاله وهو في الدنيا لأنه مرصد لجهنم فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حيث يبعث ويوقف { ويسقى } معطوف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى { مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ } ما يسيل من جلود أهل النار ، و { صديد } عطف بيان لماء لأنه مبهم فبين بقوله { صديد }(2/117)
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
{ يَتَجَرَّعُهُ } يشربه جرعة جرعة { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة كقوله : { لم يكد يراها } [ النور : 40 ] أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ } أي أسباب الموت من كل جهة أو من كل مكان من جسده وهذا تفظيع لما يصيبه من الآلام أي لو كان ثمة موت لكان كل واحد منها مهلكاً { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } لأنه لو مات لاستراح { وَمِن وَرَائِهِ } ومن بين يديه { عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله وأغلظ . وعن الفضيل هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد .
{ مَثَلُ الذين } مبتدأ محذوف الخبر أي فيما يتلى عليكم مثل الذين { كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم فقيل أعمالهم كرماد { اشتدت بِهِ الريح } { الرياح } مدني { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } جعل العصف لليوم وهو لما فيه وهو الريح كقولك : «يوم ماطر» ، وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسرى وعقر الإبل للأضياف وغير ذلك شبهها في حبوطها لبنائها على غير أساس وهو الإيمان بالله تعالى برماد طيرته الريح العاصف { لاَّ يَقْدِرُونَ } يوم القيامة { مِمَّا كَسَبُواْ } من أعمالهم { على شَيْءٍ } أي لا يرون له أثراً من ثواب كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء { ذلك هُوَ الضلال البعيد } إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب { أَلَمْ تَرَ } ألم تعلم الخطاب لكل أحد { أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض } { خالق } مضافاً حمزة وعلي { بالحق } بالحكمة والأمر العظيم ولم يخلقها عبثاً { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } أي هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقاً آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم إعلاماً بأنه قادر على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم(2/118)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
{ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ } بمتعذر .
{ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا } ويبرزون يوم القيامة وإنما جيء به بلفظ الماضي لأن ما أخبر به عز وجل لصدقه كأنه قد كان ووجد . ونحوه { وَنَادَى أصحاب الجنة } [ الأعراف : 44 ] { ونادى أصحاب النار } [ الأعراف : 50 ] وغير ذلك ، ومعنى بروزهم لله والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز لهم أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أن الله لا تخفى عليه خافية ، أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه { فَقَالَ الضعفاء } في الرأي وهم السفلة والأتباع وكتب الضعفاء بواو قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو { لِلَّذِينَ استكبروا } وهم السادة والرؤساء الذين استغووهم وصدوهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } تابعين . جمع تابع على تبع كخادم وخدم وغائب وغيب أو ذوي تبع والتبع الأتباع يقال : تبعه تبعاً { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } فهل تقدرون على دفع شيء مما نحن فيه . و«من» الأولى للتبيين والثانية للتبعيض كأنه قيل فهل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله أو هما للتبعيض أي فهل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله ولما كان قول الضعفاء توبيخاً لهم وعتاباً على استغوائهم لأنهم علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم { قَالُواْ } لهم مجيبين معتذرين { لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ } أي لو هدانا الله إلى الإيمان في الدنيا لهديناكم إليه أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم أي لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا } مستويان علينا الجزع والصبر والهمزة وأم للتسوية . روى أنهم يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر ثم يقولون { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } واتصاله بما قبله من حيث إن عتابهم لهم كان جزعاً مما هم فيه فقالوا لهم : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا يريدون أنفسهم وإياهم لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها يقولون : ما هذا الجزع والتوبيخ ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر { مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } منجى ومهرب جزعنا أم صبرنا ، ويجوز أن يكون هذا من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً .(2/119)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
{ وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر } حكم بالجنة والنار لأهليهما وفرغ من الحساب ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ورُوي أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً . على منبر من نار فيقول لأهل النار { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم { وَوَعَدتُّكُمْ } بأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء { فَأَخْلَفْتُكُمْ } كذبتكم { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان } من تسلط واقتدار { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } لكني دعوتكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني والاستثناء منقطع لأن الدعاء ليس من جنس السلطان { فاستجبتم } فأسرعتم إجابتي { فَلاَ تَلُومُونِي } لأن من تجرد للعداوة لا يلام إذا دعا إلى أمر قبيح مع أن الرحمن قد قال لكم : { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة } { [ الأعراف : 27 ] { وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } حيث اتبعتموني بلا حجة ولا برهان وقول المعتزلة هذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه وليس من الله إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين باطل لقوله : لو هدانا الله أي إلى الإيمان { لهديناكم } [ إبراهيم : 21 ] كما مر { مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } لا ينجي بعضنا بعضاً من عذاب الله ولا يغيثه . والإصراخ الإغاثة { بمصرخيِّ } حمزة اتباعاً للخاء غيره بفتح الياء لئلا تجتمع الكسرة والياءان بعد كسرتين وهو جمع مصرخ فالياء الأولى يا الجمع والثانية ضمير المتكلم { إِنّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ } وبالياء بصري و«ما» مصدرية { مِن قَبْلُ } متعلق ب { أشركتموني } أي كفرت اليوم بإشراككم إياي مع الله من قبل هذا اليوم أي في الدنيا كقوله { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } [ فاطر : 14 ] ومعنى كفره بإشراكهم إياه تبرؤه منه واستنكاره له كقوله : { أَنَاْ بَرَاء مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ } [ الممتحنة : 4 ] أو من قبل متعلق { بكفرت } و«ما» موصولة أي كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل . تقول : أشركني فلان أي جعلني له شريكاً ، ومعنى إشراكهم الشيطان بالله طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وهذا آخر قول الشيطان وقوله : { إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قول الله عز وجل . وقيل : هو من تمام إبليس وإنما حكى الله عز وجل ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون لطفاً للسامعين .(2/120)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
{ وَأُدْخِلَ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا } عطف على { برزوا } { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } متعلق ب { أدخل } أي أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } هو تسليم بعضهم على بعض في الجنة أو تسليم الملائكة عليهم { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً } أي وصفه وبينه { كَلِمَةً طَيّبَةً } نصب بمضمر أي جعل كلمة طيبة { كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } وهو تفسير لقوله : { ضرب الله مثلاً } نحو شرف الأمير زيداً كساه حلة وحمله على فرس ، أو انتصب { مثلا } ً و { كلمة } ب { ضرب } أي ضرب كلمة طيبة مثلاً يعني جعلها مثلاً ثم قال { كشجرة طيبة } على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي كشجرة طيبة { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } أي في الأرض ضارب بعروقه فيها { وَفَرْعُهَا } وأعلاها ورأسها { فِي السماء } والكلمة الطيبة كلمة التوحيد أصلها تصديق بالجنان ، وفرعها إقرار باللسان ، وأكلها عمل الأركان ، وكما أن الشجرة شجرة وإن لم تكن حاملاً فالمؤمن مؤمن وإن لم يكن عاملاً ولكن الأشجار لا تراد إلا للثمار فما أقوات النار إلا من الأشجار إذا اعتادت الإخفار في عهد الأثمار . والشجرة كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين ونحو ذلك والجمهور على أنها النخلة ، فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : « إن الله تعالى ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي؟ » فوقع الناس في شجر البوادي ، وكنت صبياً فوقع في قلبي أنها النخلة فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقولها وأنا أصغر القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا إنها النخلة » فقال عمر : يا بني لو كنت قلتها لكانت أحب إلي من حمر النعم(2/121)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
{ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } تعطي ثمرها كل وقت وقتها الله لإثمارها { بِإِذْنِ رَبّهَا } بتيسير خالقها وتكوينه { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني .
{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } هي كلمة الكفر { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } هي كل شجرة لا يطيب ثمرها وفي الحديث : أنها شجرة الحنظل { اجتثت مِن فَوْقِ الأرض } استؤصلت جثتها وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها وهو في مقابلة { أصلها ثابت } { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } أي استقرار يقال قر الشيء قراراً كقولك ثبت ثبوتاً ، شبه بها القول الذي لا يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت { يُثَبِّتُ الله الذين ءَامَنُواْ } أي يديمهم عليه { بالقول الثابت } هو قول «لا إله إلا الله محمد رسول الله» { في الحياة الدنيا } حتى إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود وغير ذلك { وَفِي الآخرة } الجمهور على أن المراد به في القبر بتلقين الجواب وتمكين الصواب ، فعن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال : " ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم ، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } ثم يقول الملكان : عشت سعيداً ومت حميداً نم نومة العروس " { وَيُضِلُّ الله الظالمين } فلا يثبتهم على القول الثابت في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وأزل { وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء } فلا اعتراض عليه في تثبيت المؤمنين وإضلال الظالمين(2/122)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله } أي شكر نعمة الله { كُفْراً } لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفراً ، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً وهم أهل مكة ، كرمهم بمحمد عليه السلام فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ } الذين تابعوهم على الكفر { دَارَ البوار } دار الهلاك { جَهَنَّمَ } عطف بيان { يَصْلَوْنَهَا } يدخلونها { وَبِئْسَ القرار } وبئس المقر جهنم { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا } أمثالا في العبادة أو في التسمية { لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ } وبفتح الياء : مكي وأبو عمرو { قُلْ تَمَتَّعُواْ } في الدنيا والمراد به الخذلان والتخلية . وقال ذو النون : التمتع أن يقضي العبد ما استطاع من شهوته { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } مرجعكم إليها .
{ قُل لّعِبَادِيَ الذين ءَامَنُواْ } خصهم بالإضافة إليه تشريفاً . وبسكون الياء شامي وحمزة وعلي والأعشى { يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } المقول محذوف لأن { قل } تقتضي مقولاً وهو أقيموا وتقديره : قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا . وقيل إنه أمر وهو المقول والتقدير ليقيموا ولينفقوا ، فحذف اللام لدلالة قل عليه ، ولو قيل يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام لم يجز { سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } انتصبا على الحال أي ذوي سر وعلانية يعني مسرين ومعلنين ، أو على الظرف أي وقتي سر وعلانية ، أو على المصدر أي إنفاق سر وإنفاق علانية ، والمعنى إخفاء التطوع وإعلان الواجب { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال } أي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة والخلال المخالة ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله . بفتحهما : مكي وبصري ، والباقون بالرفع والتنوين(2/123)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
{ الله } مبتدأ { الذي خَلَقَ السماوات والأرض } خبره { وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً } من السحاب مطراً { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } من الثمرات بيان للرزق أي أخرج به رزقاً هو ثمرات أو { من الثمرات } مفعول { أخرج } و { رزقاً } حال من المفعول { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِى البحر بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار * وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينِ } دائمين وهو حال من الشمس والقمر أي يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات { وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار } يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } «من» للتبعيض أي آتاكم بعض جميع ما سألتموه ، أو وآتاكم من كل شيء سألتموه وما لم تسألوه ف { ما } موصولة والجملة صفة لها ، وحذفت الجملة الثانية لأن الباقي يدل على المحذوف كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] { من كلّ } ٍ عن أبي عمرو { وما سألتموه } نفي ومحله النصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه أو «ما» موصولة أي وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } لا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال وأما التفصيل فلا يعلمه إلا الله { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ } بظلم النعمة بإغفال شكرها { كَفَّارٌ } شديد الكفران لها أو ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع والإنسان للجنس فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه .(2/124)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{ وَإِذْ قَالَ إبراهيم } واذكر إذ قال إبراهيم { رَبِّ اجعل هذا البلد } أي البلد الحرام { آمِناً } ذا أمن والفرق بين هذه وبين ما في البقرة أنه قد سأل فيها أن يجعله من جملة البلدان التي يأمن أهلها ، وفي الثاني أن يخرجه من صفة الخوف إلى الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمناً { واجنبني } وبعدني أي ثبتني وأدمني على اجتناب عبادتها كما قال { واجعلنا مسلمين لك } [ البقرة : 128 ] أي ثبتنا على الإسلام { وَبَنِيَّ } أراد بنيه من صلبه { أَن نَّعْبُدَ الأصنام } من أن نعبد الأصنام { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس } جعلن مضلات على طريق التسبيب لأن الناس ضلوا بسببهن فكأنهم أضللنهم { فَمَن تَبِعَنِي } على ملتي وكان حنيفاً مسلماً مثلي { فَإِنَّهُ مِنّي } أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي { وَمَنْ عَصَانِى } فيما دون الشرك { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أو ومن عصاني عصيان شرك فإنك غفور رحيم إن تاب وآمن { رَّبَّنَا إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِي } بعض أولادي وهم إسماعيل ومن ولد منه { بِوَادٍ } هو واد مكة { غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } لا يكون فيه شيء من زرع قط { عِندَ بَيْتِكَ المحرم } هو بيت الله سمي به لأن الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرماً لمكانه ، أو لأنه لم يزل ممنعاً يهابه كل جبار ، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكها ، أو لأنه حرم على الطوفان أي منع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه { رَّبَّنَا لِيِقُيمُواْ الصلاة } اللام متعلقة ب { أسكنت } أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } أفئدة من أفئدة الناس و«من» للتبعيض لما روي عن مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند . أو للابتداء كقولك : «القلب مني سقيم» تريد قلبي فكأنه قيل أفئدة ناس ، ونكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة { تَهْوِي إِلَيْهِمْ } تسرع إليهم من البلاد الشاسعة وتطير نحوهم شوقاً { وارزقهم مّنَ الثمرات } مع سكناهم وادياً ما فيه شيء منها بأن تجلب إليهم من البلاد الشاسعة { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات في واد ليس فيه شجر ولا ماء .(2/125)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
{ رَبَّنَا } النداء المكرر دليل التضرع واللجإ إلى الله { إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } تعلم السر كما تعلم العلن { وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَى الأرض وَلاَ فِي السماء } من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام ، أو من كلام إبراهيم و«من» للاستغراق كأنه قيل : وما يخفى على الله شيء ما { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر } «على» بمعنى «مع» وهو في موضع الحال أي وهب لي وأنا كبير { إسماعيل وإسحاق } روي أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة . ورُوي أنه ولد له إسمعيل لأربع وستين ، وإسحاق لتسعين ، وإنما ذكر حال الكبر لأن المنة بهبة الولد فيها أعظم لأنها حال وقوع اليأس من الولادة ، والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجل النعم ، ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم { إِنَّ رَبّي لَسَمِيعُ الدعاء } مجيب الدعاء من قولك «سمع الملك كلام فلان» إذا تلقاه بالإجابة والقبول ، ومنه سمع الله لمن حمده وكان قد دعا ربه وسأله الولد فقال : { رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين } فشكر الله ما أكرمه به من إجابته . وإضافة السميع إلى الدعاء من إضافة الصفة إلى مفعولها وأصله «لسميع الدعاء» وقد ذكر سيبويه فعيلاً في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل كقولك«هذا رحيم أباه»(2/126)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
{ رَبّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرّيَتِي } وبعض ذريتي عطفاً على المنصوب في اجعلني وإنما بعض لأنه علم بأعلام الله أنه يكون في ذريته كفار ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يزال من ولد إبراهيم ناس على الفطرة إلى أن تقوم الساعة { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } بالياء في الوصل والوقف : مكي ، وافقه أبو عمرو وحمزة في الوصل . الباقون بلا ياء أي استجب دعائي أو عبادتي { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } [ مريم : 48 ] { رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } أي آدم وحواء أو قاله قبل النهي واليأس عن إيمان أبويه { وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب } أي يثبت أو أسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازياً مثل { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون } تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ، والخطاب لغير الرسول عليه السلام وإن كان للرسول فالمراد تثبيته عليه السلام على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً كقوله : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ القصص : 88 ] وكما جاء في الأمر { يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } [ النساء : 136 ] وقيل : المراد به الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون لا يخفى عليه منه شيء ، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ البقرة : 283 ] { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ } أي عقوبتهم { لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } أي أبصارهم لا تقر في أماكنها من هول ما ترى { مُهْطِعِينَ } مسرعين إلى الداعي { مُقْنِعِي رُؤُوسُِِمْ } رافعيها { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } صفر من الخير لا تعي شيئاً من الخوف ، والهواء الذي لم تشغله الأجرام فوصف به فقيل : قلب فلان هواء إذا كان جباناً لا قوة في قلبه ولا جراءة . وقيل : جُوف لا عقول لهم(2/127)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
{ وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } أي يوم القيامة . و { يوم } مفعول ثان ل { أنذر } لا ظرف إذ الإنذار لا يكون في ذلك اليوم { فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ } أي الكفار { رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل } أي ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك فيقال لهم : { أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ } أي حلفتم في الدنيا أنكم إذا متم لا تزالون عن تلك الحالة ولا تنتقلون إلى دار أخرى يعني كفرتم بالبعث كقوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] و { ما لكم } جواب القسم . وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله : { أقسمتم } ولو حكى لفظ المقسمين لقيل ما لنا من زوال ، أو أريد باليوم يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ، أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى فإنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب .
يقال : سكن الدار وسكن فيها ومنه { وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر لأن السكنى من السكون وهو اللبث والأصل تعديته ب «في» نحو «قر في الدار وأقام فيها» ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل : «سكن الدار» كما قيل «تبوأها» ، ويجوز أن يكون سكنوا من السكون أي قروا فيها واطمأنوا طيبي النفوس سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد لا يحدثونها بما لقي الأولون من أيام الله ، وكيف كان عاقبة ظلمهم فيعتبروا ويرتدعوا { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ } بالأخبار أو المشاهدة وفاعل { تبين } مضمر دل عليه الكلام أي تبين لكم حالهم و { كَيْفَ } ليس بفاعل لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله وإنما نصب { كيف } بقوله { فَعَلْنَا بِهِمْ } أي أهلكناهم وانتقمنا منهم { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال } أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم وهو ما فعلوه من تأييد الكفر وبطلان الإسلام { وَعِندَ الله مَكْرهُمْ } وهو مضاف إلى الفاعل كالأول والمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه أو إلى المفعول أي عند الله مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يأتيهم من حيث لا يشعرون { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } بكسر اللام الأولى ونصب الثانية والتقدير : وإن وقع مكرهم لزوال أمر النبي صلى الله عليه وسلم فعبر عن النبي عليه السلام بالجبال لعظم شأنه ، و«كان تامة» و«إن» نافية واللام مؤكدة لها كقوله { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ } [ الأنفال : 33 ] والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً دليله قراءة ابن مسعود { وما كان مكرهم } وبفتح اللام الأولى ورفع الثانية عليُّ ، أي وإن كان مكرهم من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقطع عن أماكنها ف «إن» مخففة من «إن» واللام مؤكدة .(2/128)
{ فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } يعني قوله { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي } [ المجادلة : 21 ] { مخلف } مفعول ثانٍ ل { تحسبن } وأضاف { مخلف } إلى { وعده } وهو المفعول الثاني له والأول { رسله } والتقدير مخلف رسله وعده وإنما قدم المفعول الثاني على الأول ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله : { إن الله لا يخلف الميعاد } [ آل عمران : 9 ] ثم قال { رسله } ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته { إِنَّ الله عَزِيزٌ } غالب لا يماكر { ذُو انتقام } لأوليائه من أعدائه وانتصاب { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } على الظرف للانتقام أو على إضمار اذكر والمعنى يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة وتبدل السماوات غير السماوات وإنما حذف لدلالة ما قبله عليه والتبديل التغيير وقد يكون في الذوات كقولك «بدلت الدراهم دنانير» وفي الأوصاف كقولك «بدلت الحلقة خاتماً» إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل واختلف في تبديل الأرض والسماوات فقيل تبدل أوصافها وتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي تلك الأرض وإنما تغير . وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبواباً . وقيل : تخلق بدلها أرض وسماوات أخر . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة . وعن علي رضي الله عنه : تبدل أرضاً من فضة وسماوات من ذهب { وَبَرَزُواْ } وخرجوا من قبورهم { للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } هو كقوله : { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] لأن الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره كان الأمر في غاية الشدة(2/129)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
{ وَتَرَى المجرمين } الكافرين { يَوْمَئِذٍ } يوم القيامة { مُقْرَِّنِينَ } قرن بعضهم مع بعض أو مع الشياطين أو قرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين { فِي الأصفاد } متعلق ب { مقرنين } أي يقرنون في الأصفاد أو غير متعلق به والمعنى مقرنين مصفدين ، والأصفاد القيود أو الأغلال { سَرَابِيلُهُم } قمصهم { مّن قَطِرَانٍ } هو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ فيهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحدته وحره ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار وهو أسود اللون منتن الريح فيطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل ليجتمع عليهم لذع القطران وحرقته وإسراع النار في جلودهم واللون الوحش ونتن الريح على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين ، وكل ما وعده الله أو أوعد به في الآخرة فبينه وبين ما نشاهد من جنسه ما لا يقادر قدره ، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة نعوذ بالله من سخطه وعذابه من «قِطرٍ آن» زيد عن يعقوب نحاس مذاب بلغ حره إناه { وتغشى وُجُوهَهُمُ النار } تعلوها باشتعالها وخص الوجه لأنه أعز موضع في ظاهر البدن كالقلب في باطنه ولذا قال { تطلع على الأفئدة } [ الهمزة : 7 ](2/130)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
{ لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي كل نفس مجرمة ما كسبت أو كل نفس من مجرمة أو مطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المؤمنين بطاعتهم { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } يحاسب جميع العباد في أسرع من لمح البصر { هذا } أي ما وصفه في قوله : { ولا تحسبن } إلى قوله : { سريع الحساب } { بلاغ لّلنَّاسِ } كفاية في التذكير والموعظة { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } بهذا البلاغ وهو معطوف على محذوف أي لينصحوا ولينذروا { وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد لأن الخشية أم الخير كله { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } ذوو العقول .(2/131)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
{ الر تِلْكَ ءايات الكتاب وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ } { تلك } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب ، والقرآن المبين السورة ، وتنكير القرآن للتفخيم ، والمعنى تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً وأي قرآن مبين كأنه قيل : الكتاب الجامع للكمال وللغرابة في البيان { رُّبَمَا } بالتخفيف : مدني وعاصم ، وبالتشديد غيرهما ، و«ما» هي الكافة لأنها حرف يجر ما بعده ، ويختص الاسم النكرة فإذا كفت وقع بعدها الفعل الماضي والاسم . وإنما جاز { يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } لأن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل : ربما ود ، ووداتهم تكون عند النزع أو يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين ، وإذا رأوا المسلمين يخرجون من النار فيتمنى الكافر لو كان مسلماً ، كذا رُوى عن ابن عباس رضي الله عنهما { لَوْ كَانُواْ مَسْلِمِينَ } حكاية ودادتهم . وإنما جيء بها على لفظ الغيبة لأنهم مخبر عنهم كقولك : «حلف بالله ليفعلن» ولو قيل : «حلف يالله لأفعلن» و«لو كنا مسلمين» لكان حسناً وإنما قلل ب «رب» لأن أهوال القيامة تشغلهم عن التمني فإذا أفاقوا من سكرات العذاب ودوا لو كانوا مسلمين . وقول من قال : إن «رب» يعني بها الكثرة سهو لأنه ضد ما يعرفه أهل اللغة لأنها وضعت للتقليل(2/132)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
{ ذَرْهُمْ } أمر إهانة أي اقطع طمعك من ارعوائهم ودعهم عن النهي عما هم عليه والصد عنه بالتذكرة والنصيحة وخلهم { يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } بدنياهم { وَيُلْهِهِمُ الأمل } ويشغلهم أملهم وأمانيهم عن الإيمان { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } سوء صنيعهم ، وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين . { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ } ولها كتاب جملة واقعة صفة ل { قرية } والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء : 208 ] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف إذ الصفة ملتصقة بالموصوف بلا واو فجيء بالواو تأكيداً لذلك . والوجه أن تكون هذه الجملة حالاً ل { قرية } لكونها في حكم الموصوفة كأنه قيل : وما أهلكنا قرية من القرى لا وصفاً . وقوله : { كتاب معلوم } أي مكتوب معلوم وهو أجلها الذي كتب في اللوح المحفوظ وبين ألا ترى إلى قوله : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } في موضع كتابها { وَمَا يَسْتَئَخِرُونَ } أي عنه وحذف لأنه معلوم ، وأنث الأمة أولاً ثم ذكرها آخراً حملاً على اللفظ والمعنى . { وَقَالُواْ } أي الكفار { ياأيها الذى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } أي القرآن { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } يعنون محمداً عليه السلام ، وكان هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء كما قال فرعون { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] وكيف يقرون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم سائغ ومنه { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] { إِنَّكَ لاَنتَ الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] والمعنى إنك لتقول قول المجانين حيث تدعى أن الله نزل عليك الذكر(2/133)
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
{ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } «لو» ركبت مع «لا» و«ما» لامتناع الشيء لوجود غيره أو للتحضيض ، و«هل» ركبت مع «لا» للتحضيض فحسب ، والمعنى هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ، أو هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقاً { مَا نُنَزِّلُ الملائكة } كوفي غير أبي بكر ، { تُنَزَّل الملائكة } أبو بكر { تَنَزَّل الملائكة } أي تتنزل : غيرهم { إِلاَّ بالحق } إلا تنزيلاً ملتبساً بالحكمة { وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ } { إذا } جواب لهم وجزاء الشرط مقدر تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين إذاً وما أخر عذابهم { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } للقرآن { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } وهو رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم : { يا أيها الذي نزل عليه الذكر } ولذلك قال : { إنا نحن } فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع وأنه هو الذي نزله محفوظاً من الشياطين وهو حافظه في كل وقت من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغياً فوقع التحريف ، ولم يكل القرآن إلى غير حفظه وقد جعل قوله : { وإنا له لحافظون } دليلاً على أنه منزل من عنده آية إذ لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواه ، أو الضمير في { له } لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله : { والله يَعْصِمُكَ } { [ المائدة : 67 ] وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الأولين } أي ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً في الفرق الأولين ، والشيعة : الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة { وَمَا يَأْتِيهِم } حكاية حال ماضية لأن ما لا تدخل على المضارع إلا وهو في معنى الحال وعلى ماضٍ إلا وهو قريب من الحال { مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } يعزي نبيه عليه السلام(2/134)
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
{ كذلك نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ } أي كما سلكنا الكفر أو الاستهزاء في شيع الأولين نسلكه أي الكفر أو الاستهزاء في قلوب المجرمين من أمتك من اختار ذلك . يقال : سلكت الخيط في الإبرة وأسلكته إذا أدخلته فيها وهو حجة على المعتزلة في الأصلح وخلق الأفعال { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } بالله أو بالذكر وهو حال { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين كذبوا رسله وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِنَ السمآء } ولو أظهرنا لهم أوضح آية وهو فتح باب من السماء { فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ } يصعدون { لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أبصارنا } حيرت أو حبست من الإبصار أو من السكر ، { سكِرت } مكي أي حبست كما يحبس النهر من الجري ، والمعنى أن هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها ورأوا من العيان ما رأوا لقالوا هو شيء نتخايله لا حقيقة له ولقالوا { بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } قد سحرنا محمد بذلك ، أو الضمير للملائكة أي لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عياناً لقالوا ذلك . وذكر الظلول ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون وقال : إنما ليدل على أنهم يبتون القول بأن ذلك ليس إلا تسكيراً للأبصار { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السمآء } خلقنا فيها { بُرُوجاً } نجوماً أو قصوراً فيها الحرس أو منازل للنجوم { وزيناها } أي السماء { للناظرين وحفظناها } أي السماء { مِن كُلِّ شيطان رَّجِيمٍ } ملعون أو مرمي بالنجوم { إِلاَّ مَنِ استرق السمع } أي المسموع و«من» في محل النص على الاستثناء { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ } نجم ينقض فيعود { مُّبِينٌ } ظاهر للمبصرين . قيل : كانوا لا يحجبون عن السماوات كلها فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سماوات ، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها(2/135)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
{ والأرض مددناها } بسطناها من تحت الكعبة ، والجمهور على أنه تعالى مدها على وجه الماء { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي } في الأرض جبالاً ثوابت { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } وزن بميزان الحكمة وقدر بمقدار تقتضيه لا تصلح فيه زيادة ولا نقصان ، أوله وزن وقدر في أبواب المنفعة والنعمة ، أو ما يوزن كالزعفران والذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها ، وخص ما يوزن لانتهاء الكيل إلى الوزن { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا } في الأرض { معايش } ما يعاش به من المطاعم جمع معيشة وهي بياء صريحة بخلاف الخبائث ونحوها فإن تصريح الياء فيها خطأ { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين } { من } في محل النصب بالعطف على { معايش } أو على محل { لكم } كأنه قيل وجعلنا لكم فيها معايش وجعلنا لكم من لستم له برازقين ، أو جعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين يظنون أنهم يرزقونهم ويخطئون فإن الله هو الرزاق يرزقهم وإياهم ، ويدخل فيه الأنعام والدواب ونحو ذلك . ولا يجوز أن يكون محل { من } جراً بالعطف على الضمير المجرور في { لكم } لأنه لا يعطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار { وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } ذكر الخزائن تمثيل والمعنى وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به ، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } جمع لاقحة أي وأرسلنا الرياح حوامل بالسحاب لأنها تحمل السحاب في جوفها كأنها لاقحة بها من لقحت الناقة حملت وضدها العقيم . { الريح } حمزة { فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } فجعلناه لكم سقياً { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين } نفى عنهم ما اثبته لنفسه في قوله : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } كأنه قال : نحن الخازنون للماء على معنى نحن القادرون على خلقه في السماء وإنزاله منها ، وما أنتم عليه بقادرين دلالة عظيمة على قدرته وعجزهم(2/136)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيي وَنُمِيتُ } أي نحيي بالإيجاد ونميت بالإفناء ، أو نميت عند انقضاء الآجال ونحيي لجزاء الأعمال على التقديم والتأخير إذ الواو للجمع المطلق { وَنَحْنُ الوارثون } الباقون بعد هلاك الخلق كلهم . وقيل : للباقي وارث استعارة من وارث الميت لأنه يبقى بعد فنائه { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستخرين } من تقدم ولادة وموتاً ومن تأخر ، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد ، أو من تقدم في الإسلام أو في الطاعة أو في صف الجماعة أو في صف الحرب ومن تأخر ، { وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } أي هو وحده يقدر على حشرهم ويحيط بحصرهم { إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } باهر الحكمة واسع العلم . { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } أي آدم { مِن صلصال } طين يابس غير مطبوخ { مِّنْ حَمَإٍ } صفة { لصلصال } أي خلقه من صلصال كائن من حمإ أي طين أسود متغير { مَّسْنُونٍ } مصور
وفي الأول كان تراباً فعجن بالماء فصار طيناً فمكث فصار حمأ فخلص فصار سلالة فصوِّر ويبس فصار صلصالاً فلا تناقض { والجآن } أبا الجن كآدم للناس أو هو إبليس وهو منصوب بفعل مضمر يفسره { خلقناه مِن قَبْلُ } من قبل آدم { مِن نَّارِ السموم } من نار الحر الشديد النافذ في المسام . قيل : هذه السموم جزء من سبعين جزءاً من سموم النار التي خلق الله منها الجان { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } واذكر وقت قوله { للملائكة إِنّى خالق بَشَرًا مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أتممت خلقته وهيأتها لنفخ الروح فيها { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } وجعلت فيه الروح وأحييته وليس ثمة نفخ وإنما هو تمثيل والإضافة للتخصيص { فَقَعُواْ لَهُ ساجدين } هو أمر من وقع يقع أي اسقطوا على الأرض يعني اسجدوا له ، ودخل الفاء لأنه جواب «إذا» وهو دليل على أنه يجوز تقدم الأمر عن وقت الفعل(2/137)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)
{ فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } فالملائكة جمع عام محتمل للتخصيص فقطع باب التخصيص بقوله { كلهم } وذكر الكل احتمل تأويل التفرق فقطعه بقوله { أجمعون } { إِلاَّ إِبْلِيسَ } ظاهر الإستثناء يدل على أنه كان من الملائكة لأن المستثنى يكون من جنس المستثنى منه . وعن الحسن أن الاستثناء منقطع ولم يكن هو من الملائكة . قلنا : غير المأمور لا يصير بالترك ملعوناً . و في الكشاف كان بينهم مأموراً معهم بالسجود فغلب اسم الملائكة ثم استثنى بعد التغليب كقولك «رأيتهم إلا هنداً» { أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } امتنع أن يكون معهم و { أبى } استئناف على تقدير قول قائل يقول : هلا سجد؟ فقيل : أبى ذلك واستكبر عنه . وقيل : معناه ولكن إبليس أبى . { قَالَ يا بْلِيسُ مَالَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين } حرف الجر مع أن محذوف تقديره مالك في أن لا تكون مع الساجدين أي أي غرض لك في إبائك السجود { قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ } اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني أن أسجد { لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فاخرج مِنْهَا } من السماء أو من الجنة أو من جملة الملائكة { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } مطرود من رحمة الله ومعناه ملعون لأن اللعنة هي الطرد من الرحمة والإبعاد منها { وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين } ضرب يوم الدين حداً للعنة لأنه أبعد غاية يضربها الناس في كلامهم ، والمراد به إنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السماوات والأرض إلى يوم الدين من غير أن تعذب فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما ينسى اللعن معه(2/138)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
{ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى } فأخرني { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } { يوم الدين } و { يوم يبعثون } و { يوم الوقت المعلوم } في معنى واحد ، ولكن خولف بين العبارات سلوكاً بالكلام طريقة البلاغة . وقيل : إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت لأنه لا يموت يوم البعث أحد فلم يجب إلى ذلك وانظر إلى آخر أَيام التكليف { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى } الباء للقسم و«ما» مصدرية وجواب القسم لأزينن لهم ومعنى أقسم بإغوائك إياي { لازَيِّنَنَّ لَهُمْ } المعاصي ونحو قوله { بما أغويتني لأزينن لهم } { فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ } [ ص : 82 ] في أنه إقسام إلا أن أحدهما إقسام بصفه الذات والثاني بصفة الفعل ، وقد فرق الفقهاء بينهما فقال العراقيون : الحلف بصفة الذات كالقدرة والعظمة والعزة يمين ، والحلف بصفة الفعل كالرحمة والسخط ليس بيمين . والأصح أن الأيمان مبنية على العرف فما تعارف الناس الحلف به يكون يميناً ومالاً فلا ، والآية حجة على المعتزلة في خلق الأفعال . وحملهم على التسبيب عدول عن الظاهر { فِى الأرض } في الدنيا التي هي دار الغرور ، وأراد إني أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء فأنا على التزيين لأولاده في الأرض أقدر . { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } وبكسر اللام : بصري ومكي وشامي استثنى المخلص لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلونه منه . { قَالَ هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } أي هذا طريق حق عليَّ أن أراعيه وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته . وقيل : معنى { على } إلي . { على } يعقوب من علو الشرف والفضل(2/139)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } الضمير للغاوين { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ } من أتباع إبليس { جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } نصيب معلوم مفرز . قيل : أبواب النار أطباقها وأدراكها ، فأعلاها للموحدين يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون ، والثاني لليهود ، والثالث للنصارى ، والرابع للصابئين ، والخامس للمجوس ، والسادس للمشركين ، والسابع للمنافقين { إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ } وبضم العين : مدني وبصري وحفص . المتقي على الإطلاق من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه . وقال في الشرح : إن دخل أهل الكبائر في قوله { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } فالمراد بالمتقين الذين اتقوا الكبائر وإلا فالمراد به الذين اتقوا الشرك { ادخلوها } أي يقال لهم ادخلوها { بِسَلامٍ } حال أي سالمين أو مسلماً عليكم تسلم عليكم الملائكة { ءَامِنِينَ } من الخروج منهما والآفات فيها وهو حال أخرى { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } وهو الحقد الكامن في القلب أي إن كان لأحدهم غل في الدنيا على آخر نزع الله ذلك في الجنة من قلوبهم وطيب نفوسهم . وعن علي رضي الله عنه : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم . وقيل : معناه طهر الله قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ونزع منها كل غل وألقى فيها التوادد والتحابب { إِخْوَانًا } حال { على سُرُرٍ متقابلين } كذلك قيل تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين يرى بعضهم بعضاً { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } في الجنة تعب { وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } فتمام النعمة بالخلود ، ولما أتم ذكر الوعد والوعيد أتبعه .(2/140)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
{ نَبِّىءْ عِبَادِى أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } تقريراً لما ذكر وتمكيناً له في النفوس . قال عليه السلام : " لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع عن حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه في العبادة ولما أقدم على ذنب " وعطف { وَنَبِّئْهُمْ } وأخبر أمتك . عطفه على { نبىء عبادي } ليتخذوا ما أحل من العذاب بقوم لوط عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ويتحققوا عنده أن عذابه هو العذاب الأليم { عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } أي أضيافه وهو جبريل عليه السلام مع أحد عشر ملكاً ، والضيف يجىء واحداً وجمعاً لأنه مصدر ضافه { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا } أي نسلم عليك سلاماً أو سلمنا سلاماً { قَالَ } أي إبراهيم { إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } خائفون لامتناعهم من الأكل أو لدخولهم بغير إذن وبغير وقت { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ } لا تخف { إِنَّا نُبَشِّرُكَ } استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل أي إنك مبشر آمن فلا توجل . وبالتخفيف وفتح النون : حمزة { بغلام عَلِيمٍ } هو إسحاق لقوله في سورة هود { فبشرناها بإسحاق { } [ هود : 71 ] { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى على أَن مَّسَّنِىَ الكبر } أي أبشرتموني مع مس الكبر بأن يولد لي أي إن الولادة أمر مستنكر عادة مع الكبر { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } هي «ما» الاستفهامية دخلها معنى التعجب كأنه قيل : فبأي أعجوبة تبشرون ، وبكسر النون والتشديد : مكي ، والأصل «تبشرونني» فأدغم نون الجمع في نون العماد ثم حذفت الياء وبقيت الكسرة دليلاً عليها . { تبشرون } بالتخفيف : نافع ، والأصل «تبشرونني» فحذفت الياء اجتزاء بالكسرة وحذف نون الجمع لاجتماع النونين ، والباقون : بفتح النون ، وحذف المفعول والنون نون الجمع(2/141)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
{ قَالُواْ بشرناك بالحق } باليقين الذي لا لبس فيه { فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين } من الآيسين من ذلك { قَالَ } أي إبراهيم { وَمَن يَقْنَطُ } وبكسر النون : بصري وعلي { مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون } إلا المخطئون طريق الصواب أو إلا الكافرون كقوله : { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] أي لم أستنكر ذلك قنوطاً من رحمته ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها . { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ } فما شأنكم { أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } أي قوم لوط { إِلآ ءَالَ لُوطٍ } يريد أهله المؤمنين ، والاستثناء منقطع لأن القوم موصوفون بالإجرام والمستثني ليس كذلك ، أو متصل فيكون استثناء من الضمير في { مجرمين } كأنه قيل : إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم ، والمعنى يختلف باختلاف الاستثناءين لأن آل لوط مخرجون في المنقطع من حكم الإرسال يعنى أنهم ارسلوا إلى القوم المجرمين خاصة ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلاً ، ومعنى ارسالهم إلى القوم المجرمين كإرسال السهم إلى المرمى في أنه في معنى التعذيب والإهلاك كأنه قيل : إنا أهلكنا قوماً مجرمين ولكن آل لوط أنجيناهم . وأما في المتصل فهم داخلون في حكم الإرسال يعني أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء . وإذا انقطع الاستثناء جرى { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } مجرى خبر لكن في الاتصال بآل لوط لأن المعنى . لكن آل لوط منجون ، وإذا اتصل كان كلاماً مستأنفاً كأن إبراهيم عليه السلام قال لهم : فما حال آل لوط؟ فقالوا : إنا لمنجوهم { إِلاَّ امرأته } مستثنى من الضمير المجرور في { لمنجوهم } وليس باستثناء من الاستثناء ، لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه بأن يقول «أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته» وهنا قد اختلف الحكمان لأن إلا آل لوط متعلق ب { أرسلنا } أو ب { مجرمين } و { إلا امرأته } متعلق ب { منجوهم } فكيف يكون استثناء من استثناء . { لمنجوهم } بالتخفيف : حمزة وعلي { قَدَّرْنَآ } وبالتخفيف : أبو بكر { إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } الباقين في العذاب . قيل : لو لم تكن اللام في خبرها لوجب فتح «إن» لأنه مع اسمه وخبره مفعول { قدرنا } ولكنه كقوله { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } { الصافات : 158 ) وإنما أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم ولم يقولوا قدر الله لقربهم كما يقول خاصة الملك أمرنا بكذا والآمر هو الملك .(2/142)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
{ فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ المرسلون قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي لا أعرفكم أي ليس عليكم زي السفر ولا أنتم من أهل الحضر فأخاف أن تطرقوني بشر { قَالُواْ بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما فيه سرورك وتشفيك من أعدائك وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله فيمترون فيه أي يشكون ويكذبونك { وأتيناك بالحق } باليقين من عذابهم { وِإِنَّا لصادقون } في الإخبار بنزوله بهم { فَأْسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ } في آخر الليل أو بعد ما يمضي شيء صالح من الليل { واتبع أدبارهم } وسر خلفهم لتكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم ، أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف لأن من يلتفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفة { وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } حيث أمركم الله بالمضي إليه وهو الشام أو مصر { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } عدى { قضينا } ب «إلى» لأنه ضمن معنى أوحينا كأنه قيل : وأوحينا إليه مقضياً مبتوتاً ، وفسر ذلك الأمر بقوله { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ } وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر ودابرهم آخرهم أي يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد { مُّصْبِحِينَ } وقت دخولهم في الصبح وهو حال من { هؤلاء }(2/143)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
{ وَجَآءَ أَهْلُ المدينة } سدوم التي ضرب بقاضيها المثل في الجور { يَسْتَبْشِرُونَ } بالملائكة طمعاً منهم في ركوب الفاحشة { قَالَ } لوط { إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ } بفضيحة ضيفي لأن من أساء إلى ضيفي فقد أساء إليّ { واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ } أي ولا تذلوني بإذلال ضيفي من الخزي وهو الهوان . وبالياء فيهما : بعقوب { قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين } عن أن تجير منهم أحداً أو تدفع عنهم فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد ، وكان عليه السلام يقوم بالنهي عن المنكر والحجز بينهم وبين المتعرض له فأوعدوه وقالوا { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين } [ الشعراء : 167 ] أو عن ضيافة الغرباء { قَالَ هؤلاءآء بَنَاتِى } فانكحوهن وكان نكاح المؤمنات من الكفار جائزاً ولا تتعرضوا لهم { إِن كُنتُمْ فاعلين } إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم فقالت الملائكة للوط عليه السلام { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ } أي في غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطإ الذي هم عليه وبين الصواب الذي تشير به عليهم من ترك البنين إلى البنات { يَعْمَهُونَ } يتحيرون فيكيف يقبلون قولك ويصغون إلى نصيحتك ، أو الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط تعظيماً له . والعُمر والعَمر واحد وهو البقاء إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح إيثاراً للأخف لكثرة دور الحلف على ألسنتهم ولذا حذفوا الخبر وتقديره لعمرك قسمي(2/144)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } صيحة جبريل عليه السلام { مُشْرِقِينَ } داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس { فَجَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا } رفعها جبريل عليه السلام إلى السماء ثم قلبها والضمير لقرى قوم لوط { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسِّمِينَ } للمتفرسين المتأملين كأنهم يعرفون باطن الشيء بسمة ظاهرة { وَإِنَّهَا } وإن هذه القرى يعني آثارها { لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد . وهم يبصرون تلك الآثار وهو تنبيه لقريش كقوله { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل } { [ الصافات : 137 ] إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } لأنهم المنتفعون بذلك . { وَإِن كَانَ أصحاب الأيكة } وإن الأمر والشأن كان أصحاب الأيكة أي الغيضة { لظالمين } لكافرين وهم قوم شعيب عليه السلام { فانتقمنا مِنْهُمْ } فأهلكناهم لما كذبوا شعيباً { وَإِنَّهُمَا } يعني قرى قوم لوط والأيكة { لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } لبطريق واضح والإمام اسم ما يؤتم به فسمى به الطريق ومِطمر البناء لأنهما مما يؤتم به { وَلَقَدْ كَذَّبَ أصحاب الحجر المرسلين } هم ثمود ، والحجر واديهم وهو بين المدينة والشام المرسلين يعني بتكذيبهم صالحاً لأن كل رسول كان يدعو إلى الإيمان بالرسل جميعاً ، فمن كذب واحداً منهم فكأنما كذبهم جميعاً ، أو أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين كما قيل «الخبيبون» في ابن الزبير وأصحابه { وءاتيناهم ءاياتنا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي أعرضوا عنها ولم يؤمنوا بها { وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا } أي ينقبون في الجبال بيوتاً أو يبنون من الحجارة { ءَامِنِينَ } لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تنهدم ومن نقب اللصوص والأعداء ، أو آمنين من عذاب الله يحسبون أن الجبال تحميهم منه { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } العذاب { مُّصْبِحِينَ } في اليوم الرابع وقت الصبح { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من بناء البيوت الوثيقة واقتناء الأموال النفيسة . { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق } إلا خلقاً ملتبساً بالحق لا باطلاً وعبثا أو بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال { وَإِنَّ الساعة } أي القيامة لتوقعها كل ساعة { لآتِيَةٌ } وإن الله ينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه ما خلق السموات والأَرض وما بينهم ، إلا لذلك
{ فاصفح الصفح الجميل } فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً بحلم وإغضاء . قيل : هو منسوخ بآية السيف ، وإن أريد به المخالفة فلا يكون منسوخاً { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق } الذي خلقك وخلقهم { العليم } بحالك وحالهم فلا يخفي عليه ما يجري بينكم وهو يحكم بينكم { وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا } أي سبع آيات وهي الفاتحة أو سبع سور وهي الطوال ، واختلف في السابعة فقيل الأنفال وبراءة لأنهما في حكم سورة بدليل عدم التسمية بينهما ، وقيل سورة يونس أو أسباع القرآن { مِّنَ المثاني } هي من التثنية وهي التكرير لأن الفاتحة مما يتكرر في الصلاة ، أو من الثناء لاشتمالهما على ما هو ثناء على الله ، والواحدة مثناة أو مثنية صفة للآية .(2/145)
وأما السور أو الأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد ولما فيها من الثناء كأنها تثني على الله ، وإذا جعلت السبع مثاني فمن للتبيين ، وإذا جعلت القرآن مثاني ف «من» للتبعيض { والقرءان العظيم } هذا ليس بعطف الشيء على نفسه لأنه إذا أريد بالسبع الفاتحة أو الطوال فما وراءهن ينطلق عليه اسم القرآن لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على الكل دليله قوله { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان } [ يوسف : 3 ] يعني سورة يوسف ، وإذا أريد به الأَسباع فالمعنى ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم أي الجامع لهذين النعتين وهو التثنية أو الثناء والعظم . ثم قال لرسوله(2/146)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
{ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } أي لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمن له { إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ } أصنافاً من الكفار كاليهود والنصارى والمجوس يعني قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة وهي القرآن العظيم فعليك أن تستغني به ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا . وفي الحديث « ليس منا من لم يتغن بالقرآن » وحديث أبي بكر « من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغّر عظيماً وعظم صغيراً » { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي لا تتمن أموالهم ولا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام والمسلمون { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وطب نفساً عن إيمان الأغنياء { وَقُلْ } لهم { إِنِّى أَنَا النذير المبين } أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم(2/147)
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
{ كَمَآ أَنْزَلْنَا } متعلق بقوله { ولقد آتيناك } أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا { عَلَى المقتسمين } وهم أهل الكتاب { الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ } أجزاء جمع عضة وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء حيث قالوا بعنادهم : بعضه . حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه . وقيل كانوا يستهزئون به فيقول بعضهم سورة البقرة لي ، ويقول الآخر سورة آل عمران لي . أو أريد بالقرآن ما يقرؤونه من كتبهم وقد اقتسموه؛ فاليهود أقرت ببعض التوراة وكذبت ببعض ، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض ، ويجوز أن يكون { الذين جعلوا القرآن عضين } منصوباً ب { النذير } أي أنذر المعضين الذين يجزّئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ، ويقول الآخر : كذاب ، والآخر : شاعر فأهلكهم الله . { لا تمدن عينيك } على الوجه الأول اعتراض بينهما ، لأنه لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم اعترض بما هو مدار لمعنى التسلية من النهي عن الإلتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ومن الأمر بأن يقبل بكليته على المؤمنين . { فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أقسم بذاته وربوبيته ليسألن يوم القيامة واحداً واحداً من هؤلاء المقتسمين عما قالوه في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في القرآن أو في كتب الله { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } فاجهر به وأظهره . يقال : صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً من الصديع وهو الفجر ، أو فاصدع فافرق بين الحق والباطل من الصدع في الزجاجة وهو الإبانة بما تؤمر به من الشرائع فحذف الجار كقوله : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
{ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } هو أمر استهانة بهم(2/148)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمسْتَهْزِئينَ } الجمهور على أنها نزلت في خمسة نفر كانوا يبالغون في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به فأهلكهم الله وهم : الوليد بن المغيرة مر بنبّال فتعلق بثوبه سهم فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات ، والعاص بن وائل دخل في أخمصه شوكة فانفتخت رجله فمات ، والأسود بن عبد المطلب عمي ، والأسود ابن عبد يغوث جعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات ، والحارث بن قيس امتخط قيحاً ومات { الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إلها ءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } عاقبة أمرهم يوم القيامة { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } فيك أو في القرآن أو في الله { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين } فافزع فيما نابك إلى الله ، والفزع إلى الله هو الذكر الدائم وكثرة السجود يكفك ويكشف عنك الغم { واعبد رَبَّكَ } ودم على عبادة ربك { حتى يَأْتِيَكَ اليقين } أي الموت يعني ما دمت حياً فاشتغل بالعبادة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .(2/149)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة ونزول العذاب بهم يوم بدر استهزاء وتكذيباً بالوعد فقيل لهم : { أتى أَمْرُ الله } أي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظراً لقرب وقوعه { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } تبرأ جل وعز عن أن يكون له شريك وعن إشراكهم ، ف { ما } موصولة أو مصدرية ، واتصال هذا باستعجالهم من حيث إن استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك { يُنَزِّلُ الملائكة } وبالتخفيف مكي وأبو عمرو { بالروح } بالوحي أو بالقرآن لأن كلاً منهما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد أو يحيي القلوب الميتة بالجهل { مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ } أن مفسرة لأن تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول ومعنى أنذروا { أَنَّهُ لآ إله إِلا أَنَاْ فاتقون } أعلموا بأن الأمر ذلك من نذرت بكذا إذا علمته ، والمعنى أعلموا الناس قولي لا إله إلَّا أنا فاتقون فخافون . وبالياء : يعقوب ، ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر مما لا يقدر عليه غيره من خلق السماوات والأرض وهو قوله(2/150)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
{ خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وبالتاء في الموضعين : حمزة وعلي . وخلق الإنسان وما يكون منه وهو قوله { خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } أي فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح لخصومه مبين لحجته بعدما كان نطفة لا حس به ولا حركة ، أو فإذا هو خصيم لربه منكر على خالقه قائل من يحيى العظام وهي رميم . وهو وصف للإنسان بالوقاحة والتمادي في كفران النعمة وخلق ما لا بد منه من خلق البهائم لأكله وركوبه وحمل أثقاله وسائر حاجاته وهو قوله { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ } وهي الأزواج الثمانية وأكثر ما يقع على الإبل ، وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر كقوله { والقمر قدرناه مَنَازِلَ } [ ياس : 39 ] أو بالعطف على الإنسان أي خلق الإنسان والأنعام ثم قال خلقها لكم أي ما خلقها إلا لكم يا جنس الإنسان { فِيهَا دِفْءٌ } هو اسم ما يدفأ به من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر { ومنافع } وهي نسلها ودرها { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } قدم الظرف وهو يؤذن بالاحتصاص ، وقد يؤكل من غيرها لأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به وكالجاري مجرى التفكه { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ } تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } ترسلونها بالغداة إلى مسارحها . منّ الله تعالى بالتجمل بها كما منّ بالاتنفاع بها لأَنه من أغراض أصحاب المواشي لأَن الرعيان إذا روحوها بالعشي وسرحوها بالغداة تزينت بإراحتها وتسريحها الأَفنية ، وفرحت أربابها وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس . وإنما قدمت الإراحة على التسريح لأَن الجمال في الإِراحة أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع(2/151)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } أحمالكم { إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس } وبفتح الشين : أبو جعفر وهما لغتان في معنى المشقة . وقيل : المفتوح مصدر شق الأمر عليه وشقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع ، وأما الشق فالنصف كأنه يذهب نصف قوته لما ينال من الجهد . والمعنى وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه لو لم تخلق الإبل إلا بجهد ومشقة فضلاً أن تحملوا أثقالكم على ظهوركم ، أو معناه لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس . وقيل : أثقالكم أبدانكم ومنه الثقلان للجن والإنس ومنه { وأخرجت الأرض أثقالها } [ الزلزلة : 2 ] أي بني آدم { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } عطف على الأنعام أي وخلق هذه للركوب والزينة ، وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله على حرمة أكل لحم الخيل بأنه علل خلقها للركوب والزينة ولم يذكر الأكل بعدما ذكره في الأنعام ، ومنفعة الأكل أقوى ، والآية سيقت لبيان النعمة ولا يليق بالحكيم أن يذكر في مواضع المنة أدنى النعمتين ويترك أعلاهما . وانتصاب { زينة } على المفعول له عطفاً على محل { لتركبوها } وخلق مالا تعلمون من أصناف خلائقه وهو قوله { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ومنْ هذا وصفه يتعالى عن أن يشرك به غيره { وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل } المراد به الجنس ولذا قال { وَمِنْهَا جَائِرٌ } والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد . يقال : سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه ، ومعناه أن هداية الطريق الموصل إلى الحق عليه كقوله { إِنَّ عَلَيْنَا للهدى } [ الليل : 12 ] وليس ذلك للوجوب إذ لا يجب على الله شيء ولكن يفعل ذلك تفضلاً . وقيل : معناه وإلى الله . وقال الزجاج : معناه وعلى الله تبيين الطريق الواضح المستقيم والدعاء إليه بالحجج { ومنها جائر } أي من السبيل مائل عن الاستقامة { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أراد هداية اللطف بالتوفيق والإنعام بعدالهدى العام .(2/152)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
{ هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ } { لكم } متعلق ب «أنزل» أو خبر ل «شراب» وهو ما يشرب { وَمِنْهُ شَجَرٌ } يعني الشجر الذي ترعاه المواشي { فِيهِ تُسِيمُونَ } من سامت الماشية إذا رعت فهي سائمة وأسامها صاحبها وهي من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والاعناب وَمِن كُلِّ الثمرات } ولم يقل كل الثمرات لأن كلها لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من كل للتذكرة { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته والآية الدلالة الواضحة { وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ } بنصب الكل : عليّ وجعل النجوم مسخرات والنجوم مسخرات فقط : حفص { والشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخرات } شامي على الابتداء والخبر { إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } جمع الآية . وذكر العقل لأن الآثار العلوية أطهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأرض } معطوف على { الليل والنهار } أي ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك { مُخْتَلِفًا } حال { أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } يتعظون(2/153)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
{ وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّاً } هو السمك ، ووصفه بالطراوة لأن الفساد ، يسرع إليه فيؤكل سريعاً طرياً خيفة الفساد وإنما لا يحنث بأكله إذا حلف لا يأكل لحماً لأن مبني الإيمان على العرف . ومن قال لغلامه : اشتر بهذه الدراهم لحماً ، فجاء بالسمك كان حقيقاً بالإنكار { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً } هي اللؤلؤ والمرجان { تَلْبَسُونَهَا } المراد بلبسهم لبس نسائهم ولكنهن إنما يتزين بها من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم . { وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ } جواري تجري جرياً وتشق الماء شقاً والمخرشق الماء بحيزومها { فِيهِ } في البحر { وَلِتَبْتَغوُا مِن فَضْلِهِ } هو عطف على محذوف أي لتعتبروا ولتبتغوا وابتغاء الفضل التجارة { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله على ما أنعم عليكم به { وألقى فِى الأرض رَوَاسِيَ } جبالاً ثوابت { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } كراهية أن تميل بكم وتضطرب أو لئلا تميد بكم لكن حذف المضاف أكثر . قيل : خلق الله الأرض فجعلت تميد فقالت الملائكة : ما هي بمقر أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت { وأنهارا } وجعل فيها أنهاراً لأن ألقى فيه معنى جعل { وَسُبُلاً } طرقاً { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إلى مقاصدكم أو إلى توحيد ربكم { وعلامات } هي معالم الطرق وكل ما يستدل به السابلة من جبل وغير ذلك { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } المراد بالنجم الجنس أو هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدى . فإن قلت : { وبالنجم هم يهتدون } مخرج عن سنن الخطاب مقدم فيه النجم مقحم فيه هم كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون فمن المراد بهم؟ قلت : كأنه أراد قريشاً فلهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم ولهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم ، فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم فخصصوا(2/154)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
{ أَفَمَن يَخْلُقُ } أي الله تعالى { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } أي الأصنام وجيء ب { من } الذي هو لأولي العلم لزعمهم حيث سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم ، أو لأن المعنى أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده . وإنما لم يقل أفمن لا يخلق كمن يخلق مع اقتضاء المقام بظاهره إياه لكونه إلزاماً للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله لأنهم حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهاً بها فأنكر عليهم ذلك بقوله { أفمن يخلق كمن لا يخلق } وهو حجة على المعتزلة في خلق الأفعال { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } فتعرفون فساد ما أنتم عليه { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم فضلاً أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر ، وإنما اتبع ذلك ما عدد من نعمه تنبيهاً على أن ما رواءها لا ينحصر ولا يعد { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعمة ولا يقطعها عنكم لتفريطكم . { والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } من أقوالكم وأفعالكم وهو وعيد { والذين يَدْعُونَ } والآلهة الذين يدعوهم الكفار { مِن دُونِ الله } وبالتاء : غير عاصم { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ } أي هم أموات { غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث ، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون أموات جاهلون بالبعث ، ومعنى { أموات غير أحياء } أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات أي غير جائز عليها الموت وأمرهم بالعكس من ذلك . والضمير في { يبعثون } للداعين أي لا يشعرون متى تبعث عبدتهم ، وفيه تهكم بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء أعمالهم منهم على عبادتهم ، وفيه دلالة على أنه لا بد من البعث(2/155)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
{ إلهكم إله واحد } أي ثبت بما مر أن الإلهية لا تكون لغير الله وأن معبودكم واحد { فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } للوحدانية { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } عنها وعن الإقرار بها { لاَ جَرَمَ } حقا { أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي سرهم وعلانيتهم فيجازيهم وهو وعيد { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } عن التوحيد يعني المشركين . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } لِهؤلاء الكفار { مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أساطير الأولين } { ماذا } منصوب ب { أَنزل } أي أيَّ شيء أنزل ربكم ، أو مرفوع على الابتداء أي أيُّ شيء أنزله ربكم و { أساطير } خبر مبتدأ محذوف . قيل : هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أساطير الأولين أي أحاديث الأولين وأباطيلهم واحدتها أسطورة ، وإذا رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونهم بصدقه وأنه نبي فهم الذين قالوا خيراً { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ } أي قالوا ذلك إضلالاً للناس فحملوا أوزار ضلالهم كاملة وبعض أوزار من ضل بضلالهم وهو وزر الإضلال لأن المضل والضال شريكان واللام للتعليل { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال { أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } محل «ما» رفع { قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد } أي من جهة القواعد وهي الأساطين ، وهذا تمثيل يعني أنهم سوّوا منصوبات ليمكروا بها رسل الله فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين ، فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا ، والجمهور على أن المراد به نمرود بن كنعان حين بني الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع وقيل فرسخان فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا فأتى الله أي أمره بالاستئصال { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون .(2/156)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
{ ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ } يذلهم بعذاب الخزي سوى ما عذبوا به في الدنيا { وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } على الإضافة إلى نفسه حكاية لإضافتهم ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم { الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ } تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم { تشاقون } نافع أي تشاقونني فيهم لأن مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } أي الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم فلا يلتفتون إليهم ويشاقونهم يقولون ذلك شماتة بهم أو هم الملائكة { إِنَّ الخزى اليوم } الفضيحة { والسوء }
العذاب { عَلَى الكافرين الذين تتوفاهم الملائكة } وبالياء : حمزة وكذا ما بعده { ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ } بالكفر بالله { فَأَلْقَوُاْ السلم } أي الصلح والاستسلام أي أخبتوا وجاؤوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق وقالوا { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ } وجحدوا ما وجد منهم من الكفران والعداوة فرد عليهم أولو العلم وقالوا { بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فهو يجازيكم عليه وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك { فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } جهنم .(2/157)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا } الشرك { مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا } وإنما نصب هذا ورفع { أساطير } لأن التقدير هنا أنزل خيراً فأطبقوا الجواب على السؤال وثمة التقدير هو أساطير الأولين فعدلوا بالجواب عن السؤال { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا } أي آمنوا وعملوا الصالحات أو قالوا : لا إله إلا الله { حَسَنَةٌ } بالرفع أي ثواب وأمن وغنيمة وهو بدل من { خيراً } حكاية لقول { الذين اتقوا } أي قالوا هذا القول فقدم عليه تسميته خيراً . ثم حكاه ، أو هو كلام مستأنف عدة للقائلين وجعل قولهم من جملة إحسانهم { وَلَدَارُ الاخرة خَيْرٌ } أي لهم في الآخرة ما هو خير منها كقوله { فآتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } [ آل عمران : 148 ] { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } دار الآخرة فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكره { جنات عَدْنٍ } خبر لمبتدأ محذوف أو هي المخصوص بالمدح { يَدْخُلُونَهَا } حال { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ المتقين الذين تتوفاهم الملائكة طَيِّبِينَ } طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم { يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ } قيل : إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك ، فقال : السلام عليك يا ولي الله ، الله يقرأ عليك السلام ، ويبشره بالجنة ويقال لهم في الآخرة { ادخلوا الجنة بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بعملكم { هَلْ يَنظُرُونَ } ما ينتظر هؤلاء الكفار { إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } لقبض أرواحهم . وبالياء : علي وحمزة { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ } أي العذاب المستأصل أو القيامة { كذلك } مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب { فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } بتدميرهم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } حيث فعلوا ما استحقوا به التدمير(2/158)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } جزاء سيئات أعمالهم { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } وأحاط بهم جزاء استهزائهم : { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلآ ءابَآؤُنَا } هذا كلام صدر منهم استهزاء ولو قالوه اعتقاداً لكان صواباً { وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ } يعني البحيرة والسائبة ونحوهما { كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي كذبوا الرسل وحرموا الحلال وقالوا مثل قولهم استهزاء { فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين } إلا أن يبلغوا الحق ويطّلعوا على بطلان الشرك وقبحه { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله } بأن وحدوه { واجتنبوا الطاغوت } الشيطان يعني طاعته { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله } لاختيارهم الهدى { وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } أي لزمته لاختياره إياها { فَسِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } حيث أهلكهم الله وأخلى ديارهم عنهم . ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم وأعلمه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة فقال { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ } بفتح الياء وكسر الدال : كوفي . الباقون : بضم الياء وفتح الدال ، والوجه فيه أن { من يضل } مبتدأ و { لا يهدي } خبره { وَمَا لَهُم مِّن ناصرين } يمنعونهم من جريان حكم الله عليهم ويدفعون عنهم عذابه الذي أعد لهم . { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } معطوف على { وقال الذي أشركوا } { لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ بلى } هو إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا } وهو مصدر مؤكد لما دل عليه { بلى } لأن { يبعث } موعد من الله وبين أن الوفاء بهذا الوعد حق { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن وعده حق أو أنهم يبعثون(2/159)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
{ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ } متعلق بما دل عليه { بلى } أي يبعثهم ليبين لهم ، والضمير ل { من يموت } وهو يشمل المؤمنين والكافرين { الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } هو الحق { وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين } في قولهم { لا يبعث الله من يموت } { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي فهو يكون ، وبالنصب : شامي وعلي ، على جواب . كن { قولنا } مبتدأ و { أن نقول } خبره و { كن فيكون } من «كان» التامة التي بمعنى الحدوث والوجود أي إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له أحدث فهو يحدث بلا توقف ، وهذه عبارة عن سرعة الإيجاد تبين أن مراداً لا يمتنع عليه ، وأن وجوده عند إرادته غير متوقف كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع المتمثل ولا قول ثَم . والمعنى أن إيجاد كل مقدور على الله بهذه السهولة فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من بعض المقدورات؟ { والذين هاجروا فِى الله } في حقه ولوجهة { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } هم رسول الله وأصحابه ظلمهم أهل مكة ففروا بدينهم إلى الله ، منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فجمع بين الهجرتين ، ومنهم من هاجر إلى المدينة { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدنيا حَسَنَة } صفة للمصدر أي تبوئة حسنة أو لنبوئنهم مباءة حسنة وهي المدينة حيث آواهم أهلها ونصروهم { وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ } الوقف لازم عليه لأن جواب { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } محذوف والضمير للكفار أي لو علموا ذلك لرغبوا في الدين أو للمهاجرين أي لو كانوا يعلمون لزادوا في اجتهادهم وصبرهم { الذين صَبَرُواْ } أي هم الذين صبروا أو أعني الذين صبروا ، وكلاهما مدح أي صبروا على مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤوسهم ، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي يفوضون الأمر إلى ربهم ويرضون بما أصابهم في دين الله . ولما قالت قريش : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً نزل(2/160)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ } يوحى اليهم على ألسنة الملائكة . { نوحي } حفص { فاسألوا أَهْلَ الذكر } أهل الكتاب ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشراً . وقيل للكتاب الذكر لأنه موعظة وتنبيه للغافلين { إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } أي بالمعجزات والكتب والباء يتعلق ب { رجالاً } صفة له أي رجالاً ملتبسين بالبينات ، أو بأرسلنا مضمراً كأنه قيل : بم أرسل الرسل؟ فقيل : بالبينات ، أو ب { يوحي } أي يوحي إليهم بالبينات أو ب { لا تعلمون } ، وقوله : { فاسألوا أهل الذكر } اعتراض على الوجوه المتقدمة وقوله { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر } القرآن { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } في الذكر مما أمروا به ونهوا عنه ووعدوا به وأوعدوا { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } في تنبيهاته فينتبهوا { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات } أي المكرات السيئات ، وهم أهل مكة وما مكروا به رسول الله عليه السلام { أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض } كما فعل بمن تقدمهم { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } أي بغتة { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ } متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } متخوفين وهو أن يهلك قوماً قبلهم فيتخوفوا فيأخذهم العذاب وهم متخوفون متوقعون وهو خلاف قوله { من حيث لا يشعرون } [ الزمر : 25 ] { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } حيث يحلم عنكم ولا يعاجلكم مع استحقاقكم ، والمعنى أنه إذا لم يأخذكم مع ما فيكم فإنما رأفته تقيكم ورحمته تحميكم .(2/161)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ } وبالتاء : حمزة وعلي وأبو بكر { إلى مَا خَلَقَ الله } «ما» موصولة ب { خلق الله } وهو مبهم بيانه { مِن شَىْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظلاله } أي يرجع من موضع إلى موضع . وبالتاء : بصري { عَنِ اليمين } أي الأيمان { والشمآئل } جمع شمال { سُجَّدًا لِلَّهِ } حال من الظلال . عن مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء { وَهُمْ داخرون } صاغرون وهو حال من الضمير في { ظلاله } لأنه في معنى الجمع وهو ما خلق الله من كل شيء له ظل . وجمع بالواو والنون لأن الدخور من أوصاف العقلاء ، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب . والمعنى أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها أي ترجع الظلال من جانب إلى جانب ، منقادة لله تعالى غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ والأجرام في أنفسها ، داخرة أيضاً صاغرة منقادة لأفعال الله فيها غير ممتنعة { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض مِن دَآبَّةٍ } «من» بيان لما في السماوات وما في الأرض جميعاً على أن في السماوات خلقاً يدبون فيها كما تدب الأناسي في الأرض ، أو بيان لما في الأرض وحده والمراد بما في السماوات ملائكتهن ، وبقوله { والملئكة } ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم . قيل : المراد بسجود المكلفين طاعتهم وعبادتهم ، وبسجود غيرهم انقيادهم لإرادة الله . ومعنى الانقياد يجمعهما فلم يختلفا فلذا جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد . وجيء ب «ما» إذ هو صالح للعقلاء وغيرهم ولو جيء ب «من» لتناول العقلاء خاصة { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يخافون رَبَّهُمْ } هو حال من الضمير في { لا يستكبرون } أي لا يستكبرون خائفين { مِّن فَوْقِهِمْ } إن علقته ب { يخافون } فمعناه يخافونه أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم ، وإن علقته ب { ربهم } حالاً منه فمعناه يخافون ربهم غالباً لهم قاهراً كقوله { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } { [ الانعام : 61 ، 18 ] وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي وأنهم بين الخوف والرجاء .(2/162)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
{ وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } فإن قلت : إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين فقالوا عندي رجال ثلاثة ، لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص ، فأما رجل ورجلان فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال «رجل واحد ورجلان اثنان» . قلت : الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين : على الجنسية والعدد المخصوص . فإذا أريدت الدلالة على أن المعنيّ به منهما هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به ، ألا ترى أنك لو قلت «إنما هو إله» ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية { فإياي فارهبون } نقل الكلام عن الغيبة إلى التكلم وهو من طريقة الالتفات وهو أبلغ في الترغيب من قوله «فإياي فارهبوه» . { فارهبوني } يعقوب { وَلَهُ مَا فِى السموات والأرض وَلَهُ الدين } أي الطاعة { وَاصِبًا } واجباً ثابتاً لأن كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه ، وهو حال عمل فيه الظرف ، أو وله الجزاء دائماً يعني الثواب والعقاب { أفغيرالله تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مّن نِّعْمَةٍ } وأي شيء اتصل بكم من نعمة عافية وغنى وخصب { فَمِنَ الله } فهو من الله { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر } المرض والفقر والجدب { فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ } فما تتضرعون إلا إليه ، والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } الخطاب في و { ما بكم من نعمة } إن كان عاماً فالمراد بالفريق الكفرة ، وإن كان الخطاب للمشركين فقوله { منكم } للبيان لا للتبعيض كأنه قال : فإذا فريق كافر وهم أنتم ، ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر كقوله { فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 32 ] { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } من نعمة الكشف عنهم كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة ، ثم أوعدهم فقال { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } هو عدول إلى الخطاب على التهديد { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رزقناهم } أي لآلهتهم ، ومعنى { لا يعلمون } أنهم يسمونها آلهة ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله وليس كذلك لأنها جماد لا تضر ولا تنفع ، أو الضمير في { لا يعلمون } للآلهة أي لأشياء غير موصوفة بالعلم ولا تشعر أجعلوا لها نصيباً في أنعامهم وزروعهم أم لا ، وكانوا يجعلون لهم ذلك تقرباً إليهم { تالله لَتُسْئَلُنَّ } وعيد { عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } من أنها آلهة وأنها أهل للتقرب إليها { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات } كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله { سبحانه } تنزيه لذاته من نسبة الولد إليه أو تعجب من قولهم { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } يعني البنين .(2/163)
ويجوز في «ما» الرفع على الابتداء و { لهم } الخبر ، والنصب على العطف على { البنات } ، و { سبحانه } اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه أي وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدَّا } أي صار فظل وأمسى وأصبح وبات تستعمل بمعنى الصيرورة لأن أكثر الوضع يتفق بالليل فيظل نهاره مغتماً مسود الوجه من الكآبة والحياء من الناس { وَهُوَ كَظِيمٌ } مملوء حنقاً على المرأة { يتوارى مِنَ القوم مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } يستخفى منهم من أجل سوء المبشر به ومن أجل تعييرهم ويحدث نفسه وينظر { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ } أيمسك ما بشر به على هون وذل { أَمْ يَدُسُّهُ فِى التراب } أم يئده { أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ } حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم لله ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف .(2/164)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
{ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء } صفة السوء وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ، ووأدهن خشية الإملاق { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } وهو الغني عن العالمين والنزاهة عن صفات المخلوقين { وَهُوَ العزيز } الغالب في تنفيذ ما أراد { الحكيم } في إمهال العباد { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } بكفرهم ومعاصيهم { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } على الأرض { مِن دَآبَّةٍ } قط ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين . عن أبي هريرة رضي الله عنه : إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما . { من دابة } من مشرك يدب { ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى } أي أجل كل أحد أو وقت تقتضيه الحكمة أو القيامة { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } ما يكرهونه لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم ومن الاستخفاف برسلهم ، ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } مع ذلك أي ويقولون الكذب { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } عند الله وهي الجنة إن كان البعث حقاً كقوله { وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] و { أن لهم الحسنى } بدل من { الكذب } { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } { مفرِطون } نافع { مفرِّطون } أبو جعفر . فالمفتوح بمعنى مقدمون إلى النار معجلون إليها من أفرطت فلاناً وفرطته في طلب الماء إذا قدمته ، أو منسيون متروكون من أفرطت فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته . والمكسور المخفف من الإفراط في المعاصي ، والمشدد من التفريط في الطاعات أي التقصير فيها .(2/165)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
{ تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ } أي أرسلنا رسلاً إلى من تقدمك من الأمم { فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ } من الكفر والتكذيب بالرسل { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } أي قرينهم في الدنيا تولى إضلالهم بالغرور ، أو الضمير لمشركي قريش أي زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم ، أو هو على حذف المضاف أي فهو ولي أمثالهم اليوم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في القيامة { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } القرآن { إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ } للناس { الذى اختلفوا فِيهِ } هو البعث لأنه كان فيهم من يؤمن به { وَهُدًى وَرَحْمَةً } معطوفان على محل { لتبين } إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب . ودخلت اللام على { لتبيين } لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ والله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع إنصاف وتدبر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه لا يسمع . { وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ } وبفتح النون : نافع وشامي وأبو بكر . فال الزجاج : سقيته وأسقيته بمعنى واحد . ذكر سيبويه الأنعام في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ولذا رجع الضمير إليه مفرداً ، وأما في بطونها في سورة «المؤمنين» فلأن معناه الجمع وهو استئناف كأنه قيل : كيف العبرة؟ فقال { نسقيكم مما في بطونه } { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا } أي يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله . قيل إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً ، والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها فتجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث في الكرش ثم ينحدر ، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر . وسئل شقيق عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم { سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ } سهل المرور في الحلق ، ويقال : لم يغص أحد باللبن قط . و«من» الأولى للتبعيض لأن اللبن بعض ما في بطونها ، والثانية لابتداء الغاية .(2/166)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
ويتعلق { وَمِن ثمرات النخيل والأعناب } بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما وحذف لدلالة { نسقيكم } قبله عليه وقوله { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } بيان وكشف عن كنه الإسقاء ، أو تتخذون ومنه من تكرير الظرف للتوكيد ، والضمير في { منه } يرجع إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير ، والسكر الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو رشد رشداً ورشداً . ثم فيه وجهان : أحدهما أن الآية سابقة على تحريم الخمر فتكون منسوخة ، وثانيهما أن يجمع بين العتاب والمنة . وقيل : السكر النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ثم يترك حتى يشتد ، وهو حلال عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلى حد السكر ، ويحتجان بهذه الآية وبقوله عليه السلام : " الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب " وبأخبار جمة { وَرِزْقًا حَسَنًا } هو الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك { إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } وألهم { أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا } هي «أن» المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول . قال الزجاج : واحد النحل نحلة كنخل ونخلة والتأنيث باعتبار هذا ، و«من» في { من الجبال } { وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } يرفعون من سقوف البيت أو ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تعسل فيها للتبعيض لأنها لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش والضمير في { يعرشون } للناس ، وبضم الراء : شامي وأبو بكر(2/167)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
{ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات } أي ابني البيوت ثم كلي كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها { فاسلكى سُبُلَ رَبِّكِ } فادخلي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل ، أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك لا تضلين فيها { ذُلُلاً } جمع ذلول وهي حال من السبل لأن الله تعالى ذللها وسهلها ، أو من الضمير في { فاسلكي } أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ } يريد العسل لأنه مما يشرب تلقيه من فيها { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } منه أبيض وأصفر وأحمر من الشباب والكهول والشيب أو على ألوان أغذيتها { فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ } لأنه من جملة الأدوية النافعة ، وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل . وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض كما أن كل دواء كذلك ، وتنكيره لتعظيم الشفاء الذي فيه ، أو لأن فيه بعض الشفاء لأن النكرة في الإثبات تخص ، وشكا رجل استطلاق بطن أخيه فقال عليه السلام : « اسقه عسلاً » فجاءه وقال : زاده شراً فقال عليه السلام : « صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلاً » فسقاه فصح . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : « العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور ، فعليكم بالشفاءين : القرآن والعسل » ومن بدع الروافض أن المراد بالنحل عليّ وقومه . وعن بعضهم أن رجلاً قال عند المهدي : إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم . فقال له رجل : جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي ، وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في عجيب أمرها فيعلمون أن الله أودعها علماً بذلك وفطنها كما أعطى أولي العقول عقولهم .(2/168)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
{ والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يتوفاكم } بقبض أرواحكم من أبدانكم { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } إلى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة أو ثمانون أو تسعون { لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا } لينسى ما يعلم أو لئلا يعلم زيادة علم على علمه { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بحكم التحويل إلى الأرذل من الأكمل أو إلى الإفناء من الإحياء { قَدِيرٌ } على تبديل ما يشاء كما يشاء من الأشياء { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق } أي جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم { فَمَا الذين فُضِّلُواْ } في الرزق يعني الملاك { بِرَآدِّي } بمعطي { رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أيمانهم } فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملبس والمطعم { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } جملة اسمية وقعت في موضع جملة فعلية في موضع النصب لأنه جواب النفي بالفاء وتقديره : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا مع عبيدهم في الرزق ، وهو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء فقال لهم : أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ، ولا تجعلونهم فيه شركاء ، ولا ترضون ذلك لأنفسكم ، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟ { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } وبالتاء : أبو بكر ، فجعل ذلك من جملة جحود النعمة .(2/169)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
{ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي من جنسكم { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم بَنِينَ وَحَفَدَةً } جمع حافد وهو الذي يحفد أي يسرع في الطاعة والخدمة ومنه قول القانت
وإليك نسعى ونحفد ... واختلف فيه فقيل : هم الأختان على البنات وقيل : أولاد الأولاد . والمعنى وجعل لكم حفدة أي خدماً يحفدون في مصالحكم ويعينونكم { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات } أي بعضها لأن كل الطيبات في الجنة وطيبات الدنيا أنموذج منها { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } هو ما يعتقدونه من منفعة الأصنام وشفاعتها { وَبِنعْمَتِ اللهِ } أي الإسلام { هُمْ يَكْفُرُونَ } أو الباطل الشيطان والنعمة محمد صلى الله عليه وسلم أو الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله ما أحل لهم { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السماوات والأرض شَيْئًا } أي الصنم وهو جماد لا يملك أن يرزق شيئاً ، فالرزق يكون بمعنى المصدر وبمعنى ما يرزق ، فإن أردت المصدر نصبت به { شيئاً } أي لا يملك أن يرزق شيئاً ، وإن أردت المرزوق كان { شيئا } ً بدلاً منه أي قليلاً ، و { من السماوات والأرض } صلة للرزق إن كان مصدراً أي لا يرزق من السماوات مطراً ولا من الأرض نباتاً ، وصفة إن كان اسماً لما يرزق ، والضمير في { ولاَ يَسْتَطِيعُونَ } لما لأنه في معنى الآلهة بعدما قال لا يملك على اللفظ ، والمعنى لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه ولا يتأتى ذلك منهم { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } فلا تجعلوا لله مثلًا فإنه لا مثل له أي فلا تجعلوا له شركاء { أَنَّ الله يَعْلَمُ } أنه لا مثل له من الخلق { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك أو إن الله يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك والوجه الأول . ثم ضرب المثل فقال : { ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا } هو بدل من { مثلاً } { مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرَّا وَجَهْرًا } مصدران في موضع الحال أي مثلكم في إشراككم بالله الأوثان مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف وبين حر مالك قد رزقه الله مالاً فهو يتصرف فيه وينفق منه ما شاء . وقيد بالمملوك ليميزه من الحر لأن اسم العبد يقع عليهما جميعاً إذ هما من عباد الله وب { لا يقدر على شيء } ليمتاز من المكاتب والمأذون فيهما يقدران على التصرف . و«من» موصوفة أي وحراً رزقناه ليطابق عبداً ، أو موصولة { هَلْ يَسْتَوُونَ } جمع الضمير لإرادة الجمع أي لا يستوي القبيلان { الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } بأن الحمد والعبادة لله ثم زاد في البيان فقال :(2/170)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ على شَىْءٍ } الأبكم الذي ولد أخرس فلا يفهم ولا يفهم { وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ } أي ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح { هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } أي ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة فهو يأمر الناس بالعدل والخير { وَهُوَ } في نفسه { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } على سيرة صالحة ودين قويم ، وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده من آثار رحمته ونعمته وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع { وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض } أي يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه ، أو أراد بغيب السماوات والأرض يوم القيامة على أن علمه غائب عن أهل السماوات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم { وَمَآ أَمْرُ الساعة } في قرب كونها وسرعة قيامها { إِلاَّ كَلَمْحِ البصر } كرجع طرف ، وإنما ضرب به المثل لأنه لا يعرف زمان أقل منه { أَوْ هُوَ } أي الأمر { أَقْرَبُ } وليس هذا لشك المخاطب ولكن المعنى ، كونوا في كونها على هذا الاعتبار . وقيل : بل هو أقرب { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق لأنه بعض المقدورات ثم دل على قدرته بما بعده فقال :(2/171)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
{ والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أمهاتكم } وبكسر الألف وفتح الميم : عليّ اتباعاً لكسرة النون وبكسرهما : حمزة ، والهاء مزيدة في أمهات للتوكيد كما زيدت في «أراق» فقيل «أهراق» وشذت زيادتها في الواحدة { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } حال أي غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه ، واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه . والأفئدة في فؤاد كالأغربة في غراب وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة لعدم السماع في غيرها { أَلَمْ يَرَوْاْ } وبالتاء : شامي وحمزة { إلى الطير مسخرات } مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك { فِى جَوِّ السمآء } هو الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو { مَا يُمْسِكُهُنَّ } في قبضهن وبسطهن ووقوفهن { إِلاَّ الله } بقدرته ، وفيه نفي لما يصوره الوهم من خاصية القوى الطبيعية { إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بأن الخلق لا غنى به عن الخالق { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } هو فعل بمعنى مفعول أي ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا } هي قباب الأدم { تَسْتَخِفُّونَهَا } ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } بسكون العين : كوفي وشامي ، وبفتح العين : غيرهم . والظعن بفتح العين وسكونها الارتحال { وَيَوْمَ إقامتكم } قراركم في منازلكم ، والمعنى أنها خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر على أن اليوم بمعنى الوقت { وَمِنْ أَصْوَافِهَا } أي أصواف الضأن { وَأَوْبَارِهَا } وأوبار الإبل { وَأَشْعَارِهَآ } وأشعار المعز { أَثَاثاً } متاع البيت { ومتاعا } وشيئاً ينتفع به { إلى حِينٍ } مدة من الزمان(2/172)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
{ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظلالا } كالأشجار والسقوف { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أكنانا } جمع كن وهو ما سترك من كهف أو غار { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ } هي القمصان والثياب من الصوف والكتاب والقطن { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } وهي تقي البرد أيضاً إلا أنه اكتفى بأحد الضدين ، ولأن الوقاية من الحر أهم عندهم لكون البرد يسيراً محتملاً { وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } ودروعاً من الحديد ترد عنكم سلاح عدوكم في قتالكم ، والبأس : شدة الحرب والسربال عام يقع على ما كان من حديد أو غيره { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } أي تنظرون في نعمته الفائضة فتؤمنون به وتنقادون له { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عن الإسلام { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين } أي فلا تبعة عليك في ذلك لأن الذي عليك هو التبليغ الظاهر وقد فعلت { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله } التي عددناها بأقوالهم فإنهم يقولون إنها من الله { ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } بأفعالهم حيث عبدوا غير المنعم أو في الشدة ثم في الرخاء { وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } أي الجاحدون غير المعترفين ، أو نعمة الله نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عناداً وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم ، و«ثم» يدل على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر(2/173)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
{ وَيَوْمَ } انتصابه ب «اذكر» { نَبْعَثُ } نحشر { مِْن كُلِّ أُمَةٍ شَهِيداً } نبياً يشهد لهم وعليهم بالتصديق والتكذيب والإيمان والكفر { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلِّذِيِنَ كَفَرُوا } في الاعتذار ، والمعنى لا حجة لهم ولا عذر { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ولا هم يسترضون ، أي : لا يقال لهم ارضوا اربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل . ومعنى «ثم» أنهم يمنون أي : يبتلون بعد شهادة الأنبياء عليهم السلام بما هو اطم وأغلب منها ، وهو أنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة { وَإِذَا رَءَا الذين ظَلَمُواْ } كفروا { العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ } أي العذاب بعد الدخول { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } يمهلون قبله { وَإِذَا رَءَا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ } أوثانهم التي عبدوها { قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا } أي آلهتنا التي جعلناها شركاء { الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ } أي نعبد { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون } أي أجابوهم بالتكذيب لأنها كانت جماداً لا تعرف من عبدها ، ويحتمل أنهم كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة تنزيهاً لله عن الشرك { وَأَلْقَوْاْ } يعني الذين ظلموا { إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم } إلقاء السلم الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا { وَضَلَّ عَنْهُم } وبطل عنهم { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من أن لله شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤوا منهم { الذين كَفَرُواْ } في أنفسهم { وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } وحملوا غيرهم على الكفر { زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } أي عذاباً بكفرهم وعذاباً بصدهم عن سبيل الله { بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } بكونهم مفسدين الناس بالصد(2/174)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ } يعني نبيهم لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد { شَهِيدًا على هَؤُلآءِ } على أمتك { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا } بليغاً { لّكُلِّ شَىْءٍ } من أمور الدين . أما في الأحكام المنصوصة فظاهر ، وكذا فيما ثبت بالسنة أو بالإجماع أو بقول الصحابة أو بالقياس ، لأن مرجع الكل إلى الكتاب حيث أمرنا فيه باتباع رسوله عليه السلام وطاعته بقوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ المائدة : 92 ] وحثنا على الإجماع فيه بقوله : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } [ النساء : 115 ] وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه بقوله : « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » وقد اجتهدوا وقاسوا ووطّئوا طرق الاجتهاد والقياس مع أنه أمرنا به بقوله { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] فكانت السنة والإجماع وقول الصحابي والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب فتبين أنه كان تبياناً لكل شيء { وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } ودلالة إلى الحق ورحمة لهم وبشارة لهم بالجنة .(2/175)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
{ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل } بالتسوية في الحقوق فيما بينكم وترك الظلم وإيصال كل ذي حق إلى حقه { والإحسان } إلى من أساء إليكم أو هما الفرض والندب لأن الفرض لا بد من أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب { وَإِيتَآءِ ذِى القربى } وإعطاء ذي القرابة وهو صلة الرحم { وينهى عَنِ الفحشآء } عن الذنوب المفرطة في القبح { والمنكر } ما تنكره العقول { والبغي } طلب التطاول بالظلم والكبر { يَعِظُكُمُ } حال أو مستأنف { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } تتعظون بمواعظ الله . وهذه الآية سبب إسلام عثمان بن مظعون فإنه قال : ما كنت أسلمت إلا حياء منه عليه السلام لكثرة ما كان يعرض علي الإسلام ، ولم يستقر الإيمان في قلبي حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر . وقال أبو جهل : إن إلهه ليأمر بمكارم الأخلاق وهي أجمع آية في القرآن للخير والشر ، ولهذا يقرءُها كل خطيب على المنبر في آخر كل خطبة لتكون عظة جامعة لكل مأمور ومنهي . { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عاهدتم } هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } { [ الفتح : 10 ] وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان } أيمان البيعة { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } بعد توثيقها باسم الله . و«أكد» و«وكد» لغتان فصيحتان والأصل الواو والهمزة بدل منها { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } شاهداً ورقيباً لأن الكفيل مراع لحال المكفول به مهيمن عليه { إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } من البر والحنث فيجازيكم به(2/176)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
{ وَلاَ تَكُونُواْ } في نقض الأيمان { كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته وأبرمته فجعلته { أنكاثا } جمع نكث وهو ما ينكث فتله . قيل : هي ريطة وكانت حمقاء تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن { تَتَّخِذُونَ أيمانكم } حال ك { أنكاثا } ً { دَخَلاً } أحد مفعولي { تتخذ } أي ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلاً { بَيْنِكُمْ } أي مفسدة وخيانة { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ } بسبب أن تكون أمة يعني جماعة قريش { هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } هي أزيد عدداً وأوفر مالاً من أمة من جماعة المؤمنين . { هي أربى } مبتدأ وخبر ، في موضع الرفع صفة ل { أمة } و { أمة } فاعل { تكون } وهي تامة و { هي } ليست بفصل لوقوعها بين نكرتين { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ } الضمير للمصدر أي إنما يختبركم بكونهم أربى لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما وكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقلة المؤمنين وفقرهم { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } إِذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب ، وفيه تحذير عن مخالفة ملة الإسلام { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة } حنيفة مسلمة { ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ } من علم منه اختيار الضلالة { وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } من علم منه اختيار الهداية { وَلَتُسُئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } يوم القيامة فتجزون به . { وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ } كرر النهي عن اتخاذ الإيمان دخلاً بينهم تأكيداً عليهم وإظهاراً لعظمه { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } فتزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها . وإنما وحدت القدم ونكرت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن تثبت عليه فكيف بأقدام كثيرة { وَتَذُوقُواْ السوء } في الدنيا { بِمَا صَدَدتُّمْ } بصدودكم { عَن سَبِيلِ الله }
وخروجكم عن الدين ، أو بصدكم غيركم لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدوا لاتخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } في الآخرة(2/177)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
{ وَلاَ تَشْتَرُواْ } ولا تستبدلوا { بِعَهْدِ الله } وبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثَمَناً قَلِيلاً } عرضاً من الدنيا يسيراً كأن قوماً ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين ، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله { إِنَّمَا عِنْدَ الله } من ثواب الآخرة { هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِندَكُمْ } من أعراض الدنيا { يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله } من خزائن رحمته { بَاقٍ } لا ينفد { وَلَنَجْزِيَنَّ } وبالنون : مكي وعاصم { الذين صَبَرُواْ } على أذى المشركين ومشاق الإسلام { أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ صالحا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } «من» مبهم يتناول النوعين إلا أن ظاهره للذكور فبين بقوله { من ذكر أو أنثى } ليعم الموعد النوعين { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } شرط الإيمان لأن أعمال الكفار غير معتد بها وهو يدل على أن العمل ليس من الإيمان { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيِّبَةً } أي في الدنيا لقوله { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وعده الله ثواب الدنيا والآخرة كقوله { فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } [ آل عمران : 148 ] وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً يعيش عيشاً طيباً إن كان موسراً فظاهر ، وإن كان معسراً فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله تعالى . وأما الفاجر فأمره بالعكس ، إن كان معسراً فظاهر ، وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه . وقيل : الحياة الطيبة القناعة أو حلاوة الطاعة أو المعرفة بالله ، وصدق المقام مع الله ، وصدق الوقوف على أمر الله ، والإعراض عما سوى الله(2/178)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{ فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان } فإذا أردت قراءة القرآن { فاستعذ بالله } فعبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل لأنها سبب له ، والفاء للتعقيب إذ القراءة المصدرة بالاستعاذة من العمل الصالح المذكور { مِنَ الشيطان } يعني إبليس { الرجيم } المطرود أو الملعون . قال ابن مسعود رضي الله عنه : قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي : «قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام» { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ } لإبليس { سلطان } تسلط وولاية { على الذين ءَامَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } فالمؤمن المتوكل لا يقبل منه وساوسه { إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ } يتخذونه ولياً ويتبعون وساوسه { والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } الضمير يعود إلى ربهم أو إلى الشيطان أي بسببه { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ } تبديل الآية مكان الآية هو النسخ ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لحكمة رآها وهو معنى قوله { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } وبالتخفيف : مكي وأبو عمرو { قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } هو جواب { إذا } ً . وقوله : { والله أعلم بما ينزل } اعتراض ، كانوا يقولون إن محمداً يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً فيأتيهم بما هو أهون ، ولقد افتروا فقد كان ينسخ الأشق بالأهون والأهون بالأشق { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } الحكمة في ذلك(2/179)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } أي جبريل عليه السلام أضيف إلى القدس وهو الطهر كما يقال «حاتم الجود»؛ والمراد الروح المقدس وحاتم الجواد والمقدس المطهر من المآثم { مِن رَبِّكَ } من عنده وأمره { بالحق } حال أي نزله ملتبساً بالحكمة { لِيُثَبِّتَ الذين ءَامَنُواْ } ليبلوهم بالنسخ حتى إذا قالوا فيه هو الحق من ربنا ، والحكمة لأنه حكيم لا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب ، حكم لهم بثبات القدم وصحة اليقين وطمأنينة القلوب { وَهُدًى وبشرى } مفعول لهما معطوفان على محل { ليثبت } والتقدير تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة { لِلْمُسْلِمِينَ } وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم . { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ } أرادوا به غلاماً كان لحويطب قد أسلم وحسن إسلامه ، اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب ، أو هو جبر غلام رومي لعامر بن الحضرمي ، أو عبدان : جبر ، ويسار ، كانا يقرآن التوراة والإنجيل ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقرآن ، أو سلمان الفارسي { لِّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ } وبفتح الياء والحاء : حمزة وعلي { أَعْجَمِىٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ } أي لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بيّن ، وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة رداً لقولهم وإبطالاً لطعنهم ، وهذه الجملة أعني { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي } لا محل لها لأنها مستأنفة جواب لقولهم . واللسان اللغة . ويقال : ألحد القبر ولحده وهو ملحد وملحود إذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه ، ثم استعير لكل إمالة عن الاستقامة فقالوا : ألحد فلان في قوله ، وألحد في دينه ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها(2/180)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
{ إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله } أي القرآن { لاَ يَهْدِيهِمُ الله } ما داموا مختارين الكفر { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة على كفرهم { إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب } على الله { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله } أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يترقب عقاباً عليه وهو رد لقولهم { إنما أنت مفتر } { وَأُوْلئِكَ } إشارة إلى { الذين لايؤمنون } أي وأولئك { هُمُ الكاذبون } على الحقيقة الكاملون في الكذب ، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب أو وأولئك هم الكاذبون في قولهم { إنما أنت مفتر } جوزوا أن يكون { مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمانه } شرطاً مبتدأ وحذف جوابه لأن جواب من شرح دال عليه كأنه قيل : من كفر بالله فعليهم غضب { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } ساكن به . { ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي طاب به نفساً واعتقده { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وأن يكون بدلاً من { الذين لا يؤمنون بآيات الله } على أن يجعل { وأولئك هم الكاذبون } اعتراضاً بين البدل والمبدل منه . والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الإفتراء ثم قال : { ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله } وأن يكون بدلاً من المبتدأ الذي هو { أولئك } أي ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون ، أو من خبر الذي هو { الكاذبون } أي وأولئك هم من كفر بالله من بعد ايمانه وأن ينتصب على الذم . رُوى أنَّ ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا ، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان منهم عمار ، وأما أبواه ياسر وسمية فقد قتلا وهما أول قتيلين في الإسلام فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن عماراً كفر فقال : « كلا إن عماراً ملىء إيماناً من قرنة إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه » فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال : « مالك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت » وما فعل أبو عمار أفضل لأن في الصبر على القتل إعزازاً للإسلام(2/181)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
{ ذلك } إشارة إلى الوعيد وهو لحوق الغضب والعذاب العظيم { بِأَنَّهُمُ استحبوا } آثروا { الحياة الدُّنْيَا علىوا الآخِرَةِ } أي بسبب إيثارهم الدنيا على الآخرة { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين } ما داموا مختارين للكفر { أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم } فلا يتدبرون ولا يصغون إلى المواعظ ولا يبصرون طريق الرشاد { وَأُولَئِكَ هُمُ الغافلون } أي الكاملون في الغفلة لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخرة هُمُ الخاسرون } . { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ } «يدل» على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك { لِلَّذِينَ هاجروا } من مكة أي أنه لهم لا عليهم يعني أنه وليهم وناصرهم لا عدوهم وخاذلهم كما يكون الملك للرجل لا عليه فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } بالعذاب والإكراه على الكفر { فَتِنوا } : شامي أي بعد ما عذبوا المؤمنين ثم أسلموا { ثُمَّ جاهدوا } المشركين بعد الهجرة { وَصَبَرُوآ } على الجهاد { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } من بعد هذه الأفعال وهي الهجرة والجهاد والصبر { لَغَفُورٌ } لهم لما كان منهم من التكلم بكلمة الكفر تقية { رَّحِيمٌ } لا يعذبهم على ما قالوا في حالة الإكراه(2/182)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
{ يَوْمَ تَأْتِى } منصوب ب { رحيم } أو ب «اذكر» { كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا } وإنما أضيفت النفس إلى النفس لأنه يقال لعين الشيء وذاته نفسه وفي نقيضه غيره والنفس الجملة كما هي ، فالنفس الأولى هي الجملة ، والثانية عينها وذاتها فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره كلٌّ يقول : نفسي نفسي . ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم : { هَؤُلاء أَضَلُّونَا } [ الأعراف : 38 ] { ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } [ الأحزاب : 67 ] الآية { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] { وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } تعطى جزاء عملها وافياً { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } في ذلك . { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً } أي جعل القرية التي هذه حالها مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته ، فيجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها فضربها الله مثلاً لمكة إنذراً من مثل عاقبتها { كَانَتْ ءَامِنَةً } من القتل والسبى { مُّطْمَئِنَّةً } لا يزعجها خوف لأن الطمأنينة مع الأمن ، والانزعاج والقلق مع الخوف { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا } واسعاً { مِّن كُلِّ مَكَانٍ } من كل بلد { فَكَفَرَتْ } أهلها { بِأَنْعُمِ الله } جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع ، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } الإذاقة واللباس استعارتان والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار ، ووجه صحة ذلك أن الإذاقة جارية عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع . وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث ، وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف .(2/183)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
{ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ } أي محمد صلى الله عليه وسلم { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظالمون } أي في حال التباسهم بالظلم قالوا : إنه القتل بالسيف يوم بدر . رُوى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه إلى أهل مكة في سني القحط بطعام ففرق فيهم فقال : " الله لهم بعد أن أذاقهم الجوع " { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } على يدي محمد صلى الله عليه وسلم { حلالا طَيِّباً } بدلاً عما كنتم تأكلونه حراماً خبيثاً من الأموال المأخوذة بالغارات والغصوب وخبائث الكسوب { واشكروا نِعْمَتَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } تطيعون أو إن صح زعمكم أنكم تعبدون الله بعبادة الآلهة لأنها شفعاؤكم عنده . ثم عدد عليهم محرمات الله ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم فقال : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } «إنما» للحصر أي المحرم هذا دون البحيرة وأخواتها وباقي الآية قد مر تفسيره { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب } هو منصوب ب { لا تقولوا } أي ولا وتقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم : { مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } [ الأنعام : 139 ] من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي أو إلى القياس المستنبط منه . واللام مثلها في قولك لا تقولوا لما أحل الله هو حرام . وقوله { هذا حلال وهذا حَرَامٌ } بدل من الكذب ولك أن تنصب { الكذب } ب { تصف } وتجعل «ما» مصدرية وتعلق { هذا حلال وهذا حرام } . ب { لا تقولوا } أي و لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام وهذا لوصف ألسنتكم الكذب ، أي ولا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم لا لأجل حجة وبينة ولكن قول ساذج ودعوى بلا برهان . وقوله { تصف ألسنتكم الكذب } من فصيح الكلام جعل قولهم كأنه عين الكذب فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصورته بصورته كقولك «وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر» واللام في { لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب } من التعليل الذي لا يتضمن معنى الفرض { إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ }(2/184)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
{ متاع قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } هو خبر مبتدأ محذوف أي منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعذابها عظيم . { وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } في سورة الأنعام يعني { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] الآية { وَمَا ظلمناهم } بالتحريم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } فحرمنا عليهم عقوبة على معاصيهم { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة } في موضع الحال أي عملوا السوء جاهلين غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم ، ومرادهم لذة الهوى لا عصيان المولى { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } من بعد التوبة { لَغَفُورٌ } بتكفير ما كثروا قبل من الجرائم { رَّحِيمٌ } بتوثيق ما وثقوا بعد من العزائم .(2/185)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{ إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً } إنه كان وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير كقوله
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
وعن مجاهد : كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار ، أو كان أمة بمعنى مأموم يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير { قَانِتاً لِلَّهِ } هو القائم بما أمره الله . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إن معاذاً كان أمة قانتاً لله فقيل له : إنما هو إبراهيم عليه السلام . فقال : الأمة الذي يعلم الخير والقانت المطيع لله ورسوله ، وكان معاذ كذلك . وقال عمر رضي الله عنه : لو كان معاذ حياً لاستخلفته فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أبو عبيدة أمين هذه الأمة ، ومعاذ أمة لله قانت لله ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون " { حَنِيفاً } مائلاً عن الأديان إلى ملة الإسلام { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } نفى عنه الشرك تكذيباً لكفار قريش لزعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم ، وحذف النون للتشبيه بحروف اللين { شَاكِراً لأَنْعُمِهِ } رُوى أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداءه ، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذاماً فقال : الآن وجبت مؤاكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم { اجْتَبَاهُ } اختصه واصطفاه للنبوة { وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } إلى ملة الإسلام { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } نبوة وأموالاً وأولاداً ، أو تنويه الله بذكره فكل أهل دين يتولونه ، أو قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم { وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } لمن أهل الجنة . { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكين } في «ثم» تعظيم منزلة نبينا عليه السلام وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة اتباع رسولنا ملته(2/186)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
{ إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اختَلَفُوا فِيهِ } أي فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } رُوى أن موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة وأن يكون يوم الجمعة فأبوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السماوات والأرض وهو السبت ، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة فهذا اختلافهم في السبت لأن بعضهم اختاروه وبعضهم اختاروا عليه الجمعة ، فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد ، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون ، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك وهو يحكم بينهم يوم القيامة فيجازي كل واحد من الفريقين بما هو أهله { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ } إلى الإسلام { بِالْحِكْمَةِ } بالمقالة الصحيحة المحكمة وهو الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة { وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها ، أو بالقرآن أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة ، أو الحكمة المعرفة بمراتب الأفعال والموعظة الحسنة أن يخلط الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة { وَجَادِلُهُم بِالِّتِي هِيَ أَحْسَنُ } بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ، أو بما يوقظ القلوب ويعظ النفوس ويجلو العقول وهو رد على من يأبى المناظرة في الدين { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي هو أعلم بهم فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل . { وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } سمى الفعل الأول عقوبة والعقوبة هي الثانية لازدواج الكلام كقوله { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] فالثانية ليست بسيئة ، والمعنى إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أونحوه فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه . رُوى أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد ، وبقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم ، فرأى النبي عليه السلام حمزة مبقور البطن فقال : « أما والذي أحلف به لأمثلن بسبعين مكانك » فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراده . ولا خلاف في تحريم المثلة لورود الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } الضمير في { لهو } يرجع إلى مصدر { صبرتم } والمراد بالصابرين المخاطبون أي ولئن صبرتم لصبركم خير لكم ، فوضع { الصابرين } موضع الضمير ثناء من الله عليهم لأنهم صابرون على الشدائد ، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم(2/187)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
{ وَاصْبِرْ } أنت فعزم عليه بالصبر { وَمَا صبَرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ } أي بتوفيقه وتثبيته { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } على الكفار أن لم يؤمنوا وعلى المؤمنين وما فعل بهم الكفار فإنهم وصلوا إلى مطلوبهم { وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } { ضِيق } مكي . والضيق تخفيف الضيق أي في أمر ضيق ويجوز أن يكونا مصدرين كالقيل والقول ، والمعنى ولا يضيقن صدرك من مكرهم فإنه لا ينفذ عليك { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا والَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } أي هو ولي الذين اجتنبوا السيئات وولي العاملين بالطاعات . قيل : من اتقى في أفعاله وأحسن في أعماله كان الله معه في أحواله . ومعيته نصرته في المأمور وعصمته في المحظور .(2/188)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
{ سُبْحَانَ } تنزيه الله عن السوء وهو علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر متروك إِظهاره تقديره أسبح الله سبحان ، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسده ودل على التنزيه البليغ { الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم وسرى وأسرى لغتان { لَيْلاً } نصب على الظرف وقيده بالليل والإسراء لا يكون إلا بالليل للتأكيد ، أو ليدل بلفظ التنكير على تقرير مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة { مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قيل : أسري به من دار أم هانىء بنت أبي طالب . والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الحرم كله مسجد . وقيل : هو المسجد الحرام بعينه وهو الظاهر ، فقد قال عليه السلام : « بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق وقد عرج بي إلى السماء في تلك الليلة » وكان العروج به من بيت المقدس وقد أخبر قريشاً عن عيرهم وعدد جمالها وأحوالها ، وأخبرهم أيضاً بما رأى في السماء من العجائب ، وأنه لقي الأنبياء عليهم السلام وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى ، وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة وكان في اليقظة ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه . وعن معاوية مثله . وعلى الأول الجمهور إذ لا فضيلة للحالم ولا مزية للنائم { إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَا } هو بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } يريد بركات الدين والدنيا لأنه متعبد الأنبياء عليهم السلام ومهبط الوحي وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة { لِنُرِيَهُ } أي محمداً عليه السلام { مِنْ آيَاتِنَا } الدالة على وحدانية الله وصدق نبوته برؤيته السماوات وما فيها من الآيات { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } للأقوال { الْبَصِيرُ } بالأفعال ولقد تصرف الكلام على لفظ الغائب والمتكلم فقيل { أسرى } ثم { باركنا } ثم { إنه هو } وهي طريقة الالتفات التي هي من طرق البلاغة .(2/189)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
{ وَآتَيْنَا مُوَسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ } أي الكتاب وهو التوراة { هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا } أي لا تتخذوا . وبالياء : أبو عمرو أي لئلا يتخذوا { مِن دُونِي وَكِيلاً } رباً تكلون إليه أموركم { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } نصب على الاختصاص أو على النداء فيمن قرأ { لا تتخذوا } بالتاء على النهي أي قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلاً يا ذرية من حملنا مع نوح { إِنَّهُ } إن نوحاً عليه السلام { كَانَ عَبْداً شَكُوراً } في السراء والضراء ، والشكر مقابلة النعمة بالثناء على المنعم ، وروي أنه كان لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس إلا قال الحمد لله ، وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم ، وآية رشد الأبناء صحة الاقتداء بسنة الآباء وقد عرفتم حال الآباء هنالك فكونوا أيها الأبناء كذلك .
{ وقضينا إلى بني إِسْرَآءِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ } وأوحينا إليهم وحياً مقضياً أي مقطوعاً مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة . والكتاب التوراة ، ولتفسدن جواب محذوف أو جرى القضاء المبتوت مجرى القسم فيكون { لتفسدن } جواباً له كأنه قال وأقسمنا لتفسدن في الأرض { مَرَّتَيْنِ } أولاهما قتل زكرياء عليه السلام وحبس أرمياء عليه السلام حين أنذرهم سخط الله ، والأخرى قتل يحيى بن زكرياء عليهما السلام وقصد قتل عيسى عليه السلام { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوَّاً كَبِيراً } ولتستكبرن عن طاعة الله من قوله { إِن فرعون علا في الأَرض } [ القصص : 4 ] والمراد به البغي والظلم وغلبة المفسدين على المصلحين .(2/190)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } أي وعد الله عقاب أولاهما { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ } سلطنا عليكم { عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدِ } أشداء في القتال يعني سنجاريب وجنوده أو بختنصر أو جالوت ، قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخربوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفاً { فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ } ترددوا للغارة فيها . قال الزجاج : الجوس طلب الشيء بالاستقصاء { وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } وكان وعد العقاب وعداً لا بد أن يفعل { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ } أي الدولة والغلبة { عَلَيْهِمْ } على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو . قيل : هي قتل بختنصر واستنقاذ بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم . وقيل أعدنا لكم الدولة بملك طالوت وقتل داود جالوت { وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } مما كنتم وهو تمييز جمع نفر وهو من ينفر مع الرجل من قومه .
{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } قيل اللام بمعنى «على» كقوله : { وعليها ما اكتسبت } [ البقرة : 286 ] والصحيح أنها على بابها لأن اللام للاختصاص والعامل مختص بجزاء عمله ، حسنة كانت أو سيئة يعني أن الإحسان والإساءة كلاهما مختص بأنفسكم لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم . وعن علي رضي الله عنه : ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلاها { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } وعد المرة الآخرة بعثناهم { لِيَسوؤوا } أي هؤلاء { وُجُوهَكُمْ } وحذف لدلالة ذكره أولاً عليه أي ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها كقوله { سيئت وجوه الذين كفروا } [ الملك : 27 ] { ليسوء } شامي وحمزة وأبو بكر ، والضمير لله عز وجل أو للوعد أو للبعث . { لنسوء } علي . { وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ } بيت المقدس { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً } { ما علوا } مفعول ل { يتبروا أي ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه ، أو بمعنى مدة علوهم
.(2/191)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
{ عسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ } بعد المرة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي { وَإِنْ عُدتُّمُ } مرة ثالثة { عُدْنَا } إلى عقوبتكم وقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الإتاوة عليهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : سلط عليهم المؤمنون إلى يوم القيامة { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } محبساً . يقال : للسجن محصر وحصير .
{ إِنَّ هذا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها وهي توحيد الله والإيمان برسله والعمل بطاعته أو للملة أو للطريقة { ويُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } ويَبْشر حمزة وعلي { أَنَّ لَهُمْ } بأن لهم { أَجْراً كَبِيراً } أي الجنة { وَأَنَّ الَّذِينَ } وبأن الذين { لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا } أي أعددنا قلبت تاء { لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } يعني النار . والآية ترد القول بالمنزلة بين المنزلتين حيث ذكر المؤمنين وجزاءهم ، والكافرين وجزاءهم ، ولم يذكر الفسقة { وَيَدْعُ الإنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ } أي ويدعو الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله وولده كما يدعو لهم بالخير ، أو يطلب النفع العاجل وإن قل بالضرر الآجل وإن جل { وَكَانَ الإنسَانُ عَجُولاً } يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله لا يتأنى فيه تأني المتبصر ، أو أريد بالإنسان الكافر وأنه يدعوه بالعذاب استهزاء ويستعجل به كما يدعو بالخير إذا مسته الشدة ، { وكان الإنسان عجولاً } يعني أن العذاب آتيه لا محالة فما هذا الاستعجال؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو النضر بن الحارث قال : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } [ الأنفال : 32 ] الآية . فأجيب فضربت عنقه صبراً . وسقوط الواو من { يدع } في الخط على موافقة اللفظ { وَجَعَلْنَا الَّليْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ الَّليْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } أي الليل والنهار آيتان في أنفسهما فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود أي فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة أو جعلنا نيري الليل والنهار آيتين يريد الشمس والقمر . فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم نخلق له شعاعاً كشعاع الشمس فترى الأشياء به رؤية بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء { لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } لتتوصلوا ببياض النهار إلى التصرف في معايشكم { وَلِتَعْلَمُوا } باختلاف الجديدين { عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } يعني حساب الآجال ومواسم الأعمال ، ولو كانا مثلين لما عرف الليل من النهار ولا استراح حراص المكتسبين والتجار { وَكُلَّ شَيْءٍ } مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم { فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } بيناه بياناً غير ملتبس فأزحنا عللكم وما تركنا لكم حجة علينا .
{ وَكُلَّ إنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ } عمله { فِي عُنُقِهِ } يعني أن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل للعنق لا يفك عنه { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ } هو صفة ل { كتابا } ً .(2/192)
يُلقَّاه شامي { مَنْشوراً } حال من { يلقاه } يعني غير مطوي ليمكنه قراءته أو هما صفتان للكتاب ونقول له { اقْرَأْ كِتَابَكَ } أي كتاب أعمالك وكلٌّ يُبعث قارئاً { كفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ } الباء زائدة أي كفى نفسك { حَسِيباً } تمييز وهو بمعنى حاسب وعلى متعلق به من قولك حسب عليه كذا أو بمعنى الكافي . وضع موضع الشهيد فعدي« بعلى» لأن الشاهد يكفي المدعى ما أهمه ، وإنما ذكر حسيباً لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير إذا الغالب أن يتولى هذه الأمور الرجال فكأنه قيل : كفى نفسك رجلاً حسيباً ، أو تؤوّل النفس بالشخص .(2/193)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
{ مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي فلها ثواب الاهتداء وعليها وبال الضلال { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أي كل نفس حاملة وزراً فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى { وَمَا وَكُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } وما صح منا أن نعذب قوماً عذاب استئصال في الدنيا إلا بعد أن نرسل إليهم رسولاً يلزمهم الحجة { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً } أي أهل قرية { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } متنعميها وجبابرتها بالطاعة عن أبي عمرو والزجاج { فَفَسَقُوا فِيهَا } أي خرجوا عن الأمر كقولك «أمرته فعصى» أو { أمرنا } كثرنا ، دليله قراءة يعقوب أمرنا ومنه الحديث " خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة " أي كثيرة النسل { فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } فوجب عليها الوعيد { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } فأهلكناها إهلاكاً { وَكَمْ } مفعول { أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ } بيان لكم { مِن بَعْدِ نُوحٍ } يعني عاداً وثموداً وغيرهما { وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خِبِيراً } وإن أخفوها في الصدور { بَصِيراً } وإن أرخوا عليها الستور .
{ مَن كَانَ يُريدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشآءُ } لا ما يشاء { لِمَن نُّرِيدُ } بدل من { له } بإعادة الجار وهو بدل البعض من الكل إذ الضمير يرجع إلى { من } أي من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد ، فقيد المعجل بمشيئته والمعجل له بإرادته وهكذا الحال ، ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه ، وكثيراً منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة ، وأما المؤمن التقي فقد اختار غنى الآخرة فإن أوتي حظاً من الدنيا فبها ، وإلا فربما كان الفقر خيراً له { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ } في الآخرة { يَصْلاهَا } يدخلها { مَذْمُوماً } ممقوتاً { مَّدْحُوراً } مطروداً من رحمة الله .(2/194)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
{ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وسعى لَهَا سَعْيَهَا } هو مفعول به أو حقها من السعي وكفاءها من الأعمال الصالحة { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } مصدق لله في وعده ووعيده { فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } مقبولاً عند الله مثاباً عليه . عن بعض السلف : من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب وتلا الآية : فإنه شرط فيها ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً : إرادة الآخرة والسعي فيما كلف والإيمان الثابت { كُلاً } كل واحد من الفريقين والتنوين عوض عن المضاف إليه وهو منصوب بقوله { نُّمِدُّ هَؤُلآءِ } بدل من { كلاً } أي نمد هؤلاء { وهؤلاءآء } أي من أراد العاجلة ومن أراد الآخرة { مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ } رزقه و«من» تتعلق «بنمد» والعطاء اسم للمعطي أي نزيدهم من عطائنا ونجعل الآنف منه مدداً للسالف لا نقطعه فنرزق المطيع والعاصي جميعاً على وجه التفضل { وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } ممنوعاً عن عباده وإن عصوا { انظُرْ } بعين الاعتبار { كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } في المال والجاه والسعة والكمال { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } روي أن قوماً من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه فخرج الإذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمرو : إنما أتينا من قبلنا . إنهم دعوا ودعينا يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا ، وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر .
{ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته { فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً } فتصير جامعاً على نفسك الذم والخذلان . وقيل : مشتوماً بالإهانة محروماً عن الإعانة ، إذ الخذلان ضد النصر والعون . دليله قوله تعالى : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده } [ آل عمران : 160 ] حيث ذكر الخذلان بمقابلة النصر .
{ وقضى رَبُّكَ } وأمر أمراً مقطوعاً به { أَلاَّ تَعْبُدُوآ إِلاَّ إِيَّاهُ } «أن» مفسرة و { لا تعبدوا } نهي أو بأن لا تعبدوا { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } وأحسنوا بالوالدين إحساناً أو بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ } «إما» هي «أن» الشرطية زيد عليها «ما» تأكيداً لها ولذا دخلت النون المؤكدة في الفعل ولو أفردت «إن» لم يصح دخولها لا تقول . «إن تكرمن زيداً يكرمك» ولكن «إما تكرمنه» { أَحَدُهُمَآ } فاعل { يبلغن } وهو في قراءة حمزة وعليّ { يبلغان } بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين { أَوْ كِلاهُمَا } عطف على { أحدهما } فاعلاً وبدلاً { فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } مدني وحفص . { أفّ } َ مكي وشامي . { أفّ } ُ غيرهم . وهو صوت يدل على تضجر فالكسر على أصل التقاء الساكنين والفتح للتخفيف ، والتنوين لإرادة التنكير أي أتضجر تضجراً ، وتركه لقصد التعريف أي أتضجر التضجر المعلوم { وَلا تَنْهَرْهُمَا } ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك والنهي والنهر أخوان { وَقُل لَّهُمَا } بدل التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيماً } جميلاً ليناً كما يقتضيه حسنِ الأدب أو هو أن يقول : يا أبتاه يا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء ولا بأس به في غير وجهه ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : نحلني أبو بكر كذا ، وفائدة { عندك } إنهما إذا صارا كلاً على ولدهما ولا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه وذلك أشق عليه ، فهو مأمور بأن يستعمل معهما لين الخلق حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما «أف» فضلاً عما يزيد عليه ، ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها .(2/195)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ } أي اخفض لهما جناحك كما قال { واخفض جناحك للمؤمنين } [ الحجر : 88 ] فأضافه إلى الذل كما أضيف حاتم إلى الجود والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل { مِنَ الرَّحْمَةِ } من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس . وقال الزجاج : وألن جانبك متذللاً لهما من مبالغتك في الرحمة لهما { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء ، لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك . والمراد بالخطاب غيره عليه السلام ، والدعاء مختص بالأبوين المسلمين ، وقيل : إذا كانا كافرين له أن يسترحم لهما بشرط الإيمان وأن يدعو الله لهما بالهداية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما » وروي « يفعل البار ما شاء أن يفعل فلن يدخل النار ويفعل العاق ما شاء أن يفعل فلن يدخل الجنة » وعنه عليه السلام : « إياكم وعقوق الوالدين فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام ولا يجد عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء إن الكبرياء لله رب العالمين » { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفِوسِكُمْ } بما في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين ومن النشاط والكرامة في خدمتهما { إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ } قاصدين الصلاح والبر ثم فرطت منكم في حال الغضب وعند حرج الصدر هنة تؤدي إلى أذاهما ثم أبتم إلى الله واستغفرتم منها { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً } الأواب الذي إذا أذنب بادر إلى التوبة فجاز أن يكون هذا عاماً لكل من فرطت منه جناية ، ثم تاب منها ويندرج تحت الجاني على أبويه التائب من جنايته لوروده على أثره .(2/196)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
{ وَآتِ ذَا القربى } منك { حَقَّهُ } أي النفقة إذا كانوا محارم فقراء { وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } أي وآت هؤلاء حقهم من الزكاة { وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } ولا تسرف إسرافاً . قيل : التبذير تفريق المال في غير الحل والمحل ، فعن مجاهد : لو أنفق مداً في باطل كان تبذيراً . وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه : لا خير في السرف فقال : لا سرف في الخير { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوآ إِخوَانَ الشَّيَاطِينِ } أمثالهم في الشرارة وهي غاية المذمة لأنه لا شر من الشيطان ، أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } فما ينبغي أن يطاع فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله .
{ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ } إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد { ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } أي وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك فسمى الرزق رحمة فردهم رداً جميلاً ، فوضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسبباً عنه ، فوضع المسبب موضع السبب ، يقال : يسر الأمر وعسر مثل سعد الرجل ونحس فهو مفعول . وقيل : معناه : فقل لهم رزقنا الله وإياكم من فضله على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم كأن معناه قولاً ذا ميسور وهو اليسر أي دعاء فيه يسر . و { ابتغاء } مفعول له أو مصدر في موضع الحال و { ترجوها } حال { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنْقِكَ وَلا تُبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } { كل } نصب على المصدر لإضافته إليه . وهذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف أمر باقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير { فَتَقْعُدَ مَلُوماً } فتصير ملوماً عند الله لأن المسرف غير مرضي عنده وعند الناس يقول الفقير : أعطى فلاناً وحرمني ، ويقول الغني : ما يحسن تدبير أمر المعيشة ، وعند نفسك إذا احتجت فندمت على ما فعلت { مَّحْسُوراً } منقطعاً بك لا شيء عندك من حسرة السفر إذا أثر فيه أثراً بليغاً أو عارياً من حسر رأسه . وقد خاطرت مسلمة ضرتها اليهودية في أنه يعني محمداً عليه السلام أجود من موسى عليه السلام فبعثت ابنتها تسأله قميصه الذي عليه فدفعه وقعد عرياناً فأقيمت الصلاة فلم يخرج للصلاة فنزلت . ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة بأَن ذلك ليس لهوان منك عليه ولا لبخل به عليك ، ولكن لأن بسط الأرزاق وقدرها مفوض إلى الله تعالى فقال :(2/197)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
{ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءَ } فليس البسط إليك { وَيَقْدِرُ } أي هو يضيق فلا لوم عليك { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً } بمصالحهم فيمضيها { بَصِيراً } بحوائجهم فيقضيها .
{ وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ } قتلهم أولادهم وأدهم بناتهم { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } فقر { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } نهاهم عن ذلك وضمن أرزاقهم { إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } إثماً عظيماً . يقال : خطىء خطأ كأثم إثماً . { خطأ } شامي وهو ضد الصواب اسم من أخطأ . وقيل : والخطء كالحذر والحذر { خطاء } بالمد والكسر : مكي { وَلا تَقْرَبُوا الزنى } القصر فيه أكثر والمدلغة وقد قرئ به وهو نهي عن دواعي الزنا كالمس والقبلة ونحوهما ، ولو أريد النهي عن نفس الزنا لقال «ولا تزنوا» { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } معصية مجاوزة حد الشرع والعقل { وَسَآءَ سَبِيلاً } وبئس طريقاً طريقه { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } أي بارتكاب ما يبيح الدم { وَمَن قُتِلَ مَظْلوماً } غير مرتكب ما يبيح الدم { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } تسلطاً على القاتل في الاقتصاص منه { فَلا يسْرِف فِّي الْقَتْلِ } الضمير للولي أي فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين والقاتل واحد كعادة أهل الجاهلية ، أو الإسراف المثلة ، أو الضمير للقاتل الأول { فلا تسرف } حمزة وعلي على خطاب الولي أو قاتل المظلوم { إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً } الضمير للولي أي حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص فلا يستزد على ذلك ، أو للمظلوم أي الله ناصره حيث أوجب القصاص بقتله وينصره في الآخرة بالثواب ، أو للذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه كان منصوراً بإيجاب القصاص على المسرف . وظاهر الآية يدل على أن القصاص يجري بين الحر والعبد وبين المسلم والذمي لأن أنفس أهل الذمة والعبيد داخلة في الآية لكونها محرمة .(2/198)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
{ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } بالخصلة والطريقة التي هي أحسن وهي حفظه وتثميره { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } أي ثماني عشرة سنة { وَأَوْفُوا بِالْعَهْد } بأوامر الله تعالى ونواهيه { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً } مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به ، أو أن صاحب العهد كان مسؤولاً { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ } بكسر القاف : حمزة وعلي وحفص وهو كل ميزان صغير أو كبير من موازين الدراهم وغيرها . وقيل هو القرسطون أي القبان { الْمُسْتَقِيمِ } المعتدل { ذَلِكَ خَيْرٌ } في الدنيا { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } عاقبة وهو تفعيل من آل إذا رجع وهو ما يؤول إليه .
{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } ولا تتبع ما لم تعلم أي لا تقل رأيت وما رأيت وسمعت وما سمعت . وعن ابن الحنفية : لا تشهد بالزور . وعن ابن عباس . لا ترم أحداً بما لا تعلم . ولا يصح التثبت به لمبطل الاجتهاد لأن ذلك نوع من العلم فإن علمتموهن مؤمنات ، وأقام الشارع غالب الظن مقام العلم وأمر بالعمل به كما في الشهادات ولنا في العمل بخبر الواحد لما ذكرنا { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً } { أولئك } إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد لأن { أولئك } كما يكون إشارة إلى العقلاء يكون إشارة إلى غيرهم كقول جرير
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
و { عنه } في موضع الرفع بالفاعلية أي كل واحد منها كان مسئولاً عنه ، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ]
يقال للإنسان . لم سمعت ما لم يحل لك سماعه ، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك النظر إليه ، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ كذا في الكشاف ، وفيه نظر لبعضهم لأن الجار والمجرور إنما يقومان مقام الفاعل إذا تأخرا عن الفعل ، فأما إذا تقدما فلا { وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحًا } هو حال أي ذا مرح { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض } لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدة وطئتك { وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } بتطاولك وهو تهكم بالمختال أو لن تحاذيها قوة وهو حال من الفاعل أو المفعول { كُلُّ ذلك كَانَ سَيّئُهُ } كوفي وشامي على إضافة سيء إلى ضمير «كل» . { سيئة } غيرهم { عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا } ذكر { مكروهاً } لأن السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه ألا تراك تقول : «الزنا سيئة» ، كما تقول : «السرقة سيئة» ، فإن قلت : الخصال المذكورة بعضها سييء وبعضها حسن ولذلك قرأ من قرأ { سيئة } بالإضافة أي ما كان من المذكور سيئاً كان عند الله مكروهاً فما وجه قراءة من قرأ { سيئة } قلت : كل ذلك إحاطة بما نهى عنه خاصة لا بجميع الخصال المعدودة .(2/199)
{ ذلك } إشارة إلى ما تقدم من قوله : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ } إلى هذه الغاية { مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة } مما يحكم العقل بصحته وتصلح النفس بأسوته { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فتلقى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا } مطروداً من الرحمة . عن ابن عباس رضي الله عنهما : هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها : { لا تجعل مع الله إلها آخر } وآخرها { مدحوراً } ولقد جعلت فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها ، ومن عدمه لم تنفعه حكمة وإن بذ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء ، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم . ثم خاطب الذين قالوا الملائكة بنات الله بقوله :(2/200)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
َ { أَفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين } الهمزة للإنكار يعني أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون { واتخذ مِنَ الملئكة إِنَاثًا } واتخذ أدونهم وهي البنات وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم ، فالعبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها ويكون أردؤها وأدونها للسادات { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا } حيث أضفتم إليه الأولاد وهي من خواص الأجسام ، ثم فضلتم عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا القرءان } أي التنزيل والمراد ولقد صرفناه أي هذا المعنى في مواضع من التنزيل فترك الضمير لأنه معلوم { لّيَذْكُرُواْ } وبالتخفيف : حمزة وعلي ، أي كررناه ليتعظوا { وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا } عن الحق . وكان الثوري إذ قرأها يقول : زادني لك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ } مع الله { أألِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ } وبالياء مكي وحفص . { إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش سَبِيلاً } يعني لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلاً بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض ، أو لتقربوا إليه كقوله : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } { وإذاً } دالة على أن ما بعدها وهو { لابتغوا } جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل «لو»(2/201)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
{ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ } وبالتاء : حمزة وعلي { عَلَوْاْ } أي تعاليا والمراد البراءة من ذلك والنزاهة { كَبِيراً } وصف العلو بالكبر مبالغة في معنى البراءة والبعد مما وصفوه به .
{ تُسَبّحُ } وبالتاء : عراقي غير أبي بكر { لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } أي يقول سبحان الله وبحمده . عن السدي قال عليه السلام : « ما اصطيد حوت في البحر ولا طائر يطير لا بما يضيع من تسبيح الله تعالى » { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } لاختلاف اللغات أو لتعسر الإدراك أو سبب لتسبيح الناظر إليه ، والدال على الخير كفاعله . والوجه الأول { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا } عن جهل العباد { غَفُوراً } لذنوب المؤمنين .
{ وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا } ذا ستر أو حجاباً لا يرى فهو مستور { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } جمع كنان وهو الذي يستر الشيء { أَن يَفْقَهُوهُ } كراهة أن يفقهوه { وفي ءاذانهم وقراً } ثقلاً يمنع عن الاستماع { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده } يقال : وحد يحد وحداً وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة فهو مصدر سد مسد الحال أصله يحد وحده بمعنى واحداً { وَلَّوْاْ على أدبارهم } رجعوا على أعقابهم { نُفُورًا } مصدر بمعنى التولية أو جمع نافر كقاعد وقعود أي يحبون أن تذكر معه آلهتهم لأنهم مشركون فإذا سمعوا بالتوحيد نفروا .(2/202)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
{ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أي نحن أعلم بالحال أو الطريقة التي يستمعون القرآن بها ، فالقرآن هو المستمع وهو محذوف و { به } حال وبيان ل «ما» أي يستمعون القرآن هازئين لا جادين والواجب عليهم أن يستمعوه جادين { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } نصب ب { أعلم } أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون { وَإِذْ هُمْ نجوى } وبما يتناجون به إذ هم ذوو نجوى { إِذْ يَقُولُ الظالمون } بدل من { إذ هم } { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا } سحر فجن { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون ، { فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } أي فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في التيه طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه فهو متحير في أمره لا يدري ما يصنع .
{ وَقَالُواْ } أي منكرو البعث { أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } أي مجدداً و { خلقاً } حال أي مخلوقين { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } أي السماوات والأرض فإنها تكبر عندكم عن قبول الحياة { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ } يعيدكم { الذى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } والمعنى أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم ويرده إلى حال الحياة بعدما كنتم عظاماً يابسة مع أن العظام بعض أجزاء الحي بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره فليس ببدع أن يردها الله بقدرته إلى الحالة الأولى ، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة وهو أن تكونوا حجارة أو حديداً لكان قادراً على أن يردكم إلى حال الحياة { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ } فسيحركونها نحوك تعجباً واستهزاءً { وَيَقُولُونَ متى هُوَ } أي البعث استبعاداً له ونفياً { قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيبًا } أي هو قريب و«عسى» للوجوب
.(2/203)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
{ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } إلى المحاسبة وهو يوم القيامة { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي تجيبون حامدين والباء للحال . عن سعيد بن جبير : ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون سبحانك اللهم وبحمدك { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي لبثاً قليلاً أو زماناً قليلاً في الدنيا أو في القبر .
{ وَقُل لّعِبَادِى } وقل للمؤمنين { يَقُولُواْ } للمشركين الكلمة { التى هِىَ أَحْسَنُ } وألين ولا يخاشنوهم وهي أن يقولوا يهديكم الله { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليوقع بينهم المشاقة . والنزغ : إيقاع الشر وإفساد ذات البين . وقرأ طلحة : { ينزغ } بالكسر وهما لغتان { إِنَّ الشيطان كَانَ للإنسان عَدُوّا مُّبِينًا } ظاهر العداوة أو فسر { التي هي أحسن } بقوله : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } بالهداية والتوفيق { أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ } بالخذلان أي يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا يقولوا لهم إنكم من أهل النار وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر . قوله : { إن الشيطان ينزع بينهم } . اعتراض { وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } حافظاً لأعمالهم وموكولاً إليك أمرهم وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً فدارهم ومر أصحابك بالمداراة { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السماوات والأرض } وبأحوالهم وبكل ما يستأهل كل واحد منهم .
{ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } فيه إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله : { وءاتينا داوُود زَبوراً } دلالة على وجه تفضيله وأنه خاتم الأنبياء ، وأن أمته خير الأمم لأن ذلك مكتوب في زبور داود قال الله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] وهم محمد وأمته . ولم يعرف الزبور هنا وعرفه في قوله : { ولقد كتبنا في الزبور } لأنه كالعباس وعباس والفضل وفضل(2/204)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
{ قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم } إنها آلهتكم { مِن دُونِهِ } من دون الله وهم الملائكة ، أو عيسى وعزير ، أو نفر من الجن عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا { فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } أي ادعوهم فهم لا يستطيعون أن يكشفوا عنكم الضر من مرض أو فقر أو عذاب ، ولا أن يحولوه من واحد إلى آخر { أولئك } مبتدأ { الذين يَدْعُونَ } صفة أي يدعونهم آلهة أو يعبدونهم والخبر { يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة } يعني أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى الله عز وجل { أَيُّهُم } بدل من واو يبتغون و«أي» موصولة أي يبتغي من هو { أَقْرَبُ } منهم الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب أو ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب إِلى الله وذلك بالطاعة وازدياد الخير { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويخافون عَذَابَهُ } كغيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا } حقيقاً بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلاً عن غيرهم { وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا } قبل الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة { كَانَ ذلك فِى الكتاب } في اللوح المحفوظ { مَسْطُورًا } مكتوباً . وعن مقاتل : وجدت في كتب الضحاك في تفسيرها : أما مكة فيخربها الحبشة ، وتهلك المدينة بالجوع ، والبصرة بالغرق ، والكوفة بالترك ، والجبال بالصواعق والرواجف . أما خراسان فعذابها ضروب ، وأما بلخ فتصيبهم هدَّة فيهلك أهلها ، وأما بدخشان فيخربها أقوام ، وأما ترمذ فأهلها يموتون بالطاعون ، وأما صغانيان إلى ولشجرد فيقتلون بقتل ذريع ، وأما سمرقند فيغلب عليها بنو قنطوراء فيقتلون أهلها قتلاً ذريعاً ، وكذا فرغانة والشاش واسبيجاب وخوارزم ، وأما بخارى فهي أرض الجبابرة فيموتون قحطاً وجوعاً ، وأما مرو فيغلب عليها الرمل ويهلك بها العلماء والعباد ، وأما هراة فيمطرون بالحيات فتأكلهم أكلاً ، وأما نيسابور فيصيب أهلها رعد وبرق وظلمة فيهلك أكثرهم ، وأما الري فيغلب عليها الطبرية والديلم فيقتلونهم ، وأما أرمينية وأذربيجان فيهلكها سنابك الخيول والجيوش والصواعق والرواجف ، وأما همذان فالديلم يدلخها ويخربها ، وأما حلوان فتمر بها ريح ساكنة وهم نيام فيصبح أهلها قردة وخنازير ثم يخرج رجل من جهينة فيدخل مصر ، فويل لأهلها ولأهل دمشق ، وويل لأهل إفريقية وويل لأهل الرملة ، ولا يدخل بيت المقدس ، وأما سجستان فيصيبهم ريح عاصف أياماً ثم هدة تأتيهم ويموت فيها العلماء وأما كرمان وأصبهان وفارس فيأتيهم عدو وصاحوا صيحة تنخلع القلوب وتموت الأبدان .(2/205)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
{ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } استعير المنع لترك إرسال الآيات . و«أن» الأولى مع صلتها في موضع النصب لأنها مفعول ثان ل { منعنا } و«أن» الثانية مع صلتها في موضع الرفع لأنها فاعل { منعنا } والتقدير : وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين . والمراد الآيات التي اقترحتها قريش من قلب الصفا ذهباً ومن إحياء الموتى وغير ذلك وسنة الله في الأمم أن من اقترح منهم آية فأجيب إليها ثم لم يؤمن أن يعاجل بعذاب الاستئصال . والمعنى : وما منعنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود ، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك وعذبوا العذاب المستأصل ، وقد حكمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة . ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا واحدة وهي ناقة صالح عليه السلام ، لأن آثار هلاكهم قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم فقال : { وءَاتينا ثمود الناقة } باقتراحهم { مُبْصِرَةً } آية بينة { فَظَلَمُواْ بِهَا } فكفروا بها { وَمَا نُرْسِلُ بالآيات } إن أراد بها الآيات فالمعنى لا نرسلها { إِلاَّ تَخْوِيفًا } من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له ، فإن لم يخافوا وقع عليهم ، وإن أراد غيرها فالمعنى وما نرسل ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها إلا تخويفاً وإنذاراً بعذاب الآخرة وهو مفعول له .(2/206)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
{ وَإذا قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ } واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش علماً وقدرة فكلهم في قبضته ، فلا تبال بهم وامض لأمرك وبلغ ما أرسلت به ، أو بشرناك بوقعة بدر وبالنصرة عليهم وذلك قوله : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } { قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد } [ آل عمران : 12 ] فجعله كأن قد كان ووجد فقال : أحاط بالناس على سنته في إخباره ، ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر : « والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم » وهو يومىء إلى الأرض ويقول : « هذا مصرع فلان » فتسامعت قريشاً بما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر بدر وما أري في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون ويسخرون ويستعجلون به استهزاء . { والشجرة الملعونة فِى القرءان } أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس ، فإنهم حين سمعوا بقوله : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } [ الدخان : 43 ] جعلوها سخرية وقالوا : إن محمداً يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ، ثم يقول : تنبت فيها الشجرة وما قدروا الله حق قدره إذا قالوا ذلك فإنه لا يمتنع أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله النار فوبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار ، فذهب الوسخ وبقي المنديل سالماً لا تعمل فيه النار وترى النعامة تبتلع الجمر فلا يضرها ، وخلق في كل شجرة ناراً فلا تحرقها ، فجاز أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها . والمعنى أن الآيات إنما ترسل تخويفاً للعباد ، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر وخوفوا بعذاب الآخرة وبشجرة الزقوم فما أثر فيهم . ثم قال : { وَنُخَوّفُهُمْ } أي بمخاوف الدنيا والآخرة { فَمَا يَزِيدُهُمْ } التخويف { إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا } فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات؟ وقيل : الرؤيا هي الإسراء ، والفتنة ارتداد من استعظم ذلك وبه تعلق من يقول : كان الإسراء في المنام ، ومن قال : كان في اليقظة فسر الرؤيا بالرؤية . وإنما سماها رؤيا على قول المكذبين حيث قالوا له لعلها رؤيا رأيتها استبعاداً منهم كما سمى أشياء بأساميها عند الكفرة كقوله { فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ } [ الصافات : 91 ] { أَيْنَ شُرَكَائِىَ } [ النحل : 27 ] أو هي رؤيا أنه سيدخل مكة ، والفتنة الصد بالحديبية . فإن قلت : ليس في القرآن ذكر لعن شجرة الزقوم . قلت : معناه : والشجرة الملعون آكلها وهم الكفرة لأنه قال { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون المكذبون * لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } [ الواقعة : 53 ، 52 ] فوصفت بلعن أهلها على المجاز ، ولأن العرب تقول : لكل طعام مكروه ضار ملعون ، ولأن اللعن هو الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة .(2/207)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
{ وَإِذا قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ ءَأَسْجُد لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } هو تمييز أو حال من الموصول ، والعامل فيه { أأسجد } على أأسجد له وهو طين أي أصله طين { قَالَ أَرَءيْتَكَ هذا الذى } الكاف لا موضع لها لأنها ذكرت للخطاب تأكيداً هذا مفعول به والمعنى أخبرني عن هذا الذي { كَرَّمْتَ عَلَيَّ } أي فضلته ، لم كرمته علي وأنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، فحذف ذلك اختصاراً لدلالة ما تقدم عليه . ثم ابتدأ فقال : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } وبلا ياء : كوفي وشامي . واللام موطئة للقسم المحذوف { إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } لأستأصلنهم بإغوائهم { إِلاَّ قَلِيلاً } وهم المخلصون . قيل : من كل ألف واحد . وإنما علم الملعون ذلك بالإعلام أو لأنه رأى أنه خلق شهواني .(2/208)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
{ قَالَ اذهب } ليس من الذهاب الذي هو ضد المجيء وإنما معناه امض لشأنك الذي اخترته خذلاناً وتخلية . ثم عقبه بذكر ما جره سوء اختياره فقال : { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ } والتقدير فإن جهنم جزاؤهم وجزاؤك ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل { جزاؤكم } وانتصب { جَزَاء مَّوفُورًا } أي موفراً بإضمار تجازون { واستفزز } استزل أو استخف استفزه أي استخفه والفز الخفيف . { مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } بالوسوسة أو بالغناء أو بالمزمار { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم } اجمع وصح بهم من الجلبة وهو الصياح { بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } بكل راكب وماش من أهل العيث ، فالخيل الخيالة ، والرجل اسم جمع للراجل ونظيره الركب والصحب { ورجلك } حفص على أن فعلاً بمعنى فاعل كتعب وتاعب ، ومعناه وجمعك الرِجل وهذا لأن أقصى ما يستطاع في طلب الأمور الخيل والرجل . وقيل : يجوز أن يكون لإبليس خيل ورجال { وَشَارِكْهُمْ فِى الأموال والأولاد } قال الزجاج : كل معصية في مال وولد فإبليس شريكهم فيها كالربا والمكاسب المحرمة والبحيرة والسائبة والإنفاق في الفسوق والإسراف ومنع الزكاة والتوصل إلى الأولاد بالسبب الحرام والتسمية بعبد العزى وعبد شمس { وَعِدْهم } المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة وإيثار العاجل على الآجل ونحو ذلك { وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } هو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب { أَن عِبَادِى } الصالحين { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } يد بتبديل الإيمان ولكن بتسويل العصيان { وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً } لهم يتوكلون به في الاستعاذة منك أو حافظاً لهم عنك ، والكل أمر تهديد فيعاقب به أو إهانة أي لا يخل ذلك بملكي .
{ رَّبُّكُمُ الذى يُزْجِى } يجري ويسير { لَكُمُ الفلك فِى البحر لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني الربح في التجارة { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . }(2/209)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِى البحر } أي خوف الغرق { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } ذهب عن أوهامكم كل من تدعونه في حوادثكم إلا إياه وحده فإنكم لا تذكرون سواه ، أو ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله وحده الذي ترجونه على الاستثناء المنقطع { فَلَمَّا نجاكم إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ } عن الإخلاص بعد الخلاص { وَكَانَ الإنسان } أي الكافر { كَفُورًا } للنعم { أَفَأَمِنتُمْ } الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تفديره : أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض { أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر } انتصب { جانب } ب { يخسف } مفعولاً به كالأرض في قوله : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } [ القصص : 81 ] و { بكم } حال ، والمعنى أن يخسف جانب البر أي يقلبه وأنتم عليه ، والحاصل أن الجوابب كلها في قدرته سواء وله في كل جانب أو براً كان أو بحراً ، من أسباب الهلاك ليس جانب البحر وحده مختصاً به ، بل إن كان الغرق في جانب البحر ففي جانب البر الخسف ، وهو تغييب تحت التراب والغرق تغييب تحت الماء ، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب وحيث كان { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } هي الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء يعني أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } يصرف ذلك عنكم { أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ } أي أم أمنتم أن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم فينتقم منكم بأن يرسل عليكم { قَاصِفًا مّنَ الريح } وهي الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد أو هو الكاسر للفلك { فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ } بكفرانكم النعمة هو إعراضكم حين نجاكم { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } مطالباً من قوله : { فاتباع بالمعروف } [ البقرة : 178 ] أي مطالبة ، والمعنى إنا نفعل ما نفعل بهم ثم لا تجدوا أحداً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً منا ودركاً للنار من جهتنا وهذا نحو قوله : { وَلاَ يَخَافُ عقباها } [ الشمس : 16 ] { أن نخسف } { أو نرسل } { أن نعيدكم } { فنرسل } { فنغرقكم } بالنون : مكي وأبو عمرو .(2/210)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } بالعقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المعتدلة وتدبير أمر المعاش والمعاد والاستيلاء وتسخير الأشياء وتناول الطعام بالأيدي . وعن الرشيد أنه أحضر طعاماً فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف رحمه الله تعالى فقال له : جاء في تفسير جدك ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فأحضرت الملاعق فردها وأكل بأصابعه { وحملناهم فِى البر } على الدواب { والبحر } على السفن { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات } باللذيذات أو بما كسبت أيديهم { وفضلناهم على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } أي على الكل كقوله { وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون } [ الشعراء : 223 ] قال الحسن : أي كلهم وقوله : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا } [ يونس : 36 ] ذكر في الكشاف أن المراد بالأكثر الجميع . وعنه عليه السلام : " المؤمن أكرم على الله من الملائكة " وهذا لأنهم مجبولون على الطاعة ففيهم عقل بلا شهوة . وفي البهائم شهوة بلا عقل ، وفي الآدمي كلاهما ، فمن غلب عقله شهوته فهو أكرم من الملائكة ، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم ، ولأنه خلق الكل لهم وخلقهم لنفسه { يَوْمَ نَدْعُواْ } منصوب ب «اذكر» { كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم } الباء للحال والتقدير مختلطين بإمامهم أي بمن ائتموا به من نبي ، أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين فيقال : يا أتباع فلان ، يا أهل دين كذا أو كتاب كذا . وقيل : بكتاب أعمالهم فيقال : يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر { فَمَنْ أُوتِىَ } من هؤلاء المدعوين { كتابه بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كتابهم } وإنما قيل أولئك لأن «من» في معنى الجمع { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء . ولم يذكر الكفار وإيتاء كتبهم بشمالهم اكتفاء بقوله :(2/211)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
{ وَمَن كَانَ فِى هذه } الدنيا { أعمى فَهُوَ فِى الآخرة أعمى } كذلك { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } من الأعمى أي أضل طريقاً ، والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة ، أما في الدنيا فلفقد النظر وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه . وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل بدليل عطف { وأضل } ومن ثم قرأ أبو عمرو الأول ممالاً والثاني مفخماً ، لأن أفعل التفضيل تمامه ب «من» فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلمة فلا يقبل الإمالة وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف فقبلت الإمالة ، وأمالهما حمزة وعلي وفخمهما الباقون .
ولما قالت قريش اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك نزل { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } «إن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية ، والمعنى إن الشأن قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين { عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا { لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } لتتقول علينا ما لم نقل يعني ما اقترحوه من تبديل الوعد وعيداً والوعيد وعداً { وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } أي ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك خليلا ولكنت لهم ولياً وخرجت من ولايتي { وَلَوْلاَ أَن ثبتناك } ولولا تثبيتنا وعصمتنا { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } لقاربت أن تميل إلى مكرهم { شَيْئًا قَلِيلاً } ركوناً ، قليلاً وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت .(2/212)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
{ إِذَا } لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة { إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات } لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين لعظيم ذنبك بشرف منزلتك ونبوتك كما قال : { يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة } [ الأحزاب : 30 ] الآية . وأصل الكلام لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات لأن العذاب عذابان : عذاب في الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار . والعذاب يوصف بالضعف كقوله : { فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار } [ الأعراف : 38 ] أي مضاعفاً فكأن أصل الكلام لأذقناك عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات ، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل ضعف الحياة وضعف الممات . ويجوز أن يراد بضعف الحياة عذاب الحياة الدنيا ، وبضعف الممات ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار . وفي ذكر الكيدودة وتقليلها مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله ، ولما نزلت كان عليه السلام يقول : " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين " { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } معيناً لك يمنع عذابنا عنك .
{ وَإِن كَادُواْ } أي أهل مكة { لَيَسْتَفِزُّونَكَ } ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم { مّنَ الأرض } من أرض مكة { لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ } لا يبقون { خلافك } بعدك أي بعد إخراجك { خلافك } كوفي غير أبي بكر وشامي بمعناه { إِلاَّ قَلِيلاً } زماناً قليلاً فإن الله مهلكهم وكان كما قال : فقد أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل ، أو معناه ولو أخرجوك لاستؤصلوا عن بكرة أبيهم ولم يخرجوه بل هاجر بأمر ربه . وقيل : من أرض العرب أو من أرض المدينة { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا } يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم فسنة الله أن يهلكهم ، ونصبت نصب المصدر المؤكد أي سن الله ذلك سنة { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } تبديلاً .
{ أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } لزوالها . على هذه الآية جامعة للصلوات الخمس ، أو لغروبها وعلى هذا يخرج الظهر والعصر { إلى غَسقِ الليل } هو الظلمة وهو وقت صلاة العشاء { وقرءان الفجر } صلاة الفجر سميت قرآناً وهو القراءة لكونها ركناً كما سميت ركوعاً وسجوداً ، وهو حجة على الأَصم حيث زعم أن القراءة ليست بركن ، أو سميت قرآناً لطول قراءتها وهو عطف على { الصلاة } { إن قرءان الفجر كان مشهوداً } يشهده ملائكة الليل والنهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار ، أو يشهده الكثير من المصلين في العادة { وَمِنَ اليل } وعليك بعض الليل { فَتَهَجَّدْ } والتهجد ترك الهجود للصلاة ويقال في النوم أيضاً تهجد { بِهِ } بالقرآن { نَافِلَةً لَّكَ } عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس ، وضع { نافلة } موضع «تهجداً» لأن التهجد عبادة زائدة فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد ، والمعنى أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة غنيمة لك أو فريضة عليك خاصة دون غيرك لأنه تطوع لهم { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } نصب على الظرف أي عسى أن يبعثك يوم القيامة فيقيمك مقاماً محموداً ، أو ضمن يبعثك معنى يقيمك وهو مقام الشفاعة عند الجمهور ، ويدل عليه الأخبار أو هو مقام يعطى فيه لواء الحمد .(2/213)
{ وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ } هو مصدر أي أدخلني القبر إدخالاً مرضياً على طهارة من الزلات { وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ } أي أخرجني منه عند البعث إخراجاً مرضياً ملقى بالكرامة آمناً من الملامة ، دليله ذكره على أثر ذكر البعث . وقيل : نزلت حين أمر بالهجرة يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة ، أو هو عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من أمر ومكان { واجعل لّي مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا } حجة تنصرني على من خالفني أو ملكاً وعزاً قوياً ناصراً للإسلام على الكفر مظهراً له عليه { وَقُلْ جَاء الحق } الإسلام { وَزَهَقَ } وذهب وهلك { الباطل } الشرك أو جاء القرآن وهلك الشيطان { إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا } كان مضمحلاً في كل أوان .(2/214)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
{ وَنُنَزّلُ } وبالتخفيف : أبو عمرو { مِن القرآن } «من» للتبيين { مَا هُوَ شِفَاء } من أمراض القلوب { وَرَحْمَةً } وتفريج للكروب وتطهير للعيوب وتكفير للذنوب { لِلْمُؤْمِنِينَ } وفي الحديث : " من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله " { وَلاَ يَزِيدُ الظالمين } الكافرين { إَلاَّ خَسَارًا } ضلالاً لتكذيبهم به وكفرهم { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان } بالصحة والسعة { أَعْرَضَ } عن ذكر الله أو أنعمنا بالقرآن أعرض { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } تأكيد للإعراض لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه والنأي بالجانب أي يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره ، أو أراد الاستكبار لأن ذلك من عادة المستكبرين { نأى } بالأمالة : حمزة وبكسرها عليَّ { وَإِذَا مَسَّهُ الشر } الفقر والمرض أو نازلة من النوازل { كَانَ يَئُوساً } شديد اليأس من روح الله { قُلْ كُلٌّ } أي كل أحد { يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ } على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلال { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } أسد مذهباً وطريقة .
{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى } أي من أمر يعلمه ربي ، الجمهور على أنه الروح الذي في الحيوان ، سألوه عن حقيقته فأخبر أنه من أمر الله أي مما استأثر بعلمه . وعن أبي هريرة : لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح ، وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيته بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه . والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ليدل على أنه عن إدراك خالقه أعجز ، ولذا رد ما قيل في حده أنه جسم دقيق هوائي في كل جزء من الحيوان . وقيل : هو خلق عظيم روحاني أعظم من الملك . وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو جبريل عليه السلام : { نزل به الروح الأمين على قلبك } [ الشعراء : 193 ] وعن الحسن : القرآن دليله : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] ولأن به حياة القلوب و { من أمر ربي } أي من وحيه وكلامه ليس من كلام البشر . ورُوي أن اليهود بعثت إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح ، فإن أجاب عن الكل أو سكت عن الكل فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي ، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة فندموا على سؤالهم . وقيل : كان السؤال عن خلق الروح يعني أهو مخلوق أم لا . وقوله : { من أمر ربي } دليل خلق الروح فكان هذا جواباً { وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } الخطاب عام
فقد رُويَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا : نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه فقال : " بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً " وقيل : هو خطاب لليهود خاصة لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة وقد تلوت { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } [ البقرة : 269 ] فقيل لهم : إن علم التوراة قليل في جنب علم الله . فالقلة والكثرة من الأمور الإضافية ، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله تعالى فهي قليلة . ثم نبه على نعمة الوحي وعزاه بالصبر على أذى الجدال في السؤال بقوله :(2/215)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
{ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } { لنذهبن } جواب قسم محذوف مع نيابته عن جزاء الشرط ، واللام الداخلة على «إن» توطئة للقسم ، والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف فلم نترك له أثراً { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } أي ثم لا تجد لك بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظاً مسطوراً .(2/216)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)
{ إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } أي إلا إن يرحمك ربك فيرده عليك كأن رحمته تتوكل عليه بالرد ، أو يكون على الاستثناء المنقطع أي ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به ، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه ونزل جواباً لقول النضر : { لو نشاء لقلنا مثل هذا } [ الأنفال : 21 ]
{ قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } معيناً و { لا يأتون } جواب قسم محذوف ، ولولا اللام الموطئة لجاز أن يكون جواباً للشرط كقوله :
يقول لا غائب مالي ولا حرم ... لأن الشرط وقع ماضياً أي لو تظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته وحسن نظمه وتأليفه لعجزوا عن الإتيان بمثله { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } رددنا وكررنا { لِلنَّاسِ فِي هذا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه { فأبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } جحوداً . وإنما جاز { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } ولم يجز «ضربت إلا زيداً» لأن أبى متأول بالنفي كأنه قيل : فلم يرضوا إلا كفوراً . ولما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه المعجزات الأخر ولزمتهم بالحجة وغلبوا اقترحوا الآيات فعل المبهوت المحجوج المتحير .
{ وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تفْجُرَ لَنَا } وبالتخفيف : كوفي { مِنَ الأرْضِ } أي مكة { يَنبُوعاً } عيناً غزيرة من شأنها أن تنبع بالماء لا تقطع ، يفعول من نبع الماء { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ } والتشديد هنا مجمع عليه { الأنْهَارَ خَلالَهَا } وسطها { تَفْجيراً } .(2/217)
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
{ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } بفتح السين : مدني وعاصم . أي قطعاً يقال : أعطني كسفة من هذا الثوب . وبسكون السين : غيرهما جمع كسفة كسدرة وسدر يعنون قوله { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء } { [ سبأ : 9 ] } أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً } كفيلاً بما تقول شاهداً بصحته ، والمعنى أو تأتي بالله قبيلاً وبالملائكة قبلاً كقوله : «كنت منه ووالدي برياً» أو مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه : { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } [ الفرقان : 21 ] أو جماعة حالاً من الملائكة { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ } ذهب { أَوْ ترقى في السَّمَآءِ } تصعد إليها { وَلَنْ نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ } لأجل رقيك { حتى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا } وبالتخفيف : أبو عمرو { كِتاباً } أي من السماء فيه تصديقك { تقرؤُه } صفة كتاب { قُلْ } { قال } مكي وشامي أي قال الرسول { سُبْحَانَ رَبِّي } تعجب من اقتراحاتهم عليه { هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } أي أنا رسول كسائر الرسل بشر مثلهم ، وكان الرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات فليس أمر الآيات إلى إنما هو إلى الله ، فما بالكم تتخيرونها علي { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } يعني أهل مكة ، ومحل { أَن يُؤْمِنُوا } نصب بأنه مفعول ثان ل { منع } { إِذْ جَآءَهُمُ الهدى } النبي والقرآن { إِلاَّ أَن قَالُوا } فاعل { منع } والتقدير : وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا قولهم { أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } أي إلا شبهة تمكنت في صدورهم وهي إنكارهم أن يرسل الله البشر ، والهمزة في { أبعث الله } للإنكار وما أنكروه ففي قضية حكمته منكر .
ثم رد الله عليهم بقوله :(2/218)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
{ قُل لَّوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ } على أقدامهم كما يمشي الإنس ، ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه { مُطْمَئِنِّينَ } حال أي ساكنين في الأرض قارين { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } يعلمهم الخير ويهديهم المراشد ، فأما الإنس فإنما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم و { بشراً } و { ملكاً } حالان من { رسولاً } { قُلْ كفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم كذبتك وعاندتم . { شهيداً } تمييز أو حال { إِنَّهُ كَان بِعِبَادِهِ } المنذرين والمنذرين { خَبِيراً } عالماً بأحوالهم { بَصِيراً } بأفعالهم فهو مجازيهم وهذه تسلية لرسول الله عليه السلام ووعيد للكفرة { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ } وبالياء : يعقوب وسهل ، وافقهما أبو عمرو ، ومدني في الوصل أي من وفقه الله لقبول ما كان من الهدى فهو المهتدي عند الله { وَمَنْ يُضْلِلْ } أي ومن يخذله ولم يعصمه حتى قبل وساوس الشيطان { فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ } أي أنصاراً { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ على وُجُوهِهِمْ } أي يسحبون عليها كقوله { يوم يسحبون في النار على وجوههم } [ القمر : 48 ] وقيل لرسول الله عليه الصلاة والسلام كيف يمشون على وجوههم؟ قال : « إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم » { عُمْياً وَبُكْماً وَصُمَّاً } كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامون عن استماعه ، فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقر أعينهم ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ } طفئ لهبها { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } توقدا .(2/219)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
{ ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوآ أَئذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } أي ذلك العذاب بسبب أنهم كذبوا بالإعادة بعد الإفناء فجعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها ثم يعيدها ، لا يزالون على ذلك ليزيد في تحسرهم على تكذيبهم البعث .
{ أَوَ لَمْ يَرَوْا } أو لم يعلموا { أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } من الإنس { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجلاً لاَّ رَيْبَ فِيه } وهو الموت أو القيامة { فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كَفُوراً } جحوداً مع وضوح الدليل { قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ } تقديره : لو تملكون أنتم لأن «لو» تدخل على الأفعال دون الأسماء فلا بد من فعل بعدها فأضمر تملك على شريطة التفسير وأبدل من الضمير المتصل وهو الواو ضمير منفصل وهو أنتم لسقوط ما يتصل به من اللفظ ف { أنتم } فاعل الفعل المضمر و { تملكون } تفسيره ، وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب . وأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن { أنتم تملكون } فيه دلالة على الاختصاص وأن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ { خَزَآئِنَ رَحْمَةِ ربي } رزقه وسائر نعمه على خلقه { إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفَاقِ } أي لبخلتم خشية أن يفنيه الإنفاق { وَكَانَ الإنْسانُ قَتُوراً } بخيلاً .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } عن ابن عباس رضي الله عنهما : هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بني إسرائيل . وعن الحسن : الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الحجر والبحر والطور { فَاسْألْ بني إِسْرَاءِيلَ } فقلنا له اسأل بني إسرائيل أي سلهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل . وقوله { إِذْ جاءهم } متعلق بقوله المحذوف أي فقلنا له سلهم حين جاءهم { فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً } سحرت فخولط عقلك
.(2/220)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)
{ قَالَ } أي موسى { لَقَدْ عَلِمْتَ } يا فرعون { مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ } الآيات { إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } خالقهما { بَصَآئِرَ } حال أي بينات مكشوفات إلا أنك معاند ونحوه { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } [ النمل : 14 ] { علمت } بالضم : عليّ أي إني لست بمسحور كما وصفتني بل أنا عالم بصحة الأمر ، وأن هذه الآيات منزلها رب السماوات والأرض . ثم قارع ظنه بظنه بقوله : { وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَافرِعَوْنُ مَثْبُوراً } كأنه قال : إن ظننتني مسحوراً فأنَا أظنك مثبوراً هالكاً وظني أصح من ظنك لأن له أمارة ظاهرة وهي إنكارك ما عرفت صحته ومكابرتك لآيات الله بعد وضوحها ، وأما ظنك فكذب بحت ، لأن قولك مع علمك بصحة أمري { إني لأظنك مسحوراً } قول كذب . وقال الفراء : مثبوراً مصروفاً عن الخير من قولهم «ما ثبرك عن هذا» أي ما منعك وصرفك؟ { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم } يخرجهم أي موسى وقومه { مِّنَ الأرْضِ } أي أرض مصر أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال { فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً } فحاق به مكره بأن استفزه الله بإغراقه مع قبطه { وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ } من بعد فرعون { لبني إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ } التي أراد فرعون أن يستفزكم منها . { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرَةِ } أي القيامة { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } جمعاً مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكم بينكم ونميز بين سعدائكم وأشقيائكم ، واللفيف الجماعات من قبائل شتى .
{ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة وما نزل إلا ملتبساً بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظاً بالرصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلا محفوظاً بهم من تخليط الشياطين . قال الراوي : اشتكى محمد بن السماك فأخذنا ماءه وذهبنا به إلى طبيب نصراني ، فاستقبلنا رجل حسن الوجه طيب الرائحة نقي الثوب فقال لنا : إلى أين؟ فقلنا له : إلى فلان الطبيب نريه ماء ابن السماك . فقال : سبحان الله تستعينون على ولي الله بعدو الله! اضربوه على الأرض وارجعوا إلى ابن السماك وقولوا له : ضع يدك على موضع الوجع وقل : { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل } ثم غاب عنا فلم نره فرجعنا إلى ابن السماك فأخبرناه بذلك فوضع يده على موضع الوجع وقال ما قال الرجل وعوفي في الوقت وقال : كان ذلك الخضر عليه السلام { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً } بالجنة { وَنَذِيراً } من النار .(2/221)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
{ وَقُرْآناً } منصوب بفعل يفسره { فَرَقْنَاهُ } أي فصلناه أو فرقنا فيه الحق من الباطل { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ على مُكْثٍ } على تؤدة وتثبت { وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } على حسب الحوادث { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا } أي اختاروا لأنفسكم النعيم المقيم أو العذاب الأليم . ثم علل بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ } أي التوراة من قبل القرآن { إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ } القرآن { يُخِرُّونَ للأذْقَانِ سُجَّداً } حال { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } لقوله { آمنوا به أو لا تؤمنوا } أي أعرض عنهم فإنهم إن لم يؤمنوا به ولم يصدقوا بالقرآن فإن خيراً منهم وهم العلماء الذين قرءوا الكتب قد آمنوا به وصدقوه ، فإذا تلي عليهم خروا سجداً وسبحوا الله تعظيماً لأمره ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه وهو المراد بالوعد المذكور . «إن» بمعنى «إنه» وهي تؤكد الفعل كما أن «إن» تؤكد الاسم ، وكما أكدت «إن» باللام في { إنهم لمحضرون } [ الصافات : 158 ] أكدت «إن» باللام في { لمفعولا }(2/222)
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
{ وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ } ومعنى الخرور للذقن السقوط على الوجه ، وإنما خص الذقن لأن أقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض عند السجود الذقن . يقال : خر على وجهه وعلى ذقنه ، وخر لوجهه ولذقنه . أما معنى «على» فظاهر ، وأما معنى اللام فكأنه جعل ذقنه ووجهه للخرور ، واختصه به إذ اللام للاختصاص . وكرر { يخرون للأذقان } لاختلاف الحالين وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين وخرورهم في حال كونهم باكين { وَيَزِيدُهُمْ } القرآن { خُشُوعاً } لين قلب ورطوبة عين .
{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرحمن } لما سمعه أبو جهل يقول يا الله يا رحمن قال : إنه نهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر فنزلت . وقيل : إن أهل الكتاب قالوا : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت . والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء ، وأو للتخيير أي سموا بهذا الاسم ، أو بهذا أو اذكروا إما هذا وإما هذا ، والتنوين في { أَيَّا مَّا تَدْعُوا } عوض من المضاف إليه و«ما» زيدت للتوكيد و«أياً» نصب ب { تدعوا } وهو مجزوم بأي أي أي هذين الاسمين ذكرتم وسميتم { فَلَهُ الأسْمَآءُ الحسنى } والضمير في { فله } يرجع إلى ذات الله تعالى ، والفاء لأنه جواب الشرط أي أيَّاماً تدعوا فهو حسن فوضع موضعه قوله : { فله الأسماء الحسنى } لأنه إذا حسنت أسماؤه حسن هذان الاسمان لأنهما منها ، ومعنى كونها أحسن الأسماء إنها مستقلة بمعاني التمجيد والتقديس والتعظيم { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } بقراءة صلاتك على حذف المضاف لأنه لا يلبس ، إذ الجهر والمخافتة تعتقبان على الصوت لا غير ، والصلاة أفعال وأذكار وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بقراءته فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا فأمر بأن يخفض من صوته ، والمعنى ولا تجهر حتى تسمع المشركين { وَلا تُخَافِتْ بِهَا } حتى لا تسمع من خلفك { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ } بين الجهر والمخافتة { سَبِيلاً } وسطاً ، أو معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلاً بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار أو بصلاتك بدعائك { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } كما زعمت اليهود والنصارى وبنو مليح { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } كما زعم المشركون { وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ } أي لم يذل فيحتاج إلى ناصر أو لم يوال أحداً من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } وعظمه وصفه بأنه أكبر من أن يكون له ولد أو شريك وسمى النبي عليه السلام الآية آية العز وكان إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية .(2/223)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
{ الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم { الكتاب } القرآن ، لقن الله عباده ووفقهم كيف يثنون عليه ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام ، وما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } أي شيئاً من العرج والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، يقال في رأيه عوج وفي عصاه عوج ، والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه وخروج شيء منه من الحكمة { قَيِّماً } مستقيماً وانتصابه بمضمر وتقديره ، جعله قيماً لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة ، وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر التأكيد ، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند التصفح ، أو قيماً على سائر الكتب مصدقا لها شاهداً بصحتها { لّيُنذِرَ } «أنذر» متعدٍ إلى مفعولين كقوله : { إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] فاقتصر على أحدهما ، وأصله لينذر الذين كفروا { بَأْسًا } عذاباً { شَدِيداً } وإنما اقتصر على أحد مفعولي «أنذر» لأن المنذر به هو المسوق إليه فاقتصر عليه { مِن لَّدُنْهُ } صادراً من عنده { وَيُبَشّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ } أي بأن لهم { أَجْرًا حَسَنًا } أي الجنة ، { ويبشر } حمزة وعليَّ .(2/224)
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
{ مَّاكِثِينَ } حال من «هم» في { لهم } { فِيهِ } في الأجر وهو الجنة { أَبَدًا وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا } ذكر المنذرين دون المنذر به بعكس الأول استغناء بتقديم ذكره .
{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي بالولد أو باتخاذه يعني أن قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط فإن قلت : إتخاذ الله ولداً في نفسه محال فكيف قيل { ما لهم به من علم } قلت : معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه ، أو لأنه في نفسه محال . { وَلاَ لائَبَائِهِمْ } المقلدين { كَبُرَتْ كَلِمَةً } نصب على التمييز وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أكبرها كلمة! والضمير في { كبرت } يرجع إلى قولهم { اتخذ الله ولداً } وسميت كلمة كما يسمعون القصيدة بها { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } صفة ل { كلمة } تفيد استعظاماً لاجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم ، فإن كثيراً مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوهوا به بل يكظمون عليه فكيف بمثل هذا المنكر { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا } ما يقولون ذلك إلا كذباً هو صفة لمصدر محذوف أي قولاً كذباً { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } قاتل نفسك { على ءاثارهم } أي آثار الكفار ، شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الأسف على توليهم برجل فارقه أحبته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم وتلهفا على فراقهم { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث } بالقرآن { أَسَفاً } مفعول لهُ أي لفرط الحزن ، والأسف المبالغة في الحزن والغضب { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا } أي ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } وحسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها . ثم زهد في الميل إليها بقوله :(2/225)
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا } من هذه الزينة { صَعِيداً } أرضاً ملساء { جُرُزاً } يابساً لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة ، والمعنى نعيدها بعد عمارتها خراباً بإماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار وغير ذلك .
ولما ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها وإزالة ذلك كله كأن لم يكن قال : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم } يعني أن ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة ، والكهف : الغار الواسع في الجبل والرقيم اسم كلبهم أو قريتهم أو اسم كتاب كتب في شأنهم أو اسم الجبل الذي فيه الكهف { كَانُواْ مِنْ ءاياتنا عَجَبًا } أي كانوا آية عجباً من آياتنا وصفاً بالمصدر أو على ذات عجب { إِذْ } أي اذكر إذ { أَوَى الفتية إِلَى الكهف فَقَالُواْ رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رحمةً } أي رحمة من خزائن رحمتك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء { وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا } أي الذي نحن عليه من مفارقة الكفار { رَشَدًا } حتى نكون بسببه راشدين مهتدين ، أو اجعل أمرنا رشداً كله كقولك «رأيت منك أسداً»أو يسر لنا طريق رضاك { فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ فِى الكهف } أي ضربنا عليها حجاباً من النوم يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأَصوات فحذف المفعول الذي هو الحجاب { سِنِينَ عَدَدًا } ذوات عدد فهو صفة لسنين . قال الزجاج : أي تعد عدداً لكثرتها لأن القليل يعلم مقداره من غير عدد فإذا كثر عُدَّ فأما { دراهم معدودة } [ يوسف : 20 ] فهي على القلة لأنهم كانوا يعدون القليل ويزنون الكثير { ثُمَّ بعثناهم } أيقظناهم من النوم { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } المختلفين منهم في مدة لبثهم لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك وذلك قوله { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } وكان الذين قالوا { ربكم أعلم بما لبثتم } هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول ، أو أي الحزبين المختلفين من غيرهم { أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا } غاية . و { أحصى } فعل ماض و { أمدا } ظرف ل { أحصى } أو مفعول له ، والفعل الماضي خبر المبتدأ وهو أي والمتبدأ مع خبره سد مسد مفعولي «نعلم» . والمعنى أيهم ضبط أمداً لأوقات لبثهم وأحاط علماً بأمد لبثهم؟ ومن قال : «أحصى» أفعل من الإحصاء وهو العد فقد زل لأن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس . وإنما قال : { لنعلم } مع أنه تعالى لم يزل عالماً بذلك ، لأن المراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيماناً واعتباراً ، وليكون لطفاً لمؤمني زمانهم ، وآية بينة لكفاره . أو المراد لنعلم اختلافهما موجوداً كما علمناه قبل وجوده .(2/226)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق } بالصدق { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } جمع فتى والفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى واجتناب المحارم واستعمال المكارم . وقيل : الفتى من لا يدعي قبل الفعل ولا يزكي نفسه بعد الفعل { ءَامَنُواْ بِرَبّهِمْ وزدناهم هُدًى } يقينا ، وكانوا من خواص دقيانوس قد قذف الله في قلوبهم الإيمان وخاف بعضهم بعضاً وقالوا : ليخل اثنان اثنان منا فيظهر كلاهما ما يضمر لصاحبه ففعلوا فحصل اتفاقهم على الإيمان { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ } وقويناها بالصبر على هجران الأوطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام { إِذْ قَامُواْ } بين يدي الجبار وهو دقيانوس من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض } مفتخرين { لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها } ولئن سميناهم آلهة { لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } قولاً ذا شطط وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه من شط يشط ويشط إذا بعد .(2/227)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
{ هَؤُلاء } مبتدأ { قَوْمُنَا } عطف بيان { اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً } خبر وهو إخبار في معنى الإنكار { لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم } هلا يأتون على عبادتهم فحذف المضاف { بسلطان بَيّنٍ } بحجة ظاهرة وهو تبكيت لأن الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } بنسبة الشريك إليه .
{ وَإِذِ اعتزلتموهم } خطاب من بعضهم لبعض حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم { وَمَا يَعْبُدُونَ } نصب عطف على الضمير أي وإذ اعتزلتموهم وإذ اعتزلتم معبوديهم { إِلاَّ الله } استثناء متصل لأنهم كانوا يقرون بالخالق ويشركون معه غيره كأهل مكة ، أو منقطع أي وإذ اعتزلتم الكفار والأصنام التي يعبدونها من دون الله ، أو هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله { فَأْوُواْ إِلَى الكهف } صيروا إليه أو اجعلوا الكهف مأواكم { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ } من رزقه { وَيُهَيّىء لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا } { مَرفقاً } مدني وشامي وهو ما يرتفق به أي ينتفع . وإنما قالوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم ، أو أخبرهم به نبي في عصرهم { وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ } بتخفيت الزاي : كوفي ، { تزَّور } شامي ، { تزَّاور } غيرهم وأصله تتزاور فخفف بإدغام التاء في الزاي أو حذفها والكل من الزور وهو الميل ، ومنه زاره إذا مال إليه ، والزور الميل عن الصدق { عَن كَهْفِهِمْ } أي تميل عنه ولا يقع شعاعها عليهم { ذَاتَ اليمين } جهة اليمين وحقيقتها الجهة المسماة باليمين { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ } تقطعهم أي تتركهم وتعدل عنهم { ذَاتَ الشمال وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ } في متسع من الكهف . والمعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح معرض لإصابة الشمس لولا أن الله يحجبها عنهم . وقيل : منفسح من غارهم ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ولا يحسون كرب الغار { ذلك مِنْ آيات الله } أي ما صنعه الله بهم من إزورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة آية من آيات الله يعني أن ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم اختصاصاً لهم بالكرامة . وقيل : باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش فهم في مقنأة أبداً ، ومعنى ذلك من آيات الله أن شأنهم وحديثهم من آيات الله { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد } مثل ما مر في «سبحان» وهو ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم فأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية { وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا } أي من أضله فلا هادي له .(2/228)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{ وَتَحْسَبُهُمْ } بفتح السين : شامي وحمزة وعاصم غير الأعشى ، وهو خطاب لكل أحد { أَيْقَاظًا } جمع يقظ { وَهُمْ رُقُودٌ } نيام . قيل : عيونهم مفتحة وهم نيام فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظاً { وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } قيل : لهم تقلّبتان في السنة . وقيل : تقلبة واحدة في يوم عاشوراء { وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ } حكاية حال ماضية لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي { بالوصيد } بالفناء أو بالعتبة { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ } لو أشرفت عليهم فنظرت إليهم { لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ } لأعرضت عنهم وهربت منهم { فِرَاراً } منصوب على المصدر لأن معنى { وليت منهم } فررت منهم { وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ } ويتشديد اللام : حجازي للمبالغة { رُعْبًا } تمييز . وبضم العين : شامي وعلي ، وهو الخوف الذي يرعب الصدر أي يملؤه وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة أو لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم . وعن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال : أريد أن أدخل فقال ابن عباس رضي الله عنهما : لقد قيل لمن هو خير منك { لوليت منهم فراراً } فدخلت جماعة بأمره فأحرقتهم ريح .(2/229)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
{ وكذلك بعثناهم } وكان أنمناهم تلك النومة كذلك أيقظناهم إظهاراً للقدرة على الإنامة والبعث جميعاً { لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ } ليسأل بعضهم بعضاً ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله ويزدادوا يقيناً ويشكروا ما أنعم الله به عليهم { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ } رئيسهم { كَمْ لَبِثْتُمْ } كم مدة لبثكم؟ { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } جواب مبني على غالب الظن ، وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } بمدة لبثكم إنكار عليهم من بعضهم كأنهم قد علموا بالأدلة أو بإلهام أن المدة متطاولة وأن مقدارها لا يعلمه إلا الله . ورُوي أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال فظنوا أنهم في يومهم ، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك : وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما على أن الصحيح عددهم سبعة لأنه قد قال في الآية : { قال قائل منهم كم لبثتم } وهذا واحد ، وقالوا في جوابه { لبثنا يوماً أو بعض يوم } وهو جمع وأقله ثلاثة ، ثم قال { ربكم أعلم بما لبثتم } وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة { فابعثوا أَحَدَكُمْ } كأنهم قالوا ربكم أعلم بذلك لا طريق لكم إلى علمه فخذوا في شيء آخر مما يهمكم فابعثوا أحدكم أي يمليخا { بِوَرِقِكُمْ } هي الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ، وبسكون الراء : أبو عمرو وحمزة وأبو بكر { هذه إلى المدينة } هي طرسوس وحملهم الورق عند فرارهم دليل على أن حمل النفقة وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات . وعن بعض العلماء أنه كان شديد الحنين إلى بيت الله ويقول : ما لهذا السفر إلا شيئان شد الهميان والتوكل على الرحمن { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا } أي أهلها فخذف كما في { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] و«أي» مبتدأ وخبره { أزكى } أحل وأطيب أو أكثر وأرخص { طَعَامًا } تمييز { فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } وليتكلف اللطف فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن أو في أمر التخفي حتى لا يعرف { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور بنا من غير قصد منه فسمى ذلك إشعاراً منه بهم لأنه سبب فيه .(2/230)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
والضمير في { أَنَّهُمْ } راجع إلى الأهل المقدر في { أيها } { إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } يطلعوا عليكم { يَرْجُمُوكُمْ } يقتلوكم أخبث القتلة { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ } بالإكراه ، والعود بمعنى الصيرورة كثير في كلامهم { وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا } { إذاً } يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن دخلتم في دينهم أبداً .
{ وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } وكما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم { لِيَعْلَمُواْ } أي الذين أطلعناهم على حالهم { أَنَّ وَعْدَ الله } وهو البعث { حَقّ } كائن لأن حالهم في نومهم وانتباههم بعدها كحال من يموت ثم يبعث { وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا } فإنهم يستدلون بأمرهم على صحة البعث { إِذْ يتنازعون } متعلق ب { أعثرنا } أي أعثرناهم عليهم حين يتنازع أهل ذلك الزمان { بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } أمر دينهم ويختلفون في حقيقة البعث فكان بعضهم يقول : تبعث الأرواح دون الأجساد ، وبعضهم يقول : تبعث الأجساد مع الأرواح ليرتفع الخلاف وليتبين أن الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت { فَقَالُواْ } حين توفى الله أصحاب الكهف { ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا } أي على باب كهفهم لئلا يتطرق إليهم الناس ضناً بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحظيرة { رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم ، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا { ربهم أعلم بهم } أو من كلام الله عز وجل رداً لقول الخائضين في حديثهم { قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ } من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ } على باب الكهف { مَّسْجِدًا } يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم .
رُوي أن أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام وأكرهوا على عبادتها وممن شدد في ذلك دقيانوس ، فأراد فتية من أشراف قومه على الشرك وتوعدهم بالقتل فأبوا إلا الثبات على الإيمان والتصلب فيه ، ثم هربوا إلى الكهف ومروا بكلب فتبعهم فطردوه . فأنطقه الله تعالى فقال : ما تريدون مني إني أحب أحباء الله فناموا وأنا أحرسكم . وقيل : مرواً براعٍ معه كلب فتبعهم على دينهم ودخلوا الكهف فضرب الله على آذانهم ، وقبل أن يبعثهم الله مَلِكَ مدينتهم رجل صالح مؤمن ، وقد اختلف أهل مملكته في البعث معترفين وجاحدين ، فدخل الملك بيته وأغلق بابه ولبس مسحاً وجلس على رماد وسأل ربه أن يبين لهم الحق ، فألقى الله في نفس رجل من رعيانهم فهدم ما سد به فم الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه . ولما دخل المدينة من بعثوه لابتياع الطعام وأخرج الورق وكان من ضرب دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملك فقص عليه القصة ، فانطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث . ثم قالت الفتية للملك : نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ، ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم فألقى الملك عليهم ثيابه وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجدا .(2/231)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
{ سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } الضمير في { سيقولون } لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين ، وأهل الكتاب سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم فنزلت إخباراً بما سيجري بينهم من اختلافهم في عددهم ، وأن المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم . ويُروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد : وكان يعقوبيا كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم . وقال العاقب : وكان نسطوريا كانوا خمسة سادسهم كلبهم . وقال المسلمون : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم . فحقق الله قول المسلمين . وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما ذكرنا من قبل . وعن علي رضي الله عنه : هم سبعة نفر أسماؤهم : يمليخا ومكشلينا ومشليينار هؤلاء أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوش ودبرنوش وشاذنوش وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره والسابع الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس ، واسم مدينتهم أفسوس واسم كلبهم قطمير . وسين الاستقبال وإن دخل في الأول دون الآخرين فهما داخلان في حكم السين كقولك «قد أكرم وأنعم» تريد معنى التوقع في الفعلين جميعاً ، أو أريد ب { يفعل } معنى الاستقبال الذي هو صالح له { ثلاثة } خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلاثة ، وكذلك { خمسة } و { سبعة } و { رابعهم كلبهم } جملة من مبتدأ وخبر واقعة صفة ل { ثلاثة } وكذلك { سادسهم كلبهم } و { ثامنهم كلبهم رجماً بالغيب } رمياً بالخبر الخفي وإتيانا به كقوله { ويقذفون بالغيب } [ سبأ : 53 ] أي يأتون به ، أو وضع الرجم موضع الظن فكأنه قيل : «ظنا» بالغيب لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظن مكان قولهم ظن حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين . والواو الداخلة على الجملة الثالثة هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة النكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في قولك «جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف» وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف . والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر ، وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا { سبعة وثامنهم كلبهم } قالوه عن ثبات علم ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم دليله أن الله تعالى أتبع القولين الأولين قوله { رجماً بالغيب } وأتبع القول الثالث قوله { قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } أي قل ربي أعلم بعدّتهم وقد أخبركم بها بقوله { سبعة وثامنهم كلبهم } { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا من ذلك القليل .(2/232)
وقيل : إلا قليل من أهل الكتاب ، والضمير في { سيقولون } على هذا لأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وأكثرهم على ظن وتخمين { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ } فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف { إِلاَّ مِرَآء ظاهرا } إلا جدالاً ظاهراً غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد من غير تجهيل لهم أو بمشهد من الناس ليظهر صدقك { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً } ولا تسأل أحداً منهم عن قصتهم سؤال متعنت له حتى يقول شيئاً فترده عليه وتزيف ما عنده ولا سؤال مسترشد لأن الله تعالى قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم .(2/233)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء } لأجل شيء تعزم عليه { إِنّى فَاعِلٌ ذلك } الشيء { غَداً } أي فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد خاصة { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } أن تقوله بأن يأذن ذلك لك فيه ، أو ولا تقولنه إلا بأن يشاء الله أي إلا بمشيئته ، وهو في موضع الحال أي إلا ملتبساً بمشيئة الله قائلاً إن شاء الله . وقال الزجاج : معناه : ولا تقولن إني أفعل ذلك إلا بمشيئة الله تعالى ، لأن قول القائل «أنا أفعل ذلك إن شاء الله» معناه : لا أفعله إلا بمشيئة الله ، وهذا نهي تأديب من الله لنبيه حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين فسألوه فقال : ائتوني غداً أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه { واذكر رَّبَّكَ } أي مشيئة ربك وقل إن شاء الله { إِذَا نَسِيتَ } إذا فرط منك نسيان لذلك ، والمعنى إذا نسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر ، عن الحسن : مادام في مجلس الذكر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ولو بعد سنة . وهذا محمول على تدارك التبرك بالاستثناء ، فأما الاستثناء المغير حكماً فلا يصح إلا متصلاً ، وحُكي أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رحمه الله خالف ابن عباس رضي الله عنهما في الاستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال له أبو حنيفة : هذا يرجع عليك إنك تأخذ البيعة بالأيمان أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك؟ فاستحسن كلامه وأمر الطاعن فيه بإخراجه من عنده . أو معناه واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء تشديداً في البعث على الاهتمام بها ، أو صل صلاة نسيتها إذا ذكرتها ، أو إذا نسيت شيئاً فاذكره ليذكرك المنسي { وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِى رَبّى لأَِقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا } يعني إذا نسيت شيئاً فاذكر ربك ، وذكر ربك عند نسيانه أن تقول : عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه رشداً وأدنى خيراً ومنفعه . { أن يهدين } ، { إن ترن } ، { أن يؤتين } ، { أن تعلمن } . مكى في الحالين ، ووافقه أبو عمرو ومدني في الوصل .(2/234)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
{ وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةِ سِنِينَ } يريد لبثهم فيه أحياء مضروباً على آذانهم هذه المدة وهو بيان لما أجمل في قوله : { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً } وسنين عطف بيان لثلثمائة . ثلثمائة سنين بالإضافة : حمزة وعليّ ، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله { بالأخسرين أعمالاً } [ الكهف : 103 ] { وازدادوا تِسْعًا } أي تسع سنين لدلالة ما قبله عليه { تسعاً } مفعول به لأن «زاد» تقتضي مفعولين ف «ازداد» يقتضي مفعولاً واحداً { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أي هو أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدة لبثهم والحق ما أخبرك به ، أو هو حكاية لكلام أهل الكتاب و { قل الله أعلم } رد عليهم ، والجمهور على أن هذا إخبار من الله سبحانه وتعالى أنهم لبثوا في كهفهم كذا مدة { لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض } ذكر اختصاصه بعلم ما غاب في السماوات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } أي وأسمع به والمعنى ما أبصره بكل موجود وما أسمعه لكل مسموع { مَالَهُم } لأهل السموات والأرض { مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ } من متول لأمورهم { وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ } في قضائه { أَحَدًا } منهم ، ولا تشرك على النهي : شامي . كانوا يقولون له ائت بقرآن غير هذا أو بدله فقيل له : { واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كتاب رَبّكَ } أي من القرآن ولا تسمع لما يهذون به من طلب التبديل فإنه { لاَ مُبَدّلَ لكلماته } أي لا يقدر أحد على تبديلها أو تغييرها إنما يقدر على ذلك هو وحده { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك . ولما قال قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نحِّ هؤلاء الموالي وهم صهيب وعمار وخباب وسلمان وغيرهم من فقراء المسلمين حتى نجالسك نزل :(2/235)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
{ واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } واحبسها معهم وثبتها { بالغداة والعشى } دائبين على الدعاء في كل وقت ، أو بالغداة لطلب التوفيق والتيسير ، والعشي لطلب عفو التقصير ، أوهما صلاة الفجر والعصر . { بالغُدوة } شامي { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } رضا الله { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } ولا تجاوز ، عداه إذا جاوزه وعدى ب «عن» لتضمن «عدا» معنى «نبا» في قولك «نبت عنه عينه» ، وفائدة التضمين إعطاء مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى قد { تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } في موضع الحال { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } من جعلنا قلبه غافلاً عن الذكر وهو دليل لنا على أنه تعالى خالق أفعال العباد { واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } مجاوزاً عن الحق { وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ } أي الإسلام أو القرآن ، و { الحق } خبر مبتدأ محذوف أي هو { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } أي جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك . وجيء بلفظ الأمر والتخيير لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ماشاء من النجدين . ثم ذكر جزاء من اختار الكفر فقال : { إِنَّا أَعْتَدْنَا } هيأنا { للظالمين } للكافرين فقيد بالسياق كما تركت حقيقة الأمر والتخيير بالسياق وهو قوله { إنا أعتدنا للظالمين } { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } شبه ما يحيط بهم من النار بالسرادق وهي الحجرة التي تكون حول الفسطاط ، أو هو دخان يحيط بالكفار قبل دخولهم النار ، أو هو حائط من نار يطيف بهم { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } من العطش { يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل } هو دردى الزيت أو ما أذيب من جواهر الأرض وفيه تهكم بهم { يَشْوِى الوجوه } إذا قدم ليشرب انشوى الوجوه من حرارته { بِئْسَ الشراب } ذلك { وَسَاءتْ } النار { مُرْتَفَقًا } متكأ من الرفق وهذه لمشاكلة قوله : { وحسنت مرتفقا } وإلا فلا ارتفاق لأهل النار .
وبين جزاء من اختار الإيمان فقال :(2/236)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } كلام مستأنف بيان للأجر المبهم ، ولك أن تجعل { إنَّا لا نضيع } و { أولئك } خبرين معاً . والمراد من أحسن منهم عملاً كقولك «السمن منوان بدرهم» ، أو لأن { من أحسن عملاً } و { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ينتظمهما معنى واحد فأقام من «أحسن» مقام الضمير { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } «من» للإبتداء ، وتنكير أساور وهي جمع أسورة التي هي جمع سوار لإبهام أمرها في الحسن { مّن ذَهَبٍ } «من» للتبيين { وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ } ما رَقَّ من الديباج { وَإِسْتَبْرَقٍ } ما غلظ منه أي يجمعون بين النوعين { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك } خص الاتكاء لأنه هيئة المتنعمين والملوك على أسرتهم { نِعْمَ الثواب } الجنة { وَحَسُنَتْ } الجنة والأرائك { مُرْتَفَقًا } متكأ .
{ واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } ومثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين وكانا أخوين في بني إسرائيل ، أحدهما كافر اسمه قطروس ، والآخر مؤمن اسمه يهوذا . وقيل : هما المذكوران في«والصافات» في قوله : { قال قائل منهم إني كان لي قرين } [ الصافات : 51 ] ورثاً من أبيهما ثمانية آلاف دينار فجعلاها شطرين ، فاشترى الكافر أرضاً بألف دينار فقال المؤمن : اللهم إن أخي اشترى أرضاً بألف دينار وأنا أشتري منك أرضاً في الجنة بألف فتصدق به ، ثم بنى أخوه داراً بألف فقال : اللهم إني أشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدق به ، ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال : اللهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور ، ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف دينار فقال : اللهم إني اشتريت منك الولدان المخلدين بألف فتصدق ، به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله { جَعَلْنَا لأَِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب } بساتين من كروم { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } وجعلنا النخل محيطاً بالجنتين وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة . يقال حفوه إذا أطافوا به ، وحففته بهم أي جعلتهم حافين حوله وهو متعد إلى مفعول واحد فتزيد الباء مفعولاً ثانياً { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا } جعلناها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه ، ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق(2/237)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
{ كِلْتَا الجنتين اتَتْ } أعطت حمل على اللفظ لأن اللفظ «كلتا» مفرد ولو قيل «آتتا» على المعنى لجاز { أُكُلُهَا } ثمرها { وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ } ولم تنقص من أكلها { شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَراً } نعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص ثم بما هو أصل الخير ومادته من أمر الشرب فجعله أفضل ما يسقى به وهو النهر الجاري فيها .
{ وَكَانَ لَهُ } لصاحب الجنتين { ثَمَرٌ } أنواع من المال من ثمر ماله إذا كثره أي كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الكثيرة من الذهب والفضة وغيرهما له ثمر . { وأحيط بثمره } بفتح الميم والثاء : عاصم ، وبضم الثاء وسكون الميم : أبو عمرو ، وبضمهما : غيرهما { فَقَالَ لصاحبه وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } يراجعه الكلام من حار يحور إذا رجع ، يعني قطروس أخذ بيد المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويفاخره بما ملك من المال دونه { أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } أنصاراً وحشماً ، أو أولاداً ذكوراً لأنهم ينفرون معه دون الإناث .(2/238)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
{ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } إحدى جنتيه أو سماها جنة لاتحاد الحائط ، وجنتين للنهر الجاري بينهما { وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ } ضار لها بالكفر { قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً } أي أن تهلك هذه الجنة ، شك في بيدودة جنته لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بالمهلة ، وترى أكثر الأغنياء من المسلمين تنطق ألسنة أحوالهم بذلك { وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } كائنة { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً } إقسام منه على أنه إن رد إلى ربه على سبيل الفرض كما يزعم صاحبه ليجدن في الآخرة خيراً من جنته في الدنيا إدعاء لكرامته عليه ومكانته عنده { منقلباً } تمييز أي مرجعاً وعاقبة { قَالَ لَهُ صاحبه وَهُوَ يحاوره أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } أي خلق أُصلك لأن خلق أصله سبب في خلقه وكان خلقه خلقاً له { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي خلقك من نطفة { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } عدلك وكملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال جعله كافراً بالله لشكه في البعث .
{ لَكُنَّا } بالألف في الوصل : شامي ، الباقون بغير ألف ، وبالألف في الوقف اتفاق ، وأصله لكن أنا فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن فتلاقت النونان فأدغمت الأولى في الثانية بعد أن سكنت { هُوَ الله رَبّى } هو ضمير الشأن والشأن الله ربي والجملة خبر «أنا» والراجع منها إليه ياء الضمير ، وهو استدراك لقوله { أكفرت } قال لأخيه أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد كما تقول : زيد غائب لكن عمراً حاضر ، وفيه حذف أي أقول هو الله بدليل عطف { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا وَلَوْلاَ } وهلا { إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء الله } «ما»موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره : الأمر ما شاء الله ، أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف يعني أي شيء شاء الله كان والمعنى هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها الأمر ما شاء الله ، اعترافا بأنها وكل ما فيها إنما حصل بمشيئة الله ، وأن أمرها بيده إن شاء تركها عامرة وإن شاء خربها ، { لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها هو بمعونته وتأييده . من قرأ { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً } بنصب { أقل } فقد جعل { أنا } فصلاً ومن رفع وهو الكسائي جعله مبتدأ و { أقل } خبره والجملة مفعولاً ثانياً ل «ترني» وفي قوله : { وَوَلَدًا } نصرة لمن فسر النفر بالأولاد في قوله : { وأعز نفرا } .(2/239)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
{ فعسى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ } في الدنيا أو في العقبي { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا } عذاباً { مِّنَ السماء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } أرضاً بيضاء يزلق عليها لملاستها { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا } غائراً أي ذاهباً في الأرض { فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا } فلا يتأتى منك طلبه فضلاً عن الوجود ، والمعنى إن ترن أفقر منك فأنا أتوقع من صنع الله أن يقلب ما بي ومابك من الفقر والغنى فيرزقني لإيماني جنة خيراً من جنتك ، ويسلبك لكفرك نعمته ويخرب بساتينك .
{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } هو عبارة عن إهلاكه وأصله من أحاط به العدو لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه ثم استعمل في كل إهلاك { فَأَصْبَحَ } أي الكافر { يُقَلّبُ كَفَّيْهِ } يضرب إحداهما على الآخر ندماً وتحسراً وإنما صار تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأن النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن كما كنى عن ذلك بِعَضِّ الكف والسقوط في اليد ، ولأنه في معنى الندم عُدي تعديته ب «على» كأنه قيل : فأصبح يندم { عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } أي في عمارتها { وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } يعني أن المعرشة سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم { وَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا } تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتي من جهة كفره وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركاً حتى لا يهلك الله بستانه حين لم ينفعه التمني ، ويجوز أن يكون توبة من الشرك وندماً على ما كان منه ودخولاً في الإيمان
.(2/240)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{ وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ } يقدرون على نصرته { مِن دُونِ الله } أي هو وحده القادر على نصرته لا يقدر أحد غيره أن ينصره إلا أنه لم ينصره لحكمة { وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } وما كان ممتنعاً بقوته عن انتقام الله { هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق } { يكن } بالياء و { الولاية } بكسر الواو : حمزة وعلي فهي بالفتح النصرة والتولي ، وبالكسر السلطان والملك ، والمعنى هنالك أي في ذلك المقام وتلك الحال النصرة لله وحده لا يملكها غيره ولا يستطيعها أحد سواه تقريراً لقوله { ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله } أو هنالك السلطان والملك صلى الله عليه وسلم لا يغلب ، أو في مثل تلك الحالة الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر يعني أن قوله { ياليتني لم أشرك بربي أحداً } كلمة ألجيء إليها فقالها جزعاً مما دهاه من شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها . أو هنالك الولاية لله ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم يعني أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن وصدق قوله { فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء } ويؤيده قوله : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقباً } أي لأوليائه ، أو { هنالك } إشارة إلى الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله كقوله : { لمن الملك اليوم } [ غافر : 16 ] { الحق } بالرفع : أبو عمرو وعلي صفة ل { الولاية } أو خبر مبتدأ محذوف أي هي الحق أو هو الحق . غيرهما بالجر صفة لله . و { عقبا } ً بسكون القاف : عاصم وحمزة ، وبضمها : غيرهما ، وفي الشواذ «عقبى» على وزن «فعلى» وكلها بمعنى العاقبة .
{ واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَاء أنزلناه مِنَ السماء } أي هي كماء أنزلناه { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } فالتف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً أو أثر في النبات الماء فاختلط به حتى روى { فَأَصْبَحَ هَشِيمًا } يابساً متكسراً الواحدة هشيمة { تَذْرُوهُ الرياح } تنسفه وتطيره . { الريح } حمزة وعلي { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء } من الإنشاء والإفناء { مُّقْتَدِرًا } قادراً ، شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك والإفناء بحال النبات يكون أخضر ثم يهيج فتطيره الريح كأن لم يكن .(2/241)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
{ المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } لا زاد القبر وعدة العقبى { والباقيات الصالحات } أعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان ، أو الصلوات الخمس ، أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر { خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا } جزاء { وَخَيْرٌ أَمَلاً } لأنه وعد صادق وأكثر الآمال كاذبه يعني أن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ويصيبه في الآخرة { وَيَوْمَ } واذكر يوم { نُسَيّرُ الجبال } { تُسيَّر الجبال } مكي وشامي وأبو عمرو أي تسير في الجو ، أو يذهب بها بأن تجعل هباء منثوراً منبثاً { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } ليس عليها ما يسترها مما كان عليها من الجبال والأشجار { وحشرناهم } أي الموتى { فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } أي فلم نترك . غادره أي تركه ومنه الغدر ترك الوفاء والغدير ما غادره السيل { وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا } مصطفين ظاهرين ترى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً ، شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } أي قلنا لهم لقد جئتمونا ، وهذا المضمر يجوز أن يكون عامل النصب في { يوم نسير } { كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي لقد بعثناكم كما أنشأناكم أول مرة ، أو جئتمونا عراة لا شيء معكم كما خلقناكم أولاً . وإنما قال : { وحشرناهم } ماضياً بعد { نسير } و { ترى } للدلالة على حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال . كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا } وقتاً لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور أو مكان وعد للمحاسبة .
{ وَوُضِعَ الكتاب } أي صحف الأعمال { فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ } خائفين { مِمَّا فِيهِ } من الذنوب { وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَّالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } أي لا يترك شيئاً من المعاصي { إِلاَّ أَحْصَاهَا } حصرها وضبطها { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا } في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } فيكتب عليه ما لم يعمل أو يزيد في عقابه أو يعذبه بغير جرم .(2/242)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
{ وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ } فسجود تحية أو سجود انقياد { فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } وهو مستأنف كأن قائلاً قال : ما له لم يسجد؟ فقيل : كان من الجن { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } خرج عما أمره ربه به من السجود وهو دليل على أنه كان مأموراً بالسجود مع الملائكة { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ } الهمزة للإنكار والتعجب كأنه قيل : أعقيب ما وجد منه تتخذونه وذريته { أَوْلِيَاء مِن دُونِى } وتستبدلونهم بي؟ ومن ذريته «لا قيس» موسوس الصلاة و«الأعور» صاحب الزنا و«بتر» صاحب المصائب ومطوس صاحب الأراجيف و«داسم» يدخل ويأكل مع من لم يسم الله تعالى { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } أعداء { بِئْسَ للظالمين بَدَلاً } بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله فأطاعه بدل طاعة الله { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ } أي إبليس وذريته { خَلَقَ السماوات والأرض } يعني أنكم اتخذتموهم شركاء لي في العبادة وإنما يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية فنفى مشاركتهم الإلهية بقوله { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض } لأعتضد بهم في خلقها أو أشاورهم فيه أي تفردت بخلق الأشياء فأفردوني في العبادة { وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين } أي وما كنت متخذهم { عَضُداً } أي أعواناً فوضع { المضلين } موضع الضمير ذمًّا لهم بالإضلال ، فإذا لم يكونوا عضداً لي في الخلق فمالكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة؟(2/243)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
{ وَيَوْمَ يَقُولُ } الله للكفار ، وبالنون : حمزة { نَادُواْ } ادعوا بصوت عالٍ { شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ } أنهم فيكم شركائي ليمنعوكم من عذابي ، وأراد الجن وأضاف الشركاء إليه على زعمهم توبيخاً لهم { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } مهلكا من وبق يبق وبوقاً إذا هلك ، أو مصدر كالموعد أي وجعلنا بينهم وادياً من أودية جهنم وهو مكان الهلاك والعذاب الشديد مشتركاً يهلكون فيه جميعاً ، أو الملائكة وعزيراً وعيسى . والموبق البرزخ البعيد أي وجعلنا بينهم أمداً بعيداً لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان { وَرَأَى المجرمون النار فَظَنُّواْ } فَأيقنوا { أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } مخالطوها واقعون فيها { وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا } عن النار { مَصْرِفًا } معدلاً { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا القرءان لِلنَّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ } يحتاجون إليه { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } تمييز أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها واحداً بعد واحد خصومة ومماراة بالباطل يعني أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الهدى } أي سببه وهو الكتاب والرسول { وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب } «أن» الأولى نصب ، والثانية رفع ، وقبلها مضاف محذوف تقديره : وما منع الناس الإيمان والاستغفار إلا انتظار أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإهلاك ، أو انتظار أن يأتيهم العذاب أي عذاب الآخرة { قُبُلاً } كوفي أي أنواعاً جمع قبيل . الباقون { قِبلا } أي عياناً .
{ وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } يوقف عليه ويستأنف بقوله : { ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل } هو قولهم للرسل { ما أنتم إلا بشر مثلنا } [ يس : 15 ] و { لو شاء الله لأنزل ملائكة } [ المؤمنون : 24 ] ونحو ذلك { لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } ليزيلوا ويبطلوا بالجدال النبوة { واتخذوا ءاياتى } القرآن { وَمَا أُنْذِرُواْ } «ما» موصولة والراجع من الصلة محذوف أي وما أنذروه من العقاب ، أو مصدرية أي وإنذارهم { هُزُواً } موضع استهزاء بسكون الزاي والهمزة : حمزة ، وبإبدال الهمزة واوا : حفص ، وبضم الزاي والهمزة : غيرهما .(2/244)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ } بالقرآن ولذلك رجع الضمير إليها مذكراً في قوله أن { يفقهوه } { فَأَعْرَضَ عَنْهَا } فلم يتذكر حين ذكر ولم يتدبر { وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } عاقبة ما قدمت يداه من الكفر والمعاصي غير متفكر فيها ولا ناظر في أن المسيء والمحسن لا بد لهما من جزاء . ثم علل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم بقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أغطية جمع كنان وهو الغطاء { أن يفقهوهُ وفي ءاذانهم وَقراً } ثقلاً عن استماع الحق وجمع بعد الإفراد حملاً على لفظ من ومعناه { وَإِن تَدْعُهُمْ } يا محمد { إِلَى الهدى } إلى الإيمان { فَلَنْ يَهْتَدُواْ } فلا يكون منهم اهتداء ألبتة { إِذَا } جزاء وجواب فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سبباً في انتفائه ، وعلى أنه جواب للرسول على تقدير قوله مالي لا أدعوهم حرصاً على إسلامهم؟ فقيل { وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً } { أَبَدًا } مدة التكليف كلها .
{ وَرَبُّكَ الغفور } البليغ المغفرة { ذُو الرحمة } الموصوف بالرحمة { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب } أي ومن رحمته ترك مؤاخذته أهل مكة عاجلاً مع فرط عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } وهم يوم بدر { لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } منجى ولا ملجأ يقال : وآل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه { وَتِلْكَ } مبتدأ { القرى } صفة لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس والخبر { أهلكناهم } أو { تلك القرى } نصب بإضمار «أهلكنا» على شريطة التفسير ، والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم والمراد قوم نوح وعاد وثمود { لَمَّا ظَلَمُواْ } مثل ظلم أهل مكة { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا } وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر والمهلك الإهلاك ووقته . وبفتح الميم وكسر اللام : حفص ، وبفتحهما : أبو بكر أي لوقت هلاكهم أو لهلاكهم والموعد وقت أو مصدر .(2/245)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
{ وَإِذْ } واذكر إذ { قَالَ موسى لفتاه } هو يوشع بن نون . وإنما قيل { فتاه } لأنه كان يخدمه ويتبعه ويأخذ منه العلم { لا أَبْرَحُ } لا أزال وقد حذف الخبر لدلالة الحال والكلام عليه ، أما الأولى فلأنها كانت حال سفر وأما الثاني فلأن قوله : { حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين } غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له فلا بد أن يكون المعنى لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين وهو المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام وهو ملتقى بحر فارس والروم . وسمي خضراً لأنه أينما يصلي يخضر ما حوله { أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } أو أسير زماناً طويلاً قيل ثمانون سنة . رُوي أنه لما ظهر موسى عليه السلام على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط سأل ربه : أي عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني . قال : فأي عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى ، قال : فأي عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى ، فقال : إن كان في عبادك من هو أعلم مني فدلني عليه . قال : أعلم منك الخضر . قال : أين أطلبه؟ قال : على الساحل عند الصخرة قال : يا رب كيف لي به؟ قال : تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك . فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني ، فذهبا يمشيان فرقد موسى فاضطرب الحوت ووقع في البحر ، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فأتيا الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى فقال : وإني بأرضنا السلام : فعرفه نفسه فقال : يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا .(2/246)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
{ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } مجمع البحرين { نَسِيَا حُوتَهُمَا } أي نسي أحدهما وهو يوشع لأنه كان صاحب الزاد دليله { فإني نسيت الحوت } وهو كقولهم«نسوا زادهم» وإنما ينساه متعهد الزاد . قيل : كان الحوت سمكة مملوحة فنزلا ليلة على شاطئ عين الحياة ونام موسى . فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت ووقعت في الماء { فاتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر } أي اتخذ طريقاً له من البر إلى البحر { سَرَباً } نصب على المصدر أي سرب فيه سرباً يعني دخل فيه واستر به { فَلَمَّا جَاوَزَا } مجمع البحرين ثم نزلا وقد سارا ما شاء الله { قَالَ } موسى { لفتاه ءاتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } تعبا ولم يتعب ولا جاع قبل ذلك { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة } هي موضع الموعد { فَإِنّى نَسِيتُ الحوت } ثم اعتذر فقال : { وَمَا أَنْسَانِيهُ } وبضم الهاء : حفص { إِلاَّ الشيطان } بإلقاء الخواطر في القلب { أَنْ أَذْكُرَهُ } بدل من الهاء في { أنسانيه } أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان { واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا } وهو أن أثره بقي إلى حيث سار { قَالَ ذلك مَا كُنَّا نَبْغِ } نطلب . وبالياء : مكي ، وافقه أبو عمرو وعلي ومدني في الوصل ، وبغير ياء فيهما : غيرهما اتباعاً لخط المصحف و { ذلك } إشارة إلى اتخاذه سبيلاً أي ذلك الذي كنا نطلب لأن ذهاب الحوت كان علماً على لقاء الخضر عليه السلام { فارتدا على ءاثَارِهِمَا } فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه { قَصَصًا } يقصان قصصاً أي يتبعان آثارهما اتباعاً . قال الزجاج : القصص اتباع الأثر { فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا } أي الخضر راقداً تحت ثوب أو جالساً في البحر { ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا } هي الوحي والنبوة أو العلم أو طول الحياة { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } يعني الإخبار بالغيوب . وقيل : العلم اللدني ما حصل للعبد بطريق الإلهام .
{ قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً } أي علماً ذا رشد أرشد به في ديني { رشَدا } أبو عمرو وهما لغتان كالبخل والبخل ، وفيه دليل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وأن كان قد بلغ نهايته وإن يتواضع لمن هو أعلم منه .(2/247)
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
{ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ } وبفتح الياء : حفص ، وكذا ما بعده في هذه السورة { صَبْراً } أي عن الإنكار والسؤال { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } تمييز ، نفي استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد وعلل ذلك بأنه يتولى أموراً هي في ظاهرها مناكير والرجل الصالح لا يتمالك أن يجزع إذا رأى ذلك فيكف إذا كان نبياً! { قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا } من الصابرين عن الإنكار والإعراض { وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً } في محل النصب عطف على { صابراً } أي ستجدني صابراً وغير عاص ، أو هو عطف على { ستجدني } ولا محل له { قَالَ فَإِنِ اتبعتنى فَلاَ تَسْأَلْنى } بفتح اللام وتشديد النون : مدني وشامي ، وبسكون اللام وتخفيف النون : غيرهما ، والياء ثابتة فيهما إجماعاً { عَن شَىء حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي فمن شرط اتباعك لي أنك إذا رأيت مني شيئاً وقد علمت أنه صحيح إلا أنه خفي عليك وجه صحته فأنكرت في نفسك أن لا تفاتحني بالسؤال ولا تراجعني فيه حتى أكون أنا الفاتح عليك ، وهذا من أدب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع .
{ فانطلقا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة خَرَقَهَا } فانطلقا على ساحل البحر يطلبان السفينة فلما ركباها قال أهلها : هما من اللصوص ، وقال صاحب السفينة : أرى وجوه الأنبياء فحملوهما بغير نول ، فلما لججوا أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء فجعل موسى يسد الخرق بثيابه ثم { قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } { ليَغرق } حمزة وعلي من غرق { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } أتيت شيئاً عظيماً من أمر الأمر إذا عظم .(2/248)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
{ قَالَ } أي الخضر { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } فلما رأى موسى أن الخرق لا يدخله الماء ولم يفر من السفينة { قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ } بالذي نسيته أو بشيء نسيته أو بنسياني أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي ، أو أراد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِى عُسْراً } رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه أي ولا تغشني عسراً من أمري وهو اتباعه إياه أي ولا تعسر على متابعتك ويسرها عليَّ بالإغضاء وترك المناقشة { فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ } قيل : ضرب برأسه الحائط . وقيل : أضجعه ثم ذبحه بالسكين . وإنما قال : { فقتله } بالفاء وقال : { خرقها } بغير فاء ، لأن { خرقها } جعل جزاء للشرط وجعل { قتله } من جملة الشرط معطوفاً عليه والجزاء { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا } وإنما خولف بينهما لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام { زَكِيَّةً } { زاكية } حجازي وأبو عمرو وهي الطاهرة من الذنوب ، إما لأنها طاهرة عنده لأنه لم يرها قد أذنبت أو لأنها صغيرة لم يبلغ الحنث { بِغَيْرِ نَفْسٍ } أي لم تقتل نفساً فيقتص منها . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نجدة الحروري كتب إليه كيف جاز قتله وقد نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه : إن علمت من حال الولدان ما علمه موسى فلك أن تقتل .
{ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } وبضم الكاف حيث كان : مدني وأبو بكر وهو المنكر . وقيل : النكر أقل من الإمر لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفنية ، أو معناه جئت شيئاً أنكر من الأول لأن الخرق يمكن تداركه بالسد ولا يمكن تدارك القتل
.(2/249)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } زاد { لك } هنا لأن النكر فيه أكثر { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا } بعد هذه الكرة أو المسألة { فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً } أعذرت فيما بيني وبينك في الفراق . و { لدني } بتخفيف النون : مدني وأبو بكر .
{ فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } هي أنطاكية أو الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء { استطعما أَهْلَهَا } استضافاً { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا } ضيفه أنزله وجعله ضيفه قال عليه السلام : " كانوا أهل قرية لئاماً " وقيل : شر القرى التي تبخل بالقرى { فَوَجَدَا فِيهَا } في القرية { جِدَاراً } طوله مائة ذراع { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } يكاد يسقط استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة كما استعير الهم والعزم لذلك { فَأَقَامَهُ } بيده أو مسحه بيده فقام واستوى ، أو نقضه وبناه كان الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسائلة فلم يجدا مواسياً ، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رآى من الحرمان ومساس الحاجة أن { قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } أي لطلبت على عملك جعلا حتى تستدفع به الضرورة . { لتخذت } بتخفيف التاء وكسر الخاء وإدغام الذال : بصري ، وبإظهارها : مكي ، وبتشديد التاء وفتح الخاء وإظهار الذال : حفص ، وبتشديد التاء وفتح الخاء وإدغام الذال في التاء : غيرهم . والتاء في «تخذ» أصل كما في «تبع» ، و«اتخذ» افتعل منه كاتبع من تبع وليس من الأخذ في شيء .(2/250)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
{ قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ } هذا إشارة إلى السؤال الثالث أي هذا الاعتراض سبب الفراق ، والأصل هذا فراق بيني وبينك ، وقد قرىء به فأضيف المصدر إلى الظرف كما يضاف إلى المفعول به { سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين يَعْمَلُونَ فِى البحر } قيل : كانت لعشرة أخوة خمسة منهم زمنى وخمسة يعلمون في البحر { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } أجعلها ذات عيب { وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ } أمامهم أو خلفهم وكان طريقهم في رجوعهم عليه وما كان عندهم خبره فأعلم الله به الخضر وهو جلندي { يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } أي يأخذ كل سفينة صالحة لا عيب فيها غصباً وإن كانت معيبة تركها ، وهو مصدر أو مفعول له . فإن قلت : قوله : { فأردت أن أعيبها } مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب . قلت : المراد به التأخير وإنما قدم للعناية .
{ وَأَمَّا الغلام } وكان اسمه الحسين { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طغيانا وَكُفْراً } فخفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين طغياناً عليهما وكفرا لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه ويلحق بهما شراً وبلاء ، أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه وهو من كلام الخضر . وإنما خشي الخضر منه ذلك لأنه تعالى أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمره وإن كان من قول الله تعالى ، فمعنى { فخشينا } فعلمنا إن عاش أن يصير سبباً لكفر والديه { فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } { يبَدِّلهما ربهما } مدني وأبو عمرو { خَيْراً مّنْهُ زكواة } طهارة ونقاء من الذنوب { وَأَقْرَبَ رُحْماً } رحمة وعطفا ، و { زكاة } و { رحما } تمييز . روي أنه ولدت لهما جارية تزوجها نبي فولدت نبياً أو سبعين نبياً أو أبدلهما ابناً مؤمناً مثلهما شامي وهما لغتان { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لغلامين } أصرم وصريم { يَتِيمَيْنِ فِى المدينة } هي القرية المذكورة { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } أي لوح من ذهب مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله . أو مال مدفون من ذهب وفضة أو صحف فيها علم والأول أظهر . وعن قتادة : أحل الكنز لمن قبلنا وحرم علينا ، وحرمت الغنيمة عليها وأحلت لنا . { وَكَانَ أَبُوهُمَا } قيل : جدهما السابع { صالحا } ممن يصحبني . وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما : بم حفظ الله الغلامين؟ قال : بصلاح أبيهما . قال : فأبي وجدي خير منه { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } أي الحلم { وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً } مفعول له أو مصدر منصوب ب { أراد ربك } لأنه في معنى رحمهما { مّن رَّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ } وما فعلت ما رأيت { عَنْ أَمْرِى } عن اجتهادي وإنما فعلته بأمر الله والهاء تعود إلى الكل أو إلى الجدار { ذلك } أي الأجوبة الثلاثة { تَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } حذف التاء تخفيفاً .(2/251)
وقد زل أقدام أقوام من الضلال في تفضيل الولي على النبي وهو كفر جلي حيث قالوا : أمر موسى بالتعلم من الخضر وهو وليّ . والجواب أن الخضر نبي وإن لم يكن كما زعم البعض ، فهذا ابتلاء في حق موسى عليه السلام على أن أهل الكتاب يقولون : إن موسى هذا ليس موسى بن عمران إنما هو موسى بن مانان ، ومن المحال أن يكون الوليّ وليًّا إلا بإيمانه بالنبي ثم يكون النبي دون الوليّ ، ولا غضاضة في طلب موسى العلم لأن الزيادة في العلم مطلوبة . وإنما ذكر أولاً { فأردت } لأنه إفساد في الظاهر وهو فعله ، وثالثاً { فأراد ربك } لأنه إنعام محض وغير مقدور البشر ، وثانياً { فأردنا } لأنه إفساد من حيث الفعل إنعام من حيث التبديل . وقال الزجاج : معنى فأردنا فأراد الله عز وجل ومثله في القرآن كثير .
{ وَيَسْئَلُونَكَ } أي اليهود على جهة الإمتحان ، أو أبو جهل وأشياعه { عَن ذِى القرنين } هو الإسكندر الذي ملك الدنيا . قيل : ملكها مؤمنان : ذو القرنين وسليمان ، وكافران : نمرود وبختنصر وكان بعد نمرود . وقيل : كان عبداً صالحاً ملّكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وسخر له النور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه . وقيل : نبياً . وقيل : ملكاً من الملائكة . وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله ، فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله أراد نفسه . قيل : كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله تعالى . وقال عليه السلام : « سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا » يعني جانبيها شرقها وغربها . وقيل : كان له قرنان أي ضفيرتان ، أو انقرض في وقته قرنان من الناس ، أو لأنه ملك الروم وفارس أو الترك والروم ، أو كان لتاجه قرنان أو على رأسه ما يشبه القرنين ، أو كان كريم الطرفين أبا وأما وكان من الروم { قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ } من ذي القرنين { ذِكْراً } .(2/252)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض } جعلنا له فيها مكانة واعتلاء { وَءَاتَيِنَاه مِن كُلّ شَىْء } أراده من أغراضه ومقاصده في ملكه { سَبَباً } طريقاً موصلاً إليه { فَأَتْبَعَ سَبَباً } والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة فأراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً . يوصله إليه حتى بلغ ، وكذلك أراد المشرق فأتبع سبباً ، وأراد بلوغ السدين فأتبع سبباً . { فأتبع سبباً } { ثم أتبع } كوفي وشامي الباقون : بوصل الألف وتشديد التاء . عن الأصمعي : أتبع لحق واتبع اقتفى وإن لم يلحق { حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس } أي منتهى العمارة نحو المغرب وكذا المطلع قال صلى الله عليه وسلم : « بدء أمره أنه وجد في الكتب أن أحد أولاد سام يشرب من عين الحياة فيخلد فجعل يسير في طلبها والخضر وزيره وابن خالته فظفر فشرب ولم يظفر ذو القرنين » { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ذات حمأة من حمئت البئر إذا صارت فيها الحمأة . { حامية } شامي وكوفي غير حفص بمعنى حارة . عن أبي ذر : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال : « أتدري يا أبا ذر أين تغرب هذه؟ » قلت الله ورسوله أعلم . قال : « فإنها تغرب في عين حامية . » وكان ابن عباس رضي الله عنهما عند معاوية فقرأ معاوية { حامية } فقال : ابن عباس : حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمرو : كيف تقرؤها؟ فقال : كما يقرأ أمير المؤمنين . ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال : في ماء وطين كذلك نجده في التوراة فوافق قول ابن عباس رضي الله عنهما ، ولا تنافي فجاز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعاً { وَوَجَدَ عِندَهَا } عند تلك العين { قَوْماً } عراة من الثياب لباسهم جلود الصيد وطعامهم ما لفظ البحر وكانوا كفاراً { قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } إن كان نبياً فقد أوحى الله إليه بهذا وإلا فقد أوحي إلى نبي فأمره النبي به ، أو كان إلهاماً خير بين أن يعذبهم بالقتل إن أصروا على أمرهم وبين أن يتخذ فيهم حسناً بإكرامهم وتعليم الشرائع إن آمنوا ، أو التعذيب القتل وإتخاذ الحسن الأسر لأنه بالنظر إلى القتل إحسان .(2/253)
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
{ قَالَ } ذو القرنين { أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } بالقتل { ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } في القيامة يعني أما من دعوته إلى الإسلام فأبى إلا البقاء على الظلم العظيم وهو الشرك فذاك هو المعذب في الدارين .
{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالحا } أي عمل ما يقتضيه الإيمان { فَلَهُ جَزَاء الحسنى } فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كلمة الشهادة . { جزاءً الحسنى } كوفي غير أبي بكر أي فله الفعلة الحسنى جزاء { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } أي ذا يسر أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل المتيسر من الزكاة والخراج وغير ذلك { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ } هم الزنج { لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا } من دون الشمس { سِتْراً } أي أبنية عن كعب أرضهم لا تمسك الأبنية وبها أسراب فإذا طلعت الشمس دخلوها فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم ، أو الستر اللباس . عن مجاهد : من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض .(2/254)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
{ كذلك } أي أمر ذي القرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيماً لأمره { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ } من الجنود والآلات وأسباب الملك { خُبْراً } نصب على المصدر لأن في { أحطنا } معنى خبرنا ، أو بلغ مطلع الشمس مثل ذلك أي كما بلغ مغربها ، أو تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم يعني أنهم كفرة مثلهم وحكمهم مثل حكمهم في تعذيبه لمن بقي منهم على الكفر وإحسانه إلى من آمن منهم { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } بين الجبلين وهما جبلان سد ذو القرنين ما بينهما . { السَّدين } و { سًداً } مكي وأبو عمرو وحفص { السُّدين } و { سدا } حمزة وعلي ، وبضمهما : غيرهم . قيل : ما كان مسدوداً خلقة فهو مضموم ، وما كان من عمل العباد فهو مفتوح . وانتصب { بين } على أنه مفعول به ل { بلغ } كما انجر بالإضافة في { هذا فراق بيني وبينك } وكما ارتفع في { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] لأنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفاً وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } من ورائهما { قَوْماً } هم الترك { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } أي لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها . { يُفقهون } حمزة وعلي أن لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه لأن لغتهم غريبة مجهولة .
{ قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } هما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف ، وهمزهما عاصم فقط . وهما من ولد يافث أو يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم { مُفْسِدُونَ فِى الأرض } قيل كانوا يأكلون الناس . وقيل : كانوا يخرجوا أيام الربيع فلا يتركون شيئاً أخضر إلا أكلوه ، ولا يابساً إلا احتملوه ، ولا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح . وقيل : هم على صنفين طوال مفرطو الطول وقصار مفرطو القصر { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } { خراجا } حمزة وعلي أي جعلاً نخرجه من أموالنا ونظيرهما النول والنوال { على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا } .(2/255)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
{ قال ما مكَّني } بالإدغام وبفكه مكي { فِيهِ رَبّى خَيْرٌ } أي ما جعلني فيه مكيناً من كثرة المال واليسار خير مما تبذلون لي من الخرج فلا حاجة لي إليه { فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ } بفعلة وصناع يحسنون البناء والعمل وبالآلات { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا } جداراً وحاجزاً حصيناً موثقاً والردم أكبر من السد { ءَاتُونِي زُبَرَ الحديد } قطع الحديد والزبرة القطعة الكبيرة . قيل : حفر الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى ، فاختلط والتصق بعضه وصار جلداً وصلدا ، وقيل : بعدما بين السدين فإنه فرسخ { حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين } بفتحتين جانبي الجبلين لأنها يتصادفان أي يتقابلان . { الصُّدَفين } مكى وبصرى وشامي . { الصُّدْفين } أبو بكر { قَالَ انفخوا } أي قال ذو القرنين للعملة : انفخوا في الحديد { حتى إِذَا جَعَلَهُ } أي المنفوخ فيه وهو الحديد { نَارًا } كالنار { قَالَ آتُونِى } أعطوني { أَفْرِغْ } أصب { عَلَيْهِ قِطْراً } نحاساً مذاباً لأنه يقطر وهو منصوب ب { أفرغ } وتقديره آتوني قطراً أفرغ عليه قطراً فحذف الأول لدلالة الثاني عليه { قال ائتوني } بوصل الألف : حمزة وإذا ابتدأ كسر الألف أي جيئوني .(2/256)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
{ فَمَا اسطاعوا } بحذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من الطاء { أَن يَظْهَرُوهُ } أن يعلوا السد { وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْبًا } أي لا حيلة لهم فيه من صعود لارتفاعه ولا نقب لصلابته { قَالَ هذا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى } أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده ، أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته { فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى } فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي { جَعَلَهُ } أي السد { دَكَّاء } أي مدكوكا مبسوطاً مسوى بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك . { دكاء } كوفي أي أرضاً مستوية { وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً } آخر قول ذي القرنين { وَتَرَكْنَا } وجعلنا { بَعْضُهُمْ } بعض الخلق { يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ } يختلط { فِى بَعْضِ } أي يطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى ، ويجوز أن يكون الضمير ليأجوج ومأجوج وأنهم يموجون حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد . ورُوي أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ، ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة بيت المقدس ، ثم يبعث الله نغفا في أقفائهم فيدخل في آذانهم فيموتون { وَنُفِخَ فِى الصور } لقيام الساعة { فجمعناهم } أي جمع الخلائق للثواب والعقاب { جَمْعاً } تأكيد { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للكافرين عَرْضاً } وأظهرناها لهم فرأوها وشاهدوها { الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِي } عن آياتي التي ينظر إليها أو عن القرآن فأذكره بالتعظيم أو عن القرآن وتأمل معانيه { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } أي وكانوا صما عنه إلا أنه أبلغ إذ الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع .(2/257)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
{ أَفَحَسِبَ الذين كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاء } أي أفظن الكفار اتخاذهم عبادي يعني الملائكة وعيسى عليهم السلام أولياء نافعهم بئس ما ظنوا . وقيل : «أن» بصلتها سد مسد مفعولي { أفحسب } و { عبادي أولياء } مفعولاً { أن يتخذوا } وهذا أوجه يعني أنهم لا يكونون لهم أولياء { إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ للكافرين نُزُلاً } هو ما يقام للنزيل وهو الضيف ونحوه فبشرهم بعذاب أليم { قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بالأخسرين أعمالا } { أعمالاً } تمييز . وإنما جمع والقياس أن يكون مفرداً لتنوع الأهواء وهم أهل الكتاب أو الرهبان { الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ } ضاع وبطل وهو في محل الرفع أي هم الذين { فِى الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُوْلَئِكَ الذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } فلا يكون لهم عندنا وزن ومقدار { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ } هي عطف بيان لجزاؤهم { بِمَا كَفَرُواْ واتخذوا ءاياتى وَرُسُلِى هُزُواً } أي جزاؤهم جهنم بكفرهم واستهزائهم بآيات الله ورسوله .
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس نُزُلاً خالدين فِيهَا } حال { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } تحولاً إلى غيرها رضا بما أعطوا . يقال : حال من مكانه حولاً أي لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم ، وهذه غاية الوصف لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح مائل الطرف إلى أرفع منه ، أو المراد نفي التحول وتأكيد الخلود
.(2/258)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
{ قُل لَّوْ كَانَ البحر } أي ماء البحر { مِدَاداً لكلمات رَبّى } قال أبو عبيدة : المداد : ما يكتب به أي لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مداداً لها والمراد بالبحر الجنس { لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ } بمثل البحر { مَدَداً } لنفد أيضاً والكلمات غير نافدة . و { مدداً } تمييز نحو «لي مثله رجلاً» والمدد مثل المداد وهو ما يمد به . { ينفد } حمزة وعلي ، وقيل : قال حيي بن أخطب : في كتابكم { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } [ البقرة : 269 ] ثم تقرؤون { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } [ الإسراء : 85 ] فنزلت يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } فمن كان يأمل حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضاً وقبول ، أو فمن كان يخاف سوء لقاء ربه والمراد باللقاء القدوم عليه . وقيل : رؤيته كما هو حقيقة اللفظ والرجاء على هذا مجرى على حقيقته { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا } خالصاً لا يريد به إلا وجه ربه ولا يخلط به غيره . وعن يحيى بن معاذ : هو ما لا يستحي منه { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } هو نهي عن الشرك أو عن الرياء قال صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الشرك الأصغر " قالوا : وما الشرك الأصغر قال : " الرياء " قال صلى الله عليه وسلم : " من قرأ سورة الكهف فهو معصوم ثمانية أيام من كل فتنة تكون فإن يخرج الدجال في تلك الثمانية عصمه الله من فتنة الدجال ، ومن قرأ { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ } إلى آخرها عند مضجعه كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم من مضجعه ، وإن كان مضجعه بمكة فتلاها كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه ويستغفرون له حتى يستيقظ " .(2/259)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
{ كهيعص } قال السدي : هو اسم الله الأعظم ، وقيل : هو اسم للسورة . قرأ علي ويحيى بكسر الهاء والياء ، ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب ، وأبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء ، وحمزة بعكسه ، وغيرهم بفتحهما { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ } خبر مبتدأ أي هذا ذكر { عَبْدَهِ } مفعول الرحمة { زَكَرِيَّا } بالقصر : حمزة وعلي وحفص وهو بدل من { عبده } { إِذْ } ظرف للرحمة { نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً } دعاه دعاء سرا كما هو المأمور به وهو أبعد عن الرياء وأقرب إلى الصفاء ، أو أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في أوان الكبر لأنه كان ابن خمس وسبعين أو ثمانين سنة { قَالَ رَبّ } هذا تفسير الدعاء وأصله «يا ربي» فحذف حرف النداء والمضاف إليه اختصاراً { إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى } ضعف . وخص العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ، ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية والمراد أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ،
{ واشتعل الرأس شَيْباً } تمييز أي فشا في رأسي الشيب واشتعلت النار إذا تفرقت في التهابها وصارت شعلاً ، فشبه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار . ولا ترى كلاماً أفصح من هذا ، ألا ترى أن أصل الكلام يا رب قد شخت إذ الشيخوخة تشتمل على ضعف البدن وشيب الرأس المتعرض لهما ، وأقوى منه ضعف بدني وشاب رأسي ففيه مزيد التقرير للتفصيل ، وأقوى منه وهنت عظام بدني ، ففيه عدول عن التصريح إلى الكناية فهي أبلغ منه ، وأقوى منه أنا وهنت عظام بدني ، وأقوى منه إني وهنت عظام بدني ، وأقوى منه إني وهنت العظام من بدني ففيه سلوك طريقي الإجمال والتفصيل ، وأقوى منه إني وهنت العظام مني ففيه ترك توسيط البدن ، وأقوى منه { إني وهن العظم مني } لشمول الوهن العظام فرداً فرداً باعتبار ترك جمع العظم إلى الإفراد لصحه حصول وهن المجموع بالبعض دون كل فرد فرد ، ولهذا تركت الحقيقة في شاب رأسي إلى أبلغ وهي الاستعارة فحصل اشتعل شيب رأسي ، وأبلغ منه اشتعل رأسي شيباً لإسناد الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس لإفادة شمول الاشتعال الرأس إذ وزان اشتعل شيب رأسي واشتعل رأسي شيباً ، وزان اشتعل النار في بيتي واشتعل بيتي ناراً والفرق نير ، ولأن فيه الإجمال والتفصيل كما عرف في طريق التمييز ، وأبلغ منه واشتعل الرأس مني شيباً لما مر ، وأبلغ منه { واشتعل الرأس شيباً } ففيه اكتفاء بعلم المخاطب إنه رأس زكريا بقرينة العطف على { وهن العظم } { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ } مصدر مضاف إلى المفعول أي بدعائي إياك { رَبّ شَقِيّاً } أي كنت مستجاب الدعوة قبل اليوم سعيداً به غير شقي فيه . يقال : سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي إذا خاب ولم ينلها . وعن بعضهم أن محتاجاً سأله وقال : أنا الذي أحسنت إلي وقت كذا فقال : مرحباً بمن توسل بنا إلينا وقت حاجته وقضى حاجته .(2/260)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
{ وَإِنّي خِفْتُ الموالى } هم عصبته أخوته وبنو عمه وكانوا شرار بني إسرائيل فخافهم أن يغيروا الدين وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته فطلب عقباً صالحاً من صلبه يقتدي به في إحياء الدين { مِن وَرَائِى } بعد موتي ، وبالقصر وفتح الياء ك { هداي } : مكى . وهذا الظرف لا يتعلق ب { خفت } لأن وجود خوفه بعد موته لا يتصور ولكن بمحذوف ، أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي ، أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي { وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا } عقيماً لا تلد { فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ } اختراعا منك بلا سبب لأن امرأتي لا تصلح للولادة { وَلِيّاً } ابنا يلي أمرك بعدي .(2/261)
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
{ يَرِثُنِى وَيَرِثُ } برفعهما صفة ل { ولياً } أي هب لي ولداً وارثاً مني العلم ومن آل يعقوب النبوة ، ومعنى وراثة النبوة أنه يصلح لأن يوحى إليه ولم يرد أن نفس النبوة تورث . ويجزمهما : أبو عمرو وعلي على أنه جواب للدعاء يقال : ورثته وورثت منه { مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ } يعقوب بن إسحاق { واجعله رَبّ رَضِيّاً } مرضياً ترضاه أو راضياً عنك وبحكمك فأجاب الله تعالى دعاءه وقال : { يازكريا إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى } تولى الله تسميته تشريفاً له . { نبشرك } بالتخفيف : حمزة { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } لم يسم أحد بيحيى قبله وهذا دليل على أن الاسم الغريب جدير بالأثرة . وقيل : مثلاً وشبيها ولم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط وأنه ولد بين شيخ وعجوز وأنه كان حصوراً ، فلما بشرته الملائكة . به
{ قَالَ رَبّ أنّى } كيف { يَكُونُ لِي غلام } وليس هذا باستبعاد بل هو استكشاف أنه بأي طريق يكون أيوهب له وهو وامرأته بتلك الحال أم يحولان شابين { وَكَانَتِ امرأتى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } أي بلغت عتيا وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود اليابس من أجل الكبر والطعن في السن العالية { عتياً } و { صلياً } و { جثياً } و { بكياً } بكسر الأوائل : حمزة وعلي وحفص إلا في { بكيا } .(2/262)
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
{ قَالَ كذلك } الكاف رفع أي الأمر كذلك تصديق له ثم ابتدأ { قَالَ رَبُّكِ } أو نصب ب { قال } وذلك إشارة إلى مبهم يفسره { هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } أي خلق يحيى من كبيرين سهل { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ } أو جدتك من قبل يحيى . { خلقناك } حمزة وعلي { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } لأن المعدوم ليس بشيء { قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً } علامة أعرف بها حبل امرأتي { قَالَ ءايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِياً } حال من ضمير تكلم أي حال كونك سوى الأعضاء واللسان يعني علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه وأنت سليم الجوارح ما بك خرس ولا بكم . ودل ذكر الليالي هنا والأيام في «آل عمران» على أن المنع من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن ، إذ ذكر الأيام يتناول ما بإزائها من الليالي وكذا ذكر الليالي يتناول ما بإزائها من الأيام عرفاً { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب } من موضع صلاته وكانوا ينتظرونه ولم يقدر أن يتكلم { فأوحى إِلَيْهِمْ } أشار بإصبعه { أَن سَبّحُواْ } صلوا و«أن» هي المفسرة { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } صلاة الفجر والعصر { يَا يحيى } أي وهبنا له يحيى وقلنا له بعد ولادته وأوان الخطاب يا يحيى { خُذِ الكتاب } التوراة { بِقُوَّةٍ } حال أي بجد واستظهار بالتوفيق والتأييد { وَآتَيْنَاهُ الحكم } الحكمة وهو فهم التوراة والفقه في الدين { صَبِيّاً } حال . قيل : دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبي فقال : ما للعب خلقنا { وَحَنَانًا } شفقة ورحمة لأبويه وغيرهما عطفاً على الحكم { مّن لَّدُنَّا } من عندنا { وزكواة } أي طهارة وصلاحاً فلم يعمد بذنب { وَكَانَ تَقِيّا } مسلماً مطيعا .(2/263)
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
{ وَبَرّا بوالديه } وباراً بهما لا يعصيهما { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً } متكبراً { عَصِيّاً } عاصياً لربه { وسلام عَلَيْهِ } أمان من الله له { يَوْمَ وُلِدَ } من أن يناله الشيطان { وَيَوْمَ يَمُوتُ } من فتاني القبر { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } من الفزع الأكبر . قال ابن عيينة : إنها أوحش المواطن .
{ واذكر } يا محمد { فِى الكتاب } القرآن { مَرْيَمَ } أي اقرأ عليهم في القرآن قصة مريم ليقفوا عليها ويعلموا ما جرى عليها { إِذْ } بدل من مريم بدل اشتمال إذ الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا لوقوع هذه القصة العجيبة فيه { انتبذت مِنْ أَهْلِهَا } أي اعتزلت { مَكَاناً } ظرف { شَرْقِياً } أي تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس أو من دارها معتزلة عن الناس . وقيل : قعدت في مشرقه للاغتسال من الحيض { فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً } جعلت بينها وبين أهلها حجاباً يسترها لتغتسل وراءه { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } جبريل عليه السلام والإضافة للتشريف ، وإنا سمي روحاً لأن الدين يحيا به وبوحيه { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً } أي فتمثل لها جبريل في صورة آدمى شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر { سَوِيّاً } مستوى الخلق . وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه { قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله فإني عائذة به منك .(2/264)
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
{ قَالَ } جبريل عليه السلام { إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ } أمنها مما خافت وأخبر أنه ليس بآدمي بل هو رسول من استعاذت به { لأَِهَبَ لَكِ } بإذن الله تعالى ، أو لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الدرع { ليهب لك } أي الله : أبو عمرو ونافع . { غلاما زَكِيّاً } ظاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير والبركة .
{ قَالَتْ أنّى } كيف { يَكُونُ لِي غلام } ابن { وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } زوج بالنكاح { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } فاجرة تبغي الرجال أي تطلب الشهوة من أي رجل كان ولا يكون الولد عادة إلا من أحد هذين ، والبغي فعول عند المبرد «بغوي» فقلبت الواو ياء وأدغمت وكسرت العين إتباعاً ولذا لم تلحق تاء التأنيث كما لم تلحق في «امرأة صبور وشكور» وعند غيره هي «فعيل» ولم تلحقها الهاء لأنها بمعنى «مفعولة» وإن كانت بمعنى فاعلة فهو قد يشبه به مثل { إن رحمة الله قريب } [ الأعراف : 56 ] { قَالَ } جبريل { كذلك } أي الأمر كما قلت : لم يمسسك رجل نكاحاً أو سفاحاً { قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } أي إعطاء الولد بلا أب عليَّ سهل { وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ } تعليل معلله محذوف أي ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك ، أو هو معطوف على تعليل مضمر أي لنبين به قدرتنا ولنجعله آية للناس أي عبرة وبرهاناً على قدرتنا { وَرَحْمَةً مّنَّا } لمن أمن به { وَكَانَ } خلق عيسى { أَمْراً مَّقْضِيّاً } مقدراً مسطوراً في اللوح فلما أطمأنت إلى قوله دنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها { فَحَمَلَتْهُ } أي الموهوب وكانت سنها ثلاث عشرة سنة أو عشراً أو عشرين { فانتبذت بِهِ } اعتزلت وهو في بطنها ، والجار والمجرور في موضع الحال ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت مدة الحمل ساعة واحدة كما حملته نبذته . وقيل : ستة أشهر . وقيل : سبعة . وقيل : ثمانية : ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى . وقيل : حملته في ساعة ووضعته في ساعة { مَكَاناً قَصِيّاً } بعيداً من أهلها وراء الجبل وذلك لأنها لما أحست بالحمل هربت من قومها مخافة اللائمة .(2/265)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
{ فَأَجَاءهَا } جاء بها . وقيل : ألجأها وهو منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء ، ألا تراك لا تقول جئت المكان وأجاءنيه زيد { المخاض } وجمع الولادة { إلى جِذْعِ النخلة } أصلها وكان يابسة وكان الوقت شتاء وتعريفها مشعر بأنها كانت نخلة معروفة وجاز أن يكون التعريف للجنس أي جذع هذه الشجرة كأنه تعالى أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب لأنه حرسة النفساء أي طعامها . ثم { قَالَتْ } جزعاً مما أصابها { ياليتنى مِتُّ قَبْلَ هذا } اليوم { مِتُّ } مدني وكوفي غير أبي بكر ، وغيرهم : بالضم . يقال : مات يموت ومات يمات { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } شيئاً متروكاً لا يعرف ولا يذكر . بفتح النون : حمزة وحفص ، بالكسر : غيرهما ومعناهما واحد وهو الشيء الذي حقه أن يطرح وينسى لحقارته { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا } { مَن } أي الذي تحتها ف { من } فاعل وهو جبريل عليه السلام لأنِه كان بمكان منخفض عنها ، أو عيسى عليه السلام لأنه خاطبها من تحت ذيلها . { من تحتها } مدني وكوفي سوى أبي بكر والفاعل مضمر وهو عيسى عليه السلام ، أو جبريل والهاء في { تحتها } للنخلة . ولشدة ما لقيت سليت بقوله { أَلاَّ تَحْزَنِى } لا تهتمي بالوحدة وعدم الطعام والشراب ومقالة الناس و«أن» بمعنى أي { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ } بقربك أو تحت أمرك إن أمرته أن يجري جري وإن أمرته أن يقف وقف { سَرِيّاً } نهراً صغيراً عند الجمهور ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السري فقال : هو الجدول . وعن الحسن : سيداً كريماً يعني عيسى عليه السلام . وروي أن خالد بن صفوان قال : له إن العرب تسمي الجدول سرياً فقال الحسن : صدقت ورجع إلى قوله . وقال : ابن عباس رضي الله عنهما : ضرب عيسى أو جبريل عليهما السلام بعقبه الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى النهر اليابس فاخضرت النخلة وأثمرت وأينعت ثمرتها فقيل لها(2/266)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
{ وَهْزِّي } حركي { إِلَيْكَ } إلى نفسك { بِجِذْعِ النخلة } قال أبو علي : الباء زائدة أي هزي جذع النخلة .
{ تساقط عَلَيْكِ } بإدغام التاء الأولى في الثانية : مكي ومدني وشامي وأبو عمرو وعلي وأبو بكر ، والأصل تتساقط بإظهار التاءين { وتساقط } بفتح التاء والقاف وطرح التاء الثانية وتخفيف السين : حمزة . و { يساقط } بفتح الياء والقاف وتشديد السين : يعقوب وسهل وحماد ونصير . و { تساقط } حفص من المفاعلة . و { تُسقِطْ } و { يُسقِطْ } وتَسقُطْ ويَسقُطْ التاء للنخلة والياء للجذع فهذه تسع قراءات { رُطَباً } تمييز أو مفعول به على حسب القراءة { جَنِيّاً } طرياً وقالوا : التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت . وقيل : ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض من العسل { فَكُلِى } من الجني { واشربى } من السري { وَقَرّى عَيْناً } بالولد الرضي و { عينا } تمييز أي طيبي نفساً بعيسى وارفضي عنك ما أحزنك { فَإِمَّا } أصله إن ما فضمت إن الشرطية إلى ما وأدغمت فيها { تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فَقُولِى إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } أي فإن رأيت آدمياً يسألك عن حالك فقولي إني نذرت للرحمن صمتاً وإمساكاً عن الكلام ، وكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الأكل والشرب . وقيل : صياماً حقيقة وكان صيامهم فيه الصمت فكان إلتزامُه إلتزامَه ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت فصار ذلك منسوخاً فينا . وإنما أمرت أن تنذر السكوت لأن عيسى عليه السلام يكفيها الكلام بما يبرىء به ساحتها ولئلا تجادل السفهاء ، وفيه دليل على أن السكوت عن السفيه واجب وما قُدعَ سفيه بمثل الإعراض ولا أطلق عنانه بمثل العراض . وإنما أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة وقد تسمى الإشارة كلاماً وقولاً ألا ترى أن قول الشاعر في وصف القبور
وتكلمت عن أوجه تبلى ... وقيل : كان وجوب الصمت بعد هذا الكلام أو سوغ لها هذا القدر بالنطق { فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً } آدميا .(2/267)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
{ فَأَتَتْ بِهِ } بعيسى { قَوْمَهَا } بعد ما طهرت من نفاسها { تَحْمِلُهُ } حال منها أي أقبلت نحوهم حاملة إياه فلما رأوه معها { قَالُواْ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } بديعاً عجيباً والفري القطع كأنه يقطع العادة { يَاأُخْتَ هارون } وكان أخاها من أبيها ومن أفضل بني إسرائيل ، أو هو أخو موسى عليه السلام وكانت من أعقابه وبينهما ألف سنة وهذا كما يقال يا أخا همدان أي يا واحداً منهم ، أو رجل صالح أو طالح من زمانها شبهوها به في الصلاح أو شتموها به { مَا كَانَ أَبُوكِ } عمران { امرأ سَوْء } زانياً { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ } حنة { بَغِيّاً } زانية { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } إلى عيسى أن يجيبهم وذلك أن عيسى عليه السلام قال لها : لا تحزني وأحيلي بالجواب علي . وقيل : أمرها جبريل بذلك . ولما أشارت إليه غضبوا وتعجبوا و { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ } حدث ووجد { فِى المهد } المعهود { صَبِيّاً } حال { قَالَ إِنّى عَبْدُ الله } ولما أسكتت بأمر الله لسانها الناطق أنطق الله لها اللسان الساكت حتى اعترف بالعبودية وهو ابن أربعين ليلة أو ابن يوم ، روي أنه أشار بسبابته وقال بصوت رفيع { إني عبد الله } وفيه رد لقول النصارى { آتانيالكتاب } الإنجيل { وَجَعَلَنِى نَبِيّاً } روي عن الحسن أنه كان في المهد نبياً وكلامه معجزته . وقيل : معناه أن ذلك سبق في قضائه أو جعل الآتي لا محالة كأنه وجد
.(2/268)
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
{ وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } نفاعاً حيث كنت أو معلماً للخير { وَأَوْصَانِى } وأمرني { بالصلاة والزكاة } إن ملكت مالاً . وقيل : صدقة الفطر أو تطهير البدن ، ويحتمل وأوصاني بأن آمركم بالصلاة والزكاة { مَا دُمْتُ حَياً } نصب على الظرف أي مدة حياتي { وَبَرّاً بِوَالِدَتِى } عطفاً على { مباركاً } أي باراً بها أكرمها وأعظمها { وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً } متكبراً { شَقِيّاً } عاقاً { والسلام عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ } { يوم } ظرف والعامل فيه الخبر وهو { علي } { وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } أي ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلي إن كان حرف التعريف للعهد ، وإن كان للجنس فالمعنى وجنس السلام علي ، وفيه تعريض باللعنة على أعداء مريم وابنهالأنه إذا قال : وجنس السلام على ، وفيه تعريف باللغة على أعداء مريم وابنها لأنه إذا قال وجنس السلام عليّ ، فقد عرض بأن ضده عليكم إذ المقام مقام مناكرة وعناد فكان مئنة لمثل هذا التعريض .
{ ذلك } مبتدأ { عِيسَى } خبره { ابن مَرْيَمَ } نعته أو خبر ثان أي ذلك الذي قال : إني كذا وكذا عيسى ابن مريم لا كما قالت النصارى : إنه إله أو ابن الله { قَوْلَ الحق } كلمة الله فالقول الكلمة والحق الله ، وقيل : له كلمة الله لأنه ولد بقوله كن بلا واسطة أب . وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف ، أو بدل من عيسى . ونصبه شامي وعاصم على المدح أو على المصدر أي أقول قول الحق هو ابن مريم وليس بإله كما يدعونه { الذى فِيهِ يَمْتُرُونَ } يشكون من المرية الشك أو يختلفون من المراء ، فقالت اليهود : ساحر كذاب ، وقالت النصارى : ابن الله وثالث ثلاثة .(2/269)
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
{ مَا كَانَ للَّهِ } ما ينبغي له { أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } جيء ب { من } لتأكيد النفي { سبحانه } نزه ذاته عن اتخاذ الولد { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } بالنصب شامي أي كما قال : لعيسى كن فكان من غير أب ومن كان متصفاً بهذا كان منزها أن يشبه الحيوان الوالد { وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه } بالكسر شامي وكوفي على الابتداء وهو من كلام عيسى يعني كما أنا عبده فأنتم عبيده ، علي وعليكم أن نعبده . ومن فتح عطف على { بالصلاة } أي وأوصاني بالصلاة وبالزكاة وبأن الله ربي وربكم ، أو علقه بما بعده أي لأن الله ربي وربكم فاعبدوه { هذا } الذي ذكرت { صراط مُّسْتَقِيمٍ } فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً .
{ فاختلف الأحزاب } الحزب الفرقة المنفردة برأيها عن غيرها وهم ثلاث فرق : نسطورية ويعقوبية وملكانية { مِن بَيْنِهِمْ } من بين أصحابه أو من بين قومه أو من بين الناس ، وذلك أن النصارى اختلفوا في عيسى حين رفع ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى قول ثلاثة كانوا عندهم أعلم أهل زمانهم وهم : يعقوب ونسطور وملكان . فقال يعقوب : هو الله هبط إِلى الأرض ثم صعد إلى السماء . وقال : نسطور كان ابن الله أظهره ما شاء ثم رفعه إليه . وقال الثالث : كذبوا كان عبداً مخلوقاً نبياً فتبع كل واحد منهم قوم { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } من الأحزاب إذ الواحد منهم على الحق { مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } هو يوم القيامة أو من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة ، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وأن تشهد عليهم
الملائكة والأنبياء وجوارحهم بالكفر ، أو من مكان الشهادة أو وقتها ، أو المراد يوم اجتماعهم للتشاور فيه وجعله عظيماً لفظاعة ما شهدوا به في عيسى { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } الجمهور على أن لفظه أمر ومعناه التعجب والله تعالى لا يوصف بالتعجب ولكن المراد أن إسماعهم وإبصارهم جدير بأن يتعجب منهما بعدما كانوا صما وعمياً في الدنيا . قال قتادة : إن عموا وصموا عن الحق في الدنيا فما أسمعهم وما أبصرهم بالهدى يوم لا ينفعهم! و { بهم } مرفوع المحل على الفاعلية «كأكرم بزيد» فمعناه كرم زيد جداً { لكن الظالمون اليوم } أقيم الظاهر مقام المضمر أي لكنهم اليوم في الدنيا بظلمهم أنفسهم حيث تركوا الاستماع والنظر حين يجدي عليهم ووضعوا العبادة في غير موضعها { فِى ضلال } عن الحق { مُّبِينٌ } ظاهر وهو اعتقادهم عيسى إلها معبوداً مع ظهور آثار الحدث فيه إشعاراً بأن لا ظلم أشد من ظلمهم .(2/270)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
{ وَأَنذِرْهُمْ } خوفهم { يَوْمَ الحسرة } يوم القيامة لأنه يقع فيه الندم على مافات ، وفي الحديث « إذا رأوا منازلهم في الجنة أن لو آمنوا » { إِذْ } بدل من { يوم الحسرة } أو ظرف للحسرة وهو مصدر { قُضِىَ الأمر } فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار { وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ } هنا عن الاهتمام لذلك المقام { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } لا يصدقون به { وهم } { وهم } حالان أي وأنذرهم على هذا الحال غافلين غير مؤمنين { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا } أي نتفرد بالملك والبقاء عند تعميم الهلك والفناء وذكر من لتغليب العقلاء { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } بضم الياء وفتح الجيم وفتح الياء : يعقوب أي يردون فيجازون جزاءً وفاقاً .
{ واذكر } لقومك { فِى الكتاب } القرآن { إِبْرَاهِيمَ } قصته مع أبيه { إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً } بغير همز وهمزة نافع . قيل : الصادق المستقيم في الأفعال والصديق المستقيم في الأحوال ، فالصديق من أبنية المبالغة ونظيرة الضحيك والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله أي كان مصدقاً لجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبياً في نفسه ، وهذه الجملة وقعت اعتراضاً بين إبراهيم وبين ما هو بدل منه وهو .(2/271)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
{ إِذْ قَالَ } وجاز أن يتعلق { إذا } ب { كان } أو ب { صديقاً نبياً } أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلغه إياهم كقوله { واتل عليهم نبأ إبراهيم } [ الشعراء : 69 ] وإلا فالله عز وعلا هو ذاكره ومورده في تنزيله { لأَِبِيهِ ياأبت } بكسر التاء وفتحها . ابن عامر والتاء عوض من ياء الإضافة ولا يقال يا أبتي لئلا يجمع بين العوض والمعوض منه { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } المفعول فيهما منسي غير منوي ويجوز أن يقدر أي لا يسمع شيئاً ولا يبصر شيئاً { وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً } يحتمل أن يكون شيئاً في موضع المصدر أي شيئاً من الإغناء وأن يكون مفعولاً به من قولك أغن عني وجهك أي بعد { ياأبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم } الوحي أو معرفة الرب { مَا لَمْ يَأْتِكَ } «ما» في { ما لا يسمع } و { ما لم يأتك } يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة { فاتبعنى أَهْدِكَ } أرشدك { صِرَاطاً سَوِيّاً } مستقيماً { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } لا تطعه فيما سوَّل من عبادة الصنم { إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً } عاصياً . { ياأبت إِنّى أَخَافُ } قيل أَعلم { أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً } قرينا في النار تليه ويليك فانظر في نصيحته كيف راعى المجاملة والرفق والخلق الحسن كما أمر ففي الحديث " «أوحي إلى إبراهيم إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار» " فطلب منه أولاً العلة في خطئه طلب منه على تماديه موقظ لإفراطه وتناهيه ، لأن من يعبد أشرف الخلق منزلة وهم الأنبياء كان محكوماً عليه بالغي المبين فكيف بمن يعبد حجراً أو شجراً لا يسمع ذكر عابده ولا يرى هيئات عبادته ولا يدفع عنه بلاء ولا يقضي له حاجة؟ ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقاً به متلطفاً ، فلم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال : إن معي شيئاً من العلم ليس معك وذلك علم الدلالة على الطريق السوي ، فهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه ، ثم ثلث بنهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي عصى الرحمن الذي جميع النعم منه أوقعك في عبادة الصنم وزينها لك فأنت عابده في الحقيقة ، ثم ربَّع بتخويفه سوء العاقبة وما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال مع مراعاة الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لاحق به وأن العذاب لاصق به بل قال : أخاف أن يمسك عذاب بالتنكير المشعر بالتقليل كأنه قال : إني أخاف أن يصيبك نَفَيان من عذاب الرحمن وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب كما أن رضوان الله أكبر من الثواب في نفسه وصدر كل نصيحة بقوله { يا أبت } توسلاً إليه واستعطافاً وإشعاراً بوجوب احترام الأب وإن كان كافراً فثم .(2/272)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
{ قَالَ } آزر توبيخاً : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإبراهيم } أي أترغب عن عبادتها فناداه باسمه ولم يقابل { يا أبت } ب «يا بني» وقدم الخبر على المبتدأ لأنه كان أهم عنده { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ } عن شتم الأصنام { لأرْجْمْتَّكَ } لأقتلنك بالرجام أو لأضربنك بها حتى تتباعد أو لأشتمنك { واهجرنى } عطف على محذوف يدل عليه { لأرجمنك } تقديره فاحذرني واهجرني { مَلِيّاً } ظرف أي زماناً طويلاً من الملاوة { قَالَ سلام عَلَيْكَ } سلام توديع ومتاركة أو تقريب وملاطفة ولذا وعده بالاستغفار بقوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي } سأسأل الله أن يجعلك من أهل المغفرة بأن يهديك للإسلام { إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً } ملطفاً بعموم النعم أو رحيماً أو مكرماً والحفاوة الرأفة والرحمة والكرامة .(2/273)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
{ وَأَعْتَزِلُكُمْ } أراد بالاعتزال المهاجرة من أرض بابل إلى الشام { وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي ما تعبدون من أصنامكم { وادعوا } وأعبد { رَبّى } ثم قال تواضعاً وهضماً للنفس ومعرضاً بشقاوتهم بدعاء آلهتهم { عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا } أي كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام { فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } فلما اعتزل الكفار ومعبودهم { وَهَبْنَا لَهُ إسحاق } ولداً { وَيَعْقُوبَ } نافلة ليستأنس بهما { وَكُلاًّ } كل واحد منهما { جَعَلْنَا نَبِيّاً } أي لما ترك الكفار الفجار لوجهه عوضه أولاداً مؤمنين أنبياء { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا } هي المال والولد { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ } ثناء حسناً وهو الصلاة على إبراهيم وآل إبراهيم في الصلوات ، وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية { عَلِيّاً } رفيعاً مشهوراً .
{ واذكر فِى الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } كوفي : غير المفضل ، أي أخلصه الله واصطفاه ، و { مخلِصا } بالكسر غيرهم أي أخلص هو العبادة لله تعالى فهو مخلص بماله من السعادة بأصل الفطرة ، ومخلص فيما عليه من العبادة بصدق الهمة { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء والنبي الذي ينبىء عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب كيوشع { وناديناه } دعوناه وكلمناه ليلة الجمعة { مِن جَانِبِ الطور } هو جبل بين مصر ومدين { الأيمن } من اليمين أي من ناحية اليمين ، والجمهور على أن المراد أيمن موسى عليه السلام لأن الجبل لا يمين له ، والمعنى أنه حين أقبل من مدين يريد مصر نودي من الشجرة وكانت في جانب الجبل على يمين موسى عليه السلام { وَقَرَّبْنَاهُ } تقريب منزلة ومكانة لا منزل ومكان { نَجِيّاً } حال أي مناجياً كنديم بمعنى منادم .(2/274)
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
{ وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا } من أجل رحمتنا له وترؤفنا عليه { أَخَاهُ } مفعول { هارون } بدل منه { نَبِيّاً } حال أي وهبنا له نبوة أخيه وإلا فهارون كان أكبر سناً منه .
{ واذكر فِى الكتاب إسماعيل } هو ابن إبراهيم في الأصح { إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد } وافيه . وعد رجلاً أن يقيم مكانه حتى يعود إليه فانتظره سنة في مكانه حتى عاد ، وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى . وقيل لم يعد ربه موعداً إلا أنجزه ، وإنما خصه بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً له ولأنه المشهور من خصاله { وَكَانَ رَسُولاً } إلى جرهم { نَبِيّاً } مخبراً منذراً { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ } أمته لأن النبي أبو أمته وأهل بيته وفيه دليل على أنه لم يداهن غيره { بالصلاة والزكاة } يحتمل أنه إنما خصت هاتان العبادتان لأنهما أما العبادات البدنية والمالية { وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً } قرئ { مرضوا } على الأصل { واذكر فِى الكتاب إِدْرِيسَ } هو أخنوخ أول مرسل بعد آدم عليه السلام ، وأول من خط بالقلم وخاط اللباس ونظر في علم النجوم والحساب واتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل . وقولهم سمي به لكثرة دراسته كتب الله لا يصح لأنه لو كان «أفعيلاً» من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفاً فامتناعه من الصرف دليل العجمة { إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً } أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } هو شرف النبوة والزلفى عند الله . وقيل : معناه رفعته الملائكة إلى السماء الرابعة ، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فيها . وعن الحسن : إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة وذلك أنه حبب لكثرة عبادته إلى الملائكة فقال : لملك الموت أذقني الموت يهن عليّ ففعل ذلك بإذن الله فحيى وقال : أدخلني النار أزدد رهبة ففعل ، ثم قال : أدخلني الجنة أزدد رغبة ، ثم قال : اخرج فقال : قد ذقت الموت ووردت النار فما أنا بخارج من الجنة فقال الله عز وجل : بإذني فعل وبإذني دخل فدعه .(2/275)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
{ أَوْلَئِكَ } إشارة إلى المذكورين في السورة من زكرياء إلى إدريس { الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين } «من» للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم { مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ } «من» للتبعيض وكان إدريس من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبي نوح { وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه ولد سام بن نوح { وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم } إسماعيل وإسحاق ويعقوب { وإسراءيل } أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى لأن مريم من ذريته { وَمِمَّن } يحتمل العطف على «من» الأولى والثانية { هَدَيْنَا } لمحاسن الإسلام { واجتبينا } من الأنام أو لشرح الشريعة وكشف الحقيقة { إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن } أي إذا تليت عليهم كتب الله المنزلة وهو كلام مستأنف . إن جعلت { الذين } خبراً ل { أولئك } وإن جعلته صفة له كان خبراً . { يتلى } بالياء : قتيبة لوجود الفاصل مع أن التأنيث غير حقيقي { خَرُّواْ سُجَّداً } سقطوا على وجوههم رغبةً { وَبُكِيّاً } باكين رهبة جمع باكٍ كسجود وقعود في جمع ساجد وقاعد في الحديث " اتلوا القرآن وابكوا وإن لم تبكوا فتباكوا " وعن صالح المري : قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي يا صالح : " هذه القراءة فأين البكاء؟ " ويقول في سجود التلاوة سبحان ربي الأعلى ثلاثاً .
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } فجاء من بعد هؤلاء المفضلين { خَلْفٌ } أولاد سوء وبفتح اللام العقب الخير . عن ابن عباس : هم اليهود { أَضاعُوا الصلاة } تركوا الصلاة المفروضة { واتبعوا الشهوات } ملاذ النفوس . وعن عليّ رضي الله عنه : من بنى الشديد وركب المنظور ولبس المشهور . وعن قتادة رضي الله عنه : هو في هذه الأمة { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } جزاء غي وكل شر عند العرب غي وكل خير رشاد . وعن ابن عباس وابن مسعود : هو وادٍ في جهنم أعدّ للمصرين على الزنا وشارب الخمر وآكل الربا والعاق وشاهد الزور .(2/276)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
{ إِلاَّ مَن تَابَ } رجع عن كفره { وَآمَنَ } بشرطه { وَعَمِلَ صالحا } بعد إيمانه { فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة } بضم الياء وفتح الخاء : مكي وبصري وأبو بكر { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } أي لا ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه بل يضاعف لهم أو لا يظلمون شيئاً من الظلم { جنات } بدل من { الجنة } لأن الجنة تشتمل على جنات عدن لأنها جنس أو نصب على المدح { عَدْنٍ } معرفة لأنها علم لمعنى العدن وهو الإقامة أو علم لأرض الجنة لكونها مقام إقامة { التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ } أي عباده التائبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات كما سبق ذكرهم ولأنه أضافهم إليه وهو للاختصاص وهؤلاء أهل الاختصاص { بالغيب } أي وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها { إِنَّهُ } ضمير الشأن أو ضمير الرحمن { كَانَ وَعْدُهُ } أي موعوده وهو الجنة { مَأْتِيّاً } أي هم يأتونها { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا } في الجنة { لَغْواً } فحشاً أو كذباً أو ما لا طائل تحته من الكلام وهو المطروح منه ، وفيه تنبيه على وجوب تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله عنه داره التي لا تكليف فيها { إِلاَّ سلاما } أي لكن يسمعون سلاماً من الملائكة أو من بعضهم على بعض ، أو لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة فهو استثناء منقطع عند الجمهور . وقيل : معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ولما كان أهل دار السلام أغنياء عن الدعاء بالسلامة ، كان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } أي يؤتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار من الدنيا إذ لا ليل ولا نهار ، ثم لأنهم في النور أبداً وإنما يعرفون مقدار النهار برفع الحجب ومقدار الليل بإرخائها . والرزق بالبكرة والعشي أفضل العيش عند العرب فوصف الله جنته بذلك . وقيل أراد دوام الرزق كما تقول «أنا عند فلان بكرة وعشياً» تريد الدوام .(2/277)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
{ تِلْكَ الجنة التى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا } أي نجعلها ميراث أعمالهم يعني ثمرتها وعاقبتها . وقيل : يرثون المساكن التي كانت لأهل النار آمنوا لأن الكفر موت حكماً { مَن كَانَ تَقِيّاً } عن الشرك .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال : « يا جبريل ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا » فنزل { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } والتنزل على معنيين معنى النزول على مهل ومعنى النزول على الإطلاق والأول أليق هنا يعني أن نزولنا في الأحايين وقتاً غب وقت ليس إلا بأمر الله { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي له ما قدامنا وما خلفنا من الأماكن وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من مكان إلى مكان إلا بأمر الملك ومشيئته ، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون وما يحدث من الأحوال لا تجوز عليه الغفلة والنسيان فأنى لنا أن نتقلب في ملكوته إلا إذا أذن لنا فيه { رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } بدل من { ربك } أو خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السماوات والأرض . ثم قال : لرسوله لما عرفت أنه متصف بهذه الصفات { فاعبده } فاثبت على عبادته { واصطبر لِعِبَادَتِهِ } أي اصبر على مكافأة الحسود ، لعبادة المعبود ، واصبر على المشاق ، لأجل عبادة الخلاق ، أي لتتمكن من الإتيان بها { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } شبيها ومثلاً ، أو هل يسمى أحد باسم الله غيره لأنه مخصوص بالمعبود بالحق أي إذا صح أن لا معبود توجه إليه العباد العبادة إلا هو وحده لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها .
فتهافت أبيَّ بن خلف عظماً وقال : أنبعث بعدما صرنا كذا؟ فنزل(2/278)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
{ وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } والعامل في { إذا } ما دل عليه الكلام وهو أبعث أي إذا مامت أبعث وانتصابه ب { أخرج } ممتنع لأن ما بعد لام الابتداء لا يعمل فيما قبلها فلا تقول «اليوم لزيد قائم» ولام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال وتؤكد مضمون الجملة ، فلما جامعت حرف الاستقبال خلصت للتوكيد واضمحل معنى الحال . و«ما» في «إذا ما» للتوكيد أيضاً فكأنه قال : «أحقًّا إنا سنخرج من القبور أحياء حين يتمكن فينا الموت والهلاك» على وجه الاستنكار والاستبعاد . وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة ، ومنه جاء إنكارهم { أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان } خفيف شامي ونافع وعاصم من الذكر ، والسائر بتشديد الذال والكاف وأصله يتذكر كقراءة أبيّ فأدغمت التاء في الذال أي أو لا يتدبر ، والواو عطفت { لا يذكر } على { يقول } ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف يعني أيقول ذلك ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر النشأة الأخرى فإن تلك أدل على قدرة الخالق حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود . وأما الثانية فليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة وردها إلى ما كَانتَ عليه مجموعة بعد التفريق { أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ } من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه { وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } هو ذليل على ما بينا وعلى أن المعدوم ليس بشيء خلافاً للمعتزلة { فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ } أي الكفار المنكرين للبعث { والشياطين } الواو للعطف وبمعنى «مع» أوقع أي يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة . وفي أقسام الله باسمه ومضافاً إلى رسوله تفخيم لشأن رسوله { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } حال جمع جاث أي بارك على الركب ووزنه «فعول» لأن أصله «جثوو» كسجود وساجد أي يعتلون من المحشر إلى شاطىء جهنم عتلا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف جثاة على ركبهم غير مشاة على أقدامهم .(2/279)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
{ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ } طائفة شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } جرأة أو فجوراً أي لنخرجن من كل طائفة من طوائف الغي أعتاهم فأعتاهم ، فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب ، نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم . وقيل : المراد بأشدهم عتياً الرؤساء لتضاعف جرمهم لكونهم ضلالاً ومضلين . قال سيبويه : { أيهم } مبني على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلته وهو «هو» من «هو أشد» حتى لو جيء به لأعرب بالنصب ، وقيل : أيهم هو أشد وهذا لأن الصلة توضح الموصول وتبينه كما أن المضاف إليه يوضح المضاف ويخصصه ، فكما أن خذف المضاف إليه في «من قبلُ» يوجب بناء المضاف وجب أن يكون حذف الصلة أو شيء منها موجباً للبناء وموضعها نصب ب «نزع» ، وقال الخليل : هي معربة وهو مبتدأ وأشد خبره وهو رفع على الحكاية تقديره : لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد على الرحمن عتياً . ويجوز أن يكون النزع واقعاً على { من كل شيعة } كقوله { ووهبنا لهم من رحمتنا } أي لننزعن بعض كل شيعة فكأن قائلاً قال : من هم؟ فقيل : أيهم أشد عتياً ، و«على» يتعلق بأفعل أي عتوهم أشد على الرحمن { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا } أحق بالنار { صِلِيّاً } تمييز أو دخولاً والباء تتعلق ب { أولى } { وَإِن مّنكُمْ } أحد { إِلاَّ وَارِدُهَا } داخلها والمراد النار والورود : الدخول عند علي وابن عباس رضي الله عنهم وعليه جمهور أهل السنة لقوله تعالى : { فأوردهم النار } [ هود : 98 ] ولقوله تعالى { لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها } [ الأنبياء : 99 ] ولقوله { ثم تنجى الذين اتقوا } إذ النجاة إنما تكون بعد الدخول لقوله عليه السلام : " الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم وتقول النار للمؤمن : جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي " وقيل : الورود بمعنى الدخول لكنه يختص بالكفار لقراءة ابن عباس { وإن منهم } وتحمل القراءة المشهورة على الإلتفات . وعن عبد الله : الورود الحضور لقوله تعالى : { ولما ورد ماء مدين } [ القصص : 23 ] وقوله { أولئك عنها مبعدون } [ الأنبياء : 101 ] وأجيب عنه بأن المراد عن عذابها . وعن الحسن وقتادة : الورود المرور على الصراط لأن الصراط ممدود عليها فيسلم أهل الجنة ويتقاذف أهل النار . وعن مجاهد : ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لقوله عليه السلام : " الحمى حظ كل مؤمن من النار " وقال رجل من الصحابة لآخر : أيقنت بالورود؟ قال : نعم . قال : وأيقنت بالصدر؟ قال : لا . قال : ففيم الضحك وفيم التثاقل؟ { كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } أي كان ورودهم واجباً كائناً محتوماً والحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى به الموجب كقولهم «ضرب الأمير» .(2/280)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
{ ثُمَّ نُنَجّى } وعلي بالتخفيف { الذين اتقوا } عن الشرك وهم المؤمنون { وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } فيه دليل على دخول الكل لأنه قال : { ونذر } ولم يقل وندخل ، والمذهب أن صاحب الكبيرة قد يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو لا محاله . وقالت : المرجئة الخبيثة : لا يعاقب لأن المعصية لا تضر مع الإسلام عندهم . وقالت المعتزلة : يخلد .
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي القرآن { بينات } ظاهرات الإعجاز أو حججاً وبراهين حال مؤكدة كقوله : { وهو الحق مصدقاً } [ البقرة : 91 ] إذ آيات الله لا تكون إلا واضحة وحججاً { قَالَ الذين كَفَرُواْ } أي مشركو قريش وقد رجلوا شعورهم وتكلفوا في زيهم { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } للفقراء ورؤوسهم شعثة وثيابهم خشنة { أَىُّ الفريقين } نحن أم أنتم { خَيْرٌ مَّقَاماً } بالفتح وهو موضع القيام والمراد المكان والمسكن . وبالضم مكي وهو موضع الإقامة والمنزل { وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } مجلسا يجتمع القوم فيه للمشاورة . ومعنى الآية أن الله تعالى يقول : إذا أنزلنا آية فيها دلائل وبراهين أعرضوا عن التدبر فيها إلى الافتخار بالثروة والمال وحسن المنزل والحال فقال تعالى :(2/281)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ } ف { كم } مفعول { أهلكنا } و { من } تبيين لإبهامها أي كثيراً من القرون أهلكنا وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم { هُمْ أَحْسَنُ } في محل النصب صفة ل { كم } ألا ترى أنك لو تركت { هم } كان أحسن نصباً على الوصفية { أَثَاثاً } هو متاع البيت أو ماجد من الفرش { وَرِئياً } منظراً وهيئة فعل بمعنى مفعول من رأيت و { رياً } بغير همز مشدداً : نافع وابن عامر على قلب الهمزة ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم الإدغام ، أو من الري الذي هو النعمة { قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة } الكفر { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } جواب { من } لأنها شرطية وهذا الأمر بمعنى الخبر أي من كفر مد له الرحمن يعني أمهله وأملى له في العمر ليزداد طغياناً وضلالاً كقوله تعالى { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [ آل عمران : 178 ] وإنما أخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة كالمأمور به الممتثل ليقطع معاذير الضلال .
{ حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } هي متصلة بقوله { خير مقاماً وأحسن ندياً } وما بينهما اعتراض أي لا يزالون يقولون هذا القول إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين { إِمَّا العذاب } في الدنيا وهو تعذيب المسلمين إياهم بالقتل والأسر { وَإِمَّا الساعة } أي القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال فهما بدلان مما يوعدون { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً } منزلاً { وَأَضْعَفُ جُنداً } أعواناً وأنصاراً أي فحينئذٍ يعلمون أن الأمر على عكس ما قدروه وأنهم شر مكاناً وأضعف جنداً لا خير مقاماً وأحسن ندياً ، وأن المؤمنين على خلاف صفتهم . وجاز أن تتصل بما يليها ، والمعنى إن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم لا ينفكون عن ضلالتهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين أو يشاهدوا الساعة . وحتى هي التي يحكي بعدها الجمل ألا ترى أن الجملة الشرطية واقعة بعدها وهي قوله { إذا رأوا ما يوعدون . فسيعلمون } { وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى } معطوف على موضع { فليمدد } لوقوعه موضع الخبر تقديره : من كان في الضلالة مد أو يمد له الرحمن ويزيد أي يزيد في ضلال الضال بخذلانه ، ويزيد المهتدين أي المؤمنين هدى ثباتاً على الاهتداء أو يقينا وبصيرة بتوفيقه { والباقيات الصالحات } أعمال الآخرة كلها أو الصلوات الخمس أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر { خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا } مما يفتحر به الكافر { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } أي مرجعاً وعاقبة تهكم بالكفار لأنهم قالوا للمؤمنين { أي الفرقين خير مقاماً وأحسن ندياً } .(2/282)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
{ أَفَرَأَيْتَ الذى كَفَرَ بئاياتنا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } ثم . وبضم الواو وسكون اللام في أربعة مواضع ههنا وفي الزخرف ونوح حمزة وعلي جمع ولد كأسد في أسد ، أو بمعنى الولد كالعرب في العرب . ولما كانت رؤية الأشياء طريقاً إلى العلم بها وصحة الخبر عنها استعملوا أرأيت في معنى أخبر والفاء أفادت التعقيب كأنه قال : أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقيب حديث أولئك . وقوله { لأوتين } جواب قسم مضمر { أَطَّلَعَ الغيب } من قولهم «اطلع الجبل» إذا ارتقى إلى أعلاه ، الهمزه للاستفهام وهمزة الوصل محذوفة أي انظر في اللوح المحفوظ فرأى منيته { أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } مؤثقاً أن يؤتيه ذلك أو العهد كلمة الشهادة . وعن الحسن : نزلت في الوليد بن المغيرة ، والمشهور أنها في العاص بن وائل ، فقد رُوي أن خباب بن الأرت صاغ للعاص بن وائل حلياً فاقتضاه الأجر فقال : إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأن في الجنة ذهباً وفضة فأنا أقضيك ثُم فإني أوتي مالاً وولداً حينئذ { كَلاَّ } ردع وتنبيه على الخطأ أي هو مخطىء فيما تصوره لنفسه فليرتدع عنه { سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } أي قوله والمراد سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله لأنه كما قال : كتب من غير تأخير قال الله تعالى : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] وهو كقوله
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ... أي علم وتبين بالانتساب أني لست بابن لئيمة { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب } نزيده من العذاب كما يزيد في الافتراء والاجتراء من المدد ، يقال مده وأمده { مَدّاً } أكد بالمصدر لفرط غضبه تعالى .(2/283)
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة والمعنى مسمى ما يقول وهو المال والولد { وَيَأْتِينَا فَرْداً } حال أي بلا مال ولا ولد كقوله : { ولقد جئتمونا فرادى } [ الأنعام : 94 ] فما يجدي عليه تمينه وتألبه .
{ واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً } أي اتخذ هؤلاء المشركون أصناماً يعبدونها { لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } أي ليعتزوا بآلهتهمِ ويكونوا لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من العذاب { كَلاَّ } ردع لهم عما ظنوا { سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم } الضمير للآلهة أي سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون والله ما عبدتمونا وأنتم كاذبون ، أو للمشركين أي ينكرون أن يكونوا قد عبدوها كقوله : { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] { وَيَكُونُونَ } أي المعبودون { عَلَيْهِمْ } على المشركين { ضِدّاً } خصماً لأن الله تعالى ينطقهم فيقولون : يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك . والضد يقع على الواحد والجمع وهو في مقابلة { لهم عزاً } والمراد ضد العز وهو الذل والهوان أي يكونون عليهم ضداً لما قصدوه أي يكونون عليهم ذلاً لا لهم عزاً ، وإن رجع الضمير في { سيكفرون } { ويكونون } إلى المشركين فالمعنى ويكونون عليهم أي أعداءهم ضداً أي كفرة بهم بعد أن كانوا يعبدونها ثم عجب نبيه عليه السلام بقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين } أي خليناهم وإياهم من أرسلت البعير أطلقته أو سلطانهم عليهم بالإغواء { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } تغريهم على المعاصي إغراء والأز والهز إخوان ومعناهما التهييج وشدة الإزعاج .(2/284)
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
{ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } بالعذاب { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } أي أعمالهم للجزاء وأنفاسهم للفناء ، وقرأها ابن السماك عند المأمون فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد .
{ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً } ركبانا على نوق رحالها ذهب وعلى نجائب سروجها ياقوت { وَنَسُوقُ المجرمين } الكافرين سوق الأنعام لأنهم كانوا أضل من الأنعام { إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } عطاشاً لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش وحقيقة الورد المسير إلى الماء فيسمى به الواردون ، فالوفد جمع وافد كركب وراكب والورد جمع وارد . ونصب { يوم } بمضمر أو يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يوصف أي اذكر يوم نحشر . ذكر المتقون بأنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته كما يفد الوفود على الملوك تبجيلاً لهم ، والكافرون بأنهم يساقون إلى النار كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء استخفافاً بهم { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة } حال . والواو إن جعل ضميراً فهو للعباد ودل عليه ذكر المتقين والمجرمين لأنهم على هذه القسمة ، ويجوز أن يكون علامة للجمع كالتي في «أكلوني البراغيث» والفاعل من { اتخذ } لأنه في معنى الجمع ومحل { من اتخذ } رفع على البدل من واو { يملكون } أو على الفاعلية ، أو نصب على تقدير حذف المضاف أي إلا شفاعة من اتخذ والمراد لا يمكلون أن يشفع لهم { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } بأن آمن . في الحديث " من قال : لا إله إلا الله كان له عند الله عهد " وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم : " أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً " قالوا : وكيف ذلك؟ قال : " يقول كل صباح ومساء اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك وإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ، فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الذين كان لهم عند الله عهد فيدخلون الجنة " أو يكون من عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها .(2/285)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
{ وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } أي النصارى واليهود ومن زعم أن الملائكة بنات الله { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } خاطبهم بهذا الكلام بعد الغيبة وهو التفات ، أو أمر نبيه عليه السلام بأن يقول لهم ذلك؛ والإد العجب أو العظيم المنكر والإدة الشدة وأدّني الأمر أثقلني وعظم عليّ أدًّا { تَكَادُ السماوات } تقرب وبالياء نافع وعليّ { يَتَفَطَّرْنَ } وبالنون بصري وشامي وحمزة وخلف وأبو بكر . الانفطار من فطره إذا شقه والتفطر من فطره إذا شققه { مِنْهُ } من عظم هذا القول { وَتَنشَقُّ الأرض } تنخسف وتنفصل أجزاؤها { وَتَخِرُّ الجبال } تسقط { هَدّاً } كسراً أو قطعاً أو هدماً ، والهدة صوت الصاعقة من السماء وهو مصدر أي تهد هدّا من سماع قولهم أو مفعول له أو حال أي مهدودة { أَن دَعَوْا } لأن سموا ومحله جر بدل من الهاء في { منه } أو نصب مفعول له ، علل الخرور بالهد والهد بدعاء الولد للرحمن ، أو رفع فاعل { هداًّ } أي هدها دعاؤهم { للرحمن وَلَداً وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } «انبغى» مطاوع بغى إذ طلب أي ما يتأتي له اتخاذ الولد وما يتطلب لو طلب مثلاً لأنه محال غير داخل تحت الصحة ، وهذا لأن اتخاذ الولد لحاجة ومجانسة وهو منزه عنهما . وفي اختصاص الرحمن وتكريره مرات بيان أنه الرحمن وحده لا يستحق هذا الاسم غيره ، لأن أصول النعم وفروعها منه فلينكشف عن بصرك غطاؤه ، فأنت وجميع ما عندك غطاؤه فمن أضاف إليه ولداً فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن
.(2/286)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
{ إِن كُلُّ مَن } نكرة موصوفة صفتها { فِى السماوات والأرض } وخبر { كل } { إِلاَّ ءَاتِي الرحمن } ووحد { آتى } و { آتيه } حملاً على لفظ { كل } وهو اسم فاعل من أتى وهو مستقبل أي يأتيه { عَبْداً } حال أي خاضعاً ذليلاً منقاداً ، والمعنى ما كل من في السموات والأرض من الملائكة والناس إلا هو يأتي الله يوم القيامة مقراً بالعبودية ، والعبودية والبنوة تتنافيان حتى لو ملك الأب ابنه يعتق عليه ونسبة الجميع إليه نسبة العبد إلى المولى فكيف يكون البعض ولداً والبعض عبداً! وقرأ ابن مسعود { آت الرحمن } على أصله قبل الإضافة { لَّقَدْ أحصاهم وَعَدَّهُمْ عَدّاً } أي حصرهم بعلمه وأحاط بهم { وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } أي كل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفرداً بلا مال ولا ولد أو بلا معين ولا ناصر .
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } مودة في قلوب العباد قال الربيع يحبهم ويحببهم إلى الناس وفي الحديث يعطى المؤمن مِقَةً في قلوب الأبرار ومهابة في قلوب الفجار . وعن قتادة وهرم : ما أقبل العبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه . وعن كعب : ما يستقر لعبد ثناء في الأرض حتى يستقر له في السماء .(2/287)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{ فَإِنَّمَا يسرناه } سهلنا القرآن { بِلَسَانِكَ } بلغتك حال { لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين } المؤمنين { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } شداداً في الخصومة بالباطل أي الذين يأخذون في كل لديد أي شق من المراء والجدال جمْع ألدّ يَراد به أهل مكْة { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ } تخويف لهم وإنذار { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ } أي هل تجد أو ترى أو تعلم والإحساس الإدراك بالحاسة { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } صوتاً خفياً ومنه الركاز أي لما أتاهم عذابنا لم يبق شخص يرى ولا صوت يسمع يعني هلكوا كلهم فكذا هؤلاء إن أعرضوا عن تدبر ما أنزل عليك فعاقبتهم الهلاك فليهن عليك أمرهم ، والله أعلم .(2/288)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
{ طه } فخم الطاء لاستعلائها وأمال الهاء ، أبو عمرو ، وأمالهما حمزة وعلي وخلف وأبو بكر ، وفخمهما على الأصل غيرهم . وما رُوي عن مجاهد والحسن والضحاك وعطاء وغيرهم أن معناه يا رجل فإن صح فظاهر وإلا فالحق ما هو المذكور في سوة البقرة { مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان } إن جعلت { طه } تعديداً لأسماء الحروف فهو ابتداء كلام ، وإن جعلتها اسماً للسورة احتملت أن تكون خبراً عنها وهي في موضع المبتدأ ، و { القرءان } ظاهر أوقع موقع المضمر لأنها قرآن وأن يكون جواباً لها وهي قسم { لتشقى } لتتعب لفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا ، أو بقيام الليل فإنه رُوي أنه عليه السلام صلى بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل : أبق على نفسك فإن لها عليك حقاً أي ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة { إِلاَّ تَذْكِرَةً } استثناء منقطع أي لكن أنزلناه تذكرة أو حال { لّمَن يخشى } لمن يخاف الله أو لمن يئول أمره إلى الخشية .(2/289)
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)
{ تَنْزِيلاً } بدل من { تَذْكِرَةٌ } إذا جعل حالاً ويجوز أن ينتصب ب «نزل» مضمراً أو على المدح أو ب { يخشى } مفعولاً أي أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله { مّمَّنْ خَلَق الأرض والسماوات } { مِنْ } يتعلق ب { تَنْزِيلاً } صلة له { العلى } جمع العليا تأنيث الأعلى ووصف السماوات بالعلى دليل ظاهر على عظم قدرة خالقها { الرحمن } رفع على المدح أي هو الرحمن { عَلَى العرش } خبر مبتدأ محذوف { استوى } استولى . عن الزجاج ، ونبه بذكر العرش وهو أعظم المخلوقات على غيره . وقيل : لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك جعلوه كناية عن الملك فقال استوى فلان على العرش أي ملك وإن لم يقعد على السرير ألبتة وهذا كقولك «يد فلان مبسوطة» أي جواد وإن لم يكن له يد رأساً ، والمذهب قول علي رضي الله عنه : الاستواء غير مجهول والتكييف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة لأنه تعالى كان ولا مكان فهو على ما كان قبل خلق المكان لم يتغير عما كان .
{ لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } خبر ومبتدأ ومعطوف { وَمَا بَيْنَهُمَا } أي ذلك كله ملكه { وَمَا تَحْتَ الثرى } ما تحت سبع الأراضين أو هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة { وَإِن تَجْهَرْ بالقول } ترفع صوتك { فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر } ما أسررته إلى غيرك { وَأَخْفَى } منه وهو ما أخطرته ببالك أو ما أسررته في نفسك وما ستسره فيها { الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسماء الحسنى } أي هو واحد بذاته وإن افترقت عبارات صفاته رد لقولهم إنك تدعو آلهة حين سمعوا أسماءه تعالى والحسنى تأنيث الأحسن .
{ وَهَلْ } أي وقد { أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } خبره قفاه بقصة موسى عليه السلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة بالصبر على المكاره ولينال الدرجة العليا كما نالها موسى .(2/290)
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
{ إِذْ رَأَى } ظرف لمضمر أي حين رأى { نَارًا } كان كيت وكيت أو مفعول به لاذكر . رُوي أن موسى عليه السلام استأذن شعيباً في الخروج إلى أمه وخرج بأهله فولد له ابن في الطريق في ليلة مظلمة مثلجة ، وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده فرأى عند ذلك ناراً في زعمه وكان نوراً { فَقَالَ لأَِهْلِهِ امكثوا } أقيموا في مكانكم { إِنّى آنَسْتُ } أبصرت { نَارًا } والإيناس رؤية شيء يؤنس به { لعلِّي ءاتيكم منها } بنى الأمر على الرجاء لئلا يعد ما ليس يستيقن الوفاء به { بِقَبَسٍ } نار مقتبسة في رأس عود أو فتيله { أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى } ذوي هدى أو قوماً يهدونني الطريق . ومعنى الاستعلاء في { عَلَى النار } أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها .
{ فَلَمَّا أتاها } أي النار وجد ناراً بيضاء تتوقد في شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها ، وكانت شجرة العناب أو العوسج ولم يجد عندها أحداً . ورُوي أنه كلما طلبها بعدت عنه فإذا تركها قربت منه فثم { نُودِىَ } موسى { يَا موسى إِنّى } بكسر الهمزة أي نود فقيل { يَا موسى إِنّى } أو لأن النداء ضرب من القول فعومل معاملته ، وبالفتح : مكي وأبو عمرو أي نودي بأني { أَنَاْ رَبُّكَ } { أَنَاْ } مبتدأ أو تأكيد أو فصل وكرر الضمير لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة . رُوي أنه لما نودي يا موسى قال : مَن المتكلم؟ فقال الله عز وجل : { أَنَاْ رَبُّكَ } . فعرف أنه كلام الله عز وجل بأنه سمعه من جميع جهاته الست وسمعه بجميع أعضائه .
{ فاخلع نَعْلَيْكَ } انزعهما لتصيب قدميك بركة الوادي المقدس ، أو لأنها كانت من جلد حمار ميت غير مدبوغ ، أو لأن الحفوة تواضع لله ومن ثم طاف السلف بالكعبة حافين ، والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها فخلعهما وألقاهما من وراء الوادي { إِنَّكَ بالواد المقدس } المطهر أو المبارك { طُوًى } حيث كان منوّن : شامي وكوفي لأنه اسم علم للوادي وهو بدل منه ، وغيرهم بغير تنوين بتأويل البقعة . وقرأ أبو زيد بكسر الطاء بلا تنوين .(2/291)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
{ وَأَنَا اخترتك } اصطفيتك للنبوة ، { وإنا اخترناك } حمزة { فاستمع لِمَا يُوحَى } إليك للذي يوحى أو للوحي ، واللام يتعلق ب { استمع } أو ب { اخترتك } { إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ فاعبدنى } وحدني وأطعني { وأقم الصلاة لذكري } لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، أو لأن أذكرك بالمدح والثناء ، أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري ، أو لتكون لي ذاكراً غير ناس ، أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة لقوله : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } [ النساء : 103 ] وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها وذا يصح بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي ، وهذا دليل على أنه لا فريضة بعد التوحيد أعظم منها .
{ إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ } لا محالة { أَكَادُ } أريد عن الأخفش وقيل صلة { أُخْفِيهَا } قيل : هو من الأضداد أي أظهرها أو أسترها عن العباد فلا أقول هي آتية لإرادتي إخفاءها ، ولولا ما في الأخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من الحكمة وهو أنهم إذا لم يعلموا متى تقوم كانوا على وجل منها في كل وقت لما أخبرت به { لتجزى } متعلق ب { ءاتِيَةٌ } { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } بسعيها من خير أو شر { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } فلا يصرفنك عن العمل للساعة أو عن إقامة الصلاة أو عن الإيمان بالقيامة فالخطاب لموسى والمراد به أمته { مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } لا يصدق بها { واتبع هَوَاهُ } في مخالفة أمره { فتردى } فتهلك { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } «ما» مبتدأ و { تِلْكَ } خبره وهي بمعنى هذه و { بِيَمِينِكَ } حال عمل فيها معنى الإشارة أي قارة أو مأخوذة بيمينك . أو { تِلْكَ } موصول صلته { بِيَمِينِكَ } والسؤال للتنبيه لتقع المعجزة بها بعد التثبت ، أو للتوطين لئلا يهوله انقلابها حية ، أو للإيناس ورفع الهيبة للمكالمة .(2/292)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
{ قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا } أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة { وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى } أخبط ورق الشجر على غنمي لتأكل { وَلِيَ فِيهَا مَأَرِبُ } { وَلِيُّ } حفص جمع مأربة بالحركات الثلاث وهي الحاجة { أخرى } والقياس أخر . وإنما قال { أخرى } رداً إلى الجماعة أو لنسق الآي وكذا { الكبرى } ولما ذكر بعضها شكراً أجمل الباقي حياء من التطويل ، أو ليسأل عنها الملك العلام فيزيد في الإكرام . والمآرب الأخر أنها كانت تماشيه وتحدثه وتحارب العدو والسباع وتصير رشاء فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً وتكونان شمعتين بالليل وتحمل زاده ويركزها فتثمر ثمرة يشتهيها ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب ، وكانت تقيه الهوام . والزيادة على الجواب لتعداد النعم شكراً ، أو لأنها جواب سؤال آخر لأنه لما قال { هِىَ عَصَايَ } قيل له : ما تصنع بها فأخذ يعدد منافعها .
{ قَالَ أَلْقِهَا ياموسى } اطرح عصاك لتفزع مما تتكىء عليه فلا تسكن إلا بنا وترى فيها كنه ما فيها من المآرب فتعتمد علينا في المطالب { فألقاها } فطرحها { فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى } تمشي سريعاً قيل انقلبت ثعباناً يبتلع الصخر والشجر ، فلما رآها تبتلع كل شيء خاف . وإنما وصفت بالحية هنا وبالثعبان وهو العظيم من الحيات وبالجان وهو الدقيق في غيرها لأن الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير ، وجاز أن تنقلب حية صفراء دقيقة ثم يتزايد جرمها حتى تصير ثعباناً فأريد بالجان أول حالها وبالثعبان مآلها ، أو لأنها كانت في عظم الثعبان وسرعة الجان . وقيل : كان بين لحييها أربعون ذراعاً . ولما { قَالَ } له ربه { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } بلغ من ذهاب خوفه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها { سَنُعِيدُهَا } سنردها { سِيَرتَهَا الأولى } تأنيث الأول ، والسيرة : الحالة التي يكون عليها الإنسان غريزية كانت أو مكتسبة وهي في الأصل فعلة من السير كالركبة من الركوب ثم استعملت بمعنى الحالة والطريقة . وانتصبت على الظرف أي سنعيدها في طريقتها الأولى أي في حال ما كانت عصا . والمعنى نردها عصاً كما كانت ، وأرى ذلك موسى عند المخاطبة لئلا يفزع منها إذا انقلبت حية عند فرعون ، ثم نبه على آية أخرى فقال .
{ واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } إلى جنبك تحت العضد وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما أي يميلهما عند الطيران والمعنى أدخلها تحت عضدك { تَخْرُجْ بَيْضَاء } لها شعاع كشعاع الشمس يغشى البصر { مِنْ غَيْرِ سُوء } برص { آيةً أُخرى } لنبوتك بيضاء وآية حالان معاً ومن غير سوء صلة بيضاء كقولك «ابيضت من غير سوء» وجاز أن ينتصب { ءايَةً } بفعل محذوف يتعلق به الأَمر .
{ لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى } أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى العظمى ، أو نريك بهما الكبرى من آياتنا أو المعنى فعلنا ذلك لنريك من آياتنا الكبرى .
{ اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } جاوز حد العبودية إلى دعوى الربوبية ، ولما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي وعرف أنه كلف أمراً عظيماً يحتاج إلى صدر فسيح .(2/293)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
{ قَالَ رَبّ اشرح لِي صَدْرِى } وسعه ليحتمل الوحي والمشاق ورديء الأخلاق من فرعون وجنده { وَيَسّرْ لِى أَمْرِى } وسهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون . واشرح لي صدري آكد من اشرح صدري لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل لأنه يقول اشرح لي ويسر لي علم أن ثمة مشروحاً وميسراً ثم رفع الإبهام بذكر الصدر والأمر { واحلل } افتح { عُقْدَةً مّن لّسَانِي } وكان في لسانه رتة للجمرة التي وضعها على لسانه في صباه ، وذلك أن موسى أخذ لحية فرعون ولطمه لطمة شديدة في صغره فأراد قتله فقالت آسية : أيها الملك إنه صغير لا يعقل فجعلت في طشت ناراً وفي طشت يواقيت ووضعتهما لدى موسى فقصد اليواقيت فأمال الملك يده إلى النار فرفع جمرة فوضعها على لسانه فاحترق لسانه فصار لكنة منها . وروي أن يده احترقت واجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ ولما دعاه قال : إلى أي رب تدعوني؟ قال : إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها . و { مّن لّسَانِي } صفة لعقدة كأنه قيل : عقدة من عقد لساني ، وهذا يشعر بأنه لم تزل العقدة بكمالها وأكثرهم على ذهاب جميعها { يَفْقَهُواْ قَوْلِي } عند تبليغ الرسالة .
{ واجعل لّي وَزِيراً } ظهيراً اعتمد عليه من الوزر الثقل لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنته ، أو من الوزر الملجأ لأن الملك يعتصم برأيه ويلتجىء إليه في أموره ، أو معيناً من الموازرة وهي المعاونة ف { وَزِيراً } مفعول أول ل { اجَعَلَ } والثاني { مّنْ أَهْلِي } أو { لِي } أَوْ { وَزِيراً } مفعولاه وقوله { هارون } عطف بيان ل { وَزِيراً } وقوله { أَخِي } بدل أو عطف بيان آخر و { وَزِيراً } و { هارون } مفعولاه وقدم ثانيهما على أولهما عناية بأمر الوزارة { اشدد بِهِ أَزْرِى } قو به ظهري وقيل الأزر القوة { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } اجعله شريكي في النبوة والرسالة . { اشدد } و { أشركه } على حكاية النفس شامي على الجواب ، والباقون على الدعاء والسؤال { كَيْ نُسَبّحَكَ } نصلي لك وننزهك تسبيحاً { كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } في الصلوات وخارجها { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } عالماً بأحوالنا فأجابه الله تعالى حيث { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } أعطيت مسؤولك فالسؤل الطلبة فعل بمعنى مفعول كخبز بمعنى مخبوز . { سولك } بلا همز : أبو عمرو .
{ وَلَقَدْ مَنَنَّا } أنعمنا { عَلَيْكَ مَرَّةً } كرة { أخرى } قبل هذه ثم فسرها فقال { إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى } إلهاماً أو مناماً حين ولدت وكان فرعون يقتل أمثالك . و { إِذْ } ظرف ل { مَنَنَّا } ثم فسر ما يوحى بقوله { أَنِ اقذفيه } ألقيه { فِى التابوت } و { أن } مفسرة لأن الوحي بمعنى القول { فاقذفيه فِى اليم } النيل { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } الجانب وسمي ساحلاً لأن الماء يسحله أي يقشره ، والصيغة أمر ليناسب ما تقدم ومعناه الإخبار أي يلقيه اليم بالساحل { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } يعني فرعون والضمائر كلها راجعة إلى موسى عليه السلام ، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت يفضي إلى تناثر النظم والمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل وإن كان هو التابوت لكن موسى في جوف التابوت .(2/294)
رُوي أنها جعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وقيرته ثم ألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينما هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا بصبي أصبح الناس وجهاً فأحبه فرعون حباً شديداً فذلك قوله { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى } يتعلق { مِنّي } ب { ألقيت } يعني إني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب فما رآه أحد إلا أحبه . قال قتادة : كان في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه { وَلِتُصْنَعَ } معطوف على محذوف تقديره وألقيت عليك محبة لتحب ولتصنع { على عَيْنِى } أي لتربى بمرأى مني وأصله من صنع الفرس أي أحسن القيام عليه يعني أنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به { وَلِتُصْنَعَ } بسكون اللام والجزم : يزيد على أنه أمر منه .(2/295)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
{ إِذْ تَمْشِى } بدل من { إِذْ أَوْحَيْنَا } لأن مشي أخته كان منة عليه { أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ } رُوي أن أخته مريم جاءت متعرفة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها وكان لا يقبل ثدي امرأة فقالت : هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه فيربيه وأرادت بذلك المرضعة الأم . وتذكير الفعل للفظ { مِنْ } ، فقالوا : نعم فجاء بالأم فقبل ثديها وذلك قوله { فرجعناك } فرددناك { إلى أُمّكَ } كما وعدناها بقولنا { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } [ القصص : 7 ] { كَى تَقَرَّ عَيْنُها } بلقائك { وَلاَ تَحْزَنْ } على فراقك { وَقَتَلْتَ نَفْساً } قبطياً كافراً { فنجيناك مِنَ الغم } من القود . قيل الغم : القتل بلغة قريش وقيل : اغتم بسبب القتل خوفاً من عقاب الله تعالى ومن اقتصاص فرعون فغفر الله له باستغفاره { قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى } [ القصص : 16 ] ونجاه من فرعون بأن ذهب به من مصر إلى مدين { وفتناك فُتُوناً } ابتليناك ابتلاء بإيقاعك في المحن وتخليصك منها ، والفتون مصدر كالقعود أو جمع فتنة أي فتناك ضروباً من الفتن ، والفتنة المحنة وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة . { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } هي بلدة شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر . قال وهب : لبث عند شعيب ثمانياً وعشرين سنة ، عشر منها مهر لصفوراء ، وأقام عنده ثمان عشرة سنة بعدها حتى ولد له أولاد . { ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى } أي موعد ومقدار للرسالة وهو أربعون سنة { واصطنعتك لِنَفْسِي } اخترتك واصطفيتك لوحي ورسالتي لتتصرف على إرادتي ومحبتي . قال الزجاج : اخترتك لأمري وجعلتك القائم بحجتي والمخاطب بيني وبين خلقي كأني أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم .
{ اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بئاياتى } بمعجزاتي { وَلاَ تَنِيَا } تفترا من الونى وهو الفتور والتقصير { فِى ذِكْرِى } أي اتخذا ذكري جناحاً تطيران به أو أريد بالذكر تبليغ الرسالة فالذكر يقع على سائر العبادات وتبليغ الرسالة من أعظمها { اذهبا إلى فِرْعَوْنَ } كرر لأن الأول مطلق والثاني مقيد { إِنَّهُ طغى } جاوز الحد بإدعائه الربوبية { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً } الطفا له في القول لما له من حق تربية موسى ، أو كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث : أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة . أو عداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا ينزع عنه إلا بالموت ، أو هو قوله { هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى } [ النازعات : 19 ] أي يخاف أن يكون الأمر كما تصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة . وإنما قال { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } مع علمه أنه لا يتذكر لأن الترجي لهما ، أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يطمع أن يثمر عمله .(2/296)
وجدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة . وقيل : معناه لعله يتذكر متذكر أو يخشى خاش وقد كان ذلك من كثير من الناس . وقيل : { لَعَلَّ } من الله تعالى واجب وقد تذكر ولكن حين لم ينفعه التذكر . وقيل : تذكر فرعون وخشي وأراد اتباع موسى فمنعه هامان وكان لا يقطع أمراً دونه . وتليت عند يحيى بن معاذ فبكى وقال : هذا رفقك بمن يقول أنا إله فكيف بمن قال أنت الإله؟ وهذا رفقك بمن قال أنا ربكم الأعلى فكيف بمن قال سبحان ربي الأعلى .
{ قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا } يعجل علينا بالعقوبة ومنه الفارط يقال فرط عليه أي عجل { أَوْ أَن يطغى } يجاوز الحد في الإساءة إلينا { قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا } أي حافظكما وناصركما { أَسْمِعْ } أقوالكما { وأرى } أفعالكما . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أسمع دعاءكما فأجيبه وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلا تهتما { فَأْتِيَاهُ } أي فرعون { فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } إليك { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل } أي أطلقهم عن الاستعباد والاسترقاق { وَلاَ تُعَذّبْهُمْ } بتكليف المشاق { قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ } بحجة على صدق ما ادعيناه ، وهذه الجملة جارية من الجملة الأولى وهي { إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } مجرى البيان والتفسير والتفصيل لأن دعوى الرسالة لا تثبث إلا ببينتها وهي المجيء بالآي فقال فرعون : وما هي؟ فأخرج يده لها شعاع كشعاع الشمس { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } أي سلم من العذاب من أسلم وليس بتحية . وقيل : وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين .
{ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب } في الدنيا والعقبى { على مَن كَذَّبَ } بالرسل { وتولى } أعرض عن الإيمان وهي أرجى آي القرآن لأنه جعل جنس السلام للمؤمن وجنس العذاب على المكذب وليس وراء الجنس شيء ، فأتياه وأديا الرسالة وقالا له ما أمرا به .
{ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } خاطبهما ثم نادى أحدهما لأن موسى هو الأصل في النبوة وهارون تابعه { قَالَ رَبُّنَا الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ } { خَلَقَهُ } أول مفعولي { أعطى } أي أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به ، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع ، وكذا الأنف والرجل واليد كل واحد منها مطابق للمنفعة المنوطة بها ، وقرأ نصير { خَلَقَهُ } صفة للمضاف أو للمضاف إليه أي أعطى كل شيء مخلوق عطاء { ثُمَّ هدى } عرف كيف يرتفق بما أعطى للمعيشة في الدنيا والسعادة في العقبى .(2/297)
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
{ قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى } فما حال الأمم الحالية والرمم البالية ، سأله عن حال من تقدم من القرون وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد { قَالَ } موسى مجيباً { عِلْمُهَا عِندَ رَبّى } مبتدأ وخبر { فِى كتاب } أي اللوح خبر ثانٍ أي هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب ، وعلم أحوال القرون مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ { لاَّ يَضِلُّ رَبّى } أي لا يخطىء شيئاً يقال : ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له أي لا يخطىء في سعادة الناس وشقاوتهم { وَلاَ يَنسَى } ثوابهم وعقابهم . وقيل : لا ينسى ما علم فيذكره الكتاب ولكن ليعلم الملائكة أن معمول الخلق يوافق معلومه .
{ الذى } مرفوع صفة ل { رَبّى } أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح { جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً } كوفي وغيرهم { مهادا } وهما لغتان لما يبسط ويفرش { وَسَلَكَ } أي جعل { لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } طرقاً { وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } أي مطراً { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } بالماء . نقل الكلام من الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع للافتنان . وقيل : تم كلام موسى ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } وقيل : هذا كلام موسى أي فأخرجنا نحن بالحراثة والغرس { أزواجا } أصنافاً { مّن نبات } هو مصدر سمي به النابت فاستوى فيه الواحد والجمع { شتى } صفة للأزواج أو للنبات جمع شتيت كمريض ومرضى أي إنها مختلفة النفع واللون والرائحة والشكل بعضها للناس وبعضها للبهائم ، ومن نعمة الله تعالى أن أرزاقنا تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجاتنا مما لا نقدر على أكله قائلين { كُلُواْ وارعوا أنعامكم } حال من الضمير في { فَأَخْرَجْنَا } والمعنى أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها { إِنَّ فِى ذَلِكَ } في الذي ذكرت { لآيَاتٍ } لدلالات { لأُِوْلِي النهى } لذوي العقول واحدها نهية لأنها تنهى عن المحظور أو ينتهى إليها في الأمور { مِنْهَا } من الأرض { خلقناكم } أي أباكم آدم عليه السلام . وقيل : يعجن كل نطفة بشيء من تراب مدفنه فيخلق من التراب والنطفة معاً أو لأن النطفة من الأغذية وهي من الأرض { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } إذا متم فدفنتم { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ } عند البعث { تَارَةً أخرى } مرة أخرى والمراد بإخراجهم أنه يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب ويردهم كما كانوا أحياء ويخرجهم إلى المحشر ، عدد الله عليهم ما علق بالأرض من مرافقهم حيث جعلها لهم فراشاً ومهاداً يتقلبون عليها ، وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف شاؤوا ، وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلوفات بهائمهم وهي أصلهم الذي منه تفرعوا ، وأمهم التي منها ولدوا وهي كفانهم إذا ماتوا .(2/298)
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
{ قَالُواْ إِنْ هاذان لساحران } يعني موسى وهارون . قرأ أبو عمرو { إن هَذينِ لساحران } وهو ظاهر ولكنه مخالف للإمام ، وابن كثير وحفص والخليل وهو أعرف بالنحو واللغة { إِنْ هاذان لساحران } بتخفيف { إن } مثل قولك «إن زيد لمنطلق» واللام هي الفارقة بين «إن» النافية والمخففة من الثقيلة . وقيل : هي بمعنى «ما» واللام بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساحران دليله قراءة أبيّ { إن ذان إلا ساحران } وغيرهم { إِنْ هاذان لساحران } قيل هي لغة بلحارث بن كعب وخثعم ومراد وكنانة فالتثنية في لغتهم بالألف أبداً فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب كعصا وسعدى قال :
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
وقال الزجاج : إن بمعنى نعم ، قال الشاعر :
ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه
أي نعم والهاء للوقف . و { هذان } مبتدأ و { ساحران } خبر مبتدأ محذوف واللام داخلة على المبتدأ المحذوف تقديره : هذان لهما ساحران فيكون دخولهما في موضعها الموضوع لها وهو الابتداء ، وقد يدخل اللام في الخبر كما يدخل في المبتدأ قال :
خالي لأنت ومن جرير خاله ... قال : فعرضته على المبرد فرضيه وقد زيفه أبو عليّ . { يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ } مصر { بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ } بدينكم وشريعتكم { المثلى } الفضلى تأنيث الأمثل وهو الأفضل { فَأَجْمِعُواْ } فأحكموا أي اجعلوه مجمعاً عليه حتى لا تختلفوا . { فَأَجْمِعُواْ } أبو عمرو ويعضده { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } { كَيْدَكُمْ } هو ما يكاد به { ثُمَّ ائتوا صَفّاً } مصطفين حال أمروا بأن يأتوا صفاً لأنه أهيب في صدور الرائين { وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } وقد فاز من غلب وهو اعتراض .
{ قَالُواْ } أي السحرة { ياموسى إِمَّا أَن تُلْقِيَ } عصاك أولاً { وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى } ما معنا وموضع «أن» مع ما بعده فيهما نصب بفعل مضمر ، أو رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف معناه اختر أحد الأمرين ، أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا . وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه وكأنه تعالى ألهمهم ذلك وقد وصلت إليهم بركته وعلم موسى اختيار إلقائهم أولاً حتى { قَالَ بَلْ أَلْقُواْ } أنتم أولاً ليبرزوا ما معهم من مكايد السحر ويظهر الله سلطانه ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه ، ويسلط المعجزة على السحر فتمحقه فيصير آية نيرة للناظرين وعبرة بينة للمعتبرين فألقوا { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } يقال في { إِذَا } هذه : إذا المفاجأة والتحقيق أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها ، وخصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير والتقدير : ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي { يُخَيَّلُ } وبالتاء : ابن ذكوان { إِلَيْهِ } إلى موسى { مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } رفع بدل اشتمال من الضمير في { يُخَيَّلُ } أي يخيل الملقى .(2/299)
رُوي أنهم لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت فخيلت ذلك .
{ فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } أضمر في نفسه خوفاً ظنًّا منه أنها تقصده للجبلة البشرية أو خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } الغالب القاهر . وفي ذكر «إن» و «أنت» وحرف التعريف ولفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة مبالغة بينة .
{ وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ } بسكون اللام والفاء وتخفيف القاف : حفص و { تَلْقَفْ } : ابن ذكوان ، الباقون { تَلْقَفْ } { مَا صَنَعُواْ } زوراً وافتعلوا أي اطرح عصاك تبتلع عصيهم وحبالهم . ولم يقل عصاك تعظيماً لها أي لا تحتفل بما صنعوا فإن ما في يمينك أعظم منها ، أو تحقيراً أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الذي في يمينك فإنه بقدرتنا يتلقفها على وحدته وكثرتها { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } كوفي غير عاصم سحر بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر أو هم لتوغلهم في السحر كأنهم السحر ، و { كَيْدَ } بالرفع على القراءتين و «ما» موصولة أو مصدرية . وإنما وحد { ساحر } ولم يجمع لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد ، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى إلى قوله { وَلاَ يُفْلِحُ الساحر } أي هذا الجنس { حَيْثُ أتى } أينما كان فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فلعظم ما رأوا من الآية وقعوا إلى السجود فذلك قوله { فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً } قال الأخفش : من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا فما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين . رُوي أنهم رأوا الجنة ومنازلهم فيها في السجود فرفعوا رؤوسهم ثم { قَالُواْ امَنَّا بِرَبّ هارون وموسى } وإنما قدم «هارون» هنا وأخر في الشعراء محافظة للفاصلة ولأن الواو لا توجب ترتيباً { قَالَ ءامَنتُمْ } بغير مد : حفص ، وبهمزة ممدودة : بصري وشامي وحجازي ، وبهمزتين : غيرهم { لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } أي لموسى . يقال : آمن له وآمن به { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذى عَلَّمَكُمُ السحر } لعظيمكم أو لمعلمكم ، تقول أهل مكة للمعلم : أمرني كبيري { فَلأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } القطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لأن كل واحد من العضوين يخالف الآخر بأن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال ، و «من» لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشىء من مخالفة العضو ، ومحل الجار والمجرور النصب على الحال يعني لأقطعنها مختلفات لأنها إذا خالف بعضها بعضاً فقد اتصفت بالاختلاف ، شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف فلهذا قال { وَلأُصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النخل } وخص النخل لطول جذوعها { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً } أنا على ترك إيمانكم بي أو رب موسى على ترك الإيمان به . وقيل : يريد نفسه لعنه الله وموسى صلوات الله وسلامه عليه بدليل قوله { آمنتم له } واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله كقوله { يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] { وأبقى } أدوم .(2/300)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
{ قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ } لن نختارك { على مَا جَاءنَا مِنَ البينات } القاطعة الدالة على صدق موسى { والذى فَطَرَنَا } عطف على { مَا جَاءنَا } أي لن نختارك على الذي جاءنا ولا على الذي خلقنا ، أو قسم وجوابه { لَن نُّؤْثِرَكَ } مقدم على القسم { فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ } فاصنع ما أنت صانع من القتل والصلب قال :
وعليهما مسرودتان قضاهما ... أي صنعهما أو احكم ما أنت حاكم { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } أي في هذه الحياة الدنيا فانتصب على الظرف أي إنما تحكم فينا مدة حياتنا .
{ أَنَاْ ءامَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ } «ما» موصولة منصوبة بالعطف على { خطايانا } { مِنَ السحر } حال من «ما» ، روي أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائماً ففعل فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا : ما هذا بسحر الساحر إذا نام بطل سحره فكرهوا معارضته خوف الفضيحة فأكرههم فرعون على الإتيان بالسحر وضر فرعون جهله به ونفعهم علمهم بالسحر فكيف بعلم الشرع { والله خَيْرُ } ثواباً لمن أطاعه { وأبقى } عقاباً لمن عصاه وهو رد لقول فرعون { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى } .
{ أَنَّهُ } هو ضمير الشأن { مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } كافراً { فَإِنَّ لَهُ } للمجرم { جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا } فيستريح بالموت { وَلاَ يحيى } حياة ينتفع بها { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً } مات على الإيمان { قَدْ عَمِلَ الصالحات } بعد الإيمان { فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدرجات العلى } جمع العليا { جنات عَدْنٍ } بدل من { الدرجات } { تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا } دائمين { وذلك جَزَاء مَن تزكى } تطهر من الشرك بقول لا إله إلا الله . قيل : هذه الآيات الثلاث حكاية قولهم . وقيل : خبر من الله تعالى لا على وجه الحكاية وهو أظهر { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى } لما أراد الله تعالى إهلاك فرعون وقومه أمر موسى أن يخرج بهم من مصر ليلاً ويأخذ بهم طريق البحر { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِى البحر } اجعل لهم من قولهم ضرب له في ماله سهماً { يَبَساً } أي يابساً وهو مصدر وصف به يقال : يبس يَبسا ويُبسا { لاَّ تَخَافُ } حال من الضمير في { فاضرب } أي اضرب لهم طريقاً غير خائف . { لاَ تَخَفْ } حمزة على الجواب { دَرَكاً } هو اسم من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك { وَلاَ تخشى } الغرق وعلى قراءة حمزة { وَلاَ تخشى } استئناف أي وأنت لا تخشى أو يكون الألف للإطلاق كما في { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] فخرج بهم موسى من أول الليل وكانوا سبعين ألفاً وقد استعاروا حليهم فركب فرعون في ستمائة ألف من القبط فقص أثرهم فذلك قوله { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } هو حال أي خرج خلفهم ومعه جنوده { فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم } أصابهم من البحر { مَا غَشِيَهُمْ } هو من جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله عز وجل { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ } عن سبيل الرشاد { وَمَا هدى } وما أرشدهم إلى الحق والسداد وهذا رد لقوله(2/301)
{ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } [ غافر : 29 ] . ثم ذكر منته على بني إسرائيل بعد ما أنجاهم من البحر وأهلك فرعون وقومه بقوله { يابنى إسراءيل } أي أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي وقلنا يا بني إسرائيل { قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ } أي فرعون { وواعدناكم } بإيتاء الكتاب { جَانِبِ الطور الأيمن } وذلك أن الله عز وجل وعد موسى أن يأتي هذا المكان ويختار سبعين رجلاً يحضرون معه لنزول التوراة . وإنما نسب إليهم المواعدة لأنها كانت لنبيهم ونقبائهم وإليهم رجعت منافعها التي قام بها شرعهم ودينهم . و { الأيمن } نصب لأنه صفة { جَانِبٍ } وقرىء بالجر على الجواز { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } في التيه وقلنا لكم .
{ كُلُواْ مِن طيبات } حلالات { مَا رزقناكم } { أنجيتكم } { وواعدتكم } { ورزقتكم } كوفي غير عاصم { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } ولا تتعدوا حدود الله فيه بأن تكفروا النعم وتنفقوها في المعاصي أو لا يظلم بعضكم بعضاً { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى } عقوبتي { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى } هلك أو سقط سقوطاً لا نهوض بعده ، وأصله أن يسقط من جبل فيهلك وتحقيقه سقط من شرف الإيمان إلى حفرة من حفر النيران . قرأ علي { فَيَحِلَّ } { ويحلل } والباقون بكسرهما . فالمكسور في معنى الوجوب من حل الدين يحل إذا وجب أداؤه ، والمضموم في معنى النزول { وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ } عن الشرك { وَءامَنَ } وحد الله تعالى وصدقه فيما أنزل { وَعَمِلَ صالحا } أدى الفرائض { ثُمَّ اهتدى } ثم استقام وثبت على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح .
{ وَمَا أَعْجَلَكَ } أي وأي شيء عجل بك { عَن قَومِكَ ياموسى } أي عن السبعين الذين اختارهم وذلك أنه مضى معهم إلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه وأمرهم أن يتبعوه قال الله تعالى { وَمَا أَعْجَلَكَ } أي وأي شيء أوجب عجلتك استفهام إنكار و { مَا } مبتدأ و { أَعْجَلَكَ } الخبر { قَالَ هُمْ أُوْلاء على أَثَرِى } أي هم خلفي يلحقون بي وليس بيني وبينهم إلا مسافة يسيرة . ثم ذكر موجب العجلة فقال { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ } أي إلى الموعد الذي وعدت { لترضى } لتزداد عني رضاً وهذا دليل على جواز الاجتهاد .(2/302)
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
{ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } ألقيناهم في فتنة { مِن بَعْدِكَ } من بعد خروجك من بينهم والمراد بالقوم الذين خلفهم مع هارون { وَأَضَلَّهُمُ السامرى } بدعائه إياهم إلى عبادة العجل وإجابتهم له وهو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة . وقيل : كان علجاً من كرمان فاتخذ عجلاً واسمه موسى بن ظفر وكان منافقاً { فَرَجَعَ موسى } من مناجات ربه { إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفًا } شديد الغضب أو حزيناً { قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } وعدهم الله أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور وكانت ألف سورة كل سوره ألف آية يحمل أسفارها سبعون جملاً ولا وعد أحسن من ذلك { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد } أي مدة مفارقتي إياكم ، والعهد الزمان ، يقال : طال عهدي بك أي طال زماني بسبب مفارقتك { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ } أي أردتم أن تفعلوا فعلاً يجب به عليكم الغضب من ربكم { فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى } وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الآيات فأخلفوا موعده باتخاذ العجل .
{ قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } بفتح الميم : مدني وعاصم ، وبضمها : حمزة وعلي ، وبكسرها : غيرهم ، أي ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفنا موعدك ولكنا غلبنا من جهة السامري وكيده { ولكنا حُمّلْنَا } بالضم والتشديد : حجازي وشامي وحفص ، وبفتح الحاء والميم مع التخفيف : غيرهم { أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم } أثقالاً من حلي القبط ، أو أرادوا بالأوزار أنها آثام وتبعات لأنهم قد استعاروها ليلة الخروج من مصر بعلة أن لنا غداً عيداً ، فقال السامري : إنما حبس موسى لشؤم حرمتها لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي على أن الغنائم لم تكن تحل حينئذ فأحرقوها فخبأ في حفرة النار قالب عجل فانصاغت عجلاً مجوفاً فخار بدخول الريح في مجار منه أشباه العروق . وقيل : نفخ فيه تراباً من موضع قوائم فرس جبريل عليه السلام يوم الغرق وهو فرس حياة فحيي فخار ومالت طباهم إلى الذهب فعبدوه { فَقَذَفْنَاهَا } في نار السامري التي أوقدها في الحفرة وأمرنا أن نطرح فيها الحلي { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامرى } ما معه من الحلي في النار أو ما معه من التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام .
{ فَأَخْرَجَ لَهُمْ } السامري من الحفرة { عِجْلاً } خلقه الله تعالى من الحلي التي سبكتها النار ابتلاء { جَسَداً } مجسداً { لَّهُ خُوَارٌ } صوت وكان يخور كما تخور العجاجيل { فَقَالُواْ } أي السامري وأتباعه { هذا إلهكم وإله موسى } فأجاب عامتهم إلا اثني عشر ألفاً { فَنَسِىَ } أي فنسي موسى ربه هنا وذهب يطلبه عند الطور ، أو هو ابتداء كلام من الله تعالى أي نسي السامري ربه وترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر ، أو نسي السامري الاستدلال على أن العجل لا يكون إلهاً بدليل قوله { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } أي أنه لا يرجع ف { أن } مخففة من الثقيلة { إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي لا يجيبهم { وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } أي هو عاجز عن الخطاب والضر والنفع فكيف تتخذونه إلهاً وقيل : إنه ما خار إلا مرة { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ } لمن عبدوا العجل { هارون مِن قَبْلُ } من قبل رجوع موسى إليهم { ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ } ابتليتم بالعجل فلا تعبدوه { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن } لا العجل { فاتبعونى } كونوا على ديني الذي هو الحق { وَأَطِيعُواْ أَمْرِى } في ترك عبادة العجل { قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين } أي لن نزال مقيمين على العجل وعبادته { حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } فننظره هل يعبده كما عبدناه وهل صدق السامري أم لا .(2/303)
فلما رجع موسى { قَالَ يَا هارون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ } بعبادة العجل .
{ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ } بالياء في الوصل والوقف : مكي ، وافقه أبو عمرو ونافع في الوصل ، وغيرهم بلا ياء أي ما دعاك إلى ألا تتبعني لوجود التعلق بين الصارف عن فعل الشي وبين الداعي إلى تركه . وقيل : «لا» مزيدة والمعنى أي شيء منعك أن تتبعني حين لم يقبلوا قولك وتلحق بي وتخبرني؟ أو ما منعك أن تتبعني في الغضب لله ، وهلا قاتلت من كفر بمن آمن ومالك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهداً؟ { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } أي الذي أمرتك به من القيام بمصالحهم . ثم أخذ بشعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضباً وإنكاراً عليه لأن الغيرة في الله ملكته { قَالَ يَبْنَؤُمَّ } وبخفض الميم : شامي وكوفي غير حفص ، وكان لأبيه وأمه عند الجمهور ولكنه ذكر الأم استعطافاً وترفيقاً { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى } ثم ذكر عذره فقال { إِنّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ } إن قاتلت بعضهم ببعض { فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ } أو خفت أن تقول إن فارقتهم واتبعتك ولحق بي فريق وتبع السامري فريق : { فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ } { وَلَمْ تَرْقُبْ } ولم تحفظ { قَوْلِي } اخلفني في قومي وأصلح . وفيه دليل على جواز الاجتهاد .
ثم أقبل موسى على السامري منكراً عليه حيث { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ } ما أمرك الذي تخاطب عليه؟ { ياسامري قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } وبالتاء : حمزة وعلي ، وقال الزجاج : بصر علم وأبصر نظر أي علمت ما لم يعلمه بنو اسرائيل . قال موسى : وما ذاك؟ قال : رأيت جبريل على فرس الحياة فألقي في نفسي أن أقبض من أثره فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ولحم ودم { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً } القبضة المرة من القبض وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر ل «ضرب» الأمير . وقريء { فقبصت قبضة } فالضاد بجميع الكف والصاد بأطراف الأصابع { مِّنْ أَثَرِ الرسول } أي من أثر فرس الرسول وقريء بها { فَنَبَذْتُهَا } فطرحتها في جوف العجل { وكذلك سَوَّلَتْ } زينت { لِى نَفْسِى } أن أفعله ففعلته اتباعاً لهواي وهو اعتراف بالخطأ واعتذار .(2/304)
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
{ قَالَ } له موسى { فاذهب } من بيننا طريداً { فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة } ما عشت { أَن تَقُولَ } لمن أراد مخالطتك جاهلاً بحالك { لاَ مِسَاسَ } أي لا يمسني أحد ولا أمسه فمنع من مخالطة الناس منعاً كلياً وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ، وإذا اتفق أن يماس أحداً حم الماس والممسوس . وكان يهيم في البرية يصيح لا مساس ويقال : إن ذلك موجود في أولاده إلى الآن . وقيل : أراد موسى عليه السلام أن يقتله فمنعه الله تعالى منه لسخائه { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ } أي لن يخلفك الله موعده الذي وعدك على الشرك والفساد في الأرض ينجزه لك في الآخرة بعدما عاقبك بذاك في الدنيا { لَّن تُخْلَفَهُ } مكي وأبو عمر وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً { وانظر إلى إلهك الذى ظَلْتَ عَلَيْهِ } وأصله ظللت فحذف اللام الأولى تخفيفاً { عَاكِفاً } مقيماً { لَّنُحَرّقَنَّهُ } بالنار { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ } لنذرينه { فِى اليم نَسْفاً } فحرقه وذراه في البحر فشرب بعضهم من مائة حباً له فظهرت على شفاههم صفرة الذهب . { إِنَّمَا إلهكم الله الذى لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْء عِلْماً } تمييز أي وسع علمه كل شيء .
ومحل الكاف في { كذلك } نصب أي مثل ما اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون { نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ } من أخبار الأمم الماضية تكثيراً لبيناتك وزيادة في معجزاتك { وَقَدْ آتيناك } أي أعطيناك { مّن لَّدُنَّا } من عندنا { ذِكْراً } قرآناً فهو ذكر عظيم وقرآن كريم فيه النجاة لمن أقبل عليه ، وهو مشتمل على الأقاصيص والأخبار الحقيقة بالتفكر والاعتبار { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ } عن هذا الذكر وهو القرآن ولم يؤمن به { فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً } عقوبة ثقيلة سماها وزراً تشبيهاً في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الثقيل الذي ينقض ظهره ويلقى عليه بهره ، أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم { خالدين } حال من الضمير في { يَحْمِلُ } وإنما جمع على المعنى ووحد في { فَإِنَّهُ } حملاً على لفظ من { فِيهِ } في الوزر أي في جزاء الوزر وهو العذاب { وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً } ساء في حكم بئس وفيه مبهم يفسره { حِمْلاً } وهو تمييز واللام في { لَهُمْ } للبيان كما في { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] والمخصوص بالذم محذوف لدلالة الوزر السابق عليه تقديره ساء الحمل حملاً وزرهم .
{ يَوْمَ يُنفَخُ } بدل من { يَوْمُ القيامة } ، { ننفخ } أبو عمرو { فِى الصور } القرن أو هو جمع صورة أي ننفخ الأرواح فيها دليله قراءة قتادة الصور بفتح الوّاو جمع صورة { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } حال أي عمياً كما قال(2/305)
{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا } [ الإسراء : 97 ] وهذا لأن حدقة من يذهب نور بصره تزرق { يتخافتون } يتسارون { بَيْنَهُمْ } أي يقول بعضهم لبعض سراً لهول ذلك اليوم { إِن لَّبِثْتُمْ } ما لبثتم في الدنيا { إِلاَّ عَشْراً } أي عشر ليال يستقصرون مدة لبثهم في القبور أو في الدنيا لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر ، لأن أيام السرور قصار ، أو لأنها ذهبت عنهم والذاهب وإن طالت مدته قصير بالانتهاء ، أو لاستطالتهم الآخرة لأنها أبداً يستقصر إليها عمر الدنيا ويتقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة ، وقد رجح الله قول من يكون أشد تقالاً منهم بقوله { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أعد لهم قولاً { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } وهو كقوله { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين } [ المؤمنون : 113 ] .
{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال } سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ما يصنع بالجبال يوم القيامة؟ وقيل : لم يسئل وتقديره إن سألوك { فَقُلْ } ولذا قرن بالفاء بخلاف سائر السؤالات مثل قوله { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى } [ البقرة : 222 ] وقوله { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إصلاح لهم خير } [ البقرة : 220 ] { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } [ البقرة : 219 ] { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي } [ الأعراف : 187 ] { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح } [ الإسراء : 85 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ } [ الكهف : 83 ] لأنها سؤالات تقدمت فورد جوابها ولم يكن فيها معنى الشرط فلم يذكر الفاء .
{ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً } أي يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها كما يذرى الطعام . وقال الخليل : يقلعها { فَيَذَرُهَا } فيذر مقارها أو يجعل الضمير للأرض للعلم بها كقوله { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا } [ فاطر : 45 ] { قَاعاً صَفْصَفاً } مستوية ملساء { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً } انخفاضاً { وَلا أَمْتاً } ارتفاعاً والعوج بالكسر إن كان في المعاني كما أن المفتوح في الأعيان والأرض عين ، ولكن لما استوت الأرض استواء لا يمكن أن يوجد فيها اعوجاج بوجه ما وإن دقت الحيلة ولطفت جرت مجرى المعاني { يَوْمَئِذٍ } أضاف اليوم إلى وقت نسف الجبال أي يوم إذ نسفت وجاز أن يكون بدلاً بعد بدل من يوم القيامة { يَتَّبِعُونَ الداعى } إلى المحشر أي صوت الداعي وهو إسرافيل حين ينادي على صخرة بيت المقدس : أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلمي إلى عرض الرحمن فيقبلون من كل أوب إلى صوبه لا يعدلون عنه { لاَ عِوَجَ لَهُ } أي لا يعوج له مدعو بل يستوون إليه من غير انحراف متبعين لصوته { وَخَشَعَتِ } وسكنت { الأصوات للرحمن } هيبة وإجلالاً { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } صوتاً خفيفاً لتحريك الشفاه . وقيل : هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت أي لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر .(2/306)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
{ يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } محل من رفع على البدل من { الشفاعة } بتقدير حذف المضاف أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن أي أذن للشافع في الشفاعة { وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً } أي رضي قولاً لأجله بأن يكون المشفوع له مسلماً أو نصب على أنه مفعول { تَنفَعُ } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي يعلم ما تقدمهم من الأحوال وما يستقبلونه { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } أي بما أحاط به علم الله فيرجع الضمير إلى «ما» أو يرجع الضمير إلى الله لأنه تعالى ليس بمحاط به { وَعَنَتِ } خضعت وذلت ومنه قيل للأسير : عانٍ { الوجوه } أي أصحابها { لِلْحَىّ } الذي لا يموت وكل حياة يتعقبها الموت فهي كأن لم تكن { القيوم } الدائم القائم على كل نفس بما كسبت أو القائم بتدبير الخلق { وَقَدْ خَابَ } يئس من رحمة الله { مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } من حمل إلى موقف القيامة شركاً لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ولا ظلم أشد من جعل المخلوق شريك من خلقه { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } الصالحات الطاعات { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } مصدق بما جاء به محمد عليه السلام ، وفيه دليل أنه يستحق اسم الإيمان بدون الأعمال الصالحة وأن الإيمان شرط قبولها { فَلاَ يَخَافُ } أي فهو لا يخاف { فَلاَ يخف } على النهي : مكي { ظُلْماً } أن يزداد في سيئاته { وَلاَ هَضْماً } ولا ينقص من حسناته وأصل الهضم النقص والكسر .(2/307)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)
{ وكذلك } عطف على كذلك نقص أي ومثل ذلك الإنزال { أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا } بلسان العرب { وَصَرَّفْنَا } كررنا { فِيهِ مِنَ الوعيد لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يجتنبون الشرك { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ } الوعيد أو القرآن { ذِكْراً } عظة أو شرفاً بإيمانهم به وقيل «أو» بمعنى الواو .
{ فتعالى الله } ارتفع عن فنون الظنون وأوهام الأفهام وتنزه عن مضاهاة الأنام ومشابهة الأجسام { الملك } الذي يحتاج إليه الملوك { الحق } المحق في الألوهية . ولما ذكر القرآن وإنزاله قال استطراداً : وإذا لقنك جبريل ما يوحى إليك من القرآن فتأن عليك ريثما يسمعك ويفهمك { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان } بقراءته { مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } من قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ { وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً } بالقرآن ومعانيه . وقيل : ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم .
{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءادَمَ } أي أوحينا إليه أن لا يأكل من الشجرة . يقال في أوامر الملوك ووصاياهم تقدم الملك إلى فلان وأوصى إليه وعزم عليه وعهد إليه ، فعطف قصة آدم على { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد } والمعنى وأقسم قسماً لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة { مِن قَبْلُ } من قبل وجودهم فخالف إلى ما نهي عنه كما أنهم يخالفون يعني أن أساس أمر بني آدم على ذلك وعرقهم راسخ فيه { فَنَسِىَ } العهد أي النهي والأنبياء عليهم السلام يؤاخذون بالنسيان الذي لو تكلفوا لحفظوه { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } قصداً إلى الخلاف لأمره أو لم يكن آدم من أولي العزم . والوجود بمعنى العلم ومفعولاه { لَهُ عَزْماً } أو بمعنى نقيض العدم أي وعد منا له عزما و { لَهُ } متعلق ب { نَجِدْ } { وَإِذْ قُلْنَا } منصوب ب «اذكر» { للملائكة اسجدوا لآِدَمَ } قيل : هو السجود اللغوي الذي هو الخضوع والتذلل أو كان آدم كالقبلة لضرب تعظيم له فيه { فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إبليس كان ملكاً من جنس المستثنى منهم . وقال الحسن : الملائكة لباب الخليقة من الأرواح ولا يتناسلون وإبليس من نار السموم . وإنما صح استثناؤه منهم لأنه كان يصحبهم ويعبد الله معهم { أبى } جملة مستأنفة كأنه جواب لمن قال لم لم يسجد ، والوجه أن لا يقدر له مفعول وهو السجود المدلول عليه بقوله { فَسَجَدُواْ } وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف .(2/308)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
{ فَقُلْنَا يائادم أن هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } حيث لم يسجد لك ولم ير فضلك { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة } فلا يكونن سبباً لإخراجكما { فتشقى } فتتعب في طلب القوت ولم يقل «فتشقيا» مراعاة لرؤوس الآي ، أو دخلت تبعاً ، أو لأن الرجل هو الكافل لنفقة المرأة . وروي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا } في الجنة { وَلاَ تعرى } عن الملابس لأنها معدة أبداً فيها { وَأَنَّكَ } بالكسر : نافع وأبو بكر عطفاً على «إن» الأولى ، وغيرهما بالفتح عطفاً على { أَلاَّ تَجُوعَ } ومحله نصب ب «أن» وجاز للفصل كما تقول «إن في علمي أنك جالس» { لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا } لا تعطش لوجود الأشربة فيها { وَلاَ تضحى } لا يصيبك حر الشمس إذ ليس فيها شمس فأهلها في ظل ممدود .
{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان } أي أنهى إليه الوسوسة كأسر إليه { قَالَ يَاءادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد } أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها خلد بزعمه ولا يموت { وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } لا يفنى { فَأَكَلاَ } أي آدم وحواء { مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا } عوراتهما { سَوْءتُهُمَا } { وَطَفِقَا } طفق يفعل كذا مثل جعل يفعل وهو ك «كاد» في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً إلا أنه للشروع في أول الأمر وكاد للدنو منه { يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } أي يلزقان الورق بسواتهما للتستر وهو ورق التين { وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى } ضل عن الرأي . وعن ابن عيسى خاب ، والحاصل أن العصيان وقوع الفعل على خلاف الأمر والنهي ، وقد يكون عمداً فيكون ذنباً وقد لا يكون عمداً فيكون زلة . ولما وصف فعله بالعصيان خرج فعله من أن يكون رشداً فكان غياً ، لأن الغي خلاف الرشد . وفي التصريح بقوله { وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى } والعدول عن قوله و «زل آدم» مزجرة بليغة وموعظة كافة للمكلفين كأنه قيل لهم : انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله زلته بهذه الغلظة فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من الصغائر فضلاً عن الكبائر .(2/309)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
{ ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ } قربه إليه اصطفاه . وقريء به وأصل الكلمة الجمع يقال جبى إلى كذا فاجتبيته { فَتَابَ عَلَيْهِ } قبل توبته { وهدى } وهداه إلى الاعتذار والاستغفار .
{ قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً } يعني آدم وحواء { بَعْضُكُمْ } يا ذرية آدم { لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } بالتحاسد في الدنيا والاختلاف في الدين { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى } كتاب وشريعة { فَمَنِ اتبع هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ } في الدنيا { وَلاَ يشقى } في العقبى . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة يعني أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين ، فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى } عن القرآن { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } ضيقاً وهو مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث . عن ابن جبير : يسلبه القناعة حتى لا يشبع فمع الدين التسليم والقناعة والتوكل فتكون حياته طيبة ، ومع الإعراض الحرص والشح فعيشه ضنك وحاله مظلمة كما قال بعض المتصوفة : لا يعرض أحدكم عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } عن الحجة . عن ابن عباس : أعمى البصر وهو كقوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا } [ الإسراء : 97 ] وهو الوجه { قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } في الدنيا(2/310)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
{ قَالَ كذلك } أي مثل ذلك فعلت أنت . ثم فسر فقال { أَتَتْكَ اياتنا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى } أي أتتك آياتنا واضحة فلم تنظر إليها بعين المعتبر وتركتها وعميت عنها فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك .
{ وكذلك نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بئايات رَبّهِ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى } لما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين : المعيشة الضنك في الدنيا وحشره أعمى في العقبى ختم آيات الوعيد بقوله { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } أي للحشر على العمى الذي يزول أبداً أشد من ضيق العيش المنقضي { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } أي الله بدليل قراءة زيد عن يعقوب بالنون { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون يَمْشُونَ } حال من الضمير المجرور في { لهم } { فِى مساكنهم } يريد أن قريشاً يمشون في مساكن عاد وثمود وقوم لوط ويعاينون آثار هلاكهم { إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لأِوْلِى النهى } لذوي العقول إذا تفكروا علموا أن استئصالهم لكفرهم فلا يفعلون مثل ما فعلوا { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } أي الحكم بتأخير العذاب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم { لَكَانَ لِزَاماً } لازماً فاللزام مصدر لزم فوصف به { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } القيامة وهو معطوف على كلمة ، والمعنى ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم وأجل مسمى وهو القيامة لكان العذاب لازماً لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة .
{ فاصبر على مَا يَقُولُونَ } فيك { وَسَبّحْ } وصل { بِحَمْدِ رَبّكَ } في موضع الحال وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } يعني صلاة الفجر { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } يعني الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها { ومن ءانآي الليل فسبّح وأطراف النهار } أي وتعهد أناء الليل أي ساعاته وأطراف النهار مختصاً لها بصلاتك . وقد تناول التسبيح في آناء الليل وصلاة العتمة ، وفي أطراف النهار صلاة المغرب ، وصلاة الفجر على التكرار إرادة الاختصاص كما اختصت في قوله { والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] عند البعض . وإنما جمع وأطراف النهار وهما طرفان لأمن الإلباس وهو عطف على قبل { لَعَلَّكَ ترضى } لعل للمخاطب أي اذكر الله في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك ويسر قلبك . { وترضى } علي وأبو بكر أي يرضيك ربك .(2/311)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } أي نظر عينيك ومد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه وإعجاباً به ، وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه وذلك أن يباده الشيء بالنظر ثم يغض الطرف . ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في ملابسهم ومراكبهم حتى قال الحسن : لا تنظروا إلى دقدقة هماليج الفسقة ، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب . وهذا لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة فالناظر إليها محصل لغرضهم ومغر لهم على اتخاذها { إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ } أصنافاً من الكفرة ويجوز أن ينتصب حالاً من هاء الضمير والفعل واقع على { منهم } كأنه قال إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم وناساً منهم { زَهْرَةَ الحياة الدنيا } زينتها وبهجتها وانتصب على الذم أو على إبداله من محل به أو على إبداله من أزواجا على تقدير ذوي زهرة { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب لوجود الكفران منهم أو لنعذبهم في الآخرة بسببه { وَرِزْقُ رَبّكَ } ثوابه وهو الجنة أو الحلال الكافي { خَيْرٌ وأبقى } مما رزقوا { وَأْمُرْ أَهْلَكَ } أمتك أو أهل بيتك { بالصلاة واصطبر } أنت دوام { عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً } أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك { نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } وإياهم فلا تهتم لأمر الرزق وفرغ بالك لأمر الآخرة لأن من كان في عمل الله كان الله في عمله . وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ : { ولا تمدن عينيك } . الآية ثم ينادي الصلاة ، الصلاة رحمكم الله . وكان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا بهذا أمر الله ورسوله . وعن مالك بن دينار مثله . وفي بعض المسانيد أنه عليه السلام كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية { والعاقبة للتقوى } أي وحسن العاقبة لأهل التقوى بحذف المضافين .(2/312)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
{ وَقَالُواْ } أي الكافرون { لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مّن رَّبّهِ } هلا يأتينا محمد بآية من ربه تدل على صحة نبوته { أَوَ لَمْ تَأْتِهِم } { أو لم تأتهم } مدني وحفص وبصري { بَيّنَةُ مَا فِى الصحف الأولى } أي الكتب المتقدمة يعني أنهم اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوة فقيل لهم : أو لم تأتكم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن من قبل أن القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته لأنه معجزة وتلك ليست بمعجزات فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها { وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ } من قبل الرسول أو القرآن { لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا } هلا { أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ } بالنصب على جواب الاستفهام بالفاء { بآياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ } بنزول العذاب { ونخزى } في العقبى { قُلْ كُلٌّ } أي كل واحد منا ومنكم { مُّتَرَبّصٌ } منتظر للعاقبة وبما يؤول إليه أمرنا وأمركم { فَتَرَبَّصُواْ } إذا جاءت القيامة { مِنْ أصحاب } مبتدأ وخبر ومحلهما نصب { الصراط السوي } المستقيم { وَمَنِ اهتدى } إلى النعيم المقيم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يقرأ أهل الجنة إلا سورة طه ويس » والله أعلم بالصواب .(2/313)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
{ اقترب } دنا { لِلنَّاسِ } اللام صلة لاقتراب . عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالناس المشركون لأن ما يتلوه من صفات المشركين { حِسَابَهُمْ } وقت محاسبة الله إياهم ومجازاته على أعمالهم يعني يوم القيامة ، وإنما وصفه بالاقتراب لقلة ما بقي بالإضافة إلى ما مضى ولأن كل آتٍ قريب { وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ } عن حسابهم وعما يفعل بهم ثم { مُّعْرِضُونَ } عن التأهب لذلك اليوم فالاقتراب عام والغفلة والإعراض يتفاوتان بتفاوت المكلفين ، فرب غافل عن حسابه لاستغراقه في دنياه وإعراضه عن مولاه ، ورب غافل عن حسابه لاستهلاكه في مولاه وإعراضه عن دنياه فهو لا يفيق إلا برؤية المولى ، والأول إنما يفيق في عسكر الموتى فالواجب عليك أن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب وتتنبه للعرض قبل أن تنبه ، وتعرض عن الغافلين وتشتغل بذكر خالق الخلق أجمعين لتفوز بلقاء رب العالمين { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ } شيء من القرآن { مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ } في التنزيل إتيانه ، مبتدأة تلاوته ، قريب عهده باستماعهم ، والمراد به الحروف المنظومة . ولا خلاف في حدوثها { إِلاَّ استمعوه } من النبي عليه السلام أو غيره ممن يتلوه { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } يستهزئون به .(2/314)
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
{ لاَهِيَةً } حال من ضمير يلعبون أو { وهم يلعبون } و { لاهية } حالان من الضمير في استمعوه . ومن قرأ { لاَهِيَةً } بالرفع يكون خبراً بعد خبر لقوله : { وهم } وارتفعت { قُلُوبِهِمْ } ب { لاهية } وهي من لها عنه إذا ذهل وغفل ، والمعنى قلوبهم غافلة عما يراد بها ، ومنها قال أبو بكر الوارق : القلب اللاهي المشغول بزينة الدنيا وزهرتها الغافل عن الآخرة وأهوالها { وَأَسَرُّواْ } وبالغوا في إخفاء { النجوى } وهي اسم من التناجي . ثم أبدل { الذين ظَلَمُواْ } من واو { وأسروا } إيذاناً بأنهم الموسومون بالظلم فيما أسروا به ، أو جاء على لغة من قال «أكلوني البراغيث» ، أو هو مجرور المحل لكونه صفة أو بدلاً من الناس ، أو هو منصوب المحل على الذم ، أو هو مبتدأ خبره { أسروا النجوى } فقدم عليه أي والذين ظلموا أسروا النجوى { هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } هذا الكلام كله في محل النصب بدل من النجوى أي وأسروا هذا الحديث ويجوز أن يتعلق ب «قالوا» مضمراً والمعنى أنهم اعتقدوا أن الرسول لا يكون إلا ملكاً وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة فهو ساحر ومعجزته سحر ، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار : أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر { قَالَ رَبّى } حمزة وعلي وحفص أي قال محمد وغيرهم { قل ربي } أي قل يا محمد للذين أسروا النجوى { يَعْلَمُ القول فِى السماء والأرض } أي يعلم قول كل قائل هو في السماء أو الأرض سراً كان أو جهراً { وَهُوَ السميع } لأقوالهم { العليم } بما في ضمائرهم .
{ بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام رآها في نومه فتوهمها وحياً من الله إليه ، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده ، ثم إلى أنه قول شاعر وهكذا الباطل لجلج والمبطل رجاع غير ثابت على قول واحد ، ثم قالوا إن كان صادقاً في دعواه وليس الأمر كما يظن { فليأتنا بآية } بمعجزة { كَمَا أُرْسِلَ الأولون } كما أرسل من قبله باليد البيضاء والعصا وإبراء الأكمه وإحياء الموتى ، وصحة التشبيه في قوله كما { أرسل الأولون } من حيث إنه في معنى كما أتى الأولون بالآيات لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات ، ألا ترى أنه لا فرق بين قولك «أرسل محمد» وبين قولك «أتى بالمعجزة» فرد الله عليهم قولهم بقوله .(2/315)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
{ مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ } من أهل قرية { أهلكناها } صفة ل { قرية } عند مجيء الآيات المقترحة لأنهم طلبوها تعنتاً { أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } أي أولئك لم يؤمنوا بالآيات لما أتتهم أفيؤمن هؤلاء المقترحون لو أتيناهم بما اقترحوا مع أنهم أعني منهم ، والمعنى أن أهل القرى اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا فأهلكهم الله فلو أعطينا هؤلاء ما يقترحون لنكثوا أيضاً .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً } هذا جواب قولهم هل هذا إلا بشر مثلكم { نُّوحِى إِلَيْهِمْ } { نُوحِى } حفص { فاسألوا أَهْلَ الذكر } العلماء بالكتابين فإنهم يعرفون أن الرسل الموحى إليهم كانوا بشراً ولم يكونوا ملائكة وكان أهل مكة يعتمدون على قولهم { إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك . ثم بين أنه كمن تقدمه من الأنبياء بقوله { وَمَا جعلناهم جَسَداً } وحد الجسد لإرادة الجنس { لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } صفة ل { جسداً } يعني وما جعلنا الأنبياء قبله ذوي جسد غير طاعمين { وَمَا كَانُواْ خالدين } كأنهم قالوا هلا كان ملكاً لا يطعم ويخلد ، إما معتقدين أن الملائكة لا يموتون أو مسمين بقاءهم الممتد وحياتهم المتطاولة خلودا { ثُمَّ صدقناهم الوعد } بإنجائهم والأصل في الوعد مثل { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] أي من قومه { فأنجيناهم } مما حل بقومهم { وَمَن نَّشَاء } هم المؤمنون { وَأَهْلَكْنَا المسرفين } المجاوزين الحد بالكفر ودل الإخبار بإهلاك المسرفين على أن من نشاء غيرهم .(2/316)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
{ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ } يا معشر قريش { كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } شرفكم إن عملتم به أو لأنه بلسانكم أو فيه موعظتكم أو فيه ذكر دينكم ودنياكم والجملة أي فيه ذكركم صفة ل { كتاباً } { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ما فضلتكم به على غيركم فتؤمنوا { وَكَمْ } نصب بقوله { قَصَمْنَا } أي أهلكنا { مِن قَرْيَةٍ } أي أهلها بدليل قوله { كَانَتْ ظالمة } كافرة وهي واردة عن غضب شديد وسخط عظيم لأن القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم فإنه كسر بلا إبانة { وَأَنشَأْنَا } خلقنا { بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ } فسكنوا مساكنهم .
{ فَلَمَّا أَحَسُّواْ } أي المهلكون { بَأْسَنَا } عذابنا أي علموا علم حس ومشاهدة { إِذَا هُمْ مّنْهَا } من القرية و { إذا } للمفاجأة و { هم } مبتدأ والخبر { يَرْكُضُونَ } يهربون مسرعين ، والركض ضرب الدابة بالرجل فيجوز أن يركبوا دوابهم يركضونها هاربين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ، أو شبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم فقيل لهم { لاَ تَرْكُضُواْ } والقائل بعض الملائكة { وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ } نعمتم فيه من الدنيا ولين العيش . قال الخليل : المترف الموسع عليه عيشه القليل فيه همه { ومساكنكم لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } أي يقال لهم استهزاء بهم : ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم حتى يسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقولوا لكم بم تأمرون وكيف نأتي ونذر كعادة المنعمين المخدمين ، أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب ، أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع ويستمطرون سحاب أكفكم ، أو قال بعضهم لبعض : لا تركضوا وارجعوا إلى منازلكم وأموالكم لعلكم تسألون مالاً وخراجاً فلا تقتلون ، فنودي من السماء يا لثارات الأنبياء وأخذتهم السيوف فثم(2/317)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
{ قَالُواْ يَا وَيْلَنَآ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين } اعترافهم بذلك حين لا ينفعهم الاعتراف .
{ فَمَا زَالَت تِلْكَ } هي إشارة إلى يا ويلنا { دَعْوَاهُمْ } دعاءهم و { تلك } مرفوع على أنه اسم { زالت } و { دعواهم } الخبر ويجوز العكس { حتى جعلناهم حَصِيداً } مثل الحصيد أي الزرع المحصود ولم يجمع كما لم يجمع المقدر { خامدين } ميتين خمود النار و { حصيدا خامدين } مفعول ثان ل «جعل» أي جعلناهم جامعين لمماثلة الحصد والخمود كقولك «جعلته حلواً حامضاً» أي جعلته جامعاً للطعمين .
{ وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } اللعب فعل يروق أوله ولا ثبات له ، ولاعبين حال من فاعل { خلقنا } والمعنى وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلق للهو واللعب ، وإنما سويناها ليستدل بها على قدرة مدبرها ولنجازي المحسن والمسيء على ما تقتضيه حكمتنا ، ثم نزه ذاته عن سمات الحدوث بقوله { لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً } أي ولداً أو امرأة كأنه رد على من قال : عيسى ابنه ومريم صاحبته { لاتخذناه مِن لَّدُنَّا } من الولدان أو الحور { إِن كُنَّا فاعلين } أي إن كنا ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله لاستحالته في حقنا . وقيل : هو نفي كقوله { وإن أدري } [ الأنبياء : 109 ] أي ما كنا فاعلين(2/318)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
{ بَلْ نَقْذِفُ } «بل» إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه منه لذاته كأنه قال سبحاننا أن نتخذ اللهو بل من سنتنا أن نقذف أي نرمي ونسلط { بالحق } بالقرآن { عَلَى الباطل } الشيطان أو بالإسلام على الشرك أو بالجد على اللعب { فَيَدْمَغُهُ } فيكسره ويدحض الحق الباطل ، وهذه استعارة لطيفة لأن أصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام ، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل والدمغ لإذهاب الباطل فالمستعار منه حسي والمستعار له عقلي فكأنه قيل : بل نورد الحق الشبيه بالجسم القوي على الباطل الشبيه بالجسم الضعيف فيبطله إبطال الجسم القوي الضعيف { فَإِذَا هُوَ } أي الباطل { زَاهِقٌ } هالك ذاهب { وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ } الله به من الولد ونحوه .
{ وَلَهُ مَن فِى السماوات والأرض } خلقاً وملكاً فأنى يكون شيء منه ولداً له وبينهما تنافٍ ويوقف على { الأرض } لأن { ومن عنده } منزلة ومكانة لا منزلاً ولا مكاناً يعني الملائكة مبتدأ خبره { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } لا يتعظمون { عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } ولا يعيون { يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } حال من فاعل { يسبحون } أي تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم لا تتخلله فترة بفراغ أو بشغل آخر فتسبيحهم جارٍ مجرى التنفس منا . ثم أضرب عن المشركين منكراً عليهم وموبخاً فجاء ب «أم» التي بمعنى «بل» والهمزة فقال { أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ } يحيون الموتى ومن الأرض صفة ل { الهة } لأن الهتهم كانت متخذة من جواهر الأرض كالذهب والفضة والحجر أو تعبد في الأرض فنسبت إليها كقولك «فلان من المدينة» أي مدني ، أو متعلق ب { اتخذوا } ويكون فيه بيان غاية الاتخاذ ، وفي قوله { هم ينشرون } زيادة توبيخ وإن لم يدعوا أن أصنامهم تحيي الموتى ، وكيف يدعون ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات لأنه يلزم من دعوى الألوهية لها دعوى الإنشار ، لأن العاجز عنه لا يصح أن يكون إلهاً إذ لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور والإنشار من جملة المقدورات . وقرأ الحسن { ينشرون } بفتح الياء وهما لغتان أنشر الله الموتى ونشرها أي أحياها .(2/319)
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله } أي غير الله وصفت الهة ب «إلا» كما وصفت ب «غير» لو قيل الهة غير الله ، ولا يجوز رفعه على البدل لأن «لو» بمنزلة «إن» في أن الكلام معه موجب والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب كقوله تعالى { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك } [ هود : 81 ] ولا يجوز نصبه استثناء لأن الجمع إذا كان منكراً لا يجوز أن يستثنى منه عند المحققين لأنه لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء ، والمعنى لو كان يدبر أمر السماوات والأرض آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما { لَفَسَدَتَا } لخربتا لوجود التمانع وقد قررناه في أصول الكلام .
ثم نزه ذاته فقال { فسبحان الله رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } من الولد والشريك .
{ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } لأنه المالك على الحقيقة ، ولو اعترض على السلطان بعض عبيده مع وجود التجانس وجواز الخطأ عليه وعدم الملك الحقيقي لاستقبح ذلك وعد سفهاً ، فمن هو مالك الملوك ورب الأرباب وفعله صواب كله أولى بأن لا يعترض عليه { وَهُمْ يُسْئَلُونَ } لأنهم مملوكون خطاؤون فما أخلقهم بأن يقال لهم لم فعلتم في كل شيء فعلوه . وقيل : وهم يسئلون يرجع إلى المسيح والملائكة أي هم مسئولون فكيف يكونون آلهة والألوهية تنافي الجنسية والمسئولية { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً } الإعادة لزيادة الإفادة فالأول للإنكار من حيث العقل ، والثاني من حيث النقل أي وصفتم الله تعالى بأن يكون له شريك فقيل لمحمد { قُلْ هَاتُواْ برهانكم } حجتكم على ذلك وذا عقلي وهو يأباه كما مر ، أو نقلي وهو الوحي وهو أيضاً يأباه فإنكم لا تجدون كتاباً من الكتب السماوية إلا وفيه توحيده وتنزيهه عن الأنداد { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ } يعني أمته { وَذِكْرُ مَن قَبْلِى } يعني أمم الأنبياء من قبلي وهو وارد في توحيد الله ونفي الشركاء عنه . { معي } حفص . فلما لم يمتنعوا عن كفرهم أضرب عنهم فقال { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق } أي القرآن وهو نصب ب { يعلمون } وقرىء { الحق } أي هو الحق { فَهُمُ } لأجل ذلك { مُّعْرِضُونَ } عن النظر فيما يجب عليهم .(2/320)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ } { إِلاَّ نُوحِى } كوفي غير أبي بكر وحماد { أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } وحدوني فهذه الآية مقررة لما سبقها من آي التوحيد { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً سُبْحَانَهُ } نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله فنزه ذاته عن ذلك ثم أخبر عنهم بأنهم عباد بقوله { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } أي بل هم عباد مكرمون مشرفون مقربون وليسوا بأولاد إذ العبودية تنافي الولادة { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول } أي بقولهم فأنيبت اللام مناب الإضافة ، والمعنى أنهم يتبعون قوله فلا يسبق قولهم قوله ولا يتقدمون قوله بقولهم { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } أي كما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضاً مبني على أمره لا يعملون عملاً لم يأمروا به { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي ما قدموا وأخروا من أعمالهم { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } أي لمن رضي الله عنه وقال لا إله إلا الله { وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } خائفون .(2/321)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
{ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ } من الملائكة { إِنّى إله مّن دُونِهِ } من دون الله { إني } مدني وأبو عمرو { فَذَلِكَ } مبتدأ أي فذلك القائل خبره { نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } وهو جواب الشرط { كذلك نَجْزِى الظالمين } الكافرين الذين وضعوا الإلهية في غير موضعها وهذا على سبيل الفرض والتمثيل لتحقق عصمتهم . وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والضحاك : قد { تحقق الوعيد في إبليس فإنه ادعى الإلهية لنفسه ودعا إلى طاعة نفسه وعبادته .
{ أَوَلَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ } { ألم ير } مكي { أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا } أي جماعة السماوات وجماعة الأرض فلذا لم يقل كن { رَتْقاً } بمعنى المفعول أي كانتا مرتوقتين وهو مصدر فلذا صلح أن يقع موقع مرتوقتين { ففتقناهما } فشققناهما ، والفتق الفصل بين الشيئين والرتق ضد الفتق . فإن قيل : متى رأوهما رتقاً حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلنا : إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة فقام مقام المرئي المشاهد ، ولأن الرؤية بمعنى العلم وتلاصق الأرض والسماء وتباينهما جائزان في العقل ، فالاختصاص بالتباين دون التلاصق لا بد له من مخصص وهو القديم جل جلاله . ثم قيل : إن السماء كانت لاصقة بالأرض لافضاء بينهما ففتقناهما أي فصلنا بينهما بالهواء . وقيل : كانت السماوات مرتتقة طبقة واحدة ففتقها الله تعالى وجعلها سبع سماوات ، وكذلك الأرض كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سبع أرضين . وقيل : كانت السماء رتقاً لا تمطر والأرض رتقاً لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات { وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَىّ } أي خلقنا من الماء كل حيوان كقوله { والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء } [ النور : 45 ] أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ]
{ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } يصدقون بما يشاهدون .
{ وَجَعَلْنَا فِى الأرض رَوَاسِىَ } جبالاً ثوابت من رسا إذا ثبت { أَن تَمِيدَ بِهِمْ } لئلا تضطرب بهم فحذف «لا» واللام ، وإنما جاز حذف «لا» لعدم الالتباس كما تزاد لذلك في { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً } أي طرقاً واسعة جمع فج وهو الطريق الواسع ونصب على الحال من { سُبُلاً } متقدمة ، فإن قلت : أي فرق بين قوله تعالى { لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 20 ] وبين هذه؟ قلت : الأول للإعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة ، والثاني لبيان أنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثم { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } ليهتدوا بها إلى البلاد المقصودة .(2/322)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
{ وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } في موضعه عن السقوط كما قال { وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] أو محفوظاً بالشهب عن الشياطين كما قال : { وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ } [ الحجر : 17 ] { وَهُمْ } أي الكفار { عَنْ ءاياتها } عن الأدلة التي فيها كالشمس والقمر والنجوم { مُّعْرِضُونَ } غير متفكرين فيها فيؤمنون .
{ وَهُوَ الذى خَلَقَ اليل } لتسكنوا فيه { والنهار } لتتصرفوا فيه { والشمس } لتكون سراج النهار { والقمر } ليكون سراج الليل { كُلٌّ } التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي كلهم والضمير للشمس والقمر والمراد بهما جنس الطوالع ، وجمع جمع العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة { فِى فَلَكٍ } عن ابن عباس رضي الله عنهما : الفلك السماء . والجمهور على أن الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم و { كل } مبتدأ خبره { يَسْبَحُونَ } يسيرون أي يدورون والجملة في محل النصب على الحال من الشمس والقمر { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد } البقاء الدائم { أفأين مِتَّ } بكسر الميم مدني وكوفي غير أبي بكر { فَهُمُ الخالدون } والفاء الأول لعطف جملة على جملة والثاني لجزاء الشرط ، كانوا يقدرون أنه سيموت فنفى الله عنه الشماتة بهذا أي قضي الله أن لا يخلد في الدنيا بشر أفإن مت أنت أيبقى هؤلاء
.(2/323)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم } ونختبركم سمي ابتلاء وإن كان عالماً بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار { بالشر } بالفقر والضر { والخير } الغني والنفع { فِتْنَةً } مصدر مؤكد ل { نبلوكم } من غير لفظه { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر . وعن ابن ذكوان { ترجعون } .
{ وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ } ما يتخذونك { إِلاَّ هُزُواً } مفعول ثان ل { يتخذونك } نزلت في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال : هذا نبي بني عبد مناف { أهذا الذى يَذْكُرُ } يعيب { ءالِهَتَكُمْ } والذكر يكون بخير وبخلافه فإن كان الذاكر صديقاً فهو ثناء وإن كان عدواً فذم { وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن } أي بذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية { هُمْ كافرون } لا يصدقون به أصلاً فهم أحق أن يتخذوا هزواً منك فإنك محق وهم مبطلون . وقيل : بذكر الرحمن أي بما أنزل عليك من القرآن هم كافرون جاحدون ، والجملة في موضع الحال أي يتخذونك هزواً وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله تعالى ، وكرر { هُمْ } للتأكيد ، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر فأعيد المبتدأ { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } فسر بالجنس . وقيل : نزلت حين كان النضر بن الحارث يستعجل بالعذاب . والعجل والعجلة مصدران ، وهو تقديم الشيء على وقته ، والظاهر أن المراد الجنس وأنه ركب فيه العجلة فكأنه خلق من العجل ولأنه يكثر منه ، والعرب تقول لمن يكثر منه الكرم «خلق من الكرم» فقدم أولاً ذم الإنسان على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها ثم منعه وزجره كأنه قال : ليس ببدع منه أن يستعجل فإنه مجبول على ذلك وهو طبعه وسجيته فقد ركب فيه . وقيل : العجل الطين بلغه حمير قال شاعرهم
والنخل ينبت بين الماء والعجل ... وإنما منع عن الاستعجال وهو مطبوع عليه كما أمره بقمع الشهوة وقد ركبها فيه ، لأنه أعطاه القوة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة و { من عجل } حال أي عجلاً { سأوريكم آياتي } نقماتي { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } بالإتيان بها وهو بالياء عند يعقوب وافقه سهل وعياش في الوصل .(2/324)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
{ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } إتيان العذاب أو القيامة { إِن كُنتُمْ صادقين } قيل : هو أحد وجهي استعجالهم { لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } جواب «لو» محذوف و { حين } مفعول به ل { يعلم } أي لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم { متى هذا الوعد } وهو وقت تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم ولا يجدون ناصراً ينصرهم لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم { بَلْ تَأْتِيهِم } الساعة { بَغْتَةً } فجأة { فَتَبْهَتُهُمْ } فتحيرهم أي لا يكفونها بل تفجأهم فتغلبهم { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } فلا يقدرون على دفعها { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } يمهلون { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ } فحل ونزل { بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ } جزاء { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء أسوة وأن ما يفعلونه به يحيق بهم كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا .(2/325)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
{ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم } يحفظكم { باليل والنهار مِنَ الرحمن } أي من عذابه إن أتاكم ليلاً أو نهاراً { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ } أي بل هم معرضون عن ذكره ولا يخطورنه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكاليء فصلحوا للسؤال عنه ، والمعنى أنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكاليء ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم .
ثم أضرب عن ذلك بقوله { أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا } لما في «أم» من معنى «بل» فقال : ألهم الهة تمنعهم من العذاب تتجاوز منعنا وحفظنا . ثم استأنف بقوله { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ } فبين أن ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره . ثم قال { بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءابَاءهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر } أي ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا ، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعاً لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وظنوا أنهم دائمون على ذلك وهو أمل كاذب { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } أي نقص أرض الكفر ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام ، وذكر { نَأْتِى } يشير بأن الله يجريه على أيدي المسلمين وإن عساكرهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها { أَفَهُمُ الغالبون } أفكفار مكة يغلبون بعد أن نقصنا من أطراف أرضهم أي ليس كذاك بل يغلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنصرنا .
{ قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحى } أخوفكم من العذاب القرآن { وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء } بفتح الياء والميم ورفع الصم ، { ولا تسمع الصم } شامي على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } يخوفون . واللام في { الصم } للمعهد وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين ، والأصل ولا يسمعون إذا ما ينذرون فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامهم وسدهم أسماعهم إذا ما أنذروا .(2/326)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
{ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ } دفعة يسيرة { مّنْ عَذَابِ رَبّكَ } صفة ل { نفحة } { لَيَقُولُنَّ ياويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين } أي ولئن مسهم من هذا الذي ينذرون به أدنى شيء لذلوا ودعوا بالويل على أنفسهم وأقروا أنهم ظلموا أنفسهم حين تصاموا وأعرضوا ، وقد بولغ حيث ذكر المس والنفحة لأن النفح يدل على القلة يقال نفحه بعطية : رضخه بها مع أن بناءها للمرة . وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات لأن النفح في معنى القلة والنزارة يقال : نفحته الدابة وهو رمح لين ، ونفحه بعطية رضخه والبناء للمرة .
{ وَنَضَعُ الموازين } جمع ميزان وهو ما يوزن به الشيء فتعرف كميته . وعن الحسن : هو ميزان له كفتان ولسان . وإنما جمع الموازين لتعظيم شأنها كما في قوله { يا أيها الرسل } [ المؤمنون : 51 ] والوزن لصحائف الأعمال في قول { القسط } وصفت الموازين بالقسط وهو العدل مبالغة كأنها في نفسها قسط ، أو على حذف المضاف أي ذوات القسط { لِيَوْمِ القيامة } لأهل يوم القيامة أي لأجلهم { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } من الظلم { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ } وإن كان الشيء مثقال حبة { مثقال } بالرفع : مدني وكذا في «لقمان» على «كان» التامة { مّنْ خَرْدَلٍ } صفة ل { حبة } { أَتَيْنَا بِهَا } أحضرناها . وأنت ضمير المثقال لإضافته إلى الحبة كقولهم «ذهبت بعض أصابعه» { وكفى بِنَا حاسبين } عالمين حافظين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : لأن من حفظ شيئاً حسبه وعلّه .
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً } قيل : هذه الثلاثة هي التوراة فهي فرقان بين الحق والباطل ، وضياء يستضاء به ويتوصل به إلى سبيل النجاة ، وذكر أي شرف أو وعظ وتنبيه أو ذكر ما يحتاج الناس إليه في مصالح دينهم . ودخلت الواو على الصفات كما في قوله { وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيّا } [ آل عمران : 39 ] وتقول «مررت بزيد الكريم والعالم والصالح» . ولما انتفع بذلك المتقون خصهم بقوله : { لّلْمُتَّقِينَ }(2/327)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
ومحل { الذين } جر على الوصفية أو نصب على المدح أو رفع عليه { يَخْشَوْنَ رَبَّهُم } يخافونه { بالغيب } حال أي يخافونه في الخلاء { وَهُمْ مّنَ الساعة } القيامة وأهوالها { مُشْفِقُونَ } خائفون { وهذا } القرآن { ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ } كثير الخير غزير النفع { أنزلناه } على محمد { أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } استفهام توبيخ أي جاحدون أنه منزل من عند الله .
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ } هداه { مِن قَبْلُ } من قبل موسى وهرون أو من قبل محمد عليه السلام { وَكُنَّا بِهِ } بابراهيم أو برشده { عالمين } أي علمنا أنه أهل لما آتيناه { إِذْ } إما أن تتعلق ب { اتيناه } أو ب { رشده } { قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل } أي الأصنام المصورة على صورة السباع والطيور والإنسان ، وفيه تجاهل لهم ليحقر آلهتهم مع علمه بتعظيمهم لها { التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون } أي لأجل عبادتها مقيمون . فلما عجزوا عن الإتيان بالدليل على ذلك .
{ قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين } فقلدناهم { قَالَ } إبراهيم { لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ فِى ضلال مُّبِينٍ } أراد أن المقلدين والمقلدين منخرطون في سلك ضلال ظاهر لا يخفى على عاقل ، وأكد ب { أنتم } ليصح العطف لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع { قَالُواْ أَجِئْتَنَا بالحق } بالجد { أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين } أي أجاد أنت فيما تقول أم لاعب استعظاماً منهم إنكاره عليهم واستبعاداً لأن يكون ما هم عليه ضلالاً ، فثم أضرب عنهم مخبراً بأنه جاد فيما قال غير لاعب مثبتاً لربوبية الملك العلام وحدوث الأصنام بقوله :(2/328)
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
{ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذى فطَرَهُنَّ } أي التماثيل فأنى يعبد المخلوق ويترك الخالق { وَأَنَاْ على ذلكم } المذكور في التوحيد شاهد { من الشاهدين وتالله } أصله «والله» وفي التاء معنى التعجب من تسهيل الكيد على يده مع صعوبته وتعذره لقوة سلطة نمروذ .
{ لاكِيدَنَّ أصنامكم } لأكسرنها { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } بعد ذهابكم عنها إلى عيدكم ، قال ذلك سراً من قومه فسمعه رجل واحد فعرض بقوله { إِنّى سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] أي سأسقم ليتخلف . فرجع إلى بيت الأصنام { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } قطعاً من الجذ وهو القطع جمع جذاذة كزجاجة وزجاج جذاذ بالكسر : علي ، جمع جذيذ أي مجذوذ كخفيف وخفاف { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } للأصنام أو للكفار أي فكسرها كلها بفأس في يده إلا كبيرها فعلق الفأس في عنقه { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ } إلى الكبير { يَرْجِعُونَ } فيسألونه عن كاسرها فتبين لهم عجزه ، أو إلى إبراهيم ليحتج عليهم ، أو إلى الله لما رأوا عجز آلتهم { قَالُواْ } أي الكفار حين رجعوا من عيدهم ورأوا ذلك { مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين } أي إن من فعل هذا الكسر لشديد الظلم لجراءته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والتعظيم { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم } الجملتان صفتان ل { فتى } إلا أن الأول وهو { يذكرهم } أي يعيبهم لا بد منه للسمع لأنك لا تقول «سمعت زيداً» وتسكت حتى تذكر شيئاً مما يسمع بخلاف الثاني . وارتفاع { إبراهيم } بأنه فاعل { يقال } فالمراد الاسم المسمى أي الذي يقال له هذا الاسم { قَالُواْ } أي نمروذ وأشراف قومه { فَأْتُواْ بِهِ } أحضروا إبراهيم { على أَعْيُنِ الناس } في محل الحال بمعنى معايناً مشاهداً أي بمرأى منهم ومنظر { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } عليه بما سمع منه أو بما فعله كأنهم كرهوا عقابه بلا بينة أو يحضرون عقوبتنا له .(2/329)
قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
فلما أحضروه { قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَآ ياإبراهيم قَالَ } إبراهيم { بَلْ فَعَلَهُ } عن الكسائي : إنه يقف عليه أي فعله من فعله ، وفيه حذف الفاعل وأنه لا يجوز ، وجاز أن يكون الفاعل مسنداً إلى الفتى المذكور في قوله { سمعنا فتى يذكرهم } أو إلى { إبراهيم } في قوله { يا إبراهيم } ثم قال { كَبِيرُهُمْ هذا } وهو مبتدأ وخبر . والأكثر أنه لا وقف ، والفاعل { كبيرهم } وهذا وصف أو بدل ، ونسب الفعل إلى كبيرهم وقصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي تبكيتاً لهم وإلزاماً للحجة عليهم لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح علموا عجز كبيرهم وأنه لا يصلح إلهاً ، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق أنيق : أأنت كتبت هذا وصاحبك أمي فقلت له «بل كتبته أنت» كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي ، لأن إثباته للعاجز منكما والأمر كائن بينكما استهزاء به وإثبات للقادر ، ويمكن أن يقال : غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة وكان غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له ، فأسند الفعل إليه لأن الفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه ، ويجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعى إلهاً أن يقدر على هذا . ويحكى أنه قال : غضب أن تعبد هذه الصغار معه وهو أكبر منها فكسرهن ، أو هو متعلق بشرط لا يكون وهو نطق الأصنام فيكون نفياً للمخبر عنه أي بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون ، وقوله { فَاسْئَلُوهُمْ } اعتراض . وقيل : عرض بالكبير لنفسه وإنما أضاف نفسه إليهم لاشتراكهم في الحضور { فَاسْئَلُوهُمْ } عن حالهم { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } وأنتم تعلمون عجزهم عنه .
{ فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ } فرجعوا إلى عقولهم وتفكروا بقلوبهم لما أخذ بمخانقهم { فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } على الحقيقة بعبادة ما لا ينطق لا من ظلمتموه حين قلتم { من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين } فإن من لا يدفع عن رأسه الفاس ، كيف يدفع عن عابديه البأس؟(2/330)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
{ ثُمَّ نُكِسُواْ على رُؤُوسَهُمْ } قال أهل التفسير : أجرى الله تعالى الحق على لسانهم في القول الأول ، ثم أدركتهم الشقاوة أي ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم ، يقال : نكسته قلبته فجعلت أسفله أعلاه أي استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤوا بالفكرة الصالحة ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة وقالوا { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ } فكيف تأمرنا بسؤالها؟ والجملة سدت مسد مفعولي { علمت } والمعنى لقد علمت عجزهم عن النطق فكيف نسألهم؟ { قَالَ } محتجاً عليهم { أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً } هو في موضع المصدر أي نفعاً { وَلاَ يَضُرُّكُمْ } إن لم تعبدوه { أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } «أف» صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر ، ضجر مما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق فتأفف بهم واللام لبيان المتأفف به أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف { أف } مدني وحفص ، { أفّ } مكي وشامي { أفّ } غيرهم { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن من هذا وصفه لا يجوز أن يكون إلهاً .
فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب { قَالُواْ حَرّقُوهُ } بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظع { وانصروا ءالِهَتَكُمْ } بالانتقام منه { إِن كُنتُمْ فاعلين } أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً مؤزراً فاختاروا له أهول المعاقبات وهو الإحراق بالنار وإلا فرطتم في نصرتها ، والذي أشار بإحراقه نمروذ أو رجل من أكراد فارس . وقيل : إنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتاً بكوثى وجمعوا شهراً أصناف الخشب ثم أشعلوا ناراً عظيمة كادت الطير تحترق في الجو من وهجها ، ثم وضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فرموا به فيها وهو يقول : حسبي الله ونعم الوكيل ، وقال له جبريل : هل لك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا . قال : فسل ربك . قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي . وما أحرقت النار إلا وثاقه . وعن ابن عباس : إنما نجا بقوله «حسبي الله ونعم الوكيل» .(2/331)
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
{ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِى بَرْداً وسلاما } أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كأن ذاتها برد وسلام { على إبراهيم } أراد ابردي فيسلم منك إبراهيم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها . والمعنى أن الله تعالى نزع عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة والإشراق كما كانت وهو على كل شيء قدير { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } إحراقاً { فجعلناهم الأخسرين } فأرسل على نمروذ وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت بعوضة في دماغ نمروذ فأهلكته { ونجيناه } أي إبراهيم { وَلُوطاً } ابن أخيه هاران من العراق { إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين } أي أرض الشام وبركتها أن أكثر الأنبياء منها فانتشرت في العالمين آثارهم الدينية وهي أرض خصب يطيب فيها عيش الغني والفقير . وقيل : ما من ماء عذب في الأرض إلا وينبع أصله من صخرة بيت المقدس . روي أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة . وقال عليه السلام " «إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم» " { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } قيل : هو مصدر كالعافية من غير لفظ الفعل السابق أي وهبنا له هبة : وقيل : هي ولد الولد وقد سأل ولداً فأعطيه وأعطي يعقوب نافلة أي زيادة فضلاً من غير سؤال وهي حال من { يعقوب } { وَكُلاًّ } أي إبراهيم وإسحق ويعقوب وهو المفعول الأول لقوله { جَعَلْنَا } والثاني { صالحين } في الدين والنبوة .(2/332)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
{ وجعلناهم أَئِمَّةً } يقتدى بهم في الدين { يَهْدُونَ } الناس { بِأَمْرِنَا } بوحينا { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات } وهي جميع الأعمال الصالحة وأصله أن تفعل الخيرات ثم فعلا الخيرات ثم فعل الخيرات . وكذلك قوله { وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } والأصل وإقامة الصلاة إلا أن المضاف إليه جعل بدلاً من الهاء { وَكَانُواْ لَنَا عابدين } لا للإصنام فأنتم يا معشر العرب أولاد إبراهيم فاتبعوه في ذلك .
{ وَلُوطاً } انتصب بفعل يفسره { آتَيْنَاهُ حُكْمًا } حكمة وهي ما يجب فعله من العمل أو فصلاً بين الخصوم أو نبوة { وَعِلْماً } فقهاً { ونجيناه مِنَ القرية } من أهلها وهي سدوم { التى كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث } اللواطة والضراط وحذف المارة بالحصى وغيرها { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فاسقين } خارجين عن طاعة الله { وأدخلناه فِى رَحْمَتِنَا } في أهل رحمتنا أو في الجنة { إِنَّهُ مِنَ الصالحين } أي جزاء له على صلاحه كما أهلكنا قومه عقاباً على فسادهم { وَنُوحاً } أي واذكر نوحاً { إِذْ نادى } أي دعا على قومه بالهلاك { مِن قَبْلُ } من قبل هؤلاء المذكورين { فاستجبنا لَهُ } أي دعاءه { فنجيناه وَأَهْلَهُ } أي المؤمنين من ولده وقومه { مِنَ الكرب العظيم } من الطوفان وتكذيب أهل الطغيان .(2/333)
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
{ ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } منعناه منهم أي من أذاهم { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ } صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم .
{ وَدَاوُودَ وسليمان } أي واذكرهما { إِذْ } بدل منهما { يَحْكُمَانِ فِى الحرث } في الزرع أو الكرم { إِذْ } ظرف ل { يحكمان } { نَفَشَتْ } دخلت { فِيهِ غَنَمُ القوم } ليلاً فأكلته وأفسدته والنفش انتشار الغنم ليلاً بلا راع { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ } أرادهما والمتحاكمين إليهما { شاهدين } أي كان ذلك بعلمنا ومرأى منا .
{ ففهمناها } أي الحكومة أو الفتوى { سليمان } وفيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان صلوات الله عليه . وقصته أن الغنم رعت الحرث وأفسدته بلا راع ليلاً فتحاكما إلى داود فحكم بالغنم لأهل الحرث وقد استوت قيمتاهما أي قيمة الغنم كانت على قدر النقصان من الحرث فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة غير هذا أرفق بالفريقين ، فعزم عليه ليحكمن فقال : أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها والحرث إلى رب الغنم حتى يصلح الحرث ويعود كهيئته يوم أفسد ثم يترادان . فقال : القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك ، وكان ذلك باجتهاد منهما وهذا كان في شريعتهم ، فأما في شريعتنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم بالليل أو بالنهار إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد ، وعند الشافعي رحمه الله يجب الضمان بالليل . وقال الجصاص : إنما ضمنوا لأنهم أرسلوها . ونسخ الضمان بقوله عليه السلام « العجماء جبار » وقال مجاهد : كان هذا صلحاً وما فعله داود كان حكماً والصلح خير { وَكُلاًّ } من داود وسليمان { آتيناه حُكْماً } نبوة { وَعِلْماً } معرفة بموجب الحكم { وَسَخَّرْنَا } وذللنا { مَّعَ دَاوُودُ الجبال يُسَبّحْنَ } وهو حال بمعنى مسبحات أو استئناف كأن قائلاً قال : كيف سخرهن؟ فقال : يسبحن { والطير } معطوف على الجبال أو مفعول معه ، وقدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأغرب وأدخل في الإعجاز لأنها جماد . روي أنه كان يمر بالجبال مسبحاً وهي تتجاوبه : وقيل : كانت تسير معه حيث سار { وَكُنَّا فاعلين } بالأنبياء مثل ذلك وإن كان عجباً عندكم .(2/334)
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } أي عمل اللبوس والدروع واللبوس اللباس والمراد الدرع { لِتُحْصِنَكُمْ } شامي وحفص أي الصنعة ، وبالنون : أبو بكر وحماد أي الله عز وجل ، وبالياء : غيرهم أي اللبوس أو الله عز وجل { مّن بَأْسِكُمْ } من حرب عدوكم { فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون } استفهام بمعنى الأمر أي فاشكروا الله على ذلك { ولسليمان الريح } أي وسخرنا له الريح { عَاصِفَةً } حال أي شديدة الهبوب ووصفت في موضع آخر بالرخاء لأنها تجري باختياره ، وكانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفة لهبوبها على حكم إرادته { تَجْرِى بِأَمْرِهِ } بأمر سليمان { إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا } بكثرة الأنهار والأشجار والثمار والمراد الشام ، وكان منزله بها وتحمله الريح من نواحي الأرض إليها { وَكُنَّا بِكُلّ شَىْء عالمين } وقد أحاط علمنا بكل شيء فتجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمنا { وَمِنَ الشياطين } أي وسخرنا منهم { مَن يَغُوصُونَ لَهُ } في البحار بأمره لاستخراج الدر وما يكون فيها { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك } أي دون الغوص وهو بناء المحاريب والتماثيل والقصور والقدور والجفان { وَكُنَّا لَهُمْ حافظين } أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه .(2/335)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
{ وَأَيُّوبَ } أي واذكر أيوب { إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى } أي دعا بأني { مَسَّنِىَ الضر } الضر بالفتح الضرر في كل شيء وبالضم الضرر في النفس من مرض أو هزال { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين } ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب فكأنه قال : أنت أهل أن ترحم وأيوب أهل أن يرحم فارحمه واكشف عنه الضر الذي مسه . عن أنس رضي الله عنه : أخبر عن ضعفه حين لم يقدر على النهوض إلى الصلاة ولم يشتك وكيف يشكو من قيل له { إِنَّا وجدناه صَابِراً نّعْمَ العبد } [ ص : 44 ] وقيل : إنما شكا إليه تلذذاً بالنجوى لا منه تضرراً بالشكوى ، والشكاية إليه غاية القرب كما أن الشكاية منه غاية البعد { فاستجبنا لَهُ } أجبنا دعاءه { فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ } فكشفنا ضره إنعاماً عليه { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } روي أن أيوب عليه السلام كان رومياً من ولد إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وله سبعة بنين وسبع بنات وثلاثة آلاف بعير وسبعة الاف شاة وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ونخيل ، فابتلاه الله تعالى بذهاب ولده وماله وبمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو ثلاث سنين ، وقالت له امرأته يوماً : لو دعوت الله عز وجل . فقال : كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت : ثمانين سنة . فقال : أنا أستحي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي . فلما كشف الله عنه أحيا ولده بأعيانهم ورزقه مثلهم معهم { رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا } هو مفعول له { وذكرى للعابدين } يعني رحمة لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كصبره فيثابوا كثوابه .
{ وإسماعيل } بن إبراهيم { وَإِدْرِيسَ } بن شيت بن آدم { وَذَا الكفل } أي اذكرهم وهو الياس أو زكريا أو يوشع بن نون ، وسمي به لأنه ذو الحظ من الله والكفل الحظ { كُلٌّ مّنَ الصابرين } أي هؤلاء المذكورون كلهم موصوفون بالصبر .(2/336)
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{ وأدخلناهم فِى رَحْمَتِنَا } نبوتنا أو النعمة في الآخرة { إِنَّهُمْ مّنَ الصالحين } أي ممن لا يشوب صلاحهم كدر الفساد .
{ وَذَا النون } أي اذكر صاحب الحوت والنون الحوت فأضيف إليه { إِذ ذَّهَبَ مغاضبا } حال أي مراغماً لقومه . ومعنى مغاضبته لقومه أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها . روي أنه برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يتعظوا وأقاموا على كفرهم فراغمهم وظن أن ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضباً لله وبغضاً للكفر وأهله وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله تعالى في المهاجرة عنهم فابتلي ببطن الحوت { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ } نضيق { عَلَيْهِ } وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل يوماً على معاوية فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك . قال : وما هي يا معاوية؟ فقرأ الآية . فقال : أو يظن نبي الله أن لا يقدر عليه؟ قال : هذا من القدر لا من القدرة { فنادى فِى الظلمات } أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات } [ البقرة : 17 ] أو ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت { أن } أي بأنه { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ } أو بمعنى أي { سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } لنفسي في خروجي من قومي قبل أن تأذن لي في الحديث " ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له " وعن الحسن : ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم . { فاستجبنا لَهُ ونجيناه مِنَ الغم } غم الزلة والوحشة والوحدة { وكذلك نُنجِى المؤمنين } إذا دعونا واستغاثوا بنا . { نجى } شامي وأبو بكر بإدغام النون في الجيم عند البعض لأن النون لا تدغم في الجيم . وقيل : تقديره نجى النجاء المؤمنين فسكن الياء تخفيفاً وأسند الفعل إلى المصدر ونصب المؤمنين بالنجاء لكن فيه إقامة المصدر مقام الفاعل مع وجود المفعول وهذا لا يجوز ، وفيه تسكين الياء وبابه الضرورات . وقيل : أصله «ننجى» من التنجية فحذفت النون الثانية لاجتماع النونين كما حذفت إحدى التاءين في { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] .(2/337)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
{ وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً } سأل ربه أن يرزقه ولداً يرثه ولا يدعه وحيداً بلا وارث ، ثم رد أمره إلى الله مستسلماً فقال { وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } أي فإن لم تزرقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث أي باق { فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى } ولداً { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } جعلناها صالحة للولادة بعد العقار أي بعد عقرها أو حسنة وكانت سيئة الخلق { إنهم } أي الأنبياء المذكورين { كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات } أي أنهم إنما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم لمبادرتهم أبواب الخير ومسارعتهم في تحصيلها { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } أي طمعاً وخوفاً كقوله { يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُو رَّحْمَةِ رَبّهِ } [ الزمر : 9 ] وهما مصدران في موضع الحال أو المفعول له أي للرغبة فينا والرهبة منا { وَكَانُواْ لَنَا خاشعين } متواضعين خائفين .
{ والتى } أي واذكر التي { أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } حفظته من الحلال والحرام { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } أجرينا فيها روح المسيح أو أمرنا جبريل فنفخ في جيب درعها فأحدثنا بذلك النفخ عيسى في بطنها ، وإضافة الروح إليه تعالى لتشريف عيسى عليه السلام { وجعلناها وابنها ءايَةً } مفعول ثان { للعالمين } وإنما لم يقل آيتين كما قال { وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ } [ الإسراء : 12 ] لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل ، أو التقدير وجعلناها آية وابنها كذلك ف { آية } مفعول المعطوف عليه ويدل عليه قراءة من قرأ { آيتين } .(2/338)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
{ إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } لأمة الملة وهذه إشارة إلى ملة الإسلام وهي ملة جميع الأنبياء . و { أُمَّةً وَاحِدَةً } حال أي متوحدة غير متفرقة والعالم ما دل عليه اسم الإشارة أي أن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها يشار إليها ملة واحدة غير مختلفة { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون } أي ربيتكم اختياراً فاعبدوني شكراً وافتخاراً والخطاب للناس كافة .
{ وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أصل الكلام وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات ، والمعنى وجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً وصاروا فرقاً وأحزاباً . ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة { كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون } فنجازيهم على أعمالهم { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } شيئاً { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } بما يجب الإيمان به { فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } أي فإن سعيه مشكور مقبول والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه وقد نفى نفي الجنس ليكون أبلغ { وَإِنَّا لَهُ } للسعي أي الحفظة بأمرنا { كاتبون } في صحيفة عمله فنثيبه به { وَحَرَامٌ } { وحرم } كوفي غير حفص وخلف وهما لغتان كحل وحلال وزناً وضده معنى والمراد بالحرام الممتنع وجوده { على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } والمعنى ممتنع على مهلك غير ممكن أن لا يرجع إلى الله بالبعث ، أو حرام على قرية أهلكناها أي قدرنا إهلاكهم أو حكمنا بإهلاكهم ذلك وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور أنهم لا يرجعون من الكفر إلى الإسلام .
{ حتى } هي التي يحكى بعدها الكلام والكلام المحكي الجملة من الشرط والجزاء أعني { إِذَا } و «ما» في حيزما { فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } أي فتح سدهما فحذف المضاف كما حذف المضاف إلى قرية { فتّحت } : شامي وهما قبيلتان من جنس الإنس . يقال : الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج { وَهُمْ } راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر . وقيل : هم يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد { مّن كُلّ حَدَبٍ } نشز من الأرض أي ارتفاع { يَنسِلُونَ } يسرعون(2/339)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
{ واقترب الوعد الحق } أي القيامة وجواب { إذا } { فَإِذَا هِىَ } وهي «إذا» المفاجأة وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء كقوله { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [ الروم : 36 ] فإذا جاءت الفاء معها تعاونتاً على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ، ولو قيل فهي شاخصة أو إذا هي شاخصة كان سديداً وهي ضمير مبهم يوضحه الأبصار ويفسره { شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ } أي مرتفعة الأجفان لا تكاد تطرف من هول ما هم فيه { ياويلنا } متعلق بمحذوف تقديره يقولون يا ويلنا و { يقولون } حال من { الذين كفروا } { قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذا } اليوم { بَلْ كُنَّا ظالمين } بوضعنا العبادة في غير موضعها .
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } يعني الأصنام وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم { حَصَبُ } حطب وقرىء { حطب } { جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } فيها داخلون { لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَةً } كما زعمتم { مَّا وَرَدُوهَا } ما دخلوا النار { وَكُلٌّ } أي العابد والمعبود { فِيهَا } في النار { خالدون لَهُمْ } للكفار { فِيهَا زَفِيرٌ } أنين وبكاء وعويل .
{ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } شيئاً ما لأنهم صاروا صماً وفي السماع نوع أنس فلم يعطوه .
{ إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن وهي السعادة أو البشرى بالثواب أو التوفيق للطاعة فنزلت جواباً لقول ابن الزبعري عند تلاوته عليه السلام على صناديد قريش { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } إلى قوله { خالدون } أليس اليهود عبدوا عزيراً ، والنصارى المسيح ، وبنو مليح الملائكة على أن قوله { وما تعبدون } لا يتناولهم لأن «ما» لمن لا يعقل إلا أنهم أهل عناد فزيد في البيان { أولئك } يعني عزيراً والمسيح والملائكة { عَنْهَا } عن جهنم { مُبْعَدُونَ } لأنهم لم يرضوا بعبادتهم . وقيل : المراد بقوله { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } جميع المؤمنين لما روي أن عليًّا رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال : «أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف» وقال الجنيد رحمه الله : سبقت لهم منا العناية في البداية فظهرت لهم الولاية في النهاية .(2/340)
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
{ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } صوتها الذي يحس وحركة تلهبها وهذه مبالغة في الإبعاد عنها أي لا يقربونها حتى لا يسمعوا صوتها وصوت من فيها { وَهُمْ فِى مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ } من النعيم { خالدون } مقيمون والشهوة طلب النفس اللذة { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } النفخة الأخيرة { وتتلقاهم الملئكة } أي تستقبلهم الملائكة مهنئين على أبواب الجنة يقولون { هذا يَوْمُكُمُ الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } أي هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم في الدنيا .
العامل في { يَوْمَ نَطْوِى السماء } { لا يحزنهم } أو { تتلقاهم } { تطوى السماء } يزيد ، وطيها تكوير نجومها ومحو رسومها أو هو ضد النشر نجمعها ونطويها { كَطَىّ السجل } أي لصحيفة { لِلْكُتُبِ } حمزة وعلي وحفص أي للمكتوبات أي لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة وغيرهم للكتاب أي كما يطوى الطومار للكتابة ، أو لما يكتب فيه لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب . وقيل : السجل : ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه . وقيل : كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم . والكتاب على هذا اسم الصحيفة المكتوب فيها والطي مضاف إلى الفاعل وعلى الأول إلى المفعول { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } انتصب الكاف بفعل مضمر يفسره { نعيده } و «ما» موصولة أي نعيد مثل الذي بدأناه نعيده ، و { أول خلق } ظرف ل { بدأنا } أي أول ما خلق ، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى . وأول الخلق إيجاده أي فكما أوجده أو لا يعيده ثانياً تشبيهاً للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء . والتنكير في خلق مثله في قولك «هو أول رجل جاءني» تريد أول الرجال ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً فكذلك معنى { أول خلق } أول الخلق بمعنى أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع { وَعْداً } مصدر مؤكد لأن قوله { تعيده } عدة للإعادة { عَلَيْنَا } أي وعدا كائناً لا محالة { إِنَّا كُنَّا فاعلين } ذلك أي محققين هذا الوعد فاستعدوا له وقدموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال .(2/341)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور } كتاب داود عليه السلام { مِن بَعْدِ الذكر } التوراة { أن الأرض } أي الشام { يَرِثُهَا عِبَادِىَ } ساكنة الياء : حمزة غيره بفتح الياء { الصالحون } أي أمة محمد عليه السلام ، أو الزبور بمعنى المزبور أي المكتوب يعني ما أنزل على الأنبياء من الكتب . والذكر أم الكتاب يعني اللوح لأن الكل أخذوا منه . دليله قراءة حمزة وخلف بضم الزاي على جمع الزبر بمعنى المزبور والأرض أرض الجنة .
{ إِنَّ فِى هذا } أي القرآن أو في المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ { لبلاغا } لكفاية وأصله ما تبلغ به البغية { لّقَوْمٍ عابدين } موحدين وهم أمة محمد عليه السلام { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً } قال عليه السلام « إنما أنا رحمة مهداة » { للعالمين } لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه ومن لم يتبع فإنما أتى من نفسه حيث ضيع نصيبه منها . وقيل : هو رحمة للمؤمنين في الدارين وللكافرين في الدنيا بتأخير العقوبة فيها . وقيل : هو رحمة للمؤمنين والكافرين في الدنيا بتأخير عذاب الاستئصال والمسخ والخسف . و { رحمة } مفعول له أو حال أي ذا رحمة .(2/342)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{ قُلْ إِنَّمَا } إنما لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم نحو «إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد» . وفاعل { يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ } والتقدير يوحي إليَّ وحدانية إلهي ، ويجوز أن يكون المعنى أن الذي يوحي إليّ فتكون «ما» موصولة { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } استفهام بمعنى الأمر أي أسلموا { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن الإسلام { فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ } أعلمتكم ما أمرت به { على سَوَاء } حال أي مستوين في الإعلام به ولم أخصص بعضكم ، وفيه دليل بطلان مذهب الباطنية { وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } أي لا أدري متى يكون يوم القيامة لأن الله تعالى لم يطلعني عليه ولكني أعلم بأنه كائن لا محالة ، أو لا أدري متى يحل بكم العذاب إن لم تؤمنوا { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } إنه عالم بكل شيء يعلم ما تجاهرونني به من الطعن في الإسلام وما تكتمونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين وهو مجازيكم عليه .
{ وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا امتحان لكم لينظر كيف تعملون { ومتاع إلى حِينٍ } وتمتيع لكم إلى الموت ليكون ذلك حجة عليكم { قَالَ رَبّ احكم بالحق } اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل ، أو بما يحق عليهم من العذاب ولا تحابهم وشدد عليهم كما قال «واشدد وطأتك على مضر» . { قال رب } حفص على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { رب احكم } يزيد { ربي أحكم } زيد عن يعقوب { وَرَبُّنَا الرحمن } العاطف على خلقه { المستعان } المطلوب منه المعونة { على مَا تَصِفُونَ } وعن ابن ذكوان بالياء ، كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه وكانوا يطمعون أن تكون الشوكة لهم والغلبة فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وخذلهم أي الكفار وهو المستعان على ما يصفون .(2/343)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
{ يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ } أمر بني آدم بالتقوى ، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة بقوله { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَىْء عَظِيمٌ } لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم بامتثال ما أمرهم به ربهم من التردي بلباس التقوى الذي يؤمنهم من تلك الأفزاع . والزلزلة شدة التحريك والإزعاج ، وإضافة الزلزلة إلى الساعة إضافة المصدر إلى فاعله كأنها هي التي تزلزل الأرض على المجاز الحكمي ، أو إلى الظرف لأنها تكون فيها كقوله { بَلْ مَكْرُ الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] ووقتها يكون يوم القيامة أو عند طلوع الشمس من مغربها ، ولا حجة فيها للمعتزلة في تسمية المعدوم شيئاً فإن هذا اسم لها حال وجودها وانتصب { يَوْمَ تَرَوْنَهَا } أي الزلزلة أو الساعة بقوله { تَذْهَلُ } تغفل . والذهول : الغفلة { كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل . وقيل { مرضعة } ليدل على أن ذلك الهول إذا حدث وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة إذ المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي ، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ } أي حبلى { حِمْلِهَا } ولدها قبل تمامه . عن الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام { وَتَرَى الناس } أيها الناظر { سكارى } على التشبيه لما شاهدوا بساط العزة وسلطنة الجبروت وسرادق الكبرياء حتى قال كل نبي : نفسي نفسي { وَمَا هُم بسكارى } على التحقيق { ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } فخوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه . وعن الحسن : وترى الناس سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب . { سكرى } فيهما بالإمالة : حمزة وعلي وهو كعطشى في عطشان . رُوي أنه نزلت الآيتان ليلاً في غزوة بني المصطلق فقرأهما النبي عليه السلام فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة .(2/344)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
{ وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله } في دين الله { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال . نزلت في النضر بن الحرث وكان جدلاً يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن : أساطير الأولين ، والله غير قادر على إحياء من بلي ، أو هي عامة في كل من يخاصم في الدين بالهوى { وَيَتَّبِعْ } في ذلك { كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ } عاتٍ مستمر في الشر . ولا وقف على { مريد } لأن ما بعده صفته { كُتِبَ عَلَيْهِ } قضي على الشيطان { أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ } تبعه أي تبع الشيطان { فأَنَّه } فأن الشيطان { يُضِلُّهُ } عن سواء السبيل { وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير } النار . قال الزجاج : الفاء في فأنه للعطف و «أن» مكررة للتأكيد . ورد عليه أبو علي وقال : إن «من» إن كان للشرط فالفاء دخل لجزاء الشرط ، وإن كان بمعنى الذي فالفاء دخل على خبر المبتدأ والتقدير : فالأمر أنه يضله . قال : والعطف والتأكيد يكون بعد تمام الأول ، والمعنى كتب على الشيطان إضلال من تولاه وهدايته إلى النار .
ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال(2/345)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
{ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث } يعني إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم وقد كنتم في الابتداء تراباً وماء ، وليس سبب إنكاركم البعث إلا هذا وهو صيرورة الخلق تراباً وماء { فَإِنَّا خلقناكم } أي أباكم { مّن تُرَابٍ ثُمَّ } خلقتم { مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } أي قطعة دم جامدة { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } أي لحمة صغيرة قدر ما يمضغ { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } المخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب كأن الله عز وجل يخلق المضغة متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم . وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة { لّنُبَيّنَ لَكُمْ } بهذا التدريج كمال قدرتنا وحكمتنا ، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً ثم من نطفة ثانياً ولا مناسبة بين التراب والماء وقدر أن يجعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاماً قادر على إعادة ما بدأه { وَنُقِرُّ } بالرفع عند غير المفضل مستأنف بعد وقف . أي نحن نثبت { فِى الأرحام مَا نَشَاء } ثبوته { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي وقت الولادة وما لم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } من الرحم { طِفْلاً } حال وأريد به الجنس فلذا لم يجمع ، أو أريد به ثم نخرج كل واحد منكم طفلاً { ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ } ثم نربيكم لتبلغوا { أَشُدَّكُمْ } كمال عقلكم وقوتكم وهو من ألفاظ الجموع التي لا يستعمل لها واحد { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى } عند بلوغ الأشد أو قبله أو بعده { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } أخسه يعني الهرم والخرف { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } أي لكيلا يعلم شيئاً من بعد ما كان يعلمه أو لكيلا يستفيد علماً وينسى ما كان عالماً به .
ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً } ميتة يابسة { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت } تحركت بالنبات { وَرَبَتْ } وانتفخت . { وربأت } حيث كان : يزيد ارتفعت { وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ } صنف { بَهِيجٍ } حسن صار للناظرين إليه .(2/346)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
{ ذلك } مبتدأ خبره { بِأَنَّ الله هُوَ الحق } أي ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم حاصل بهذا وهو أن الله هو الحق أي الثابت الوجود { وَأَنَّهُ يُحْىِ الموتى } كما أحيا الأرض { وَأَنَّهُ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } قادر { وَأَنَّ الساعة ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِى القبور } أي أنه حكيم لا يخلف الميعاد وقد وعد الساعة والبعث فلا بد أن يفي بما وعد { وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله } في صفاته فيصفه بغير ما هو له . نزلت في أبي جهل { بِغَيْرِ عِلْمٍ } ضروري { وَلاَ هُدًى } أي استدلال لأنه يهدي إلى المعرفة { وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ } أي وحي والعلم للإنسان من أحد هذه الوجوه الثلاثة { ثَانِىَ عِطْفِهِ } حال أي لاوياً عنقه عن طاعة الله كبراً وخيلاء . وعن الحسن : { ثاني عطفه } بفتح العين أي مانع تعطفه إلى غيره { لِيُضِلَّ } تعليل للمجادلة . { ليضل } مكي وأبو عمرو { عَن سَبِيلِ الله } دينه { لَهُ فِى الدنيا خِزْىٌ } أي القتل يوم بدر { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق } أي جمع له عذاب الدارين { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } أي السبب في عذاب الدارين هو ما قدمت نفسه من الكفر والتكذيب ، وكنى عنها باليد لأن اليد آلة الكسب { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } فلا يأخذ أحداً بغير ذنب ولا بذنب غيره وهو عطف على { بما } أي وبأن الله . وذكر الظلام بلفظ المبالغة لاقترانه بلفظ الجمع وهو العبيد ، ولأن قليل الظلم منه مع علمه بقبحه واستغنائه كالكثير منا .(2/347)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
{ وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة وهو حال أي مضطرباً { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ } صحة في جسمه وسعة في معيشته { اطمأن } سكن واستقر { بِهِ } بالخير الذي أصابه أو بالدين فعبد الله { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } شر وبلاء في جسده وضيق في معيشته { انقلب على وَجْهِهِ } جهته أي ارتد ورجع إلى الكفر كالذي يكون على طرف من العسكر ، فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن وإلا فر وطار على وجهه . قالوا : نزلت في أعاريب قدموا المدينة مهاجرين وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهراً سوياً وولدت امرأته غلاماً سوياً وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلا شراً وانقلب عن دينه { خَسِرَ الدنيا والآخرة } حال «وقد» مقدرة دليله قراءة روح وزيد { خاسر الدنيا والآخرة } والخسران في الدنيا بالقتل فيها وفي الآخرة بالخلود في النار { ذلك } أي خسران الدارين { هُوَ الخسران المبين } الظاهر الذي لا يخفى على أحد .
{ يَدْعُواْ مِن دُونِ الله } يعني الصنم فإنه بعد الردة يفعل كذلك { مَا لاَ يَضُرُّهُ } إن لم يعبده { وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } إن عبده { ذلك هُوَ الضلال البعيد } عن الصواب .(2/348)
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
{ يَدْعُواْ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } والإشكال أنه تعالى نفى الضر والنفع عن الأصنام قبل هذه الآية وأثبتهما لها هنا . والجواب أن المعنى إذا فهم ذهب هذا الوهم ، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضراً ولا نفعاً وهو يعتقد فيه أنه ينفعه ثم قال يوم القيامة : يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى لها أثر الشفاعة لمن ضره أقرب من نفعه { لَبِئْسَ المولى } أي الناصر الصاحب { وَلَبِئْسَ العشير } المصاحب وكرر يدعوا كأنه قال : يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ثم قال لمن ضره بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفيعاً .
{ إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } هذا وعد لمن عبد الله بكل حال لا لمن عبد الله على حرف { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِى الدنيا والآخرة } المعنى أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن ظن من أعاديه غير ذلك { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ } بحبل { إِلَى السماء } إلى سماء بيته { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } ثم ليختنق به ، وسمي الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه . وبكسر اللام بصري وشامي { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } أي الذي يغيظه أو «ما» مصدرية أي غيظه ، والمعنى فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه . وسمي فعله كيداً على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ { وكذلك أنزلناه } ومثل ذلك الإنزال أنزل القرآن كله { ءايات بينات } واضحات { وَأَنَّ الله يَهْدِى مَن يُرِيدُ } أي ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم يؤمنون ، أو يثبت الذي آمنوا ويزيدهم هدى أنزله كذلك مبيّناً .(2/349)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أَشْرَكُواْ } قيل : الأديان خمسة : أربعة للشيطان وواحد للرحمن ، والصابئون نوع من النصارى فلا تكون ستة { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } في الأحوال والأماكن فلا يجازيهم جزاء واحداً ولا يجمعهم في موطن واحد . وخبر { إن الذين آمنوا } { إن الله يفصل بينهم } كما تقول «إن زيداً إن أباه قائم» { إِنَّ الله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } عالم به حافظ له فلينظر كل امرىء معتقده ، وقوله وفعله وهو أبلغ وعيد
{ أَلَم تَرَ } ألم تعلم يا محمد علماً يقوم مقام العيان { أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } قيل : إن الكل يسجد له ولكنا لا نقف عليه كما لا نقف على تسبيحها قال الله تعالى : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] وقيل : سمي مطاوعة غير المكلف له فيما يحدث فيه من أفعاله وتسخيره له سجوداً له تشبيهاً لمطاوعته بسجود المكلف الذي كل خضوع دونه { وَكَثِيرٌ مّنَ الناس } أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة ، أو هو مرفوع على الابتداء { ومن الناس } صفة له والخبر محذوف وهو مثاب ويدل عليه قوله { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } أي وكثير منهم حق عليه العذاب بكفره وإبائه السجود { وَمَن يُهِنِ الله } بالشقاوة { فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } بالسعادة { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء } من الإكرام والإهانة وغير ذلك ، وظاهر هذه الآية والتي قبلها ينقض على المعتزلة قولهم لأنهم يقولون شاء أشياء ولم يفعل وهو يقول يفعل ما يشاء .
{ هذان خَصْمَانِ } أي فريقان مختصمان؛ فالخصم صفة وصف بها الفريق وقوله { اختصموا } للمعنى و { هذان } للفظ والمراد المؤمنون والكافرون . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : رجع إلى أهل الأديان المذكورة : فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم { فِى رَبّهِمْ } في دينه وصفاته ، ثم بين جزاء كل خصم بقوله { فالذين كَفَرُواْ } وهو فصل الخصومة المعنى بقوله { إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } { قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ } كأن الله يقدر لهم نيراناً على مقادير جثتهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة ، واختير لفظ الماضي لأنه كائن لا محالة فهو كالثابت المتحقق { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ } بكسر الهاء والميم ، بصري ، وبضمهما : حمزة وعلي وخلف ، وبكسر الهاء وضم الميم : غيرهم { الحميم } الماء الحار . عن ابن عباس رضي الله عنهما : لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها .(2/350)
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
{ يُصْهَرُ } يذاب { بِهِ } بالحميم { مَا فِى بُطُونِهِمْ والجلود } أي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم فيؤثر في الظاهر والباطن { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ } سياط مختصة بهم { مِنْ حَدِيدٍ } يضربون بها { كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا } من النار { مِنْ غَمّ } بدل الاشتمال من منها بإعادة الجار ، أو الأولى لابتداء الغاية والثانية بمعنى من أجل يعني كلما أرادوا الخروج من النار من أجل غم يلحقهم فخرجوا { أُعِيدُواْ فِيهَا } بالمقامع ، ومعنى الخروج عند الحسن أن النار تضربهم بلهبها فتلقيهم إلى أعلاها فضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً ، والمراد إعادتهم إلى معظم النار لا أنهم ينفصلون عنها بالكلية ثم يعودون إليها { وَذُوقُواْ } أي وقيل لهم ذوقوا { عَذَابَ الحريق } هو الغليظ من النار المنتشر العظيم الإهلاك .
ثم ذكر جزاء الخصم الآخر فقال :
{ إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } جمع أسورة جمع سوار { مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } بالنصب : مدني وعاصم وعلي ويؤتون لؤلؤاً وبالجر : غيرهم عطفاً على { من ذهب } وبترك الهمزة الأولى في كل القرآن : أبو بكر وحماد { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } إبريسم .(2/351)