بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
{ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم } قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وإنما كتبت للفصل والتبرك للابتداء بها ، وهو مذهب أبي حنيفة ومن تابعه رحمهم الله ، ولذا لا يجهر بها عندهم في الصلاة . وقراء مكة والكوفة على أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة وعليه الشافعي وأصحابه رحمهم الله ، ولذا يجهرون بها في الصلاة وقالوا : قد أثبتها السلف في المصحف مع الأمر بتجريد القرآن عما ليس منه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله . ولنا حديث أبي هريرة قال : سمعت النبي عليه السلام يقول : " قال الله تعالى قسمت الصلاة أي الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } قال الله تعالى : حمدني عبدي . وإذا قال { الرحمن الرحيم } قال الله تعالى : أثنى عليّ عبدي . وإذا قال { مالك يَوْمِ الدين } قال : مجدني عبدي . وإذا قال { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل . فإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين } قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " فالابتداء بقوله { الحمد للَّهِ } دليل على أن التسمية ليست من الفاتحة ، وإذا لم تكن من الفاتحة لا تكون من غيرها إجماعاً ، والحديث مذكور في صحاح المصابيح . وما ذكروا لا يضرنا لأن التسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور عندنا ذكره فخر الإسلام في المبسوط . وإنما يرد علينا أن لو لم نجعلها آية في القرآن وتمام تقريره في «الكافي» .
وتعلقت الباء بمحذوف تقديره : باسم الله أقرأ أو أتلو ، لأن الذي يتلو التسمية مقروء كما أن المسافر إذا حل وارتحل فقال باسم الله والبركات كان المعنى باسم الله أحل وباسم الله أرتحل ، وكذا الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله باسم الله كان مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له . وإنما قدر المحذوف متأخراً لأن الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به ، وكانوا يبدأون بأسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات وباسم العزى ، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء وذا بتقديمه وتأخير الفعل . وإنما قدم الفعل في { اقرأ باسم رَبّكَ } [ العلق : 1 ] لأنها أول سورة نزلت في قول ، وكان الأمر بالقراءة أهم فكان تقديم الفعل أوقع . ويجوز أن يحمل { اقرأ } على معنى افعل القراءة وحققها كقولهم فلان يعطي ويمنع غير متعدٍ إلى مقروء به ، وأن يكون { باسم رَبّكَ } مفعول { اقرأ } الذي بعده .(1/1)
واسم الله يتعلق بالقراءة تعلق الدهن بالإنبات في قوله { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] على معنى متبركاً باسم الله أقرأ ففيه تعليم عباده كيف يتبركون باسمه وكيف يعظمونه . وبنيت الباء على الكسر لأنها تلازم الحرفية والجر فكسرت لتشابه حركتها عملها ، والاسم من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون كالابن والابنة وغيرهما؛ فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة تفادياً عن الابتداء بالساكن تعذراً ، وإذا وقعت في الدرج لم يفتقر إلى زيادة شيء . ومنهم من لم يزدها واستغنى عنها بتحريك الساكن فقال «سم» و«سم» وهو من الأسماء المحذوفة الأعجاز كيد ودم وأصله «سمو» بدليل تصريفه كأسماء وسمي وسميت . واشتقاقه من السمو وهو الرفعة لأن التسمية تنويه بالمسمّى وإشادة بذكره ، وحذفت الألف في الخط هنا وأثبتت في قوله : { اقرأ باسم رَبّكَ } لأنه اجتمع فيها أي في التسمية مع أنها تسقط في اللفظ لكثرة الاستعمال ، وطولت الباء عوضاً عن حذفها ، وقال عمر بن عبد العزيز لكاتبه : طول الباء وأظهر السينات ودور الميم ، والله أصله الإله ونظيره الناس أصله الأناس ، حذفت الهمزة وعوض منها حرف التعريف . والإله من أسماء الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بالحق ، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا . وأما الله بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره ، وهو اسم غير صفة لأنك تصفه ولا تصف به ، لا تقول شيء إله كما لا تقول شيء رجل ، وتقول الله واحد صمد ، ولأن صفاته تعالى لا بد لها من موصوف تجري عليه فلو جعلتها كلها صفات لبقيت صفات غير جارية على اسم موصوف بها وذا لا يجوز . ولا اشتقاق لهذا الاسم عند الخليل والزجاج ومحمد ابن الحسن والحسين بن الفضل . وقيل : معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعداً معنى واحد وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم «أله» إذا تحير ينتظمهما معنى التحير والدهشة ، وذلك أن الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش الفطن ولذا كثر الضلال وفشا الباطل وقل النظر الصحيح . وقيل : هو من قولهم أله يأله إلاهاً إذا عبد فهو مصدر بمعنى مألوه أي معبود كقوله { هذا خَلْقُ الله } [ لقمان : 11 ] أي مخلوقه . وتفخم لامه إذا كان قبلها فتحة أو ضمة ، وترقق إذا كان قبلها كسرة . ومنهم من يرققها بكل حال ، ومنهم من يفخم بكل حال والجمهور على الأول . والرحمن فعلان من رحم وهو الذي وسعت رحمته كل شيء كغضبان من غضب وهو الممتلىء غضباً ، وكذا الرحيم فعيل منه كمريض من مرض . وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم لأن في الرحيم زيادة واحدة وفي الرحمن زيادتين ، وزيادة اللفظ تدل على زيادة المعنى ، ولذا جاء في الدعاء يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن .(1/2)
وقالوا : الرحمن خاص تسمية لأنه لا يوصف به غيره ، وعام معنى لما بينا . والرحيم بعكسه لأنه يوصف به غيره ويخص المؤمنين ولذا قدم الرحمن وإن كان أبلغ والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى . يقال : فلان عالم ذو فنون نحرير لأنه كالعلم لما لم يوصف به غير الله ، ورحمة الله إنعامه على عباده وأصلها العطف وأما قول الشاعر في مسيلمة :
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا ... فباب من تعنتهم في كفرهم . ورحمن غير منصرف عند من زعم أن الشرط انتفاء فعلانة إذ ليس له فعلانة ، ومن زعم أن الشرط وجود فعلي صرفه إذ ليس له فعلى ، والأول أوجه .
{ الحمد } الوصف بالجميل على جهة التفضيل ، وهو رفع بالابتداء وأصله النصب . وقد قرىء بإضمار فعله على أنه من المصادر المنصوبة بأفعال مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكراً وكفراً . والعدول عن النصب إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره والخبر . { لِلَّهِ } واللام متعلق بمحذوف أي واجب أو ثابت . وقيل : الحمد والمدح أخوان وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها . تقول : حمدت الرجل على إنعامه وحمدته على شجاعته وحسبه ، وأما الشكر فعلى النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح قال :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
أي القلب ، والحمد باللسان وحده وهو إحدى شعب الشكر ومنه الحديث « الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده » وجعله رأس الشكر لأن ذكر النعمة باللسان أشيع لها من الاعتقاد وآداب الجوارح لخفاء عمل القلب وما في عمل الجوارح من الاحتمال ، ونقيض الحمد الذم ونقيض الشكر الكفران . وقيل : المدح ثناء على ما هو له من أوصاف الكمال ككونه باقياً قادراً عالماً أبدياً أزلياً ، والشكر ثناء على ما هو منه من أوصاف الإفضال والحمد يشملهما . والألف واللام فيه للإستغراق عندنا خلافاً للمعتزلة ، ولذا قرن باسم الله لأنه اسم ذات فيستجمع صفات الكمال وهو بناء على مسألة خلق الأفعال وقد حققته في مواضع . { رَبّ العالمين } الرب المالك ومنه قول صفوان لأبي سفيان : لأن يربني رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن . تقول ربه يربه رباً فهو رب ، ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل . ولم يطلقوا الرب إلاّ في الله وحده وهو في العبيد مع التقييد { إِنَّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْوَايَّ } [ يوسف : 23 ] { قَالَ ارجع إلى رَبّكَ } [ يوسف : 50 ] ، وقال الواسطي : هو الخالق ابتداء ، والمربي غذاء ، والغافر انتهاء . وهو اسم الله الأعظم والعالم كل ما علم به الخالق من الأجسام والجواهر والأعراض ، أو كل موجود سوى الله تعالى سمي به لأنه علم على وجوده . وإنما جمع بالواو والنون مع أنه يختص بصفات العقلاء أو ما في حكمها من الأعلام لما فيه من معنى الوصفية وهي الدلالة على معنى العلم .(1/3)
{ الرحمن الرحيم } ذكرهما قد مر وهو دليل على أن التسمية ليست من الفاتحة إذ لو كانت منها لما أعادهما لخلو الإعادة عن الإفادة .
{ مالك } : عاصم وعليّ ملك : غيرهما وهو الاختيار عند البعض لاستغنائه عن الإضافة ولقوله : { لّمَنِ الملك اليوم } [ غافر : 16 ] ولأن كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً ، ولأن أمر الملك ينفذ على المالك دون عكسه . وقيل : المالك أكثر ثواباً لأنه أكثر حروفاً . وقرأ أبو حنيفة والحسن رضي الله عنهما «ملك» { يَوْمِ الدين } أي يوم الجزاء ويقال كما تدين تدان أي كما تفعل تجازى ، وهذه إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على طريق الاتساع كقولهم :
يا سارق الليلة أهل الدار ... أي مالك الأمر كله في يوم الدين . والتخصيص بيوم الدين لأن الأمر فيه لله وحده ، وإنما ساغ وقوعه صفة للمعرفة مع أن إضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقية لأنه أريد به الاستمرار فكانت الإضافة حقيقية ، فساغ أن يكون صفة للمعرفة ، وهذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه وتعالى من كونه رباً أي مالكاً للعالمين ومنعماً بالنعم كلها ومالكاً للأمر كله يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله : { الحمد للَّهِ } دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه . { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } «إيا» عند الخليل وسيبويه اسم مضمر ، والكاف حرف خطاب عند سيبويه ولا محل له من الإعراب . وعند الخليل هو اسم مضمر أضيف «إيا» إليه لأنه يشبه المظهر لتقدمه على الفعل والفاعل . وقال للكوفيون : إياك بكمالها اسم وتقديم المفعول لقصد الاختصاص ، والمعنى نخصك بالعبادة وهي أقصى غاية الخضوع والتذلل ، ونخصك بطلب المعونة ، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب للالتفات ، وهو قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } [ يونس : 22 ] ، وقوله : { والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سحابا فَسُقْنَاهُ } [ فاطر : 9 ] ، وقول امريء القيس :
تطاول ليلك بالإثمد ... ونام الخلي ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبإٍ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود
فالتفت في الأبيات الثلاثة حيث لم يقل ليلي وبت وجاءك ، والعرب يستكثرون منه ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبوب عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه وأملأ لاستلذاذ إصغائه ، وقد تختص مواقعه بفوائد ولطائف قلما تتضح إلا للحذاق المهرة والعلماء النحارير وقليل ما هم . ومما اختص به هذا الموضع أنه لما ذكر الحقيق بالحمد والثناء ، وأجرى عليه تلك الصفات العظام تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل إياك يا من هذه صفاته نعبد ونستعين لا غيرك .(1/4)
وقدمت العبادة على الاستعانة لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة أقرب إلى الإجابة ، أو لنظم الآي كما قدم الرحمن ، وإن كان الأبلغ لا يقدم . وأطلقت الاستعانة لتتناول كل مستعان ، فيه ، ويجوز أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادات ويكون قوله : «اهدنا» بياناً للمطلوب من المعونة كأنه قيل : كيف أعينكم؟ فقالوا : { اهدنا الصراط المستقيم } أي ثبتنا على المنهاج الواضح كقولك للقائم : قم حتى أعود إليك أي أثبت على ما أنت عليه . أو اهدنا في الاستقبال كما هديتنا في الحال . وهدى يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد ، فأما تعديه إلى مفعول آخر فقد جاء متعدياً إليه بنفسه كهذه الآية ، وقد جاء متعدياً باللام وبإلى كقوله تعالى : { هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] وقوله : { هَدَانِي رَبّي إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ الأنعام : 161 ] . والسراط : الجادة من سرط الشيء إذا ابتلعه كأنه يسرط السابلة إذا سلكوه . والصراط من قلب السين صاداً لتجانس الطاء في الإطباق لأن الصاد والضاد والطاء والظاء من حروف الإطباق ، وقد تشم الصاد صوت الزاي لأن الزاي إلى الطاء أقرب لأنهما مجهورتان وهي قراءة حمزة ، والسين قراءة ابن كثير في كل القرآن وهي الأصل في الكلمة ، والباقون بالصاد الخالصة وهي لغة قريش وهي الثابتة في المصحف الإمام ، ويذكر ويؤنث كالطريق والسبيل ، والمراد به طريق الحق وهو ملة الإسلام .
{ صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من الصراط وهو في حكم تكرير العامل ، وفائدته التأكيد والإشعار بأن الصراط المستقيم تفسيره صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده وهم المؤمنون و الأنبياء عليهم السلام أو قوم موسى صلى الله عليه وسلم قبل أن يغيروا { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين } بدل من الذين أنعمت عليهم ، يعني أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال أو صفة للذين ، يعني أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله والضلال . وإنما ساغ وقوعه صفة للذين وهو معرفة و «غير» لا يتعرف بالإضافة لأنه إذا وقع بين متضادين وكانا معرفتين تعرف بالإضافة نحو »عجبت من الحركة غير السكون« . والمنعم عليهم والمغضوب عليهم متضادان ، ولأن الذين قريب من النكرة لأنه لم يرد به قوم بأعيانهم »وغير المغضوب عليهم« قريب من المعرفة للتخصيص الحاصل له بإضافته ، فكل واحد منهما فيه إبهام من وجه واختصاص من وجه فاستويا . »وعليهم« الأولى محلها النصب على المفعولية ، ومحل الثانية الرفع على الفاعلية . وغضب الله إرادة الانتقام من المكذبين وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على ما تحت يده . وقيل : المغضوب عليهم هم اليهود لقوله تعالى : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] والضالون هم النصارى لقوله تعالى(1/5)
{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } [ المائدة : 77 ] ، »ولا« زائدة عند البصريين للتوكيد ، وعند الكوفيين هي بمعنى غير . آمين صوت سمي به الفعل الذي هو استجب كما أن رويد اسم لأمهل . وعن ابن عباس رضي الله عنهما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمين فقال : «افعل» وهو مبني وفيه لغتان : مد ألفه وقصرها وهو الأصل والمد بإشباع الهمزة قال :
يا رب لا تسلبّني حبها أبدا ... ويرحم الله عبداً قال آمينا
وقال : آمين فزاد الله ما بيننا بعداً . قال عليه السلام : " لقنني جبريل آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب " وقال : إنه كالختم على الكتاب . وليس من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف .(1/6)
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الم } ونظائرها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم ، فالقاف تدل على أول حروف قال ، والألف تدل على أوسط حروف قال ، واللام تدل على الحرف الأخير منه وكذلك ما أشبهها . والدليل على أنها أسماء أن كلاً منها يدل على معنى في نفسه ويتصرف فيها بالإمالة والتفخيم وبالتعريف والتنكير و الجمع والتصغير وهي معربة ، وإنما سكنت سكون زيد وغيره من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه . وقيل : إنها مبنية كالأصوات نحو «غاق» في حكاية صوت الغراب ، ثم الجمهور على أنها أسماء السورة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أقسم الله بهذه الحروف . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إنها اسم الله الأعظم . وقيل : إنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله . وما سميت معجمة إلا لإعجامها وإبهامها . وقيل : ورود هذه الأسماء على نمط التعديد كالإيقاظ لمن تحدى بالقران . وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا إن لم تتساقط مقدرتهم دونه ولم يظهر عجزهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة وهم أمراء الكلام إلا لأنه ليس من كلام البشر وأنه كلام خالق القوى والقدر ، وهذا القول من الخلافة بالقبول بمنزل . وقيل : إنما وردت السور مصدرة بذلك ليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلاً بوجه من الإغراب وتقدمة من دلائل الإعجاز ، وذلك أن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام الأميّون منهم وأهل الكتاب بخلاف النطق بأسامي الحروف فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم ، وكان مستبعداً من الأمي التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة ، فكان حكم النطق بذلك من اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئاً من أهله حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن التي لم تكن قريش ومن يضاهيهم في شيء من الإحاطة بها في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي وشاهد لصحة نبوته .
واعلم أن المذكور في الفواتح نصف أسامي حروف المعجم وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم . وهي مشتملة على أنصاف أجناس الحروف ، فمن المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء ، ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون ، ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والقاف ، ومن الرخوة نصفها اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون ، ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء ، ومن المنفتحة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون ، ومن المستعلية نصفها القاف والصاد والطاء ، ومن المنخفضة نصفها واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون ، ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء وغير المذكورة من هذه الأجناس مكثورة بالمذكورة منها .(1/7)
وقد علمت أن معظم الشيء ينزل منزلة كله ، فكأن الله تعالى عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما مر من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم . وإنما جاءت مفرقة على السور لأن إعادة التنبيه على المتحدى به مؤلفاً منها لا غير أوصل إلى الغرض ، وكذا كل تكرير ورد في القرآن فالمطلوب منه تمكين المكرر في النفوس وتقريره . ولم تجىء على وتيرة واحدة بل اختلفت أعداد حروفها مثل : ص و ق و ن وطه وطس ويس وحم والم والر وطسم والمص والمر وكهيعص وحم عسق . فوردت على حرف وحرفين وثلاثة وأربعة وخمسة كعادة افتنانهم في الكلام . وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فسلك في الفواتح هذا المسلك . «والم» آية حيث وقعت ، وكذا { المص } آية و { المر } لم تعد آية وكذا { الر } لم تعد آية في سورها الخمس و { طسم } آية في سورتيها و { طه } و { يس } آيتان و { وطس } ليست بآية و { حم } آية في سورها كلها و { حم عسق } آيتان و { كهيعص } آية و { ص } و { ن } و { ق } ثلاثتها لم تعد آية وهذا عند الكوفيين ومن عداهم لم يعد شيئاً منها آية ، وهذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور .
ويوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده ، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات ، أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله { الم الله } [ آل عمران : 1 ] أي هذه الم ثم ابتدأ فقال : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } [ آل عمران : 1 ] ولهذه الفواتح محل من الإعراب فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام وهو الرفع على الابتداء ، أو النصب أو الجر لصحة القسم بها وكونها بمنزلة الله والله على اللغتين ، ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل في مذهبه كما لا محل للجملة المبتدأة وللمفردات المعدودة .
{ ذلك الكتاب } أي ذلك الكتاب الذي وعد به على لسان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، أو «ذلك» إشارة إلى «الم» ، وإنما ذكّر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة ، لأن الكتاب إن كان خبره كان ذلك في معناه ومسماه مسماه فجاز إجراء حكمه عليه بالتذكير والتأنيث ، وإن كان صفته فالإشارة به إلى الكتاب صريحاً لأن اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له ، تقول : هند ذلك الإنسان أو ذلك الشخص فعل كذا ، ووجه تأليف ذلك الكتاب مع «الم» إن جعلت «الم» إسماً للسورة أن يكون «الم» مبتدأ و«ذلك» مبتدأ ثانياً و«الكتاب» خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول ، ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص كما تقول : هو الرجل أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال ، وأن يكون «الم» خبر مبتدأ محذوف أي هذه «الم» جملة «وذلك الكتاب» جملة أخرى ، وإن جعلت «الم» بمنزلة الصوت كان «ذلك» مبتدأ خبره «الكتاب» أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل .(1/8)
{ لاَ رَيْبَ } لا شك وهو مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة . وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها ومنه قوله عليه السلام : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة " أي فإن كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر ، وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له وتسكن ، ومنه ريب الزمان وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه . وإنما نفى الريب على سبيل الاستغراق وقد ارتاب فيه كثير لأن المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه لا أن أحداً لا يرتاب ، وإنما لم يقل «لا فيه ريب» كما قال { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] لأن والمراد في إيلاء الريب حرف النفي نفي الريب عنه وإثبات أنه حق لا باطل كما يزعم الكفار ، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد وهو أن كتاباً آخر فيه ريب لا فيه كما قصد في قوله تعالى : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] ، تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي . والوقف على «فيه» هو المشهور . وعن نافع وعاصم أنهما وقفاً على «ريب» . ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً والتقدير : لا ريب فيه .
{ فِيهِ هُدًى } فيه بإشباع كل هاء مكي ووافقه حفص في { فيه مهاناً } [ الفرقان : 69 ] وهو الأصل كقولك مررت به ومن عنده وفي داره . وكما لا يقال في داره ومن عنده وجب أن لا يقال فيه . وقال سيبويه ما قاله مؤد إلى الجمع بين ثلاثة أحرف سواكن : الياء قبل الهاء ، والهاء إذاً الهاء المتحركة في كلامهم بمنزلة الساكنة لأنها الهاء خفية والخفي قريب من الساكن ، والياء بعدها . والهدى مصدر على فعل كالبكي وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلالة في مقابلته في قوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] وإنما قيل هدى { لّلْمُتَّقِينَ } والمتقون مهتدون لأنه كقولك للعزيز المكرم : أعزك الله وأكرمك ، تريد طلب الزيادة على ما هو ثابت فيه واستدامته كقوله : { اهدنا الصراط المستقيم } ، أو لأنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين كقوله عليه السلام(1/9)
" من قتل قتيلاً فله سلبه " وقول ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض ، فسمى المشارف للقتل والمرض قتيلاً ومريضاً . ولم يقل : هدى للضالين . لأنهم فريقان فريق علم بقاءهم على الضلالة ، وفريق علم أن مصيرهم إلى الهدى وهو هدى لهؤلاء فحسب ، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا فقيل «هدى للمتقين» مع أن فيه تصديراً للسورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن بذكر أولياء الله . والمتقى في اللغة اسم فاعل من قولهم : وقاه فاتقى ، ففاؤها واو ولامها ياء ، وإذا بنيت من ذلك افتعل قلبت الواو تاء وأدغمتها في التاء الأخرى فقلت اتقى . والوقاية فرط الصيانة ، وفي الشريعة من يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك . ومحل «هدى» الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر مع «لا ريب فيه» لذلك ، أو النصب على الحال من الهاء في «فيه» والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يقال : إن قوله «الم» جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ، «وذلك الكتاب» جملة ثانية ، «ولا ريب فيه» ثالثة ، و«هدى للمتقين» رابعة . وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف عطف وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض ، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة ، بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريراً لجهة التحدي ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلاً بكماله لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة . وقيل لعالم : فيم لذتك؟ قال : في حجة تتبختر اتضاحاً وفي شبهة تتضاءل افتضاهاً . ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ونظمت هذا النظم الرشيق من نكتة ذات جزالة . ففي الأولى الحذف والرمز إن المطلوب بألطف وجه ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ، ووضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد» كأن نفسه هداية وإيراده منكراً ففيه إشعار بأنه هدى لا يكتنه كنهه . والإيجاز في ذكر المتقين كما مر .
{ الذين } في موضع رفع أو نصب على المدح أي هم الذين يؤمنون أو أعني الذين يؤمنون ، أو هو مبتدأ وخبره «أولئك على هدى» ، أو جر على أنه صفة للمتقين ، وهي صفة واردة بياناً وكشفاً للمتقين كقولك «زيد الفقيه» المحقق لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من الإيمان الذي هو أساس الحسنات ، والصلاة والصدقة فهما العبادات البدنية والمالية وهما العيار على غيرهما ، ألا ترى أن النبي عليه السلام سمى الصلاة عماد الدين ، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة ، وسمى الزكاة قنطرة الإسلام فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات ، ولذلك اختصر الكلام بأن استغنى عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين ، أو صفة مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها كقولك : زيد الفقيه المتكلم الطبيب ، ويكون المراد بالمتقين الذين يجتنبون السيئات { يُؤْمِنُونَ } يصدقون وهو إفعال من الأمن وقولهم : آمنه أي صدقه وحقيقته أمنه التكذيب والمخالفة ، وتعديته بالباء لتضمنه معنى أقر واعترف .(1/10)
{ بالغيب } بما غاب عنهم مما أنبأهم به النبي عليه السلام من أمر البعث والنشور والحساب وغير ذلك ، فهو بمعنى الغائب تسمية بالمصدر من قولك «غاب الشيء غيباً» . هذا إن جعلته صلة للإيمان ، وإن جعلته حالاً كان بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيبة ، والإيمان الصحيح أن يقر باللسان ويصدق بالجنان والعمل ليس بداخل في الإيمان . { وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } أي يؤدونها فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت وهو القيام وبالركوع والسجود والتسبيح لوجودها فيها ، أو أريد بإقامة الصلاة تعديل أركانها من أقام العود إذا قومه ، أو الدوام عليها والمحافظة من قامت السوق إذا نفقت لأنه إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ، وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه ، والصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى ، وكتابتها بالواو على لفظ المفخم . وحقيقة صلى حرك الصلوين أي الأليتين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده . وقيل للداعي مصل تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد { وَمِمَّا َرَزَقْنَاهُمْ } أعطيناهم . و «ما» بمعنى «الذي» { يُنفِقُونَ } يتصدقون . أدخل «من» التبعيضية صيانة لهم عن التبذير المنهي عنه وقدم المفعول دلالة على كونه أهم والمراد به الزكاة لاقترانه بالصلاة التي هي أختها أو هي غيرها من النفقات في سبل الخير لمجيئه مطلقاً ، وأنفق الشيء وأنفده أخوان كنفق الشيء ونفد ، وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء فدال على معنى الخروج والذهاب . ودلت الآية على أن الأعمال ليست من الإيمان حيث عطف الصلاة والزكاة على الإيمان والعطف يتقضي المغايرة .
{ والذين يُؤْمِنُونَ } هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا بكل وحي أنزل من عند الله وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات ، ثم إن عطفتهم على الذين يؤمنون بالغيب دخلوا في جملة المتقين ، وإن عطفتهم على المتقين لم يدخلوا فكأنه قيل : هدى للمتقين ، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك ، أو المراد به وصف الأولين ووسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك : هو الشجاع والجواد ، وقوله :(1/11)
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
والمعنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه { بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ } يعني القرآن المراد جميع القرآن لا القدر الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم ، لأنه الإيمان بالجميع واجب . وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد ، ولأنه إذا كان بعضه نازلاً وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل . { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني سائرالكتب المنزلة على النبيين عليهم الصلاة والسلام { وبالآخرة } وهي تأنيث الآخر الذي هو ضد الأول وهي صفة والموصوف محذوف وهو الدار بدليل قوله : { تِلْكَ الدار الآخرة } [ القصص : 83 ] وهي من الصفات الغالبة وكذلك الدنيا . وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام . { هُمْ يُوقِنُونَ } الإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه . { أولئك على هُدًى } الجملة في موضع الرفع إن كان «الذين يؤمنون بالغيب» مبتدأ وإلا فلا محمل لها ، ويجوز أن يجري الموصول الأول على «المتقين» وأن يرتفع الثاني على الإبتداء و«أولئك» خبره ، ويجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله . ومعنى الاستعلاء في «على هدى» مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونحوه «هو على الحق وعلى الباطل» وقد صرحوا بذلك في قولهم : جعل الغواية مركباً ، وامتطى الجهل ، واقتعد غارب الهوى . ومعنى هدى { مّن رَّبّهِمُ } أي أوتوه من عنده . ونكر «هدى» ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه كأنه قيل على أي هدى ونحوه «لقد وقعت على لحم» أي على لحم عظيم .
{ وأولئك هُمْ المفلحون } أي الظافرون بما طلبوا الناجون عما هربوا؛ فالفلاح درك البغية والمفلح الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته في الفاء والعين نحو «فلق وفلز وفلى» ، وجاء العطف هنا بخلاف قوله : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ] لاختلاف الخبرين المقتضيين للعطف هنا واتحاد الغفلة والتشبيه بالبهائم ثمّ ، فكانت الثانية مقررة للأولى فهي من العطف بمعزل ، وهم فصل .(1/12)
وفائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة والتوكيد وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره ، أو هو مبتدأ و«المفلحون» خبره ، والجملة خبر «أولئك» فانظر كيف قرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره ، ففيه تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى فهي ثابتة لهم بالفلاح . وتعريف المفلحون ففيه دلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو؟ فقيل : زيد التائب أي هو الذي أخبرت بتوبته . وتوسيط الفصل بينه وبين «أولئك» ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا . اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة [ الآيتان : 6 ، 7 ] .
لما قدم ذكر أوليائه بصفاتهم المقربة إليه ، وبيَّن أن الكتاب هدى لهم قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى بقوله :(1/13)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } الكفر ستر الحق بالجحود ، والتركيب دال على الستر ولذا سمي الزراع كافراً وكذا الليل . ولم يأت بالعاطف هنا كما في قوله : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ } [ الأنفطار : 13 ، 14 ] لأن الجملة الأولى هنا مسوقة بياناً لذكر الكتاب لا خبراً عن المؤمنين وسيقت الثانية للإخبار عن الكفار بكذا ، فبين الجملتين تفاوت في المراد وهما على حد لا مجال للعطف فيه ، ولئن كان مبتدأ على تقرير فهو كالجاري عليه ، والمراد بالذين كفروا أناس بأعيانهم علم الله أنهم لا يؤمنون كأبي جهل وأبي لهب وأضرابهما . { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } بهمزتين كوفي ، وسواء بمعنى الاستواء ، وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى : { إلى كَلِمَةٍ سَوَاء } [ آل عمران : 64 ] ، أي مستوية ، وارتفاعه على أنه خبر لإن و«أأنذرتهم أم لم تنذرهم» مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل : إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه . أو يكون «سواء» خبراً مقدماً و«أأنذرتهم أم لم تنذرهم» في موضع الابتداء أي سواء عليهم إنذارك وعدمه ، والجملة خبر ل «إن» وإنما جاز الإخبار عن الفعل مع أنه خبر أبداً لأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى . والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً . قال سيبويه : جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك «اللهم اغفر لنا أيتها العصابة» يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما جرى ذلك على صورة النداء ولا نداء . والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر على المعاصي { لاَ يُؤْمِنُونَ } جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبر ل «إن» ، والجملة قبلها اعتراض أو خبر بعد خبر . والحكمة في الإنذار مع العلم بالإصرار إقامة الحجة وليكون الإرسال عاماً وليثاب الرسول صلى الله عليه وسلم .
{ خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ } قال الزجاج : الختم التغطية لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه تغطية له لئلا يطلع عليه . وقال ابن عباس : طبع الله على قلوبهم فلا يعقلون الخير . يعني أن الله طبع عليها فجعلها بحيث لا يخرج منها ما فيها من الكفر ولا يدخلها ما ليس فيها من الإيمان . وحاصل الختم والطبع خلق الظلمة والضيق في صدر العبد عندنا فلا يؤمن ما دامت تلك الظلمة في قلبه . وعند المعتزلة أعلام محض على القلوب بما يظهر للملائكة أنهم كفار فيلعنونهم ولا يدعون لهم بخير . وقال بعضهم : إن إسناد الختم إلى الله تعالى مجاز والخاتم في الحقيقة الكافر ، إلا أنه تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب فيقال : بنى الأمير المدينة ، لأن للفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له ، فإسناده إلى الفاعل حقيقة .(1/14)
وقد يسند إلى هذه الأشياء مجازاً لمضاهاتها الفاعل في ملابسة الفعل كما يضاهي الرجل الأسد في جرأته فيستعار له إسمه وهذا فرع مسألة خلق الأفعال { وعلى سَمْعِهِمْ } وحد السمع كما وحد البطن في قوله :
كلوا من بعض بطنكم تعفوا
لأمن اللبس ولأن السمع مصدر في أصله يقال : سمعت الشيء سمعاً وسماعاً ، والمصدر لا يجمع لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير فلا يحتاج فيه إلى التثنية والجمع فلمح الأصل . وقيل : المضاف محذوف أي وعلى مواضع سمعهم وقرىء «وعلى أسماعهم» . { وعلى أبصارهم غشاوة } بالرفع خبر ومبتدأ ، والبصر : نور العين وهو ما يبصر به الرائي ، كما أن البصيرة نور القلب وهي ما به يستبصر ويتأمل وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما الله تعالى فيهما آلتين للإبصار والاستبصار . والغشاوة : الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة والقلادة . والأسماع داخلة في حكم الختم لا في حكم التغشية لقوله : { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة } [ الجاثية : 23 ] ، ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم . ونصب المفضل وحده غشاوة بإضمار «جعل» وتكرير الجار في قوله «وعلى سمعهم» دليل على شدة الختم في الموضعين . قال الشيخ الإمام أبو منصور بن علي رحمه الله : الكافر لما لم يسمع قول الحق ولم ينظر في نفسه وفي غيره من المخلوقات ليرى آثار الحدوث فيعلم أن لا بد من صانع ، جعل كأن على بصره وسمعه غشاوة ، وإن لم يكن ذلك حقيقة وهذا دليل على أن الأسماع عنده داخلة في حكم التغشية . والآية حجة لنا على المعتزلة في الأصلح فإنه أخبر أنه ختم على قلوبهم ولا شك أن ترك الختم أصلح لهم . { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } العذاب مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول نكل عنه ، والفرق بين العظيم والكبير أن العظيم يقابل الحقير والكبير يقابل الصغير فكأن العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير . ويستعملان في الجثة والأحداث جميعاً تقول رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره . ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من التغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله ، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم من العذاب لا يعلم كنهه إلا الله .
{ وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر } افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ، ثم ثنى بالكافرين قلوباً وألسنة ، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وهم أخبث الكفرة لأنهم خلطوا بالكفر استهزاءً وخداعاً ولذا نزل فيهم(1/15)
{ إِنَّ المنافقين فِى الدرك الأسفل مِنَ النار } [ النساء : 145 ] وقال مجاهد : أربع آيات من أول السورة في نعت المؤمنين ، وآيتان في ذكر الكافرين ، وثلاث عشرة آية في المنافقين ، نعى عليهم فيها نكرهم وخبثهم وسفههم ، واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً ، وضرب لهم الأمثال الشنيعة . وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة . وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفاً وحذفها كاللازم مع لام التعريف لا يكاد يقال الأناس ويشهد لأصله إنسان وأناسي وإنس ، وسموا به لظهروهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم . ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول فإنك تقول وزن قه افعل وليس معك إلا العين ، وهو من أسماء الجمع ولام التعريف فيه للجنس ومن موصوفة ويقول صفة لها كأنه قيل ومن الناس ناس يقولون كذا . وإنما خصوا الإيمان بالله وباليوم الآخر وهو الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع ، وإنما سمي بالآخر لتأخره عن الأوقات المنقضية أو الوقت المعهود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنهم أوهموا في هذا المقال أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره ، وهذا لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى مسائل المبدأ وهي العلم بالصانع وصفاته وأسمائه ، ومسائل المعاد وهي العلم بالنشور والبعث من القبور والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة . وفي تكرير الباء إشارة إلى أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام . وإنما طابق قوله { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } وهو في ذكر شأن الفاعل لا الفعل ، قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهو في ذكر شأن الفعل لا الفاعل لأن المراد إنكار ما ادعوه ونفيه على أبلغ وجه وآكده وهو إخراج ذواتهم من أن تكون طائفة من المؤمنين ، ونحوه قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } [ المائدة : 37 ] ، فهو أبلغ من قولك «وما يخرجون منها» . وأطلق الإيمان في الثاني بعد تقييده في الأول لأنه يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه ، ويحتمل أن يراد نفي أصل الإيمان وفي ضمنه نفي المذكور أولاً . والآية تنفي قول الكرامية : إن الإيمان هو الإقرار باللسان لا غير لأنه نفى عنهم اسم الإيمان مع وجود الإقرار منهم ، وتؤيد قول أهل السنة إنه إقرار باللسان وتصديق بالجنان . ودخلت الباء في خبر «ما» مؤكدة للنفي لأنه يستدل به السامع على الجحد إذا غفل عن أول الكلام ، ومن موحد اللفظ فلذا قيل يقول وجمع «وما هم بمؤمنين» نظراً إلى معناه .
{ يخادعون الله } أي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذف المضاف كقوله { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] كذا قاله أبو علي رحمه الله وغيره ، أي يظهرون غير ما في أنفسهم .(1/16)
فالخداع إظهار غير ما في النفس ، وقد رفع الله منزلة النبي صلى الله عليه وسلم حيث جعل خداعه خداعه وهو كقوله : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] وقيل : معناه يخادعون الله في زعمهم لأنهم يظنون أن الله ممن يصح خداعه ، وهذا المثال يقع كثيراً لغير اثنين نحو قولك «عاقبت اللص» . وقد قرىء «يخدعون الله» وهو بيان ليقول أو مستأنف كأنه قيل : ولم يدعون الإيمان كاذبين وما منفعتهم في ذلك؟ قيل : يخادعون الله ، ومنفعتهم في ذلك متاركتهم عن المحاربة التي كانت مع من سواهم من الكفار وإجراء أحكام المؤمنين عليهم ونيلهم من الغنائم وغير ذلك . قال صاحب الوقوف : الوقف لازم على «بمؤمنين» لأنه لو وصل لصار التقدير وما هم بمؤمنين مخادعين فينتفي الوصل كقولك «ما هو برجل كاذب» والمراد نفي الإيمان عنهم وإثبات الخداع لهم . ومن جعل «يخادعون» حالاً من الضمير في يقول والعامل فيها «يقول» والتقدير يقول آمنا بالله مخادعين أو حالاً من الضمير في «بمؤمنين» والعامل فيها اسم الفاعل والتقدير وما هم بمؤمنين في حال خداعهم لا يقف والوجه الأول : { والذين ءامَنُواْ } أي يخادعون رسول الله والمؤمنين بإظهار الإيمان وإضمار الكفر . { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } أي وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم ، لأن ضررها يلحقهم . وحاصل خداعهم وهو العذاب في الآخرة يرجع إليهم فكأنهم خدعوا أنفسهم وما يخادعون . أبو عمرو ونافع ومكي للمطابقة وعذر الأولين أن خدع وخادع هنا بمعنى واحد ، والنفس ذات الشيء وحقيقته . ثم قيل للقلب والروح النفس لأن النفس بهما ، وللدم نفس لأن قوامها بالدم ، وللماء نفس لفرط حاجتها إليه ، والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم ، والمعنى بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم . { وَمَا يَشْعُرُونَ } أن حاصل خداعهم يرجع إليهم والشعور علم الشيء علم حس من الشعار وهو ثوب يلي الجسد ، ومشاعر الإنسان حواسه لأنها آلات الشعور ، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس وهم ، لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له .
{ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } أي شك ونفاق لأن الشك تردد بين الأمرين والمنافق متردد . في الحديث " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين " والمريض متردد بين الحياة والموت ، ولأن المرض ضد الصحة والفساد يقابل الصحة فصار المرض اسماً لكل فساد والشك والنفاق فساد في القلب . { فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا } أي ضعفاً عن الانتصار وعجزاً عن الاقتدار . وقيل : المراد به خلق النفاق في حالة البقاء بخلق أمثاله كما عرف في زيادة الإيمان . { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } كوفي . أي بكذبهم في قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، فما مع الفعل بمعنى المصدر ، والكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به يكذبون غيرهم أي بتكذيبهم النبي عليه السلام فيما جاء به . وقيل : هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل صدق ونظيرهما بان الشيء وبين .(1/17)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } معطوف على «يكذبون» ويجوز أن يعطف على «يقول آمنا» لأنك لو قلت ومن الناس من إذا قيل لهم { لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض } لكان صحيحاً ، والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به ، وضده الصلاح وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة . والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية ، وكان فساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم وذلك مما يؤدي إلى هيج الفتن بينهم . { قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } بين المؤمنين والكافرين بالمداراة يعني أن صفة المصلحين خلصت لنا وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد ، لأن «إنما» لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك «إنما ينطلق زيد وإنما زيد كاتب» و «ما» كافة لأنها تكفها عن العمل . { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } أنهم مفسدون فحذف المفعول للعمل به . «ألا» مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها ، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحققاً كقوله تعالى : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر } [ القيامة : 40 ] ، ولكونها في هذا المنصب من التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم ، وقد رد الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ رد وأدله على سخط عظيم والمبالغة فيه من جهة الاستئناف ، وما في «ألا» و «إن» من التأكيد وتعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله «لا يشعرون» .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَا ءَامَنَ الناس قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء } نصحوهم من وجهين : أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده عن الصواب وجره إلى الفساد ، وثانيهما تبصيرهم الطريق الأسَدَََّ من اتباع ذوي الأحلام ، فكان من جوابهم أن سفهوهم لتمادي جهلهم ، وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة . وإنما صح إسناد «قيل» إلى «لا تفسدوا» و«آمنوا» مع أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يصح ، لأنه إسناد إلى لفظ الفعل والممتنع إسناد الفعل إلى معنى الفعل فكأنه قيل : وإذا قيل لهم هذا القول ومنه زعموا مطية الكذب . و «ما» في كما كافة في «ربما» ، أو مصدرية كما في { بِمَا رَحُبَتْ } [ التوبة : 25 ] واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه وهم ناس معهودون ، أو عبد الله بن سلام وأشياعه أي كما آمن أصحابكم وإخوانكم ، أو للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية ، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم ، والكاف في «كما» في موضع النصب لأنه صفة مصدر محذوف أي إيماناً مثل إيمان الناس ومثله كما آمن السفهاء .(1/18)
والاستفهام في «أنؤمن» للإنكار ، في «السفهاء» مشار بها إلى الناس ، وإنما سفهوهم وهم العقلاء المراجيح لأنهم لجهلهم اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل ، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً والسفه سخافة العقل وخفة الحلم . { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } أنهم هم السفهاء . وإنما ذكر هنا «لا يعلمون» وفيما تقدم «لا يشعرون» لأنه قد ذكر السفه وهوجهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له ، ولأن الإيمان يحتاج فيه إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة ، أما الفساد في الأرض فأمر مبني على العادات فهو كالمحسوس . والسفهاء خبر «إن» و «هم» فصل أو مبتدأ والسفهاء خبرهم والجملة خبر «إن» .
{ وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا } وقرأ أبو حنيفة رحمه الله «وإذا لاقوا» يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه . الآية الأولى في بيان مذهب المنافقين والترجمة عن نفاقهم ، وهذه في بيان ما كانوا يعملون مع المؤمنين من الاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم . { وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم } خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه ، وبإلى أبلغ لأن فيه دلالة الابتداء والانتهاء أي إذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم ، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى مضى . وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم اليهود . وعن سيبويه أن نون الشياطين أصلية بدليل قولهم «تشيطن» ، وعنه أنها زائدة واشتقاقه من «شطن» إذا بعد لبعده من الصلاح والخير ، أو من شاط إذا بطل ومن أسمائه الباطل . { قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ } إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم . وإنما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالاسمية محققة ب «إن» لأنهم في خطابهم مع المؤمنين في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان ، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك ، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التأكيد والمبالغة ، وكيف يطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار . وأما خطابهم مع إخوانهم فقد كان عن رغبة وقد كان متقبلاً منهم رائجاً عنهم فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتأكيد . وقوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } تأكيد لقوله «إنا معكم» لأن معناه الثبات على اليهودية ، وقوله «إنما نحن مستهزئون» رد للإسلام ودفع لهم منهم لأن المستهزىء بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتداً به ، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو استنئاف كأنهم اعترضوا عليهم بقولهم حين قالوا إنا معكم إن كنتم معنا فلم توافقون المؤمنين فقالوا إنما نحن مستهزئون . والاستهزاء السخرية والاستخفاف وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع ، وهزأ يهزأ مات على المكان .(1/19)
{ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمُ } أي يجازيهم على استهزائهم فسمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله تعالى : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] . { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] فسمى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن الجزاء سيئة واعتداء ، وهذا لأن الاستهزاء لا يجوز على الله تعالى من حيث الحقيقة لأنه من باب العبث وتعالى عنه . قال الزجاج : هو الوجه المختار . واستئناف قوله تعالى «الله يستهزىء بهم» من غير عطف في غاية الجزالة والفخامة ، وفيه أن الله هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء لما ينزل بهم من النكال والذل والهوان . ولما كانت نكايات الله وبلاياه تنزل عليهم ساعة فساعة قيل «الله يستهزىء بهم» ولم يقل الله مستهزىء بهم ليكون طبقاً لقوله «إنما نحن مستهزؤون» { وَيَمُدُّهُمْ } أي يمهلهم عن الزجاج { فِي طغيانهم } في غلوهم في كفرهم { يَعْمَهُونَ } حال أي يتحيرون ويترددون وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح . { أولئك } مبتدأ خبره . { الذين اشتروا الضلالة بالهدى } أي استبدلوها به واختاروها عليه . وإنما قال اشتروا الضلالة بالهدى ولم يكونوا على هدى لأنها في قوم آمنوا ثم كفروا ، أو في اليهود الذين كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم كفروا به ، أو جعلوا لتمكنهم منه كأن الهدى قائم فيهم فتركوه بالضلالة ، وفيه دليل على جواز البيع تعاطياً لأنهم لم يتلفظوا الشراء ولكن تركوا الهدى بالضلالة عن اختيارهم ، وسمي ذلك شراء فصار دليلاً لنا على أن من أخذ شيئاً من غيره ترك عليه عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم به . والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء ، يقال ضل منزله فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين . { فَمَا رَبِحَت تجارتهم } الربح الفضل على رأس المال ، والتجارة صناعة التاجر وهو الذي يبيع ويشتري للربح ، وإسناد الربح إلى التجارة من الإسناد المجازي ، ومعناه فما ربحوا في تجارتهم إذ التجارة لا تربح ، ولما وقع شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ذكر الربح والتجارة ترشيحاً له كقوله :
ولما رأيت النسر عز ابن دأية ... وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه ذكر التعشيش والوكر . { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر . والمعنى أن مطلوب التجار سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوهما ، فرأس مالهم الهدى ولم يبق لهم مع الضلالة ، وإذا لم يبق لهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح وإن ظفروا بالأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر ، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح . وقيل : «الذين» صفة «أولئك» و«فما ربحت تجارتهم» إلى آخر الآية في محل رفع خبر «أولئك» .(1/20)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
{ مّثْلُهُمْ كَمِثْلِِ الذي استوقد نَاراً } لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان ، ولضرب الأمثال في إبراز خفيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق تأثير ظاهر ، ولقد كثر ذلك في الكتب السماوية ومن سور الإنجيل سورة الأمثال . والمثل في أصل كلامهم هو المثل وهو النظير . يقال : مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل ولم يضربوا مثلاً إلا قولاً فيه غرابة ولذا حوفظ عليه فلا يغير . وقد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قيل : حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً ، وكذلك قوله { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } [ الرعد : 35 ] أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة الشأن ، ثم أخذ في بيان عجائبها ولله المثل الأعلى أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة ووضع «الذي» موضع الذين كقوله { وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] فلا يكون تمثيل الجماعة بالواحدة ، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أريد الفوج الذي استوقد ناراً على أن ذوات المنافقين لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد . ومعنى استوقد أوقد ، ووقود ووقود النار سطوعها ، والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق ، واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطراباً . { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } الإضاءة فرط الإنارة ومصداقه قوله { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً } [ يونس : 5 ] وهي في الآية متعدية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله ، والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء . وجواب فلما { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } وهو ظرف زمان والعامل فيه جوابه مثل «إذا» . و«ما» موصولة و«حوله» نصب على الظرف أو نكرة موصوفة والتقدير : فلما أضاءت شيئاً ثابتاً حوله . وجمع الضمير وتوحيده للحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى . والنور ضوء النار وضوء كل نير ، ومعنى أذهبه أزاله وجعله ذاهباً ، ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به . والمعنى أخذ بنورهم وأمسكه وما يمسك فلا مرسل له فكان أبلغ من الإذهاب . ولم يقل ذهب الله بضوئهم لقوله «فلما أضاءت» لأن ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة والمراد إزالة النور عنهم رأساً ، ولو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً ، ألا ترى كيف ذكر عقيبه { وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات } والظلمة عرض ينافي النور . وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله { لاَّ يُبْصِرُونَ } وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد ، فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه «وتركهم في ظلمات» أصله «هم في ظلمات» ثم دخل «ترك» فنصب الجزأين والمفعول الساقط من «لا يبصرون» من قبيل المتروك المطروح لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلاً .(1/21)
وإنما شبهت حالهم بحال المستوقد لأنهم غب الإضاءة وقعوا في ظلمة وحيرة ، نعم المنافق خابط في ظلمات الكفر أبداً ولكن المواد ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق المفضية بهم إلى ظلمة العقاب السرمدي . وللآية تفسير آخر وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات وتنكير النار للتعظيم . { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } أي هم صم ، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم ، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم وأن ينظروا أو يتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما أنفت مشارعهم . وطريقته عند علماء البيان طريقة قولهم : هم ليوث للشجعان وبحور للأَسخياء إلا أن هذا في الصفات وذلك في الأسماء ، وما في الآية تشبيه بليغ في الأصح لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون ، والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها لتنوع الرجوع إلى الشيء . وعنه أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون .
{ أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } ثنى الله سبحانه وتعالى في شأنهم بتمثيل آخر لزيادة الكشف والإيضاح . وشبه المنافق في التمثيل الأول بالمستوقد ناراً وإظهاره الإيمان بالإضاءة وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار ، وهنا شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات ، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا من جهة أهل الإسلام بالصواعق . والمعنى أو كمثل ذوي صيب فحذف «مثل» لدلالة العطف عليه «وذوي» لدلالة «يجعلون» عليه . والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء بهذه الصفة فلقوا منها ما لقوا ، فهذا تشبيه أشياء بأشياء إلا أنه لم يصرح بذكر المشبهات كما صرح في قوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسيء } [ غافر : 58 ] ، وقول امرىء القيس :
كأن قلوب الطير رطباً ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
بل جاء به مطوياً ذكره على سنن الاستعارة . والصحيح أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به .(1/22)
بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولاً بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها كما فعل امرؤ القيس ، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئاً واحداً بأخرى مثلها كقوله تعالى : { مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } [ الجمعة : 5 ] الآية . فالمراد تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوارة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة ، وتساوي الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار لا يشعر من ذلك إلا بما يمر بدفيه من الكد والتعب . وكقوله : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَاء أنزلناه مِنَ السماء } [ الكهف : 45 ] ، فالمراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر فهو تشبيه كيفية بكيفة ، فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئاً واحداً فلا . فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة ، شبهت حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد أيقادها في ظلمة الليل ، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق ، والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر ولذا أخر ، وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ . وعطف أحد التمثيلين على الآخر ب «أو» لأنها في أصلها لتساوي شيئين فصاعداً في الشك عند البعض ، ثم استعيرت لمجرد التساوي كقولك «جالس الحسن أو ابن سيرين» تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا ، وقوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الدهر : 24 ] ، أي الآثم والكفور سيان في وجوب العصيان فكذا هنا معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتي هاتين القصتين وأن الكيفيتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل ، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب ، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك . والصيب : المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع يقال للسحاب صيب أيضاً . وتنكير «صيب» لأنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول ، والسماء هذه المظلة . وعن الحسن أنها موج مكفوف . والفائدة في ذكر السماء . والصيب لا يكون إلا من السماء أنه جاء بالسماء معرفة فأفاد أنه غمام أخذ بآفاق السماء ونفى أن يكون من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق ، لأن كل أفق من آفاقها سماء ، ففي التعريف مبالغة كما في تنكير صيب وتركيبه وبنائه ، وفيه دليل على أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه ، وقيل : إنه يأخذ من البحر ويرتفع .
«ظلمات» مرفوع بالجار والمجرور لأنه قد قوي لكونه صفة لصيب بخلاف ما لو قلت ابتداء «فيه ظلمات» ففيه خلاف بين الأخفش وسيبويه .(1/23)
والرعد : الصوت الذي يسمع من السحاب لاصطكاك أجرامه ، أو ملك يسوق السحاب . والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً إذا لمع ، والضمير في «فيه» يعود إلى الصيب فقد جعل الصيب مكاناً للظلمات ، فإن أريد به السحاب فظلماته إذا كان أسحم مطبقاً ، ظلمتا سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل . وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة أظلال غمامه مع ظلمة الليل . وجعل الصيب مكاناً للرعد والبرق على إرادة السحاب به ظاهر ، وكذا إن أريد به المطر لأنهما ملتبسان به في الجملة . ولم يجمع الرعد والبرق لأنهما مصدران في الأصل ، يقال رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً فروعي حكم الأصل بأن ترك جمعهما . ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف . { يَجْعَلُونَ أصابعهم فِي ءَاذَانِهِم } الضمير لأصحاب الصيب وإن كان محذوفاً كما في قوله : { أو هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] لأن المحذوف باقٍ معناه وإن سقط لفظه . ولا محل ل «يجعلون» لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلاً قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل : يجعلون أصابعهم في آذانهم . ثم قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقال : يكاد البرق يخطف أبصارهم . وإنما ذكر الأصابع ولم يذكر الأنامل ورؤوس الأصابع هي التي تجعل في الأذان اتساعاً كقوله : { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] والمراد إلى الرسغ ، ولأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل . وإنما لم يذكر الأصبع الخاص الذي تسدّ به الأذن لأن السبابة فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن ، ولم يذكر المسبحة لأنها مستحدثة غير مشهورة . { مّنَ الصواعق } متعلق ب «يجعلون» أي من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم . والصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار . قالوا : تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلاَّ أتت عليه ، إلاَّ أنها مع حدتها سريعة الخمود . يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو نصفها ثم طفئت . ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق أي : مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق { حَذَرَ الموت } مفعول له ، والموت فساد بنية الحيوان أو عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة { والله مُحِيطٌ بالكافرين } يعني : أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط فهو مجاز وهذه الجملة اعتراض لا محل لها .(1/24)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
{ يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم } الخطف الأخذ بسرعة ، و «كاد» يستعمل لتقريب الفعل جداً ، وموضع يخطف نصب لأنه خبر «كاد» . { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم } «كل» ظرف و «ما» نكرة موصوفة معناها الوقت ، والعائد محذوف أي كل وقت أضاء لهم فيه ، والعامل فيه جوابها وهو { مَّشَوْاْ فِيهِ } أي في ضوئه وهو استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول : كيف يصنعون في تارتي خفوق البرق وخفيته؟ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة ، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين . و «أضاء» متعدٍ كلما نور لهم ممشى ومسلكاً أخذوه ، والمفعول محذوف . أو غير متعدٍ أي كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره . والمشي جنس الحركة المخصوصة فإذا اشتد فهو سعي فإذا ازداد فهو عدوٌ . { وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ } «أظلم» غير متعدٍ وذكر مع «أضاء» «كلما» ومع «أظلم» «إذا» لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف . { قَامُواْ } وقفوا وثبتوا في مكانهم ومنه قام الماء إذا جمد . { وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } بقصيف الرعد { وأبصارهم } بوميض البرق . ومفعول «شاء» محذوف لدلالة الجواب عليه أي ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما ولقد تكاثر هذا الحذف في «شاء» وأراد لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كنحو قوله :
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وقوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً } [ الأنبياء : 17 ] . { وَلَوْ أَرَاد الله أن يتخذْ وَلَدًا } { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي إن الله قادر على كل شيء .
لما عدد الله فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم وأحوالهم وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ويحظيها عند الله ويرديها أقبل عليهم بالخطاب وهو من الالتفات المذكور فقال : { يا أَيُّهَا الناس } قال علقمة : ما في القرآن «يا أيها الناس» فهو خطاب لأهل مكة ، وما فيه «يا أيها الذين آمنوا» فهو خطاب لأهل المدينة ، وهذا خطاب لمشركي مكة ، و «يا» حرف وضع لنداء البعيد ، وأي والهمزة للقريب ، ثم استعمل في مناداة من غفا وسها وإن قرب ودنا تنزيلاً له منزلة من بعد ونأى ، فإذا نودي به القريب المقاطن فذاك للتوكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معتنى به جداً . وقول الداعي «يا رب» وهو أقرب إليه من حبل الوريد استقصار منه لنفسه واستبعاد لها عن مظان الزلفى هضماً لنفسه وإقراراً عليها بالتفريط مع فرط التهالك على استجابة دعوته .(1/25)
و «أي» وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن «ذو» و «الذي» وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل ، وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يزيل إبهامه فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يتضح المقصود بالنداء . فالذي يعمل فيه «يا أي» ، أي والتابع له صفته نحو «يا زيد الظريف» إلا أن «أيا» لا يستقل بنفسه استقلال زيد فلم ينفك عن الصفة ، وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لتأكيد معنى النداء وللعوض عما يستحقه أي من الإضافة . وكثر النداء في القرآن على هذه الطريقة لأن ما نادى الله به عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده أمور عظام وخطوب جسام ، يجب عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم إليها وهم عنها غافلون ، فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ . { اعبدوا رَبَّكُمُ } وحدوه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل عبادة في القرآن فهي توحيد { الذي خَلَقَكُمْ } صفة موضحة مميزة لأنهم كانوا يسمون الآلهة أرباباً . والخلق إيجاد المعدوم على تقدير واستواء ، وعند المعتزلة إيجاد الشيء على تقدير واستواء ، وهذا بناء على أن المعدوم شيء عندهم لأن الشيء ما صح أن يعلم ويخبر عنه عندهم ، وعندنا هو اسم للموجود . خلقكم بالإدغام : أو عمرو . { والذين مِن قَبْلِكُمْ } احتج عليهم بأنه خالقهم وخالق من قبلهم لأنهم كانوا مقرين بذلك فقيل لهم : إن كنتم مقرين بأنه خالقكم فاعبدوه ولا تعبدوا الأصنام . { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي اعبدوا على رجاء أن تتقوا فتنجوا بسببه من العذاب . و «لعل» للترجي والإطماع ولكنه إطماع من كريم فيجري مجرى وعده المحتوم وفاؤه ، وبه قال سيبويه . وقال قطرب : هو بمعنى «كي» أي لكي تتقوا . { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض } أي صير ومحل «الذي» نصب على المدح أو رفع بإضمار هو «فراشاً» بساطاً تقعدون عليها وتنامون وتتقلبون وهو مفعول ثانٍ لجعل ، وليس فيه دليل على أن الأرض مسطحة أو كرية إذ الافتراش ممكن على التقديرين . { والسماء بِنَاءً } سقفاً كقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] ، وهو مصدر سمي به المبنى . { وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً } مطراً { فَأَخْرَجَ بِهِ } بالماء ، نعم خروج الثمرات بقدرته ومشيئته وإيجاده ولكن جعل الماء سبباً في خروجها كماء الفحل في خلق الولد وهو قادر على إنشاء الكل بلا سبب كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في إنشاء الأشياء مدرجاً لها من حال إلى حال وناقلاً من مرتبة إلى مرتبة ، حكماً وعبراً للنظار بعيون الاستبصار . و «من» في { مِنَ الثمرات } للتبعيض أو للبيان { رِزْقاً } مفعول له إن كانت «من» للتبعيض ، ومفعول به ل «أخرج» إن كانت للبيان .(1/26)
وإنما قيل الثمرات دون الثمر والثمار وإن كان الثمر المخرج بماء السماء كثيراً ، لأن المراد جماعة الثمرة ، ولأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض لالتقائها في الجمعية . { لَكُمْ } صفة جارية على الرزق إن أريد به العين ، وإن جعل اسماً للمعنى فهو مفعول به كأنه قيل رزقاً وإياكم . { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } هو متعلق بالأمر أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أنداداً لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد ، وأن لا يجعل له ند ولا شريك . ويجوز أن يكون الذي «رفعاً» على الابتداء وخبره «فلا تجعلوا» . ودخول الفاء لأن الكلام يتضمن الجزاء أي الذي حفكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية فلا تتخذوا له شركاء . المثل والند ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوىء ، ومعنى قولهم ليس لله ند ولا ضد نفي ما يسد مسده ونفي ما ينافيه { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنها لا تخلق شيئاً ولا ترزق والله الخالق الرازق ، أو مفعول «تعلمون» متروك أي وأنتم من أهل العلم . وجعل الأصنام لله أنداداً غاية الجهل ، والجملة حال من الضمير في «فلا تجعلوا» .
ولما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك لخلقهم أحياء قادرين وخلق الأرض التي هي مثواهم ومستقرهم ، وخلق السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار وما سوّاه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل من الثمار رزقاً لبني آدم ، فهذا كله دليل موصل إلى التوحيد مبطل للإشراك ، لأن شيئاً من المخلوقات لا يقدر على إيجاد شيء منها ، عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما يقرر إعجاز القرآن فقال :
{ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا } «ما» نكرة موصوفة أو بمعنى الذي { على عَبْدِنَا } محمد عليه السلام ، والعبد اسم لمملوك من جنس العقلاء ، والمملوك موجود قهر بالاستيلاء . وقيل : نزلنا دون أنزلنا لأن المراد به النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من مجازه لمكان التحدي وذلك أنهم كانوا يقولون لو كان هذا من عند الله لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة وآيات غب آيات على حسب النوازل وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً ، شيئاً فشيئاً لا يلقي الناظم ديوان شعره دفعة ، ولا يرمي الناثر بخطبه ضربة ، فلو أنزله الله لأنزله جملة قال الله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة } [ الفرقان : 32 ] ، فقيل : إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على تدريج { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ } أي فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه ، وهلموا نجماً فرداً من نجومه سورة من أصغر السور .(1/27)
والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات . وواوها إن كانت أصلاً فإما أن تسمى بسور المدينة وهو حائطها لأنها طائفة من القرآن محدودة محوزة على حيالها كالبلد المسور ، أو لأنها محتوية على فنون من العلم وأجناس من الفوائد كاحتواء سور المدينة على ما فيها ، وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة لأن السور بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارىء ، وهي أيضاً في نفسها مرتبة طوال وأوساط وقصار ، أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين . وإن كانت منقلبة عن همزة فلأنها قطعة وطائفة من القرآن كالسؤرة التي هي البقية من الشيء . وأما الفائدة في تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً فهي كثيرة ، ولذا أنزل الله تعالى التوراة والإنجيل والزبور وسائر ما أوحاه إلى أنبيائه مسورة مترجمة السورة ، وبوب المصنفون في كل فن كتبهم أبواباً موشحة الصدور بالتراجم . منها أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع واشتمل على أصناف كان أحسن من أن يكون بياناً واحداً ، ومنها أن القارىء إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأبعث على الدرس والتحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله ، ومن ثم جزّأ القراء القرآن أسباعاً وأجزاء وعشوراً وأخماساً ، ومنها أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها لها فاتحة وخاتمة فيعظم عنده ما حفظه ويجل في نفسه ، ومنه حديث أنس رضي الله عنه كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل فينا . ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل . { مِّن مِّثْلِهِ } متعلق ب «سورة» صفة لها والضمير لما نزلنا أي بسورة كائنة من مثله يعني فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم ، أو لعبدنا أي فأتوا بمن هو على حاله من كونه أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء . ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك . ورد الضمير إلى المنزل أولى لقوله تعالى : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] . { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ } [ هود : 13 ] . { على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [ الإسراء : 88 ] . ولأن الكلام مع رد الضمير إلى المنزل أحسن ترتيباً . وذلك أن الحديث في المنزل لا في المنزل عليه وهو مسوق إليه فإن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم نبذاً مما يماثله . وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال : وإن ارتبتم في أن محمداً منزل عليه فهاتوا قرآناً من مثله ، ولأن هذا التفسير يلائم قوله { وادعوا شُهَدَاءَكُم } جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة { مِن دُونِ الله } أي غير الله وهو متعلق ب «شهداءَكم أي ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق أو من يشهد لكم بأنه مثل القرآن { إِن كُنتُمْ صادقين } إن ذلك مختلق وأنه من كلام محمد عليه السلام .(1/28)
وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا أنتم بمثله واستعينوا بآلهتكم على ذلك .
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة } لما أرشدهم إلى الجهة التي منها يتعرفون صدق النبي عليه السلام ، قال لهم : فإذا لم تعارضوه وبان عجزكم ووجب تصديقه فآمنوا وخافوا العذاب المعَدَّ لمن كذب وعاند . وفيه دليلان على إثبات النبوة صحة كون المتحدى به معجزاً ، والإخبار بأنهم لن يفعلوا وهو غيب لا يعلمه إلا الله . ولما كان العجز عن المعارضة قبل التأمل كالشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واعتمادهم على بلاغتهم ، سيق الكلام معهم على حسب حسبانهم فجيء ب «إن» الذي للشك دون «إذا» الذي للوجوب ، وعبَّر عن الإتيان بالفعل لأنه فعل من الأفعال . والفائدة فيه أنه جارٍ مجرى الكتابة التي تعطيك اختصاراً إذ لو لم يعدل من لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال «فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله» . ولا محل لقوله «ولن تفعلوا» لأنها جملة اعتراضية ، وحسّن هذا الاعتراض أن لفظ الشرط للتردد فقطع التردد بقوله «ولن تفعلوا» و «لا» و «لن» أختان في نفي المستقبل إلا أن في «لن» تأكيداً . وعن الخليل أصلها «لا أن» ، وعند الفراء «لا» أبدلت ألفها نوناً ، وعند سيبويه حرف موضوع لتأكيد نفي المستقبل ، وإنما علم أنه إخبار عن الغيب على ما هو به حتى صار معجزة لأنهم لو عارضوه بشيء لاشتهر فكيف والطاعنون فيه أكثر عدداً من الذابين عنه؟ وشرط في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله لأنهم إذا لم يأتوا بها وتبين عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق الرسول ، وإذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد وأبوا الانقياد استوجبوا النار فقيل لهم : إن استبنتم العجز فاتركوا العناد ، فوضع «فاتقوا النار» موضعه لأن اتقاء النار سبب ترك العناد وهو من باب الكناية وهي من شعب البلاغة ، وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن . والوقود ما ترفع به النار يعني الحطب ، وأما المصدر فمضموم وقد جاء فيه الفتح . وصلة الذي والتي تجب أن تكون معلوماً للمخاطب فيحتمل أن يكونوا سمعوا من أهل الكتاب أو من رسول الله ، أو سمعوا قبل هذه الآية قوله تعالى : { نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ التحريم : 6 ] . وإنما جاءت النار منكرة ثم ومعرفة هنا لأن تلك الآية نزلت بمكة ثم نزلت هذه الآية بالمدينة مشاراً بها إلى ما عرفوه أولاً .(1/29)
ومعنى قوله تعالى : «وقودها الناس والحجارة» أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران بأنها تتقد بالناس والحجارة وهي حجارة الكبريت ، فهي أشد توقداً وأبطأ خموداً وأنتن رائحة وألصق بالبدن أو الأصنام المعبودة فهي أشد تحسيراً . وإنما قرن الناس بالحجارة لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث عبدوها وجعلوها لله أنداداً ونحوه قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] أي حطبها ، فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً في إيلامهم . { أُعِدَّتْ للكافرين } هيئت لهم . وفيه دليل على أن النار مخلوقة خلافاً لما يقوله جهم سنة الله في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب تنشيطاً لاكتساب ما يزلف وتثبيطاً عن اقتراف ما يتلف ، فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب قفاه بذكر المؤمنين وأعمالهم وتبشيرهم بقوله :(1/30)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
{ وَبَشّرِ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } والمأمور بقوله «وبشر» الرسول عليه السلام أو كل أحد ، وهذا أحسن لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به . وهو معطوف على «فاتقوا» كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم . أو جملة وصف ثواب المؤمنين معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كقولك «زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمراً بالعفو والإطلاق» . والبشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ومن ثم قال العلماء : إذا قال لعبيده : أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر . فبشروه فرادى عتق أولهم لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين . ولو قال : «أخبرني» مكان «بشرني» عتقوا جميعاً ، لأنهم أخبروه ، ومنه البشرة لظاهر الجلد ، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه . وأما { فبشرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به كما يقول الرجل لعدوه أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك . والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم . والصالحات كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة واللام للجنس . والآية حجة على من جعل الأعمال إيماناً لأنه عطف الأعمال الصالحة على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه . ولا يقال إنكم تقولون يجوز أن يدخل المؤمن الجنة بدون الأعمال الصالحة والله تعالى بشر بالجنة لمن آمن وعمل صالحاً ، لأن البشارة المطلقة بالجنة شرطها اقتران الأعمال الصالحة بالإيمان ، ولا نجعل لصاحب الكبيرة البشارة المطلقة بل نثبت بشارة مقيدة بمشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة . { أَنَّ لَهُمْ جنات } أي بأن لهم جنات . وموضع «أن» وما عملت فيه النصب ب «بشِّر» عند سيبويه خلافاً للخليل وهو كثير في التنزيل . والجنة البستان من النخل والشجر المتكاثف ، والتركيب دائر على معنى الستر ومنه الجن والجنون والجنين والجنة والجان والجنان ، وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان . والجنة مخلوقة لقوله تعالى : { اسكن أَنتَ وزَوْجُكَ الجنة } [ البقرة : 35 ] خلافاً لبعض المعتزلة . ومعنى جمع الجنة وتنكيرها أن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب بحسب أعمال العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان . { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } الجملة في موضع النصب صفة لجنات ، والمراد من تحت أشجارها كما ترى الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار الجارية . وأنهار الجنة تجري في غير أخدود . وأنزه البساتين ما كانت أشجارها مظلة والأنهار في خلالها مطردة والجري الأطراد . والنهر المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر يقال للنيل : نهر مصر ، واللغة الغالة نهر ومدار التركيب على السعة ، وإسناد الجري إلى الأنهار مجازي .(1/31)
وإنما عرف الأنهار لأنه يحتمل أن يراد بها أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] ، أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله تعالى : { فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءَاسِنٍ } [ محمد : 15 ] ، الآية والماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى ولذا قرن الله تعالى الجنات بذكر الأنهار الجارية وقدمه على سائر نعوتها .
{ كُلَّمَا رُزِقُواْ } صفة ثانية ل «جنات» أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس فقيل : إن ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا أي أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله . { مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي } أي «كلما رزقوا» من الجنات ، من أي ثمرة كانت من تفاحها أو رمانها أو غير ذلك ، «رزقاً» قالوا ذلك . ف «من» الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدىء من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدىء من ثمرة ، ونظيره أن تقول : رزقني فلان فيقال لك : من أين؟ فتقول : من بستانه . فيقال : من أي ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول : من الرمان . وليس المراد من الثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة وإنما المراد نوع من أنواع الثمار . { رُزِقْنَا } أي رزقناه فحذف العائد { مِن قَبْلُ } أي من قبل هذا ، فلما قطع عن الإضافة بنى ، والمعنى هذا مثل الذي رزقنا من قبل وشبهه بدليل قوله { وَأُتُواْ بِهِ متشابها } وهذا كقولك «أبو يوسف أبو حنيفة» تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته . والضمير في «به» يرجع إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً لأن قوله «هذا الذي رزقنا من قبل» انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين ، وإنما كان ثمار الجنة مثل ثمار الدنيا ولم تكن أجناساً أخر ، لأن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل ، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه ، ولأنه إذا شاهد ما سلف له به عهد ورأى فيه مزية ظاهرة وتفاوتاً بيناً كان استعجابه به أكثر واستغرابه أوفر . وتكريرهم هذا القول عند كل ثمرة يرزقونها دليل على تناهي الأمر وتمادي الحال في ظهور المزية ، وعلى أن ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملي تعجبهم في كل أوان أو إلى الرزق كما أن هذا إشارة إليه ، والمعنى أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه كما يحكى عن الحسن : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل فيقول الملك : كل ، فاللون واحد والطعم مختلف . وعنه عليه السلام :(1/32)
" والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدلها الله مكانها مثلها فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك " وقوله : «وأتوا به متشابهاً» جملة معترضة للتقرير كقولك «فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل» ورأى من الرأي كذا وكان صواباً ، ومنه { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] . { وَلَهُمْ فِيهَا أزواج } «أزواج» مبتدأ و«لهم» الخبر و«فيها» ظرف للإستقرار . { مُّطَهَّرَةٌ } من مساوي الأخلاق ، لا طمحات ولا مرحات ، أو مما يختص بالنساء بالحيض والاستحاضة وما لا يختص بهن من البول والغائط وسائر الأقذار والأدناس . ولم تجمع الصفة كالموصوف لأنهما لغتان فصيحتان ، ولم يقل طاهرة لأن { مُّطَهَّرَةٌ } أبلغ لأنها تكون للتكثير ، وفيها إشعار بأن مطهّراً طهرهن وما ذلك إلا الله عز وجل . { وَهُمْ فِيهَا خالدون } الخلد والخلود البقاء الدائم الذي لا ينقطع ، وفيه بطلان قول الجهمية فإنهم يقولون بفناء الجنة وأهلها لأنه تعالى وصف بأنه الأول الآخر ، وتحقيق وصف الأولية بسبقه على الخلق أجمع فيجب تحقيق وصف الآخرية بالتأخر عن سائر المخلوقات ، وذا إنما يتحقق بعد فناء الكل فوجب القول به ضرورة ، ولأنه تعالى باقٍ وأوصافه باقية فلو كانت الجنة باقية مع أهلها لوقع التشابه بين الخالق والمخلوق وذا محال . قلنا : الأول في حقه هو الذي لا ابتداء لوجوده ، والآخر هو الذي لا انتهاء له ، وفي حقنا الأول هو الفرد السابق والآخر هو الفرد اللاحق ، واتصافه بهما لبيان صفة الكمال ونفي النقيصة والزوال ، وذا في تنزيهه عن احتمال الحدوث والفناء لا فيما قالوه ، وأنى يقع التشابه في البقاء وهو تعالى باقٍ لذاته وبقاؤه واجب الوجود وبقاء الخلق به وهو جائز الوجود .
لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب به مثلاً ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا كلام الله فنزل .
{ إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْيِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها . وأصل الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم ، ولا يجوز على القديم التغير خوف والذم ولكن الترك لما كان من لوازمه عبر عنه به ، ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت ، فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال ، وهو فن من كلامهم بديع وفيه لغتان : التعدي بنفسه وبالجار . يقال : استحييته واستحييت منه وهما محتملتان هنا ، وضرب المثل صنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم . و «ما» هذه إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته عموماً كقولك : «أعطني كتاباً ما» تريد أي كتاب كان ، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله تعالى :(1/33)
{ فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم } [ النساء : 155 ] ، كأنه قال : لا يستحي أن يضرب مثلاً ألبتة . وبعوضة عطف بيان ل «مثلاً» أو مفعول ل «يضرب» و«مثلاً» حال من النكرة مقدمة عليه ، أو انتصبا مفعولين على أن «ضرب» بمعنى «جعل» واشتقاقها من البعض وهو القطع كالبضع والعضب . يقال بعضه البعوض ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه ، والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت . { فَمَا فَوْقَهَا } فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلاً وهو القلة والحقارة ، أو فما زاد عليها في الحجم كأنه أراد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة . ولا يقال كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر لأن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات وقد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا . { فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَهُ الحق } الضمير للمثل أو لأن يضرب والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يقال حق الأمر إذا ثبت ووجب { مّن رَّبِّهِمْ } في موضع النصب على الحال والعامل معنى الحق وذو الحال الضمير المستتر فيه { وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } ويوقف عليه إذ لو وصل لصار ما بعده صفة له وليس كذلك . وفي قولهم «ماذا أراد الله بهذا مثلاً» استحقار كما قالت عائشة رضي الله عنها في عبد الله ابن عمرو : يا عجباً لابن عمرو هذا محقرة له . و«مثلاً» نصب على التمييز أو على الحال كقوله { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءَايَةً } [ الأعراف : 73 ] وأما حرف فيه معنى الشرط ولذا يجاب بالفاء ، وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد . تقول : زيد ذاهب . فإذا قصدت توكيده وأنه لا محالة ذاهب قلت : أما زيد فذاهب ، ولذا قال سيبويه في تفسيره : مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، وهذا التفسير يفيد كونه تأكيداً وأنه في معنى الشرط . وفي إيراد الجملتين مصدرتين به وإن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون ، إحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بليغ بعلمهم أنه الحق ، ونعي على الكافرين إغفالهم حظهم ورميهم بالكلمة الحمقاء . و«ماذا» فيه وجهان : أن يكون «ذا» اسماً موصولاً بمعنى الذي و«ما» استفهاماً فيكون كلمتين ، وأن تكون «ذا» مركبة مع «ما» مجعولتين اسماً واحداً للاستفهام فيكون كلمة واحدة ، ف «ما» على الأول رفع بالابتداء وخبره «ذا» مع صلته أي أراد ، والعائد محذوف . وعلى الثاني منصوب المحل ب «أراد» والتقدير : أي شيء أراد الله . والإرادة مصدر أردت الشيء إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك ، وهي عند المتكلمين معنى يقتضي تخصيص المفعولات بوجه دون وجه ، والله تعالى موصوف بالإرادة على الحقيقة عند أهل السنة . وقال معتزلة بغداد : إنه تعالى لا يوصف بالإرادة على الحقيقة .(1/34)
فإذا قيل أراد الله كذا فإن كان فعله فمعناه أنه فعل وهو غير ساهٍ ولا مكره عليه ، وإن كان فعل غيره فمعناه أنه أمر به . { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } جارٍ مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين ب «أما» ، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة ، وأن العلم بكونه حقاً من باب الهدى ، وأن الجهل بحسن مورده من باب الضلالة . وأهل الهدى كثير في أنفسهم وإنما يوصفون بالقلة بالقياس إلى أهل الضلال ، ولأن القليل من المهتدين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة .
إن الكرام كثير في البلاد وإن ... قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
والإضلال : خلق فعل الضلال في العبد ، والهداية خلق فعل الاهتداء ، هذا هو الحقيقة عند أهل السنة ، وسياق الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل ليس بموضع الاستنكار والاستغراب لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى وإدناء المتوهم من المشاهد . فإن كان المتمثل له عظيماً كان المتمثل به كذلك ، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك ، ألا ترى أن الحق لما كان واضحاً جلياً تمثل له بالضياء والنور ، وأن الباطل لما كان بضد صفته تمثل له بالظلمة ، ولما كانت حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله لا حال أحقر منها وأقل ، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن ، وجعلت أقل من الذباب وضربت لها البعوضة؟ فالذي دونها مثلاً لم يستنكر ولم يستبدع ولم يقل للمتمثل استحى من تمثيلها بالبعوضة لأنه مصيب في تمثيله ، محق في قوله ، سائق للمثل على قضية مضربه ، ولبيان أن المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والنظر في الأمور يناظر العقل إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أن الحق ، وأن الكفار الذين غلب الجهل على عقولهم إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقضوا عليه بالبطلان وقابلوه بالإنكار ، وأن ذلك سبب هدى المؤمنين وضلال الفاسقين . والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وخشاش الأرض فقالوا : أجمع من ذرة ، وأجرأ من الذباب ، وأسمع من قراد ، وأضعف من فراشة ، وآكل من السوس ، وأضعف من البعوضة ، وأعز من مخ البعوض ، ولكن ديدن المحجوج والمبهوت أن يرضى لفرط الحيرة بدفع الواضح وإنكار اللائح . { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } هو مفعول «يضل» وليس بمنصوب على الاستثناء لأن «يضل» لم يستوف مفعوله . والفسق : الخروج عن القصد . والفاسق في الشريعة : الخارج عن الأمر بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين المنزلتين أي بين منزلة المؤمن والكافر عند المعتزلة وسيمر عليك ما يبطله إن شاء الله .
{ الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله } النقض : الفسخ وفك التركيب . والعهد : الموثق . والمراد بهؤلاء الناقضين لعهد الله أحبار اليهود المتعنتون أو منافقوهم أو الكفار جميعاً .(1/35)
وعهد الله ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم ، أو أخذ الميثاق عليهم بأنهم إذا بعث إليهم رسول يصدقه الله بمعجزاته صدقوه واتبعوه ولم يكتموا ذكره ، أو أخذ الله العهد عليهم أن لا يسفكوا دماءهم ولا يبغي بعضهم على بعض ولا يقطعوا أرحامهم . وقيل : عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود : العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم عليه السلام بأن يقروا بربوبيته وهو قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدم } [ الأعراف : 172 ] الآية ، وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين وهو قوله تعالى : { وَإِذَا أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ } [ الأحزاب : 7 ] وعهد خص به العلماء وهو قوله تعالى : { وَإِذَا أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] ، { مِن بَعْدِ ميثاقه } أصله من الوثاقة وهي إحكام الشيء ، والضمير للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم ، ويجوز أن يكون بمعنى توثقته كما أن الميعاد بمعنى الوعد أو لله تعالى أي من بعد توثقته عليهم و «من» لابتداء الغاية { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } هو قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين ، أو قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض . والأمر طلب الفعل بقول مخصوص على سبيل الاستعلاء ، و «ما» نكرة موصوفة أو بمعنى الذي و «أن يوصل» في موضع جر بدل من الهاء أي بوصله ، أو في موضع رفع أي هو أن يوصل { وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض } بقطع السبيل والتعويق عن الإيمان { أولئك } مبتدأ { هُمْ } فصل والخبر { الخاسرون } أي المغبونون حيث استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح والعقاب بالثواب .(1/36)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } معنى الهمزة التي في «كيف» مثله في قولك : أتكفرون بالله ومعكم وما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان وهو الإنكار والتعجب ، ونظيره قولك : أتطير بغير جناح وكيف تطير بغير جناح؟ والواو في { وَكُنتُمْ أمواتا } نطفاً في أصلاب آبائكم للحال و «قد» مضمرة . والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل ، ويقال لعادم الحياة أصلاً ميت أيضاً كقوله تعالى : { بلدة مَّيْتاً } [ الفرقان : 49 ] { فأحياكم } في الأرحام { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } للبعث { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } تصيرون إلى الجزاء ، أو ثم يحييكم في قبوركم ثم إليه ترجعون للنشور . وإنما كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بلا تراخٍ ، وأما الموت فقد تراخى عن الحياة والحياة الثانية كذلك تتراخى عن الموت إن أريد النشور ، وإن أريد إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه ، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخٍ عن النشور . وإنما أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم على الكفر ، ولأنها تشتمل على نعمٍ جسام حقها أن تشكر ولا تكفر .
{ هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض } أي لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم . أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فالنظر فيه وما فيه من العجائب الدالة على صانع قادر حكيم عليم ، وما فيه من التذكير بالآخرة لأن ملاذها تذكر ثوابها ومكارهها تذكر عقابها . وقد استدل الكرخي وأبو بكر الرازي والمعتزلة بقوله «خلق لكم» على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها خلقت مباحة في الأصل . { جَمِيعاً } نصب على الحال من «ما» { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } الاستواء : الاعتدال والاستقامة . يقال : استوى العود أي قام واعتدل ، ثم قيل : استوى إليه كالسهم المرسل أي قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ومنه قوله تعالى : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } [ فصلت : 11 ] ، أي أقبل وعمد إلى خلق السموات بعد ما خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر . والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل : ثم استوى إلى فوق . والضمير في { فسوّاهنّ } مبهم يفسره { سَبْعَ سماوات } كقولهم «ربه رجلاً» . وقيل : الضمير راجع إلى السماء ولفظها واحد ومعناها الجمع لأنها في معنى الجنس . ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن . «وثم» هنا لبيان فضل خلق السموات على خلق الأرض ، ولا يناقض هذا قوله { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } [ النازعات : 30 ] لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء وأما دحوها فمتأخر . وعن الحسن : خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منها السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض فذلك قوله تعالى :(1/37)
{ كَانَتَا رَتْقاً } [ الأنبياء : 30 ] ، وهو الالتزاق { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فمن ثم خلقهن خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت من خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم . وهو وأخواته مدني غير ورش ، «وَهُوَ» هو وأبو عمرو وعلي ، جعلوا الواو كأنها في نفس الكلمة فصار بمنزلة عضد وهم يقولون في عضد عضد بالسكون .
ولما خلق الله تعالى الأرض أسكن فيها الجن وأسكن في السماء الملائكة فأفسدت الجن في الأرض فبعث إليهم طائفة من الملائكة فطردتهم إلى جزائر البحار ورؤوس الجبال وأقاموا مكانهم فأمر نبيه عليه السلام أن يذكر قصتهم فقال :
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } «إذ» نصب بإضمار «اذكر» . والملائكة جمع ملأك كالشمائل جمع شمأل وإلحاق التاء لتأنيث الجمع . { إِنّي جَاعِلٌ } أي مصير من جعل الذي له مفعولان وهما { فِي الأرض خَلِيفَةً } وهو من يخلف غيره «فعيلة» بمعنى «فاعلة» وزيدت الهاء للمبالغة والمعنى : خليفة منكم لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذريته . ولم يقل خلائف أو خلفاء لأنه أريد بالخليفة آدم . واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كما تستغني بذكر أبي القبيلة في قولك «مضر وهاشم» ، أو أريد من يخلفكم أوخلقاً يخلفكم فوحد لذلك ، أو خليفة مني لأن آدم كان خليفة الله في أرضه وكذلك كل نبي ، قال الله تعالى : { يا دَاوُودُ إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِي الأرض } [ ص : 26 ] ، وإنما أخبرهم بذلك ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم ، أو ليعلِّم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة . { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية وهو الحكيم الذي لا يجهل ، وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى ، أو من جهة اللوح أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر . { وَيَسْفِكُ الدماء } أي يصب . والواو في { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ } للحال كما تقول : أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان؟ { بِحَمْدِكَ } في موضع الحال أي نسبح حامدين لك ومتلبسين بحمدك كقوله تعالى : { وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر } [ المائدة : 61 ] ، أي دخلوا كافرين . { وَنُقَدِّسُ لَكَ } ونطهر أنفسنا لك . وقيل : التسبيح والتقديس تبعيد الله من السوء من سبح في الأرض وقدس فيها إذا ذهب فيها وأبعد . { قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي أعلم من الحكم في ذلك ما هو خفي عليكم يعني يكون فيهم الأنبياء والأولياء والعلماء . و «ما» بمعنى «الذي» وهو مفعول أعلم والعائد محذوف أي ما لا تعلمونه . «إنى» حجازي وأبو عمرو .
{ وَعَلَّمَ ءَادَمَ } هو اسم أعجمي وأقرب أمره أن يكون على فاعل كآزو واشتقاقهم آدم من أديم الأرض أو من الأدمة كاشتقاقهم يعقوب من العقب وإدريس من الدرس وإبليس من الإبلاس .(1/38)
{ الأسماء كُلَّهَا } أي أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لكونه معلوماً مدلولاً عليه بذكر الأسماء إذ الإسم يدل على المسمى وعوض منه اللام كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] ، ولا يصح أن يقدر وعلم آدم مسميات الأسماء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، لأن التعليم تعلق بالأسماء لا بالمسميات لقوله تعالى : «أنبئوني بأسماء هؤلاء» - و- «أنبئهم بأسمائهم» ، ولم يقل «أنبئوني بهؤلاء وأنبئهم بهم» . ومعنى تعليمه أسماء المسميات أنه تعالى أراه الأجناس التي خلقها وعلمه أن هذا اسمه فرس وهذا اسمه بعير وهذا اسمه كذا وهذا اسمه كذا . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : علمه اسم كل شيء حتى القصعة والمغرفة . { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة } أي عرض المسميات ، وإنما ذكر لأن في المسميات العقلاء فغلبهم . وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت { فَقَالَ أَنبِئُونِي } أخبروني { بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صادقين } في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء ، وفيه رد عليهم وبيان أن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا . { قَالُواْ سبحانك } تنزيهاً لك أن يخفى عليك شيء أو عن الاعتراض عليك في تدبيرك . وأفادتنا الآية أن علم الأسماء فوق التخلي للعبادة فكيف بعلم الشريعة؟! وانتصابه على المصدر تقديره سبحت الله تسبيحاً { لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } وليس فيه علم الأسماء ، و «ما» بمعنى «الذي» ، والعلم بمعنى المعلوم أي لا معلوم لنا ، إلا الذي علمتنا . { إِنَّكَ أَنتَ العليم } غير المعلم { الحكيم } فيما قضيت وقدرت . والكاف اسم «إن» و «أنت» مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر «إن» ، أو «أنت» فصل والخبر «العليم» . و«الحكيم» خبر ثانٍ .(1/39)
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
{ قَالَ يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم } سمى كل شيء باسمه . { قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض } أي أعلم ما غاب فيهما عنكم مما كان ومما يكون . { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } تظهرون . { وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } تسرون .
{ وَإِذَا قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ } أي اخضعوا له وأقروا بالفضل له . عن أبي بن كعب ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كان ذلك انحناء ولم يكن خروراً على الذقن . والجمهور على أن المأمور به وضع الوجه على الأرض . وكان السجود تحية لآدم عليه السلام في الصحيح إذ لو كان لله تعالى لما امتنع عنه إبليس . وكان سجود التحية جائزاً فيما مضى ثم نسخ بقوله عليه السلام لسلمان حين أراد أن يسجد له " لا ينبغي لمخلوق أن يسجد لأحد إلا لله تعالى» " .
{ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } الاستثناء متصل لأنه كان من الملائكة كذا قاله علي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ، ولأن الأصل أن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه ، ولهذا قال : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [ الأعراف : 12 ] ، وقوله : { كَانَ مِنَ الجن } [ الكهف : 50 ] معناه صار من الجن كقوله { فَكَانَ مِنَ المغرقين } [ هود : 43 ] . وقيل : الاستثناء منقطع لأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن بالنص وهو قول الحسن وقتادة ، ولأنه خلق من نار والملائكة خلقوا من النور ، ولأنه أبى وعصى واستكبر والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ولا يستكبرون عن عبادته . ولأنه قال : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي } [ الكهف : 50 ] ، ولا نسل للملائكة . وعن الجاحظ أن الجن والملائكة جنس واحد ، فمن طهر منهم فهو ملك ، ومن خبث فهو شيطان ، ومن كان بين بين فهو جن . { أبى } امتنع مما أمر به { واستكبر } تكبر عنه . { وَكَانَ مِنَ الكافرين } وصار من الكافرين بإبائه واستكباره ورده الأمر لا بترك العمل بالأمر ، لأن ترك السجود لا يخرج من الإيمان ولا يكون كفراً عند أهل السنة خلافاً للمعتزلة والخوارج ، أو كان من الكافرين في علم الله أي وكان في علم الله أنه يكفر بعد إيمانه لأنه كان كافراً أبداً في علم الله وهي مسألة الموافاة .
{ وَقُلْنَا يائادم اسكن } أمر من سكن الدار يسكنها سكنى إذا أقام فيها ويقال سكن المتحرك سكوناً { أَنتَ } تأكيد للمستكن في «اسكن» ليصح عطف { وَزَوْجُكَ } عليه { الجنة } هي جنة الخلد التي وعدت للمتقين للنقل المشهور واللام للتعريف . وقالت المعتزلة : كانت بستاناً باليمن لأن الجنة لا تكليف فيها ولا خروج عنها . قلنا : إنما لا يخرج منها من دخلها جزاء . وقد دخل النبي عليه السلام ليلة المعراج ثم خرج منها ، وأهل الجنة يكلفون المعرفة والتوحيد .(1/40)
{ وَكُلاَ مِنْهَا } من ثمارها فحذف المضاف . { رَغَدًا } وصف للمصدر أي أكلاً رغداً واسعاً { حَيْثُ شِئْتُمَا } شئتما وبابه بغير همز : أبو عمرو . وحيث للمكان المبهم أي أيَّ مكان من الجنة شئتما { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } أي الحنطة . ولذا قيل : كيف لا يعصي الإنسان وقوته من شجرة العصيان ، أو الكرمة لأنها أصل كل فتنة ، أو التينة . { فَتَكُونَا } جزم عطف على «تقربا» أو نصب جواب للنهي . { مِنَ الظالمين } من الذين ظلموا أنفسهم أو من الضارين أنفسهم . { فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا } أي عن الشجرة ، أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها . وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنها أو فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما . «فأزالهما» حمزة . وزلة آدم بالخطأ في التأويل إما بحمل النهي على التنزيه دون التحريم ، أو بحمل اللام على تعريف العهد وكأن الله تعالى أراد الجنس والأول الوجه . وهذا دليل على أنه يجوز إطلاق اسم الزلة على الأنبياء عليهم السلام كما قال مشايخ بخارى . فإنه اسم الفعل يقع على خلاف الأمر من غير قصد إلى الخلاف كزلة الماشي في الطين . وقال مشايخ سمرقند : لا يطلق اسم الزلة على أفعالهم كما لا تطلق المعصية . وإنما يقال فعلوا الفاضل وتركوا الأفضل فعوتبوا عليه . { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } من النعيم والكرامة ، أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في «عنها» . وقد توصل إلى إزلالهما بعدما قيل له { فاخرج منها فإنك رجيم } لأنه منع عن دخولها على جهة التكرمة كدخول الملائكة لا عن دخولها على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء . وروي أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة فدخل في فم الحية حتى دخلت به . وقيل : قام عند الباب فنادى . { وَقُلْنَا اهبطوا } الهبوط النزول إلى الأرض . والخطاب لآدم وحواء وإبليس وقيل والحية والصحيح لآدم وحواء . والمراد هما وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم ويدل عليه قوله تعالى : { قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً } [ طه : 123 ] { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } المراد به ما عليه الناس من التباغي والتعادي وتضليل بعضهم لبعض . والجملة في موضع الحال من الواو في «اهبطوا» أي اهبطوا متعادين . { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ } موضع استقرار أو استقرار . { ومتاع } وتمتع بالعيش . { إلى حِينٍ } إلى يوم القيامة أو إلى الموت . قال إبراهيم بن أدهم : أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً .
{ فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } أي استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها . وبنصب «آدم» ورفع «كلمات» : مكي على أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به وهنا قوله تعالى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } [ الأعراف : 23 ] . وفيه موعظة لذريتهما حيث عرفوا كيفية السبيل إلى التنصل من الذنوب .(1/41)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أحب الكلام إلى الله تعالى ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى . قال : يا رب ألم تنفخ فيَّ من روحك؟ ألم تسبق رحمتك غضبك؟ ألم تسكنى جنتك؟ وهو تعالى يقول : بلى بلى . قال : فلم أخرجتني من الجنة؟ قال : بشؤم معصيتك . قال : فلو تبت أراجعي أنت إليها؟ قال : نعم { فَتَابَ عَلَيْهِ } فرجع عليه بالرحمة والقبول . واكتفى بذكر توبة آدم لأن حواء كانت تبعاً له ، وقد طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك . { إِنَّهُ هُوَ التواب } الكثير القبول للتوبة . { الرحيم } على عباده . { قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا } حال أي مجتمعين . وكرر الأمر بالهبوط للتأكيد ، أو لأن الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض ، أو لما نيط به من زيادة قوله . { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } أي رسول أبعثه إليكم ، أو كتاب أنزله عليكم بدليل قوله تعالى : { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا } في مقابلة قوله { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } أي بالقبول والإيمان به . { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } في المستقبل { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما خلفوا . والشرط الثاني مع جوابه جواب الشرط الأول كقولك «إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك» . «فلا خوفَ» بالفتح في كل القرآن : يعقوب .(1/42)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{ والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أولئك } مبتدأ والخبر { أصحاب النار } أي أهلها ومستحقوها . والجملة في موضع الرفع خبر المبتدأ أعني والذين { هُمْ فِيهَا خالدون } { يا بَنِي إسراءيل } هو يعقوب عليه السلام وهو لقب له ومعناه في لسانهم صفوة الله أو عبد الله . فإسرا هو العبد أو الصفوة ، وإيل هو الله بالعبرية ، وهو غير منصرف لوجود العلمية والعجمة . { اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } ذكرهم النعمة أن لا يخلوا بشكرها ويطيعوا مانحها . وأراد بها ما أنعم به على آبائهم مما عدد عليهم من الإنجاء من فرعون وعذابه ومن الغرق ومن العفو عن اتخاذ العجل والتوبة عليهم ، وما أنعم به عليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه وسلم المبشر به في التوراة والإنجيل . { وَأَوْفُوا } أدوا وافياً تاماً ، يقال وفيت له بالعهد فأنا وافٍ به وأوفيت له بالعهد فأنا موف به ، والاختيار أوفيت ، وعليه نزل التنزيل . { بِعَهْدِي } بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي ، أو من الإيمان بنبي الرحمة والكتاب المعجز . { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على حسناتكم . والعهد يضاف إلى المعاهِد والمعاهَد جميعاً . وعن قتادة : هما لئن أقمتم { ولأكفرن } وقال أهل الإشارة : أوفوا في دار محنتي ، على بساط خدمتي ، بحفظ حرمتي ، أوف في دار نعمتي ، على بساط كرامتي ، بسرور رؤيتي . { وإياى فارهبون } فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك «زيدا رهبته» وهو أوكد في إفادة الاختصاص من { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [ الفاتحة : 4 ] «وإيّايَ» منصوب بفعل مضمر دل عليه ما بعده وتقديره فارهبوا إياي فارهبون ، وحذف الأول لأن الثاني يدل عليه . وإنما لم ينتصب بقوله «فارهبون» لأنه أخذ مفعوله وهو الياء المحذوفة وكسرة النون دليل الياء كما لا يجوز نصب زيد في «زيدا فاضربه» ب «اضرب» الذي هو ظاهر .
{ وَءَامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ } يعني القرآن { مُصَدِّقاً } حال مؤكدة من الهاء المحذوفة كأنه قيل أنزلته مصدقاً { لِّمَا مَعَكُمْ } من التوراة يعني في العبادة والتوحيد والنبوة وأمر محمد عليه السلام { وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أي أول من كفر به أو أول حزب أو فوج كافر به ، أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به . وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ، والضمير في به يعود إلى القرآن . { وَلاَ تَشْتَرُواْ } ولا تستبدلوا . { بآياتي } بتغييرها وتحريفها . { ثَمَناً قَلِيلاً } قال الحسن : هو الدنيا بحذافيرها . وقيل : هو الرياسة التي كانت لهم في قومهم خافوا عليها الفوات لو اتبعوا رسول الله . { وإياى فاتقون } فخافوني «فارهبوني» «فاتقوني» بالياء في الحالين وكذلك كل ياء محذوفة في الخط : يعقوب .(1/43)
{ وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل } لبس الحق بالباطل خلطه . والباء ، إن كانت صلة مثلها في قولك «لبست الشيء بالشيء» خلطته به ، كان المعنى ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم حتى لا يميز بين حقها وباطلكم . وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك «كتبت بالقلم» ، كان المعنى ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم الذي تكتبونه . { وَتَكْتُمُواْ الحق } هو مجزوم داخل تحت حكم النهي بمعنى ولا تكتموا ، أو منصوب بإضمار «أن» ، والواو بمعنى الجمع ، أي ولا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق كقولك «لا تأكل السمك وتشرب اللبن» . وهما أمران متميزان ، لأن لبس الحق بالباطل ما ذكرنا من كتبهم في التوراة ما ليس منها ، وكتمانهم الحق أن يقولوا لا نجد في التوراة صفة محمد أو حكم كذا { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } في حال علمكم أنكم لابسون وكاتمون وهو أقبح لهم لأن الجهل بالقبيح ربما عذر مرتكبه . { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكواة } أي صلاة المسلمين وزكاتهم . { واركعوا مَعَ الراكعين } منهم لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم أي أسلموا واعملوا عمل أهل الإسلام . وجاز أن يراد بالركوع الصلاة كما يعبر عنها بالسجود ، وأن يكون أمراً بالصلاة مع المصلين يعني في الجماعة ، أي صلوها مع المصلين لا منفردين .(1/44)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
والهمزة في { أَتَأْمُرُونَ الناس } للتقرير مع التوبيخ والتعجب من حالهم . { بالبر } أي سعة الخير والمعروف ومنه البر لسعته ، ويتناول كل خير ومنه قولهم «صدقت وبررت» . وكان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد عليه السلام ولا يتبعونه . وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون وإذا أتوا بالصدقات ليفرقوها خانوا فيها . { وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } وتتركونها من البر كالمنسيات . { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب } تبكيت أن تتلون التوراة وفيها نعت محمد عليه السلام أو فيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل . { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه وهو توبيخ عظيم . { واستعينوا } على حوائجكم إلى الله { بالصبر والصلاة } أي بالجمع بينهما وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة محتملين لمشاقها وما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية ومراعاة الآداب والخشوع واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات والأرض ، أو استعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نعى إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع وصلى ركعتين ثم قال : " واستعينوا بالصبر والصلاة " وقيل : الصبر الصوم لأنه حبس عن المفطرات ومنه قيل لشهر رمضان شهر الصبر . وقيل : الصلاة الدعاء أي استعينوا على البلايا بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال إلى الله في دفعه . { وَإِنَّهَا } الضمير للصلاة أو للاستعانة . { لَكَبِيرَةٌ } لشاقة ثقيلة من قولك «كبر عَلَيَّ هذا الأمر» { إِلاَّ عَلَى الخاشعين } لأنهم يتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم ، ألا ترى إلى قوله : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ } أي يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده ويطمعون فيه . وفسر «يظنون» ب «يتيقنون» لقراءة عبد الله «يعلمون» ، أي يعلمون أنه لا بد من لقاء الجزاء فيعملون على حسب ذلك ، وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب كانت عليه مشقة خالصة . والخشوع الإخبات والتطامن وأما الخضوع فاللين والانقياد . وفسر اللقاء بالرؤية وملاقو ربهم بمعاينوه بلا كيف . { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون } لا يملك أمرهم في الآخرة أحد سواه .
{ خالدون يابني إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } التكرير للتأكيد { وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ } نصب عطف على «نعمتي» أي اذكروا نعمتي وتفضيلي . { عَلَى العالمين } على الجم الغفير من الناس يقال «رأيت عالماً من الناس» والمراد الكثرة . { واتقوا يَوْمًا } أي يوم القيامة وهو مفعول به لا ظرف . { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ } مؤمنة .(1/45)
{ عَن نَّفْسٍ } كافرة { شَيْئاً } أي لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق التي لزمتها . و«شيئاً» مفعول به أو مصدر أي قليلاً من الجزاء ، والجملة منصوبة المحل صفة ويوماً والعائد منها إلى الموصوف محذوف تقديره لا تجزى فيه و { ولا يقبل منها شفاعةٌ } «ولا تقبل» بالتاء : مكي وبصري ، والضمير في «منها» يرجع إلى النفس المؤمنة أي لا تقبل منها شفاعة للكافرة ، وقيل : كانت اليهود تزعم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا فهو كقوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين } وتشبث المعتزلة بالآية في نفي الشفاعة للعصاة مردود لأن المنفي شفاعة الكفار وقد قال عليه السلام " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي من كذب بها لم ينلها " { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي فدية لأنها معادلة للمفدي . { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يعاونون وجمع لدلالة النفس المنكرة على النفوس الكثيرة ، وذكّر لمعنى العباد أو الأناسي .
{ وَإِذْ نجيناكم مّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ } أصل آل أهل ولذلك يصغر بأهيل فأبدلت هاؤه ألفاً وخص استعماله بأولى الخطر كالملوك وأشباههم فلا يقال آل الإسكاف والحجام ، وفرعون علم لمن ملك العمالقة كقيصر لملك الروم وكسرى لملك الفرس . { يَسُومُونَكُمْ } حال من «آل فرعون» أي يولونكم من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً ، وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنها بمعنى يبغونكم { سُوءَ العذاب } ويريدونكم عليه ومساومة البيع مزيدة أو مطالبة ، وسوء مفعول ثانٍ ل «يسومونكم» وهو مصدر سيىء . يقال : أعوذ بالله من سوء الخلق و«سوء» الفعل يراد قبحهما ، ومعنى سوء العذاب ، والعذاب كله سيىء أشده وأفظعه . { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } بيان لقوله «يسومونكم» ولذا ترك العاطف { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } يتركون بناتكم أحياء للخدمة ، وإنما فعلوا بهم ذلك لأن الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يزول ملكه بسببه كما أنذروا نمرود فلم يغن عنهما اجتهادهما في التحفظ وكان ما شاء الله { وَفِي ذلكم بَلاءٌ } محنة إن أشير بذلكم إلى صنع فرعون ، ونعمة إن أشير به إلى الانتجاء . { مّن رَّبّكُمْ } ، صفة ل «بلاء» { عظِيمٌ } صفة ثانية .
{ وَإِذْ فَرَقْنَا } فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم . وقرىء «فرّقنا» أي فصلنا يقال : فرق بين الشيئين وفَرَّقَ بين الأشياء لأن المسالك كانت اثني عشر على عدد الأسباط . { بِكُمُ البحر } كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم ، أو فرقناه بسببكم ، أو فرقناه ملتبساً بكم فيكون في موضع الحال . رُوي أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام : أين أصحابنا فنحن لا نرضى حتى نراهم ، فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا ، فقال بها على الحيطان فصارت فيها كوى فتراءوا وتسامعوا كلامهم . { فأنجيناكم وَأَغْرَقْنَا آل فِرْعَونَ وَأَنتُم تَنظُرونَ } إلى ذلك وتشاهدونه ولا تشكون فيه . وإنما قال { وَإِذْ واعدنا موسى } لأن الله تعالى وعده الوحي ووعده هو المجيء للميقات إلى الطور .(1/46)
«وعدنا» حيث كان بصري . لما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد الله تعالى موسى أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة ، وقال { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } لأن الشهور غررها بالليالي و«أربعين» مفعول ثانٍ ل «واعدنا» لا ظرف لأنه ليس معناه واعدناه في أربعين ليلة { ثُمَّ اتخذتم العجل } أي إلها فحذف المفعول الثاني ل «اتخذتم» ، وبابه بالإظهار مكي وحفص { مِن بَعْدِهِ } من بعد ذهابه إلى الطور ، { وَأَنتُمْ ظالمون } أي بوضعكم العبادة غير موضعها والجملة حال أي عبدتموه ظالمين . { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ } محونا ذنوبكم عنكم . { مِن بَعْدِ ذلك } من بعد اتخاذكم العجل . { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لكي تشكروا النعمة في العفو عنكم .
{ وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان } يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل وهو التوراة ونظيره «رأيت الغيث والليث» تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة . أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام . وقيل : الفرقان انفلاق البحر أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لكي تهتدوا .(1/47)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ } للذين عبدوا العجل . { ياقوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل } معبوداً { فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ } هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت . وفيه تقريع لما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم إبرياء من التفاوت إلى عبادة البقر الذي هو مثل في الغباوة والبلادة { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } قيل : هو على الظاهر وهو البخع . وقيل : معناه قتل بعضهم بعضاً . وقيل : أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة فقتل سبعون ألفاً . { ذلكم } التوبة والقتل { خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } من الإصرار على المعصية . { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب } المفضال بقبول التوبة وإن كثرت { الرحيم } يعفو الحوبة وإن كبرت . والفاء الأولى للتسبيب لأن الظلم سبب التوبة ، والثانية للتعقيب لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم إذ الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم ، والثالثة متعلقة بشرط محذوف كأنه قال فإن فعلتم فقد تاب عليكم . { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } عياناً وانتصابها على المصدر كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس ، أو على الحال من «نرى» أي ذوي جهرة . { فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } أي الموت . قيل : هي نار جاءت من السماء فأحرقتهم . روي أن السبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام عند الانطلاق إلى الجبل قالوا له : نحن لم نعبد العجل كما عبده هؤلاء فأرنا الله جهرة . فقال موسى : سألته ذلك فأباه عليّ . فقالوا : إنك رأيت الله تعالى فلن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة . فبعث الله عليهم صاعقة فأحرقتهم . وتعلقت المعتزلة بهذه الآية في نفي الرؤية لأنه لو كان جائز الرؤية لما عذبوا بسؤال ما هو جائز الثبوت . قلنا : إنما عوقبوا بكفرهم لأن قولهم : إنك رأيت الله فلن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة كفر منهم . ولأنهم امتنعوا عن الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته حتى يروا ربهم جهرة ، والإيمان بالانبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم ولا يجوز اقتراح الآيات عليهم . ولأنهم لم يسألوا سؤال استرشاد بل سؤال تعنت وعناد . { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } إليها حين نزلت . { ثُمَّ بعثناكم } أحييناكم وأصله الإثارة { مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمة البعث بعد الموت . { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } جعلنا الغمام يظلكم وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن } الترنجبين وكان ينزل عليهم مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع . { والسلوى } كان يبعث الله عليهم الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه .(1/48)
وقلنا لهم { كُلُواْ مِن طيبات } لذيذات أو حلالات { مَا رزقناكم وَمَا ظَلَمُونَا } يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أنفسهم مفعول «يظلمون» وهو خبر «كان» . { وَإِذْ قُلْنَا } لهم بعدما خرجوا من التيه . { ادخلوا هذه القرية } أي بيت المقدس أو أريحاء . والقرية المجتمع من قريت لأنها تجمع الخلق ، أمروا بدخولها بعد التيه . { فَكُلُواْ مِنْهَا } من طعام القرية وثمارها . { حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا } واسعاً { وادخلوا الباب } باب القرية أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها ، وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام وإنما دخلوا الباب في حياته ودخلوا بيت المقدس بعده . { سُجَّدًا } .
حال وهو جمع ساجد ، أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله تعالى وتواضعاً له . { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } فعلة من الحط كالجلسة وهي خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة أو أمرك حطة ، والأصل النصب وقد قرىء به بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات . وقيل : أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها . وعن عليّ رضي الله عنه : وهو بسم الله الرحمن الرحيم . وعن عكرمة : هو لا إله إلا الله . { نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم } جمع خطيئة وهي الذنب . «يغفر» : مدني «تغفر» : شامي . { وَسَنَزِيدُ المحسنين } أي من كان محسناً منكم . كانت تلك الكلمة سبباً في زيادة ثوابه ومن كان مسيئاً كانت له توبة ومغفرة . { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } فيه حذف وتقديره فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم ، ف «بدل» يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه وإلى آخر بالباء ، فالذي مع الباء متروك والذي بغير باء موجود ، يعني وضعوا مكان حطة قولاً غيرها أي أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر الله . وقيل : قالوا مكان حطة حنطة . وقيل : قالوا بالنبطية حطا سمقاثا أي حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم وعدولاً عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون من أعراض الدنيا . { فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزًا } عذاباً . وفي تكرير «الذين ظلموا» زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بإنزال الرجز عليهم لظلمهم . { مِّنَ السماء } صفة لرجز { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } بسبب فسقهم . روي أنه مات منهم في ساعة بالطاعون أربعة وعشرون ألفاً وقيل سبعون ألفاً .(1/49)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
{ وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ } موضع إذ نصب كأنه قيل : واذكروا إذا استسقى أي استدعي أن يسقي قومه . { فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر } عطشوا في التيه فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له اضرب بعصاك الحجر . واللام للعهد والإشارة إلى حجر معلوم ، فقد روي أنه حجر طوري حمله معه وكان مربعاً له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين لكل سبط عين وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر إثنا عشر ميلاً ، أو للجنس أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر ، وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة . { فانفجرت } الفاء متعلقة بمحذوف أي فضرب فانفجرت أي سالت بكثرة ، أو فإن ضربت فقد انفجرت وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ . { مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا } على عدد الأسباط وقرىء بكسر الشين وفتحها وهما لغتان ، وعيناً تمييز . { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } كل سبط { مَّشْرَبَهُمْ } عينهم التي يشربون منها . وقلنا لهم { كُلُواْ } من المن والسلوى . { واشربوا } من ماء العيون . { مِن رّزْقِ الله } أي الكل مما رزقكم الله . { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض } لا تفسدوا فيها . والعيث أشد الفساد { مُفْسِدِينَ } حال مؤكدة أي لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه . { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد } هو ما رزقوا في التيه من المن والسلوى . وإنما قالوا على طعام واحد وهما طعامان لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يتبدل ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها يقال لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً ويراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف . أو أرادوا أنهما ضرب واحد لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والترف وكانوا من أهل الزراعات فأرادوا ما ألفوا من البقول والحبوب وغير ذلك { فادع لَنَا رَبَّكَ } سله وقل له أخرج لنا { يُخْرِجْ لَنَا } يظهر لنا ويوجد { مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا } هو ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطايب البقول كالنعناع والكرفس والكراث ونحوهما مما يأكل الناس . { وَقِثَّآئِهَا } يعني الخيار { وَفُومِهَا } هو الحنطة أو الثوم لقراءة ابن مسعود و«ثومها» { وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى } أقرب منزلة وأدون مقداراً والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار { بالذي هُوَ خَيْرٌ } أرفع وأجل . { اهبطوا مِصْرًا } من الأمصار أي انحدروا إليه من التيه . وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنّسرين وهي اثنا عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ ، أو مصر فرعون . وإنما صرفه من وجود السببين وهما التأنيث والتعريف لإرادة البلد ، أو لسكون وسطه كنوح ولوط وفيهما العجمة والتعريف { فَإِنَّ لَكُم } فيها { مَّا سَأَلْتُمْ } أي فإن الذي سألتم يكون في الأمصار لا في التيه .(1/50)
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } أي الهوان والفقر يعني جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه ، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه . فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة وفقر إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية . «عليهم الذلة» : حمزة وعلي وكذا كل ما كان قبل الهاء ياء ساكنة وبكسر الهاء والميم : أبو عمرو . وبكسر الهاء وضم الميم : غيرهم . { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } من قولك «باء فلان بفلان» إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له . أي صاروا أحقاء بغضبه . وعن الكسائي حفوا { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة والخلافة بالغضب . { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين } بالهمزة : نافع وكذا بابه . أي ذلك بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء . وقد قتلت اليهود شعياء وزكريا ويحيى صلوات الله عليهم . والنبي من النبإ لأنه يخبر عن الله تعالى «فعيل» بمعنى «مفِعل» أو بمعنى «مفعَل» . أو من نبا أي ارتفع ، والنبوة المكان المرتفع . { بِغَيْرِ الحق } عندهم أيضاً فإنهم لو أنصفوا لم يذكروا شيئاً يستحقون به القتل عندهم في التوراة . وهو في محل النصب على الحال من الضمير في «يقتلون» أي يقتلونهم مبطلين { ذلك } تكرار للإشارة . { بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي واعتدائهم حدود الله في كل شيء مع كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء . وقيل : هو اعتداؤهم في السبت . ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم لأنهم انهمكوا فيهما وغلوا حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتلهم الأنبياء ، أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا .(1/51)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
{ إِنَّ الذين ءَامَنُواْ } بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون . { والذين هَادُواْ } تهودوا يقال هاد يهود وتهود إذا دخل في اليهودية وهو هائد والجمع هود . { والنصارى } جمع نصران كندمان وندامى يقال رجل نصران وامرأة نصرانة . والياء في نصراني للمبالغة كالتي في «أحمري» سموا نصارى لأنهم نصروا المسيح . { والصابئين } الخارجين من دين مشهور إلى غيره من صبأ إذا خرج من الدين ، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة . وقيل : هم يقرؤون الزبور . { مَنْ ءَامَنَ بالله واليوم الآخر } من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً { وَعَمِلَ صالحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } ثوابهم { عِندَ رَبِّهِمْ } في الآخرة { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ومحل «من آمن» الرفع إن جعلته مبتدأ خبره فلهم أجرهم ، والنصب إن جعلته بدلاً من اسم إن والمعطوف عليه . فخبر إن في الوجه الأول الجملة كما هي ، وفي الثاني «فلهم» والفاء لتضمن «من» معنى الشرط .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم } بقبول ما في التوراة . { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } أي الجبل حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق . وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم وأبوا قبولها ، فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام فقلع الطور من أصله ورفعه فظلله فوقهم وقال لهم موسى : إن قبلتم وإلا ألقي عليكم حتى قبلوا وقلنا لكم . { خُذُواْ مَا ءاتيناكم } من الكتاب أي التوراة { بِقُوَّةٍ } بجدٍ وعزيمة { واذكروا مَا فِيهِ } واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } رجاء منكم أن تكونوا متقين . { ثمّ تولّيتم } ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به . { مِن بَعْدِ ذلك } من بعد القبول { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بتأخير العذاب عنكم أو بتوفيقكم للتوبة . { لَكُنتُم مّنَ الخاسرين } الهالكين في العذاب .
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } عرفتم فيتعدى إلى مفعول واحد { الذين اعتدوا مِنكُمْ فِي السبت } هو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت . وقد اعتدوا فيه أي جاوزوا ما حد لهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد . وذلك أن الله تعالى نهاهم أن يصيدوا في السبت ثم ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت ، فإذا مضى تفرقت فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول ، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت لأمنها من الصيد فكانوا يسدون مشارعها من البحر فيصطادونها يوم الأحد ، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم . { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ } بتكويننا إياكم { قِرَدَةً خاسئين } خبر كان أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغاروالطرد . يعني المسخة { نكالا } عبرة تنكل من اعتبر بها أن تمنعه .(1/52)
{ لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } لما قبلها . { وَمَا خَلْفَهَا } وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين . { وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ } الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم أو لكل متقٍ سمعها .
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ } أي واذكروا إذ قال موسى ، وهو معطوف على نعمتي في قوله { اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 40 ] كأنه قال : اذكروا ذاك واذكروا إذ قال موسى . وكذلك هذا في الظروف التي مضت أي اذكروا نعمتي ، واذكروا وقت إنجائنا إياكم ، واذكروا وقت فرقنا ، واذكروا نعمتي ، واذكروا وقت استسقاء موسى ربه لقومه . والظروف التي تأتي إلى قوله { وَإِذَا ابتلى إبراهيم رَبُّهُ } [ البقرة : 124 ] . { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن } أي بأن { تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } قال المفسرون : أول القصة مؤخر في التلاوة وهو قوله تعالى «وإذا قتلتم نفساً فادارأتم فيها» . وذلك أن رجلاً موسراً اسمه «عاميل» قتله بنو عمه ليرثوه وطرحوه على باب مدينة ثم جاؤوا يطالبون بديته فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبرهم بقاتله . { قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء . «هزأً» بسكون الزاي والهمزة : حمزة ، وبضمتين والواو : حفص . غيرهما بالتثقيل والهمزة . { قَالَ أَعُوذُ بالله } العياذ واللياذ من وادٍ واحد . { أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } لأن الهزء في مثل هذا من باب الجهل والسفه ، وفيه تعريض بهم أي أنتم جاهلون حيث نسبتموني إلى الاستهزاء .(1/53)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ } سؤال عن حالها وصفتها لأنهم كانوا عالمين بماهيتها ، لأن «ما» وإن كانت سؤالاً عن الجنس ، و «كيف» عن الوصف ولكن قد تقع «ما» موقع «كيف» ، وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشان ، و«ما هي» خبر ومبتدأ . { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ } مسنة ، وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها . وارتفع «فارض» لأنه صفة ل «بقرة» ، وقوله : { وَلاَ بِكْرٌ } فتية عطف عليه . { عَوَانٌ } نصف . { بَيْنَ ذلك } بين الفارض والبكر ، ولم يقل بين ذينك مع أن «بين» يقتضي شيئين فصاعداً لأنه أراد بين هذا المذكور ، وقد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا ، قال أبو عبيدة : قلت لرؤبة في قوله :
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق
إن أردت الخطوط فقل كأنها . وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما ، فقال : أردت كأن ذاك . { فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ } أي تؤمرونه بمعنى تؤمرون به ، أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير .
{ قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا } موضع «ما» رفع لأن معناه الاستفهام تقديره : ادع لنا ربك يبين لنا أي شيء لونها . { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع ، وهو توكيد لصفراء وليس خبراً عن اللون إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل ، ولا فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها ، وفي ذكر اللون فائدة التوكيد لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك جد جده { تَسُرُّ الناظرين } لحسنها . والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه . عن علي رضي الله عنه : من لبس نعلاً صفراء قل همه لقوله تعالى : «تسر الناظرين» ، { قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ } تكرير للسؤال عن حالها وصفتها واستكشاف زائد ليزدادوا بياناً لوصفها ، وعن النبي عليه السلام " لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم " والاستقصاء شؤم { إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا } إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا { وَإِنَّا إِن شَاءَ الله لَمُهْتَدُونَ } إلى البقرة المراد ذبحها أو إلى ما خفي علينا من أمر القاتل ، و«إن شاء الله» اعتراض بين اسم «إن» وخبرها . وفي الحديث " لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد " أي لو لم يقولوا إن شاء الله { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض } لا ذلول صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول ، يعني لم تذلل للكراب وإثارة الأرض { وَلاَ تَسْقِي الحرث } ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحروق ، و «لا» الأولى نافية والثانية مزيدة لتوكيد الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير الأرض أي تقلبها للزراعة وتسقي الحرث على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية { مُّسَلَّمَةٌ } عن العيوب وآثار العمل .(1/54)
{ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } لا لمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها ، وهي في الأصل مصدر وشاه وشياً وشية إذا خلط بلونه لون آخر . { قَالُواْ الئان جِئْتَ بالحق } أي بحقيقة وصف البقرة وما بقي إشكال في أمرها ، «جئت» وبابه بغير همز : أبو عمرو { فَذَبَحُوهَا } فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة في ظهور القاتل ، روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر وكان براً بوالديه . فشبت البقرة وكانت من أحسن البقر وأسمنه ، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير ، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة ، وهذا البيان من قبيل تقييد المطلق فكان نسخاً والنسخ قبل الفعل جائز وكذا قبل التمكن منه عندنا خلافاً للمعتزلة . { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } بتقدير «واذكروا» ، خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم . { فادرأتم فِيهَا } فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً أي يدفع ، أو تدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فيدفع المطروح عليه الطارح ، أو لأن الطرح في نفسه دفع ، وأصاله تدارأتم ثم أرادوا التخفيف فقلبوا التاء دالاً لتصير من جنس الدال التي هي فاء الكلمة ليمكن الإدغام ، ثم سكنوا الدال إذ شرط الإدغام أن يكون الأول ساكناً وزيدت همزة الوصل لأنه لا يمكن الابتداء بالساكن ، «فاداراتم» بغير همز : أبو عمر . { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوماً ، وأعمل مخرج على حكاية ما كان مستقبلاً في وقت التدارؤ ، وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما ادارأتم .(1/55)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
و { فَقُلْنَا } والضمير في { اضربوه } يرجع إلى النفس ، والتذكير بتأويل الشخص والإنسان ، أو إلى القتيل لما دل عليه ما كنتم تكتمون . { بِبَعْضِهَا } ببعض البقرة وهو لسانها أو فخذها اليمنى أو عجبها ، والمعنى فضربوه فحيى فحذف ذلك لدلالة { كذلك يُحْيىِِ الله الموتى } عليه . روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله تعالى وقال قتلني فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتاً فأُخذا وقُتلا ولم يورث قاتل بعد ذلك ، وقوله «كذلك يحيي الله الموتى» إما أن يكون خطاباً للمنكرين في زمن النبي عليه السلام ، وإما أن يكون خطاباً للذين حضروا حياة القتيل بمعنى وقلنا لهم كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة . { وَيُرِيكُمْ ءاياته } دلائله على أنه قادر على كل شيء { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فتعملون على قضية عقولكم وهي أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء جميعها لعدم الاختصاص ، والحكمة في ذبح البقرة وضربه ببعضها وإن قدر على إحيائه بلا واسطة التقرب به ، الإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب والتعليم لعباده ترك التشديد في الأمور والمسارعة إلى امتثال أوامر الله من غير تفتيش وتكثير سؤال وغير ذلك . وقيل : إنما أمروا بذبح البقرة دون غيرها من البهائم لأنها أفضل قرابينهم ، ولعبادتهم العجل فأراد الله تعالى أن يهون معبودهم عندهم ، وكان ينبغي أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها وأن يقال : وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها ، ولكنه تعالى إنما قص قصص بني إسرائيل تعديداً لما وجد منهم من الجنايات وتقريعاً لهم عليها ، وهاتان القصتان وإن كانتا متصلتين فتستقل كل واحدة منهما بنوع من التقريع . فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك ، والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية العظيمة . وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولذهب المراد في تثنية التقريع ، ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها إن وصلت بالأولى بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله «اضربوه ببعضها» ليعلم أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وقصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة . وقيل : هذه القصة تشير إلى أن من أراد إحياء قلبه بالمشاهدات فليمت نفسه بأنواع المجاهدات . ومعنى { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } استبعاد القسوة { مِن بَعْدِ } ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها . وصفة القلوب بالقسوة مثل لنبوها عن الاعتبار والاتعاظ . من بعد { ذلك } إشارة إلى إحياء القتيل أو إلى جميع ما تقدم من الآيات المعدودة { فَهِىَ كالحجارة } فهي في قسوتها مثل الحجارة { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } منها .(1/56)
وأشد معطوف على الكاف تقديره أو مثل أشد قسوة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . أو هي في أنفسها أشد قسوة . يعني أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلاً ، أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة . وإنما لم يقل أقسى لكونه أبين وأدل على فرط القسوة . وترك ضمير المفضل عليه لعدم الإلباس كقولك «زيد كريم وعمرو أكرم» . { وَإِنَّ مِنَ الحجارة } بيان لزيادة قسوة قلوبهم على الحجارة { لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار } «ما» بمعنى «الذي» في موضع النصب وهو اسم «إن» واللام للتوكيد . والتفجر التفتح بالسعة والكثرة . { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ } أصله يتشقق وبه قرأ الأعمش فقلبت التاء شيناً وأدغمت { فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء } يعني أن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير ، ومنها ما ينشق انشقاقاً بالطول أو بالعرض فينبع منه الماء أيضاً وقلوبهم لا تندى . { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ } يتردى من أعلى الجبل { مّنْ خَشْيَةِ الله } قيل : هو مجاز عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع على ما يريد فيها ، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به . وقيل : المراد به حقيقة الخشية على معنى أنه يخلق فيها الحياة والتمييز . وليس شرط خلق الحياة والتمييز في الجسم أن يكون على بنية مخصوصة عند أهل السنة وعلى هذا قوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ } [ الحشر : 21 ] ، الآية . يعني وقلوبهم لا تخشى . { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } وبالياء مكي وهو وعيد .(1/57)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
{ أَفَتَطْمَعُونَ } الخطاب لرسول الله والمؤمنين . { أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } أن يؤمنوا لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم كقوله تعالى : { فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] ، يعني اليهود . { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ } طائفة فيمن سلف منهم . { يَسْمَعُونَ كلام الله } أي التوراة . { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } كما حرفوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآية الرجم . { مِن بَعْدِِ مَا عَقَلُوهُ } من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم . { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كاذبون مفترون . والمعنى إن كفر هؤلاء وحرفوا فلهم سابقة في ذلك . { وَإِذَا لَقُواْ } أي المنافقون أو اليهود . { الذين آمنواْ } أي المخلصون من أصحاب محمد عليه السلام . { قَالُواْ } أي المنافقون { آمنَا } بأنكم على الحق وأن محمداً هو الرسول المبشر به . { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ } الذين لم ينافقوا { إلى بَعْضِ } إلى الذين نافقوا { قَالُواْ } عاتبين عليهم { أَتُحَدِّثُونَهُم } أتخبرون أصحاب محمد عليه السلام { بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } بما بين الله لكم في التوراة من صفة محمد عليه السلام { لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ } ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه ، جعلوا محاجتهم به وقولهم هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله ، ألا تراك تقول هو في كتاب الله تعالى هكذا وهو عند الله هكذا بمعنى واحد؟ وقيل : هذا على إضمار المضاف أي عند كتاب ربكم . وقيل : ليجادلوكم ويخاصموكم به بما قلتم لهم عند ربكم في الآخرة يقولون كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه . { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن هذه حجة عليكم حيث تعترفون به ثم لا تتابعونه { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ } جميع { مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان .
{ وَمِنْهُمُ } ومن اليهود { أُمِّيُّونَ } لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها { لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب } التوراة { إِلاَّ أَمَانِىَّ } إلا ما هم عليه من أمانيهم وأن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا تمسهم النار إلا أياماً معدودة ، أو إلا أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد ومنه قول عثمان رضي الله عنه : ما تمنيت منذ أسلمت ، أو إلا ما يقرؤون من قوله :
تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخرها لا في حمام المقادر
أي لا يعلمون هؤلاء حقيقة المنزل وإنما يقرؤون أشياء أخذوها من أحبارهم . والاستثناء منقطع . { وَإِنْ هُمْ } وما هم { إِلاَّ يَظُنُّونَ } لا يدرون ما فيه فيجحدون نبوتك بالظن . ذكر العلماء الذين عاندوا بالتحريف مع العلم ثم العوام الذين قلدوهم { فَوَيْلٌ } في الحديث « ويل واد في جهنم » { لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب } المحرف { بِأَيْدِيهِمْ } من تلقاء أنفسهم من غير أن يكون منزلاً .(1/58)
وذكر الأيدي للتأكيد وهو من مجاز التأكيد { ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً } عوضاً يسيراً . { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } من الرشا . { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } أربعين يوماً عدد أيام عبادة العجل . وعن مجاهد رضي الله عنه : كانوا يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً . { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا } أي عهد إليكم أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار { فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ } متعلق بمحذوف تقديره إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده { أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } «أم» إما أن تكون معادلة أي أتقولون على الله ما تعلمون أم تقولون عليه ما لا تعلمون ، أو منقطعة أي بل أتقولون على الله ما لا تعلمون . { بلى } إثبات لما بعد النفي وهو لن تمسنا النار أي بلى تمسكم أبداً بدليل قوله «هم فيها خالدون» { مَن كَسَبَ سَيّئَةً } شركاً عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما رضي الله عنهم { وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ } وسدت عليه مسالك النجاة بأن مات على شركه ، فأما إذا مات مؤمناً فأعظم الطاعات وهو الإيمان معه فلا يكون الذنب محيطاً به فلا يتناوله النص ، وبهذا التأويل يبطل تشبث المعتزلة والخوارج . وقيل : استولت عليه كما يحيط العدو ولم ينفضّ عنها بالتوبة ، «خطياته» مدني . { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } .(1/59)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
{ والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون * وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إسراءيل } الميثاق العهد المؤكد غاية التأكيد { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } إخبار في معنى النهي كما تقول تذهب إلى فلان تقول له كذا تريد الأمر . وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء وهو يخبر عنه ، وتنصره قراءة أبيّ «لا تعبدوا» ، وقوله «وقولوا» والقول مضمر . «لا يعبدون» : مكي وحمزة وعلي لأن بني إسرائيل اسم ظاهر والأسماء الظاهرة كلها غيب . ومعناه أن لا يعبدوا فلما حذفت «أن» رفع . { وبالوالدين إحسانا } أي وأحسنوا ليلتئم عطف الأمر وهو قوله «وقولوا» عليه . { وَذِي القربى } القرابة { واليتامى } جمع يتيم وهو الذي فقد أباه قبل الحلم إلى الحلم لقوله عليه السلام " لا يتم بعد البلوغ " { والمساكين } جمع مسكين وهو الذي أسكنته الحاجة . { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا } قولاً هو حسن في نفسه لإفراط حسنه . «حسناً» : حمزة وعلي . { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكواة ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } عن الميثاق ورفضتموه { إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ } قيل : هم الذين أسلموا منهم { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } وأنتم قوم عادتكم الإعراض والتولية ، عن المواثيق .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم } أي لا يفعل ذلك بعضكم ببعض . جعل غير الرجل نفسه إذ اتصل به أصلاً أو ديناً . وقيل : إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } عليها كما تقول : فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها . أو وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء } استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم . «أنتم» مبتدأ و«هؤلاء» بمعنى «الذين» { تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ } صلة «»«هؤلاء» . و«هؤلاء» مع صلته خبراً «أنتم» { وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن ديارهم } غير مراقبين ميثاق الله { تظاهرون علَيْهِم } بالتخفيف كوفي أي تتعاونون . وبالتشديد غيرهم . فمن خفف فقد حذف إحدى التائين . ثم قيل : هي الثانية لأن الثقل بها . وقيل : الأولى . ومن شدد قلب التاء الثانية ظاء وأدغم . { بالإثم والعدوان } بالمعصية والظلم . { وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم } «تفدوهم» : أبو عمرو . «أسرى تفدوهم» مكي وشامي . «أسرى تفدوهم» : حمزة «أسارى تفادوهم» : علي . فدى وفادى بمعنى . و«أسارى» حال وهو جمع أسير وكذلك أسرى . والضمير في { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ } للشأن أو هو ضمير مبهم تفسيره { إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب } بفداء الأسرى . { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } بالقتال والإجلاء . قال السدي : أخذ الله عليكم أربعة عهود ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة وفداء الأسير فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء . { فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلك } هو إشارة إلى الإيمان ببعض والكفر ببعض { مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ } فضيحة وهوان { فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب } وهو الذي لا روح فيه ولا فرح أو إلى أشد من عذاب الدنيا { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } بالياء مكي ونافع وأبو بكر .(1/60)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
{ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } اختاروها على الآخرة اختيار المشتري { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } ولا ينصرهم أحد بالدفع عنهم . { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب } التوراة . أتاه جملة { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } يقال : قفاه إذا اتبعه من القفا نحو ذنبه من الذنب وقفاه به إذا أتبعه إياه . يعني وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل وهم يوشع واشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم . صلوات الله عليهم { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } هي بمعنى الخادم ، ووزن مريم عند النحويين «مفعل» لأن «فعيلاً» لم يثبت في الأبنية ، البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والإخبار بالمغيبات . { وأيدناه بِرُوحِ القدس } أي الطهارة وبالسكون حيث كان : مكي . أي بالروح المقدسة كما يقال «حاتم الجود» ووصفها بالقدس للاختصاص والتقريب . أو بجبريل عليه السلام لأنه يأتي بما فيه حياة القلوب ، وذلك لأنه رفعه إلى السماء حين قصد اليهود قتله . أو بالإنجيل كما قال في القرآن { رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] ، أو باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره . { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى } تحب { أَنفُسُكُم استكبرتم } تعظمتم عن قبوله { فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ } كعيسى ومحمد عليهما السلام { وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } كزكريا ويحيى عليهما السلام . ولم يقل قتلتم لوفاق الفواصل ، أو لأن المراد وفريقاً تقتلونه بعد لأنكم تحومون حول قتل محمد عليه السلام لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة . والمعنى ولقد آتينا يا بني إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم فكلما جاءكم رسول منهم بالحق استكبرتم عن الإيمان به ، فوسط ما بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ والتعجب من شأنهم . { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } جمع أغلف أي هي خلقة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جاء به محمد عليه السلام ولا تفقهه ، مستعار من الأغلف الذي لا يختن { بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ } فرد الله أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ، وإنما طردهم بكفرهم وزيغهم . { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } ف «قليلاً» صفة مصدر محذوف أي فإيماناً قليلاً يؤمنون . و«ما» مزيدة وهو إيمانهم ببعض الكتاب . وقيل : القلة بمعنى العدم . غلف تخفيف غلف وقرىء به جمع غلاف أي قلوبنا أوعية للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره ، أو أوعية للعلوم فلو كان ما جئت به حقاً لقبلنا .
{ وَلَمَّا جَاءَهُمُ } أي اليهود { كتاب مّنْ عِندِ الله } أي القرآن { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } من كتابهم لا يخالفه { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ } يعني القرآن { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم قالوا : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة ، ويقولون لأعدائهم المشركين : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم .(1/61)
{ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ } «ما» موصولة أي ما عرفوه وهو فاعل «جاء» . { كَفَرُواْ بِهِ } بغياً وحسداً وحرصاً على الرياسة . { فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } أي عليهم وضعاً للظاهر موضع المضمر للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم . واللام للعهد أو للجنس ودخلوا فيه دخولاً أولياً ، وجواب «لما» الأولى مضمر وهو نحو كذبوا به أو أنكروه ، أو كفروا جواب الأولى والثانية لأن مقتضاهما واحد . و «ما» في { بِئْسَمَا } نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس أي بئس شيئاً { اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ } أي باعوه والمخصوص بالذم . { أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله } يعني القرآن . { بَغِيّاً } مفعول له أي حسداً وطلباً لما ليس لهم ، وهو علة اشتروا { أَن يُنَزِّلَ الله } لأن ينزل . أو على أن ينزل أي حسدوه على أن ينزل الله . { مِن فَضْلِهِ } الذي هو الوحي { على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } وهو محمد عليه السلام . { فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } فصاروا أحقاء بغضب مترادف لأنهم كفروا بنبي الحق وبغوا عليه أو كفروا بمحمد بعد عيسى عليهما السلام ، أو بعد قولهم عزيز ابن الله وقولهم يد الله مغلولة وغير ذلك . { وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ } مذل . «بئسما» وبابه غير مهموز : أبو عمرو . و«ينزل» بالتخفيف : مكي وبصري . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } لهؤلاء اليهود . { آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ } يعني القرآن ، أو مطلق يتناول كل كتاب { قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } أي التوراة . { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ } أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة . { وَهُوَ الحق مُصَدِّقًا لّمَا مَعَهُمْ } غير مخالف له وفيه رد لمقالتهم لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ، و«مصدقاً» حال مؤكدة . { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ الله } أي فلم قتلتم فوضع المستقبل موضع الماضي ويدل عليه قوله { مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي من قبل محمد عليه السلام ، اعتراض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادعائهم الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوغ قتل الأنبياء . قيل : قتلوا في يوم واحد ثلثمائة نبي في بيت المقدس .(1/62)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
{ وَلَقَدْ جَاءَكُم موسى بالبينات } بالآيات التسع وأدغم الدال في الجيم حيث كان أبو عمرو وحمزة وعلي . { ثُمَّ اتخذتم العجل } إلهاً { مِن بَعْدِهِ } من بعد خروج موسى عليه السلام إلى الطور . { وَأَنتُمْ ظالمون } هو حال أي عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة غير موضعها ، أو اعتراض أي وأنتم قوم عادتكم الظلم . { وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ ما آتيناكُمْ بِقُوَّةٍ } كرر ذكر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأولى . { واسمعوا } ما أمرتم به في التوراة . { قَالُواْ سَمِعْنَا } قولك { وَعَصَيْنَا } أمرك وطابق قوله جوابهم من حيث إنه قال لهم اسمعوا وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة . { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل } أي تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب ، وقوله : «في قلوبهم» ، بيان لمكان الإشراب والمضاف وهو الحب محذوف . { بِكُفْرِهِمْ } بسبب كفرهم واعتقادهم التشبيه . { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم } بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العجل ، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم وكذا إضافة الإيمان اليهم . { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم له . { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة } أي الجنة . { عَندَ الله } ظرف ، و «لكم» خبر «كان» { خَالِصَةً } حال من الدار الآخرة أي سالمة لكم ليس لأحد سواكم فيها حق يعني إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً { مّن دُونِ الناس } هو للجنس . { فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صادقين } فيما تقولون لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها تخلصاً من الدار ذات الشوائب كما نقل عن العشرة المبشرين بالجنة أن كل واحد منهم كان يحب الموت ويحن إليه . { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } هو نصب على الظرف أي لن يتمنوه ما عاشوا { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بما أسلفوا من الكفر بمحمد عليه السلام وتحريف كتاب الله وغير ذلك وهو من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به كقوله { وَلَن تَفْعَلُواْ } [ البقرة : 24 ] ، ولو تمنوه لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث . { والله عَلِيمٌ بالظالمين } تهديد لهم .
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس } مفعولاً وجد - «هم» - و «أحرص» - { على حياة } التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة وعلى الحياة المتطاولة ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة «أبي» على الحياة { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } هو محمول على المعنى لأن معنى أحرص الناس أحرص من الناس ، نعم قد دخل الذين أشركوا تحت الناس ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد كما أن جبريل وميكائيل خصا بالذكر وإن دخلا تحت الملائكة ، أو أريد وأحرص من الذين أشركوا فحذف لدلالة أحرص الناس عليه ، وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا ، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ ، وإنما زاد حرصهم على الذين أشركوا لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لعلمهم بحالهم والمشركون لا يعلمون ذلك .(1/63)
وقوله : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف . وقيل : أراد بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون لملوكهم عش ألف نيروز . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو قول الأعاجم زي هزارسال . وقيل : «ومن الذين أشركوا» كلام مبتدأ أي ومنهم ناسٌ يود أحدهم على حذف الموصوف ، والذين أشركوا على هذا مشار به إلى اليهود لأنهم قالوا عزيز ابن الله . والضمير في { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب } لأحدهم . وقوله { أَن يُعَمَّرَ } فاعل «بمزحزحه» أي وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره ، ويجوز أن يكون «هو» مبهماً و«أن يعمر» موضحه . والزحزحة التبعيد والإنحاء . قال في جامع العلوم وغيره : «لو يعمر» بمعنى «أن يعمر» ، ف «لو» هنا نائبة عن «أن» و «أن» مع الفعل في تأويل المصدر وهو مفعول «يود» أي يود أحدهم تعمير ألف سنة . { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي بعمل هؤلاء الكفار فيجازيهم عليه . وبالتاء : يعقوب .
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ } بفتح الجيم وكسر الراء بلا همز : مكي . وبفتح الراء والجيم والهمز مشبعاً : كوفي غير حفص . وبكسر الراء والجيم بلا همز : غيرهم . ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة ومعناه عبد الله لأن «جبر» هو العبد بالسريانية و «إيل» اسم الله . روي أَن ابن صوريا من أحبار اليهود حاجّ النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عمن يهبط عليه بالوحي فقال : جبريل . فقال : ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا بك وقد عادانا مراراً ، وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاماً مسكيناً فدفع عنه جبريل وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه ، وإن لم يكن إياه فعلى أي ذنب تقتلونه . { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } فإن جبريل نزل القرآن ، ونحو هذا الإضمار أعني إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته . { على قَلْبِكَ } أي حفظه إياك . وخص القلب لأنه محل الحفظ كقوله : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193-194 ] ، وكان حق الكلام أن يقال على قلبي ولكن جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به ، وإنما استقام أن يقع فإنه «نزله» جزاء للشرط لأن تقديره إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب بين يديه ، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم . وقيل : جواب الشرط محذوف تقديره من كان عدواً لجبريل فليمت غيظاً فإنه نزل الوحي على قلبك { بِإِذْنِ الله } بأمره { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } رد على اليهود حين قالوا إن جبريل ينزل بالحرب والشدة فقيل : فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضاً .(1/64)
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
{ مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال } بصري وحفص . و «ميكائل» باختلاس الهمزة ك «ميكاعل» : مدني . و«ميكائيل» بالمد وكسر الهمزة مشبعة : غيرهم . وخص الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر إذ التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات . { فَإِنَّ الله عَدُوٌّ للكافرين } أي لهم فجاء بالظاهر ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر كعداوة الأنبياء ومن عاداهم عاداه الله { وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءايات بينات وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفاسقون } المتمردون من الكفرة واللام للجنس والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية فنتبعك بها فنزلت الواو في { أَوَكُلَّمَا } الواو للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات البينات . وكلما { عاهدوا عَهْدًا نَّبَذَهُ } نقضه ورفضه وقال { فَرِيقٌ مّنْهُمُ } لأن منهم من لم ينقض { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بالتوراة وليسوا من الدين في شيء فلا يعدون نقض المواثيق ذنباً ولا يبالون به . { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ الله } محمد صلى الله عليه وسلم { مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } أي التوراة والذين أوتوا الكتاب اليهود { كتاب الله } يعني التوراة لأنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم المصدق لما معهم كافرون بها نابذون لها ، أو كتاب الله القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول . { وَرَاء ظُهُورِهِمْ } مثل لتركهم وإعراضهم عنه مثل بما يرمى به وراء الظهور استغناء عنه وقلة التفات إليه { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنه كتاب الله .
{ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } أي نبذ اليهود كتاب الله واتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها { على مُلْكِ سليمان } أي على عهد ملكه في زمانه ، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما يسمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد دونوها في كتب يقرأونها ويعلمونها الناس ، وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا : إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه سخر الجن والإنس والريح . { وَمَا كَفَرَ سليمان } تكذيب للشياطين ودفع لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به { ولكن الشياطين } هم الذين { كَفَرُواْ } باستعمال السحر وتدوينه . و«لكن» بالتخفيف «الشياطين» بالرفع : شامي وحمزة وعلي .
{ يُعَلِّمُونَ الناس السحر } في موضع الحال أي كفروا معلمين الناس السحر قاصدين به إغواءهم وإضلالهم { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } الجمهور على أن «ما» بمعنى «الذي» هو نصب عطف على «السحر» أي ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أو على «ما تتلوا» أي واتبعوا ما أنزل على الملكين { بِبَابِلَ هاروت وماروت } علمان لهما وهما عطف بيان للملكين ، والذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من الله للناس من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً إن كان فيه رد ما لزم في شرط الإيمان ، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه لئلا يغتر به كان مؤمناً ، قال الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله : القول بأن السحر على الإطلاق كفر خطأ بل يجب البحث عن حقيقته ، فإن كان في ذلك رد ما لزم في شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا .(1/65)
ثم السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور لا الإناث ، وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوي فيه المذكر والمؤنث ، وتقبل توبته إذا تاب . ومن قال لا تقبل فقد غلط فإن سحرة فرعون قبلت توبتهم . وقيل : أنزل أي قذف في قلوبهما مع النهي عن العمل . قيل : إنهما ملكان اختارتهما الملائكة لتركب فيهما الشهوة حين عيرت بني آدم فكانا يحكمان في الأرض ويصعدان بالليل ، فهويا زهرة فحملتهما على شرب الخمر فزنيا فرآهما إنسان فقتلاه فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة ، فهما يعذبان منكوسين في جب ببابل وسميت ببابل لتبلبل الألسن بها . { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } وما يعلم الملكان أحداً { حتى يَقُولاَ } حتى ينبهاه وينصحاه ويقولا له { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } ابتلاء واختبار من الله . { فَلاَ تَكْفُرْ } بتعلمه والعمل به على وجه يكون كفراً { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } الفاء عطف على قوله «يعلمون الناس السحر» أي يعلمونهم فيتعلمون من السحر والكفر اللذين دل عليهما قوله «كفروا» - و - «يعلمون الناس السحر» أو على مضمر والتقدير : فيأتون فيتعلمون . والضمير لما دل عليه «من أحد» أي فيتعلم الناس من الملكين ما { يفرِّقون به بين المرء وزوجه } أي علم السحر الذي يكون سبباً في التفريق بين الزوجين بأن يحدث الله عنده النشوز والخلاف ابتلاء منه . وللسحر حقيقة عند أهل السنة كثرهم الله وعنده المعتزلة هو تخييل وتمويه . { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ } بالسحر { مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } بعلمه ومشيئته { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } في الآخرة وفيه دليل على أنه واجب الاجتناب كتعلم الفلسفة التي تجر إلى الغواية . { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } أي اليهود { لَمَنِ اشتراه } أي استبدل ما تتلو الشياطين من كتاب الله { مَالَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق } من نصيب { وَلَبِئْسَ ما شَرواْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } باعوها وإنما نفى العلم عنهم بقوله { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } مع إثباته لهم بقوله «ولقد علموا» على سبيل التوكيد القسمي لأن معناه لو كانوا يعلمون بعلمهم جعلهم حين لم يعلموا به كأنهم لا يعلمون .(1/66)
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ } برسول الله والقرآن { واتقوا } الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين { لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ الله خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أن ثواب الله خير مما هم فيه وقد علموا ، لكنه جهلهم لما تركوا العمل بالعلم والمعنى : لأثيب من عند الله ما هو خير ، وأوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب «لو» لما فيها من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها . ولم يقل لمثوبة الله خير لأن المعنى لشيء من الثواب خير لهم . وقيل : «لو» بمعنى التمني كأنه قيل : وليتهم آمنوا ثم ابتدأ «لمثوبة من عند الله خير» .
{ يَعْلَمُونَ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ راعنا وَقُولُواْ انظرنا } كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقي عليهم شيئاً من العلم : راعنا يا رسول الله أي راقبنا وانتظرنا حتى نفهمه ونحفظه ، وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي «راعينا» ، فلما سمعوا بقول المؤمنين «راعنا» افترصوه وخاطبوا به الرسول وهم يعنون به تلك المسبة فنهى المؤمنون عنها وأمروا بما هو في معناها وهو «انظرنا» من نظره إذا انتطره . { واسمعوا } وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة ، أو واسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا . { وللكافرين } ولليهود الذين سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم { عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم . { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم } وبالتخفيف : مكي وأبو عمرو . { مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبِّكُمْ } «من» الأولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون ، والثانية مزيدة لاستغراق الخير ، والثالثة لابتداء الغاية . والخير الوحي وكذلك الرحمة . { والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } يعني أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي والله يختص بالنبوبة من يشاء { والله ذُو الفضل العظيم } فيه إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم ولما طعنوا في النسخ فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً نزل :(1/67)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
{ مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } تفسير النسخ لغة التبديل ، وشريعة بيان انتهاء الحكم الشرعي المطلق الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي فكان تبديلاً في حقنا بياناً محضاً في حق صاحب الشرع . وفيه جواب عن البداء الذي يدعيه منكروه أعني اليهود ومحله حكم يحتمل الوجود والعدم في نفسه لم يلحق به ما ينافي النسخ من توقيت أو تأبيد ، ثبت نصاً أو دلالة . وشرطه التمكن من عقد القلب عندنا دون التمكن من الفعل خلافاً للمعتزلة . وإنما يجوز النسخ بالكتاب والسنة متفقاً ومختلفاً ويجوز نسخ التلاوة والحكم ، والحكم دون التلاوة ، والتلاوة دون الحكم ونسخ وصف بالحكم مثل الزيادة على النص فإنه نسخ عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله . والإنساء أن يذهب بحفظها عن القلوب «أو ننسأها» مكي وأبو عمرو أي نؤخرها من نسأت أي أخرت { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } أي نأت بآية خير منها للعباد أي بآية العمل بها أكثر للثواب . { أَوْ مِثْلِهَا } في ذلك إذ لا فضيلة لبعض الآيات على البعض { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي قادر فهو يقدر على الخير وعلى مثله { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } فهو يملك أموركم ويدبرها وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ . { وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ } يلي أمركم { وَلاَ نَصِيرٍ } ناصر يمنعكم من العذاب { أَمْ تُرِيدُونَ } «أم» منقطعة وتقديره بل أتريدون { أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ } روي أن قريشاً قالوا : يا محمد اجعل لنا الصفا ذهباً ووسع لنا أرض مكة فنهوا أن يقترحوا عليه الآيات كما اقترح قوم موسى عليه حين قالوا اجعل لنا إلهاً . { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان } ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } قصده ووسطه .
{ وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم } أن يردوكم { مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا } حال من «كم» أي يردونكم عن دينكم كافرين ، نزلت حين قالت اليهود للمسلمين بعد واقعة أحد : ألم تروا إلى ما أصابكم ولو كنتم على الحق لما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم . { حَسَدًا } مفعول له أي لأجل الحسد وهو الأسف على الخير عند الغير { مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } يتعلق ب «ودّ» أي ودوا من عند أنفسهم ومن قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق لأنهم ودوا ذلك { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق } أي من بعد علمهم بأنكم على الحق ، أو ب «حسداً» أي حسداً متبالغاً منبعثاً من أصل نفوسهم .(1/68)
{ فاعفوا واصفحوا } فاسلك بهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة { حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } بالقتال { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } فهو يقدر على الانتقام منهم . { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكواة وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ } من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما { تَجِدُوهُ عِندَ الله } تجدوا ثوابه عنده { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فلا يضيع عنده عمل عامل . والضمير في { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } لأهل الكتاب من اليهود والنصارى أي وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فلفّ بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله ، وأمناً من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما صاحبه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَىْء وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَىْء } ؟ وهود جمع هائد كعائذ وعوذ وواحد اسم كان للفظ «من» ، وجمع الخبر لمعناه . { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } أشير بها إلى الأماني المذكورة وهي أمنيتهم ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً ، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم . والأمنية أفعولة من التمني مثل الأضحوكة . { قُلْ هَاتُواْ برهانكم } هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة . وهات بمنزلة هاء بمعنى أحضر وهو متصل بقولهم«لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى» و«تلك أمانيهم» اعتراض . { إِن كُنتُمْ صادقين } في دعواكم . { بلى } إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة . { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره . { وَهُوَ مُحْسِنٌ } مصدق بالقرآن . { فَلَهُ أَجْرُهُ } جواب «من أسلم» . و«هو» كلام مبتدأ متضمن لمعنى الشرط و«بلى» رد لقولهم . { عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .(1/69)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
{ وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَىْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَىْء } أي على شيء يصح ويعتد به . والواو في { وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب } للحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب ، وحق من حمل التوراة والإنجيل وآمن به ألا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدق للآخر . { كذلك } مثل ذلك القول الذي سمعت به { قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } أي الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام والمعطلة ، قالوا لأهل كل دين ليسوا على شيء ، وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم { فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي بين اليهود والنصارى بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب اللائق به .
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه } موضع «من» رفع على الابتداء وهو استفهام و«أظلم» خبره والمعنى : أي أحد أظلم؟ و«أن يذكر» ثاني مفعولي «منع» لأنك تقول منعته كذا { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالأيات } [ الإسراء : 59 ] . { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ } [ الكهف : 55 ] [ الإسراء : 94 ] . ويجوز أن يحذف حرف الجر مع «أن» أي من أن يذكر وأن تنصبه مفعولاً له بمعنى منعها كراهة أن يذكر وهو حكم عام لجنس مساجد الله وأن مانعها من ذكر الله مفرط في الظلم . والسبب فيه طرح النصارى في بيت المقدس الأذى ، ومنعهم الناس أن يصلوا فيه ، أو منع المشركين رسول الله أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية . وإنما قيل مساجد الله وكان المنع على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام لأن الحكم ورد عاماً وإن كان السبب خاصاً كقوله تعالى : { وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] والمنزول فيه الأخنس بن شريق . { وسعى فِى خَرَابِهَا } بانقطاع الذكر والمراد ب «من» العموم كما أريد العموم بمساجد الله . { أولئك } المانعون { مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا } أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله { إِلاَّ خَائِفِينَ } حال من الضمير في «يدخلوها» أي على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها . والمعنى : ما كان الحق إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم . رُوي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً خيفة أن يقتل . وقال قتادة : لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا بولغ ضرباً . ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك " وقيل : معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله تعالى :(1/70)
{ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } [ الأحزاب : 53 ] { لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ } قتل وسبي للحربي وذلة بضرب الجزية للذمي { وَلَهُمْ فِى الأخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي النار .
{ وَلِلَّهِ المشرق والمغرب } أي بلاد المشرق والمغرب كلها له وهو مالكها ومتوليها { فَأَيْنَمَا } شرط { تَوَلُّوْاْ } مجزوم به أي ففي أي مكان فعلتم التولية يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى : { فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] ، والجواب { فَثَمَّ وَجْهُ الله } أي جهته التي أمر بها ورضيها . والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها ، فإن التولية ممكنة في كل مكان . { إِنَّ الله واسع عَلِيمٌ } أي هو واسع الرحمة يريد التوسعة على عباده وهو عليم بمصالحهم . وعن ابن عمر رضي الله عنهما : نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت . وقيل : عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا . هو حجة على الشافعي رحمه الله فيما إذا استدبر . وقيل : فأينما تولوا للدعاء والذكر . { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا } يريد الذين قالوا المسيح ابن الله وعزيز ابن الله . «قالوا» : شامي فإثبات الواو باعتبار أنه قصة معطوفة على ما قبلها ، وحذفه باعتبار أنه استئناف قصة أخرى . { سبحانه } تنزيه له عن ذلك وتبعيد { بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض } أي هو خالقه ومالكه ومن جملته المسيح وعزيز والولادة تنافي الملك . { كُلٌّ لَّهُ قانتون } منقادون لا يمتنع شيء منهم على تكوينه وتقديره . والتنوين في «كل» عوض عن المضاف إليه أي كل ما في السموات والأرض ، أو كل من جعلوه لله ولداً له قانتون مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم . وجاء ب «ما» الذي لغير أولي العلم مع قوله «قانتون» كقوله " سبحان ما سخركن لنا " { بَدِيعُ السماوات والأرض } أي مخترعهما ومبدعهما لا على مثال سبق . وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له أبدعت ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة مبتدع لأنه يأتي في دين الإسلام ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم . { وَإِذَا قضى أَمْرًا } أي حكم أو قدر { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } هو من «كان» التامة أي أحدث فيحدث وهذا مجاز عن سرعة التكوين وتمثيل ولا قول ثُمَّ . وإنما المعنى أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ، ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه إباء .(1/71)
وأكد بهذا استبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت صفاته مباينة لصفات الأجسام فأنى يتصور التوالد ثمّ . والوجه الرفع في «فيكون» وهو قراءة العامة على الاستئناف أي فهو يكون ، أو على العطف على «يقول» . ونصبه ابن عامر على لفظ «كن» لأنه أمر وجواب الأمر بالفاء نصب . وقلنا : إن «كن» ليس بأمر حقيقة إذ لا فرق بين أن يقال وإذ قضى أمرا فإنما يكونه فيكون وبين أن يقال فإنما يقول له كن فيكون ، وإذا كان كذلك فلا معنى للنصب . وهذا لأنه لو كان أمراً فإما أن يخاطب به الموجود والموجود لا يخاطب ب «كن» أو المعدوم والمعدوم لا يخاطب .
{ وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } من المشركين أو من أهل الكتاب ، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به { لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله } هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى استكباراً منهم وعتواً { أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ } جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آيات الله آيات واستهانه بها { كذلك قَالَ الذين مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تشابهت قُلُوبُهُمْ } أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى { قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي لقوم ينصفون فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها والإذعان لها والاكتفاء بها عن غيرها { إِنَّا أرسلناك بالحق بَشِيرًا } للمؤمنين بالثواب { وَنَذِيرًا } للكافرين بالعقاب { وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أصحاب الجحيم } ولا نسألك عنهم ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغت وبلغت جهدك في دعوتهم وهو حال ك «نذيراً» وبشيراً و«بالحق» أي وغير مسؤول أو مستأنف . قراءة نافع و«لا تسأل» على النهي ومعناه ما وقع فيه الكفار من العذاب كما تقول : كيف فلان سائلاً عن الواقع في بلية فيقال لك : لا تسأل عنه . وقيل : نهى الله نبيه عن السؤال عن أحوال الكفرة حين قال ليت شعري ما فعل أبواي .
{ وَلَن ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } كأنهم قالوا لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا إقناطاً منهم لرسول الله عن دخولهم في الإسلام ، فذكر الله عز وجل كلامهم . { قُلْ إِنَّ هُدَى الله } الذي رضي لعباده { هُوَ الهدى } أي الإسلام . وهو الهدى كله ليس وراءه هدى والذي تدعون إلى اتباعه ما هو هدى إنما هو هوى . ألا ترى إلى قوله { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع { بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم } أي من العلم بأن دين الله هو الإسلام أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة { مالك مِنَ الله } من عذاب الله { مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } ناصر .(1/72)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
{ الذين } مبتدأ { ءاتيناهمالكتاب } صلته وهم مؤمنو أهل الكتاب وهو التوراة والإنجيل ، أو أصحاب النبي عليه السلام والكتاب القرآن . { يَتْلُونَهُ } حال مقدرة من «هم» لأنهم لم يكونوا تالين له وقت إيتائه ، ونصب على المصدر . { حَقَّ تِلاَوَتِهِ } أي يقرأونه حق قراءته في الترتيل وأداء الحروف والتدبر والتفكر ، أو يعملون به ويؤمنون بما فيه مضمونه ولا يغيرون ما فيه من نعت النبي صلى الله عليه وسلم . { أولئك } مبتدأ خبره { يُؤْمِنُونَ بِهِ } والجملة خبر «الذين» ويجوز أن يكون «يتلونه» خبراً ، والجملة خبر آخر . { وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } حيث اشتروا الضلالة بالهدى { يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } أي أنعمتها عليكم { وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } وتفضيلي إياكم على عالمي زمانكم { واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شفاعة وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } «هم» رفع بالابتداء والخبر «ينصرون» . والجمل الأربع وصف ل «يوماً» أي واتقوا يوماً لا تجزى فيه ولا يقبل فيه ولا تنفعها فيه ولا هم ينصرون فيه . وتكرير هاتين الآيتين لتكرار المعاصي منهم ، وختم قصة بني إسرائيل بما بدأ به .
{ وَإِذْ } أي واذكر إذ { ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات } اختبره بأوامر ونواه . والاختبار منا لظهور ما لم نعلم ، ومن الله لإظهار ما قد علم ، وعاقبة الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعاً فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى . وقيل : اختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اختيار أحد الأمرين ما يريد الله تعالى وما يشتهيه العبد كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك . وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه : «إبراهيمُ ربه» ، يرفع إبراهيم وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما ، أي دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهن أم لا . { فَأَتَمَّهُنَّ } أي قام بهن حق القيام وأدّاهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوانٍ ونحوه { وإبراهيم الذى وفى } [ النجم : 37 ] ومعناه في قراءة أبي حنيفة رحمه الله فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً . والكلمات على هذا ما سأل إبراهيم ربه في قوله : { رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا } [ البقرة : 126 ] . { واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [ البقرة : 128 ] . { وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ } [ البقرة : 129 ] . { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } [ البقرة : 127 ] . والكلمات على القراءة المشهورة خمس في الرأس : الفرق وقص الشارب والسواك والمضمضة والاستنشاق . وخمس في الجسد : الختان وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والاستنجاء . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي ثلاثون سهماً من الشرائع : عشر في براءة { التائبون } [ الآية : 12 ] ، الآية وعشر في الأحزاب { إِنَّ المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] الآية ، وعشر في «المؤمنين» و«المعارج» إلى قوله { يُحَافِظُونَ } وقيل : هي مناسك الحج { قَالَ إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا } هو اسم من يؤتم به أي يأتمون بك في دينهم .(1/73)
{ قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى } أي واجعل من ذريتي إماماً يقتدى به . ذرية الرجل أولاده ذكورهم وإناثهم فيه سواء . فعيلة من الذرء أي الخلق فأبدلت الهمزة ياء . { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } بسكون الياء : حمزة وحفص أي لا تصيب الإمامة أهل الظلم من ولدك أي أهل الكفر . أخبر أن إمامة المسلمين لا تثبت لأهل الكفر وأن من أولاده المسلمين والكافرين قال الله تعالى : { وباركنا عَلَيْهِ وعلى إسحاق وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وظالم لّنَفْسِهِ مُبِينٌ } [ الصافات : 113 ] . والمحسن المؤمن والظالم الكافر . قالت المعتزلة : هذا دليل على أن الفاسق ليس بأهل للإمامة قالوا : وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر «من استرعى الذئب ظلم» . ولكنا نقول : المراد بالظالم الكافر هنا إذ هو الظالم المطلق . وقيل : إنه سأل أن يكون ولده نبياً كما كان هو فأخبر أن الظالم لا يكون نبيا .(1/74)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
{ وَإِذْ جَعَلْنَا البيت } أي الكعبة وهو اسم غالب لها كالنجم للثريا { مَثَابَةً لّلنَّاسِ } مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه { وَأَمْناً } وموضع أمن فإن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له حتى يخرج وهو دليل لنا في الملتجىء إلى الحرم . { واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى } وقلنا أتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه . وعنه عليه السلام أنه أخذ بيد عمر فقال " هذا مقام إبراهيم " فقال عمر أفلا نتخذه مصلى فقال عليه السلام " لم أومر بذلك " فلم تغب الشمس حتى نزلت . وقيل : مصلى مدعى ، ومقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه . وقيل : الحرم كله مقام إبراهيم . «واتخذوا» شامي ونافع بلفظ الماضي عطفاً على «جعلنا» أي واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها { وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل } أمرناهما { أَن طَهّرَا بَيْتِىَ } بفتح الياء : مدني وحفص أي بأن طهرا أو أي طهرا والمعنى طهراه من الأوثان والخبائث والأنجاس كلها { لِلطَّائِفِينَ } للدائرين حوله { والعاكفين } المجاورين الذين عكفوا عنده أي أقاموا لا يبرحون أو المعتكفين . وقيل : للطائفين للنزّاع إليه من البلاد والعاكفين والمقيمين من أهل مكة . { والركع السجود } والمصلحين جمعاً راكع وساجد .
{ وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِ اجعل هذا } أي اجعل هذا البلد أو هذا المكان { بَلَدًا آمِنًا } ذا أمن كعيشة راضية أو آمناً من فيه كقولك «ليل نائم» فهذا مفعول أول . و«بلداً» مفعول ثانٍ و«آمناً» صفة له . { وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات } لأنه لم يكن لهم ثمرة . ثم أبدل { مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بالله واليوم الأخر } من أهله بدل البعض من الكل أي وارزق المؤمنين من أهله خاصة . قاس الرزق على الإمامة فخص المؤمنين به . قال الله تعالى جواباً له { وَمَن كَفَرَ } أي وارزق من كفر { فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً } تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً إلى حين أجله . «فأمتعه» : شامي { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } ألجئه { إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير } المرجع الذي يصير إليه النار فالمخصوص بالذم محذوف .
{ وَإِذْ يَرْفَعُ } حكاية حال ماضية { إبراهيم القواعد } هي جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة ومعناها الثابتة . ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر . { مِنَ البيت } بيت الله وهو الكعبة { وإسماعيل } هو عطف على إبراهيم وكان ابراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة { رَبَّنَا } أي يقولان ربنا . وهذا الفعل في محل النصب على الحال وقد أظهره عبد الله في قراءته ومعناه يرفعانها قائلين ربنا { تَقَبَّلْ مِنَّا } تقربنا إليك ببناء هذا البيت { إِنَّكَ أَنتَ السميع } لدعائنا { العليم } بضمائرنا ونياتنا .(1/75)
وفي إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام تفخيم لشأن المبين . { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } مخلصين لك أوجهنا من قوله { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ البقرة : 112 ] أو مستسلمين يقال أسلم له واستسلم إذا خضع وأذعن ، والمعنى زدنا إخلاصاً وإذعاناً لك . { وَمِن ذُرّيَّتِنَا } واجعل من ذريتنا { أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } و«من» للتبعيض أو للتبيين . وقيل : أراد بالأمة أمة محمد عليه السلام وإنما خصا بالدعاء ذريتهما لأنهم أولى بالشفقة كقوله تعالى : { قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] . { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } منقول من «رأى» بمعنى أبصر أو عرف ولذا لم يتجاوز مفعولين أي وبصرنا متعبداتنا في الحج أو عرفناها . وواحد المناسك منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ولهذا قيل للعابد ناسك . «وأرنا» : مكي قاسه على فخذ في فخذ ، وأبو عمرو يشم الكسرة . { وَتُبْ عَلَيْنَا } ما فرط منا من التقصير أو استتاباً لذريتهما { إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم * رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ } في الأمة المسلمة { رَسُولاً مِّنْهُمْ } من أنفسهم فبعث الله فيهم محمداً عليه السلام ، قال عليه السلام " أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي " { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك } يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك ورسلك { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب } القرآن { والحكمة } السنة وفهم القرآن { وَيُزَكّيهِمْ } ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس { إِنَّكَ أَنتَ العزيز } الغالب الذي لا يغلب { الحكيم } فيما أوليت .
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم } استفهام بمعنى الجحد وإنكار أن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم . والملة السنة والطريقة كذا عن الزجاج { إِلاَّ مَنْ } في محل الرفع على البدل من الضمير في «يرغب» ، وصح البدل لأن من يرغب غير موجب كقولك «هل جاءك أحد إلا زيد» والمعنى وما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من { سَفِهَ نَفْسَهُ } أي جهل نفسه أي لم يفكر في نفسه . فوضع سفه موضع جهل وعدي كما عدي ، أو معناه سفه في نفسه فحذف في كما حذف «من» في قوله { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] أي من قومه ، وعلى في قوله : { وَلا تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح } [ البقرة : 235 ] . أي على عقدة النكاح والوجهان عن الزجاج . وقال الفراء : هو منصوب على التمييز وهو ضعيف لكونه معرفة . { وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا وَإِنَّهُ فِى الآخرة لَمِنَ الصالحين } بيان لخطأ رأي من يرغب عن ملته لأن من جمع كرامة الدارين لم يكن أحد أولى بالرغبة من طريقته منه { إِذْ قَالَ } ظرف لاصطفيناه ، أو انتصب بإضمار «اذكر» كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله .(1/76)
{ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } أذعن أو أطع أو أخلص دينك لله { قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } أي أخلصت أو انقدت .
{ ووصى } «وأوصى» مدني وشامي . { بِهَا } بالملة أو بالكلمة وهي أسلمت لرب العالمين { إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } هو معطوف على إبراهيم داخل في حكمه والمعنى ووصى بها يعقوب بنيه أيضاً { يَا بَنِىَّ } على إضمار القول { إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين } أي أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام ووفقكم للأخذ به { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام ، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك «لا تصلّ إلا وأنت خاشع» فلا تنهاه عن الصلاة ولكن عن ترك الخشوع في صلاته .
{ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت } أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار . والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت أي حين احتضر ، والخطاب للمؤمنين بمعنى ما شهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي . أو متصله ويقدر قبلها محذوف والخطاب لليهود لأنهم كانوا يقولون ما مات نبي إلا على اليهودية كأنه قيل : أتدّعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت { إِذْ قَالَ } بدل من «إذ» الأولى والعامل فيهما شهداء أو ظرف ل «حضر» { لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ } ما استفهام في محل النصب ب «تعبدون» أي أيّ شيء تبعدون؟ و «ما» عام في كل شيء أو هو سؤال عن صفة المعبود كما تقول «ما زيد» تريد أفقيه أم طبيب . { مِن بَعْدِى } من بعد موتي . { قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ } أعيد ذكر الإله لئلا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار . { إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } عطف بيان لآبائك ، وجعل إسماعيل من جملة آبائه وهو عمه لأن العم أب قال عليه السلام في العباس " هذا بقية آبائي " . { إلها واحدا } بدل من إله آبائك كقوله : { بالناصية * نَاصِيَةٍ كاذبة } [ العلق : 15 ، 16 ] أو نصب على الاختصاص أي نريد بإله آبائك إلهاً واحداً . { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } حال من فاعل «نعبد» أو جملة معطوفة على «نعبد» أو جملة اعتراضية مؤكدة . { تِلْكَ } إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون { أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم } أي إن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً ، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم وذلك لافتخارهم بآبائهم { وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ولا تؤاخذون بسيئاتهم .(1/77)
{ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى } أي قالت اليهود كونوا هوداً وقالت النصارى كونوا نصارى . وجزم { تَهْتَدُواْ } لأنه جواب الأمر . { قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبراهيم } بل نتبع ملة إبراهيم { حَنِيفاً } حال من المضاف إليه نحو «رأيت وجه هند قائمة» . والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق . { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } تعريض بأهل الكتاب وغيرهم لأن كلاًّ منهم يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك . { قُولُواْ } هذا خطاب للمؤمنين أو للكافرين أي قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل { آمَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } أي القرآن { وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والأسباط } السبط الحافد وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر . ويعدى «أنزل» ب «إلى» و «على» فلذا ورد هنا ب «إلى» وفي آل عمران ب« على» { وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى . وأحد في معنى الجماعة ولذا صح دخول بين عليه . { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } لله مخلصون { فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا } ظاهر الآية مشكل لأنه يوجب أن يكون لله تعالى مثل وتعالى عن ذلك . فقيل : الباء زائدة و«مثل» صفة مصدر محذوف تقديره فإن آمنوا إيماناً مثل إيمانكم والهاء يعود إلى الله عز وجل ، وزيادة الباء غير عزيز قال الله تعالى : { والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } [ يونس : 27 ] والتقدير جزاء سيئة مثلها كقوله في الآية الأخرى : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] وقيل : المثل زيادة أي فإن آمنوا بما آمنتم به يؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه بما آمنتم به . و«ما» بمعنى «الذي» بدليل قراءة أبي «بالذي آمنتم به» . وقيل : الباء للاستعانة كقولك «كتبت بالقلم» أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها { وإن تَوَلَّوْا } عما تقولون لهم ولم ينصفوا أو إن تولوا عن الشهادة والدخول في الإيمان بها { فإنّما هم في شقاقٍ } أي فما هم إلا في خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق في شيء { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } ضمان من الله لإظهار رسوله عليهم وقد أنجز وعده بقتل بعضهم وإجلاء بعضهم ، ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين . { وَهُوَ السميع } لما ينطقون به { العليم } بما يضمرون من الحسد والغل وهو معاقبهم عليه فهو وعيد لهم ، أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي يسمع ما تدعو به ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك .(1/78)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
{ صِبْغَةَ الله } دين الله وهو مصدر مؤكد منتصب عن قوله : «آمنا بالله» . وهي فعلة من صبغ كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ ، والمعنى تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفوس . والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم فإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال الآن صار نصرانياً حقاً ، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم : آمنا بالله وصبغنا الله بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم . وجيء بلفظ الصبغة للمشاكلة كقولك لمن يغرس الأشجار إغرس كما يغرس فلان تريد رجلاً يصطنع الكرم . { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } تمييز أي لا صبغة أحسن من صبغته يريد الدين أو التطهير . { وَنَحْنُ لَهُ عابدون } عطف على «آمنا بالله» وهذا العطف يدل على أن قوله : «صبغة الله» داخل في مفعول «قولوا آمنا» أي قولوا هذا وهذا «ونحن له عابدون» ويردّ قول من زعم أن صبغة الله بدل من «ملة إبراهيم» أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه . وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه والقول ما قالت حذام .
{ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللَّهِ } أي أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا وترونكم أحق بالنبوة منا { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } نشرك جميعاً في أننا عباده وهو ربنا وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده { وَلَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم } يعني أن العمل هو أساس الأمر وكما أن لكم أعمالاً فلنا كذلك { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } أي نحن له موحدون نخصه بالإيمان وأنتم به مشركون ، والمخلص أحرى بالكرامة وأولى بالنبوة من غيره . { أَمْ تَقُولُونَ } بالتاء شامي وكوفي غير أبي بكر . و«أم» على هذا معادلة للهمزة في «أتحاجوننا» يعني أي الأمرين تأتون : المحاجة في حكم الله أم إدعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء؟ أو منقطعة أي بل أتقولون . «يقولون» : غيرهم بالياء ، وعلى هذا لا تكون الهمزة إلا منقطعة . { إِنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نصارى } ثم أمر نبيه عليه السلام أن يقول مستفهماً راداً عليهم بقوله : { قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله } يعني أن الله شهد لهم بملة الإسلام في قوله : { مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن حَنِيفًا مُّسْلِمًا } [ آل عمران : 67 ] . { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شهادة عِندَهُ مِنَ الله } أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها وهي شهادة الله لإبراهيم بالحنيفية . والمعنى أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها ، أو أنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها .(1/79)
وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد عليه السلام بالنبوة في كتبهم وسائر شهاداته . و«من» في قوله «من الله» مثلها في قولك «هذه شهادة مني لفلان» إذا شهدت له في أنها صفة لها . { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } من تكذيب الرسل وكتمان الشهادة . { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } كررت للتأكيد أو لأن المراد بالأول الأنبياء عليهم السلام وبالثاني أسلاف اليهود والنصارى .
{ سَيَقُولُ السفهاء مِنَ الناس } الخفاف الأحلام فأصل السفه الخفة ، وهم اليهود لكراهتهم التوجه إلى الكعبة وأنهم لا يرون النسخ ، أو المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء ، أو المشركون لقولهم «رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها والله ليرجعن إلى دينهم» . وفائدة الإخبار بقولهم قبل وقوعه توطين النفس إذ المفاجأة بالمكروه أشد ، وإعداد الجواب قبل الحاجة إليه أقطع للخصم فقبل الرمي يراش السهم . { مَا ولاهم } ما صرفهم { عَن قِبْلَتِهِمُ التى كَانُواْ عَلَيْهَا } يعنون بيت المقدس . والقبلة الجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة لأن المصلي يقابلها { قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب } أي بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها له { يَهْدِى مَن يَشَآءُ } من أهلها { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } طريق مستوٍ . أي يرشد من يشاء إلى قبلة الحق وهي الكعبة التي أمرنا بالتوجه إليها ، أو الأماكن كلها لله فيأمر بالتوجه إلى حيث شاء فتارة إلى الكعبة وطوراً إلى بيت المقدس لا اعتراض عليه لأنه المالك وحده . { وكذلك جعلناكم } ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم فالكاف للتشبيه و «ذا» جر بالكاف واللام للفرق بين الإشارة إلى القريب والإشارة إلى البعيد والكاف للخطاب لا محل لها من الإعراب . { أُمَّةً وَسَطًا } خياراً . وقيل : للخيار وسط لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية أي كما جعلت قبلتكم خير القبل جعلتكم خير الأمم ، أو عدولاً لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض . أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب جعلناكم أمة وسطاً بين الغلو والتقصير فإنكم لم تغلوا غلو النصارى حيث وصفوا المسيح بالألوهية ، ولم تقصروا تقصير اليهود حيث وصفوا مريم بالزنا وعيسى بأنه ولد الزنا { لّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ } غير منصرف لمكان ألف التأنيث { عَلَى الناس } صلة شهداء { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } عطف على «لتكونوا» . روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم فيؤتى بأمة محمد عليه السلام فيشهدون فتقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد عليه السلام فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم .(1/80)
والشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع في الأشياء المعروفة . ولما كان الشهيد كالرقيب جيء بكلمة الاستعلاء كقوله تعالى : { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } [ المائدة : 17 ] . وقيل : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار ، ويكون الرسول عليكم شهيداً يزكيكم ويعلم بعدالتكم . واستدل الشيخ أبو منصور رحمه الله بالآية على أن الإجماع حجة لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة ، والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله . وأخرت صلة الشهادة أولاً وقدمت آخراً لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم . { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا } أي وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة ، فالتي كنت عليها ليست بصفة للقبلة بل هي ثاني مفعولي جعل . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تأليفاً لليهود ثم حول إلى الكعبة . { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ } أي وما جعلنا القبلة التي تحب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة إلا امتحاناً للناس وابتلاء لنعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه يرجع فيرتد عن الإسلام عند تحويل القبلة . قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : معنى قوله «لنعلم» أي لنعلم كائناً أو موجوداً ما قد علمناه أنه يكون ويوجد ، فالله تعالى عالم في الأزل بكل ما أراد وجوده أنه يوجد في الوقت الذي شاء وجوده فيه ولا يوصف بأنه عالم في الأزل بأنه موجود كائن لأنه ليس بموجود في الأزل فكيف يعلمه موجوداً ، فإذا صار موجوداً يدخل تحت علمه الأزلي فيصير معلوماً له موجوداً كائناً ، والتغير على المعلوم لا على العلم . أو لنميز التابع من الناكص كما قال تعالى : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } [ الأنفال : 37 ] فوضع العلم موضع التمييز لأن العلم به يقع التمييز ، أو ليعلم رسول الله عليه الصلاة والسلام والمؤمنون ، وإنما أسند علمهم إلى ذاته لأنهم خواصه أو هو على ملاطفة الخطاب لمن لا يعلم كقولك لمن ينكر ذوب الذهب «فلنلقه في النار لنعلم أيذوب» . { وَإِن كَانَتْ } أي التحويلة أو الجعلة أو القبلة . و«إن» هي المخففة ، واللام في { لَكَبِيرَةً } أي ثقيلة شاقة وهي خبر «كان» واللام فارقة { إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } أي هداهم الله فحذف العائد أي إلا على الثابتين الصادقين في اتباع الرسول . { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } أي صلاتكم إلى بيت المقدس؛ سمى الصلاة إيماناً لأن وجوبها على أهل الإيمان وقبولها من أهل الإيمان وأداؤها في الجماعة دليل الإيمان . ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات قبل التحويل من إخواننا؟ فنزلت . ثم علل ذلك فقال { إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ } مهموز مشبع : حجازي وشامي وحفص . «رؤوف» غيرهم بوزن «فَعُل» وهما للمبالغة . { رَّحِيمٌ } لا يضيع أجورهم ، والرأفة أشد من الرحمة وجمع بينهما كما في الرحمن الرحيم .(1/81)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
{ قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء } تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة موافقة لإبراهيم ومخالفة لليهود ، ولأنها ادعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم . { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ } فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا إذا جعلته والياً له ، أو فلنجعلك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس . { قِبْلَةً تَرْضَاهَا } تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها وواقفت مشيئة الله وحكمته . { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } أي نحوه . و«شطر» نصب على الظرف أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أي في جهته وسمته لأن استقبال عين القبلة متعسر على النائي . وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين . روي أنه عليه السلام قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم وجه إلى الكعبة . { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ } من الأرض وأردتم الصلاة { فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق } أي التحويل إلى الكعبة هو الحق لأنه كان في بشارة أنبيائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يصلي إلى القبلتين . { مِن رَّبّهِمْ وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } بالياء مكي وأبو عمرو ونافع وعاصم ، وبالتاء غيرهم . فالأول وعيد للكافرين بالعقاب على الجحود والإباء ، والثاني وعد للمؤمنين بالثواب على القبول . والأداء .
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب } أراد ذوي العناد منهم { بِكُلِّ ءَايَةٍ } برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة إنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق . وجواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط .
{ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } حسم لأطماعهم إذ كانوا اضطربوا في ذلك قولوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم ووحدت القبلة ، وإن كان لهم قبلتان فلليهود قبلة وللنصارى قبلة لاتحادهم في البطلان . { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } يعني أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم كما لا ترجى موافقتهم لك ، فاليهود تستقبل بيت المقدس ، والنصارى مطلع الشمس . { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم } أي من بعد وضوح البرهان والإحاطة بأن القبلة هي الكعبة وأن دين الله هو الإسلام { إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين } لمن المرتكبين الظلم الفاحش . وفي ذلك لطف للسامعين وتهييج للثبات على الحق وتحذير لمن يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى .(1/82)
وقيل : الخطاب في الظاهر للنبي عليه السلام والمراد أمته ، ولزم الوقف على «الظالمين» إذ لو وصل لصار { الذين ءاتيناهم الكتاب } صفة للظالمين . وهو مبتدأ والخبر { يَعْرِفُونَهُ } أي محمداً عليه السلام أو القرآن أو تحويل القبلة . والأول أظهر لقوله { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } قال عبد الله بن سلام : أنا أعلم به مني بابني فقال له عمر : ولم؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي فأما ولدي فلعل والدته خانت فقبل عمر رأسه . { وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ } أي الذين لم يسلموا { لَيَكْتُمُونَ الحق } حسداً وعناداً { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } لأن الله تعالى بينه في كتابهم . { الحق } مبتدأ خبره { مِن رَبَِكَ } واللام للجنس أي الحق من الله لا من غيره . يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه ، وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل ، أو للعهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق ومن ربك خبر بعد خبر أو حال . { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } الشاكين في أنه من ربك .(1/83)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
{ وَلِكُلٍّ } من أهل الأديان المختلفة . { وِجْهَةٌ } قبلة . وقرىء بها . والضمير في { هُوَ } لكل . وفي { مُوَلِّيهَا } للوجهة . أي هو موليها وجهة فحذف أحد المفعولين أو هو لله تعالى . أي الله موليها إياه . «هو مولاها» : شامي أي هو مولى تلك الجهة قد وليها . والمعنى ولكل أمة قبلة يتوجه إليها منكم ومن غيركم . { فَاسْتَبِقُوا } أنتم { الخَيْرَاتِ } فاستبقوا إليها غيركم من أمر القبلة وغيره . { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ } أنتم وأعداؤكم { يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا } يوم القيامة فيفصل بين المحقق والمبطل ، أو ولكل منكم يا أمة محمد وجهة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية ، فاستقبلوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعاً ويجمعكم ويجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام . { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } ومن أي بلد خرجت للسفر { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } إذا صليت .
{ وَإِنَّهُ } وإن هذا المأمور به { لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } وبالياء : أبو عمرو .
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة فكرر عليهم ليثبتوا على أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر فاختلفت فوائدها { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي قد عرّفكم الله جل ذكره أمر الاحتجاج في القبلة بما قد بين في قوله : { ولكل وجهة هو موليها } لئلا يكون للناس لليهود عليكم حجة في خلاف ما في التوراة من تحويل القبلة . وأطلق اسم الحجة على قول المعاندين لأنهم يسوقونه سياق الحجة . { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } استثناء من «الناس» أي لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا المعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء عليهم السلام . أو معناه لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبي العرب إلا الذين ظلموا منهم وهم أهل مكة حين يقولون بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ، ويوشك أن يرجع إلى دينهم . ثم استأنف منبهاً بقوله : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم { واخشونى } فلا تخالفوا أمري { وَلأُِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ } أي عرفتكم لئلا يكون عليكم حجة ولأتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى الكعبة . { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ولكي تهتدوا إلى قبلة إبراهيم .
الكاف في { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ } إما أن يتعلق بما قبله أي ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول ، أو بما بعده أي كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب ، فعلى هذا يوقف على «تهتدون» وعلى الأول لا . { رَسُولاً مِّنْكُمْ } من العرب { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ } يقرأ عليكم { ءاياتنا } القرآن { وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب } القرآن { والحكمة } السنة والفقه { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } ما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي .(1/84)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
«فاذكروني» بالمعذرة { أَذْكُرْكُمْ } بالمغفرة أو بالثناء والعطاء ، أو بالسؤال والنوال ، أو بالتوبة وعفو الحوبة ، أو بالإخلاص والخلاص ، أو بالمناجاة والنجاة . { واشكروا لِي } ما أنعمت به عليكم { وَلاَ تَكْفُرُونِ } ولا تجحدوا نعمائي .
{ يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ استعينوا بالصبر } فبه تنال كل فضيلة { والصلاة } فإنها تنهى عن كل رذيلة { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } بالنصر والمعونة { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله } نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً . { أَمْوَاتٌ } أي هم أمواتٍ { بَلْ أَحْيَاء } أي هم أحياء { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } لا تعلمون ذلك لأن حياة الشهيد لا تعلم حساً . عن الحسن رضي الله عنه أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدواً وعشياً فيصل إليهم الوجع . وعن مجاهد : يرزقون ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها . { وَلَنَبْلُوَنَّكُم } ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون على ما أنتم عليه من الطاعة أم لا . { بِشَىْءٍ } بقليل من كل واحدة من هذه البلايا وطرف منه . وقلل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليهم ، ويريهم أن رحمته معهم في كل حال ، وأعلمهم بوقوع البلوى قبل وقوعها ليوطنوا نفوسهم عليها . { مِّنَ الخوف } خوف الله والعدو { والجوع } أي القحط أو صوم شهر رمضان { وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال } بموت المواشي أو الزكاة ، وهو عطف على شيء ، أو على الخوف أي وشيء من نقص الأموال . { والأنفس } بالقتل والموت . أو بالمرض والشيب { والثمرات } ثمرات الحرث أو موت الأولاد لأن الولد ثمرة الفؤاد { وَبَشِّرِ الصابرين } على هذه البلايا أو المسترجعين عند البلايا لأن الاسترجاع تسليم وإذعان وفي الحديث من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه . وطفىء سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إنا لله وإنا إليه راجعون " فقيل : أمصيبة هي؟ قال . " نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو مصيبة " . والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه البشارة . { الذين } نصب صفة للصابرين . ولا وقف عليه بل يوقف على «راجعون» . ومن ابتدأ ب «الذين» وجعل الخبر «أولئك» يقف على «الصابرين» لا على «راجعون» . والأول الوجه لأن الذين وما بعده بيان للصابرين . { إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ } مكروه . اسم فاعل من أصابته شدة أي لحقته . ولا وقف على «مصيبة» لأن { قَالُواْ } جواب «إذا» و«إذا» وجوابها صلة «الذين» . { إِنَّا لِلَّهِ } إقرار له بالملك . { وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون } إقرار على نفوسنا بالهلك . { أولئك عَلَيْهِمْ صلوات مّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } الصلاة : الحنو والتعطف فوضعت موضع الرأفة ، وجمع بينها وبين الرحمة كقوله { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } [ الحديد : 27 ] { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 117 ] . والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة بعد رحمة . { وأولئك هُمُ المهتدون } لطريق الصواب حيث استرجعوا وأذعنوا لأمر الله . قال عمر رضي الله عنه : نعم العدلان ونعم العلاوة أي الصلاة والرحمة والاهتداء .(1/85)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
{ إِنَّ الصفا والمروة } هما علمان للجبلين . { مِن شَعَائِرِ الله } من أعلام مناسكه ومتعبداته جمع شعيرة وهي العلامة { فَمَنْ حَجَّ البيت } قصد الكعبة { أَوِ اعتمر } زار الكعبة ، فالحج : القصد ، والاعتمار : الزيارة ، ثم غلبا على قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان . { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ } فلا إثم عليه { أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ، أي يتطوف فأدغم التاء في الطاء . وأصل الطوف المشي حول الشيء والمراد هنا السعي بينهما . قيل : كان على الصفا «إساف» وعلى المروة «نائلة» وهما صنمان يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة عبدا من دون الله . وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية فرفع عنهم الجناح بقوله «فلا جناح» . وهو دليل على أنه ليس بركن كما قال مالك والشافعي رحمهما الله تعالى . وكذا قوله { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } أي بالطواف بهما مشعر بأنه ليس بركن . «ومن يطوع» : حمزة وعلي أي يتطوع فأدغم التاء في الطاء { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ } مجاز على القليل كثيراً { عَلِيمٌ } بالأشياء صغيراً أو كبيراً . { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ } من أحبار اليهود { مَا أَنَزَلْنَا } في التوراة { مِنَ البينات } من الآيات الشاهدة على أمر محمد عليه السلام { والهدى } الهداية إلى الإسلام بوصفه عليه السلام { مِن بَعْدِ مَا بيناه } أوضحناه { لِلنَّاسِ فِي الكتاب } في التوراة لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين فكتموه { أولئك يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون } الذين يتأتى منهم اللعن وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين { إِلاَّ الذين تَابُواْ } عن الكتمان وترك الإيمان { وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم { وَبَيَّنُواْ } وأظهروا ما كتموا { فأولئك أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أقبل توبتهم { وَأَنَا التواب الرحيم * إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } يعني الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا { أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً . والمراد بالناس المؤمنون أو المؤمنون والكافرون إذ بعضهم يلعن بعضاً يوم القيامة قال الله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] . { خالدين } حال من هم في «عليهم» { فِيهَا } في اللعنة أو في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } من الإنظار أي لا يمهلون أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظر إليهم نظر رحمة { وإلهكم إله واحد } فرد في ألوهيته لا شريك له فيها ولا يصح أن يسمى غير إلها { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } تقرير للوحدانية ينفي غيره وإثباته .(1/86)
وموضع «هو» رفع لأنه بدل من موضع «لا إله» ولا يجوز النصب هنا لأن البدل يدل على أن الاعتماد على الثاني ، والمعنى في الآية على ذلك والنصب يدل على أن الاعتماد على الأول . ورفع «الرحمن الرّحيم» أي المولى لجميع النعم أصولها وفروعها ولا شيء سواه بهذه الصفة فما سواه إما نعمة وإما منعم عليه على أنه خبر مبتدأ ، أو على البدل من «هو» لا على الوصف لأن المضمر لا يوصف . ولما عجب المشركون من إله واحد وطلبوا آية على ذلك نزل { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } في اللون والطول والقصر وتعاقبهما في الذهاب والمجيء { والفلك التى تَجْرِى فِى البحر بِمَا يَنفَعُ الناس } بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو بنفع الناس و«من» في { وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء } لابتداء الغاية وفي { مِن مَّاءٍ } مطر لبيان الجنس لأن ما ينزل من السماء مطر وغيره . ثم عطف على «أنزل» { فَأَحْيَا بِهِ } بالماء { الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } يبسها ثم عطف على «فأحيا» { وَبَثَّ } وفرق { فِيهَا } في الأرض { مِن كُلِّ دَابَّةٍ } هي كل ما يدب { وَتَصْرِيفِ الرياح } «الريح» : حمزة وعلي . أي وتقليبها في مهابها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً ، وفي أحوالها حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقماً ولواقح . وقيل : تارة بالرحمة وطوراً بالعذاب . { والسحاب المسخر } المذلل المنقاد لمشيئة الله تعالى فيمطر حيث شاء { بَيْنَ السماء والأرض } في الهواء { لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون فيستدلون بهذه الأشياء على قدرة موجدها وحكمة مبدعها ووحدانية منشئها . وفي الحديث ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها .(1/87)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
ومن النّاس أي ومع هذا البرهان النير من الناس { من يتّخذ من دون اللّه أنداداً } أمثالاً من الأصنام { يُحِبُّونَهُمْ } يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب { كَحُبّ الله } كتعظيم الله والخضوع له أي يحبون الأصنام كما يحبون الله يعني يسوون بينهم وبينه في محبتهم لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه . وقيل : يحبونهم كحب المؤمنين الله { والذين ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ } من المشركين لآلهتهم لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره بحال ، والمشركون يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد فيفزعون إليه ويخضعون { وَلَوْ يَرَى } «ترى» : نافع وشامي على خطاب الرسول أو كل مخاطب ، أي ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً { الذين ظَلَمُواْ } إشارة إلى متخذي الأنداد { إِذْ يَرَوْنَ } «يرون» : شامي { العذاب أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا } حال { وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب } شديد عذابه أي ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله تعالى على كل شيء من الثواب والعقاب دون أندادهم ، ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ، فحذف الجواب لأن «لو» إذا جاء فيما يشوق إليه أو يخوف منه قلما يوصل بجواب ليذهب القلب فيه كل مذهب . و «لو» يليها الماضي . وكذا «إذا» وضعها لتدل على الماضي ، وإنما دخلتا على المستقبل هنا لأن إخبار الله تعالى عن المستقبل باعتبار صدقه كالماضي { إِذْ تَبَرَّأَ } مدغمة الذال في التاء حيث وقعت : عراقي غير عاصم . وهو بدل من «إذ يرون العذاب» . { الذين اتبعوا } أي المتبعون وهم الرؤساء { مِنَ الذين اتبعوا } من الأتباع { وَرَأَوُاْ العذاب } الواو فيه للحال أي تبرأوا في حال رؤيتهم العذاب { وَتَقَطَّعَتْ } عطف على «تبرأ» { بِهِمُ الأسباب } الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد ومن الأنساب والمحاب .
{ وَقَالَ الذين اتبعوا } أي الاتباع { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } رجعة إلى الدنيا { فَنَتَبَرَّأَ } نصب على جواب التمني لأن لو في معنى التمني والمعنى ليت لنا كرة فنتبرأ { مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا } الآن { كذلك } مثل ذلك الإراء الفظيع { يُرِيهِمُ الله أعمالهم } أي عبادتهم الأوثان { حسرات عَلَيْهِمْ } ندامات . وهي مفعول ثالث ل «يريهم» ومعناه أن أعمالهم تنقلب عليهم حسرات فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم . { وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار } بل هم فيها دائمون . ونزل فيمن حرموا على أنفسهم البحائر ونحوها . { يأَيُّهَا الناس كُلُواْ } أمر إباحة { مِمَّا فِى الأرض } «من» للتبعيض لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول { حلالا } مفعول «كلوا» أو حال مما في الأرض { طَيِّباً } طاهراً من كل شبهة { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } طرقه التي يدعوكم إليها بسكون الطاء : أبو عمر غير عباس ونافع وحمزة وأبو بكر .(1/88)
والخطوة في الأصل ما بين قدمي الخاطي . يقال اتبع خطواته إذا اقتدى به واستن بسنته . { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة لاخفاءه به . وأبان متعدٍ ولازم . ولا يناقض هذه الآية قوله تعالى : { والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت } [ البقرة : 257 ] أي الشيطان لأنه عدو للناس حقيقة ووليهم ظاهراً فإنه يريهم في الظاهر الموالاة ويزين لهم أعمالهم ويريد بذلك هلاكهم في الباطن . { إِنَّمَا يَأْمُرُكُم } بيان لوجوب الانتهاء عن اتباعه وظهور عداوته أي لا يأمركم بخير قط إنما يأمركم { بالسوء } بالقبيح { والفحشاء } وما يتجاوز الحد في القبح من العظائم . وقيل : السوء ما لاحد فيه والفحشاء ما فيه حد { وَأَن تَقُولُواْ } في موضع الجر بالعطف على «بالسوء» أي وبأن تقولوا { عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } هو قولكم هذا حلال وهذا حرام بغير علم ، ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله تعالى مما لا يجوز عليه .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله } الضمير للناس . وعدل بالخطاب عنهم على طريق الالتفاف . قيل : هم المشركون . وقيل : طائفة من اليهود لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان واتباع القرآن ، { قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا } وجدنا { عَلَيْهِ ءابَاءَنَا } فإنهم كانوا خيراً منا وأعلم فرد الله عليهم بقوله { أَوَلَوْ كَانَ آباؤُهُمْ } الواو للحال والهمزة بمعنى الرد والتعجب معناه أيتبعونهم ولو كان آباؤهم { لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا } من الذين { وَلاَ يَهْتَدُونَ } للصواب . ثم ضرب لهم مثلاً فقال { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ } المضاف محذوف أي ومثل داعي الذين كفروا { كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ } يصيح والمراد { بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً } البهائم . والمعنى مثل داعيهم إلى الإيمان في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوي الصوت من غير إلقاء أذهان ولا استبصار كمثل الناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها وزجر لها ولا تفقه شيئاً آخر كما يفهم العقلاء . والنعقيق : التصويت ، يقال نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن والنداء ما يسمع والدعاء قد يسمع وقد لا يسمع . { صُمٌّ } خبر مبتدأ مضمر أي هم صم { بِكُمٌ } خبر ثانٍ { عُمْىٌ } عن الحق خبر ثالث { فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } الموعظة ، ثم بين أن ما حرمه المشركون حلال فقال :
{ يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم } من مستلذاته أو من حلالاته { واشكروا لِلَّهِ } الذي رزقكموها { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه معطي النعم . ثم بين المحرم فقال { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة } وهي كل ما فارقه الروح من غير ذكاة مما يذبح وإنما لإثبات المذكور ونفي ما عداه ، أي ما حرم عليكم إلا الميتة { والدم } يعني السائل لقوله في موضع آخر :(1/89)
{ أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } [ الأنعام : 145 ] . قد حلت الميتتان والدمان بالحديث " أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد والكبد والطحال " { وَلَحْمَ الخنزير } يعني الخنزير بجميع أجزائه ، وخص اللحم لأنه المقصود بالأكل . { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } أي ذبح للأصنام فذكر عليه غير اسم الله ، وأصل الإهلال رفع الصوت أي رفع به الصوت للصنم ، وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى . { فَمَنِ اضطر } أي ألجىء بكسر النون : بصري وحمزة وعاصم لالتقاء الساكنين أعني النون والضاد وبضمها غيرهم لضمة الطاء . { غَيْرَ } حال أي أكل غير { بَاغٍ } للذة وشهوة { وَلاَ عَادٍ } متعد مقدار الحاجة . وقول من قال غير باغ على الإمام ولا عادٍ في سفر حرام ضعيف لأن سفر الطاعة لا يبيح بلا ضرورة ، والحبس بالحضر يبيح بلا سفر ، ولأن بغيه لا يخرج عن الإيمان فلا يستحق الحرمان . والمضطر يباح له قدر ما يقع به القوام وتبقى معه الحياة دون ما فيه حصول الشبع ، لأن الإباحة للاضطرار فتقدر بقدر ما تندفع الضرورة { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } في الأكل { أَنَّ الله غَفُورٌ } للذنوب الكبائر فأنى يؤاخذ بتناول الميتة عند الاضطرار { رَّحِيمٌ } حيث رخص .
ونزل في رؤساء اليهود وتغييرهم نعت النبي عليه السلام وأخذهم على ذلك الرشا { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب } في صفة محمد عليه السلام { وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا } أي عوضاً أو ذا ثمن { أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ } ملء بطونهم تقول : أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه { إِلاَّ النار } لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار . ومنه قولهم «أكل فلان الدم» إذا أكل الدية التي هي بدل منه قال :
يأكلن كل ليلة إكافاً
أي ثمن إكاف فسماه إكافاً لتلبسه به بكونه ثمناً له . { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة } كلاماً يسرهم ولكن بنحو قوله : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] . { وَلاَ يُزَكّيهِمْ } ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم أو لا يثني عليهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم فحرف النفي مع الفعل خبر «أولئك» و«أولئك» مع خبره خبر «إن» والجمل الثلاث معطوفة على خبر «إن» فقد صار ل «إن» أربعة أخبار من الجمل . { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة } بكتمان نعت محمد عليه السلام { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } فأي شيء أصبرهم على عمل يؤدي إلى النار؟ وهذا استفهام معناه التوبيخ . { ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق } أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل ما نزل من الكتب بالحق . { وَإِنَّ الذين اختلفوا } أي أهل الكتاب { فِى الكتاب } هو للجنس أي في كتب الله فقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل { لَفِى شِقَاقٍ } خلاف { بَعِيدٍ } عن الحق أو كفرهم ذلك بسبب أن الله نزل القرآن بالحق كما يعلمون ، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شقاق بعيد عن الهدى .(1/90)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
{ لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ } أي ليس البر توليتكم { وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب } والخطاب لأهل الكتاب لأن قبلة النصارى مشرق بيت المقدس ، وقبلة اليهود مغربه ، وكل واحد من الفريقين يزعم أن البر التوجه إلى قبلته ، فرد عليهم بأن البر ليس فيما أنتم عليه فإنه منسوخ { ولكن البر } بر { مَنْ ءَامَنَ بالله } أو ذا البر من آمن والقولان على حذف المضاف والأول أجود . والبر اسم للخير ولكل فعل مرضي . وقيل : كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فقيل : ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة ، ولكن البر الذي يجب الاهتمام به بر من آمن وقام بهذه الأعمال . «ليس البر» بالنصب على أنه خبر «ليس» واسمه «أن تولوا» : حمزة وحفص . «ولكن البر» : نافع وشامي . وعن المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت «ولكن البر» وقرىء «ولكن البار» . { واليوم الآخر } أي يوم البعث { والملائكة والكتاب } أي جنس كتب الله أو القرآن { والنبيين وَءَاتَى المال على حُبِّهِ } أي على حب الله أو حب المال أو حب الإيتاء يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه { ذَوِى القربى } أي القرابة وقدمهم لأنهم أحق . قال عليه الصلاة والسلام : " صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذوي رحمك صدقة وصلة " . { واليتامى } والمراد الفقراء من ذوي القربى واليتامى ، وإنما أطلق لعدم الإلباس . { والمساكين } المسكين الدائم السكون إلى الناس لأنه لا شيء له كالسكير للدائم السكر { وابن السبيل } المسافر المنقطع وهو جنس وإن كان مفرداً لفظاً ، وجعل ابناً للسبيل لملازمته له أو الضيف { والسائلين } المستطعمين { وَفِي الرقاب } وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم أو في الأسارى { وَأَقَامَ الصلاة } المكتوبة { وَءَاتَى الزكواة } المفروضة . قيل : هو تأكيد للأول . وقيل : المراد بالأول نوافل الصدقات والمبار . { والموفون } عطف على من آمن { بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا } الله والناس { والصابرين } نصب على المدح والاختصاص إظهاراً لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال . { فِى البأساء } الفقر والشدة { والضراء } المرض والزمانة { وَحِينَ البأس } وقت القتال { أولئك الذين صَدَقُوا } أي أهل هذه الصفة هم الذين صدقوا في الدين { وأولئك هُمُ المتقون } . روي أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى والاثنين بالواحد فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء الله بالإسلام فنزل . { يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ كُتِبَ } أي فرض { عَلَيْكُمُ القصاص } وهو عبارة عن المساواة وأصله من قص أثره واقتصه إذا اتبعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار { فِي القتلى } جمع قتيل .(1/91)
والمعنى فرض عليكم اعتبار المماثلة والمساواة بين القتلى { الحر بِالْحُرِّ } مبتدأ وخبر أي الحر مأخوذ أو مقتول بالحر { والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } وقال الشافعي رحمه الله : لا يقتل الحر بالعبد لهذا النص وعندنا يجزي القصاص بين الحر والعبد بقوله تعالى : { أَنَّ النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] . كما بين الذكر والأنثى وبقوله عليه السلام " المسلمون تتكافأ دماؤهم " وبأن التفاضل غير معتبر في الأنفس بدليل أن جماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به ، وبأن تخصيص الحكم بنوع لا ينفيه عن نوع آخر بل يبقى الحكم فيه موقوفاً على ورود دليل آخر وقد ورد كما بينا . { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بإحسان } قالوا : العفو ضد العقوبة . يقال : عفوت عن فلان إذا صفحت عنه وأعرضت عن أن تعاقبه وهو يتعدى ب «عن» إلى الجاني وإلى الجناية { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ } ( البقرة؛ 52 ) { وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات } [ الشورى : 25 ] وإذا اجتمعا عدي إلى الأول باللام فتقول " عفوت له عن ذنبه " ومنه الحديث عفوت لكم عن صدقه الخيل والرقيق وقال الزجاج : من عفي له أي من ترك له القتل بالدية . وقال الأزهري : العفو في اللغة الفضل ومنه : { يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ * العفو } [ البقرة : 219 ] . ويقال : عفوت لفلان بمال إذا أفضلت له وأعطيته ، وعفوت له عما لي عليه إذا تركته . ومعنى الآية عند الجمهور : فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو على أن الفعل مسند إلى المصدر كما في سير بزيد بعض السير والأخ ولي المقتول . وذكر بلفظ الأخوّة بعثاً له على العطف لما بينهما من الجنسية والإسلام ، ومن هو القاتل المعفو له عما جنى وترك المفعول الآخر استغناء عنه . وقيل : أقيم «له» مقام «عنه» والضمير في «له» و«أخيه» ل من ، وفي «إليه» للأخ أو للمتبع الدال عليه فاتباع لأن المعنى فليتبع الطالب القاتل بالمعروف بأن يطالبه مطالبة جميلة ، وليؤد إليه المطلوب أي القاتل بدل الدم أداء بإحسان بأن لا يمطله ولا يبخسه . وإنما قيل شيء من العفو ليعلم أنه إذا عفا عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص . ومن فسر «عُفى» بترك جعل «شيء» مفعولاً به ، وكذا من فسره ب «أعطى» يعني أن الولي إذا أعطى له شيء من مال أخيه يعني القاتل بطريق الصلح فليأخذه بمعروف من غير تعنيف ، وليؤده القاتل إليه بلا تسويف . وارتفاع اتباع بأنه خبر مبتدأ مضمر أي فالواجب «اتباع» { ذلك } الحكم المذكور من العفو وأخذ الدية { تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } فإنه كان في التوراة القتل لا غير ، وفي الإنجيل العفو بغير بدل لا غير ، وأبيح لنا القصاص والعفو وأخذ المال بطريق الصلح توسعة وتيسيراً .(1/92)
والآية تدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن للوصف بالإيمان بعد وجود القتل ولبقاء الأخوّة الثابتة بالإيمان ولاستحقاق التخفيف والرحمة { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك } التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل أو القتل بعد أخذ الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة { وَلَكُمْ فِي القصاص حياة } كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، إذ القصاص قتل وتفويت للحياة وقد جعل ظرفاً للحياة . وفي تعريف القصاص وتنكير الحياة بلاغة بينة لأن المعنى ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة لمنعه عما كانوا عليه من قتل الجماعة بواحد متى اقتدروا فكان القصاص حياة وأي حياة . أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالقصاص من القاتل ، لأنه إذا هم بالقتل فتذكر الاقتصاص ارتدع فسلم صاحبه من القتل وهو من القود فكان شرع القصاص سبب حياة نفسين . { يأُوْلِي الألباب } يا ذوي العقول { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } القتل حذراً من القصاص .
{ كتاب } فرض { عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } أي إذا دنا منه فظهرت أمارته { إِن تَرَكَ خَيْرًا } مالاً كثيراً لما روي عن علي رضي الله عنه إن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه وقال : قال الله تعالى : «إن ترك خيراً» . والخير هو المال الكثير وليس لك مال وفاعل كتب { الوصية للوالدين والأقربين } وكانت الوصية للوارث في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث كما بيناه في شرح المنار . وقيل : هي غير منسوخة لأنها نزلت في حق من ليس بوارث بسبب الكفر لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقرائبه ، والإسلام قطع الإرث فشرعت الوصية فيما بينهم قضاء لحق القرابة ندباً وعلى هذا لا يراد بكتب فرض { بالمعروف } بالعدل وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير ولا يتجاوز الثلث { حَقّاً } مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً { عَلَى المتقين } على الذين يتقون الشرك { فَمَن بَدَّلَهُ } فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود { بَعْدَ مَا * سَمِعَهُ } أي الإيصاء { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدّلُونَهُ } فما إثم التبديل إلا على مبدليه دون غيرهم من الموصي والموصى له لأنهما بريئان من الحيف { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لقول الموصي { عَلِيمٌ } بجور المبدل { فَمَنْ خَافَ } علم وهذا شائع في كلامهم يقولون أخاف أن ترسل السماء ويريدون الظن الغالب الجاري مجرى العلم { مِن مُّوصٍ } «موصّ» : كوفي غير حفص . { جَنَفًا } ميلاً عن الحق بالخطإ في الوصية { أَوْ إِثْماً } تعمداً للحيف { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } بين الموصى لهم وهم الوالدان والأقربون بإجرائهم على طريق الشرع { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } حينئذ لأن تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدل بالباطل ، ثم من يبدل بالحق ليعلم أن كل تبديل لا يؤثم .(1/93)
وقيل : هذا في حال حياة الموصي أي فمن حضر وصيته فرآه على خلاف الشرع فنهاه عن ذلك وحمله على الصلاح فلا إثم على هذا الموصي بما قال أولاً { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ } أي فرض { عَلَيْكُمُ الصيام } هو مصدر صام والمراد صيام شهر رمضان { كَمَا كُتِبَ } أي كتابة مثل ما كتب فهو صفة مصدر محذوف { عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } على الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدكم فهو عبادة قديمة ، والتشبيه باعتبار أن كل أحد له صوم أيام أي أنتم متعبدون بالصيام في أيام كما تعبد من كان قبلكم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } المعاصي بالصيام لأن الصيام أظلف لنفسه وأردع لها من مواقعة السوء ، أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين إذ الصوم شعارهم .
وانتصاب { أَيَّامًا } بالصيام أي كتب عليكم أن تصوموا أياماً { معدودات } موقتات بعدد معلوم أي قلائل وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد لا الكثير { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } يخاف من الصوم زيادة المرض { أَوْ على سَفَرٍ } أو راكب سفر { فَعِدَّةٌ } فعليه عدة أي فأفطر فعليه صيام عدد أيام فطره ، والعدة بمعنى المعدود أي أمر أن يصوم أياماً معدودة مكانها { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } سوى أيام مرضه وسفره . وأخر لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام لأن الأصل في «فعلى» صفة أن تستعمل في الجمع بالألف واللام كالكبرى والكبر والصغرى والصغر { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر لهم إن أفطروا { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } نصف صاع من بر أو صاع من غيره ، ف «طعام» بدل من «فدية» . «فدية طعام مساكين» . مدني وابن ذكوان . وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية ، ثم نسخ التخيير بقوله : «فمن شهد منكم الشهر فليصمه» . ولهذا كرر قوله : «فمن كان منكم مريضاً أو على سفر» . لأنه لما كان مذكوراً مع المنسوخ ذكر مع الناسخ ليدل على بقاء هذا الحكم . وقيل : معناه لا يطيقونه فأضمر «لا» لقراءة حفصة كذلك وعلى هذا لا يكون منسوخاً . { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } فزاد على مقدار الفدية { فهو خيرٌ لّه } فالتطوع أو الخير خير له يطوع بمعنى يتطوع : حمزة وعلي { وَأَن تَصُومُواْ } أيها المطيقون { خَيْرٌ لَّكُمْ } من الفدية وتطوع الخير وهذا في الابتداء . وقيل : وأن تصوموا في السفر والمرض خير لكم لأنه أشق عليكم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } شرط محذوف الجواب .(1/94)
{ شَهْرُ رَمَضَانَ } مبتدأ خبره { الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } أي ابتدىء فيه إنزاله وكان في ليلة القدر أو أنزل في شأنه القرآن وهو قوله تعالى : «كتب عليكم الصيام» وهو بدل من الصيام أو خبر مبتدأ محذوف أي هو شهر . والرمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء فأضيف إليه الشهر وجعل علماً ، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون ، وسموه بذلك لارتماضهم فيه من حر الجوع ومقاساة شدته ، ولأنهم سموا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر . فإن قلت : ما وجه ما جاء في الحديث «من صام رمضان إيماناً واحتساباً» مع أن التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعاً؟ قلت : هو من باب الحذف لأمن الإلباس . «القران» حيث كان غير مهموز : مكي . وانتصب { هُدًى لّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى والفرقان } على الحال أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل ، ذكر أولاً أنه هدى ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله وفرق بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال . { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فمن كان شاهداً أي حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر فليصم فيه ولا يفطر . و«الشهر» منصوب على الظرف وكذا الهاء في «ليصمه» ولا يكون مفعولاً به لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } «فعدة» مبتدأ والخبر محذوف أي فعليه عدة أي صوم عدة { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } حيث أباح الفطر بالسفر والمرض { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } ومن فرض الفطر على المريض والمسافر حتى لو صاما تجب عليهما الإعادة فقد عدل عن موجب هذا { وَلِتُكْمِلُواْ العدة } عدة ما أفطرتم بالقضاء إذا زال المرض والسفر ، والفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره لتعلموا ولتكملوا العدة { وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } شرع ذلك يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر . فقوله : « لتكملوا» علة الأمر بمراعاة العدة و«لتكبروا» علة ما علم من كيفية القضاء والخروج من عهدة الفطر «ولعلكم تشكرون» علة الترخيص وهذا نوع من اللف اللطيف المسلك . وعدي التكبير ب «على» لتضمنه معنى الحمد كأنه قيل : لتكبروا الله أي لتعظموه حامدين على ما هداكم إليه . و«لتكمّلوا» بالتشديد : أبو بكر . ولما قال إعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ نزل { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } علماً وإجابة لتعاليه عن القرب مكاناً { أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ } «الداعي» «دعاني» في الحالين : سهل ويعقوب ، ووافقهما أبو عمرو ونافع غير قالون في الوصل .(1/95)
غيرهم بغير ياء في الحالين . ثم إجابة الدعاء وعد صدق من الله لا خلف فيه ، غير أن إجابة الدعوة تخالف قضاء الحاجة فإجابة الدعوة أن يقول العبد يا رب فيقول الله لبيك عبدي ، وهذا أمر موعود موجود لكل مؤمن وقضاء الحاجة إعطاء المراد وذا قد يكون ناجزاً وقد يكون بعد مدة وقد يكون في الآخرة وقد تكون الخيرة له في غيره { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى } إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم { وَلْيُؤْمِنُواْ بِى } واللام فيهما للأمر { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد وهو ضد الغي . كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد ، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة . ثم إن عمر رضي الله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة ، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي عليه السلام وأخبره بما فعل فقال عليه السلام ما كنت جديراً بذلك فنزل { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث } إي الجماع { إلى نِسَائِكُمْ } عدى ب «إلى» لتضمنه معنى الإفضاء وإنما كنى عنه بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ولم يقل الإفضاء إلى نسائكم استقباحاً لما وجد منهم قبل الإباحة كما سماه اختياناً لأنفسهم ، ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه شبه باللباس المشتمل عليه بقوله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } وقيل : لباس أي ستر عن الحرام ، و«هن لباس لكم» استئناف كالبيان لسبب الإحلال وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن فلذا رخص لكم في مباشرتهن { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } تظلمونها بالجماع وتنقصونها حظها من الخير . والاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور { وَعَفَا عَنكُمْ } ما فعلتم قبل الرخصة { فالئان باشروهن } جامعوهن في ليالي الصوم وهو أمر إباحة وسميت المجامعة مباشرة لالتصاق بشرتيهما { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } واطلبوا ما قسم الله لكم وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل ، أو وابتغوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض } هو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود { مِنَ الخيط الأسود } وهو ما يمتد من سواد الليل شبهاً بخيطين أبيض وأسود لامتدادهما { مِنَ الفجر } بيان أن الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره ، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للآخر ، أو «من» للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوله .(1/96)
وقوله «من الفجر» أخرجه من باب الاستعارة وصيره تشبيهاً بليغاً كما أن قولك «رأيت أسداً» مجاز فإذا زدت «من فلان» رجع تشبيهاً . وعن عدي ابن حاتم قال : عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فنظرت إليهما فلم يتبين لي الأبيض من الأسود ، فأخبرت النبي عليه السلام بذلك فقال : إنك لعريض القفا أي سليم القلب لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته ، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل . وفي قوله { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل } أي الكف عن هذه الأشياء دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان ، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر ، وعلى نفي الوصال ، وعلى وجوب الكفارة في الأكل والشرب ، وعلى أن الجنابة لا تنافي الصوم { وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد } معتكفون فيها ، بيّن أن الجماع يحل في ليالي رمضان لكن لغير المعتكف . والجملة في موضع الحال ، وفيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد وأنه لا يختص به مسجد دون مسجد { تِلْكَ } الأحكام التي ذكرت { حُدُودُ الله } أحكامه المحدودة { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } بالمخالفة والتغيير { كذلك يُبَيّنُ الله آيَاتِهِ } شرائعه { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } المحارم .
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم } أي لا يأكل بعضكم مال بعض { بالباطل } بالوجه الذي لم يبحه الله ولم يشرعه { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام } ولا تدلوا بها فهو مجزوم داخل في حكم النهي يعني ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام { لِتَأْكُلُواْ } بالتحاكم { فَرِيقاً } طائفة { مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم } بشهادة الزور أو بالأيمان الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم . وقال عليه السلام للخصمين " إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذون منه شيئاً فإن ما أقضى له قطعة من نار " فبكيا وقال كل واحد منهما حقي لصاحبي . وقيل : وتدلوا بها وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة . يقال أدلى دلوه أي ألقاه في البئر للاستقاء . { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنكم على الباطل وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق .(1/97)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
قال معاذ بن جبل : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة كالشمس؟ فنزل { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة } جمع هلال سمي به لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته { قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } أي معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم وأيام حيضهن ومدة حملهن وغير ذلك ، ومعالم للحج يعرف بها وقته . كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب ، فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فنزل { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا } أي ليس البر بتحرجكم من دخول الباب ، ولا خلاف في رفع البر هنا لأن الآية ثمة تحتمل الوجهين كما بينا فجاز الرفع والنصب ثمة ، وهذه لا تحتمل إلا وجهاً واحداً وهو الرفع إذ الباء لا تدخل إلا على خبر «ليس» { ولكن البر } بر { مَنِ اتقى } ما حرم الله . «البيوت» وبابه مدني وبصري وحفص وهو الأصل مثل كعب وكعوب ، ومن كسر الباء فلمكان الياء بعدها ولكن هي توجب الخروج من كسر إلى ضم وكأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها . معلوم أن كل ما يفعله الله تعالى لا يكون إلا حكمة فدعوا السؤال عنه وانظروا في خصلة واحدة تفعلونها مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها براً ، فهذا وجه اتصاله بما قبله . ويحتمل أن يكون ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت الحج لأنه كان من أفعالهم في الحج ، ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم وإن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخل من ظهره ، والمعنى ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله .
{ وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها } وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا ، أو المراد وجوب الاعتقاد بأن جميع أفعاله تعالى حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الاتهام بمقارنة الشك { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] { واتقوا الله } فيم أمركم به ونهاكم عنه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لتفوزوا بالنعيم السرمدي .
{ وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله } المقاتلة في سبيل الله الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين { الذين يقاتلونكم } يناجزونكم القتال دون المحاجزين وعلى هذا يكون منسوخاً بقوله تعالى :(1/98)
{ وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً } [ التوبة : 36 ] وقيل : هي أول آية نزلت في القتال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف ، أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء ، أو الكفرة كلهم لأنهم قاصدون لمقاتلة المسلمين فهم في حكم المقاتلة { وَلاَ تَعْتَدُواْ } في ابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عنه من النساء والشيوخ ونحوهما أو بالمثلة { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين * واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } وجدتموهم . والثقف الوجود على وجه الأخذ والغلبة { وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي من مكة وعدهم الله تعالى فتح مكة بهذه الآية وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } أي شركهم بالله أعظم من القتل الذي يحل بهم منكم . وقيل : الفتنة عذاب الآخرة . وقيل : المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان فيعذب به أشد عليه من القتل . وقيل لحكيم : ما أشد من الموت؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت . فقد جعل الإخراج من الوطن من الفتن التي يتمنى عندها الموت . { وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ } أي ولا تبدأوا بقتالهم في الحرم حتى يبدأوا فعندنا المسجد الحرم يقع على الحرم كله { فَإِن قاتلوكم فاقتلوهم } في الحرم فعندنا يقتلون في الأشهر الحرم لا في الحرم إلا أن يبدأوا بالقتال معنا فحينئذ نقتلهم وإن كان ظاهر قوله «واقتلوهم حيث ثقفتموهم» يبيح القتل في الأمكنة كلها لكن لقوله «ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه» خص الحرم إلا عند البداءة منهم كذا في شرح التأويلات { كذلك جَزَاءُ الكافرين } مبتدأ وخبر . «ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم» : حمزة وعلي { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن الشرك والقتال { فَإِنَّ الله غَفُورٌ } لما سلف من طغيانهم { رَّحِيمٌ } بقبول توبتهم وإيمانهم . { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } شرك و«كان» تامة و«حتى» بمعنى «كي» أو «إلى أن» { وَيَكُونَ الدين للَّهِ } خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب أي لا يعبد دونه شيء { فَإِنِ انتهوا فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين } فإن امتنعوا عن الكفر فلا تقاتلوهم فإنه لا عدوان إلا على الظالمين ولم يبقوا ظالمين ، أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين ، سمى جزاء الظالمين ظلماً للمشاكلة كقوله { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } . قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذلك في ذي القعدة { الشهر الحرام } مبتدأ خبره { بالشهر الحرام } أي هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم { والحرمات قِصَاصٌ } أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أي حرمة كانت اقتص منه بأن تهتك له حرمه ، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا تبالوا وأكد ذلك بقوله { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } من شرطية والباء غير زائدة والتقدير بعقوبة مماثلة لعدوانهم ، أو زائدة وتقديره عدواناً مثل عدوانهم { واتقوا الله } في حال كونكم منتصرين فمن اعتدى عليك فلا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم .(1/99)
{ واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } بالنصر { وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله } تصدقوا في رضا الله وهو عام في الجهاد وغيره { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } أي أنفسكم والباء زائدة ، أو ولا تقتلوا أنفسكم بأيديكم كما يقال «أهلك فلان نفسه بيده» إذا تسبب لهلاكها . والمعنى النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك ، أو عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله ، أو عن الإخطار بالنفس ، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدو والتهلكة والهلاك والهلك واحدة { وَأَحْسِنُواْ } الظن بالله في الإخلاف { إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } إلى المحتاجين .
{ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ } وأدوهما تأمين بشرائطهما وفرائضهما لوجه الله تعالى بلا توان ولا نقصان . وقيل : الإتمام يكون بعد الشروع فهو دليل على أن من شرع فيهما لزمه إتمامهما وبه نقول : إن العمرة تلزم بالشروع . ولا تمسك للشافعي رحمه الله بالآية على لزوم العمرة لأنه أمر بإتمامها ، وقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع أو إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك أو أن تفرد لكل واحد منهما سفراً أو أن تنفق فيهما حلالاً أو أن لا تتجر معهما { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } يقال أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز ، وحصر إذا حبسه عدو عن المضي . وعندنا الإحصار يثبت بكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما لظاهر النص ، وقد جاء في الحديث من كسر أو عرج فقد حل أي جاز له أن يحل وعليه الحج من قابل . وعند الشافعي رحمه الله : الإحصار بالعدو وحده . وظاهر النص يدل على أن الإحصار يتحقق في العمرة أيضاً لأنه ذكر عقبهما { فَمَا استيسر مِنَ الهدى } فما تيسر منه . يقال يسر الأمر واستيسر كما يقال صعب واستصعب . والهدي جمع هدية يعني فإن منعتم من المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة فعليكم إذا أردتم التحلل ما استيسر من الهدى من بعير أو بقرة أو شاة «فما» رفع بالابتداء أي فعليكم ما استيسر ، أو نصب أي فأهدوا له ما استيسر { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدى مَحِلَّهُ } الخطاب للمحصرين أي لا تحلوا بحلق الرأس حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب نحره فيه وهو الحرم ، وهو حجة لنا في أن دم الإحصار لا يذبح إلا في الحرم على الشافعي رحمه الله إذ عنده يجوز في غير الحرم { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } فمن كان منكم به مرض يحوجه إلى الحلق { أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ } وهو القمل أو الجراحة { فَفِدْيَةٌ } فعليه إذا حلق فدية { مِّن صِيَامٍ } ثلاثة أيام { أَوْ صَدَقَةٍ } على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من بر { أَوْ نُسُكٍ } شاة وهو مصدر أو جمع نسيكة { فَإِذَا أَمِنتُمْ } الإحصار أي فإذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة { فَمَن تَمَتَّعَ } استمتع { بالعمرة إِلَى الحج } واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى الله قبل انتفاعه بالتقرب بالحج .(1/100)
وقيل : إذا حل من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرماً عليه إلى أن يحرم بالحج { فَمَا استيسر مِنَ الهدى } هو هدي المتعة ، وهو نسك يؤكل منه ويذبح يوم النحر .
{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الهدي { فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج } فعليه صيام ثلاثة أيام في وقت الحج وهو أشهره ما بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } في وقوعها بدلاً من الهدي أو في الثواب ، أو المراد رفع الإبهام فلا يتوهم في الواو أنها بمعنى الإباحة كما في «جالس الحسن وابن سيرين» ، ألا ترى أنه لو جالسهما أو واحداً منهما كان ممتثلاً { ذلك } إشارة إلى التمتع عندنا إذ لا تمتع ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله إلى الحكم الذي هو وجوب الهدي أو الصيام ولم يوجب عليهم شيئاً { لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام } هم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة { واتقوا الله } فيما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن لم يتقه .
{ الحج } أي وقت الحج كقولك «البرد شهران» { أَشْهُرٌ معلومات } معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم وهي شوال وذو القعدة وعشر ذو الحجة . وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلا فيها وكذا الإحرام عند الشافعي رحمه الله ، وعندنا وإن انعقد لكنه مكروه ، وجمعت أي الأشهر لبعض الثالث ، أو لأن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] { فَمَن فَرَضَ } ألزم نفسه بالإحرام { فِيهِنَّ الحج } في هذه الأشهر { فَلاَ رَفَثَ } هو الجماع أو ذكره عند النساء أو الكلام الفاحش { وَلاَ فُسُوقَ } هو المعاصي أو السباب لقوله عليه السلام(1/101)
" سباب المؤمن فسوق " أو التنابز بالألقاب لقوله تعالى : { بِئْسَ الاسم الفسوق } [ الحجرات : 11 ] { وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } ولامراء مع الرفقاء والخدم والمكارين . وإنما أمر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب في كل حال لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة والتطريب في قراءة القرآن . والمراد بالنفي وجوب انتفائها وأنها حقيقة بأن لاتكون . وقرأ أبو عمرو ومكي الأولين بالرفع فحملاهما على معنى النهي كأنه قيل : فلا يكونن رفث ولا فسوق ، والثالث بالنصب على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج . ثم حث على الخير عقيب النهي عن الشر وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن ، ومكان الفسوق البر والتقوى ، ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة بقوله تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } اعلم بأنه عالم به يجازيكم عليه ورد قول من نفى علمه بالجزئيات . كان أهل اليمن لا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فيكونون كلاً على الناس فنزل فيهم { وَتَزَوَّدُواْ } أي تزودوا واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم { فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } أي الإتقاء عن الإبرام والتثقيل عليهم ، أو تزودوا للمعاد باتقاء المحظورات فإن خير الزاد اتقاؤها { واتقون } وخافوا عقابي وهو مثل { دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] { يأُوْلِي الالباب } يا ذوي العقول يعني أن قضية اللب تقوى الله ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له .
ونزل في قوم زعموا أن لا حج لجمال وتاجر وقالوا هؤلاء الداجّ وليسوا بالحاج { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ } في أن تبتغوا في مواسم الحج { فَضْلاً مّن رَّبِّكُمْ } عطاء وتفضلاً وهو النفع والربح بالتجارة والكراء { فَإِذَا أَفَضْتُم } دفعتم بكثرة من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة ، وأصله أفضتم أنفسكم فترك ذكر المفعول { مّنْ عرفات } هي علم للموقف سمي بجمع كأذرعات . وإنما صرفت لأن التاء فيها ليست للتأنيث بل هي مع الألف قبلها علامة جمع المؤنث ، وسميت بذلك لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام فلما رآها عرفها . وقيل : التقى فيها آدم وحواء فتعارفا ، وفيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأن الإفاصة لا تكون إلا بعده { فاذكروا الله } بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات أو بصلاة المغرب والعشاء { عِندَ المشعر الحرام } هو قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة . والمشعر المعلم لأنه معلم العبادة ، ووصف بالحرام لحرمته . وقيل : المشعر الحرام مزدلفة ، وسميت المزدلفة جمعاً لأن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها ، أو لأنه يجمع فيها بين الصلاتين ، أو لأن الناس يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون بالوقوف فيها { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } «ما» مصدرية أوكافة اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة ، أو اذكروه كما علمكم كيف تذكرونه ولا تعدلوا عنه { وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ } من قبل الهدى { لَمِنَ الضالين } الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه و«إن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس ولا تكن من المزدلفة .(1/102)
قالوا : هذا أمر لقريش بالإفاضة من عرفات إلى جمع وكانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفات ويقولون : نحن قطان حرمه فلا نخرج منه . وقيل : الإفاضة من عرفات مذكورة فهي الإفاضة من جمع إلى منى . والمراد بالناس على هذا الجنس ويكون الخطاب للمؤمنين { واستغفروا الله } من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم أو من تقصيركم في أعمال الحج { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بكم { فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم } فإذا فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ونفرتم { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ } أي فاذكروا الله ذكراً مثل ذكركم آباءكم . والمعنى فأكثروا من ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم . وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل فيعددون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } أي أكثر . وهو في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله «كذكركم» كما تقولون كذكر قريش آباءَهم أو قوم أشد منهم ذكراً و«ذكراً» تمييز .
{ فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } فمن الذين يشهدون الحج من يسأل الله حظوظ الدنيا فيقول { رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدنيا } اجعل إيتاءنا أي إعطاءنا في الدنيا خاصة يعني الجاه والغنى { وَمَا لَهُ فِى الآخرة مِنْ خلاق } نصيب لأن همه مقصور على الدنيا لكفره بالآخرة . والمعنى أكثروا ذكر الله ودعاءه لأن الناس من بين مقل لا يطلب بذكر الله إلا أغراض الدنيا ، ومكثر يطلب خير الدارين فكونوا من المكثرين أي من الذين قيل فيهم { وَمِنْهُمُ } ومن الذين يشهدون الحج { مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً } نعمة وعافية ، أو علماً وعبادة . { وَفِي الآخرة حَسَنَةً } عفواً ومغفرة ، أو المال والجنة ، أو ثناء الخلق ورضا الحق ، أو الإيمان والأمان ، أو الإخلاص والخلاص ، أو السنة والجنة ، أو القناعة والشفاعة ، أو المرأة الصالحة والحور العين ، أو العيش على سعادة والبعث من القبور على بشارة . { وَقِنَا عَذَابَ النار } احفظنا من عذاب جهنم ، أو عذاب النار امرأة السوء . { أولئك } أي الداعون بالحسنتين { لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ } من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة ، أو من أجل ما كسبوا ، أو سمى الدعاء كسباً لأنه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب ، ويجوز أن يكون أولئك للفريقين وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا { والله سَرِيعُ الحساب } يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدل على كمال قدرته ووجوب الحذر من نقمته . وروي أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة وروي في مقدار لمحة .(1/103)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
{ واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات } هي أيام التشريق وذكر الله فيها التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار { فَمَن تَعَجَّلَ } فمن عجل في النفر أو استعجل النفر . وتعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل . يقال تعجل في الأمر واستعجل ومتعديين يقال تعجل الذهاب واستعجله والمطاوعة أوفق لقوله و«من تأخر» { فِى يَوْمَيْنِ } من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } فلا يأثم بهذا التعجل { وَمَن تَأَخَّرَ } حتى رمى في اليوم الثالث { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى } الصيد أو الرفث والفسوق أو هو مخير في التعجل . والتأخر وإن كان التأخر أفضل فقد يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل . وقيل : كان أهل الجاهلية فريقين منهم من جعل المتعجل آثماً ومنهم من جعل المتأخر آثماً فورد القرآن بنفي المأثم عنهما { واتقوا الله } في جميع الأمور { واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } حين يبعثكم من القبور . كان الأخنس بن شريق حلو المنطق إذا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألان له القول وادعى أنه يحبه وأنه مسلم وقال يعلم الله أني صادق فنزل فيه .
{ وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس { فِي الحياة الدنيا } «في» يتعلق بالقول أي يعجبك ما يقول في معنى الدنيا لأنه يطلب بادعاء المحبة حظ الدنيا ولا يريد به الآخرة ، أو ب «يعجبك» أي يعجبك حلو كلامه في الدنيا لا في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ } أي يحلف ويقول الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } شديد الجدال والعداوة للمسلمين ، والخصام والمخاصمة والإضافة بمعنى في لأن «أفعل» يضاف إلى ما هو بعضه تقول : زيد أفضل القوم ولا يكون الشخص بعض الحدث فتقديره ألد في الخصومة ، أو الخصام جمع خصم كصعب وصعاب والتقدير : وهو أشد الخصوم خصومة . { وَإِذَا تولى } عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق { سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ } كما فعل بثقيف فإنه كان بينه وبينهم خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم { فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل } أي الزرع والحيوان ، أو إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل . وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الخرث والنسل . { والله لاَ يُحِبُّ الفساد * وَإِذَا قِيلَ لَهُ } للأخنس { اتق الله } في الإفساد والإهلاك { أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } حملته النخوة وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه وألزمته ارتكابه ، أو الباء للسبب أي أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه وهو الكفر { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أي كافيه { وَلَبِئْسَ المهاد } أي الفراش جهنم .(1/104)
ونزل في صهيب حين أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفراً كانوا معه فاشترى نفسه بماله منهم وأتى المدينة ، أو فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ } يبيعها { ابتغاء } لابتغاء { مَرْضَاتِ الله والله رَءُوفٌ بالعباد } حيث أثابهم على ذلك { يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ ادخلوا فِي السلم } وبفتح السين حجازي وعلي ، وهو الاستسلام والطاعة أي استسلموا لله وأطيعوه أو الإسلام ، والخطاب لأهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم ، أو للمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم { كَافَّةً } لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته حال من الضمير في «ادخلوا» أي جميعاً ، أو من السلم لأنها تؤنث كأنهم أمروا أن يدخلوا في الطاعات كلها ، أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها ، وكافة من الكف كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } وساوسه { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة { فَإِن زَلَلْتُمْ } ملتم عن الدخول في السلم { مّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البينات } أي الحجج الواضحة والشواهد اللائحة على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق { فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ } غالب لا يمنعه شيء من عذابكم { حَكِيمٌ } لا يعذب إلا بحق . ورُوي أن قارئاً قرأ «غفور رحيم» فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال ليس هذا من كلام الله إذ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل والعصيان لأنه إغراء عليه .
{ هَلْ يَنظُرُونَ } ما ينتظرون { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } أي أمر الله وبأسه كقوله : { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ } [ النحل : 33 ] . { فَجَاءهَا بَأْسُنَا } [ الأعراف : 4 ] أو المأتي به محذوف بمعنى أن يأتيهم الله ببأسه للدلالة عليه بقوله : «فاعلموا أن الله عزيز» { فِي ظُلَلٍ } جمع ظلة وهي ما أظلك { مِّنَ الغمام } الحساب . وهو للتهويل إذ الغمام مظنة الرحمة أنزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول { والملائكة } أي وتأتي الملائكة الذين وكلوا بتعذيبهم أو المراد حضورهم يوم القيامة { وَقُضِىَ الأمر } أي وتم أمر إهلاكهم وفرغ منه { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } أي أنه ملّك العباد بعض الأمور فترجع إليه الأمور يوم النشور . «ترجع الأمور» حيث كان : شامي وحمزة وعلي . { سَلْ } أصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين بعد حذفها واستغني عن همزة الوصل فصار «سل» . وهو أمر للرسول أو لكل أحد وهو سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة .(1/105)
{ بَنِى إسراءيل كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } على أيدي أنبيائهم وهي معجزاتهم أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام . و«كم» استفهامية أو خبرية { وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله } هي آياته وهي أجل نعمة من الله لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة وتبديلهم إياها ، إن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] أو حرفوا آيات الكتب الدالة على دين محمد عليه السلام { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ } من بعد ما عرفها وصحت عنده لأنه إذا لم يعرفها فكأنها غائبة عنه { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن استحقه .
{ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا } المزين هو الشيطان زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها ، أو الله تعالى يخلق الشهوات فيهم ولأن جميع الكائنات منه ويدل عليه قراءة من قرأ «زين للذين كفروا الحياة الدنيا» { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءَامَنُواْ } كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين كابن مسعود وعمار وصهيب ونحوهم أي لا يريدون غير الدنيا وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها أو ممن يطلب غيرها { والذين اتقوا } عن الشرك وهم هؤلاء الفقراء { فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } لأنهم في جنة عالية وهم في نار هاوية { والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } بغير تقتير يعني أنه يوسع على من أراد التوسعة عليه كما وسع على قارون وغيره ، وهذه التوسعة عليكم من الله لحكمة وهي استدارجكم بالنعمة ولو كانت كرامة لكان المؤمنون أحق بها منكم { كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } متفقين على دين الإسلام من آدم إلى نوح عليهما السلام ، أو هم نوح ومن كان معه في السفينة فاختلفوا { فَبَعَثَ الله النبيين } ويدل على حذفه قوله تعالى : { لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ } [ البقرة : 213 ] وقراءة عبد الله «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا» وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا } [ يونس : 19 ] أو كان الناس أمة واحدة كفاراً فبعث الله النبيين فاختلفوا عليهم والأول الأوجه { مُبَشّرِينَ } بالثواب للمؤمنين { وَمُنذِرِينَ } بالعقاب للكافرين وهما حالان { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب } أي مع كل واحد منهم كتابه { بالحق } بتبيان الحق { لِيَحْكُمَ } الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه { بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ } في دين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق . { وَمَا اختلف فِيهِ } في الحق { إِلاَّ الذين أُوتُوهُ } أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف أي ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات } على صدقه { بَغْياً بَيْنَهُمْ } مفعول له أي حسداً بينهم وظلماً لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم { فَهَدَى الله الذين ءَامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ } أي هدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف فيه { مِنَ الحق } بيان لما اختلفوا فيه { بِإِذْنِهِ } بعلمه { والله يَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } { أَمْ حَسِبْتُمْ } أم منقطعة لا متصلة لأن شرطها أن يكون قبلها همزة الاستفهام كقولك «أعندك زيد أم عمرو» أي أيهما عندك؟ وجوابه زيد إن كان عنده زيد ، أوعمرو إن كان عنده عمرو .(1/106)
وأما «أم» المنقطعة فتقع بعد الاستفهام وبعد الخبر وتكون بمعنى بل والهمزة ، والتقدير : بل أحسبتم ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده . لما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات تشجيعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له ، قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ أم حسبتم { أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم } أي ولم يأتكم وفي «لما» معنى التوقع يعني أن إتيان ذلك متوقع منتظر . { مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ } مضوا أي حالهم التي هي مثل في الشدة { مِن قَبْلِكُمْ } من النبيين والمؤمنين { مَسَّتْهُمْ } بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلاً قال : كيف كان ذلك المثل فقيل : مستهم { البأساء } أي البؤس { والضراء } المرض والجوع { وَزُلْزِلُواْ } وحركوا بأنواع البلايا وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة { حتى يَقُولَ الرسول والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ } إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه من المؤمنين فيها { متى نَصْرُ الله } أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك ، ومعناه طلب النصر وتمنيه واستطالة زمان الشدة فقيل لهم { أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } إجابة لهم إلى طلبهم من عاجل النصر . «يقول» بالرفع : نافع على حكاية حال ماضية نحو «شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه» . وغيره بالنصب على إضمار «أن» ومعنى الاستقبال لأن «أن» علم له . ولما قال عمرو بن الجموح وهو شيخ كبير وله مال عظيم : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ نزل .(1/107)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
{ يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } فقد تضمن قوله ما أنفقتم من خير بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها عن الحسن هي في التطوع { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } فيجزى عليه { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال } فرض عليكم جهاد الكفار { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } من الكراهة فوضع المصدر موضع الوصف مبالغة كقولها :
فإنما هي إقبال وإدبار ... كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له أوهو فعل بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز أي وهو مكروه لكم { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } فأنتم تكرهون الغزو وفيه إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة { وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا } وهو القعود عن الغزو { وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر { والله يَعْلَمُ } ما هو خير لكم { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شق عليكم ، ونزل في سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا المشركين وقد أهل هلال رجب وهم لا يعلمون ذلك فقالت قريش : قد استحل محمد عليه السلام الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف .
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام } أي يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام .
{ قِتَالٍ فِيهِ } بدل الاشتمال من «الشهر» . وقرىء «عن قتال فيه» على تكرير العامل كقوله : { للذين استضعفوا لمن آمن منهم } [ الأعراف : 75 ] .
{ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } أي إثم كبير . «قتال» مبتدأ و«كبير» خبره وجاز الابتداء بالنكرة لأنها قد وصفت ب «فيه» وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } أي منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت عام الحديبية وهو مبتدأ { وَكُفْرٌ بِهِ } أي بالله عطف على صد { والمسجد الحرام } «عطف على سبيل الله» أي وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام . وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء في به أي كفر به وبالمسجد الحرام ، ولا يجوز عند البصريين العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار فلا تقول : مررت به وزيد ولكن تقول وبزيد ، ولو كان معطوفاً على الهاء هنا لقيل وكفر به وبالمسجد الحرام . { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي أهل المسجد الحرام وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وهو عطف على «صد» أيضاً { مِنْهُ } من المسجد الحرام وخبر الأسماء الثلاثة { أَكْبَرُ عِندَ الله } أي مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن { والفتنة } الإخراج أو الشرك { أَكْبَرُ مِنَ القتل } في الشهر الحرام ، أو تعذيب الكفار المسلمين أشد قبحاً من قتل هؤلاء المسلمين في الشهر الحرام { وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } أي إلى الكفر وهو إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم .(1/108)
«حتى» معناها التعليل نحو «فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة» أي يقاتلونكم كي يردوكم . وقوله تعالى : { إِنِ اسْتَطَاعُواْ } استبعاد لاستطاعتهم كقولك لعدوك «إن ظفرت بي فلا تبق علي» وأنت واثق بأنه لا يظفر بك { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } ومن يرجع عن دينه إلى دينهم { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } أي يمت على الردة { فأولئك حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والآخرة } لما يفوتهم بالردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام وفي الآخرة من الثواب وحسن المآب { وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } وبها احتج الشافعي رحمه الله على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت عليها . وقلنا : قد علق الحبط بنفس الردة بقوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] والأصل عندنا أن المطلق لا يحمل على المقيد ، وعنده يحمل عليه فهو بناء على هذا .
ولما قالت السرية أيكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله نزل { إِنَّ الذين ءَامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ } تركوا مكة وعشائرهم { وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله } المشركين ولا وقف عليه لأن { أولئك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله } خبر «إن» . قيل : من رجا طلب ومن خاف هرب { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } نزل في الخمر أربع آيات نزل بمكة : { وَمِن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } [ النحل : 67 ] . فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، ثم إن عمر ونفراً من الصحابة قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل :(1/109)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف جماعة فشربوا وسكروا فأم بعضهم فقرأ «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» فنزل { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك جماعة فلما سكروا منها تخاصموا وتضاربوا فقال عمر : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل { إِنَّمَا الخمر والميسر } إلى قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] فقال عمر : انتهينا يا رب . وعن علي رضي الله عنه : لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها ، ولو وقعت في بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ لم أرعه . والخمر ما غلى واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب ، وسميت بمصدر خمره خمراً إذا ستره لتغطيتها العقل . والميسر القمار مصدر من يسر كالوعد من فعله يقال يسرته إذا أقمرته ، واشتقاقه من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة بلا كد وتعب ، أو من اليسار كأنه سلب يساره . وصفة الميسر أنه كانت لهم عشرة أقداح سبعة منها عليها خطوط وهو الفذ وله سهم ، والتوأم وله سهمان ، والرقيب وله ثلاثة ، والحلس وله أربعة ، والنافس وله خمسة ، والمسبل وله ستة ، والمعلى وله سبعة ، وثلاثة أغفال لا نصيب لها وهي المنيح والسفيح والوغد ، فيجعلون الأقداح في خريطة ويضعونها على يد عدل ثم يجلجلها ويدخل يده ويخرج باسم رجل قدحاً قدحاً منها ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح ما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ، وفي حكم الميسر أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما ، والمعنى يسألونك عما في تعاطيهما بدليل { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } بسبب التخاصم والتشاتم وقول الفحش والزور «كثير» : حمزة وعلي . { ومنافع لِلنَّاسِ } بالتجارة في الخمر والتلذذ بشربها ، وفي الميسر بارتقاق الفقراء أو نيل المال بلا كد { وَإِثْمُهُمَا } وعقاب الإثم في تعاطيهما { أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } لأن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيها الآثام من وجوه كثيرة .
{ وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } أي الفضل أي أنفقوا ما فضل عن قدر الحاجة ، وكان التصدق بالفضل في أول الإسلام فرضاً فإذا كان الرجل صاحب زرع أمسك قوت سنة وتصدق بالفضل ، وإذا كان صانعاً أمسك قوت يومه وتصدق بالفضل فنسخت بآية الزكاة . «العفو» : أبو عمرو؛ فمن نصبه جعل «ماذا» اسماً واحداً في موضع النصب ب « ينفقون» والتقدير : قل ينفقون العفو ، ومن رفعه جعل «ما» مبتدأ وخبره «ذا» مع صلته ف «ذا» بمعنى «الذين»و«ينفقون» صلته أي ما الذي ينفقون فجاء الجواب «العفو» أي هو العفو فإعراب الجواب كإعراب السؤال ليطابق الجواب السؤال .(1/110)
{ كذلك } الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين { يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى الدنيا } أي في أمر الدنيا { والآخرة } و «وفي» يتعلق بتتفكرون أي تتفكرون فيما يتعلق بالدارين فتأخذون بما أصلح لكم ، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع ، ويجوز أن يتعلق ب «يبين» أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون . ولما نزل { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] اعتزلوا اليتامى وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل .
{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } أي مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ } وتعاشروهم ولم تجانبوهم { فَإِخوَانُكُمْ } فهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط أخاه { والله يَعْلَمُ المفسد } لأموالهم { مِنَ المصلح } لها فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح { وَلَوْ شَاءَ الله } إعناتكم { لأَعْنَتَكُمْ } لحملكم على العنت وهو المشقة وأحرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم { إِنَّ الله عَزِيزٌ } غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم { حَكِيمٌ } لا يكلف إلا وسعهم وطاقتهم .
ولما سأل مرثد النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يتزوج عناق وكانت مشركة نزل { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } أي لا تتزوجوهن . يقال نكح إذا تزوج وأنكح غيره زوجه { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } ولو كان الحال أن المشركة تعجبكم وتحبونها { وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين } ولا تزوجوهم بمسلمة كذا قاله الزجاج . وقال جامع العلوم : حذف أحد المفعولين والتقدير ولا تنكحوهن المشركين { حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } . ثم بين علة ذلك فقال { أولئك } وهو إشارة إلى المشركات والمشركين { يَدْعُونَ إِلَى النار } إلى الكفر الذي هو عمل أهل النار فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا { والله يَدْعُواْ إِلَى الجنة والمغفرة } أي وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم { بِإِذْنِهِ } بعلمه أو بأمره { وَيُبَيِنُ آياته لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يتعظون .
كانت العرب لم يؤاكلوا الحائض ولم يشاربوها ولم يساكنوها كفعل اليهود والمجوس ، فسأل أبو الدحداح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : يا رسول الله كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزل { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض } هو مصدر يقال حاضت محيضاً كقولك «جاء مجيئاً» { قُلْ هُوَ أَذًى } أي المحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه { فاعتزلوا النساء فِي المحيض } فاجتنبوهن أي فاجتنبوا مجامعتهن .(1/111)
وقيل : إن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض ، واليهود كانوا يعتزلونهن في كل شيء ، فأمر الله بالاقتصاد بين الأمرين . ثم عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يجتنب ما اشتمل عليه الإزار ، ومحمد رحمه الله لا يوجب إلا اعتزال الفرج . وقالت عائشة رضي الله عنها : يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك . { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ } مجامعين أو ولا تقربوا مجامعتهن { حتى يَطْهُرْنَ } بالتشديد كوفي غير حفص أي يغتسلن وأصله «يتطهرون» فأدغم التاء في الطاء لقرب مخرجيهما . غيرهم «يطهرن» أي ينقطع دمهن ، والقراءتان كآيتين فعملنا بهما وقلنا له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل عملاً بقراءة التخفيف ، وفي أقل منه لا يقربها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت الصلاة عملاً بقراءة التشديد ، والحمل على هذا أولى من العكس لأنه حينئذ يجب ترك العمل بإحداهما لما عرف ، وعند الشافعي رحمه الله لا يقربها حتى تطهر وتتطهر دليله قوله تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } فجامعوهن فجمع بينهما { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } من المأتى الذي أمركم الله به وحلله لكم وهو القبل { إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين } من ارتكاب ما نهوا عنه أو العوادين إلى الله تعالى وإن زلوا فزلوا والمحبة لمعرفته بعظم عفو الله حيث لا ييأس { وَيُحِبُّ المتطهرين } بالماء أو المتنزهين من أدبار النساء أو من الجماع في الحيض أو من الفواحش .
كان اليهود يقولون إذا أتى الرجل أهله باركة أتى الولد أحول فنزل { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } مواضع حرث لكم وهذا مجاز شبهن بالمحارث تشبيهاً لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور والولد بالنبات ، ووقع قوله «نساؤكم حرث لكم» بياناً وتوضيحاً لقوله : «فأتوهن من حيث أمركم الله» . أي إن المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث لا مكان الفرث تنبيهاً على أن المطلوب الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لإقضاء الشهوة فلا تأتوهن إلا من المأتي الذي نيط به هذا المطلوب { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } جامعوهن متى شئتم أو كيف شئتم باركة أو مستلقية أو مضطجعة بعد أن يكون المأتي واحداً وهو موضع الحرث وهو تمثيل ، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم لا يحظر عليكم جهة دون جهة . وقوله : «هو أذى فاعتزلوا النساء» ، «من حيث أمركم الله فأتوا حرثكم أنى شئتم» . من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة ، فعلى كل مسلم أن يتأدب بها ويتكلف مثلها في المحاورات والمكاتبات { وَقَدّمُواْ لأَِنفُسِكُمْ } ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة وما هو خلاف ما نهيتم عنه ، أو هو طلب الولد أو التسمية على الوطء { واتقوا الله } فلا تجترئوا على المناهي { واعلموا أَنَّكُم ملاقوه } صائرون إليه فاستعدوا للقائه { وَبَشِّرِ المؤمنين } بالثواب يا محمد . وإنما جاء «يسألونك» ثلاث مرات بلا واو ثم مع الواو ثلاثاً لأن سؤالهم عن تلك الحوارث الأول كأنه وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت بحرف العطف لأن كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ ، وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد فجيء بحرف الجمع . لذلك .(1/112)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم } العرضة فعلة بمعنى مفعول كالقبضة وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيتعرض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه . تقول فلان عرضة دون الخير ، وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم أو إصلاح ذات بين أو إحسان إلى أحد أوعبادة ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البرّ إرادة البر في يمينه فقيل لهم ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أي حاجزاً لما حلفتم عليه ، وسمي المحلوف عليه يميناً بتلبسه باليمين كقوله عليه السلام " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه " وقوله { أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس } عطف بيان لأيمانكم أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس . واللام تتعلق بالفعل أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخاً ، ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق «أن تبروا» بالفعل أو بالعرضة أي ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا «واللّه سميعٌ» لأيمانكم «عليمٌ» بنياتكم .
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم } اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ، ولغو اليمين الساقط الذي لا يعتد به في الأيمان وهو أن يحلف على شيء يظنه على ما حلف عليه والأمر بخلافه ، والمعنى لا يعاقبكم «بلغو» اليمين الذي يحلفه أحدكم ، وعند الشافعي رحمه الله هو ما يجري على لسانه من غير قصد للحلف نحو «لا والله» و «بلى والله» . { ولكن يُؤَاخِذُكُم } ولكن يعاقبكم { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } بما اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهو اليمين الغموس ، وتعلق الشافعي بهذا النص على وجوب الكفارة في الغموس لأن كسب القلب العزم والقصد ، والمؤاخذة غير مبينة هنا وبينت في المائدة فكان البيان ثمة بياناً هنا ، وقلنا : المؤاخذة هنا مطلقة . وهي في دار الجزاء والمؤاخذة ثم مقيدة بدار الابتلاء فلا يصح حمل البعض على البعض { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } حيث لم يؤاخذكم باللغو في «أيمانكم» .
{ لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ } يقسمون وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنه و«من» في { مِن نّسَائِهِمْ } يتعلق بالجار والمجرور أي للذين كما تقول لك مني نصرة ولك مني معونة أي للمؤلين من نسائهم { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } أي استقر للمؤلين ترقب أربعة أشهر لا ب «يؤلون» لأن آلى يعدّى ب «على» يقال آلى فلان على امرأته ، وقول القائل «آلى فلان من امرأته» وهم توهمه من هذه الآية . ولك أن تقول عدّي ب «من» لما في هذا القسم من معنى البعد فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم { فَإِن فَآءُوا } في الأشهر لقراءة عبد الله فإن فاءوا فيهن أي رجعوا إلى الوطء عن الإصرار بتركه { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } حيث شرع الكفارة { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } بترك الفيء فتربصوا إلى مضي المدة { فَإِنَّ الله سَمِيعٌ } لإِيلائه { عَلِيمٌ } بنيته وهو وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة ، وعند الشافعي رحمه الله معناه فإن فاءوا وإن عزموا بعد مضي المدة لأن الفاء للتعقيب .(1/113)
وقلنا قوله : «فإن فاءوا» . «وإن عزموا» تفصيل لقوله «للذين يؤلون» من نسائهم والتفصيل يعقب المفصل كما تقول : أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره وإلا لم أقم إلا ريثما أتحول . { والمطلقات } أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء . { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ } خبر في معنى الأمر وأصل الكلام ولتتربص المطلقات ، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً ، ونحوه قولهم في الدعاء «رحمك الله» أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها . وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبات بخلاف الفعلية . وفي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص .
{ ثلاثة قُرُوءٍ } جمع قرء أو قرء وهو الحيض لقوله عليه السلام " دعي الصلاة أيام أقرائك " وقوله " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " ولم يقل طهران . وقوله تعالى : { واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } [ الطلاق : 4 ] . فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار ، ولأن المطلوب من العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام دون الطهر ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة ، ولأنه لو كان طهراً كما قال الشافعي لانقضت العدة بقرأين وبعض الثالث فانتقص العدد عن الثلاثة ، لأنه إذا طلقها لآخر الطهر فذا محسوب من العدة عنده ، وإذا طلقها في آخر الحيض فذا غير محسوب من العدة عندنا ، والثلاث اسم خاص لعدد مخصوص لا يقع على ما دونه . ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت وامرأة مقرىء . وانتصاب «ثلاثة» على أنه مفعول به أي يتربصن مضي ثلاثة قروء أو على الظرف أي يتربصن مدة ثلاثة قروء ، وجاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء لاشتراكهما في الجمعية اتساعاً ، ولعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الأقراء فأوثر عليه تنزيلاً لقليل الاستعمال منزلة المهمل .
{ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ } من الولد أو من دم الحيض أو منهما ، وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ، ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها ، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض قد طهرت استعجالاً للطلاق ، ثم عظم فعلهن فقال { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر } لأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترىء على مثله من العظائم { وَبُعُولَتُهُنَّ } البعول جمع بعل والتاء لاحقة لتأنيث الجمع { أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } أي أزواجهن أولى برجعتهن ، وفيه دليل أن الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء حيث سماه زوجاً بعد الطلاق { فِي ذلك } في مدة ذلك التربص ، والمعنى أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها لا أن لها حقاً في الرجعة { إِنْ أَرَادُواْ } { إصلاحا } لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا مضارتهن { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ } ويجب لهن من الحق على الرجال من المهر والنفقة وحسن العشرة وترك المضارة مثل الذي يجب لهم عليهن من الأمر والنهي { بالمعروف } بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس ، فلا يكلف أحد الزوجين صاحبه ما ليس له .(1/114)
والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة لا في جنس الفعل ، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال { وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } زيادة في الحق وفضيلة بالقيام بأمرها وإن اشتركا في اللذة والاستمتاع أو بالإنفاق وملك النكاح { والله عَزِيزٌ } لا يعترض عليه في أموره { حَكِيمٌ } لا يأمر إلا بما هو صواب وحسن .(1/115)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
{ الطلاق مَرَّتَانِ } الطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع ، والإرسال دفعة واحدة . ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير كقوله { ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [ الملك : 4 ] أي كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين وهو دليل لنا في أن الجمع بين الطلقتين والثلاثة بدعة في طهر واحد ، لأن الله تعالى أمرنا بالتفريق لأنه وإن كان ظاهره الخبر فمعناه الأمر وإلا يؤدي إلى الخلف في خبر الله تعالى ، لأن الطلاق على وجه الجمع قد يوجد . وقيل : قالت أنصارية : إن زوجي قال : لا أزال أطلقك ثم أراجعك فنزلت «الطلاق مرتان» أي الطلاق الرجعي مرتان لأنه لا رجعة بعد الثالث { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } برجعة ، والمعنى فالواجب عليكم إمساك بمعروف { أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة . وقيل : بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث . ونزل في جميلة وزوجها ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها وقد أعطاها حديقة فاختلعت منه بها وهو أول خلع كان في الإسلام { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ } أيها الأزواج أو الحكام لأنهم الآمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون { أن تَأخُذُواْ مِمَّآ آتَيتُمُوهُنَّ شَيْئاً } مما أعطيتموهن من المهور { إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } إلا أن يعلم الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها { فَإِنْ خِفْتُمْ } أيها الولاة ، وجاز أن يكون أول خطاب للأزواج وآخره للحكام { أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } فلا جناح على الرجل فيما أخذ ولا عليها فيما أعطت { فِيمَا افتدت بِهِ } فيما افتدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر . «إلا أن يخافا» حمزة على البناء للمفعول وإبدال «ألا يقيما» من ألف الضمير وهو من بدل الاشتمال نحو «خيف زيد تركه إقامة حدود الله» . { تِلْكَ حُدُودَ الله } أي ما حد من النكاح واليمين والإيلاء والطلاق والخلع وغير ذلك { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } فلا تجاوزوها بالمخالفة { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } الضارون أنفسهم . { فَإِن طَلَّقَهَا } مرة ثالثة بعد المرتين ، فإن قلت الخلع طلاق عندنا وكذا عند الشافعي رحمه الله في قول ، فكأن هذه تطليقة رابعة . قلت : الخلع طلاق ببدل فيكون طلقة ثالثة ، وهذه بيان لتلك أي فإن طلقها الثالثة ببدل فحكم التحليل كذا { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ } من بعد التطليقة الثالثة { حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } حتى تتزوج غيره . والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزوج ، وفيه دليل على أن النكاح ينعقد بعبارتها ، والإصابة شرطت بحديث العسيلة كما عرف في أصول الفقه ، والفقه فيه أنه لما أقدم على فراق لم يبق للندم مخلصاً لم تحل له إلا بدخول فحل عليها ليمتنع عن ارتكابه { فَإِن طَلَّقَهَا } الزوج الثاني بعد الوطء { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } على الزوج الأول وعليها { أَن يَتَرَاجَعَا } أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج { إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله } إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية ولم يقل إن علما أنهما يقيمان لأن اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله { وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيّنُهَا } وبالنون : المفضل { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } يفهمون ما بين لهم .(1/116)
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها ، والأجل يقع على المدة كلها وعلى آخرها . يقال لعمر الإنسان أجل ، وللموت الذي ينتهى به أجل . { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة ، وإما أن يخليها حتى تنقضي عدتها وتبين من غير ضرار { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } مفعول له أو حال أي مضارين ، وكان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ثم يراجعها لا عن حاجة ولكن ليطوّل العدة عليها فهو الإمساك ضراراً { لّتَعْتَدُواْ } لتظلموهن أو لتلجئوهن إلى الافتداء { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } يعني الإمساك للضرار { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } بتعريضها لعقاب الله { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا } أي جدوا بالأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها وإلا فقد اتخذتموها هزواً . يقال لمن لم يجد في الأمر إنما أنت لاعب وهازىء { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ } بالإسلام وبنبوة محمد عليه السلام { وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة } من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها { يَعِظُكُمْ بِهِ } بما أنزل عليكم وهو حال { واتقوا الله } فيما امتحنكم به { واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } من الذكر والاتقاء والاتعاظ وغير ذلك وهو أبلغ وعد ووعيد . { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي انقضت عدتهن فدل سياق الكلامين على افتراق البلوغين لأن النكاح يعقبه هنا وذا يكون بعد العدة ، وفي الأولى الرجعة وذا يكون في العدة { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } فلا تمنعوهن . العضل : المنع والتضييق { أَن يَنكِحْنَ } من أن ينكحن { أزواجهن } الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن ، وفيه إشارة إلى انعقاد النكاح بعبارة النساء ، والخطاب للأزواج الذي يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً ولا يتركونهن يتزوجن من شئن من الأزواج ، سموا أزواجاً باسم ما يؤول إليه . أو للأولياء في عضلهن أن يرجعن إلى أزواجهن الذين كانوا أزواجاً لهن ، سموا أزواجاً باعتبار ما كان . نزلت في معقل ابن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأول .(1/117)
أو للناس أي لا يوجد فيما بينكم عضل لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين { إِذَا تراضوا بَيْنَهُم } إذا تراضى الخطاب والنساء { بالمعروف } بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط ، أو بمهر المثل والكفء لأن عند عدم أحدهما للأولياء أن يتعرضوا . والخطاب في { ذلك } للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل واحد { يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } فالموعظة إنما تنجع فيهم { ذلكم } أي ترك العضل والضرار { أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } أي لكم من أدناس الآثام أو أزكى وأطهر وأفضل وأطيب { والله يَعْلَمُ } ما في ذلك من الزكاء والطهر { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك .(1/118)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
{ والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن } خبر في معنى الأمر المؤكد ك { يَتَرَبَّصْنَ } وهذا الأمر على وجه الندب أو على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه ، أو لم توجد له ظئر ، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار ، أو أراد الوالدات المطلقات وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع { حَوْلَيْنِ } ظرف { كَامِلَيْنِ } تأمين وهو تأكيد لأنه مما يتسامح فيه فإنك تقول : أقمت عند فلان حولين ولم تستكملهما { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } بيان لمن توجه إليه الحكم أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة . والحاصل أن الأب يجب عليه إرضاع ولده دون الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه ، ولا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجة أو معتدة { وَعلَى المولود لَهُ } الهاء يعود إلى اللام الذي بمعنى «الذي» ، والتقدير : وعلى الذي يولد له وهو الوالد ، و«له» في محل الرفع على الفاعلية ك «عليهم» في { المغضوب عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ] وإنما قيل «على المولود له» دون الوالد ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم إذ الأولاد للآباء والنسب إليهم لا إليهن فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظار ، ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله : { واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } [ لقمان : 33 ] { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } بلا إسراف ولا تقتير ، وتفسيره ما يعقبه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارا { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } وجدها أو قدر إمكانها . والتكليف إلزام ما يؤثره في الكلفة . وانتصاب «وسعها» على أنه مفعول ثانٍ ل «تكلف» لا على الاستثناء ودخلت إلا بين المفعولين .
{ لاَ تُضَارَّ } مكي وبصري بالرفع على الإخبار ومعناه النهي وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول وأن يكون الأصل «تضارر» بكسر الراء أو «تضارر» بفتحها . الباقون «لا تضار» على النهي والأصل «تضارر» أسكنت الراء الأولى وأدغمت في الثانية فالتقى الساكنان ففتحت الثانية لالتقاء الساكنين { والدة بِوَلَدِهَا } أي لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة ، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد ، وأن تقول بعدما ألفها الصبي أطلب له ظئر أو ما أشبه ذلك { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } أي ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من رزقها وكسوتها أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه . وإذا كان مبنياً للمفعول فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج ، وعن أن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد ، أو تضار بمعنى تضر والباء من صلته أي لا تضر والدة ولدها فلا تسيء غذاءه وتعهده ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ، ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد .(1/119)
وإنما قيل «بولدها» و«بولده» لأنه لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه وذلك الوالد { وَعَلَى الوارث } عطف على قوله «وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن» وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه أي وعلى وارث الصبي عند عدم الأب «مثل ذلك» أي مثل الذي كان على أبيه في حياته من الرزق والكسوة . واختلف فيه؛ فعند ابن أبي ليلى : كل من ورثه ، وعندنا : من كان ذا رحم محرم منه لقراءة ابن مسعود رضي الله عنه «وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك» ، وعند الشافعي رحمه الله : لا نفقة فيما عدا الولاد . { فَإِنْ أَرَادَا } يعني الأبوين { فِصَالاً } فطاماً صادراً { عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ } بينهما { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } في ذلك زادا على الحولين أو نقصا ، وهذه توسعة بعد التحديد ، والتشاور استخراج الرأي من شرت العسل إذا استخرجته ، وذكره ليكون التراضي عن تفكر فلا يضر الرضيع ، فسبحان الذي أدب الكبير ولم يهمل الصغير واعتبر اتفاقهما ، لأن للأب النسبة والولاية وللأم الشفقة والعناية . { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم } أي لأولادكم عن الزجاج . وقيل : استرضع منقول من أرضع ، يقال أرضعت المرأة الصبي واسترضعتها الصبي معدّى إلى مفعولين أي أن تسترضعوا المراضع أولادكم فحذف أحد المفعولين يعني غير الأم عند إبائها أو عجزها { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم } إلى المراضع { مَّا ءاتَيْتُم } ما أردتم إيتاءه من الأجرة . أتيتم مكي من أتى إليه إحساناً إذا فعله ومنه قوله { كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [ مريم : 61 ] أي مفعولاً ، والتسليم ندب لا شرط للجواز { بالمعروف } متعلق ب «سلمتم» أي سلمتم الأجرة إلى المراضع بطيب نفس وسرور { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لا تخفى عليه أعمالكم فهو يجازيكم عليها .
{ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } تقول توفيت الشيء واستوفيته إذا أخذته وافياً تاماً أي تستوفى أرواحهم { وَيَذَرُونَ } ويتركون { أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ } أي وزوجات الذين يتوفون منكم يتربصن أي يعتددن ، أو معناه يتربصن بعدهم بأنفسهن فحذف بعدهم للعلم به . وإنما احتيج إلى تقديره لأنه لا بد من عائد يرجع إلى المبتدأ في الجملة التي وقعت خبراً . «يتوفون» : المفضل أي يستوفون آجالهم { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } أي وعشر ليال والأيام داخلة معها ولا يستعمل التذكير فيه ذهاباً إلى الأيام تقول صمت عشراً ولو ذكرت لخرجت من كلامهم { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } فإذا انقضت عدتهن { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أيها الأئمة والحكام { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } من التعرض للخاطب { بالمعروف } بالوجه الذي لا ينكره الشرع { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } عالم بالبواطن .(1/120)
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء } الخطبة الاستنكاح ، والتعريض أن تقول لها إنك لجميلة أو صالحة ومن غرضي أن أتزوج ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ، ولا يصرح بالنكاح فلا يقول إني أريد أن أتزوجك . والفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له ، والتعريض أن تذكر شيئاً تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك : لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ، ولذلك قالوا :
وحسبك بالتسليم مني تقاضيا
فكأنه إمالة الكلام إلى غرض يدل على الغرض { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهن فاذكروهن { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } جماعة لأنه مما يسر أي لا تقولوا في العدة إني قادر على هذا العمل { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا . و«إلا» متعلق ب «لا تواعدوهن» أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح } من عزم الأمر وعزم عليه . وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح لأن العزم على الفعل يتقدمه فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى ، ومعناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح ، أو ولا تقطعوا عقدة النكاح لأن حقيقة العزم القطع ومنه الحديث " لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل " وروي لمن لم يبيت الصيام أي ولا تعزموا على عقدة النكاح { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } حتى تنقضي عدتها . وسميت العدة كتاباً لأنها فرضت بالكتاب يعني حتى يبلغ التربص المكتوب عليها أجله أي غايته { واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ } من العزم على ما لا يجوز { فاحذروه } ولا تعزموا عليه { واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاجلكم بالعقوبة .
ونزل فيمن طلق امرأته ولم يكن سمى لها مهراً ولا جامعها { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } لا تبعة عليكم من إيجاب مهر { إِن طَلَّقْتُمُ النساء } شرط ، ويدل على جوابه «لا جناح عليكم» والتقدير : إن طلقتم النساء فلا جناح عليكم { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } ما لم تجامعوهن ، و«ما» شرطية أي إن لم تمسوهن «تماسوهن» : حمزة وعلي حيث وقع لأن الفعل واقع بين اثنين { أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } إلا أن تفرضوا لهن فريضة أو حتى تفرضوا ، وفرض الفريضة تسمية المهر وذلك أن المطلقة غير الموطوءة لها نصف المسمى إن سمى لها مهر ، وإن لم يسم لها مهر فليس لها نصف مهر المثل بل تجب المتعة ، والدليل على أن الجناح تبعة المهر قوله «وإن طلقتموهن» إلى قوله «فنصف ما فرضتم» فقوله «فنصف ما فرضتم» إثبات للجناح المنفي ثمة { وَمَتِّعُوهُنَّ } معطوف على فعل محذوف تقديره فطلقوهن ومتعوهن .(1/121)
والمتعة درع وملحفة وخمار { عَلَى الموسع } الذي له سعة { قَدَرُهُ } مقداره الذي يطيقه . قدره فيهما : كوفي غير أبي بكر وهما لغتان { وَعَلَى المقتر } الضيق الحال . { قَدَرُهُ } ولا تجب المتعة عندها إلا لهذه وتستحب لسائر المطلقات { متاعا } تأكيد لمتعوهن أي تمتيعاً { بالمعروف } بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة { حَقّاً } صفة ل «متاعاً» أي متاعاً واجباً عليهم أو حق ذلك حقاً { عَلَى المحسنين } على المسلمين ، أو على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع . وسماهم قبل الفعل محسنين كقوله عليه السلام «من قتل قتيلاً فله سلبه» وليس هذا الإحسان هو التبرع بما ليس عليه إذ هذه المتعة واجبة .
ثم بين حكم التي سمى لها مهراً في الطلاق قبل المس فقال { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } «أن» مع الفعل بتأويل المصدر في موضع الحر أي من قبل مسكم إياهن { وَقَدْ فَرَضْتُمْ } في موضع الحال { لَهُنَّ فَرِيضَةً } مهراً { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلاَّ أَن يَعْفُونَ } يريد المطلقات . و «أن» مع الفعل في موضع النصب على الاستثناء كأنه قيل : فعليكم نصف ما فرضتم في جميع الأوقات إلا وقت عفوهن عنكم من المهر . والفرق بين الرجال «يعفون» «والنساء «يعفون» أن الواو في الأول ضميرهم والنون علم الرفع ، والواو في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن ، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل { أَوْ يَعْفُوَاْ } عطف على محله { الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } هو الزوج كذا فسره علي رضي الله عنه وهو قول سعيد ابن جبير وشريح ومجاهد وأبي حنيفة والشافعي على الجديد رضي الله عنهم ، وهذا لأن الطلاق بيده فكان بقاء العقد بيده ، والمعنى أن الواجب شرعاً هو النصف إلا أن تسقط هي الكل أو يعطي هو الكل تفضلاً ، وعند مالك والشافعي في القديم هو الولي . قلنا : هو لا يملك التبرع بحق الصغيرة فكيف يجوز حمله عليه؟ { وَأَن تَعْفُواْ } مبتدأ خبره { أَقْرَبُ للتقوى } والخطاب للأزواج والزوجات على سبيل التغليب ذكره الزجاج أي عفو الزوج بإعطاء كل المهر خير له ، وعفو المرأة بإسقاط كله خير لها أو للأزواج { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل } التفضل { بَيْنِكُمْ } أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم على تفضلكم .(1/122)
{ حافظوا عَلَى الصلوات } داوموا عليها بمواقيتها وأركانها وشرائطها { والصلاة الوسطى } بين الصلوات أي الفضلى من قولهم للأفضل الأوسط . وإنما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل . وهي صلاة العصر عند أبي حنيفة رحمه الله وعليه الجمهور لقوله عليه السلام يوم الأحزاب " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم ناراً " وقال عليه السلام " إنها الصلاة التي شغل عنها سليمان حتى توارت بالحجاب " وفي مصحف حفصة «والصلاة الوسطى صلاة العصر» ولأنها بين صلاتي الليل وصلاتي النهار ، وفضلها لما في وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم . وقيل : صلاة الظهر لأنها في وسط النهار ، أو صلاة الفجر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل ، أو صلاة الغرب لأنها بين الأربع والمثنى ، ولأنها بين صلاتي مخافتة وصلاتي جهر ، أو صلاة العشاء لأنها بين وترين ، أو هي غير معينة كليلة القدر ليحفظوا الكل . { وَقُومُواْ لِلَّهِ } في الصلاة { قانتين } حال أي مطيعين خاشعين أو ذاكرين الله في قيامكم . والقنوت أن تذكر الله قائماً أو مطيلين القيام { فَإِنْ خِفْتُمْ } فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره { فَرِجَالاً } حال أي فصلوا راجلين وهو جمع راجل كقائم وقيام { أَوْ رُكْبَانًا } وحداناً بإيماء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة { فَإِذَا أَمِنتُمْ } فإذا زال خوفكم { فاذكروا الله } فصلوا صلاة الأمن { كَمَا عَلَّمَكُم } أي ذكراً مثل ما علمكم { مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } من صلاة الأمن .
{ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم } بالنصب شامي وأبو عمرو وحمزة وحفص أي فليوصوا وصية عن الزجاج . غيرهم بالرفع أي فعليهم وصيةٌ { متاعا } نصب بالوصية لأنها مصدر أو تقديره متعوهن متاعاً { إِلَى الحول } صفة ل «متاعاً» { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } مصدر مؤكد كقولك «هذا القول غير ما تقول» ، أو بدل من «متاعاً» والمعنى أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً أي ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن ، وكان ذلك مشروعاً في أول الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا } إلى قوله { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } والناسخ متقدم عليه تلاوة ومتأخر نزولاً كقوله تعالى : { سَيَقُولُ السفهاء مِنَ الناس } [ البقرة : 142 ] . مع قوله تعالى : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء } [ البقرة : 144 ] . { فَإِنْ خَرَجْنَ } بعد الحول { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } من التزين والتعرض للخطاب { مِن مَّعْرُوفٍ } مما ليس بمنكر شرعاً { والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ } فيما حكم .(1/123)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
{ وللمطلقات متاع } أي نفقة العدة { بالمعروف حَقّا } نصب على المصدر { عَلَى المتقين * كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } هو في موضع الرفع لأنه خبر «لعل» ، وإن أريد به المتعة فالمراد غير المطلقة المذكورة وهي على سبيل الندب
{ أَلَمْ تَرَ } تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأولين وتعجيب من شأنهم ، ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب { إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم } من قرية قيل : واسط وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم بدعاء حزقيل عليه السلام . وقيل : هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم { وَهُمْ أُلُوفٌ } في موضع النصب على الحال ، وفيه دليل على الألوف الكثيرة لأنها جمع كثرة وهي جمع ألف لا آلف { حَذَرَ الموت } مفعول له { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } أي فأماتهم الله ، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته وتلك ميتة خارجة عن العادة ، وفيه تشجيع للمسلمين على الجهاد ، وأن الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفر فأولى أن يكون في سبيل الله { ثُمَّ أحياهم } ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وفضائه ، وهو معطوف على فعل محذوف تقديره فماتوا ثم أحياهم ، ولما كان معنى قوله «فقال لهم الله موتوا» فأماتهم كان عطفاً عليه معنى { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } حيث يبصرهم ما يعتبرون به كما بصر أولئك وكما بصركم باقتصاص خبرهم ، أو لذو فضل على الناس حيث أحيا أولئك ليعتبروا فيفوزوا ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم النشور { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } ذلك . والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثاً على الجهاد ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل الله وهو قوله .
{ وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله } فحرض على الجهاد بعد الإعلام لأن الفرار من الموت لا يغني ، وهذا الخطاب لأمة محمد عليه السلام أو لمن أحياهم { واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ } يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون { عَلِيمٌ } بما يضمرونه { مِنْ } استفهام في موضع رفع بالابتداء { ذَا } خبره { الذى } نعت ل «ذا» أو بدل منه { يُقْرِضُ الله } صلة الذي سمى ما ينفق في سبيل الله قرضاً لأن القرض ما يقبض ببدل مثله من بعد ، سمى به لأن المقرض يقطعه من ماله فيدفعه إليه . والقرض القطع ومنه المقراض ، وقرض الفأر والانقراض فنبههم بذلك على أنه لا يضيع عنده وأنه يجزيهم عليه لا محالة { قَرْضًا حَسَنًا } بطيبة النفس من المال الطيب ، والمراد النفقة في الجهاد لأنه لما أمر بالقتال في سبيل الله ويحتاج فيه إلى المال حيث على الصدقة ليتهيأ أسباب الجهاد { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } بالنصب : عاصم على جواب الاستفهام .(1/124)
وبالرفع : أبو عمر ونافع وحمزة وعلي عطفاً على «يقرض» ، أو هو مستأنف أي فهو يضاعفه . «فيضعفه» : شامي . «فيضعفه» : مكي . { أَضْعَافًا } في موضع المصدر { كَثِيرَةٍ } لا يعلم كنهها إلا الله . وقيل : الواحد بسبعمائة . { والله يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ } يقتر الرزق على عباده ويوسعه عليهم فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيق بالسعة . و«يبصط» حجازي وعاصم وعلي { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم على ما قدمتم .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ } الأشراف لأنهم يملأون القلوب جلالة والعيون مهابة { مِن بَنِى إسراءيل } «من» للتبعيض { مِن بَعْدِ موسى } من بعد موته و«من» لابتداء الغاية { إِذْ قَالُواْ } حين قالوا { لِنَبِىّ لَّهُمُ } هم شمعون أو يوشع أو اشمويل { ابعث لَنَا مَلِكًا } أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره { نقاتل } بالنون والجزم على الجواب { فِى سَبِيلِ الله } صلة نقاتل { قَالَ } النبي { هَلْ عَسَيْتُمْ } «عسيتم» حيث كان : نافع . { إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال } شرط فاصل بين اسم «عسى» وخبره وهو { أَلاَّ تقاتلوا } والمعنى : هل قاربتم أن لا تقاتلوا يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون وتجبنون ، فأدخل «هل» مستفهماً عما هو متوقع عنده ، وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه { قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل فِى سَبِيلِ الله } وأي داعٍ لنا إلى ترك القتال وأي غرض لنا فيه { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا } الواو في «وقد» للحال وذلك أن قوم جالوت كانوا يسكنون بين مصر وفلسطين فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين يعنون إذا بلغ الأمر منا هذا المبلغ فلا بد من الجهاد { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال } أي أجيبوا إلى ملتمسهم { تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عنه { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } وهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر { والله عَلِيمٌ بالظالمين } وعيد لهم على ظلمهم بترك الجهاد . { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ } هو اسم أعجمي كجالوت وداود ، ومنع من الصرف للتعريف والعجمة { مَلِكًا } حال { قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا } أي كيف ومن أين وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له { وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ } الواو للحال { وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ المال } أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك وأنه فقير لا بد للملك من مال يعتضد به ، وإنما قالوا ذلك لأن النبوة كانت في سبط لاوي بن يعقوب عليه السلام ، والملك في سبط يهوذا وهو كان من سبط بنيامين ، وكان رجلاً سقاء أو دباغاً فقيراً .(1/125)
وروي أن نبيهم دعا الله حين طلبوا منه ملكاً فأتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت { قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ } الطاء في «اصطفاه» بدل من التاء لمكان الصاد الساكنة أي اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم ولا اعتراض على حكمه . ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العلم المبسوط والجسامة فقال { وَزَادَهُ بَسْطَةً } مفعول ثانٍ { فِي العلم والجسم } قالوا : كان أعلم بني إسرائيل بالحرب والديانات في وقته ، وأطول من كل إنسان برأسه ومنكبه . والبسطة السعة والامتداد ، والملك لا بد أن يكون من أهل العلم فإن الجاهل ذليل مزدري غير منتفع به ، وأن يكون جسيماً لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب . { والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء } أي الملك له غير منازع فيه وهو يؤتيه من يشاء إيتاءه وليس ذلك بالوراثة { والله واسع } أي واسع الفضل والعطاء على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر { عَلِيمٌ } بمن يصطفيه للملك فثمة طلبوا من نبيهم آية على اصطفاء الله طالوت .
{ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } أي صندوق التوراة ، وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون . { فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ } سكون وطمأنينة { وَبَقِيَّةٌ } هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة ونعلا موسى وعمامة هارون عليهما السلام { مّمَّا تَرَكَ ءالُ موسى وَءالُ هارون } أي مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما { تَحْمِلُهُ الملائكة } يعني التابوت وكان رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه ، والجملة في موضع الحال وكذا «فيه سكينة» . «ومن ربكم» نعت ل «سكينة» و«مما ترك» نعت ل «بقية» { إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله قد ملك طالوت عليكم إن كنتم مصدقين .
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ } خرج { بالجنود } عن بلده إلى جهاد العدو و«بالجنود» في موضع الحال أي مختلطاً بالجنود وهم ثمانون ألفاً ، وكان الوقت قيظاً وسألوا أن يجري الله لهم نهراً { قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم } مختبركم أي يعاملكم معاملة المختبر { بِنَهَرٍ } وهو نهر فلسطين ليتميز المحقق في الجهاد من المعذر { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ } كرعاً { فَلَيْسَ مِنّي } فليس من أتباعي وأشياعي { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه { فَإِنَّهُ مِنّى } وبفتح الياء : مدني وأبو عمرو .(1/126)
واستثنى { إِلا مَنِ اغترف } من قوله «فمن شرب منه فليس مني» والجملة الثانية في حكم المتأخرة عن الاستثناء إلا أنها قدمت للعناية { غُرْفَةً بِيَدِهِ } «غرفة» : حجازي وأبو عمرو بمعنى المصدر ، وبالضم بمعنى المغروف ومعناه الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكرع ، والدليل عليه { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } أي فكرعوا { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } وهم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً { فَلَمَّا جَاوَزَهُ } أي النهر { هُوَ } طالوت { والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } أي القليل { قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم } أي لا قوة لنا { بِجَالُوتَ } هو جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد وكان في بيضته ثلثمائة رطل من الحديد { وَجُنودِهِ قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله } يوقنون بالشهادة . قيل : الضمير في «قالوا» للكثير الذين انخذلوا والذين يظنون هم القليل الذين ثبتوا معه . وروي أن الغرفة كانت تكفي الرجل لشربه وإداوته والذين شربوا منه اسودت شفاههم وغلبهم العطش { كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ } «كم» خبرية وموضعها رفع بالابتداء { غَلبَت } خبرها { فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله } بنصره { والله مَعَ الصابرين } بالنصر .
{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } خرجوا لقتالهم { قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ } أصبب { عَلَيْنَا صَبْرًا } على القتال { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } بتقوية قلوبنا وإلقاء الرعب في صدور عدونا { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } أعنا عليهم { فَهَزَمُوهُم } أي طالوت والمؤمنون جالوت وجنوده { بِإِذُنِ الله } بقضائه { وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ } كان بيشا أو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم ، فأوحى الله إلى نبيهم أن داود هو الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد مر في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله وقالت له : إنك تقتل بنا جالوت فحملها في مخلاته ورمى بها جالوت فقتله وزوجه طالوت بنته ، ثم حسده وأراد قتله ثم مات تائباً { وآتاه الله الملك } في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها ، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قط قبل داود { والحكمة } والنبوة { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء } من صنعة الدروع وكلام الطيور والدواب وغير ذلك . { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس } هو مفعول به { بَعْضُهُمْ } بدل من «الناس» «دفاع» : مدني مصدر دفع أو دافع { بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } أي ولولا أن الله تعالى يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها من الحرث والنسل ، أو ولولا أن الله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرض بغلبة الكفار وقتل الأبرار وتخريب البلاد وتعذيب العباد { ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين } بإزالة الفساد عنهم وهو دليل على المعتزلة في مسألة الأصلح { تِلْكَ } مبتدأ خبره { آيَاتُ الله } يعني القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره على الجبابرة على يد صبي { نَتْلُوهَا } حال من آيات الله ، والعامل فيه معنى الإشارة ، أو آيات الله بدل من «تلك» «ونتلوها» الخبر . { عَلَيْكَ بالحق } باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب أو سماع من أهله .(1/127)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
{ تِلْكَ الرسل } إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في هذه السورة من آدم إلى داود أو التي ثبت علمها عند رسول الله عليه السلام { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } بالخصائص وراء الرسالة لاستوائهم فيها كالمؤمنين يستوون في صفة الإيمان ويتفاوتون في الطاعات بعد الإيمان . ثم بين ذلك بقوله { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } أي كلمه الله حذف العائد من الصلة يعني منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ } مفعول أول { درجات } مفعول ثانٍ أي بدرجات أو إلى درجات يعني ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو المفضل عليهم بإرساله إلى الكافة ، وبأنه أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف أو أكثر ، وأكبرها القرآن لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر . وفي هذا الإبهام تفخيم وبيان أنه العلم الذي لا يشتبه على أحد ، والمتميز الذي لا يلتبس . وقيل : أريد به محمد وإبراهيم وغيرهما من أولي العزم من الرسل { وَءَاتَيْنَا عِسَى ابن مَرْيَمَ البينات } كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وغير ذلك { وأيدناه بِرُوحِ القدس } قويناه بجبريل أو بالإنجيل { وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتل } أي ما اختلف لأنه سببه { الذين مِن بَعْدِهِم } من بعد الرسل { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات } المعجزات الظاهرات { ولكن اختلفوا } بمشيئتي . ثم بين الاختلاف فقال { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } بمشيئتي . يقول الله أجريت أمور رسلي على هذا ، أي لم يجتمع لأحد منهم طاعة جميع أمته في حياته ولا بعد وفاته بل اختلفوا عليه فمنهم من آمن ومنهم من كفر { وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتلوا } كرره للتأكيد أي لو شئت أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا إذ لا يجري في ملكي إلا ما يوافق مشيئتي ، وهذا يبطل قول المعتزلة لأنه أخبر أنه لو شاء أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا وهم يقولون شاء أن لا يقتتلوا فاقتتلوا { ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } أثبت الإرادة لنفسه كما هو مذهب أهل السنة . { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم } في الجهاد في سبيل الله ، أو هو عام في كل صدقة واجبة { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } أي من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه { وَلاَ خُلَّةٌ } حتى يسامحكم أخلاؤكم به { وَلاَ شفاعة } أي للكافرين ، فأما المؤمنون فلهم شفاعة أو إلا بإذنه { والكافرون هُمُ الظالمون } أنفسهم بتركهم التقديم ليوم حاجاتهم ، أو الكافرون بهذا اليوم هم الظالمون .(1/128)
«لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة» : مكي وبصري { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } «لا» مع اسمه وخبره وما أبدل من موضعه في موضع الرفع خبر المبتدأ وهو «الله» { الحى } الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء { القيوم } الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } نعاس وهو ما يتقدم النوم من الفتور { وَلاَ نَوْمٌ } عن المفضل : السنة ثقل في الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب وهو تأكيد للقيوم ، لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً ، وقد أوحى إلى موسى عليه السلام : قل لهؤلاء إني أمسك السموات والأرض بقدرتي فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا . { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } ملكاً وملكاً { مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ليس لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه وهو بيان لملكوته وكبريائه ، وأن أحداً لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام ، وفيه رد لزعم الكفار أن الأصنام تشفع لهم { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ما كان قبلهم وما يكون بعدهم والضمير لما في السماوات والأرض لأن فيهم العقلاء { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ } من معلومه يقال في الدعاء «اللهم اغفر علمك فينا» أي معلومك { إِلاَّ بِمَا شَاءَ } إلا بما علم { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والأرض } أي علمه ومنه الكراسة لتضمنها العلم والكراسي العلماء ، وسمي العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم وهو كقوله تعالى : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً } [ غافر : 7 ] أو ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك أو عرشه كذا عن الحسن ، أو هو سرير دون العرش في الحديث " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بفلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة " أو قدرته بدليل قوله { وَلاَ يَئُودُهُ } ولا يثقله ولا يشق عليه { حِفْظُهُمَا } حفظ السموات والأرض { وَهُوَ العلى } في ملكه وسلطانه { العظيم } في عزه وجلاله أو العلي المتعالي عن الصفات التي لا تليق به العظيم ، المتصف بالصفات التي تليق به ، فهما جامعان لكمال التوحيد . وإنما ترتبت الجمل في آية الكرسي بلا حرف عطف لأنها وردت على سبيل البيان؛ فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه ، والثانية لكونه مالكاً لما يدبره ، والثالثة لكبرياء شأنه ، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق ، والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظم قدره . وإنما فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد ، منه ما روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم(1/129)
" من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله " وقال عليه السلام " سيد البشر آدم ، وسيد العرب محمد ولا فخر ، وسيد الفرس سلمان ، وسيد الروم صهيب ، وسيد الحبشة بلال ، وسيد الجبال الطور ، وسيد الأيام يوم الجمعة ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي " وقال " ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة " وقال " من قرأ آية الكرسي عند منامه بعث إليه ملك يحرسه حتى يصبح " وقال " من قرأ هاتين الآيتين حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح ، وإن قرأهما حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي : آية الكرسي وأول «حم المؤمن» إلى { إِلَيْهِ المصير } " لاشتمالهما على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ، ولا مذكور أعظم من رب العزة فما كان ذاكراً له كان أفضل من سائر الأذكار وبه يعلم أن أشرف العلوم علم التوحيد .
{ لا إِكْرَاهَ فِى الدين } أي لا إجبار على الدين الحق وهو دين الإسلام . وقيل : هو إخبار في معنى ، النهي ، ورُوي أنه كان لأنصاري ابنان فتنصرا فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما ، فأبيا فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي في النار وأنا أنظر؟ فنزلت فخلاهما . قال ابن مسعود وجماعة : كان هذا في الابتداء ثم نسخ بالأمر بالقتال { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت } بالشيطان أو الأصنام { وَيُؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك } تمسك { بالعروة } أي المعتصم والمتعلق { الوثقى } تأنيث الأوثق أي الأشد من الحبل الوثيق المحكم المأمون { لاَ انفصام لَهَا } لا انقطاع للعروة ، وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده ، والمعنى فقد عقد لنفسه من الدين عقداً وثيقاً لا تحله شبهة { والله سَمِيعٌ } لإقراره { عَلِيمٌ } باعتقاده .
{ الله وَلِيُّ الذين ءَامَنُواْ } أرادوا أن يؤمنوا أي ناصرهم ومتولي أمورهم { يُخْرِجُهُم مِّنَ الظلمات } من ظلمات الكفر والضلالة وجمعت لاختلافها { إِلَى النور } إلى الإيمان والهداية ووحد لاتحاد الإيمان { والذين كَفَرُواْ } مبتدأ والجملة وهي { أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } خبره { يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات } وجمع لأن الطاغوت في معنى الجمع يعني والذين صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك ، أو الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبهة في الدين إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين ، والذين كفروا أولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور البينات الذي يظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة { أولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } . ثم عجب نبيه عليه السلام وسلاه بمجادلة إبراهيم عليه السلام نمرود الذي كان يدعي الربوبية بقوله .(1/130)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ } في معارضته ربوبية ربه . والهاء في «ربه» يرجع إلى إبراهيم أو إلى الذي حاج فهو ربهما { أَنْ آتاه الله الملك }
لأنّ آتاه الله يعني أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر فحاج لذلك ، وهو دليل على المعتزلة في الأصلح أوحاج وقت أن أتاه الله الملك { إِذْ قَالَ } نصب ب «حاج» أو بدل من «أن آتاه» إذا جعل بمعنى الوقت { إبراهيم رَبّيَ } «رب» : حمزة { الذى يُحِْيى وَيُمِيتُ } كأنه قال له : من ربك؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت { قَالَ } نمرود { أَنَاْ أُحْيِى وَأُمِيتُ } يريد أعفو عن القتل وأقتل فانقطع اللعين بهذا عند المخاصمة فزاد إبراهيم عليه السلام ما لا يتأتى فيه التلبيس على الضعفة حيث { قَالَ إبراهيم } عليه السلام { فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } وهذا ليس بانتقال من حجة إلى حجة كما زعم البعض لأن الحجة الأولى كانت لازمة ، ولكن لما عاند اللعين حجة الإحياء بتخلية واحد وقتل آخر ، كلمه من وجه لا يعاند ، وكانوا أهل تنجيم ، وحركة الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة لهم ، والحركة الشرقية المحسوسة لنا قسرية كتحريك الماء النمل على الرحى إلى غير جهة حركة النمل فقال : إن ربي يحرك الشمس قسراً على غير حركتها ، فإن كنت رباً فحركها بحركتها فهو أهون { فَبُهِتَ الذى كَفَرَ } تحير ودهش { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } أي لا يوفقهم وقالوا : إنما لم يقل نمرود فليأت ربك بالشمس من المغرب لأن الله تعالى صرفه عنه . وقيل : إنه كان يدعي الربوبية لنفسه وما كان يعترف بالربوبية لغيره . ومعنى قوله «أنا أحيي وأميت» أن الذي ينسب إليه الإحياء والإماتة أنا لا غيري ، والآية تدل على إباحة التكلم في علم الكلام والمناظرة فيه لأنه قال : «ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم في ربه» . والمحاجة تكون بين اثنين فدل على أن إبراهيم حاجه أيضاً ، ولو لم يكن مباحاً لما باشرها إبراهيم عليه السلام لكون الأنبياء عليهم السلام معصومين عن ارتكاب الحرام ، ولأنا أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإيمان بالله وتوحيده وإذا دعوناهم إلى ذلك لا بد أن يطلبوا منا الدليل على ذلك ، وذا لا يكون إلا بعد المنظارة كذا في شرح التأويلات .
{ أَوْ كالذى مَرَّ } معناه أو أرأيت مثل الذي فحذف لدلالة «لم تر» عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب ، أو هو محمول على المعنى دون اللفظ تقديره : أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر . وقال صاحب الكشف : فيه الكاف زائدة و«الذي» عطف على قوله «إلى الذي حاج» عن الحسن أن المار كان كافراً بالبعث لانتظامه مع نمرود في سلك ولكلمة الاستبعاد التي هي «أنى يحيي» والأكثر أنه عزير أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام و«أنى يحيي» اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياة واستعظام لقدرة المحيي { على قَرْيَةٍ } هي بيت المقدس حين خربه بختنصر وهي التي خرج منها الألوف { وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } ساقطة مع سقوفها أو سقطت السقوف ثم سقطت عليها الحيطان وكل مرتفع عرش { قَالَ أنى يُحْىِ } أي كيف { هذه } أي أهل هذه { الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } أي أحياه { قَالَ } له ملك { كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } بناء على الظن ، وفيه دليل جواز الاجتهاد روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس فقال قبل النظر إلى الشمس «يوماً» ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال «أو بعض يوم» { قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ } روي أن طعامه كان تيناً وعنباً وشرابه عصيراً ولبناً فوجد التين والعنب كما جنيا والشراب على حاله { لَمْ يَتَسَنَّهْ } لم يتغير والهاء أصلية أو هاء سكت واشتقاقه من السنة على الوجهين ، لأن لامها هاء لأن الأصل سنهة والفعل سانهت .(1/131)
يقال سانهت فلاناً أي عاملته سنة أو واو لأن الأصل سنوة والفعل سانيت ومعناه لم تغيره السنون . «لم يتسن» بحذف الهاء في الوصل وبإثباتها في الوقف : حمزة وعلي { وانظر إلى حِمَارِكَ } كيف تفرقت عظامه ونخرت وكان له حمار قد ربطه فمات وتفتتت عظامه ، أو وانظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الآيات أن يعيش مائة عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير { وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ } فعلنا ذلك يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه . وقيل : الواو عطف على محذوف أي لتعتبر ولنجعلك . قيل : أتى قومه راكباً حماراً وقال : أنا عزير فكذبوه فقال : هاتوا التوراة فأخذ يقرؤها عن ظهر قلبه ولم يقرأ التوراة ظاهر أحد قبل عزير فذلك كونه آية . وقيل : رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخاً وهو شاب { وانظر إِلَى العظام } أي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم { كَيْفَ نُنشِزُهَا } نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب . «ننشرها» بالراء : حجازي وبصري نحييها «ثمّ نكسوها» أي العظام «لحماً» جعل اللحم كاللباس مجازاً «فلمّا تبيّن له» فاعله مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير { قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقولهم «ضربني وضربت زيداً» ويجوز فلما تبين له ما أشكل عليه يعني أمر إحياء الموتى .(1/132)
«قال اعلم» على لفظ الأمر : حمزة وعلي أي قال الله له اعلم أو هو خاطب نفسه .
{ وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ أَرِنِى } بصرني { كَيْفَ تُحْىِ الموتى } موضع «كيف» نصب ب « تحيي» { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } وإنما قال له «أو لم تؤمن» وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين . و«بلى» إيجاب لما بعد النفي معناه بلى آمنت ولكن لأزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال ، وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة فعلم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف الضروري . واللام تتعلق بمحذوف تقديره ولكن سألت ذلك أراد طمأنينة القلب { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير } طاوساً وديكاً وغراباً وحمامة { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } وبكسر الصاد : حمزة أي أملهن واضممهن إليك { ثُمَّ اجعل على كُلِ ّجَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا } ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك وفي أرضك وكانت أربعة أجبل أو سبعة . «جزأ» بضمتين وهمز : أبو بكر { ثُمَّ ادعهن } قل لهن تعالين بإذن الله { يَأْتِينَكَ سَعْيًا } مصدر في موضع الحال أي ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن . وإنما أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئآتها وحلاّها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ، وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال عل كل جبل ربعاً من كل طائر ، ثم يصيح بها تعالين بإذن الله تعالى فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثاً ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها { واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ } لا يمتنع عليه ما يريده { حَكِيمٌ } فيما يدبر لا يفعل إلا ما فيه الحكمة ، ولما برهن على قدرته على الإحياء حث على الإنفاق في سبيل الله ، وأعلم أن من أنفق في سبيله فله في نفقته أجر عظيم وهو قادر عليه فقال :
{ مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله } لا بد من حذف مضاف أي مثل نفقتهم { كَمَثَلِ حَبَّةٍ } أو مثلهم كمثل باذر حبة { أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ } المنبت هو الله ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء . ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقاً يتشعب منه سبع شعب لكل واحد سنبلة ، وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر والممثل به موجود في الدخن والذرة وربما فرخت ساق البرة في الأرض القوية المغلة فيبلغ حبها هذا المبلغ ، على أن التمثيل يصح وإن لم يوجد على سبيل الفرض ، والتقدير ووضع سنابل موضع سنبلات كوضع قروء موضع أقراء { والله يضاعف لِمَن يَشَاء } أي يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين ، أو يزيد على سبعمائة لمن يشاء .(1/133)
«يضعّف» : شامي و«يضعّف» : مكي { والله واسع } واسع الفضل والجود { عَلِيمٌ } بنيات المنفقين . { الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِى سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا } هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأوجب عليه حقاً له وكانوا يقولون إذا صنعتم صنيعة فانسوها { وَلا أَذًى } هو أن يتطاول عليه بسبب ما أعطاه . ومعنى «ثم» إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى وأن تركهما خير من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله { ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } أي ثواب إنفاقهم { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من بخس الأجر { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } من فوته ، أو لا خوف من العذاب ولا حزن بفوت الثواب . وإنما قال هنا : «لهم أجرهم» وفيما بعد «فلهم أجرهم» لأن الموصول هنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة .
{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } رد جميل { وَمَغْفِرَةٌ } وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول ، أو ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل { خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى } وصح الإخبار عن المبتدأ النكرة لاختصاصه بالصفة { والله غَنِىٌّ } لا حاجة له إلى منفق يمن ويؤذي { حَلِيمٌ } عن معاجلته بالعقوبة وهذا وعيد له .
ثم أكد ذلك بقوله { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى كالذى } الكاف نصب صفة مصدر محذوف والتقدير إبطالاً مثل إبطال الذي { يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر } أي لا تبطلوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال المنافق الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يريد بإنفاقه رضا الله ولا ثواب الآخرة ، ورئاء مفعول له { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } مثّله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بحجر أملس عليه تراب { فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } مطر عظيم القطر { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه { لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مّمَّا كَسَبُواْ } لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا ، أو الكاف في محل النصب على الحال أي لا تطلبوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق . وإنما قال «لا يقدرون» بعد قوله «كالذي ينفق» لأنه أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } ما داموا مختارين الكفر .
{ وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ } أي وتصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم ، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه .(1/134)
و«من» لابتداء الغاية وهو معطوف على المفعول له أي للإبتغاء والتثبيت ، والمعنى ومثل نفقة هؤلاء في زكاتها عند الله { كَمَثَلِ جَنَّةٍ } بستان { بِرَبْوَةٍ } مكان مرتفع ، وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً «بربوة» : عاصم وشامي { أَصَابَهَا وَابِلٌ فَئَاتَتْ أُكُلُهَا } ثمرتها «أكلها» : نافع ومكي وأبو عمرو { ضِعْفَيْنِ } مثلي ما كانت تثمر قبل بسبب الوابل { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها ، أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل ، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها رضا الله تعالى زاكية عند الله زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يرى أعمالكم على إكثار وإقلال ويعلم نياتكم فيهما من رياء وإخلاص . الهمزة في { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ } للإنكار { أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } بستان { مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ } لصاحب البستان { فِيهَا } في الجنة { مِن كُلّ الثمرات } يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها ، أو أن النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع خصهما بالذكر وجعل الجنة منهما وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما ثم أردفهما ذكر كل الثمرات . { وَأَصَابَهُ الكبر } الواو للحال ومعناه أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر ، والواو في { وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء } أولاد صغار للحال أيضاً ، والجملة في موضع الحال من الهاء في «أصابه» { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } ريح تستدير في الأرض ثم تستطع نحو السماء كالعمود { فِيهِ } في الإعصار وارتفع { نَّارٌ } بالظرف إذ جرى الظرف وصفاً لإعصار { فاحترقت } الجنة ، وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة رياء فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة جامعة للثمار فبلغ الكبر وله أولاد ضعاف والجنة معاشهم فهلكت بالصاعقة { كذلك } كهذا البيان الذي بين فيما تقدم { يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات } في التوحيد والدين { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } فتنتبهوا .
{ تَتَفَكَّرُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ } من جياد مكسوباتكم ، وفيه دليل وجوب الزكاة في أموال التجارة { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرض } من الحب والثمر والمعادن وغيرها والتقدير : ومن طيبات ما أخرجنا لكم إلا أنه حذف لذكر الطيبات { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } ولا تقصدوا المال الرديء { مِنْهُ تُنفِقُونَ } تخصونه بالإنفاق وهو في محل الحال أي ولا تيمموا الخبيث منفقين أي مقدرين النفقة { وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ } وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم { إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولك «أغمض فلان عن بعض حقه» إذا غض بصره ، ويقال للبائع «أغمض» أي لا تستقص كأنك لا تبصر .(1/135)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه . { واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ } عن صدقاتكم { حَمِيدٌ } مستحق للحمد أو محمود .
{ الشيطان يَعِدُكُمُ } في الإنفاق { الفقر } ويقول لكم إن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا ، والوعد يستعمل في الخير والشر { وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء } ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل { والله يَعِدُكُم } في الإنفاق { مَّغْفِرَةً مّنْهُ } لذنوبكم وكفارة لها { وَفَضْلاً } وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم ، أو وثواباً عليه في الآخرة { والله واسع } يوسع على من يشاء { عَلِيمٌ } بأفعالكم ونياتكم . { يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء } علم القرآن والسنة ، أو العلم النافع الموصل إلى رضا الله والعمل به ، والحكيم عند الله هو العالم العامل { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ } «ومن يؤت» : يعقوب أي ومن يؤته الله الحكمة { فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } تنكير تعظيم أي أوتي خيراً أيّ خير كثير . { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } وما يتعظ بمواعظ الله إلا ذوو العقول السليمة أو العلماء العمال ، والمراد به الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق . { وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ } في سبيل الله أو في سبيل الشيطان { أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ } في طاعة الله أو في معصيته { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه { وَمَا للظالمين } الذين يمنعون الصدقات أو ينفقون أموالهم في المعاصي أو ينذرون في المعاصي أو لا يفون بالنذور { مِنْ أَنصَارٍ } ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه . { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ } فنعم شيئاً إبداؤها و «ما» نكرة غير موصولة ولا موصوفة ، والمخصوص بالمدح «هي» . فنعما «هي» بكسر النون وإسكان العين : أبوعمرو ومدني غير ورش . وبفتح النون وكسر العين : شامي وحمزة وعلي . وبكسر النون والعين : غيرهم . { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء } وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } فالإخفاء خير لكم . قالوا : المراد صدقات التطوع والجهر في الفرائض أفضل لنفي التهمة حتى إذا كان المزكي ممن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل ، والمتطوع إن أراد أن يقتدي به كان إظهاره أفضل . { وَيُكَفّرْ } بالنون وجزم الراء : مدني وحمزة وعلي . بالياء ورفع الراء : شامي وحفص . وبالنون والرفع : غيرهم . فمن جزم فقد عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط ، ومن رفع فعلى الاستئناف والياء على معنى يكفر الله . { عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ } والنون على معنى نحن نكفر { والله بِمَا تَعْمَلُونَ } من الإبداء والإخفاء { خَبِيرٌ } عالم .(1/136)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك ، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب { ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } أو ليس عليك التوفيق على الهدى أو خلق الهدى وإنما ذلك إلى الله { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } من مال { فَلأَِنفُسِكُمْ } فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم { وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله } وليست نفقتكم إلا ابتغاء وجه الله أي رضا الله ولطلب ما عنده فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله ، أو هذا نفي معناه النهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } ثوابه أضعافاً مضاعفة فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } ولا تنقصون كقوله : { وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا } [ الكهف : 33 ] . أي لم تنقص .
الجار في { لِلْفُقَرَاء } متعلق بمحذوف أي اعمدوا للفقراء ، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذه الصدقات للفقراء { الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } هم الذين أحصرهم الجهاد فمنعهم من التصرف { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } لاشتغالهم به { ضَرْبًا فِى الأرض } للكسب . وقيل : هم أصحاب الصفة وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم تكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر ، فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار ، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى . { يَحْسَبُهُمُ الجاهل } بحالهم . «يحسبهم» وبابه : شامي ويزيد وحمزة وعاصم غير الأعشى وهبيرة . والباقون بكسر السين . { أَغْنِيَاء مِنَ التعفف } مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة { تَعْرِفُهُم بسيماهم } من صفرة الوجوه ورثاثة الحال { لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافًا } إلحاحاً . قيل : هو نفي السؤال والإلحاح جميعاً كقوله :
على لا حب لا يهتدي بمناره
يريد نفي المنار والاهتداء به . والإلحاح هو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه وفي الحديث " «إن الله يحب الحي الحليم المتعفف ويبغض البذي السآل الملحف " وقيل : معناه أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } لا يضيع عنده .
{ الذين يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار سِرّا وَعَلاَنِيَةً } هما حالان أي مسرين ومعلنين يعني يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير ، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال .(1/137)
وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار : عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية . أو في علي رضي الله عنه لم يملك إلا أربعة دراهم ، تصدق بدرهم ليلاً ، وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سراً ، وبدرهم علانية . { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الذين يَأْكُلُونَ الربا } هو فضل مال خال عن العوض في معاوضة مال بمال . وكتب «الربوا» بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكواة ، وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع . { لاَ يَقُومُونَ } إذا بعثوا من قبورهم { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان } أي المصروع لأنه تخبط في المعاملة فجوزي على المقابلة . والخبط : الضرب على غير استواء كخبط العشواء { مِنَ المس } من الجنون وهو يتعلق ب «لا يقومون» أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع ، أو ب «يقوم» أي كما يقوم المصروع من جنونه ، والمعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف . وقيل : الذين يخرجون من الأجداث يوفضون إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين ، لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض { ذلك } العقاب { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } ولم يقل «إنما الربا مثل البيع» مع أن الكلام في الربا لا في البيع ، لأنه جيء به على طريقة المبالغة وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل حتى شبهوا به البيع . { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } إنكار لتسويتهم بينهما إذ الحل مع الحرمة ضدان فأنى يتماثلان ودلالة على أن القياس يهدمه النص لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ } فمن بلغه وعظ من الله وزجر بالنهي عن الربا { فانتهى } فتبع النهي وامتنع { فَلَهُ مَا سَلَفَ } فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه أخذ قبل نزول التحريم { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } يحكم في شأنه يوم القيامة وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به { وَمَنْ عَادَ } إلى استحلال الربا عن الزجاج أو إلى الربا مستحلاً { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } لأنهم بالاستحلال صاروا كافرين لأن من أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر فلذا استحق الخلود ، وبهذا تبين أنه لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق .
{ يَمْحَقُ الله الربا } يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه { وَيُرْبِى الصدقات } ينميها ويزيدها أي يزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه ، وفي الحديث ما نقصت زكاة من مال قط .(1/138)
{ والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ } عظيم الكفر باستحلال الربا { أَثِيمٍ } متمادٍ في الإثم بأكله . { إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } قيل : المراد به الذين آمنوا بتحريم الربا { يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا } أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها . روي أنها نزلت في ثقيف . وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } كاملي الإيمان فإن دليل كماله امتثال المأمور به . { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } فاعلموا بها من أذن بالشيء إذا علم ، يؤيده قراءة الحسن فأيقنوا . «فآذنوا» : حمزة وأبو بكر غير ابن غالب . فأعلموا بها غيركم ولم يقل بحرب الله ورسوله لأن هذا أبلغ ، لأن المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله . وروي أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله { وَإِن تُبتُمْ } من الارتباء { فَلَكُمْ رُءُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ } المديونين بطلب الزيادة عليها { وَلاَ تُظْلَمُونَ } بالنقصان منها .
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ذو إعسار { فَنَظِرَةٌ } فالحكم أوفى لأمر نظرة أي إنظار { إلى مَيْسَرَةٍ } يسار . «ميسرة» : نافع وهما لغتان { وَأَن تَصَدَّقُواْ } بالتخفيف : عاصم ، أي تتصدقوا برؤوس أموالكم أو ببعضها على من أعسر من غرمائكم . وبالتشديد : غيره . فالتخفيف على حذف إحدى التاءين ، والتشديد على الإدغام { خَيْرٌ لَّكُمْ } في القيامة ، وقيل : أريد بالتصديق الإنظار لقوله عليه السلام " لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة " { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه خير لكم فتعملوا به جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه . { واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } «ترجعون» : أبو عمرو فرجع لازم ومتعدٍ . قيل : هي آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً أو أحداً وثمانين أو سبعة أيام أو ثلاث ساعات { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي جزاء ما كسبت { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بنقصان الحسنات وزيادة السيئات .
{ يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } أي إذا داين بعضكم بعضاً . يقال داينت الرجل إذا عاملته بدين معطياً أو آخذاً { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } مدة معلومة كالحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج ، وإنما احتيج إلى ذكر الدين ولم يقل إذا تداينتم إلى أجل مسمى ليرجع الضمير إليه في قوله { فاكتبوه } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن ، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال .(1/139)
وإنما أمر بكتابة الدين لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود ، والمعنى إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه والأمر للندب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد به السلم وقال : لما حرم الله الربا أباح السلف . وعنه : أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه أطول آية ، وفيه دليل على اشتراط الأجل في السلم { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم } بين المتداينين { كَاتِبٌ بالعدل } هو متعلق ب «كاتب» صفة له أي كاتب مأمون على ما يكتب يكتب بالاحتياط لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص ، وفيه دليل على أن يكون الكاتب فقيهاً عالماً بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلاً بالشرع ، وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب وأن لا يستكتبوا إلا فقيهاً ديناً حتى يكتب ما هو متفق عليه { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } ولا يمتنع واحد من الكتاب { أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله } مثل ما علمه الله كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير وكما متعلق بأن يكتب { فَلْيَكْتُبْ } تلك الكتابة لا يعدل عنها { وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق } ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به فيكون ذلك إقراراً على نفسه بلسانه . والإملال والإملاء لغتان { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } وليتق الله الذي عليه الدين ربه فلا يمتنع عن الإملاء فيكون جحوداً لكل حقه { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئاً في الإملاء فيكون جحوداً لبعض حقه { فَإن كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا } أي مجنوناً لأن السفه خفة في العقل أو محجوراً عليه لتبذيره وجهله بالتصرف { أَوْ ضَعِيفًا } صبياً { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } لعي به أو خرس أو جهل باللغة { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } الذي يلي أمره ويقوم به { بالعدل } بالصدق والحق { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ } واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين { مِّن رِّجَالِكُمْ } من رجال المؤمنين . والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام وشهادة الكفار بعضهم على بعض مقبولة عندنا { فَإِن لَّمْ يَكُونَا } فإن لم يكن الشهيدان { رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } فليشهد رجل وامرأتان وشهادة الرجال مع النساء تقبل فيما عدا الحدود والقصاص { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء } ممن تعرفون عدالتهم ، وفيه دليل على أن غير المرضي شاهد { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } لأجل أن تنسى إحداهما الشهادة فتذكرها الأخرى { إن تضل إحداهما } على الشرط «فتذكر» بالرفع والتشديد : حمزة كقوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] . «فَتُذْكِر» بالنصب : مكي وبصري من الذّكرُ لا من الذَّكر { وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ } لأداء الشهادة أو للتحمل لئلا تتوى حقوقهم ، وسماهم شهداء قبل التحمل تنزيلاً لما يشارف منزلة الكائن ، فالأوّل للفرض والثاني للندب { وَلاَ تَسْئَمُواْ } ولا تملوا قال الشاعر :(1/140)
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبالك يسأم
والضمير في { أَن تَكْتُبُوهُ } للدين أو الحق { صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا } على أي حال كان الحق من صغر أو كبر ، وفيه دلالة جواز السلم في الثياب لأن ما يكال أو يوزن لا يقال فيه الصغير والكبير وإنما يقال في الذرعي ، ويجوز أن يكون الضمير للكتاب وأن تكتبوه مختصراً أو مشبعاً أو { إِلَى أَجَلِهِ } إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته { ذلكم } إشارة إلى أن تكتبوه لأنه في معنى المصدر أي ذلك الكتب { أَقْسَطُ } أعدل من القسط وهو العدل { عَندَ الله } ظرف لأقسط { وَأَقْوَمُ للشهادة } وأعون على إقامة الشهادة وبنى أفعلا التفضيل أي «أقسط» و «أقوم» من أقسط وأقام مذهب سيبويه { وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ } وأقرب من انتفاء الريب للشاهد والحاكم وصاحب الحق فإنه قد يقع الشك في المقدار والصفات وإذا رجعوا إلى المكتوب زال ذلك ، وألف «أدنى» منقلبة من واو لأنه من الدنو { إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً } عاصم أي إلا أن تكون التجارة تجارة أو إلا أن تكون المعاملة تجارة حاضرة غيره تجارة حاضرة على «كان» التامة أي إلا أن تقع تجارة حاضرة ، أو هي ناقصة والاسم تجارة حاضرة والخبر { تُدِيرُونَهَا } وقوله { بَيْنِكُمْ } ظرف ل «تديرونها» ومعنى إدارتها بينهم تعاطيها يداً بيد { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } يعني إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد فلا بأس أن لا تكتبوها لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ناجزاً أو كالئاً لأنه أحوط وأبعد من وقوع الاختلاف ، أو أريد به وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعني التجارة الحاضرة على أن الإشهاد كافٍ فيه دون الكتابة والأمر للندب { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يحتمل البناء للفاعل لقراءة عمر رضي الله عنه «ولا يضارر» وللمفعول لقراءة ابن عباس رضي الله عنهما «ولا يضارر» والمعنى نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما ، وعن التحريف والزيادة والنقصان ، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم ويلزّا ، أولاً يعطي الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد { وَإِن تَفْعَلُواْ } وإن تضاروا { فَإِنَّهُ } فإن الضرار { فُسُوقٌ بِكُمْ } مأثم { واتقوا الله } في مخالفة أوامره { وَيُعَلّمُكُمُ الله } شرائع دينه { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } لا يلحقه سهو ولا قصور .(1/141)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
{ وَإِن كُنتُمْ } أيها المتداينون { على سَفَرٍ } مسافرين { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان } «فرهان» : مكي وأبو عمرو أي فالذي يستوثق به رهن وكلاهما جمع رهن كسقف وسقف وبغل وبغال ، ورهن في الأصل مصدر سمي به ثم كسر تكسير الأسماء . ولما كان السفر مظنة لأعواز الكتب والإشهاد ، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد لا أن السفر شرط تجويز الارتهان . وقوله { مَّقْبُوضَةٌ } يدل على اشتراط القبض لا كما زعم مالك أن الرهن يصح بالإيجاب والقبول بدون القبض { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه به فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن { فَلْيُؤَدِّ الذى اؤتمن أمانته } دينه . وائتمن افتعل من الأمن وهو حث للمديون على أن يكون عند ظن الدائن وأمنه منه وائتمانه له ، وأن يؤدي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه . وسمي الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } في إنكار حقه { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة } هذا خطاب للشهود { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ } ارتفع «قلبه» ب «آثم» على الفاعلية كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه ، أو بالابتداء و«آثم» خبره مقدم والجملة خبر «إن» . وإنما أسند إلى القلب وحده والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ، لأن كتمان الشهادة أن يضمرها في القلب ولا يتكلم بها ، فلما كان إثماً مقترفاً مكتسباً بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ كما تقول «هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي» ، ولأن القلب رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد الجسد كله ، فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان منه ، ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب ، وإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أكبر الكبائر الإشراك بالله وشهادة الزور وكتمان الشهادة { والله بِمَا تَعْمَلُونَ } من كتمان الشهادة وإظهارها { عَلِيمٌ } لا يخفى عليه شيء . { للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } خلقاً وملكاً { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } يعني من السوء { يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } يكافئكم ويجازيكم ولا تدخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان ، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ولكن ما اعتقده وعزم عليه ، والحاصل أن عزم الكفر كفر وخطرة الذنوب من غير عزم معفوة ، وعزم الذنوب إذا ندم عليه ورجع عنه واستغفر منه مغفور .(1/142)
فأما إذا هم بسيئة وهو ثابت على ذلك إلا أنه منع عنه بمانع ليس باختياره فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله أي بالعزم على الزنا لا يعاقب عقوبة الزنا ، وهل يعاقب عقوبة عزم الزنا؟ قيل : لا لقوله عليه السلام : " إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به " والجمهور على أن الحديث في الخطرة دون العزم وأن المؤاخذة في العزم ثابتة وإليه مال الشيخ أبو منصور وشمس الأئمة الحلواني رحمهما الله ، والدليل عليه قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة } [ النور : 19 ] . الآية . وعن عائشة رضي الله عنها : ما هم العبد بالمعصية من غير عمل يعاقب على ذلك بما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا . وفي أكثر التفاسير أنه لما نزلت هذه الآية جزعت الصحابة رضي الله عنهم وقالوا : أنؤاخذ بكل ما حدثت به أنفسنا فنزل قوله «آمن الرسول» إلى قوله «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» فتعلق ذلك بالكسب دون العزم . وفي بعضها أنها نسخت بهذه الآية ، والمحققون على أن النسخ يكون في الأحكام لا في الأخبار { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } برفعهما : شامي وعاصم أي فهو يغفر ويعذب ، ويجزمهما : غيرهم عطفاً على جواب الشرط ، وبالإدغام : أبو عمرو ، وكذا في الإشارة والبشارة . وقال صاحب الكشاف : مدغم الراء في اللام لاحن مخطىء ، لأن الراء حرف مكرر فيصير بمنزلة المضاعف ، ولا يجوز إدغام المضاعف ، ورواية عن أبي عمر مخطىء مرتين لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس في العربية ما يؤذن بجهل عظيم { والله على كُلِّ شَىْءٍ } من المغفرة والتعذيب وغيرهما { قَدِيرٌ } قادر . { ءَامَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون } إن عطف «المؤمنون» على «الرسول» كان الضمير الذي التنوين نائب عنه في { كُلٌّ } راجعاً إلى «الرسول» «والمؤمنون» أي كلهم { ءَامَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } ووقف عليه ، وإن كان مبتدأ كان عليه «كل» مبتدأ ثانياً والتقدير كل منهم و«آمن» خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول ، وكان الضمير للمؤمنين ووحد ضمير «كل» في «آمن» على معنى كل واحد منهم آمن . و«كتابه» : حمزة وعلي يعني القرآن أو الجنس { لاَ نُفَرِّقُ } أي يقولون لا نفرق بل نؤمن بالكل { بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } «أحد» في معنى الجمع ولذا دخل عليه «بين» وهو لا يدخل إلا على اسم يدل على أكثر من واحد . تقول المال بين القوم ولا تقول المال بين زيد . { وَقَالُواْ سَمِعْنَا } أجبنا قولك { وَأَطَعْنَا } أمرك { غُفْرَانَكَ } أي اغفر لنا غفرانك فهو منصوب بفعل مضمر { رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } المرجع ، وفيه إقرار بالبعث والجزاء .(1/143)
والآية تدل على بطلان الاستثناء في الإيمان وعلى بقاء الإيمان لمرتكب الكبائر .
{ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا } محكي عنهم أو مستأنف { إِلاَّ وُسْعَهَا } إلا طاقتها وقدرتها لأن التكليف لا يرد إلا بفعل يقدر عليه المكلف ، كذا في شرح التأويلات . وقال صاحب الكشاف : الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى غاية الطاقة والمجهود ، فقد كان في طاقة الإنسان أن يصلي أكثر من الخمس ويصوم أكثر من الشهر ويحج أكثر من حجة { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } ينفعها ما كسبت من خير ويضرها ما اكتسبت من شر ، وخص الخير بالكسب والشر بالاكتساب لأن الافتعال للانكماش والنفس تنكمش في الشر وتتكلف للخير { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا } تركنا أمراً من أوامرك سهواً { أَوْ أَخْطَأْنَا } ودل هذا على جواز المؤاخذة في النسيان والخطأ خلافاً للمعتزلة لإمكان التحرز عنهما في الجملة ولولا جواز المؤاخذة بهما لم يكن للسؤال معنى { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } عبأ يأصر حامله أي يحبسه مكانه لثقله استعير للتكليف الشاق من نحو قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } كاليهود { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } من العقوبات النازلة بمن قبلنا { واعف عَنَّا } امح سيئاتنا { واغفر لَنَا } واستر ذنوبنا وليس بتكرار فالأول للكبائر والثاني للصغائر { وارحمنا } بتثقيل ميزاننا مع إفلاسنا ، والأول من المسخ والثاني من الخسف والثالث من الغرق { أَنتَ مولانا } سيدنا ونحن عبيدك أو ناصرنا أو متولي أمورنا { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } فمن حق المولى أن ينصر عبيده في الحديث « من قرأ آمن الرسول إلى آخره في ليلة كفتاه » وفيه « من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل » ويجوز أن يقال : قرأت سورة البقرة أو قرأت البقرة لما روي عن علي رضي الله عنه : خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش . وقال بعضهم : يكره ذلك بل يقال قرأت السورة التي تذكر فيها البقرة ، والله أعلم .(1/144)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
{ الم * الله } حركت الميم لالتقاء الساكنين أعني سكونها وسكون لام «الله» وفتحت لخفة الفتحة ، ولم تكسر للياء وكسر الميم قبلها تحامياً عن توالي الكسرات ، وليس فتح الميم لسكونها وسكون ياء قبلها إذ لو كان كذلك لوجب فتحها في «حم» . ولا يصح أن يقال : إن فتح الميم هو فتحة همزة «الله» نقلت إلى الميم لأن تلك الهمزة همزة وصل تسقط في الدرج وتسقط معها حركتها ، ولو جاز نقل حركتها لجاز إثباتها وإثباتها غير جائز . وأسكن يزيد والأعشى الميم وقطعا الألف ، والباقون بوصل الألف وفتح الميم و«الله» مبتدأ { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } خبره وخبر «لا» مضمر والتقدير : لا إله في الوجود إلا هو ، «وهو» في موضع الرفع بدل من موضع «لا» ، واسمه { الحي القيوم } خبر مبتدأ محذوف أي هو الحي ، أو بدل من «هو» و«القيوم» فيعول من قام وهو القائم بالقسط والقائم على كل نفس بما كسبت { نَزَّلَ } أي هو نزل { عَلَيْكَ الكتاب } القرآن { بالحق } حال أي نزله حقاً ثابتاً { مُصَدِّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } لما قبله { وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل } هما اسمان أعجميان وتكلف اشتقاقهما من الورى والنجل ، ووزنهما بتفعلة وافعيل إنما يصح بعد كونهما عربيين . وإنما قيل «نزل الكتاب» و«أنزل التوراة والإنجيل» لأن القرآن نزل منجماً ونزل الكتابان جملة { مِن قَبْلُ } من قبل القرآن { هُدًى لّلنَّاسِ } لقوم موسى وعيسى أو لجميع الناس { وَأَنزَلَ الفرقان } أي جنس الكتب لأن الكل يفرق بين الحق والباطل ، أو الزبور ، أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له تفخيماً لشأنه { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله } من كتبه المنزلة وغيرها { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } ذو عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها منتقم { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء } أي في العالم فعبر عنه بالسماء والأرض أي هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن وهو مجازيهم عليه { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاءُ } من الصور المختلفة { لا إله إِلاَّ هُوَ العزيز } في سلطانه { الحكيم } في تدبيره . روي أنه لما قدم وفد بني نجران وهم ستون راكباً . أميرهم العاقب وعمدتهم السيد وأسقفهم وحبرهم أبو حارثة خاصموا في أن عيسى إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه؟ فقال عليه السلام : " ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ " قالوا : بلى . قال : " ألم تعلموا أن الله تعالى حي لا يموت وعيسى يموت ، وأن ربنا قيم على العباد يحفظهم ويرزقهم وعيسى لا يقدر على ذلك ، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وعيسى لا يعلم إلا ما علم ، وإنه صور عيسى في الرحم كيف شاء فحملته أمه ووضعته وأرضعته ، وكان يأكل ويحدث وربنا منزه عن ذلك كله "(1/145)
فانقطعوا فنزل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية .
{ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } القرآن { مِنْهُ } من الكتاب { آيات محكمات } أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد إليها { وَأُخَّرُ } وآيات أخر { متشابهات } مشتبهات محتملات . مثال ذلك { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] فالاستواء يكون بمعنى الجلوس وبمعنى القدرة والاستيلاء ، ولا يجوز الأول على الله تعالى بدليل المحكم وهو قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء } [ الشورى : 11 ] أو المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله نحو قوله : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 151 ] الآيات ، { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه } [ الأسراء : 23 ] . الآيات . والمتشابه ما وراءه أو ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، وما احتمل أوجهاً ، أو ما يعلم تأويله وما لا يعلم تأويله ، أو الناسخ الذي يعمل به والمنسوخ الذي لا يعمل به . وإنما لم يكن كل القرآن محكماً لما في المتشابه من الابتلاء به والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم والقرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله تعالى . { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } ميل عن الحق وهم أهل البدع { فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه } فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق { مِنْهُ ابتغاء الفتنة } طلب أن يفتتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } وطلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله { والراسخون فِي العلم } والذين رسخوا أي ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع مستأنف عند الجمهور ، والوقف عندهم على قوله «إلا الله» وفسروا المتشابه بما استأثر الله بعلمه ، وهو مبتدأ عندهم والخبر يقولون «آمنّا به» وهو ثناء منه تعالى عليهم بالإيمان على التسليم واعتقاد الحقية بلا تكييف ، وفائدة إنزال المتشابه الإيمان به ، واعتقاد حقية ما أراد الله به ، ومعرفة قصور أفهام البشر عن الوقوف على ما لم يجعل لهم إليه سبيلاً ، ويعضده قراءة أبي «ويقول الراسخون» وعبد الله «إن تأويله إلا عند الله» . ومنهم من لا يقف عليه ويقول بأن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه و«يقولون» كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به أي بالمتشابه أو بالكتاب { كُلٌّ } من متشابهه ومحكمه { مِّنْ عِندِ رَبّنَا } من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه { وَمَا يَذَّكَّرُ } وما يتعظ وأصله يتذكر { إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } أصحاب العقول ، وهو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل . وقيل : «يقولون» حال من الراسخين .(1/146)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } لا تملها عن الحق بخلق الميل في القلوب { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } للعمل بالمحكم والتسليم للمتشابه { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } من عندك نعمة بالتوفيق والتثبيت { إِنَّكَ أَنتَ الوهاب } كثير الهبة ، والآية من مقول الراسخين ويحتمل الاستئناف أي قولوها وكذلك التي بعدها وهي { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ } أي تجمعهم لحساب يوم أو لجزاء يوم { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لا شك في وقوعه { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } الموعد . والمعنى أن الإلهية تنافي خلف الميعاد كقولك «إن الجواد لا يخيب سائله» أي لا يخلف ما وعد المسلمين والكافرين من الثواب والعقاب .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } برسول الله { لَن تُغْنِيَ } تنفع أو تدفع { عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله } من عذابه { شَيْئاً } من الأشياء { وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } حطبها { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ } الدأب مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله . والكاف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء الكفرة في تكذيب الحق كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم ، أو منصوب المحل ب « لن تغني أي لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك . «كداب» بلا همز حيث كان : أبو عمرو . { كَذَّبُواْ بئاياتنا } تفسير لدأبهم مما فعلوا ، أو فعل بهم على أنه جواب سؤال مقدر عن حالهم ، ويجوز أن يكون حالاً أي قد كذبوا { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } بسبب ذنوبهم يقال أخذته بكذا أي جازيته عليه { والله شَدِيدُ العقاب } شديد عقابه فالإضافة غير محضة { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } هم مشركو مكة { سَتُغْلَبُونَ } يوم بدر { وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ } من الجهنام وهي بئر عميقة . وبالياء فيهما : حمزة وعلي { وَبِئْسَ المهاد } المستقر جهنم .
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ } الخطاب لمشركي قريش { فِي فِئَتَيْنِ التقتا } يوم بدر { فِئَةٌ تقاتل فِي سَبِيلِ الله } وهم المؤمنون { وأخرى } وفئة أخرى { كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ } يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين ألفين ، أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين ، أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم . «ترونهم» نافع أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة ، أو مثلي أنفسهم . ولا يناقض هذا ما قال في سورة الأنفال { وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] لأنهم قللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم ، فلما اجتمعوا كثروا في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالتين مختلفتين ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ }(1/147)
[ الرحمن : 39 ] . { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْؤولُونَ } [ الصافات : 24 ] . وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية . و«مثليهم» نصب على الحال لأنه من رؤية العين بدليل قوله { رَأْيَ العين } يعني رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها { والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ } كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في أعين العدو { إِنَّ فِي ذَلِكَ } في تكثير القليل { لَعِبْرَةً } لعظة { لأُوْلِي الأبصار } لذوي البصائر .
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ } المزين هو الله عند الجمهور للابتلاء كقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ } [ الكهف : 7 ] . دليله قراءة مجاهد «زين للناس» على تسمية الفاعل . وعن الحسن : الشيطان { حُبُّ الشهوات } الشهوة توقان النفس إلى الشيء ، جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة ، أو كأنه أراد تخسيسها بتسميتها شهوات إذ الشهوة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية { مِّنَ النساء } والإماء داخلة فيها { والبنين } جمع ابن وقد يقع في غير هذا الموضع على الذكور والإناث ، وهنا أريد به الذكور فهم المشتهون في الطباع والمعدون للدفاع { والقناطير } جمع قنطار وهو المال الكثير . قيل : ملء مسك ثور أو مائة ألف دينار ، ولقد جاء الإسلام وبمكة مائة رجل قد قنطروا { المقنطرة } المنضدة أو المدفونة { مِنَ الذهب والفضة } سمي ذهباً لسرعة ذهابه بالإنفاق ، وفضة لأنها تتفرق بالإنفاق والفض التفريق { والخيل } سميت به لاختيالها في مشيها { المسومة } المعلمة من السومة وهي العلامة أو المرعية من أسام الدابة وسومها { والأنعام } هي الأزواج الثمانية { والحرث } الزرع { ذلك } المذكور { مَّتَاعُ الحياة الدنيا } يتمتع به في الدنيا { والله عِندَهُ حُسْنُ المأب } المرجع .
ثم زهدهم في الدنيا فقال { قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم } من الذي تقدم { لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات } كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم ، ف «جَنات» مبتدأ «لَلذين اتقوا» خبره { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } صفة ل «جنات» ، ويجوز أن يتعلق اللام ب «خير» واختص المتقين لأنهم هم المنتفعون به . ويرتفع «جنات» على هو جنات وتنصره قراءة من قرأ «جناتٍ» بالجر على البدل من «خير» { خالدين فِيهَا وأزواج مُّطَهَّرَةٌ ورضوان مّنَ الله } أي رضا الله { والله بَصِيرٌ بالعباد } عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم فلذا أعد لهم الجنات .
{ الذين يَقُولُونَ } نصب على المدح أو رفع أو جر صفة للمتقين أو للعباد { رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا } إجابة لدعوتك { فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } إنجازاً لوعدك { وَقِنَا عَذَابَ النار } بفضلك { الصابرين } على الطاعات والمصائب وهو نصب على المدح { والصادقين } قولاً بإخبار الحق ، وفعلاً بإحكام العمل ، ونية بإمضاء العزم { والقانتين } الداعين أو المطيعين { والمنفقين } المتصدقين { والمستغفرين بالأسحار } المصلين أو طالبين المغفرة ، وخص الأسحار لأنه وقت إجابة الدعاء ، ولأنه وقت الخلوة .(1/148)
قال لقمان لابنه : يا بني لا يكن الديك أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم . والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها ، وللإشعار بأن كل صفة مستقلة بالمدح .
{ شَهِدَ الله } أي حكم أو قال { أَنَّهُ } أي بأنه { لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة } بما عاينوا من عظيم قدرته { وَأُوْلُواْ العلم } أي الأنبياء والعلماء { قَائِمَاً بالقسط } مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال ويثيب ويعاقب ، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم . وانتصابه على أنه حال مؤكدة من اسم الله تعالى أو من «هو» ، وإنما جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ولو قلت «جاء زيد وعمرو راكباً» لم يجز لعدم الإلباس فإنك لو قلت «جاءني زيد وهند راكبا» جاز لتميزه بالذكورة أو على المدح . وكرر { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } للتأكيد { العزيز الحكيم } رفع على الاستئناف أي هو العزيز وليس بوصف ل «هو» لأن الضمير لا يوصف يعني أنه العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الذي لا يعدل عن الحق { إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام } جملة مستأنفة . وقرىء أن الدين على البدل من قوله أنه لا إله إلا هو أي شهد الله أن الدين عند الله الإسلام . قال عليه السلام " من قرأ الآية عند منامه خلق الله تعالى منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة ، ومن قال بعدها : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة يقول الله تعالى يوم القيامة : إن لعبدي عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة " { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب } أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، واختلافهم أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد فثلثت النصارى وقالت اليهود عزير بن الله { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم } أنه الحق الذي لا محيد عنه { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي ما كان ذلك الاختلاف إلا حسداً بينهم وطلباً منهم للرياسة وحظوظ الدنيا واستتباع كل فريق ناساً لا شبهة في الإسلام . وقيل : هو اختلافهم في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام حيث آمن به بعض وكفر به بعض . وقيل : هم النصارى واختلافهم في أمر عيسى بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله { وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله } بحججه ودلائله { فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } سريع المجازاة { فَإنْ حَاجُّوكَ } فإن جادلوك في أن دين الله الإسلام والمراد بهم وفد بني نجران عند الجمهور { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } أي أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيها لغيره شريكاً بأن أعبده وأدعو إلهاً معه ، يعني أن ديني دين التوحيد وهو الدين القويم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه ونحوه :(1/149)
{ قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } [ آل عمران : 64 ] . فهو دفع للمحاجة بأن ما هو عليه ومن معه من المؤمنين هو اليقين الذي لا شك فيه فما معنى المحاجة فيه! { وَمَنِ اتبعن } عطف على التاء في «أسلمت» أي أسلمت أنا ومن أتبعني وحسن للفاصل ، ويجوز أن يكون الواو بمعنى «مع» فيكون مفعولاً معه . «ومن اتبعني» في الحالين : سهل ويعقوب وافق أبو عمرو في الوصل . «وجهي» : مدني وشامي وحفص والأعشى والبرجمي . { وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب } من اليهود والنصارى { والأميين } والذين لا كتاب لهم من مشركي العرب { ءَأَسْلَمْتُمْ } بهمزتين : كوفي ، يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يقتضي حصول الإسلام فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم؟ وقيل : لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الأمر أي أسلموا كقوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] أي انتهوا { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا } فقد أصابوا الرشد حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } أي لم يضروك فإنك رسول منبه ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى { والله بَصِيرٌ بالعباد } فيجازيهم على إسلامهم وكفرهم .(1/150)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
{ إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين } هم أهل الكتاب رضوا بقتل آبائهم الأنبياء { بِغَيْرِ حَقّ } حال مؤكدة لأن قتل النبي لا يكون حقاً { وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ } «ويقاتلون» : حمزة { بالقسط } بالعدل { مِنَ الناس } أي سوى الأنبياء . قال عليه السلام " قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار من ذلك اليوم " { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } دخلت الفاء في خبر «إن» لتضمن اسمها معنى الجزاء كأنه قيل : الذين يكفرون فبشرهم بعذاب أليم بمعنى من يكفر فبشرهم ، وهذا لأن «إن» لا تغير معنى الابتداء فهي للتحقيق فكأن دخولها كلا دخول ولو كان مكانها «ليت» أو «لعل» لامتنع دخول الفاء { أولئك الذين حَبِطَتْ أعمالهم } أي ضاعت { فِي الدنيا والآخرة } فلهم اللعنة والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } جمع لوقف رؤوس الآي وإلا فالواحد النكرة في النفي يعم .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } يريد أحبار اليهود وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة . «ومن» للتبعيض أو للبيان { يُدْعُونَ } حال من «الذين» { إلى كتاب الله } أي التوراة أو القرآن { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } جعل حاكماً حيث كان سبباً للحكم أو ليحكم النبي . روي أنه عليه السلام دخل مدراسهم فدعاهم فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت؟ قال النبي عليه السلام : " على ملة إبراهيم " قالا : إن إبراهيم كان يهودياً . قال لهما : إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها فأبيا { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ } استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب { وَهُم مُّعْرِضُونَ } وهم قوم لا يزال الإعراض ديدنهم { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات } أي ذلك التولي والإعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل وهي أربعون يوماً أو سبعة أيام و«ذلك» مبتدأ «وبأنهم» خبره { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي غرهم افتراؤهم على الله وهو قولهم «نحن أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبنا بذنوبنا إلا مدة يسيرة» .
{ فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ } فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لا شك فيه { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } جزاء ما كسبت { وَهُمْ } يرجع إلى كل نفس على المعنى لأنه في معنى كل الناس { لاَ يُظْلَمُونَ } بزيادة في سيئاتهم ونقصان في حسناتهم .(1/151)
{ قُلِ اللهم } الميم عوض من «يا» ولذا لا يجتمعان ، وهذا بعض خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه ، وفيه لام التعريف وبقطع همزته في «يا الله» وبالتفخيم { مالك الملك } تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون وهو نداء ثانٍ أي يا مالك الملك { تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ } تعطي من تشاء النصيب الذي قسمت له من الملك { وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ } أي تنزعه فالملك الأول عام والملكان الآخران خاصان بعضان من الكل . " روي أنه عليه السلام حين فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقالت اليهود والمنافقون : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك " فنزلت { وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ } بالملك { وَتُذِلُّ مَن تَشَاء } بنزعه منه { بِيَدِكَ الخير } أي الخير والشر فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر ، أو لأن الكلام وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة فقال : بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعداءك { إِنَّكَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ولا يقدر على شيء أحد غيرك إلا بإقدارك . وقيل : المراد بالملك ملك العافية أو ملك القناعة . قال عليه السلام " ملوك الجنة من أمتي القانعون بالقوت يوماً فيوماً " أو ملك قيام الليل . وعن الشبلي : الاستغناء بالمكون عن الكونين تعز بالمعرفة أو بالاستغناء بالمكون أو بالقناعة وتذل بأضدادها . ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما ، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر ، وعطف عليه رزقه بغير حساب بقوله { تُولِجُ اليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي اليل } فالإيلاج إدخال الشيء في الشيء وهو مجاز هنا أي تنقص من ساعات الليل وتزيد في النهار ، وتنقص من ساعات النهار وتزيد في الليل { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } الحيوان من النطفة ، أو الفرخ من البيضة ، أو المؤمن من الكافر { وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } النطفة من الإنسان ، أو البيض من الدجاج ، أو الكافر من المؤمن { وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } لا يعرف الخلق عدده ومقداره وإن كان معلوماً عنده ، ليدل على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم . وفي بعض الكتب : أنا الله ملك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة ، وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة ، فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم . وهو معنى قولهم عليه السلام " كما تكونوا يولى عليكم الحي من الميت والميت من الحي "(1/152)
بالتشديد حيث كان : مدني وكوفي غير أبي بكر .
{ لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ } نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو لصداقة قبل الإسلام أو غير ذلك ، وقد كرر ذلك في القرآن والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم في الإيمان . { مِن دُونِ المؤمنين } يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } أي ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء لأن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } إلا أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه أي إلا أن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك إظهار الموالاة وإبطان المعاداة { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } أي ذاته فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه وهذا وعيد شديد { وإلى الله المصير } أي مصيركم إليه والعذاب معد لديه وهو وعيد آخر .
{ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضى الله { يَعْلَمْهُ الله } ولم يخف عليه وهو أبلغ وعيد { وَيَعْلَمُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } استئناف وليس بمعطوف على جواب الشرط أي هو الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض فلا يخفى عليه سركم وعلنكم { والله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيكون قادراً على عقوبتكم { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بعيداً } «يوم» منصوب ب «تود» والضمير في «بينه» لليوم أي يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين ، تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً أي مسافة بعيدة ، أو ب «اذكر» ويقع «تجد» على «ما عملت» وحده ويرتفع «وما عملت» على الابتداء و«تود» خبره أي والذي عملته من سوء تود هي لو تباعد ما بينها وبينه ، ولا يصح أن تكون «ما» شرطية لارتفاع «تود» ، نعم الرفع جائز إذا كان الشرط ماضياً لكن الجزم هو الكثير . وعن المبرد أن الرفع شاذ . وكرر قوله { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه { والله رَءُوفٌ بالعباد } ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه حتى لا يتعرضوا لسخطه ، ويجوز أن يريد أنه مع كونه محذوراً لكمال قدرته مرجو لسعة رحمته كقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [ فصلت : 43 ] . ونزل حين قال اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه . { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } محبة العبد لله إيثار طاعته على غير ذلك ، ومحبة الله العبد أن يرضى عنه ويحمد فعله . وعن الحسن : زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل ، فمن ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب وكتاب الله يكذبه .(1/153)
وقيل : محبة الله معرفته ودوام خشيته ودوام اشتغال القلب به وبذكره ودوام الأنس به . وقيل : هي اتباع النبي عليه السلام في أقواله وأفعاله وأحواله إلا ما خص به . وقيل : علامة المحبة أن يكون دائم التفكير ، كثير الخلوة ، دائم الصمت ، لا يبصر إذا نظر ، ولا يسمع إذا نودي ، ولا يحزن إذا أصيب ، ولا يفرح إذا أصاب ، ولا يخشى أحداً ولا يرجوه { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول } قيل : هي علامة المحبة { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عن قبول الطاعة ، ويحتمل أن يكون مضارعاً أي فإن تتولوا { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } أي لا يحبهم .
{ إِنَّ الله اصطفى } اختار { ءَادَمَ } أبا البشر { وَنُوحاً } شيخ المرسلين { وآلَ إبراهيم } إسماعيل وإسحاق وأولادهما { وآل عمران } موسى وهارون هما ابنا عمران بن يصهر . وقيل : عيسى ومريم بنت عمران ابن ماثان وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة { عَلَى العالمين } على عالمي زمانهم { ذُرِّيَّةَ } بدل من «آل إبراهيم وآل عمران» { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } مبتدأ وخبره في موضع النصب صفة ل «ذرية» يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض : موسى وهارون من عمران ، وعمران من يصهر ، ويصهر من قاهث ، وقاهث من لاوي ، ولاوي من يعقوب ، ويعقوب من إسحاق ، وكذلك عيسى بن مريم بنت عمران بن ماثان وهو يتصل بيهودا بن يعقوب بن إسحاق ، وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : بعضها من بعض في الدين { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يعلم من يصلح للإصطفاء ، أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها { إِذْ قَالَتِ } «وإذ» منصوب به أو بإضمار «اذكر» . { امرأت عمران } هي امرأة عمران بن ماثان أم مريم جدة عيسى وهي حنة بنت فاقوذا { رَبِّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ } أوجبت { مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } هو حال من «ما» وهي بمعنى الذي أي معتقاً لخدمة بيت المقدس لا يد لي عليه ولا أستخدمه ، وكان هذا النوع من النذر مشروعاً عندهم أو مخلصاً للعبادة يقال «طين حر» أي خالص { فَتَقَبَّلْ مِنّي } «منّي» مدني وأبو عمر ، والتقبل : أخذ الشيء على الرضا به { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } الضمير ل «ما في بطني» وإنما أنّث على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة { قَالَتْ رَبِّ إِنّي وَضَعْتُهَا أنثى } «أنثى» حال من الضمير في «وضعتها» أي وضعت الحبلة أو النفس أو النسمة أنثى ، وإنما قالت هذا القول لأن التحرير لم يكن إلا للغلمان فاعتذرت عما نذرت وتحزنت إلى ربها ولتكلمها بذلك على وجه التحزن والتحسر قال الله { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } تعظيماً لموضوعها أي والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عزائم الأمور .(1/154)
«وضعتُ» : شامي وأبو بكر بمعنى ولعل لله فيه سراً وحكمة ، وعلى هذا يكون داخلاً في القول . وعلى الأول يوقف عند قوله «أنثى» وقوله : «والله أعلم بما وضعت» . ابتداء إخبار من الله تعالى { وَلَيْسَ الذكر } الذي طلبت { كالأنثى } التي وهبت لها واللام فيهما للعهد { وَإِنّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } معطوف على «إني وضعتها أنثى» وما بينهما جملتان معترضتان . وإنما ذكرت حنة تسميتها مريم لربها لأن مريم في لغتهم العابدة ، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها وأن يصدق فيها ظنها بها ، ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان بقوله { وَإِنّي } «وإنّي» مدني { أُعِيذُهَا بِكَ } أجيرها { وَذُرِّيَّتَهَا } أولادها { مِنَ الشيطان الرجيم } الملعون في الحديث " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها " { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } قبل الله مريم ورضي بها في النذر مكان الذكر { بِقَبُولٍ حَسَنٍ } قيل : القبول اسم ما يقبل به الشيء كالسعوط لما يسعط به وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل قبلها أنثى في ذلك ، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة . روي أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي أختها . فقالوا : لا حتى نقترع عليها . فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها . وقيل : هو مصدر على تقدير حذف المضاف أي فتقبلها بذي قبول حسن أي بأمر ذي قبول حسن وهو الاختصاص { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } مجاز عن التربية الحسنة ، قال ابن عطاء : ما كانت ثمرته مثل عيسى فذاك أحسن النبات . «ونباتاً» مصدر على خلاف الصدر أو التصدير فنبتت نباتاً { وَكَفَّلَهَا } «وكفلها» : قبلها أو ضمن القيام بأمرها . وكفّلها : كوفي أي كفلها الله زكريا يعني جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها { زَكَرِيَّا } بالقصر : كوفي غير أبي بكر في كل القرآن . وقرأ أبو بكر بالمد والنصب هنا . غيرهم بالمد والرفع كالثانية والثالثة ومعناه في العبري : دائم الذكر والتسبيح { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب } قيل : بنى لها زكريا محراباً في المسجد أي غرفة تصعد إليها بسلم .(1/155)
وقيل : المحراب أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس . وقيل : كانت مساجدهم تسمى المحاريب وكان لا يدخل عليها إلا هو وحده { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثدياً قط فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء { قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا } من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آتٍ في غير حينه؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } فلا تستبعد . قيل : تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد { إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ } من جملة كلام مريم أو من كلام رب العالمين { بِغَيْرِ حِسَابٍ } بغير تقدير لكثرته أو تفضلاً بغير محاسبة ومجازاة على عمل .
{ هُنَالِكَ } في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك الوقت فقد يستعار «هنا» و «حيث» و «ثم» للزمان . لما رأى حال مريم في كرامتها على الله ومنزلتها رغب أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أمها حنة في الكرامة على الله ، وإن كانت عاقراً عجوزاً فقد كانت أمها كذلك . وقيل : لما رأى الفاكهة في غير وقتها انتبه على جواز ولادة العاقر { دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً } ولداً والذرية يقع على الواحد والجمع { طَيِّبَةً } مباركة والتأنيث للفظ الذرية { إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء } مجيبه { فَنَادَتْهُ الملئكة } قيل : ناداه جبريل عليه السلام . وإنما قيل «الملائكة» لأن المعنى أتاه النداء من هذا الجنس كقولهم «فلان يركب الخيل» . «فناديه» بالياء والإمالة : حمزة وعلي { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي المحراب } وفيه دليل على أن المرادات تطلب بالصلوات ، وفيها إجابة الدعوات وقضاء الحاجات . وقال ابن عطاء : ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب { إِنَّ الله } بكسر الألف : شامي وحمزة وعلى إضمار القول ، أو لأن النداء قول . الباقون : بالفتح أي بأن الله { يُبَشّرُكَ } «يبشرك» وما بعده : حمزة وعلي من بشره والتخفيف والتشديد لغتان { بيحيى } هو غير منصرف إن كان عجمياً وهو الظاهر فللتعريف والعجمة كموسى وعيسى ، وإن كان عربياً فللتعريف ووزن الفعل ك «يعمر» { مُصَدِّقاً } حال منه { بِكَلِمَةٍ مّنَ الله } أي مصدقاً بعيسى مؤمناً به فهو أول من آمن به . وسمي عيسى كلمة الله لأن تكون ب «كن» بلا أب ، أو مصدقاً بكلمة من الله مؤمناً بكتاب منه { وَسَيّدًا } هو الذي يسود قومه أي يفوقهم في الشرف ، وكان يحيى فائقاً على قومه لأنه لم يركب سيئة قط ويا لها من سيادة . وقال الجنيد : هو الذي جاد بالكونين عوضاً عن المكون { وَحَصُورًا } هو الذي لا يقرب النساء مع القدرة حصراً لنفسه أي منعاً لها من الشهوات { وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } ناشئاً من الصالحين لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائناً من جملة الصالحين { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غلام } استبعاد من حيث العادة واستعظام للقدرة لا تشكك { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } كقولهم «أدركته السن العالية» أي أثر فيَّ الكبر وأضعفني وكان له تسع وتسعون سنة ولامرأته ثمان وتسعون { وامرأتي عَاقِرٌ } لم تلد { قَالَ كذلك الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء } من الأفعال العجيبة .(1/156)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
{ قَالَ رَبِّ اجعل لِّي } «لِي» مدني وأبو عمرو { ءَايَةً } علامة أعرف بها الحبل لأتلقى النعمة بالشكر إذا جاءت { قَالَ آيتُكَ ألاَّ تُكَلِّمَ الناس } أي لا تقدر على تكليم الناس { ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا } إلا إشارة بيد أو رأس أوعين أو حاجب وأصله التحرك ، يقال ارتمز إذا تحرك . واستثنى الرمز وهو ليس من جنس الكلام لأنه لما أدّى مؤدّى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمي كلاماً ، أو هو استثناء منقطع . وإنما خص تكليم الناس ليعلم أنه يحبس لسانه عن القدرة عن تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ولذا قال { واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بالعشي والإبكار } أي في أيام عجزك عن تكليم الناس وهي من الآيات الباهرة والأدلة الظاهرة ، وإنما حبس لسانه عن كلام الناس ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر ، وأحسن الجواب ما كان منتزعاً من السؤال . والعشي من حين الزوال إلى الغروب ، والإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى .
{ وَإِذْ } عطف على «إذ قالت امرأة عمران» أو التقدير واذكر إذا { قَالَتِ الملئكة يامريم } روي أنهم كلموها شفاها { إِنَّ الله اصطفاك } أولاً حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية { وَطَهَّرَكِ } مما يستقذر من الأفعال { واصطفاك } آخراً { على نِسَاء العالمين } بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء { يامريم اقنتي لِرَبِّكِ } أديمي الطاعة أو أطيلي قيام الصلاة { واسجدي } وقيل : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة ، ثم قيل لها { واركعي مَعَ الركعين } أي ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة ، أو وانظمي نفسك في جملة المصلين وكوني في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم { ذلك } إشارة إلى ما سبق من قصة حنة وزكريا ويحيى ومريم { مِنْ أَنبَاءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ } يعني أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم } أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر مقترعين ، أو هي الأقلام التي كانوا يكتبون التوراة بها اختاروها للقرعة تبركاً بها { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } متعلق بمحذوف دل عليه «يلقون» كأنه قيل : يلقونها ينظرون أيهم يَكفل مريم أو ليعلموا أو يقولون { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } في شأنها تنافساً في التكفل بها { إِذْ قَالَتِ الملائكة } أي اذكر { يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ } أي بعيسى { مِّنْهُ } في موضع جر صفة لكلمة { اسمه } مبتدأ وذكر ضمير الكلمة لأن المسمى بها مذكر { المسيح } خبره والجملة في موضع جر صفة ل «كلمة» .(1/157)
والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق وأصله «مشيحاً» بالعبرانية ومعناه المبارك كقوله : { وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ } [ مريم : 31 ] . وقيل : سمي مسيحاً لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ ، أو لأنه كان يمسح الأرض بالسياحة لا يستوطن مكاناً { عِيسَى } بدل من المسيح { ابن مَرْيَمَ } خبر مبتدأ محذوف أي هو ابن مريم ، ولا يجوز أن يكون صفة لعيسى لأن اسمه عيسى فحسب وليس اسمه عيسى ابن مريم . وإنما قال «ابن مريم» إعلاماً لها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه «وَجِيهاً» ذا جاه وقدر «في الدُّنيا» بالنبوة والطاعة { والآخرة } بعلو الدرجة والشفاعة { وَمِنَ المقربين } برفعه إلى السماء ، وقوله «وجيهاً» حال من «كلمة» لكونها موصوفة وكذا «ومن المقربين» أي وثابتاً من المقربين ، وكذا «ويكَلِّمُ النّاسَ» أي ومكلماً الناس في المهد حال من الضمير في «يكلم» أي ثابتاً في المهد وهو ما يمهد للصبي من مضجعه سمي بالمصدر { وَكَهْلاً } عطف عليه أي ويكلم الناس طفلاً وكهلاً أي يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحالة الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء { وَمِنَ الصالحين } حال أيضاً والتقدير يبشرك به موصوفاً بهذه الصفات .
{ قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يقول له كن فيكون } أي إذا قدر تكون شيء كونه من غير تأخير لكنه عبر بقوله «كن» إخباراً عن سرعة تكون الأشياء بتكوينه { وَيُعَلِّمُهُ } مدني وعاصم وموضعه حال معطوفة على «وجيهاً» . الباقون : بالنون على أنه كلام مبتدأ { الكتابَ } أي الكتابة وكان أحسن الناس خطاً في زمانه . وقيل : كتب الله { والحكمَةَ } بيان الحلال والحرام أو الكتاب الخط باليد . والحكمة : البيان باللسان { والتوراة والإنجيل * وَرَسُولاً } أي ونجعله رسولاً أو يكون في موضع الحال أي وجيهاً في الدنيا والآخرة ورسولاً { إلى بَنِي إسراءيل أَنّي } بأني { قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } بدلالة تدل على صدقي فيما أدعيه من النبوة { أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ } نصب بدل من «أني قد جئتكم» أو جر بدل من «آية» أو رفع على «هي أني أخلق لكم» . «ِإنِّيَ» : نافع على الاستئناف { مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } أي أقدر لكم شيئاً مثل صورة الطير { فَأَنفُخُ فِيهِ } الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير { فَيَكُونُ طَيْرًا } فيصير طيراً كسائر الطيور . «طائراً» : مدني { بِإِذُنِ الله } بأمره . قيل : لم يخلق شيئاً غير الخفاش { وَأُبْرِىءُ الأكمه } الذي ولد أعمى { والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله } كرر «بإذن الله» دفعاً لو هم من يتوهم فيه اللاهوتية .(1/158)
روي أنه أحيا سام بن نوح عليه السلام وهم ينظرون إليه فقالوا : هذا سحر مبين فأرنا آية فقال : يا فلان أكلت كذا ويا فلان خبىء لك كذا وهو قوله { وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } و«ما» فيهما بمعنى «الذي» ، أو مصدرية { إِنَّ فِي ذَلِكَ } فيما سبق { لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة } أي قد جئتكم بآية وجئتكم مصدقاً { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } رد على قوله «بآية من ربكم» أي جئتكم بآية من ربكم ولأحل لكم . وما حرم الله عليهم في شريعة موسى عليه السلام الشحوم ولحوم الإبل والسمك وكل ذي ظفر فأحل لهم عيسى بعض ذلك { وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } كرر للتأكيد { فاتقوا الله } في تكذيبي وخلافي { وَأَطِيعُونِ } في أمري { إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ } إقرار بالعبودية ونفي للربوبية عن نفسه بخلاف ما يزعم النصارى { فاعبدوه } دوني { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } يؤدي صاحبه إلى النعيم المقيم .
{ فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } علم من اليهود كفراً علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس { قَالَ مَنْ أَنصَارِي } «أنصاري» مدني وهو جمع ناصر كأصحاب أو جمع نصير كأشراف { إِلَى الله } يتعلق بمحذوف حال من الياء أي من أنصاري ذاهباً إلى الله ملتجئاً إليه { قَالَ الحواريون } حواريّ الرجل صفوته وخاصته { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } أعوان دينه { آمنا بالله واشهد } يا عيسى { بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } إنما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيداً لإيمانهم لأن الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم ، وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد { رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ واتبعنا الرسول } أي رسولك عيسى { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم ، أو مع الذين يشهدون لك بالوحدانية ، أو مع أمة محمد عليه السلام لأنهم شهداء على الناس { وَمَكَرُواْ } أي كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر حين أرادوا قتله وصلبه { وَمَكَرَ الله } أي جازاهم على مكرهم بأن رفع عيسى إلى السماء وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل ، ولا يجوز إضافة المكر إلى الله تعالى إلا على معنى الجزاء ، لأنه مذموم عند الخلق وعلى هذا الخداع والاستهزاء كذا في شرح التأويلات . { والله خَيْرُ الماكرين } أقوى المجازين وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب { إِذْ قَالَ الله } ظرف لمكر الله { ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ } أي مستوفي أجلك ومعناه أني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } إلى سمائي ومقر ملائكتي { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } من سوء جوارهم وخبث صحبتهم .(1/159)
وقيل : متوفيك قابضك من الأرض من توفيت مالي على فلان إذا استوفيته ، أو مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن ، إذ الواو لا توجب الترتيب . قال النبي عليه السلام « ينزل عيسى خليفة على أمتي يدق الصليب ويقتل الخنازير ويلبث أربعين سنة ، ويتزوج ويولد له ثم يتوفى وكيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها والمهدي من أهل بيتي وفي وسطها » أو متوفي نفسك بالنوم ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك } أي المسلمين لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى { فَوْقَ الذين كَفَرُواْ } بك { إلى يَوْمِ القيامة } يعلونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } في الآخرة { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مّن ناصرين * وَأَمَّا الذين ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } وتفسير الحكم هاتان الآيتان فيوفيهم حفص .(1/160)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
{ ذلك } إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى وغيره وهو مبتدأ { نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } خبره { مِنَ الأيات } خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف { والذكر الحكيم } القرآن يعني المحكم ، أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه . ونزل لما قال وفد بني نجران هل رأيت ولداً بلا أب . { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ } أي إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم عليه السلام { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } قدره جسداً من طين وهي جملة مفسرة لحالة شبه عيسى بآدم ولا موضع لها أي خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم ، فكذلك حال عيسى مع أن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم : لم تعبدون عيسى؟ قالوا : لأنه لا أب له قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له . قالوا : كان يحيي الموتى . قال : فحزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر وحزقيل ثمانية آلاف . فقالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص . قال : فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالماً { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } أي أنشأه بشراً { فَيَكُونُ } أي فكان وهو حكاية حال ماضية ، و «ثم» لترتيب الخبر على الخبر لا لترتيب المخبر عنه { الحق مِن رَّبّكَ } خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق { فَلاَ تَكُن } أيها السامع { مِنَ الممترين } الشاكين . ويحتمل أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويكون من باب التهييج لزيادة الثبات لأنه عليه السلام معصوم من الامتراء { فَمَنْ حَاجَّكَ } من النصارى { فِيهِ } في عيسى { مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم } من البينات الموجبة للعلم و«ما» بمعنى «الذي» { فَقُلْ تَعَالَوْاْ } هلموا والمراد المجيء بالعزم والرأي كما تقول : تعالى نفكر في هذه المسألة { نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ } أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } ثم نتباهل بأن نقول «بهلة الله على الكاذب منا ومنكم» . والبهلة بالفتح والضم اللعنة ، وبهله الله لعنه وأبعده من رحمته ، وأصل الابتهال هذا ثم يستعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً . روي أنه عليه السلام لما دعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى ننظر . فقال العاقب . وكان ذا رأيهم - والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل وما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لتهلكن ، فإن أبيتم إلا ألف دينكم فودعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم .(1/161)
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضناً للحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها وهو يقول : " إذا أنا دعوت فأمنوا " فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني فقالوا : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك فصالحهم النبي على ألفي حلة كل سنة فقال عليه السلام " والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير " وإنما ضم الأبناء والنساء وإن كانت المباهلة مختصة به وبمن يكاذبه لأن ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على قرب مكانهم ومنزلتهم ، وفيه دليل واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق أو مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك { فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين } منا ومنكم في شأن عيسى ونبتهل ونجعل معطوفان على «ندع» .
{ إِنَّ هَذَا } الذي قص عليك من نبأ عيسى { لَهُوَ القصص الحق } هو فصل بين اسم «إن» وخبرها ، أو مبتدأ و«القصص الحق» خبره ، والجملة خبر «إن» وجاز دخول اللام على الفصل لأنه إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز لأنه أقرب إلى المبتدأ منه ، وأصلها أن تدخل على المبتدأ . و«من» في { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } بمنزلة البناء على الفتح في «لا إله إلا الله» في إفادة معنى الاستغراق ، والمراد الرد على النصارى في تثليثهم { وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز } في الانتقام { الحكيم } في تدبير الأحكام { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أعرضوا ولم يقبلوا { فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } وعيد لهم بالعذاب المذكور في قوله : { زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] .
{ قُلْ ياأهل الكتاب } هم أهل الكتابين أو وفد نجران أو يهود المدينة { تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء } أي مستوية { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل . وتفسير الكلمة قوله { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ الله } يعني تعالوا إليها حتى لا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ، لأن كل واحد منهما بعضنا بشر مثلنا ، ولا نطيع أحبارنا فميا أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله .(1/162)
وعن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال " أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم " قال : نعم . قال : " هو ذاك " { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن التوحيد { فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع : اعترف بأني أنا الغالب وسلم إليّ الغلبة . { ياأهل الكتاب لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبراهيم وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان منهم وجادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فيه فقيل لهم : إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة والنصرانية بعد نزول الإنجيل وبين إبراهيم وموسى ألف سنة وبينه وبين عيسى ألفان ، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة .
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال .
{ هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء } «ها» للتنبيه و«أنتم» مبتدأ و«هؤلاء» خبره { حاججتم } جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى . وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم { فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } مما نطق به التوراة والإنجيل { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم . وقيل : هؤلاء بمعنى «الذين» و«حاججتم» صلته . «ها أنتم» بالمد وغير الهمز حيث كان : مدني وأبو عمرو . { والله يَعْلَمُ } علم ما حاججتم فيه { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وأنتم جاهلون به .
ثم أعلمهم بأنه بريء من دينهم فقال { مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } كأنه أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيراً والمسيح ، أو ما كان من المشركين كما لم يكن منهم { إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم } إن أخصهم به وأقربهم منه من الولي وهو القرب { لَلَّذِينَ اتبعوه } في زمانه وبعده { وهذا النبي } خصوصاً خص بالذكر لخصوصيته بالفضل والمراد محمد عليه السلام { والذين ءَامَنُواْ } من أمته { والله وَلِيُّ المؤمنين } ناصرهم . { وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } هم اليهود دعوا حذيفة وعماراً ومعاذاً إلى اليهود { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } بذلك .(1/163)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
{ يأَهْلَ الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله } بالتوراة والإنجيل ، وكفرهم بها أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } تعترفون بأنها آيات الله أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوة الرسول وأنتم تشهدون نعته في الكتابين ، أو تكفرون بآيات الله جميعاً وأنتم تعلمون أنها حق { ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل } تخلطون الإيمان بموسى وعيسى بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَتَكْتُمُونَ الحق } نعت محمد عليه السلام { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه حق { وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب } فيم بينهم { ءامِنُواْ بالذى أُنزِلَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ } أي القرآن { وَجْهَ النهار } ظرف أي أوله يعني أظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين في أول النهار { واكفروا ءاخِرَهُ } واكفروا به آخره { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لعل المسلمين يقولون ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم إلا لأمر قد تبين لهم فيرجعون برجوعكم .
{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } «ولا تؤمنوا» متعلق بقوله { أن يؤتى أحدٌ مّثل ما أوتيتم } وما بينهما اعتراض أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، أرادوا أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ } عطف على «أن يؤتى» والضمير في «يحاجوكم» لأحد لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير اتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة . ومعنى الاعتراض أن الهدى هدى الله من شاء هداه حتى أسلم أو ثبت على الإسلام كان ذلك ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين ، وكذلك قوله { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } يريد الهداية والتوفيق ، أو يتم الكلام عند قوله «إلا لمن تبع دينكم» أي ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم ، لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم . ومعنى قوله «أن يؤتى» لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه لا لشيء آخر يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يأتي أحد مثل ما أوتيتم من العلم ، والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم ، ويدل عليه قراءة ابن كثير «آن» بالمد والاستفهام يعني الآن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب تحسدونهم . وقوله «أو يحاجوكم» على هذا معناه دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو لما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم { والله واسع } أي واسع الرحمة { عَلِيمٌ } بالمصلحة { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ } بالنبوة أو بالإسلام { مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم * وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ } هو عبد الله بن سلام ، استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأداه إليه { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } هو فنحاص بن عازوراء ، استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه .(1/164)
وقال : المأمونون على الكثير النصارى لغلبة الأمانة عليهم ، والخائنون في القليل اليهود لغلبة الخيانة عليهم { إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائماً على رأسه ملازماً له . «يؤده» و«لا يؤده» بكسر الهاء مشبعة : مكي وشامي ونافع وعلي وحفص ، واختلس أبو عمرو في رواية . غيرهم : بسكون الهاء .
{ ذلك } إشارة إلى ترك الأداء الذي دل عليه «لا يؤده» { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ } أي تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم «ليس علينا من الأميين سبيل» أي لا يتطرق علينا إثم وذم في شأن الأميين يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب ، وما فعلنا بهم من حبس أموالهم والإضرار بهم لأنهم ليسوا على ديننا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم وكانوا يقولون لم يجعل لهم في كتابنا حرمة . وقيل : بايع اليهود رجالاً من قريش ، فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا : ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم { وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب } بادعائهم أن ذلك في كتابهم { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كاذبون { بلى } إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين أي بلى عليهم سبيل فيهم . وقوله { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى } جملة مسأنفة مقررة للجملة التي سدت «بلى» مسدها ، والضمير في «بعده» يرجع إلى الله تعالى أي كل من أوفى بعهد الله واتقاه { فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } أي يحبهم فوضع الظاهر موضع الضمير وعموم المتقين قام مقام الضمير الراجع من الجزاء إلى «من» ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من الصالحات وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء . قيل : نزلت في عبد الله بن سلام ونحوه من مسلمي أهل الكتاب ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى «من أوفى» أي كل من أوفى بما عاهد الله عليه واتقى الله في ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه . ونزل فيمن حرّف التوراة وبدل نعته عليه السلام من اليهود وأخذ الرشوة على ذلك { إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ } يستبدلون { بِعَهْدِ الله } بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم { وأيمانهم } وبما حلفوا به من قولهم «والله لنؤمنن به ولننصرنه» { ثَمَناً قَلِيلاً } متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك ، وقوله «بعهد الله» يقوي رجوع الضمير في «بعهده» إلى الله { أولئك لاَ خلاق لَهُمْ فِى الآخرة } أي لا نصيب { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله } بما يسرهم { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } نظر رحمة { وَلاَ يُزَكّيهِمْ } ولا يثني عليهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم .(1/165)
{ وَإِنَّ مِنْهُمْ } من أهل الكتاب { لَفَرِيقًا } هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وغيرهم { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب } يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف ، واللّيُ الفتل وهو الصرف والمراد تحريفهم كآبة الرجم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك . والضمير في { لِتَحْسَبُوهُ } يرجع إلى ما دل عليه «يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب » وهو المحرف ، ويجوز أن يراد يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه { مّنَ الكتاب } أي التوراة { وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب } وليس هو من التوراة { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } تأكيد لقوله «وما هو من الكتاب» وزيادة تشنيع عليهم { وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كاذبون { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الكتاب } تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى عليه السلام . وقيل : قال رجل : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال : " لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله " { والحكم } والحكمة وهي السنة أو فصل القضاء { والنبوة ثُمَّ يَقُولَ } عطف على «يؤتيه» { لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله ولكن كُونُواْ ربانيين } ولكن يقول : كونوا ربانيين . والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون وهو شديد التمسك بدين الله وطاعته . وحين مات ابن عباس قال ابن الحنفية : مات رباني هذه الأمة . وعن الحسن : ربانيين علماء فقهاء . وقيل : علماء معلمين . وقالوا : الرباني العالم العامل { بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب } كوفي وشامي أي غيركم غيرهم بالتخفيف { وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } أي تقرأون ، والمعنى بسبب كونكم عالمين وبسبب كونكم دارسين للعلم كانت الربانية التي هي قوة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة ، وكفى به دليلاً على خيبة سعي من جهد نفسه وكد روحه في جمع العلم ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان كمن غرس شجرة حسناء تؤنقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها . وقيل : معنى «تدرسون» تدرسونه على الناس كقوله { لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس } [ الإسراء : 106 ] فيكون معناه معنى تدرسون من التدريس كقراءة ابن جبير .
{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } بالنصب عطفاً على «ثم يقول» ووجهه أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله «ما كان لبشر» والمعنى ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً له ويأمركم { أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا } كما تقول «ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي»وبالرفع حجازي وأبو عمرو وعليّ على ابتداء الكلام ، والهمزة في { أَيَأْمُرُكُم بالكفر } للإنكار والضمير في «لا يأمركم» و«أيأمركم» للبشر أو لله .(1/166)
وقوله { بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } يدل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوه أن يسجدوا له .
{ وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين } هو على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين بذلك ، أو المراد ميثاق الأولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف . واللام في { لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ } لام التوطئة لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف ، وفي «لتؤمنن» لام جواب القسم ، وما يجوز أن تكون متضمنة لمعنى الشرط و«لتؤمنن» ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً ، وأن تكون موصولة بمعنى للذي آتيتكموه لتؤمنن به { ثُمَّ جَاءكُمْ } معطوف على الصلة والعائد منه إلى ما محذوف والتقدير ثم جاءكم به { رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لّمَا مَعَكُمْ } للكتاب الذي معكم { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } بالرسول { وَلَتَنصُرُنَّهُ } أي الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم «لما آتيتكم» حمزة و «ما» بمعنى الذي ، أو مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ثم لمجيء رسول مصدق لما معكم . واللام للتعليل أي أخذ الله ميثاقهم لتؤمنن بالرسول ولتنصرنه لأجل أني آتيتكم الحكمة ، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف . «آتيناكم» : مدني { قَالَ } أي الله { أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى } أي قبلتم عهدي ، وسمي إصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد { قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا } فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين } وأنا معكم على ذلك من إقراركم وتشاهدكم من الشاهدين ، وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض . وقيل : قال الله للملائكة اشهدوا { فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك } الميثاق والتوكيد ونقض العهد بعد قبوله وأعرض عن الإيمان بالنبيّ الجائي { فأولئك هُمُ الفاسقون } المتمردون من الكفار .(1/167)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
{ أَفَغَيْرَ دِينِ الله } دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة ، والمعنى فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون ، ثم توسطت الهمزة بينهما . ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره : أيتولون فغير دين الله يبغون . وقدم المفعول وهو غير دين الله على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل { يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات } الملائكة { والأرض } الإنس والجن { طَوْعاً } بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه { وَكَرْهًا } بالسيف أو بمعاينة العذاب كنتق الجبل على بني إسرائيل وإدراك الغرق فرعون والإشفاء على الموت ، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده . وانتصب { طَوْعًا وَكَرْهًا } على الحال أي طائعين ومكرهين { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } فيجازيكم على الأعمال «يبغون» و«يرجعون» بالياء فيهما : حفص ، وبالتاء في الثاني وفتح الجيم أبو عمرو لأن الباغين هم المتولون والراجعون جميع الناس ، وبالتاء فيهما وفتح الجيم : غيرهما .
{ قُلْ ءَامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان فلذا وحد الضمير في «قل» وجمع في «آمنا» أو أمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من الله لقدر نبيه . وعدي «أنزل» هنا بحرف الاستعلاء وفي البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنيين ، إذ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول ، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر . وقال صاحب اللباب : الخطاب في البقرة للأمة لقوله { قُولُواْ } فلم يصح إلا «إلى» لأن الكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أمتهم جميعاً ، وهنا قال «قل» وهو خطاب للنبي عليه السلام دون أمته فكان اللائق به «علي» لأن الكتب منزلة عليه لا شركة للأمة فيه ، وفيه نظر لقوله تعالى : { وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب ءامِنُواْ بالذى أُنزِلَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ } [ آل عمران : 72 ] { وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والأسباط } أولاد يعقوب وكان فيهم أنبياء { وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى والنبيون } كرر في البقرة و«ما أوتي» ولم يكرر هنا لتقدم ذكر الإيتاء حيث قال «لما آتيتكم» { مّن رَّبّهِمُ } من عند ربهم { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } في الإيمان كما فعلت اليهود والنصارى { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكاً في عبادتنا { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام } يعني التوحيد وإسلام الوجه لله أو غير دين محمد عليه السلام { دِينًا } تمييز { فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخرة مِنَ الخاسرين } من الذين وقعوا في الخسران ونزل في رهط أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة .
{ كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم } والواو في { وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول حَقٌّ } للحال و «قد» مضمرة أي كفروا وقد شهدوا أن الرسول أي محمداً حق ، أو للعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأن معناه بعد أن آمنوا { وَجَاءهُمُ البينات } أي الشواهد كالقرآن وسائر المعجزات { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } أي ما داموا مختارين الكفر ، أو لا يهديهم طريق الجنة إذا ماتوا كفاراً { أولئك } مبتدأ { جَزَآؤُهُمْ } مبتدأ ثانٍ خبره { أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله } وهما خبر «أولئك» أو «جزاؤهم» بدل الاشتمال من «أولئك» { والملائكة والناس أَجْمَعِينَ خالدين } حال من الهاء والميم في «عليهم» { فِيهَا } في اللعنة { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك } الكفر العظيم والارتداد { وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح { فَإِنَّ الله غَفُورٌ } لكفرهم { رَّحِيمٌ } بهم .(1/168)
ونزل في اليهود { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } بعيسى والإنجيل { بَعْدَ إيمانهم } بموسى والتوراة { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، أو كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطعنهم فيه في كل وقت أو نزل في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة . وازديادهم الكفر أن قالوا : نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } أي إيمانهم عند البأس لأنهم لا يتوبون إلا عند الموت قال الله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون * إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرض } الفاء في «فلن يقبل» يؤذن بأن الكلام بني على الشرط والجزاء ، وأن بسبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر ، وترك الفاء فيما تقدم يشعر بأن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب { ذَهَبًا } تمييز { وَلَوِ افتدى بِهِ } أي فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً قال عليه السلام " يقال للكافر يوم القيامة لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول : نعم . فيقال له : لقد سئلت أيسر من ذلك " قيل : الواو لتأكيد النفي { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } معينين دافعين للعذاب .
{ لَن تَنَالُواْ البر } لن تبلغوا حقيقة البر أو لن تكونوا أبراراً أو لن تنالوا بر الله وهو ثوابه { حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثروها . وعن الحسن : كل من تصدق ابتغاء وجه الله بما يحبه ولو تمرة فهو داخل في هذه الآية . قال الواسطي : الوصول إلى البر بإنفاق بعض المحاب وإلى الرب بالتخلي عن الكونين ، وقال أبو بكر الوراق : لن تناولوا بري بكم إلا ببركم بإخوانكم .(1/169)
والحاصل أنه لا وصول إلى المطلوب إلا بإخراج المحبوب . وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدال السكر ويتصدق بها فقيل له : لم لا تتصدق بثمنها؟ قال : لأن السكر أحب إليّ فأردت أن أنفق مما أحب . { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } أي هو عليكم بكل شيء تنفقونه فيجازيكم بحسبه . و«من» الأولى للتبعيض لقراءة عبد الله «حتى تنفقوا بعض ما تحبون» والثانية للتبيين أي من أي شيء كان الإنفاق طيب تحبونه أو خبيث تكرهونه . ولما قالت اليهود للنبي عليه السلام : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها فقال عليه السلام " كان ذلك حلالاً لإبراهيم فنحن نحله " فقالت اليهود : إنها لم تزل محرمة في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام نزل تكذيباً لهم .
{ كُلُّ الطعام } أي المطعومات التي فيها النزاع فإن منها ما هو حرام قبل ذلك كالميتة والدم { كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل } أي حلالاً وهو مصدر . يقال حل الشيء حلاً ولذا استوى في صفة المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال الله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ } [ الممتحنة : 10 ] { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل } أي يعقوب { على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } وبالتخفيف مكي وبصري وهو لحوم الإبل وألبانها ، وكانا أحب الطعام إليه . والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه ، فلما نزلت التوراة على موسى حرم عليهم فيها لحوم الإبل وألبانها لتحريم إسرائيل ذلك على نفسه { قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين } أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به من أن تحريم ماحرم عليهم تحريم حادث سبب ظلمهم وبغيهم لا تحريم قديم كما يدعونه ، فلم يجرؤوا على إخراج التوراة وبهتوا . وفيه دليل بيّن على صدق النبي عليه السلام وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه { فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب } بزعمه أن ذلك كان محرماً في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام { مِن بَعْدِ ذلك } من بعدما لزمهم من الحجة القاطعة { فأولئك هُمُ الظالمون } المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات { قُلْ صَدَقَ الله } في إخباره أنه لم يحرم وفيه تعريض بكذبهم أي ثبت أن الله تعالى صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون { فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم } وهي ملة الإسلام التي عليها محمد عليه السلام ومن آمن معه حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم ، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه { حَنِيفاً } حال من إبراهيم أي مائلاً من الأديان الباطلة { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } .(1/170)
ولما قالت اليهود للمسلمين : قبلتنا قبل قبلتكم نزل { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } والواضع هو الله عز وجل . ومعنى وضع الله بيتاً للناس أنه جعله متعبداً لهم فكأنه قال : إن أول متعبد للناس الكعبة وفي الحديث " إن المسجد الحرام وضع قبل بيت المقدس بأربعين سنة " قيل : أول من بناه إبراهيم . وقيل : هو أول بيت حج بعد الطوفان . وقيل : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض . وقيل : هو أول بيت بناه آدم عليه السلام في الأرض . وقوله «وضع للناس» في موضع جر صفة ل «بيت» والخبر { لَلَّذِى بِبَكَّةَ } أي للبيت الذي ببكة وهي علم للبلد الحرام . ومكة وبكة لغتان فيه . وقيل : مكة البلد وبكة موضع المسجد . وقيل : اشتقاقها من بكه إذا زحمه لازدحام الناس فيها ، أو لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها لم يقصدها جبار إلا قصمه الله . { مُبَارَكاً } كثير الخير لما يحصل للحجاج والمعتمرين من الثواب وتكفير السيئات { وَهُدًى للعالمين } لأنه قبلتهم ومتعبدهم ، و«مباركاً وهدى» حالان من الضمير في وضع { فِيهِ ءايات بينات } علامات واضحات لا تلتبس على أحد { مَّقَامُ إبراهيم } عطف بيان لقوله «آيات بينات» . وصح بيان الجماعة بالواحد لأنه وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ، ونبوة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد ، أو لاشتماله على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة على أن { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً } عطف بيان ل «آيات» وإن كان جملة ابتدائية أو شرطية من حيث المعنى لأنه يدل على أمن داخله فكأنه قيل : فيه آيات بينات مقام لإبراهيم وأمن داخله ، والاثنان في معنى الجمع . ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله وكثير سواهما نحو انمحاق الأحجار مع كثرة الرماة ، وامتناع الطير من العلو عليه وغير ذلك ، ونحوه في طي الذكر قوله عليه السلام " حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة " فقرة عيني ليس من الثلاث بل هو ابتداء كلام لأنها ليست من الدنيا ، والثالث مطوي وكأنه عليه السلام ترك ذكر الثالث تنبيهاً على أنه لم يكن من شأنه أن يذكر شيئاً من الدنيا فذكر شيئاً هو من الدين . وقيل في سبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عليه السلام عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه .(1/171)
وقيل : إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل عليه السلام : إِنزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه ، وأمان من دخله بدعوة إبراهيم عليه السلام { رَبّ اجعل هذا البلد آمِنًا } [ إبراهيم : 35 ] وكان الرجل لو جنى كل جناية ثم التجأ إلى الحرم لم يطلب . وعن عمر رضي الله عنه : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه . ومن لزمه القتل في الحل بقود أو ردة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج . وقيل : آمنا من النار لقوله عليه السلام من " من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا من النار " وعنه عليه السلام " الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة " وهما مقبرتا مكة والمدينة . وعنه عليه السلام " من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام " { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } أي استقر له عليهم فرض الحج «حج البيت» : كوفي غير أبي بكر وهو اسم وبالفتح مصدر . وقيل : هما لغتان في مصدر حج { منْ } في موضع جر على أنه بدل البعض من الكل { استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } فسرها النبي عليه السلام بالزاد والراحلة . والضمير في «إليه» للبيت أو للحج وكل مأتي إلى الشيء فهو سبيل إليه . ولما نزل قوله تعالى : «ولله على الناس حج البيت» . جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال : " إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا " فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون ، وكفرت به خمس ملل قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فنزل { وَمَن كَفَرَ } أي جحد فرضية الحج وهو قول ابن عباس والحسن وعطاء ، ويجوز أن يكون من الكفران أي ومن لم يشكر ما أنعمت عليه من صحة الجسم وسعة الرزق ولم يحج { فإنّ اللّه غنيٌّ عن العالمين } مستغنٍ عنهم وعن طاعتهم . وفي هذه الآية أنواع من التأكيد والتشديد : منها اللام و «على» أي أنه حق واجب لله في رقاب الناس ، ومنها الإبدال ففيه تثنية للمراد وتكرير له ، ولأن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ، ومنها قوله «ومن كفر» مكان ومن لم يحج تغليظاً على تاركي الحج ، ومنها ذكر الاستغناء وذلك دليل على المقت والسخط ، ومنها قوله «عن العالمين» وإن لم يقل عنه وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه .(1/172)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
{ قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بئايات الله والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } الواو للحال والمعنى لم تكفرون بآيات الله الدالة على صدق محمد عليه السلام والحال أن الله شهيد على أعمالكم فيجازيكم عليها؟! { قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ } الصد المنع { عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ } عن دين حق علم أنه سبيل الله التي أمر بسلوكها وهو الإسلام ، وكانوا يمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم ومحل { تَبْغُونَهَا } تطلبون لها نصب على الحال { عِوَجَا } اعوجاجاً وميلاً عن القصد والاستقامة بتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك { وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ } أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلاّ ضال مضل { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } من الصد عن سبيله وهو وعيد شديد . ثم نهى المؤمنين عن اتباع هؤلاء الصادين عن سبيله بقوله { ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم كافرين } قيل : مرّ شاس ابن قيس اليهودي على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون ، فغاظه تحدثهم وتألفهم فأمر شاباً من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث لعلهم يغضبون ، وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس ، ففعل فتنازع القوم عند ذلك وقالوا : السلاح السلاح . فبلغ النبي عليه السلام فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال « أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم » بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وألف بينكم؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً باكين فنزلت الآية { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجب أي من أين يتطرق إليكم الكفر { وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ ءايات الله } والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } وبين أظهركم رسول الله عليه السلام ينبهكم ويعظكم ويزيح عنكم شبهكم { وَمَن يَعْتَصِم بالله } ومن يتمسك بدينه أو بكتابه ، أو هو حث لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم { فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ } أرشد إلى الدين الحق ، أو ومن يجعل ربه ملجأ ومفزعاً عند الشبه يحفظه عن الشبه . { ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } واجب تقواه وما يحق منها وهو القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم . وعن عبد الله هو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى . أو هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو بنيه أو أبيه . وقيل : لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه .(1/173)
والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت { واعتصموا بِحَبْلِ الله } تمكسوا بالقرآن لقوله عليه السلام " القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم " { جَمِيعاً } حال من ضمير المخاطبين . وقيل : تمكسوا بإجماع الأمة دليله { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } أي ولا تتفرقوا يعني ولا تفعلوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع ، أو ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلفت اليهود والنصارى ، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية يحارب بعضكم بعضاً { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } كانوا في الجاهلية بينهم العداوة والحروب فألف بين قلوبهم بالإسلام وقذف في قلوبهم المحبة فتحابوا وصاروا إخواناً { وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار } وكنتم مشفين على أن تقعوا في نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } بالإسلام وهو رد على المعتزلة ، فعندهم هم الذين ينقذون أنفسهم لا الله تعالى . والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا ، وأنث لإضافته إلى الحفرة . وشفا الحفرة : حرفها ، ولامها واو فلهذا يثنى شفوان { كذلك } مثل ذلك البيان البليغ { يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } أي القرآن الذي فيه أمر ونهي ووعد ووعيد { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لتكونوا على رجاء الهداية أو لتهتدوا به إلى الصواب وما ينال به الثواب .
{ وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف } بما استحسنه الشرع والعقل { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } عما استقبحه الشرع والعقل ، أو المعروف ما وافق الكتاب والسنة . والمنكر ما خالفهما ، أو المعروف الطاعة والمنكر المعاصي . والدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك وما عطف عليه خاص . و«من» للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية ، ولأنه لا يصلح له إلا من علم بالمعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته فإنه يبدأ بالسهل فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب قال الله تعالى : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } . ثم قال : { فقاتلوا } [ الحجرات : 9 ] . أو للتبيين أي وكونوا أمة تأمرون كقوله تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف } { وأولئك هُمُ المفلحون } أي هم الأخصاء بالفلاح الكامل قال عليه السلام " من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه " وعن علي رضي الله عنه : أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
{ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ } بالعداوة { واختلفوا } في الديانة وهم اليهود والنصارى فإنهم اختلفوا وكفر بعضهم بعضاً { مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات } الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق { وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ونصب { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } أي وجوه المؤمنين بالظرف وهو لهم أو بعظيم أو باذكروا { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } أي وجوه الكافرين .(1/174)
والبياض من النور والسواد من الظلمة { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ } فيقال لهم { أَكْفَرْتُمْ } فحذف الفاء ، والقول جميعاً للعلم به والهمزة للتوبيخ والتعجب من حالهم { بَعْدَ إيمانكم } يوم الميثاق فيكون المراد به جميع الكفار وهو قول أبي وهو الظاهر ، أو هم المرتدون أو المنافقون أي أكفرتم باطناً بعد إيمانكم ظاهراً ، أو أهل الكتاب ، وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اعترافهم به قبل مجيئه { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله } ففي نعمته وهي الثواب المخلد . ثم استأنف فقال { هُمْ فِيهَا خالدون } لا يظعنون عنها ولا يموتون . { تِلْكَ آيات الله } الواردة في الوعد والوعيد وغير ذلك { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } ملتبسة { بالحق } والعدل من جزاء المحسن والمسيء { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين } أي لا يشاء أن يظلم هو عباده فيأخذ أحداً بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ينقص من ثواب محسن { وَللَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وإلى الله تُرْجَعُ الأمور } فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته . «ترجع» . شامي وحمزة وعلي . كان عبارة عن وجود الشيء في زمان ماضٍ على سبيل الإبهام ، ولا دليل فيه على عدم سابق ولا على انقطاع طارىء ومنه قوله .
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } كأنه قيل : وجدتم خير أمة أو كنتم في علم الله أو في اللوح خير أمة ، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به { أُخْرِجَتْ } أظهرت { لِلنَّاسِ } اللام يتعلق ب «أخرجت» { تَأْمُرُونَ } كلام مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول «زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم» بينت بالإطعام والإلباس وجه الكرم فيه { بالمعروف } بالإيمان وطاعة الرسول { وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } عن الكفر وكل محظور { وَتُؤْمِنُونَ بالله } وتدومون على الإيمان به أو لأن الواو لا تقتضي الترتيب { وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الكتاب } بمحمد عليه السلام { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } لكان الإيمان خيراً لهم مما هم فيه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العوام ، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله ، مع الفوز بما وعدوا على الإيمان به من إيتاء الأجر مرتين { مّنْهُمُ المؤمنون } كعبد الله بن سلام وأصحابه { وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } المتمردون في الكفر .
{ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } إلا ضرراً مقتصراً على أذى بقول من طعن في الدين أو تهديد أو نحو ذلك { وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الأدبار } منهزمين ولا يضروكم بقتلٍ أو أسر { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم ، وفيه تثبيت لمن أسلم منهم لأنهم كانوا يؤذونهم بتوبيخهم وتهديدهم وهو ابتداء إخبار معطوف على جملة الشرط والجزاء وليس بمعطوف على «يولوكم» إذ لو كان معطوفاً عليه لقيل ثم لا ينصروا ، وإنما استؤنف ليؤذن أن الله لا ينصرهم قاتلوا أم لم يقاتلوا ، وتقدير الكلام : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .(1/175)
و«ثم» للتراخي في المرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار .
{ ضُرِبَتْ } ألزمت { عَلَيْهِمُ الذلة } أي على اليهود { أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ } وجدوا { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله } في محل النصب على الحال ، والباء متعلق بمحذوف تقديره إلا معتصمين أو متمسكين بحبل من الله { وَحَبْلٍ مّنَ الناس } والحبل العهد والذمة ، والمعنى ضربت عليهم الذلة في كل حال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس يعني ذمة الله وذمة المسلمين أي لا عزّ لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية { وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } استوجبوه { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة } الفقر عقوبة لهم على قولهم { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } [ آل عمران : 181 ] أو خوف الفقر مع قيام اليسار { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بئايات الله وَيَقْتُلُونَ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ } ذلك إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بغضب الله أي ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق . ثم قال { ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } أي ذلك الكفر وذلك القتل كائن بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده .(1/176)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
{ لَيْسُواْ سَوَاءً } ليس أهل الكتاب مستوين { مِّنْ أَهْلِ الكتاب } كلام مستأنف لبيان قوله «ليسوا سواء» كما وقع قوله { تَأْمُرُونَ بالمعروف } بياناً لقوله «كنتم خير أمة» { أمّةٌ قائمةٌ } جماعة مستقيمة عادلة من قولك «أقمت العود فقام» أي استقام وهم الذين أسلموا منهم { يَتْلُونَ ءايات الله } القرآن { ءَانَآءَ اليل } ساعاته واحدها «إنى» كمعي أو «إنو» كقنو أو «إنى» ك «نحى» .
{ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } يصلون . قيل : يريد صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها . وقيل : عبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف } بالإيمان وسائر أبواب البر { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } عن الكفر ومنهيات الشرع { ويسارعون فِى الخيرات } يبادرون إليها خشية الفوت . وقوله : «يتلون» و«يؤمنون» في محل الرفع صفتان لأمة أي أمة قائمة تالون مؤمنون . وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ومن الإيمان بالله ، لأن إيمانهم به كلا إيمان لإشراكهم به عزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين ، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها ، والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع بالقيام به { وأولئك } الموصوفون بما وصفوا به { مّنَ الصالحين } من المسلمين أو من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ } بالياء فيهما كوفي غير أبي بكر وأبو عمرو . مخير غيرهم بالتاء . وعدي «يكفروه» إلى مفعولين وإن كان شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد تقول شكر النعمة وكفرها لتضمنه معنى الحرمان كأنه قيل : فلن تحرموه أي فلن تحرموا جزاءه { والله عَلِيمٌ بالمتقين } بشارة للمتقين بجزيل الثواب .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مِّنَ الله شَيْئًا } أي من عذاب الله { وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون *مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هذه الحياة الدنيا } في المفاخر والمكارم وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس أو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم { كَمَثَلِ رِيحٍ } كمثل مهلك ريح وهو الحرث أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح { فِيهَا صِرٌّ } برد شديد عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو مبتدأ وخبر في موضع جر صفة ل «ريح» مثل { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر { فَأَهْلَكَتْهُ } عقوبة على كفرهم { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } بإهلاك حرثهم { ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بارتكاب ما استحقوا به العقوبة ، أو يكون الضمير للمنفقين أي وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها لائقة للقبول .(1/177)
ونزل نهياً للمؤمنين عن مصافات المنافقين { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً } بطانة الرجل ووليجته خصيصه وصفيه شبه ببطانة الثوب كما يقال «فلان شعاري» وفي الحديث " الأنصار شعار والناس دثار " { مّن دُونِكُمْ } من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون وهو صفة لبطانة أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } في موضع النصب صفة لبطانة يعني لا يقصرون في فساد دينكم يقال «ألا في الأمر يألو» إذا قصر فيه ، والخبال الفساد . وانتصب «خبالاً» على التمييز أوعلى حذف في أي في خبالكم { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } أي عنتكم ف «ما» مصدرية . والعنت شدة الضرر والمشقة أي تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر وأبلغه ، وهو مستأنف على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة كقوله { قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم } لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضه للمسلمين { وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ } مع البغض لكم { أَكْبَرُ } مما بدا { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات } الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه { إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } ما بين لكم .
{ هَاأَنتُمْ أُوْلاءِ } «ها» للتنبيه و«أنتم» مبتدأ و«أولاء» خبره أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافي أهل الكتاب { تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء ، أو أولاء موصول صلته «تحبونهم» . والواو في { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ } للحال وانتصابها من «لا يحبونكم» أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله وهم مع ذلك يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟ وفيه توبيخ شديد لأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم . وقيل : الكتاب للجنس . { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا } أظهروا كلمة التوحيد { وَإِذَا خَلَوْاْ } فارقوكم أو خلا بعضهم ببعض { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } يوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به ، والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله ومالهم في ذلك من الذل والخزي { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } فهو يعلم ما في صدور المنافقين من الحنق والبغضاء وما يكون منهم في حال خلو بعضهم ببعض ، وهو داخل في جملة المقول أي أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه أو خارج عن المقول ، أي قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من إطلاعي إياك على ما يسرون فإني أعلم بما هو أخفى من ذلك وهو ما أضمروه في صدورهم { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ } رخاء وخصب وغنيمة ونصرة { تَسُؤْهُمْ } تحزنهم إصابتها { وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ } أضداد ما ذكرنا .(1/178)
والمس مستعار من الإصابة فكأن المعنى واحد ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } [ التوبة : 50 ] { يَفْرَحُواْ بِهَا } بإصابتها { وَإِن تَصْبِرُواْ } على عداوتهم { وَتَتَّقُواْ } ما نهيتم عنه من موالاتهم ، أو وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقه وتتقوا الله في اجتنابكم محارمه { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } مكرهم وكنتم في حفظ الله ، وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى . وقال الحكماء : إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك . { لاَ يَضُرُّكُمْ } : مكي وبصري ونافع من ضاره يضيره بمعنى ضره وهو واضح . والمشكل قراءة غيرهم لأنه جواب الشرط وجواب الشرط مجزوم فكان ينبغي أن يكون بفتح الراء كقراءة المفضل عن عاصم ، إلا أن ضمة الراء لإتباع ضمة الضاد نحو «مد يا هذا» { إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ } بالتاء : سهل أي من الصبر والتقوى وغيرهما { مُحِيطٌ } ففاعل بكم ما أنتم أهله . وبالياء : غيره أي أنه عالم بما يعملون في عداوتكم فمعاقبهم عليه .
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } واذكر يا محمد إذ خرجت غدوة من أهلك بالمدينة ، والمراد غدوة من حجرة عائشة رضي الله عنها إلى أحد { تُبَوّىءُ المؤمنين } تنزلهم وهو حال { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } مواطن ومواقف من الميمنة والميسرة والقلب والجناحين والساقة . و«للقتال» يتعلق ب «تبوىء» { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم . رُوي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبيّ فاستشاره فقال : أقم بالمدينة فما خرجنا على عدو قط إلا أصاب منا ، وما دخلوا علينا إلا أصبنا منهم . فقال عليه السلام : " إني رأيت في منامي بقراً مذبحة حولي فأولتها خيراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلمة فأولتها هزيمة ، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فلم يزل به قوم ينشطون في الشهادة حتى لبس لأمته ثم ندموا " فقالوا : الأمر إليك يا رسول الله فقال عليه السلام " لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل " فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال { إِذْ هَمَّتْ } بدل من «إذ غدوت» أو عمل فيه معنى «عليم» { طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ } خيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس . وكان عليه السلام خرج إلى أحد في ألف ، والمشركون في ثلاثة آلاف ، ووعدهم الفتح إن صبروا فانخذل عبد الله بن أبيّ بثلث الناس وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فهم الحيان باتباعه فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله { أَن تَفْشَلاَ } أي بأن تفشلا أي بأن تجبنا وتضعفا والفشل الجبن والخور { والله وَلِيُّهُمَا } محبهما أو ناصرهما أو متولي أمرهما فما لهما تفشلان ولا تتوكلان على الله { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أمرهم بأن لا يتوكلوا إلا عليه ولا يفوضوا أمورهم إلا إليه .(1/179)
قال جابر : والله ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا الله بأنه ولينا . ثم ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل مما يسر لهم من الفتح يوم بدر وهم في حال قلة وذلة فقال :(1/180)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } وهو اسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمي به ، أو ذكر بدراً بعد أحد للجمع بين الصبر والشكر . { وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ } لقلة العدد فإنهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر ، وكان عدوهم زهاء ألف مقاتل والعدد ، فإنهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد وما كان معهم إلا فرس واحد ، ومع عدوهم مائة فرس والشكة والشوكة . وجاء بجمع القلة وهو «أذلة» ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلاً «فاتّقوا اللّه» في الثبات مع رسوله { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } بتقواكم ما أنعم الله به عليكم من النصر { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } ظرف ل «نصركم» على أن يقول لهم ذلك يوم بدر أي نصركم الله وقت مقالتكم هذه ، أو بدل ثانٍ من «إذ غدوت» على أن تقول لهم ذلك يوم أحد { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ } «منزّلين» شامي . «مُنزلِين» أبو حيوة أي للنصرة . ومعنى «ألن يكفيكم» إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة ، وجيء ب «لن» الذي هو لتأكيد النفي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكته كالآيسين من النصر { بلى } إيجاب لما بعد« لن» أي يكفيكم الإمداد بهم فأوجب الكفاية . ثم قال { إِن تَصْبِرُواْ } على القتال { وَتَتَّقُواْ } خلاف الرسول عليه السلام { وَيَأْتُوكُمْ } يعني المشركين { مّن فَوْرِهِمْ هذا } هو من فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة ثم سميت بها الحالة التي لا ريث بها ولا تعريج على شيء من صاحبها فقيل «خرج من فوره» كما تقول «من ساعته لم يلبث» ومنه قول الكرخي «الأمر المطلق على الفور لا على التراخي» والمعنى إن يأتوكم من ساعتهم هذه { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالافٍ مِّنَ الملائكة } في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم يعني أن الله تعالى يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن صبرتم واتقيتم { مُسَوِّمِينَ } بكسر الواو : مكي وأبو عمر وعاصم وسهل أي معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامة يعون بها في الحرب . والسومة العلامة . عن الضحاك : معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها . غيرهم : بفتح الواو أي معلمين . قال الكلبي : معلين بعمائم صفر مرخاة على اكتافهم ، وكانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك . قال قتادة : نزلت ألفاً فصاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف { وَمَا جَعَلَهُ الله } الضمير يرجع إلى الإمداد الذي دل عليه «أن يمدكم» { إِلاَّ بشرى لَكُمْ } أي وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون { وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } لا من عند المقاتلة ولا من عند الملائكة ولكن ذلك مما يقوي به الله رجاء النصرة والطمع في الرحمة { العزيز } الذي لا يغالب في أحكامه { الحكيم } الذي يعطي النصر لأوليائه ويبتليهم بجهاد أعدائه .(1/181)
واللام في { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ } ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش متعلقه بقوله : «ولقد نصركم الله» . أو بقوله : «وما النصر إلا من عند الله» . أو ب «يمددكم ربكم» { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة ، وحقيقة الكبت شدَّة وهن تقع في القلب فيصرع في الوجه لأجله { فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ } فيرجعوا غير ظافرين بمبتغاهم { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْءٌ } اسم ليس «شيء» والخبر «لك» و«من الأمر» حال من «شيء» لأنها صفة مقدمة { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } عطف على «ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم» و«وليس لك من الأمر شيء» اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ، والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا { أَوْ يُعَذِّبَهُمْ } إن أصروا على الكفر وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم . وعن الفراء «أو» بمعنى «حتى» . وعن ابن عيسى بمعنى إلا أن كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي أي ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم . وقيل : أراد أن يدعو عليهم فنهاه الله تعالى لعلمه أن فيهم من يؤمن { فَإِنَّهُمْ ظالمون } مستحقون للتعذيب .
{ وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } أي الأمر له لا لك لأن ما في السموات وما في الأرض ملكه { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ } للمؤمنين { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } الكافرين { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة } «مضعفَّة» مكي وشامي . هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله يقول : إما أن تقضي حقي أو تربي وتزيد في الأجل { واتقوا الله } في أكله { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين } كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول : هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه ، وقد أمد ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله بقوله { وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وفيه رد على المرجئة في قولهم «لا يضر مع الإيمان ذنب ولا يعذب بالنار أصلاً» وعندنا غير الكافرين من العصاة قد يدخلها ولكن عاقبة أمره الجنة . وفي ذكره تعالى «لعل» و «عسى» في نحو هذه المواضع وإن قال أهل التفسير إن «لعل» و «عسى» من الله للتحقيق ، ما لا يخفى على العارف من دقة مسلك التقوى وصعوبة إصابة رضا الله تعالى وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه .(1/182)
{ وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ } «سَارَعوا» : مدني وشامي . فمن أثبت الواو عطفها على ما قبلها ، ومن حذفها استأنفها . ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الإقبال على ما يوصل إليهما . ثم قيل : هي الصلوات الخمس أو التكبيرة الأولى ، أو الطاعة ، أو الإخلاص ، أو التوبة ، أو الجمعة والجماعات . { عَرْضُهَا السموات والأرض } أي عرضها عرض السماوات والأرض كقوله : { عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض } [ الحديد : 21 ] . والمراد وصفها بالسعة والبسط فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه . وخص العرض لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض . وما روي أن الجنة في السماء السابعة أو في السماء الرابعة فمعناه انها في جهتها لا أنها فيها أو في بعضها كما يقال في الدار بستان وإن كان يزيد عليها لأن المراد أن بابه إليها { أُعِدَّتْ } في موضع جر صفة ل «جنة» أيضاً أي جنة واسعة معدة { لّلْمُتَّقِينَ } ودلت الآيتان على أن الجنة والنار مخلوقتان . ثم المتقي من يتقي الشرك كما قال { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } [ الحديد : 21 ] أو من يتقي المعاصي فإن كان المراد الثاني فهي لهم بغير عقوبة ، وإن كان الأول فهي لهم أيضاً في العاقبة ، ويوقف عليه إن جعل { الذين يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ والضراء } في حال اليسر والعسر مبتدأ وعطف عليه «والذين إذا فعلوا فاحشة» وجعل الخبر «أولئك» . وإن جعل وصفاً للمتقين وعطف عليه «والذين إذا فعلوا فاحشة» أي أعدت للمتقين والتائبين فلا وقف . فإن قلت : الآية تدل على أن الجنة معدة للمتقين والتائبين دون المصرين . قلت : جاز أن تكون معدة لهما ثم يدخلها بفضل الله وعفوه غيرهما كما يقال «أعدت هذه المائدة للأمير» ثم قد يأكلها أتباعه . ألا ترى أنه قال { واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين } [ آل عمران : 131 ] ثم قد يدخلها غير الكافرين بالاتفاق ، وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس وأدله على الإخلاص ، ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين . وقيل : المراد الإنفاق في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرة { والكاظمين الغيظ } والممسكين الغيظ عن الإمضاء يقال كظم القربة إذا امتلأها وشد فاها ، ومنه كظم الغيظ وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثراً . والغيظ : توقد حرارة القلب من الغضب ، وعن النبي عليه السلام " من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً "(1/183)
{ والعافين عَنِ الناس } أي إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه وروي " ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا " وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه { والله يُحِبُّ المحسنين } اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون ، أو للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء . عن الثوري : الإحسان أن تحسن إلى المسيء فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة .
{ والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة } فعلة متزايدة القبح ، ويجوز أن يكون و«والذين» مبتدأ خبره «أولئك» { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } قيل : الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ، أو الفاحشة الزنا وظلم النفس القبلة واللمسة ونحوهما { ذَكَرُواْ الله } بلسانهم أو بقلوبهم ليبعثهم على التوبة { فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } فتابوا عنها لقبحهما نادمين . قيل : بكى إبليس حين نزلت هذه الآية { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } «من» مبتدأ و«يغفر» خبره ، وفيه ضمير يعود إلى «من» و«إلا الله» بدل من الضمير في «يغفر» والتقدير : ولا أحد يغفر الذنوب إلا الله ، وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وبيان لسعة رحمته وقرب مغفرته من التائب ، وإشعار بأن الذنوب وإن جلّت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم . { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ } ولم يقيموا على قبيح فعلهم والإصرار الإقامة قال عليه السلام " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة " وروي " لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار " { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } حال من الضمير في «ولم يصروا» أي وهم يعلمون أنهم أساؤوا ، أو وهم يعلمون أنه لا يغفر ذنوبهم إلا الله { أولئك } الموصوفون { جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ } بتوبته { وجنات } برحمته { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين ذلك يعني المغفرة والجنات ، نزلت في تمار قال لامرأة تريد التمر : في بيتي تمر أجود ، فأدخلها بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فندم . أو في أنصاري استخلفه ثقفي وقد آخى بينهما النبي عليه السلام في غيبة غزوة فأتى أهله لكفاية حاجة فرآها فقبلها فندم فساح في الأرض صارخاً فاستعتبه الله تعالى . { قَدْ خَلَتْ } مضت { مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } يريد ما سنه الله تعالى في الأمم المكذبين من وقائعه { فَسِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } فتعتبروا بها هذا أي القرآن أو ما تقدم ذكره { بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى } أي إرشاد { وَمَوْعِظَةٌ } ترغيب وترهيب { لّلْمُتَّقِينَ } عن الشرك { وَلاَ تَهِنُواْ } ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم من الهزيمة { وَلاَ تَحْزَنُواْ } على ما فاتكم من الغنيمة أو على من قتل منكم أو جرح ، وهو تسلية من الله لرسوله وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد وتقوية لقلوبهم { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد ، أو وأنتم الأعلون بالنصر والظفر في العاقبة وهي بشارة لهم بالعلو والغلبة وإن جندنا لهم الغالبون ، أو وأنتم الأعلون شأناً لأن قتالكم لله ولإعلاء كلمته وقتاً لهم للشيطان ولإعلاء كلمة الكفر ، أو لأن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } متعلق بالنهي أي ولا تهنوا إن صح إيمانكم يعني أن صحة الإيمان توجب قوة القلب والثقة بوعد الله وقلة المبالاة بأعدائه ، أو ب «الأعلون» أي إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله به ويبشركم به من الغلبة .(1/184)
{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } بضم القاف حيث كان : كوفي غير حفص . ويفتح القاف : غيرهم . وهما لغتان كالضعف والضعف . وقيل : بالفتح الجراحة وبالضم ألمها { فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ } أي إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يمنعهم عن معاودتكم إلى القتال فأنتم أولى أن لا تضعفوا { وَتِلْكَ } مبتدأ { الأيام } صفته والخبر { نُدَاوِلُهَا } نصرفها { بَيْنَ الناس } أي نصرف ما فيها من النعم والنقم نعطي لهؤلاء تارة وطوراً لهؤلاء كبيت الكتاب :
فيوماً علينا ويوماً لنا ... ويوماً نساء ويوماً نسر
{ وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءَامَنُواْ } أي نداولها لضروب من التدبير وليعلم الله المؤمنين مميزين بالصبر والإيمان من غيرهم كما علمهم قبل الوجود { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } وليكرم ناساً منكم بالشهادة يريد المستشهدين يوم أحد ، أو ليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة من قوله { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } اعتراض بين بعض التعليل وبعض ، ومعناه والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين في سبيله وهم المنافقون والكافرون { وَلِيُمَحِّصَ الله الذين ءَامَنُواْ } التمحيص : التطهير والتصفية { وَيَمْحَقَ الكافرين } ويهلكهم يعني إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص ، وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم }
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي لا تحسبوا { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ } أي ولما تجاهدون لأن العلم متعلق بالمعلوم فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقة لأنه منتف بانتفائه ، تقول : ما علم الله في فلان خيراً أي ما فيه خير حتى يعلمه . و«لما» بمعنى «لم» إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل { وَيَعْلَمَ الصابرين } نصب بإضمار «أن» والواو بمعنى الجمع نحو «لا تأكل السمك وتشرب اللبن» ، أو جزم للعطف على «يعلم الله» ، وإنما حركت الميم لالتقاء الساكنين واختيرت الفتحة لفتحة ما قبلها .(1/185)
{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوا كرامة الشهادة ، وهم الذين ألحوا على رسول الله في الخروج إلى المشركين وكان رأيه في الإقامة بالمدينة ، يعني وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل إخوانكم بين أيديكم وشارفتم أن تقتلوا ، وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاحهم عليه ، ثم انهزامهم عنه . وإنما تمنوا الشهادة لينالوا كرامة الشهداء من غير قصد إلى ما يتضمنه من غلبة الكفار كمن شرب الدواء من طبيب نصراني فإن قصده حصول الشفاء ولا يخطر بباله أن فيه جر منفعة إلى عدو الله وتنفيقاً لصناعته . لما رمى ابن قميئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته أقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قتلت محمداً وخرج صارخ قيل هو الشيطان ألا إن محمداً قد قتل . ففشا في الناس خبر قتله فانكفئوا وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : « إليّ عباد الله » حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فولينا مدبرين فنزل { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ } مضت { مِن قَبْلِهِ الرسل } فسيخلو كما خلوا ، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه ، لأن المقصود من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة لا وجوده بين أظهر قومه { أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم } الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي قبلها على معنى التسبيب ، والهمزة لأنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسك بدين محمد عليه السلام لا للانقلاب عنه ، والانقلاب على العقبين مجاز عن الارتداد أو عن الانهزام { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً } وإنما ضر نفسه { وَسَيَجْزِى الله الشاكرين } الذين لم ينقلبوا ، وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا .
{ وَمَا كَانَ } وما جاز { لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي بعلمه أو بأن يأذن ملك الموت في قبض روحه ، والمعنى أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله ، وفيه تحريض على الجهاد ، وتشجيع على لقاء العدو ، وإعلام بأن الحذر لا ينفع ، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك { كتابا } مصدر مؤكد لأن المعنى كتب الموت كتاباً { مُّؤَجَّلاً } مؤقتاً له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر { وَمَن يُرِدْ } بقتاله { ثَوَابَ الدنيا } أي الغنيمة وهو تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد { نُؤْتِهِ مِنْهَا } من ثوابها { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة } أي إعلاء كلمة الله والدرجة في الآخر { نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين } وسنجزي الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد .(1/186)
{ وَكَأَيّن } أصله أي دخل عليه كاف التشبيه وصارا في معنى «كم» التي للتكثير . وكائن بوزن كاع حيث كان : مكي { مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ } «قتل» : مكي وبصري ونافع . { مَعَهُ } حال من الضمير في قتل أي قتل كائناً معه { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } والربيون الربانيون . وعن الحسن بضم الراء وعن البعض بفتحها ، فالفتح على القياس لأنه منسوب إلى الرب ، والضم والكسر من تغييرات النسب { فَمَا وَهَنُواْ } فما فتروا عند قتل نبيهم { لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ } عن الجهاد بعده { وَمَا استكانوا } وما خضعوا لعدوهم ، وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن عند الإرجاف بقتل رسول الله عليه السلام واستكانتهم لهم حيث أرادوا أن يعتضدوا بابن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان { والله يُحِبُّ الصابرين } على جهاد الكافرين .
{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } أي وما كان قولهم إلا هذا القول وهو إضافة الذنوب إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين هضماً لها { وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا } تجاوزنا حد العبودية { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } في القتال { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } بالغلبة . وقدم الدعاء بالاستغفار من الذنوب على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على الأعداء ، لأنه أقرب إلى الإجابة لما فيه من الخضوع والاستكانة .(1/187)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
{ فئاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا } أي النصرة والظفر والغنيمة { وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } المغفرة والجنة . وخص بالحسن دلالة على فضله وتقدمه وأنه هو المعتد به عنده { والله يُحِبُّ المحسنين } أي هم محسنون والله يحبهم . { ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم } يرجعوكم إلى الشرك { فَتَنقَلِبُواْ خاسرين } قيل : هو عام في جميع الكفار وعلى المؤمنين أن يجانبوهم ولا يطيعوهم في شيء حتى لا يستجروهم إلى موافقتهم . وعن السدي : إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم . وقال علي رضي الله عنه : نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم { بَلِ الله مولاكم } ناصركم فاستغنوا عن نصرة غيره { وَهُوَ خَيْرُ الناصرين * سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } «الرعب» شامي وعلي وهما لغتان . قيل : قذف الله في قلوب المشركين الخوف يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب ولهم القوة والغلبة { بِمَا أَشْرَكُواْ بالله } بسبب إشراكهم أي كان السبب في إلقاء الله الرعب في قلوبهم إشراكهم به { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } آلهة لم ينزل الله بإشراكها حجة ، ولم يرد أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل عليهم لأن الشرك لا يستقيم أن تقوم عليه حجة ، وإنما المراد نفي الحجة ونزولها جميعاً كقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر ... أي ليس بها ضب فينجحر ، ولم يعن أن بها ضباً ولا ينجحر { وَمَأْوَاهُمُ } مرجعهم { النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين } النار فالمخصوص بالذم محذوف .
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى المدينة قال ناس من أصحابه ، من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فنزل { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } أي حقق { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } تقتلونهم قتلاً ذريعاً . وعن ابن عيسى : حسه أبطل حسه بالقتل { بِإِذْنِهِ } بأمره وعلمه { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } جبنتم { وتنازعتم فِى الأمر } أي اختلفتم { وَعَصَيْتُمْ } أمر نبيكم بترككم المركز واشتغالكم بالغنيمة { مِن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } من الظفر وقهر الكفار . ومتعلق «إذا» محذوف تقديره حتى إذا فشلتم منعكم نصره ، وجاز أن يكون المعنى صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } أي الغنيمة وهم الذين تركوا المركز لطلب الغنيمة . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا كانت الدولة للمسلمين أو عليهم فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا ، والمسلمون على آثارهم يقتلونهم .(1/188)
حتى إذا فشلوا وتنازعوا فقال بعضهم : قد انهزم المشركون فما موقفنا هاهنا ، فادخلوا عسكر المسلمين وخذوا الغنيمة مع إخوانكم ، وقال بعضهم : لا تخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فمن ثبت مكانه عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الأخرة } فكر المشركون على الرماة وقتلوا عبد الله ابن جبير وأقبلوا على المسلمين حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا وهو قوله { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أي كف معونته عنكم فغلبوكم { لِيَبْتَلِيَكُمْ } ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم عندها وحقيقته ليعاملكم معاملة المختبر لأنه يجازي على ما يعمله العبد لا على ما يعلمه منه { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } حيث ندمتم على ما فرط منكم من عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلم { والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } بالعفو عنهم وقبول توبتهم ، أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم ، لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة . وانتصب .
{ إِذْ تُصْعِدُونَ } تبالغون في الذهاب في صعيد الأرض ، والإصعاد الذهاب في صعيد الأرض أو الإبعاد فيه بصرفكم ، أو بقوله «ليبتليكم» أو بإضمار «اذكروا» { وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } ولا تلتفون وهو عبارة عن غاية انهزامهم وخوف عدوهم { والرسول يَدْعُوكُمْ } يقول " إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة " والجملة في موضع الحال { فِى أُخْرَاكُمْ } في ساقتكم وجماعتكم الأخرى وهي المتأخرة . يقال جئت في آخر الناس وأخرهم كما تقول في أولهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى { فأثابكم } عطف على «صرفكم» أي فجازاكم الله { غَمّاً } حين صرفكم عنهم وابتلاكم { بِغَمّ } بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم أمره أو غماً مضاعفاً ، غماً بعد غم وغماً متصلاً بغم ، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله عليه السلام والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة والنصر { لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ } لتتمرنوا على تجرع الغموم فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع { وَلاَ مَا أصابكم } ولا على مصيب من المضار { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } عالم بعملكم لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، وهذا ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية . { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً } ثم أنزل الله الأمن على المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم . عن أبي طلحة : غشينا النعاس ونحن في مصافنا فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه . والأمنة الأمن ، و«نعاساً» بدل من «أمنة» أو هو مفعول و«أمنة» حال منه مقدمة عليه نحو «رأيت راكباً رجلاً» والأصل أنزل عليكم نعاساً ذا أمنة إذ النعاس ليس هو الأمن ، ويجوز أن يكون «أمنة» مفعولاً له أو حالاً من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة { يغشى } يعني النعاس .(1/189)
«تغشى» بالتاء والإمالة : حمزة وعلي أي الأمنة { طَائِفَةٌ مّنكُمْ } هم أهل الصدق واليقين { وَطَائِفَةٌ } هم المنافقون { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } ما يهمهم إلا هم أنفسهم وخلاصها لا همّ الدين ولا همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين رضوان الله عليهم { يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق } في حكم المصدر أي يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به وهو أن لا ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم { ظَنَّ الجاهلية } بدل منه والمراد الظن المختص بالملة الجاهلية ، أو ظن أهل الجاهلية أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَىْء } هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب قط يعنون النصر والغلبة على العدو { قُلْ إِنَّ الأمر } أي النصر والغلبة { كُلُّهُ لِلهِ } ولأوليائه المؤمنين { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ] «كله» تأكيد للأمر و«لله» خبر «أن» «كله» بصري وهو مبتدأ و«لله» خبره والجملة خبر «إن» { يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } خوفاً من السيف { يَقُولُونَ } في أنفسهم أو بعضهم لبعض منكرين لقولك لهم «إن الأمر كله لله» { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَىْء مَّا قُتِلْنَا هاهنا } أي لو كان الأمر كما قال محمد " إن الأمر كله لله ولأوليائه وأنهم الغالبون " لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة . «قد أهمتهم» صفة ل «طائفة» و«يظنون» خبر ل «طائفة» أو صفة أخرى ، أو حال أي قد أهمتهم أنفسهم ظانين . و«يقولون» بدل من «يظنون» و«يخفون» حال من «يقولون» و«قل إن الأمر كله لله» اعتراض بين الحال وذي الحال و«يقولون» بدل من «يخفون» أو استئناف { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ } أي من علم الله منه أنه يقتل في هذه المعركة وكتب ذلك في اللوح لم يكن به من وجوده ، فلو قعدتم في بيوتكم { لَبَرَزَ } من بينكم { الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } مصارعهم بأحد ليكون ما علم الله أنه يكون ، والمعنى أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله ، وأن ما ينكبون به في بعض الأوقات تمحيص لهم { وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ } وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان فعل ذلك .(1/190)
أو فعل ذلك لمصالح جمة وللابتلاء والتمحيص { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } بخفياتها .
{ إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ } انهزموا { يَوْمَ التقى الجمعان } جمع محمد عليه السلام وجمع أبي سفيان للقتال بأحد { إِنَّمَا استزلهم الشيطان } دعاهم إلى الزلة وحملهم عليها { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } بتركهم المركز الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات فيه فالإضافة إلى الشيطان لطف وتقريب والتعليل بكسبهم وعظ وتأديب . وكان أصحاب محمد عليه السلام تولوا عنه يوم أحد إلا ثلاثة عشر رجلاً منهم أبو بكر وعلي وطلحة وابن عوف وسعد بن أبي وقاص والباقون من الأنصار { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } تجاوز عنهم { إِنَّ الله غَفُورٌ } للذنوب { حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ } كابن أبيّ وأصحابه { وَقَالُواْ لإخوانهم } أي في حق إخوانهم في النسب أو في النفاق { إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض } سافروا فيها للتجارة أو غيرها { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } جمع غازٍ كعافٍ وعفّى وأصابهم موت أو قتل { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ } اللام يتعلق ب «لا تكونوا» أي لا تكونوا كهؤلاء في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم ، أو ب «قالوا» أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون ذلك حسرة في قلوبهم والحسرة الندامة على فوت المحبوب { والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ } رد لقولهم «إن القتال يقطع الآجال» أي الأمر بيده قد يحيي المسافر والمقاتل . ويميت المقيم والقاعد { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم على أعمالكم . «يعملون» مكي وحمزة وعلي أي الذين كفروا .(1/191)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
{ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ } متم وبابه بالكسر : نافع وكوفي غير عاصم ، تابعهم حفص إلا في هذه السورة كأنه أراد الوفاق بينه وبين قتلتم . غيرهم : بضم الميم في جميع القرآن ، فالضم من مات يموت ، والكسر من مات يمات كخاف يخاف فكما تقول خفت تقول مت { لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } «ما» بمعنى «الذي» والعائد محذوف وبالياء : حفص { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } لإلى الرحيم الواسع الرحمة المثيب العظيم الثواب تحشرون . ولوقوع اسم الله في هذا الموضع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به شأن غني عن البرهان . «لمغفرة» جواب القسم وهو ساد مسد جواب الشرط ، وكذلك «لالى الله تحشرون» كذب الكافرين أولاً في زعمهم أن من سافر من إخوانهم أو غزا لو كان بالمدينة لما مات ، ونهى المسلمين عن ذلك لأنه سبب التقاعد عن الجهاد ثم قال لهم : ولئن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل الله فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله خير مما تجمعون من الدنيا ، فإن الدنيا زاد المعاد فإذا وصل العبد إلى المراد لم يحتج إلى الزاد .
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } «ما» مزيدة للتوكيد والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله . ومعنى الرحمة ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق والتلطف بهم { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً } جافياً { غَلِيظَ القلب } قاسيه { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم { فاعف عَنْهُمْ } ما كان منهم يوم أحد مما يختص بك { واستغفر لَهُمُ } فيما يختص بحق الله إتماماً للشفقة عليهم { وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر } أي في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي تطييباً لنفوسهم وترويحاً لقلوبهم ورفعاً لأقدارهم ، ولتقتدي بك أمتك فيها . في الحديث " ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم " وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومعنى شاورت فلاناً أظهرت ما عندي وما عنده من الرأي . وشرت الدابة استخرجب جريها ، وشرت العسل أخذته من مآخذه ، وفيه دلالة جواز الاجتهاد وبيانا أن القياس حجة { فَإِذَا عَزَمْتَ } فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } في إمضاء أمرك على الأرشد لا على المشورة { إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } عليه والتوكل الاعتماد على الله والتفويض في الأمور إليه . وقال ذو النون : خلع الأرباب وقطع الأسباب { إِن يَنصُرْكُمُ الله } كما نصركم يوم بدر { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } فلا أحد يغلبكم وإنما يدرك نصر الله من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه وقدرته { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } كما خذلكم يوم أحد { فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ } من بعد خذلانه وهو ترك المعونة ، أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان تريد إذا جاوزته ، وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله وعلى وجوب التوكل عليه { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه لعلمهم أنه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانهم يقتضي ذلك .(1/192)
{ وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ } مكي وأبو عمرو وحفص وعاصم أي يخون ، وبضم الياء وفتح الغين : غيرهم . يقال غلّ شيئاً من المغنم غلولاً وأغلّ إغلالاً إذا أخذه في خفية ، ويقال أغله إذا وجده غالاً ، والمعنى ما صح له ذلك يعني أن النبوة تنافي الغلول ، وكذا من قرأ على البناء للمفعول فهو راجع إلى هذا لأن معناه : وما صح له أن يوجد غالاً ولا يوجد غالاً إلا إذا كان غالاً . روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر مما أصيب من المشركين فقال بعض المنافقين : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فنزلت الآية { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } أي يأت بالشيء الذي غله بعينه حاملاً له على ظهره كما جاء في الحديث " أو يأت بما احتمل من وباله وإثمه " { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } تعطي جزاءها وافياً ولم يقل «ثم يوفى ما كسب» ليتصل بقوله «ومن يغلل» بل جيء بعام ليدخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى وهو أبلغ ، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزي فموفى جزاءه علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي جزاء كل على قدر كسبه { أَفَمَنِ اتبع رضوان الله } أي رضا الله قيل هم المهاجرون والأنصار { كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ الله } وهم المنافقون والكفار { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } المرجع { هُمْ درجات عِندَ الله } هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات أو ذوو درجات ، والمعنى تفاوت منازل المثابين منهم ومنازل المعاقبين أو التفاوت بين الثواب والعاقب { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } عالم بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم على حسبها .
{ لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين } .
على من آمن مع رسول الله عليه السلام من قومه ، وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون بمبعثه { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ } من جنسهم عربياً مثلهم أو من ولد إسماعيل كما أنهم من ولده ، والمنة في ذلك من حيث إنه إذا كان منهم كان اللسان واحد فيسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه ، وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه ، وكان لهم شرف بكونه منهم .(1/193)
وفي قراءة رسول الله «من أنفسهم» أي من أشرفهم { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياته } أي القرآن بعدما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي { وَيُزَكّيهِمْ } ويطهرهم بالإيمان من دنس الكفر والطغيان أو يأخذ منهم الزكاة { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة } القرآن والسنة { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ } من قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم { لَفِى ضلال } عمى وجهالة { مُّبِينٍ } ظاهر لا شبهة فيه «إن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية والتقدير : وإن الشأن والحديث كانوا من قبل في ضلال مبين .
{ أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ } يريد ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم { قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا } يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين وهو في موضع رفع صفة ل «مصيبة» { قُلْتُمْ أنى هذا } من أين هذا { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } لاختياركم الخروج من المدينة أو لترككم المركز . لما نصب ب «قلتم» و«أصابتكم» في محل الجر بإضافة «لما» إليه وتقديره : أقلتم حين أصابتكم . «وأنى هذا» نصب لأنه مقول والهمزة للتقرير والتقريع ، وعطفت الواو هذه الجملة على ما مضى من قصة أحد من قوله : «ولقد صدقكم الله وعده» . أو على محذوف كأنه قيل : أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } يقدر على النصر وعلى منعه .
وَمَا أصابكم } «ما» بمعنى «الذي» وهو مبتدأ { يَوْمَ التقى الجمعان } جمعكم وجمع المشركين بأحد والخبر { فَبِإِذْنِ الله } فكائن بأذن الله أي بعلمه وقضائه { وَلِيَعْلَمَ المؤمنين * وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون وليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء { وَقِيلَ لَهُمْ } للمنافقين وهو كلام مبتدأ { تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله } أي جاهدوا للآخرة كما يقاتل المؤمنون { أَوِ ادفعوا } أي قاتلوا دفعاً على أنفسكم وأهليكم وأموالكم إن لم تقاتلوا للآخرة . وقيل : أو ادفعوا العدو بتكثيركم سواد المجاهدين إن لم تقاتلوا لأن كثرة السواد مما تروع العدو { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم } أي لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتبعناكم يعنون أن ما أنتم فيه لخطإ رأيكم ليس بشيء ، ولا يقال لمثله قتال إنما هو إلقاء النفس في التهلكة { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان } يعني أنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان قبل ذلك وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم ، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر ، أو هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان لأن تقليلهم سواد المؤمنين بالانخذال تقوية للمشركين { يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } أي يظهرون خلاف ما يضمرون من الإيمان وغيره والتقييد بالأفواه للتأكيد ونفي المجاز { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } من النفاق { الذين قَالُواْ } أي ابن أبيّ وأصحابه وهو في موضع رفع على «هم الذين قالوا» أو على الإبدال من واو «يكتمون» أو نصب بإضمار «أعني» ، أو على البدل من «الذين نافقوا» أو جر على البدل من الضمير «في أفواههم» أو «قلوبهم» { لإخوانهم } لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد { وَقَعَدُواْ } أي قالوا وقد قعدوا عن القتال { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } لو أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل { قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صادقين } بأن الحذر ينفع من القدر فخذوا حذركم من الموت ، أو معناه قل إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلاً وهو القعود عن القتال فجدوا إلى دفع الموت سبيلاً .(1/194)
وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً .
ونزل في قتلى أحد { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } شامي وحمزة وعلي وعاصم ، وبكسر السين غيرهم : والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد { الذين قَتَلُواْ } «قتلوا» : شامي { فِى سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاء } بل هم أحياء { عِندَ رَبّهِمْ } مقربون عنده ذوو زلفى { يُرْزَقُونَ } مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون ، وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله «فرحين» حال من الضمير في «يرزقون» { بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } وهو التوفيق في الشهادة وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم من كونهم أحياء مقربين معجلاً لهم رزق الجنة ونعيمها . وقال النبي عليه السلام " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش " وقيل : هذا الرزق في الجنة يوم القيامة وهو ضعيف لأنه لا يبقى للتخصيص فائدة { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين } بإخوانهم المجاهدين الذين { لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } لم يقتلوا فيلحقوا بهم { مّنْ خَلْفِهِمْ } يريد الذين من خلفهم قد بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم أو لم يلحقوا بهم لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } بدل من «الذين» والمعنى : ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة ، بشرهم الله بذلك فهم مستبشرون به . وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم ، بعثٌ للباقين بعدهم على الجد في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .(1/195)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } يسرون بما أنعم الله عليهم وما تفضل عليهم من زيادة الكرامة { وَأَنَّ الله } عطف على النعمة والفضل . «وإن الله» : عليٌّ بالكسر على الاستئناف وعلى أن الجملة اعتراض { لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } بل يوفر عليهم . { الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول } مبتدأ خبره «للذين أحسنوا» ، أو صفة للمؤمنين ، أو نصب على المدح { مِن بَعْدِ مَا أصابهم القرح } الجرح . روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة ، فندب النبيّ أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان ، فخرج يوم الأحد من المدينة مع سبعين رجلاً حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال ، وكان بأصحابه القرح فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا } «من» للتبيين . مثلها في قوله : { وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [ الفتح : 29 ] . لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم { أَجْرٌ عَظِيمٌ } في الآخرة .
{ الذين قَالَ لَهُمُ الناس } بدل من الذين استجابوا { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } روي أن أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد : يا محمد موعدنا موسم بدر القابل . فقال عليه السلام " إن شاء الله " فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال : يا نعيم إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وقد بدا لي أن أرجع فالحق بالمدينة ، فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل ، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : أتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم فوالله لا يفلت منكم أحد فقال عليه السلام " والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد " فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون «حسبنا الله ونعم الوكيل» حتى وافوا بدراً وأقاموا بها ثماني ليال وكانت معهم تجارة فباعوها وأصابوا خيراً ، ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ولم يكن قتال ، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا : إنما خرجتم لتأكلوا السويق . فالناس الأول نعيم وهو جمع أريد به الواحد أو كان له أتباع يثبطون مثل تثبيطه ، والثاني أبو سفيان وأصحابه . { فاخشوهم } فخافوهم { فَزَادَهُمُ } أي المقول الذي هو «إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم» أو القول ، أو نعيم { إيمانا } بصيرة وإيقاناً { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله } كافينا الله أي الذي يكفينا الله .(1/196)
يقال أحسبه الشيء إذا كفاه وهو بمعنى المحسب بدليل أنك تقول «هذا رجل حسبك» فتصف به النكرة لأن إضافته غير حقيقية لكونه في معنى اسم الفاعل { وَنِعْمَ الوكيل } ونعم الموكول إليه هو { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مّنَ الله } وهي السلامة وحذر العدو منهم { وَفَضْلٍ } وهو الربح في التجارة فأصابوا بالدرهم درهمين { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء } لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدو وهو حال من الضمير في «انقلبوا» ، وكذا «بنعمة» والتقدير : فرجعوا من بدر منعمين بريئين من سوء { واتبعوا رضوان الله } بجرأتهم وخروجهم إلى وجه العدو على أثر تثبيطه وهو معطوف على «انقلبوا» { والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا . { إِنَّمَا ذلكم الشيطان } هو خبر «ذلكم» أي إنما ذلك المثبط هو الشيطان وهو نعيم { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } أي المنافقين وهو جملة مستأنفة بيان لشيطنته ، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة و«يخوف» الخبر { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } أي أولياءه { وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } لأن الإيمان يقتضي أن يؤثر العبد خوف الله على خوف غيره . و«خافوني» في الوصل والوقف : سهل ويعقوب ، وافقهما أبو عمرو في الوصل .
{ وَلاَ يَحْزُنكَ } «يحزنك» في كل القرآن : نافع إلا في سورة الأنبياء { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] { الذين يسارعون فِى الكفر } يعني لا يحزنوك لخوف أن يضروك ألا ترى إلى قوله { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } أي أولياء الله يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم وما وبال ذلك عائداً على غيرهم . ثم بين كيف يعود وباله عليهم بقوله { يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الآخرة } أي نصيباً من الثواب { وَلَهُمْ } بدل الثواب { عَذَابٌ عظِيمٌ } وذلك أبلغ ما ضر به الإنسان نفسه ، والآية تدل على إرادة الكفر والمعاصي لأن إرادته أن لا يكون لهم ثواب في الآخرة لا تكون بدون إرادة كفرهم ومعاصيهم .
{ إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان } أي استبدلوه به { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } هو نصب على المصدر أي شيئاً من الضرر . الآية الأولى فيمن نافق من المتخلفين أو ارتد عن الإسلام ، والثانية في جميع الكفار أو على العكس { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلاَ يَحْسَبَنَّ } وثلاثة بعدها مع ضم الباء في «يحسبنهم» بالياء : مكي وأبو عمرو ، وكلها بالتاء : حمزة ، وكلها بالياء : مدني وشامي إلا «فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ» فإنها بالتاء . الباقون : الأوليان بالياء والأخريان بالتاء . { الذين كَفَرُواْ } فيمن قرأ بالياء رفع أي ولا يحسبن الكافرون . و «أن» مع اسمه وخبره في قوله { أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنفُسِهِمْ } في موضع المفعولين ل «يحسبن» والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا إملاءنا خيراً لأنفسهم . و«ما» مصدرية وكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا يخالف .(1/197)
وفيمن قرأ بالتاء نصب أي ولا تحسبن الكافرين وأنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من الكافرين ، أي ولا تحسبن أن ما نملي للكافرين خير لهم ، و«أن» مع ما في حيزه ينوب عن المفعولين ، والإملاء لهم إمهمالهم وإطالة عمرهم . { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } «ما» هذه حقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون الأولى ، وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها كأنه قيل : ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيراً لهم؟ فقيل : إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً . والآية حجة لنا على المعتزلة في مسألتي الأصلح وإرادة المعاصي { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } .
اللام في { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين لتأكيد النفي { حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } حتى يعزل المنافق عن المخلص . «يميز» : حمزة وعلي . والخطاب في «أنتم» للمصدقين من أهل الإخلاص والنفاق كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } وما كان الله ليؤتي أحد منكم علم الغيوب فلا تتوهموا عند إخبار الرسل بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب إطلاع الله فيخبر عن كفرها وإيمانها { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } أي ولكن الله يرسل الرسول فيوحي إليه ويخبره بأن في الغيب كذا وأن فلاناً في قلبه النفاق وفلاناً في قلبه الإخلاص ، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله لا من جهة نفسه . والآية حجة على الباطنية فإنهم يدعون ذلك العلم لإمامهم فإن لم يثبتوا النبوة له صاروا مخالفين للنص حيث أثبتوا علم الغيب لغير الرسول ، وإن أثبتوا النبوة له صاروا مخالفين لنص آخر وهو قوله { وَخَاتَمَ النبيين } [ الأحزاب : 40 ] { فَئَامِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } بصفة الإخلاص { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ } النفاق { فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } في الآخرة .
ونزل في مانعي الزكاة { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } من قرأ بالتاء قدر مضافاً محذوفاً أي ولا تحسبن بخل الباخلين و«هو» فصل و«خيراً لهم» مفعول ثانٍ ، وكذا من قرأ بالياء وجعل فاعل «يحسبن» ضمير رسول الله أو ضمير أحد ، ومن جعل فاعله «الذين يبخلون» كان التقدير : ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خير لهم و«هو» فصل و«خيراً لهم» مفعول ثانٍ { بَلْ هُوَ } أي البخل { شَرٌّ لَّهُمْ } لأن أموالهم ستزول عنهم ويبقى عليهم وبال البخل { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } تفسير لقوله «بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ» أي سيجعل مالهم الذي منعوه عن الحق طوقاً في أعناقهم كما جاء في الحديث " من منع زكاة ماله يصير حية ذكراً أقرع له نابان فيطوق في عنقه فينهشه ويدفعه إلى النار " { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض } وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره ، فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيل الله؟ والأصل في ميراث موراث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها . { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وبالياء مكي وأبو عمرو ، فالتاء على طريقة الالتفات وهو أبلغ في الوعيد ، والياء على الظاهر .(1/198)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
{ لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } قال ذلك اليهود حين سمعوا قوله تعالى : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا } [ البقرة : 245 ] . وقالوا : إن إله محمد يستقرض منا فنحن إذاً أغنياء وهو فقير . ومعنى سماع الله له أنه لم يخف عليه وأنه أعد له كفاء من العقاب { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } سنأمر الحفظة بكتابة ما قالوا في الصحائف ، أو سنحفظه إذ الكتاب من الخلق ليحفظ ما فيه فسمي به مجازاً . و«ما» مصدرية أو بمعنى «الذي» { وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ } معطوف على «ما» . جعل قتلهم الأنبياء قرينة له إيذاناً له بأنهما في العظم أخوان ، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول { وَنَقُولُ } لهم يوم القيامة { ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } أي عذاب النار كما أذقتم المسلمين الغصص . قال الضحاك : يقول لهم ذلك خزنة جهنم ، وإنما أضيف إلى الله تعالى لأنه بأمره كما في قوله «سنكتب» «سيكتب» و«قتلهم» و«يقول» : حمزة . { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من عقابهم { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي ذلك العذاب بما قدمتم من الكفر والمعاصي ، والإضافة إلى اليد لأن أكثر الأعمال يكون بالأيدي فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب ، ولأنه يقال للآمر بالشيء فاعله فذكر الأيدي للتحقيق يعني أنه فعل نفسه لا غيره بأمره { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } وبأن الله لا يظلم عباده فلا يعاقبهم بغير جرم { الذين قَالُواْ } في موضع جر على البدل من «الذين قالوا» أو نصب بإضمار أعني أو رفع بإضمارهم .
{ إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا } أمرنا في التوراة وأوصانا { أَلاَّ نُؤْمِنَ } بأن لا نؤمن { لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار } أي يقرب قرباناً فتنزل نار من السماء فتأكله فإن جئتنا به صدقناك ، وهذه دعوى باطلة وافتراء على الله لأن أكل النار القربان سبب الإيمان للرسول الآتي به لكونه معجزة فهو إذاً وسائر المعجزات سواء { قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات } بالمعجزات سوى القربان { وبالذى قُلْتُمْ } أي بالقربان يعني قد جاء أسلافكم الذين أنتم على ملتهم ورضوان بفعلهم { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } أي إن كان امتناعكم عن الإيمان لأجل هذا فلم لم تؤمنوا بالذين أتوابه ولم قتلتموهم { إِن كُنتُمْ صادقين } في قولكم إنما نؤخر الإيمان لهذا { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } فإن كذبك اليهود فلا يهولنك فقد فعلت الأمم بأنبيائها كذلك { جَاءُو بالبينات } بالمعجزات الظاهرات { والزبر } الكتب جمع زبور من الزبر وهو الكتابة . «وبالزبر» : شامي { والكتاب } جنسه { المنير } المضيء . قيل : هما واحد في الأصل وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين ، فالزبور كتاب فيه حكم زاجرة ، والكتاب المنير هو الكتاب الهادي .(1/199)
{ كُلُّ نَفْسٍ } مبتدأ والخبر { ذَائِقَةُ الموت } وجاز الابتداء بالنكرة لما فيه من العموم ، والمعنى لا يحزنك تكذيبهم إياك فمرجع الخلق إليّ فأجازيهم على التكذيب وأجازيك على الصبر وذلك قوله { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } أي تعطون ثواب أعمالكم على الكمال يوم القيامة فإن الدنيا ليست بدار الجزاء { فَمَن زُحْزِحَ } بعد ، والزحزحة : الإبعاد { عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } ظفر بالخير . وقيل : فقد حصل له الفوز المطلق . وقيل : الفوز نيل المحبوب والبعد عن المكروه { وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور } شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته ، والشيطان هو المدلس الغرور . وعن سعيد بن جبير : إنما هذا لمن آثرها على الآخرة ، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ . وعن الحسن : كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل لها { لَتُبْلَوُنَّ } والله لتبلون أي لتختبرن { فِى أموالكم } بالإنفاق في سبيل الله وبما يقع فيها من الآفات { وأَنفُسِكُمْ } بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليه من أنواع المخاوف والمصائب ، وهذه الآية دليل على أن النفس هي الجسم المعاين دون ما فيه من المعنى الباطن كما قال بعض أهل الكلام والفلاسفة ، كذا في شرح التأويلات { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } يعني اليهود والنصارى { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً } كالطعن في الدين وصد من أراد الإيمان وتخطئة من آمن ونحو ذلك { وَأَن تَصْبِرُواْ } على أذاهم { وَتَتَّقُواْ } مخالفة أمر الله { فَإِنَّ ذلك } فإن الصبر والتقوى { مِنْ عَزْمِ الأمور } من معزومات الأمور أي مما يجب العزم عليه من الأمور ، خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الشدائد والصبر عليها حتى إذا لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه .
{ وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب } واذكر وقت أخذ الله ميثاق أهل الكتاب { لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } عن الناس بالتاء على حكاية مخاطبتهم كقوله { وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل فِى الكتاب لَتُفْسِدُنَّ } [ الإسراء : 4 ] وبالياء : مكي وأبو عمرو وأبو بكر ، لأنهم غيب والضمير للكتاب ، أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه { فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ } فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم أي لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه ، والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الاعتداد ، وهو دليل على أنه يجب على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم ، أو لجر منفعة أو دفع أذية ، أو لبخل بالعلم ، وفي الحديث(1/200)
" من كتم علماً عن أهله ألجمه الله بلجام من نار " { واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } عرضاً يسيراً { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } .
والخطاب في { لاَ تَحْسَبَنَّ } لرسول الله وأحد المفعولين { الذين يَفْرَحُونَ } والثاني بمفازة ، وقوله «فلا تحسبنهم» تأكيد تقديره : لا تحسبنهم فائزين { بِمَا أَتَوْاْ } بما فعلوا وهي قراءة أبيّ و «جاء» و «أتى» يستعملان بمعنى فعل { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [ مريم : 61 ] . { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [ مريم : 27 ] . وقرأ النخعي «بما آتوا» أي أعطوا { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب } بمنجاة منه { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا من تدليسهم ، فأطلع الله رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم أي لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ، ناجين من العذاب . وقيل : هم المنافقون يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين وتوصلهم بذلك إلى أغراضهم ، ويستحمدون إليهم بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة . وفيه وعيد لمن يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب ويحب أن يحمده الناس بما ليس فيه . { وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض } فهو يملك أمرهما ، وفيه تكذيب لمن قال «إن الله فقير» { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } فهو يقدر على عقابهم .
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض واختلاف اليل والنهار لاَيَاتٍ } لأدلة واضحة على صانع قديم عليم حكيم قادر { لأُوْلِى الألباب } لمن خلص عقله عن الهوى خلوص اللب عن القشر ، فيرى أن العرض المحدث في الجواهر يدل على حدوث الجواهر ، لأن جوهراً ما لا ينفك عن عرض حادث وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث ، ثم حدوثها يدل على محدثها وذا قديم وإلا لاحتاج إلى محدث آخر إلى ما لا يتناهى ، وحسن صنعه يدل على علمه ، وإتقانه يدل على حكمته ، وبقاؤه يدل على قدرته ، قال عليه السلام " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " وحكي أنه كان في بني إسرائيل من إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة ، فعبدها فتى فلم تظله فقالت له أمه : لعل فرطة فرطت منك في مدتك . قال : ما أذكر . قالت : لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر . قال : لعل . قالت : فما أوتيت إلا من ذاك { الذين } في موضع جر نعت ل «أولي» أو نصب بإضمار أعني أو رفع بإضمارهم { يَذْكُرُونَ الله } يصلون { قِيَاماً } قائمين عند القدرة { وَقُعُوداً } قاعدين «وعلى جُنُوبِهِمْ» أي مضطجعين عند العجز وقياماً وقعوداً حالان من ضمير الفاعل في «يذكرون» .(1/201)
و«وعلى جنوبهم» حال أيضاً ، أو المراد الذكر على كل حال لأن الإنسان لا يخلو عن هذه الأحوال ، وفي الحديث " من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله " { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والأرض } وما يدل عليه اختراع هذه الأجرام العظام وإبداع صنعتها وما دبر فيها مما تكل الأفهام عن إدراك بعض عجائبه من عظم شأن الصانع وكبرياء سلطانه ، وعن النبي عليه السلام " بينا رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال : أشهد أن لك رباً وخالقاً ، اللهم اغفر لي ، فنظر الله إليه فغفر له " وقال عليه السلام " لا عبادة كالتفكر " وقيل؛ الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية ، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكر . { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا } أي يقولون ذلك وهو في محل الحال أي يتفكرون قائلين ، والمعنى ما خلقته خلقاً باطلاً بغير حكمة بل خلقته لحكمة عظيمة وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ، و«هذا» إشارة إلى الخلق على أن المراد به المخلوق ، أو إلى السماوات والأرض لأنها في معنى المخلوق كأنه قيل : ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلاً { سبحانك } تنزيهاً لك عن الوصف بخلق الباطل وهو اعتراض { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } الفاء دخلت لمعنى الجزاء تقديره إذا نزهناك فقنا .(1/202)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أهنته أو أهلكته أو فضحته ، واحتج أهل الوعيد بالآية مع قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبى والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] . في أن من يدخل النار لا يكون مؤمناً ويخلد . قلنا : قال جابر : إخزاء المؤمن تأديبه وإن فوق ذلك لخزياً { وَمَا للظالمين } اللام إشارة إلى من يدخل النار والمراد الكفار { مِنْ أَنصَارٍ } من أعوان وشفعاء يشفعون لهم كما للمؤمنين { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً } تقول : سمعت رجلاً يقول كذا ، فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع فأغناك عن ذكره ، ولولا الوصف لم يكن منه بد وأن يقال سمعت كلام فلان . والمنادي هو الرسول عليه السلام أو القرآن { يُنَادِى للإيمان } لأجل الإيمان بالله ، وفيه تفخيم لشأن المنادي إذ لا منادي أعظم من منادٍ ينادي للإيمان { أَنْ ءَامِنُواْ } بأن آمنوا أو أي آمنوا { بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا } قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : فيه دليل بطلان الاستثناء في الإيمان { رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } كبائرنا { وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا } صغائرنا { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم ، والأبرار والمتمسكون بالسنة جمع «بر» أو «بار» ك «رب» وأرباب وصاحب وأصحاب { رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } أي على تصديق رسلك ، أو ما وعدتنا منزلاً على رسلك ، أو على ألسنة رسلك ، و «على» متعلق ب «وعدتنا» والموعود هو الثواب أو النصرة على الأعداء . وإنما طلبوا إنجاز ما وعد الله والله لا يخلف الميعاد لأن معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد ، أو المراد اجعلنا ممن لهم الوعد إذ الوعد غير مبين لمن هو ، أو المراد ثبتنا على ما يوصلنا إلى عدتك يؤيده قوله { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } أو هو إظهار للخضوع والضراعة { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } هو مصدر بمعنى الوعد .
{ فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } أي أجاب يقال استجاب له واستجابه { أَنّى } بأني { لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } «منكم» صفة ل عامل { مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } بيان ل «عامل» { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر كلكم بنو آدم ، أو بعضكم من بعض في النصرة والدين ، وهذه جملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده العاملين . عن جعفر الصادق رضي الله عنه : من حزبه أمر فقال خمس مرات : «ربنا» ، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ الآيات . { فالذين هاجروا } مبتدأ وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له كأنه قال : فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة وهي المهاجرة عن أوطانهم فارين إلى الله بدينهم إلى حيث يأمنون عليه ، فالهجرة كائنة في آخر الزمان كما كانت في أول الإسلام { وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم } التي ولدوا فيها ونشأوا { وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى } بالشتم والضرب ونهب المال يريد سبيل الدين { وقاتلوا وَقُتِلُواْ } وغزوا المشركين واستشهدوا ، «وقتّلوا» : مكي وشامي ، «وقتلوا وقاتلوا» على التقديم والتأخير : حمزة وعلي .(1/203)
وفيه دليل على أن الواو لا توجب الترتيب والخبر . { لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } وهو جواب قسم محذوف { ثَوَاباً } في موضع المصدر المؤكد يعني إثابة أو تثويباً { مِنْ عِندِ الله } لأن قوله «لأكفرن عنهم ولأدخلنهم» في معنى لأثيبنهم { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } أي يختص به ولا يقدر عليه غيره .
وروي أن طائفة من المؤمنين قالوا : إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع ، فنزل { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِى البلاد } والخطاب لكل أحد أو للنبي عليه السلام والمراد به غيره ، أو لأن مدره القوم ومقدّمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً فكأنه قيل : لا يغرنكم . أو لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه كقوله { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين } [ القصص : 86 ] { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] وهذا في النهي نظير قوله في الأمر { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 7 ] { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ } ( النساء 136 ) .
{ متاع قَلِيلٌ } خبر مبتدإ محذوف أي تقلبهم في البلاد متاع قليل ، وأراد قتله في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب ، أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه وكل زائل قليل { ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } وساء ما مهدوا لأنفسهم { لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ } عن الشرك { لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا نُزُلاٍ } النزل والنزل ما يقام للنازل وهو حال من «جنات» لتخصصها بالصفة ، والعامل اللام في «لهم» أو هو مصدر مؤكد كأنه قيل رزقاً أو عطاء { مّن عند اللّه } صفة له { وَمَا عِندَ الله } من الكثير الدائم { خَيْرٌ لّلابْرَارِ } مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل . «لكن» بالتشديد : يزيد وهو للاستدراك أي لإبقاء لتمتعهم لكن ذلك للذين اتقوا . ونزلت في ابن سلام وغيره من مسلمي أهل الكتاب ، أو في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا .
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله } دخلت لام الابتداء على اسم «إن» لفصل الظرف بينهما { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ } من القرآن { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } من الكتابين { خاشعين للَّهِ } حال من فاعل «يؤمن» لأن من يؤمن في معنى الجمع { لاَ يَشْتَرُونَ بئايات الله ثَمَناً قَلِيلاً } كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم وكبارهم وهو حال بعد حال أي غير مشترين { أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } أي ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعده في قوله(1/204)
{ أولئك يؤتون أجرهم مرتين } [ القصص : 54 ] { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } لنفوذ علمه في كل شيء . { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا } على الدين وتكاليفه . قال الجنيد رضي الله عنه : الصبر حبس النفس على المكروه بنفي الجزع { وَصَابِرُواْ } أعداء الله في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً { وَرَابِطُواْ } وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } الفلاح : البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه ، و «لعل» لتغييب المآل لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال . وقيل : اصبروا في محبتي ، وصابروا في نعمتي ، ورابطوا أنفسكم في خدمتي لعلكم تفلحون تظفرون بقربتي . قال النبي صلى الله عليه وسلم " اقرأوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما " والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب .(1/205)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
نزلت بالمدينة آياتها مائة وست وسبعون آية
{ يَا أَيُّهَا الناس } يا بني آدم { اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } معطوف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها وخلق منها زوجها ، والمعنى شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء من ضلع من أضلاعه { وَبَثَّ مِنْهُمَا } ونشر من آدم وحواء { رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء } كثيرة أي وبث منهما نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث ، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقهم منها ، أو على خلقكم والخطاب في «يا أيها الناس» للذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى خلقكم من نفس آدم وخلق منها أمكم حواء وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء غيركم من الأمم الفائتة للحصر . فإن قلت : الذي تقتضيه جزالة النظم أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يعدو إليها ، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره داعياً إليها؟ قلت : لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة ، ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء ، ومن المقدورات عقاب الكفار والفجار فالنظر فيه يؤدي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه ، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم فحقهم أن يتقوه في كفرانها . قال عليه السلام عند نزول الآية " خلقت المرأة من الرجل فهمّها في الرجل وخلق الرجل من التراب فهمّه في التراب " { واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ } والأصل «تتساءلون» فأدغمت التاء في السين بعد إبدالها سيناً لقرب التاء من السين للهمس . «تساءلون به» بالتخفيف : كوفي على حذف التاء الثانية استثقالاً لاجتماع التاءين أي يسأل بعضكم بعضاً بالله وبالرحم فيقول بالله وبالرحم : افعل كذا على سبيل الاستعطاف { والأرحام } بالنصب على أنه معطوف على اسم الله تعالى أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، أو على موضع الجار والمجرور كقولك «مررت بزيد وعمراً» ، وبالجر : حمزة على عطف الظاهر على الضمير وهو ضعيف ، لأن الضمير المتصل كاسمه متصل والجار والمجرور كشيء واحد فأشبه العطف على بعض الكلمة { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } حافظاً أو عالماً .
{ وَءاتُواْ اليتامى أموالهم } يعني الذين ماتت آباؤهم فانفردوا عنهم . واليتم : الانفراد ومنه الدرة اليتيمة ، وقيل : اليتم في الأناسي من قبل الآباء ، وفي البهائم من قبل الأمهات ، وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال ، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم زال هذا الاسم عنهم .(1/206)
وقوله عليه السلام " لا يتم بعد الحلم " تعليم شريعة لا لغة يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار . والمعنى وآتوا اليتامى أموالهم بعد البلوغ ، وسماهم يتامى لقرب عهدهم إذا بلغوا بالصغر ، وفيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ أن أونس منهم الرشد ، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم ، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها . والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز ومنه التعجل بمعنى الاستعجال { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم } «إلى» متعلقة بمحذوف وهي في موضع الحال أي مضافة إلى أموالكم . والمعنى ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم وتسوية بينه وبين الحلال { إنّهُ } إن أكلها { كَانَ حُوباً كَبِيراً } ذنباً عظيماً { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ } أي لا تعدلوا . أقسط أي عدل { فِى اليتامى } يقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور وهو جمع يتيمة ويتيم ، وأما أيتام فجمع يتيم لا غير { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ } ما حل لكم { مّنَ النساء } لأن منهن ماحرم الله كاللاتي في آية التحريم . وقيل : «ما» ذهاباً إلى الصفة لأن ما يجيء في صفات من يعقل فكأنه قيل : الطيبات من النساء ، ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء ومنه قوله تعالى { وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم } قيل : كانوا لا يتحرجون من الزنا ويتحرجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات ، أو كانوا يتحرجون من الولاية في أموال اليتامى ولا يتحرجون من الاستكثار من النساء مع أن الجور يقع بينهن إذا كثرن فكأنه قيل : إذا تحرجتم من هذا فتحرجوا من ذلك . وقيل : وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح اليتامى فانكحوا من البالغات . يقال طابت الثمرة أي أدركت { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } نكرات . وإنما منعت الصرف للعدل والوصف ، وعليه دل كلام سيبويه ومحلهن النصب على الحال «من النساء» أو «مما طاب» تقديره : فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثاً وثلاثاً وأربعاً أربعاً . فإن قلت : الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع ، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ قلت : الخطاب للجميع فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولو أفردت لم يكن له معنى .(1/207)
وجيء بالواو لتدل على تجويز الجمع بين الفرق ، ولو جيء ب «أو» مكانها لذهب معنى التجويز { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } بين هذه الأعداد { فواحدة } فالزموا أو فاختاروا واحدة { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } سوّى في اليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر { ذلك } إشارة إلى اختيار الواحدة والتسري { أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } أقرب من أن لا تميلوا ولا تجوروا ، يقال عال الميزان عولاً إذا مال ، وعال الحاكم في حكمه إذا جار . ويحكى عن الشافعي رحمه الله أنه فسر « أن لا تعولوا» أن لا تكثر عيالكم واعترضوا عليه بأنه يقال : أعال يعيل إذا كثر عياله . وأجيب بأن يجعل من قولك «عال الرجل عياله يعولهم» كقولك «مانهم يمونهم» إذا أنفق عليهم لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال . وكلام مثله من أعلام العلم حقيق بالحمل على السداد وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا كأنه سلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات { وَءاتُواْ النساء صدقاتهن } مهورهن { نِحْلَةً } من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلاً ، وانتصابها على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قال : وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم ، أو على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء ، أو من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس . وقيل : نحلة من الله تعالى عطية من عنده وتفضلاً منه عليهن . وقيل : النحلة الملة وفلان ينتحل كذا أي يدين به يعني وآتوهن مهورهن ديانة على أنها مفعول لها . والخطاب للأزواج ، وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ } للأزواج { عَن شَىْء مّنْهُ } أي من الصداق إذ هو في معنى الصدقات { نَفْساً } تمييز وتوحيدها لأن الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه ، والمعنى فإن وهبن لكم شيئاً من الصدقات وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقهم وسوء معاشرتكم . وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل« فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً» ولم يقل «فإن وهبن لكم» إعلاماً بأن المراعي هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة { فَكُلُوهُ } الهاء يعود على «شيء» { هَنِيئَاً } لا إثم فيه { مَّرِيئاً } لا داء فيه ، فسرهما النبي عليه السلام أو هنيئاً في الدنيا بلا مطالبة ، مريئاً في العقبى بلا تبعة ، وهما صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه ، وهما وصف مصدر أي أكلاً هنيئاً مريئاً ، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء ، وهذه عبارة عن المبالغة في الإباحة وإزالة التبعة . هنياً مرياً بغير همز : يزيد ، وكذا حمزة في الوقف ، وهمزهما الباقون . وعن علي رضي الله عنه : إذا اشتكى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ثم ليشتر بها عسلاً فليشربه بماء السماء فيجمع الله له هنيئاً ومريئاً وشفاء ومباركاً .(1/208)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
{ وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء } المبذرين أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا قدرة لهم على إصلاحها وتثميرها والتصرف فيها ، والخطاب للأولياء . وأضاف إلى الأولياء أموال السفهاء بقوله { أموالكم } لأنهم يلونها ويمسكونها { التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما } أي قواماً لأبدانكم ومعاشاً لأهلكم وأولادكم . قيما بمعنى قياماً : نافع وشامي كما جاء «عوذا» بمعنى «عياذا» . وأصل قيام قوام فجعلت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس ، وعن سفيان وكان له بضاعة يقلبها لولاها لتمندل بي بنو العباس { وارزقوهم فِيهَا } واجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فيأكلها الإنفاق { واكسوهم وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قال ابن جريج : عدة جميلة إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم ، وكل ما سكنت إليه النفس لحسنه عقلاً أو شرعاً من قول أو عمل فهو معروف ، وما أنكرته لقبحه فهو منكر . { وابتلوا اليتامى } واختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ ، فالابتلاء عندنا أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى تتبين حاله فيما يجيء منه ، وفيه دليل على جواز إذن الصبي العاقل في التجارة { حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ } أي الحلم لأنه يصلح للنكاح عنده ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد { فَإنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ } تبينتم { رَشَدًا } هداية في التصرفات وصلاحاً في المعاملات { فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم } من غير تأخير عن حد البلوغ ، ونظم هذا الكلام أن ما بعد «حتى» إلى { فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم } جعل غاية للابتلاء وهي حتى التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله :
حتى ماء دجلة أشكل
والواقعة بعدها جملة شرطية لأن «إذا» متضمنة معنى الشرط وفعل الشرط «بلغوا النكاح»وقوله : «فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم» جملة من شرط وجزاء واقعة جواباً للشرط الأول الذي هو «إذا بلغوا النكاح»فكأنه قيل : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم . وتنكير الرشد يفيد أن المراد رشد مخصوص وهو الرشد في التصرف والتجارة ، أو يفيد التقليل أي طرفاً من الرشد حتى لا ينتظر به تمام الرشد وهو دليل لأبي حنيفة رحمه الله في دفع المال عند بلوغ خمس وعشرين سنة . { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } ولا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم ف «إسرافاً» و«بداراً» } مصدران في موضع الحال و«أن يكبروا» في موضع المصدر منصوب الموضع ب «بداراً» ، ويجوز أن يكونا مفعولاً لهما أي لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون ننفق فيما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنياً وبين أن يكون فقيراً ، فالغني يستعف من أكلها أي يحترز من أكل مال اليتيم ، واستعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة والفقير يأكل قوتاً مقدراً محتاطاً في أكله .(1/209)
عن إبراهيم . ما سد الجوعة ووارى العورة { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } بأنهم تسلموها وقبضوها دفعاً للتجاحد وتفادياً عن توجه اليمين عليكم عند التخاصم والتناكر { وكفى بالله حَسِيباً } محاسباً فعليكم بالتصادق وإياكم والتكاذب ، أو هو راجع إلى قوله «فليأكل بالمعروف» أي ولا يسرف فإن الله يحاسبه عليه ويجازيه به . وفاعل«كفى» لفظة «الله» والباء زائدة و «كفى» يتعدى إلى مفعولين دليله { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] .
{ لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } هم المتوارثون من ذوي القرابات دون غيرهم { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } بدل «مما ترك» بتكرير العامل والضمير في «منه» يعود إلى ما ترك «نصيباً» نصب على الاختصاص بمعنى أعني نصيباً { مّفروضاً } مقطوعاً لا بد لهم من أن يحوزوه . روي أن أوس بن ثابت ترك امرأته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه ميراثه عنهن ، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ويقولون : لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة . فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت فقال : إرجعي حتى أنظر ما يحدث الله فنزلت الآية ، فبعث إليهما لا تفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله تعالى قد جعل لهن نصيباً ولم يبين حتى يبين فنزلت يوصيكم الله فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العم وإذا حضر القسمة أي قسمة التركة أولوا القربى ممن لا يرث واليتامى والمساكين من الأجانب فارزقوهم فأعطوهم مّنه مما ترك الوالدان والأقربون وهو أمر ندب وهو باقٍ لم ينسخ . وقيل : كان واجباً في الابتداء ثم نسخ بآية الميراث { *** } مقطوعاً لا بد لهم من أن يجوزوه . روي أن أوس بن ثابت ترك امرأته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه ميراثه عنهن ، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ويقولون : لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة . فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت فقال : " إرجعي حتى أنظر ما يحدث الله " فنزلت الآية ، فبعث إليهما لا تفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله تعالى قد جعل لهن نصيباً ولم يبين حتى يبين فنزلت «يوصيكم الله» فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العم { وإذا حضر القسمة } أي قسمة التركة { أولوا القربى } ممن لا يرث { واليتامى والمساكين } من الأجانب { فارزقوهم } فأعطوهم { مّنه } مما ترك الوالدان والأقربون وهو أمر ندب وهو باقٍ لم ينسخ .(1/210)
وقيل : كان واجباً في الابتداء ثم نسخ بآية الميراث { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } عذراً جميلاً وعدة حسنة ، وقيل : القول المعروف أن يقولوا لهم : خذوا بارك الله عليكم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم .
{ وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } المراد بهم الأوصياء أمروا بأن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى فيشفقوا عليهم خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافاً ، وأن يقدروا ذلك في أنفسهم ويصوره حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة . «ولو» مع ما في حيزه صلة ل «الذين» أي وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم . وجواب «لو» : «خافوا» ، والقول السديد من الأوصياء أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم ب يا بني ويا ولدي . { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً } ظالمين فهو مصدر في موضع الحال { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ } ملء بطونهم { نَارًا } أي يأكلون ما يجر إلى النار فكأنه نار . روي أنه يبعث آكل مال اليتامى يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه فيعرف الناس أنه كان يأكل من مال اليتيم في الدنيا { وَسَيَصْلَوْنَ } «وسَيُصلون» شامي وأبو بكر { سَعِيراً } ناراً من النيران مبهمة الوصف .
{ يُوصِيكُمُ الله } يعهد إليكم ويأمركم { فِى أولادكم } في شأن ميراثهم وهذا إجمال تفصيله { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين } أي للذكر منهم أي من أولادكم فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم كقولهم «السمن منوان بدرهم» وبدأ بحظ الذكر ولم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر لفضله كما ضوعف حظه لذلك ، ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود الآية فقيل : كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به . والمراد حال الاجتماع أي إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان كما أن لهما سهمين ، وأما في حال الانفراد فالابن يأخذ المال كله ، والبنتان تأخذان الثلثين ، والدليل عليه أنه أتبعه حكم الانفراد بقوله { فَإِن كُنَّ نِسَاءً } أي فإن كانت الأولاد نساء خلصاً يعني بناتاً ليس معهن ابن { فَوْقَ اثنتين } خبر ثانٍ لكان أو صفة لنساء أي نساء زائدات على اثنتين { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } أي الميت لأن الآية لما كانت في الميراث علم أن التارك هو الميت { وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف } أي وإن كانت المولودة منفردةٌ .(1/211)
«واحدة » : مدني على «كان» التامة والنصب أوفق لقوله «فإن كن نساء» . فإن قلت : قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن وحكم البنات والبنت في حال الانفراد ، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد فما حكمهما؟ قلت : حكمهما مختلف فيه؛ فابن عباس رضي الله عنهما نزلهما منزلة الواحدة لا منزلة الجماعة ، وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أعطوهما حكم الجماعة بمقتضى قوله { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين } وذلك لأن من مات وخلف بنتاً وابناً فالثلث للبنت والثلثان للابن ، فإذا كان الثلث لبنت واحدة كان الثلثان للبنتين ، ولأنه قال في آخر السورة { إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ } . والبنتان أمس رحماً بالميت من الأختين فأوجبوا لهما ما أوجب الله للأختين ، ولم ينقصوا حظهما عن حظ من هو أبعد منهما ، ولأن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كان أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضاً مع أخيها لو انفردت معه فوجب لهما الثلثان . وفي الآية دلالة على أن المال كله للذكر إذا لم يكن معه أنثى ، لأنه جعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وقد جعل للأنثى النصف إذا كانت منفردة فعلم أن للذكر في حال الانفراد ضعف النصف وهو الكل .
والضمير في { وَلأَبَوَيْهِ } للميت والمراد الأب والأم إلا أنه غلب الذكر { لِكُلِّ واحد مّنْهُمَا السدس } بدل من لأبويه بتكرير العامل وفائدة هذا البدل أنه لو قيل «ولأبويه السدس» لكان ظاهره اشتراكهما فيه ، ولو قيل «ولأبويه السدسان» لأوهم قسمة السدسين عليهما على التسوية وعلى خلافها ، ولو قيل «ولكل واحد من أبويه السدس» لذهبت فائدة التأكيد وهو التفصيل بعد الإجمال . والسدس مبتدأ خبره لأبويه والبدل متوسط بينهما للبيان ، وقرأ الحسن السدس والربع والثمن والثلث بالتخفيف { مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } هو يقع على الذكر والأنثى { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمّهِ الثلث } أي مما ترك والمعنى وورثه أبواه فحسب ، لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين كان للأم ثلث ما يبقى بعد إخراج نصيب الزوج لا ثلث ما ترك ، لأن الأب أقوى من الأم في الإرث بدليل أن له ضعف حظها إذا خلصا . فلو ضرب لها الثلث كاملاً لأدى إلى حظ نصيبه عن نصيبها؛ فإن امرأة لو تركت زوجاً وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب ، حازت الأم سهمين والأب سهماً واحداً فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين . «فلأمه» بكسر الهمزة : حمزة وعلي لمجاورة كسر اللام { فَإِن كَانَ لَهُ } أي للميت { إِخْوَةٌ فَلأِمِهِ السدس } إذا كان للميت اثنان من الإخوة والأخوات فصاعداً ، فلأمه السدس .(1/212)
والأخ الواحد لا يحجب ، والأعيان والعلات والأخياف في حجب الأم سواء { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها لا بما يليه وحده كأنه قيل : قسمة هذه الأنصباء من بعد وصية { يُوصِى بِهَا } هو وما بعده بفتح الصاد : مكي وشامي وحماد ويحيى وافق الأعشى في الأولى وحفص في الثانية لمجاورة «يورث» ، وكسر الأولى لمجاورة «يوصيكم الله » . الباقون : بكسر الصادين أي يوصى بها الميت . { أَوْ دَيْنٍ } والإشكال أن الدّين مقدم على الوصية في الشرع ، وقدمت الوصية على الدين في التلاوة . والجواب إن «أو» لا تدل على الترتيب ، ألا ترى أنك إذا قلت «جاءني زيد أو عمرو» كان المعنى جاءني أحد الرجلين فكان التقدير في قوله «من بعد وصية يوصى بها» أو دين من بعد أحد هذين الشيئين : الوصية أو الدين . ولو قيل بهذا اللفظ لم يدر فيه الترتيب ، بل يجوز تقديم المؤخر وتأخير المقدم كذا هنا . وإنما قدمنا الدين على الوصية بقوله عليه السلام " ألا إن الدّين قبل الوصية " ولأنها تشبه الميراث من حيث إنها صلة بلا عوض فكان إخراجها مما يشق على الورثة ، وكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين فقدمت على الدين ليسارعوا إلى إخراجها مع الدين { ءابَاؤُكُمْ } مبتدأ { وَأَبناؤُكُمْ } عطف عليه والخبر { لاَ تَدْرُونَ } وقوله { أَيُّهُم } مبتدأ خبره { أَقْرَبُ لَكُمْ } والجملة في موضع نصب ب « تدرون» { نَفْعاً } تمييز والمعنى : فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة ، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة ، والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع وأنتم لا تدرون تفاوتها فتولى الله ذلك فضلاً منه ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير . وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لا موضع لها من الإعراب { فَرِيضَةً } نصبت نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضاً { مّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بالأشياء قبل خلقها { حَكِيماً } في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها .(1/213)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم } أي زوجاتكم { إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ } أي ابن أو بنت { فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ } منكم أو من غيركم { فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُم وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ْ } والواحد والجماعة سواء في الربع والثمن ، جعل ميراث الزوج ضعف ميراث الزوجة لدلالة قوله : «للذكر مثل حظ الأُنثيين» . { وَإِن كَانَ رَجُلٌ } يعني للميت وهو اسم «كان» { يُورَثُ } من ورث أي يورث منه وهو صفة ل «رجل» { كلالة } خبر «كان» أي وإن كان رجل موروث منه كلالة أو يورث خبر «كان» وكلالة حال من الضمير في يورث . والكلالة تطلق على من لم يخلف ولداً ولا ولداً وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين ، وهو في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء { أَو امرأة } عطف على رجل { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي لأم فإن قلت : قد تقدم ذكر الرجل والمرأة فلم أفرد الضمير وذكره؟ قلت : أما إفراده فلأن «أو» لأحد الشيئين ، وأما تذكيره فلأنه يرجع إلى رجل لأنه مذكر مبدوء به ، أو يرجع إلى أحدهما وهو مذكر { فَلِكُلِّ واحد مّنْهُمَا السدس فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك } من واحد { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثلث } لأنهم يستحقون بقرابة الأم وهي لا ترث أكثر من الثلث ولهذا لا يفضل الذكر منهم على الأنثى { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } إنما كررت الوصية لاختلاف الموصين ، فالأول الوالدان والأولاد ، والثاني الزوجة ، والثالث الزوج ، والرابع الكلالة . { غَيْرَ مُضَارٍّ } حال أي يوصي بها وهو غير مضار لورثته وذلك بأن يوصي بزيادة على الثلث أو لوارث { وَصِيَّةً مّنَ الله } مصدر مؤكد أي يوصيكم بذلك وصية { والله عَلِيمٌ } بمن جار أو عدل في وصيته { حَلِيمٌ } على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد . فإن قلت : فأين ذو الحال فيمن قرأ «يوصي بها»؟ قلت : يضمر «يوصي» فينتصب عن فاعله لأنه لما قيل «يوصي بها» علم أن ثمّ موصياً كما كان { رِجَالٌ } فاعل ما يدل عليه { يُسَبّحُ } ) النور : 36 ) لأنه لما قيل { يُسَبّحُ لَهُ } علم أن ثم مسبحاً فأضمر «يسبح» .
واعلم أن الورثة أصناف أصحاب الفرائض وهم الذين لهم سهام مقدرة كالبنت ولها النصف ، وللأكثر الثلثان ، وبنت الابن وإن سفلت وهي عند عدم الولد كالبنت ولها مع البنت الصلبية السدس ، وتسقط بالابن وبنتي الصلب إلا أن يكون معها أو أسفل منها غلام فيعصبها ، والأخوات لأب وأم وهن عند عدم الولد وولد الابن كالبنات والأخوات لأب ، وهن كالأخوات لأب وأم عند عدمهن ، ويصير الفريقان عصبة مع البنت أو بنت الابن ، ويسقطن بالابن وابنه وإن سفل ، والأب وبالجد عند أبي حنيفة رحمه الله وولد الأم فللواحد السدس وللأكثر الثلث ، وذكرهم كأنثاهم ويسقطون بالولد وولد الابن وإن سفل والأب والجد .(1/214)
والأب وله السدس مع الابن أو ابن الابن وإن سفل ، ومع البنت أو بنت الابن وإن سفلت السدس والباقي . والجد وهو أبو الأب وهو كالأب عند عدمه إلا في رد الأم إلى ثلث ما يبقى ، والأم ولها السدس مع الولد أو ولد الابن وإن سفل ، أو الاثنين من الإخوة والأخوات فصاعداً من أي جهة كانا ، وثلث الكل عند عدمهم وثلث ما يبقى بعد فرض أحد الزوجين في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين . والجدة ولها السدس وإن كثرت لأم كانت أو لأب ، والبعدى تحجب بالقربى ، والكل بالأم والأبويات بالأب ، والزوج وله الربع مع الولد أو ولد الابن وإن سفل ، وعند عدمه النصف . والزوجة ولها الثمن مع الولد أو ولد الابن وإن سفل وعند عدمه الربع . والعصبات وهم الذين يرثون ما بقي من الفرض وأولاهم . الابن ثم ابنه وإن سفل ، ثم الأب ثم أبوه وإن علا ، ثم الأخ لأب وأم ، ثم الأخ لأب ، ثم ابن الأخ لأب وأم ، ثم ابن الأخ لأب ، ثم الأعمام ، ثم أعمام الأب ، ثم أعمام الجد ، ثم المعتق ، ثم عصبته على الترتيب . واللاتي فرضهن النصف والثلثان يصرن عصبة بأخواتهن لا غيرهن . وذوو الأرحام وهم الأقارب الذين ليسوا من العصبات ولا من أصحاب الفرائض وترتيبهم كترتيب العصبات .
{ تِلْكَ } إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث { حُدُودُ الله } سماها حدوداً لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزها { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهر خالدين فِيهَا وذلك الفوز العظيم * وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خالدا فِيهَا } انتصب «خالدين» و«خالداً» على الحال ، وجمع مرة وأفرد أخرى نظراً إلى معنى «من» ولفظها . «ندخله» فيهما : مدني وشامي { وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } لهوانه عند الله . ولا تعلق للمعتزلة بالآية فإنها في حق الكفار إذ الكافر هو الذي تعدى الحدود كلها ، وأما المؤمن العاصي فهو مطيع بالإيمان غير متعدٍ حد التوحيد ولهذا فسر الضحاك المعصية هنا بالشرك . وقال الكلبي : ومن يعص الله ورسوله بكفره بقسمة المواريث ويتعد حدوده استحلالاً ثم خاطب الحكام فقال :
{ واللفاتى } هي جمع «التي» وموضعها رفع بالابتداء { يَأْتِينَ الفاحشة } أي الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح . يقال أتى الفاحشة وجاءها ورهقها وغشيها بمعنى { مِّن نِّسَائِكُمُ } « من» للتبعيض والخبر { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ } فاطلبوا الشهادة { أَرْبَعةً مّنْكُمْ } من المؤمنين { فَإِن شَهِدُواْ } بالزنا { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت } فاحبسوهن { حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت } أي ملائكة الموت كقوله(1/215)
{ الذين تتوفاهم الملائكة } [ النحل : 28 ] أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ } قيل «أو» بمعنى «إلا أن» { سَبِيلاً } غير هذه . عن ابن عباس رضي الله عنهما : السبيل للبكر جلد مائة وتغريب عام وللثيب الرجم لقوله عليه السلام " خذوا عني ، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " والّذان } يريد الزاني والزانية . وبتشديد النون : مكي { يأتيانها مِنكُمْ } أي الفاحشة { فَئَاذُوهُمَا } بالتوبيخ والتعيير وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما الله { فَإِن تَابَا } عن الفاحشة { وَأَصْلَحَا } وغير الحال { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } فاقطعوا التوبيخ والمذمة { إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } يقبل توبة التائب ويرحمه . قال الحسن : أول ما نزل من حد الزنا الأذى ثم الحبس ثم الجلد أو الرجم ، فكان ترتيب النزول على خلاف ترتيب التلاوة . والحاصل أنهما إذا كانا محصنين فحدهما الرجم لا غير ، وإذا كانا غير محصنين فحدهما الجلد لا غير ، وإن كان أحدهما محصناً والآخر غير محصن فعلى المحصن منهما الرجم وعلى الآخر الجلد ، وقال ابن بحر : الآية الأولى في السحّاقات ، والثانية في اللواطين ، والتي في سورة النور في الزاني والزانية وهو دليل ظاهر لأبي حنيفة رحمه الله في أنه يعزر في اللواطة ولا يحد . وقال مجاهد : آية الأذى في اللواطة { إِنَّمَا التوبة } هي من تاب الله عليه إذا قبل توبته أي إنما قبولها { عَلَى الله } وليس المراد به الوجوب إذ لا يجب على الله شيء ولكنه تأكيد للوعد يعني أنه يكون لا محالة كالواجب الذي لا يترك { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء } الذنب لسوء عقابه { بِجَهَالَةٍ } في موضع الحال أي يعملون السوء جاهلين سفهاء لأن ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه . وعن مجاهد : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته . وقيل : جهالته اختياره اللذة الفانية على الباقية . وقيل : لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل كنه عقوبته . { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } من زمان قريب وهو ما قبل حضرة الموت ألا ترى إلى قوله : «حتى إذا حضر أحدهم الموت» . فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة . وعن الضحاك : كل توبة قبل الموت فهو قريب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : قبل أن ينظر إلى ملك الموت . وعنه صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " و«من» للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زماناً قريباً { فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ } عدة بأنه يفي بذلك وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة { وَكَانَ الله عَلِيماً } بعزمهم على التوبة { حَكِيماً } حكم بكون الندم توبة .(1/216)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
{ وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّي تُبْتُ الآن } أي ولا توبة للذين يذنبون ويسوفون توبتهم إلى أن يزول حال التكليف بحضور أسباب الموت ومعاينة ملك الموت ، فإن توبة هؤلاء غير مقبولة لأنها حالة اضطرار لا حالة اختيار ، وقبول التوبة ثواب ولا وعد به إلا لمختار { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ } في موضع جر بالعطف على «للذين يعملون السيئات» أي ليست التوبة للذين يعملون السيئات ولا للذين يموتون { وَهُمْ كُفَّارٌ } قال سعيد بن جبير : الآية الأولى في المؤمنين ، والوسطى في المنافقين ، والآخرى في الكافرين . وفي بعض المصاحف بلامين وهو مبتدأ خبره . { أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي هيأنا من العتيد وهو الحاضر أو الأصل أعددنا فقلبت الدال تاء . كان الرجل يرث امرأة مورثه بأن يلقي عليها ثوبه فيتزوجها بلا مهر فنزلت { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً } أي أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكرهات « كرهاً » بالفتح من الكراهة وبالضم : حمزة وعلي من الإكراه مصدر في موضع الحال من المفعول . والتقييد بالكره لا يدل على الجواز عند عدمه ، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه كما في قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق } [ الإسراء : 31 ] . وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة لتفتدي منه بمالها وتختلع فقيل { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } وهو منصوب عطفاً على «أن ترثوا» و«لا» لتأكيد النفي أي لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن ، أو مجزوم بالنهي على الاستئناف فيجوز الوقف حينئذ على « كرها» . والعضل : الحبس والتضييق { لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ } من المهر واللام متعلقة ب «تعضلوا» { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } هي النشوز وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء أي إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع . وعن الحسن : الفاحشة الزنا فإن فعلت حل لزوجها أن يسألها الخلع { مُّبَيِّنَةٍ } وبفتح الياء : مكي وأبو بكر ، والاستثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له كأنه قيل : ولا تعضلوهن في جميع الأوقات إلا وقت أن يأتين بفاحشة ، أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين بفاحشة . وكانوا يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } وهو النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ } لقبحهن أو سوء خلقهن { فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ } في ذلك الشيء أو في الكره { خَيْراً كَثِيراً } ثواباً جزيلاً أو ولداً صالحاً . والمعنى فإن كرهتموهن فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين ، وأدنى إلى الخير ، وأحبت ما هو بضد ذلك ولكن للنظر في أسباب الصلاح .(1/217)
وإنما صح قوله { فعسى أَن تَكْرَهُواْ } جزاء للشرط لأن المعنى : فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرهونه خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه .
وكان الرجل إذا رأى امرأة فأعجبته بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها فقيل : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ } أي تطليق امرأة وتزوج أخرى { وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَهُنَّ } وأعطيتم إحدى الزوجات ، فالمراد بالزوج الجمع لأن الخطاب لجماعة الرجال { قِنْطَاراً } مالاً عظيماً كما في «آل عمران» . وقال عمر رضي الله عنه على المنبر : لا تغالوا بصدقات النساء . فقالت امرأة : أنتبع قولك أم قول الله : { وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَهُنَّ قِنطَاراً } . فقال عمر : كل أحد أعلم من عمر ، تزوجوا على ما شئتم { فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ } من القنطار { شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً } أي بيناً ، والبهتان أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء منه لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير . وانتصب بهتاناً على الحال أي باهتين وآثمين . ثم أنكر أخذ المهر بعد الإفضاء فقال { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } أي خلا بلا حائل ومنه الفضاء ، والآية حجة لنا في الخلوة الصحيحة أنها تؤكد المهر حيث أنكر الأخذ وعلل بذلك { وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً } عهداً وثيقاً وهو قول الله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } [ البقرة : 229 ] . والله تعالى أخذ هذا الميثاق عى عباده لأجلهن فهو كأخذهن ، أو قول النبي عليه السلام " استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله " ولما نزل «لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً» قالوا : تركنا هذا لا نرثهن كرهاً ولكن نخطبهن فننكحهن برضاهن فقيل لهم :
{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء } وقيل : المراد بالنكاح الوطء أي لا تطئوا ما وطيء آباؤكم ، وفيه تحريم وطء موطوءة الأب بنكاح أو بملك يمين أو بزنا كما هو مذهبنا وعليه كثير من المفسرين . ولما قالوا : كنا نفعل ذلك فكيف حال ما كان منا؟ قال : { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } أي لكن ما قد سلف فإنكم لا تؤاخذون به ، والاستثناء منقطع عن سيبويه . ثم بين صفة هذا العقد في الحال فقال { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } بالغة في القبح { وَمَقْتاً } وبغضاً عند الله وعند المؤمنين وناس منهم يمقتونه من ذوي مروآتهم ويسمونه نكاح المقت وكان المولود عليه يقال له المقتى { وَسَاءَ سَبِيلاً } وبئس الطريق طريقاً ذلك .
ولما ذكر في أول السورة نكاح ما طاب أي حل من النساء وذكر بعض ما حرم قبل هذا وهو نساء الآباء ذكر المحرمات الباقيات وهن سبع من النسب وسبع من السبب ، وبدأ بالنسب فقال :
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } والمراد تحريم نكاحهن عند البعض ، وقد ذكرنا المختار في شرح المنار .(1/218)
والجدة من قبل الأم أو الأب ملحقة بهن { وبناتكم } وبنات الابن وبنات البنت ملحقات بهن ، والأصل أن الجمع إذا قوبل بالجمع ينقسم الآحاد على الآحاد فتحرم على كل واحد أمه وبنته { وأخواتكم } لأب وأم أو لأب أو لأم { وعماتكم } من الأوجه الثلاثة { وخالاتكم } كذلك { وَبَنَاتُ الأخ } كذلك { وَبَنَاتُ الأخت } كذلك . ثم شرع في السبب فقال { وأمهاتكم الاتي أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة } الله تعالى نزل الرضاعة منزلة النسب فسمى المرضعة ، أما للرضيع والمراضعة أختاً وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته وكل ولد ولد له من غير الرضعة قبل الرضاع وبعده فهم أخوته وأخواته لأبيه وأم المرضعة جدته وأختها خالته ، وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأم ، وأصله قوله عليه السلام " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " { وأمهات نِسَائِكُمْ } وهن محرمات بمجرد العقد { وَرَبَائِبُكُمُ } سمى ولد المرأة من غير زوجها ربيباً وربيبة لأنه يربّهما كما يرب ولده في غالب الأمر ، ثم اتسع فيه فسميا بذلك وإن لم يربهما { الاتى فِي حُجُورِكُمْ } قال داود : إذ لم تكن في حجره لا تحرم . قلنا : ذكر الحجر على غلبة الحال دون الشرط ، وفائدته التعليل للتحريم وأنهن لاحتضانكم لهن أو لكونهن بصدد احتضانكم كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم { مّن نِّسَائِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } متعلق ب «ربائبكم» أي الربيبة من المرأة المدخول بها حرام على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها . والدخول بهن كناية عن الجماع كقولهم «بنى عليها وضرب عليها الحجاب» أي أدخلتموهن الستر والباء للتعدية . واللمس ونحوه يقوم مقام الدخول ، وقد جعل بعض العلماء « اللاتي دخلتم بهن» وصفاً للنساء المتقدمة والمتأخرة وليس كذلك ، لأن الوصف الواحد لا يقع على موصوفين مختلفي العامل ، وهذا لأن النساء الأولى مجرورة بالإضافة ، والثانية ب «من» ، ولا يجوز أن تقول «مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات» على أن تكون الظريفات نعتاً لهؤلاء النساء وهؤلاء النساء كذا قال الزجاج وغيره ، وهذا أولى مما قاله صاحب الكشاف فيه . { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } فلا حرج عليكم في أن تتزوجوا بناتهن إذا فارقتموهن أو متن { وحلائل أَبْنَائِكُمُ } جمع حليلة وهي الزوجة لأن كل واحد منهما يحل للآخر ، أو يحل فراش الآخر من الحل ، أو من الحلول { الذين مِنْ أصلابكم } دون من تبنيتم فقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب حين فارقها زيد وقال الله تعالى :(1/219)
{ لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } [ الأحزاب : 37 ] . وليس هذا لنفي الحرمة عن حليلة الابن من الرضاع { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين } أي في النكاح وهو في موضع الرفع عطف على المحرمات أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } وعن محمد بن الحسن رحمه الله أن أهل الجاهلية كانوا يعرفون هذه المحرمات إلا نكاح امرأة الأب ونكاح الأختين فلذا قال فيهما : .
«إلا ما قد سلف»(1/220)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
{ والمحصنات مِنَ النساء } أي ذوات الأزواج لأنهن أحصنّ فروجهن بالتزوج . قرأ الكسائي بفتح الصاد هنا وفي سائر القرآن بكسرها وغيره بفتحها في جميع القرآن { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم } بالسبي وزوجها في دار الحرب . والمعنى وحرم عليكم نكاح المنكوحات أي اللاتي لهن أزواج إلا ما ملكتموهن بسبيهن وإخراجهن بدون أزواجهن لوقوع الفرقة بتباين الدارين لا بالسبي ، فتحل الغنائم بملك اليمين بعد الاستبراء { كتاب الله عَلَيْكُمْ } مصدر مؤكد أي كتب الله ذلك عليكم كتاباً وفرضه فريضة وهو تحريم ما حرم وعطف { وَأُحِلَّ لَكُمْ } على الفعل المضر الذي نصب كتاب الله أي كتب الله عليكم تحريم ذلك وأحل لكم { مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } ما سوى الحرمات المذكورة . «وأحل» : كوفي غير أبي بكر عطف على «حرمت» { أَن تَبْتَغُواْ } مفعول له أي بين لكم ما يحل مما يحرم لأن تبتغوا ، أو بدل مما «وراء ذلكم» ومفعول «تبتغوا» مقدر وهو النساء ، والأجود أن لا يقدر { بأموالكم } يعني المهور ، وفيه دليل على أن النكاح لا يكون إلا بمهر ، وأنه يجب وإن لم يسم ، وأن غير المال لا يصلح مهراً ، وأن القليل لا يصلح مهراً إذ الحبة لا تعد مالاً عادة { مُّحْصِنِينَ } في حال كونكم محصنين { غَيْرَ مسافحين } لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دينكم ودنياكم ، ولا فساد أعظم من الجمع بين الخسرانين . والإحصان العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام ، والمسافح الزاني من السفح وهو صب المني { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } فما نكحتموه منهن { فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } مهورهن لأن المهر ثواب على البضع ف «ما» في معنى النساء و«من» للتبعيض أو للبيان ويرجع الضمير إليه على اللفظ في «به» وعلى المعنى في «فآتوهن» { فَرِيضَةً } حال من الأجور أي مفروضة ، أو وضعت موضع إيتاء لأن الإيتاء مفروض أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة . { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة } فيما تحط عنه من المهر ، أو تهب له من كله ، أو يزيد لها على مقداره ، أو فيما تراضيا به من مقام أو فراق { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بالأشياء قبل خلقها { حَكِيماً } فيما فرض لهم من عقد النكاح الذي به حفظت الأنساب . وقيل : إن قوله «فما استمتعتم» نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسوله ثم نسخت .
{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } فضلاً . يقال «لفلان عليّ طول» أي فضل وزيادة وهو مفعول «يستطع» { أَن يَنكِحَ } مفعول الطول فإنه مصدر فيعمل عمل فعله أو بدل من «طولاً» { المحصنات المؤمنات } الحرائر المسلمات { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن فتياتكم المؤمنات } أي فلينكحن مملوكة من الإماء المسلمات .(1/221)
وقوله : «من فتياتكم» . أي من فتيات المسلمين والمعنى : ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة ، ونكاح الأمة الكتابية يجوز عندنا والتقييد في النص للاستحباب بدليل أن الإيمان ليس بشرط في الحرائر اتفاقاً مع التقييد به . وقال ابن عباس : ومما وسّع الله على هذه الأمة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسراً ، وفيه دليل لنا في مسألة الطول { والله أَعْلَمُ بإيمانكم } فيه تنبيه على قبول ظاهر إيمانهن ، ودليل على أن الإيمان هو التصديق دون عمل اللسان لأن العلم بالإيمان المسموع لا يختلف { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } أي لا تستنكفوا من نكاح الإماء فكلكم بنو آدم ، وهو تحذير عن التعيير بالأنساب والتفاخر بالأحساب { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } سادتهن وهو حجة لنا في أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم ، وأنه ليس للعبد أو للأمة أن يتزوج إلا بإذن المولى { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } وأدوا إليهن مهورهن بغير مطل وإضرار وملاّك مهورهن مواليهن ، فكان أداؤها إليهن أداء إلى الموالي لأنهن وما في أيديهن مال الموالي ، أو التقدير : وآتوا مواليهن فحذف المضاف { محصنات } عفائف حال من المفعول في و«آتوهن» { غَيْرَ مسافحات } زوانٍ علانية { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } زوانٍ : سراً والأخدان : الأخلاء في السر { أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ } بالتزويج . «أحصن» : كوفي غير حفص { فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة } زنا { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات } أي الحرائر { مّنَ العذاب } من الحد يعني خمسين جلدة ، وقوله : «نصف ما على المحصنات » . يدل على أنه الجلد لا الرجم لأن الرجم لا يتنصف ، وأن المحصنات هنا الحرائر اللاتي لم يزوجن { ذلك } أي نكاح الإماء { لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ } لمن خاف الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة . وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر ، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو الزنا لأنه سبب الهلاك . { وَأَن تَصْبِرُواْ } في محل الرفع على الابتداء أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين { خَيْرٌ لَّكُمْ } لأن فيه إرقاق الولد ، ولأنها خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة وذلك كله نقصان يرجع إلى الناكح ومهانة والعزة من صفات المؤمنين ، وفي الحديث " الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت " { والله غَفُورٌ } يستر المحظور { رَّحِيمٌ } يكشف المحظور { يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ } أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في «لا أبالك» لتأكيد إضافة الأب . والمعنى : يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عليكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ } وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } ويوفقكم للتوبة عما كنتم عليه من الخلاف { والله عَلِيمٌ } بمصالح عباده { حَكِيمٌ } فيما شرع لهم { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } التكرير للتأكيد والتقرير والتقابل { وَيُرِيدُ } الفجرة { الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } وهو الميل عن القصد والحق ، ولا ميل أعظم منه بمساعدتهم وموافقتهم على اتباع الشهوات .(1/222)
وقيل : هم اليهود لاستحلالهم الأخوات لأب وبنات الأخ وبنات الأخت ، فلما حرمهن الله قالوا : فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة عليكم حرام ، فانكحوا بنات الأخت والأخ فنزلت . يقول : يريدون أن تكونوا زناة مثلهم { يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ } بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } لا يصبر على الشهوات وعلى مشاق الطاعات . { يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل } بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا { إِلا أَن تَكُونَ تجارة } إلا أن تقع تجارة . « تجارة» : كوفي أي إلا أن تكون التجارة تجارة { عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ } صفة ل «تجارة» أي تجارة صادرة عن تراض بالعقد أو بالتعاطي . والاستثناء منقطع معناه ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراضٍ ، أو ولكن كون تجارة عن تراضٍ غير منهي عنه . وخص التجارة بالذكر لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها ، والآية تدل على جواز البيع بالتعاطي وعلى جواز البيع الموقوف إذا وجدت الإجازة لوجود الرضا ، وعلى نفي خيار المجلس لأن فيها إباحة الاكل بالتجارة عن تراض من غير تقييد بالتفرق عن مكان العقد والتقييد به زيادة عن النص { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } من كان من جنسكم من المؤمنين لأن المؤمنين كنفس واحدة ، أو ولا يقتل الرجل نفسه كما يفعله الجهلة ، أو معنى القتل أكل الأموال بالباطل فظالم غيره كمهلك نفسه ، أو لا تتبعوا أهواءها فتقتلوها أو تركبوا ما يوجب القتل { إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } ولرحمته بكم نبهكم على ما فيه صيانة أموالكم وبقاء أبدانكم . وقيل : معناه أنه أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم ، وكان بكم يا أمة محمد رحيماً حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة .
{ وَمَن يَفْعَلْ ذلك } أي القتل أي ومن يقدم على قتل الأنفس { عدوانا وَظُلْماً } لا خطأ ولا قصاصاً وهما مصدران في موضع الحال أو مفعول لهما { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } ندخله ناراً مخصوصة شديدة العذاب { وَكَانَ ذلك } أي إصلاؤه النار { عَلَى الله يَسِيراً } سهلاً وهذا الوعيد في حق المستحيل للتخليد ، وفي حق غيره لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته .(1/223)
{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم } عن ابن مسعود رضي الله عنهما : الكبائر كل ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى قوله : « إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه» . وعنه أيضاً : الكبائر ثلاث : الإشراك بالله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله . وقيل : المراد بها أنواع الكفر بدليل قراءة عبد الله «كبير ما تنهون عنه» وهو الكفر { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً } «مدخلا» : مدني وكلاهما بمعنى المكان والمصدر كريما «حسناً» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت . « يريد الله ليبين لكم» . «والله يريد أن يتوب عليكم» . «يريد الله أن يخفف عنكم» . « إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم » . «إن الله لا يغفر أن يشرك به» . «إن الله لا يظلم مثقال ذرة» . «ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه» . «ما يفعل الله بعذابكم» . وتشبث المعتزلة بالآية على أن الصغائر واجبة المغفرة باجتناب الكبائر ، وعلى أن الكبائر غير مغفورة باطل ، لأن الكبائر والصغائر في مشيئته تعالى سواء إن شاء عذب عليهما وإن شاء عفا عنهما لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فقد وعد المغفرة لما دون الشرك وقرنها بمشيئته تعالى . وقوله : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 114 ] . فهذه الآية تدل على أن الصغائر والكبائر يجوز أن يذهبا بالحسنات لأن لفظ السيئات ينطبق عليهما .
ولما كان أخذ مال الغير بالباطل وقتل النفس بغير حق بتمني مال الغير وجاهه نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال بقوله { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما ينبغي لكل من بسط في الرزق أو قبض ، فعلى كل واحد أن يرضى بما قسم له ولا يحسد أخاه على حظه ، فالحسد أن يتمنى أن يكون ذلك الشيء له ويزول عن صاحبه ، والغبطة أن يتمنى مثل ما لغيره وهو مرخص فيه ، والأول منهي عنه . ولما قال الرجال : نرجو أن يكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كالميراث ، قالت النساء : يكون وزرنا على نصف وزر الرجال كالميراث نزل { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبن } أي ليس ذلك على حسب الميراث { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } فإن خزائنه لا تنفد ولا تتمنوا ما للناس من الفضل { إِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً } فالتفضيل منه عن علم بمواضع الاستحقاق . قال ابن عيينة : لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي وفي الحديث " من لم يسأل الله من فضله غضب عليه "(1/224)
وفيه " إن الله تعالى ليمسك الخير الكثير عن عبده ويقول : لا أعطي عبدي حتى يسألني " « وسلوا» : مكي وعلي { وَلِكُلٍّ } المضاف إليه محذوف تقديره ولكل أحد أو ولكل مال { جَعَلْنَا مَوَالِيَ } ورّاثاً يلونه ويحرزونه { مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } هو صفة مال محذوف أي لكل مال مما تركه الوالدان ، أو هو متعلق بفعل محذوف دل عليه الموالي تقديره : يرثون مما ترك { والذين عَقَدَتْ أيمانكم } عاقدتهم أيديكم وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره وهو { فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } مع الفاء . «عقدت» : كوفي أي عقدت عهودهم أيمانكم والمراد به عقد الموالاة وهي مشروعة . والوراثة بها ثابتة عند عامة الصحابة رضي الله عنهم وهو قولنا . وتفسيره إذا أسلم رجل أو امرأة لا وارث له وليس بعربي ولا معتق فيقول لآخر : واليتك على أن تعقلني إذا جنيت وترث مني إذا مت . ويقول الآخر : قبلت . انعقد ذلك ويرث الأعلى من الأسفل { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيداً } أي هو عالم الغيب والشهادة وهو أبلغ وعد ووعيد .
{ الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء } يقومون عليهن آمرين ناهين كما يقوم الولاة على الرعايا وسموا قواماً لذلك { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } الضمير في «بعضهم» للرجال والنساء يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن لسبب تفضيل الله بعضهم وهم الرجال على بعض وهم النساء بالعقل والعزم والحزم والرأي والقوة والغزو وكمال الصوم والصلاة والنبوة والخلافة والإمامة والأذان والخطبة والجماعة والجمعة وتكبير التشريق عند أبي حنيفة رحمه الله والشهادة في الحدود والقصاص وتضعيف الميراث والتعصيب فيه وملك النكاح والطلاق وإليهم الانتساب وهم أصحاب اللحى والعمائم . { وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم } وبأن نفقتهن عليهم وفيه دليل وجوب نفقتهن عليهم . ثم قسمهن على نوعين . النوع الأول { فالصالحات قانتات } مطيعات قائمات بما عليهن للأزواج { حفظات لّلْغَيْبِ } لمواجب الغيب وهو خلاف الشهادة أي إذ كان الأزواج غير شاهدين لهن حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الفروج والبيوت والأموال . وقيل : للغيب لأسرارهم { بِمَا حَفِظَ الله } بما حفظهن الله حين أوصى بهن الأزواج بقوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } [ النساء : 19 ] . أو بما حفظهن الله وعصمهن ووفقهن لحفظ الغيب ، أو بحفظ الله إياهن حيث صيرهن كذلك . والثاني { والاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } عصيانهن وترفعهن عن طاعة الأزواج . والنشز : المكان المرتفع والنبوة . عن ابن عباس رضي الله عنهما : هو أن تستخف بحقوق زوجها ولا تطيع أمره { فَعِظُوهُنَّ } خوفوهن عقوبة الله تعالى . والضرب والعظة كلام يلين القلوب القاسية ويرغب الطبائع النافرة { واهجروهن فِي المضاجع } في المراقد أي لا تداخلوهن تحت اللحف وهو كناية عن الجماع ، أو هو أن يوليها ظهره في المضجع لأنه لم يقل عن المضاجع { واضربوهن } ضرباً غير مبرح .(1/225)
أمر بوعظهن أولاً ثم بهجرانهن في المضاجع ، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ } بترك النشوز { فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى و«سبيلاً» مفعول «تبغوا» وهو من بغيت الأمر أي طلبته { إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } أي إن علت أيديكم عليهن فاعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن فاجتنبوا ظلمهن ، أو إن الله كان علياً كبيراً وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن يجني عليكم إذا رجع .
ثم خاطب الولاة بقوله { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } أصله «شقاقاً بينهما» فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع كقوله : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] . وأصله بل مكر في الليل والنهار . والشقاق : العداوة والخلاف ، لأن كلاًّ منهما يفعل ما يشق على صاحبه ، أو يميل إلى شق أي ناحية غير شق صاحبه والضمير للزوجين ولم يجر ذكرهما لجري ذكر ما يدل عليهما وهو الرجال والنساء { فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ } رجلاً يصلح للحكومة والإصلاح بينها { وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا } وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح ونفوس الزوجين أسكن إليهم فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة . والضمير في { إِن يُرِيدَا إصلاحا } للحكمين ، وفي { يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة بورك في وساطتهما ، وأوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الألفة والوفاق ، وألقى في نفوسهما المودة والاتفاق . أو الضميران للحكمين أي إن قصدا إصلاح ذات البين والنصيحة للزوجين ، يوفق الله بينهما فيتفقان على الكلمة الواحدة ويتساندان في طلب الوفاق حتى يتم المراد . أو الضميران للزوجين أي إن يريدا إصلاح ما بينهما وطلب الخير وأن يزول عنهما الشقاق ، يلق الله بينهما الألفة وأبدلهما بالشقاق الوفاق وبالبغضاء المودة { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بإرادة الحكمين { خَبِيراً } بالظالم من الزوجين وليس لهما ولاية التفريق عندنا خلافاً لمالك رحمه الله .(1/226)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
{ واعبدوا الله } قيل : العبودية أربعة : الوفاء بالعهود ، والرضا بالموجود ، والحفظ للحدود ، والصبر على المفقود { وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } صنماً وغيره ويحتمل المصدر أي إشراكاً { وبالوالدين إحسانا } وأحسنوا بهما إحساناً بالقول والفعل والإنفاق عليهما عند الاحتياج { وَبِذِى القربى } وبكل من بينكم وبينه قربى من أخ أو عم أو غيرهما { واليتامى والمساكين والجار ذِي القربى } الذي قرب جواره { والجار الجنب } أي الذي جواره بعيد أو الجار القريب النسيب ، والجار الجنب الأجنبي { والصاحب بالجنب } أي الزوجة : عن عليّ رضي الله عنه . أو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقاً في سفر أو شريكاً في تعلم علم أو غيره أو قاعداً إلى جنبك في مجلس أو مسجد { وابن السبيل } الغريب أو الضعيف { وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم } العبيد والإماء { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً } متكبراً يأنف عن قرابته وجيرانه فلا يلتفت إليهم { فَخُوراً } يعدد مناقبه كبراً فإن عدها اعترافاً كان شكوراً { الذين يَبْخَلُونَ } نصب على البدل من «مَنْ كان مختالاً فخوراً» وجمع على معنى «من» أو على الذم ، أو رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره «هم الذين يبخلون» { وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل } «بالبَخَل» : حمزة وعلي وهما لغتان كالرشد والرشد أي يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتاً للسخاء . قيل : البخل أن يأكل بنفسه ولا يؤكل غيره ، والشح أن لا يأكل ولا يؤكل ، والسخاء أن يأكل ويؤكل ، والجود أن يؤكل ولا يأكل . { وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتاهمالله مِن فَضْلِهِ } ويخفون ما أنعم الله عليهم به من المال وسعة الحال ، وفي الحديث " إذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن يرى نعمته على عبده " وبنى عامل للرشيد قصراً حذاء قصره فنم به فقال الرجل : يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته ، فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه . وقيل : نزلت في شأن اليهود الذين كتموا صفة محمد عليه السلام . { وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً } أي يهانون به في الآخرة . { والذين يُنْفِقُونَ أموالهم } معطوف على «الذين يبخلون» أو على «الكافرين» { رِئَاء الناس } مفعول له أي للفخار وليقال ما أجودهم لا لابتغاء وجه الله وهم المنافقون أو مشركو مكة { وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً } حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر ، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بالله واليوم الآخر وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله } وأي تبعة ووبال عليهم في الإيمان والإنفاق في سبيل الله والمراد الذم والتوبيخ وإلا فكل منفعة ومصلحة في ذلك ، وهذا كما يقال للعاق «ما ضرك لو كنت باراً» وقد علم أنه لا مضرة في البر ولكنه ذم وتوبيخ { وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً } وعيد .(1/227)
{ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } هي النملة الصغيرة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أدخل يده في التراب فرفعه ثم نفخ فيه فقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة . وقيل : كل جزء من أجزاء الهباء في الكوة ذرة . { وَإِن تَكُ حَسَنَةً } وإن يك مثقال الذرة حسنة . وإنما أنث ضمير المثقال لكونه مضافاً إلى مؤنث . «حسنةٌ» : حجازي على «كان» التامة ، وحذفت النون من «تكن» تخفيفاً لكثرة الاستعمال { يضاعفها } يضاعف ثوابها . «يضعفّها» : مكي وشامي { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } ويعط صاحبها من عنده ثواباً عظيماً ، وما وصفه الله بالعظم فمن يعرف مقداره مع أنه سمى متاع الدنيا قليلاً . وفيه إبطال قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة مع أن له حسنات كثيرة . { فَكَيْفَ } يصنع هؤلاء الكفرة من الهيود وغيرهم { إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد { على هؤلاء } أي أمتك { شَهِيداً } حال أي شاهداً على من آمن بالإيمان وعلى من كفر بالكفر وعلى من نافق بالنفاق . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله : « وجئنا بك على هؤلاء شهيداً» . فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " حسبنا
. " { يَوْمَئِذٍ } ظرف لقوله { يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } بالله { وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض } لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى ، أو يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء ، أو تصير البهائم تراباً فيودون حالها . « تسوى» بفتح التاء وتخفيف السين والإمالة وحذف إحدى التاءين من «تتسوى» : حمزة وعلي . «تسوى» بإدغام التاء في السين : مدني وشامي { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } مستأنف أي ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم . ولما صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً وشراباً ودعا نفراً من الصحابة رضي الله عنهم حين كانت الخمر مباحة ، فأكلوا وشربوا فقدموا أحدهم ليصلي بهم المغرب فقرأ «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد» ونزل : { يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } أي لا تقربوها في هذه الحالة { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } أي تقرأون ، وفيه دليل على أن ردة السكران ليست بردة ، لأن قراءة سورة «الكافرين» بطرح اللامات كفر ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان ، وما أمر النبي عليه السلام بالتفريق بينه وبين امرأته ولا بتجديد الإيمان ، ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئاً لا يحكم بكفره { وَلاَ جُنُباً } عطف على «وأنتم سكارى» لأن محل الجملة مع الواو النصب على الحال كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنباً أي ولا تصلوا جنباً .(1/228)
والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } صفة لقوله «جنباً» أي لا تقربوا الصلاة جنباً غير عابري سبيل أي جنباً مقيمين غير مسافرين ، والمراد بالجنب الذين لم يغتسلوا كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين { حتى تَغْتَسِلُواْ } إلا أن تكونوا مسافرين عادمين الماء متيممين ، عبّر عن المتيمم بالمسافر لأن غالب حاله عدم الماء وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، وهو مروي عن علي رضي الله عنه . وقال الشافعي رحمه الله : لا تقربوا الصلاة أي مواضع الصلاة وهي المساجد ، ولا جنباً أي ولا تقربوا المسجد جنباً إلا عابري سبيل إلا مجتازين فيه ، فيجوز للجنب العبور في المسجد عند الحاجة . { وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغآئط } أي المطمئن من الأرض وكانوا يأتونه لقضاء الحاجة فكنى بن عن الحدث { أَوْ لامستم النساء } جامعتموهن كذا عن علي رضي الله عنه وابن عباس { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً } فلم تقدروا على استعماله لعدمه أو بعده أو فقد آلة الوصول إليه أو لمانع من حية أو سبع أو عدو { فتيمّموا } أدخل في حكم الشرط أربعة وهم : المرضى والمسافرون والمحدثون وأهل الجنابة . والجزاء الذي هو الأمر بالتيمم متعلق بهم جميعاً؛ فالمرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه ، والمسافرون إذا عدموه لبعده ، والمحدثون وأهل الجنابة إذا لم يجدوه لبعض الأسباب فلهم أن يتيمموا . «لمستم» : حمزة وعلي { صَعِيداً } قال الزجاج : هو وجه الأرض تراباً كان أو غيره ، وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده ومسح لكان ذلك طهوره . و «من» في سورة المائدة لابتداء الغاية لا للتبعيض { طَيّباً } طاهراً { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } قيل : الباء زائدة { إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً } بالترخيص والتيسير { غَفُوراً } عن الخطأ والتقصير .
{ أَلَمْ تَرَ } من رؤية القلب وعدي «بإلى» على معنى «ألم ينته علمك إليهم» أو بمعنى «ألم تنظر إليهم» { إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } حظاً من علم التوراة وهم أحبار اليهود { يَشْتَرُونَ الضلالة } يستبدلونها بالهدى وهوالبقاء على اليهودية بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل { وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ } أنتم أيها المؤمنون { السبيل } أي سبيل الحق كما ضلوه { والله أَعْلَمُ } منكم { بِأَعْدَائِكُمْ } وقد أخبركم بعداوة هؤلاء فاحذروهم ولا تستنصحوهم في أموركم { وكفى بالله وَلِيّاً } في النفع { وكفى بالله نَصِيراً } في الدفع فثقوا بولايته ونصرته دونهم ، أو لا تبالوا بهم فإن الله ينصركم عليهم ويكفيكم مكرهم .(1/229)
و «ولياً» و «نصيراً» منصوبان على التمييز أو على الحال .
{ مّنَ الذين هَادُواْ } بيان للذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، أو بيان لأعدائكم ، وما بينهما اعتراض ، أن يتعلق بقوله «نصيراً» أي ينصركم من الذين هادوا كقوله { ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } [ الأنبياء : 77 ] أو يتعلق بمحذوف تقديره : من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم ، فقوم مبتدأ و«يحرفون» صفة له ، والخبر « من الذين هادوا»مقدم عليه ، وحذف الموصوف وهو قوم وأقيم صفته ، وهو { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مواضعه } يميلونه عنها ويزيلونه لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلماً غيره فقد أمالوه عن مواضعه في التوراة التي وضعه الله تعالى فيها وأزالوه عنها مقامه وذلك نحو تحريفهم «أسمر ربعة» عن موضعه في التوراة بوضعهم «آدم طوال» مكانه . ثم ذكر هنا «عن مواضعه» وفي المائدة { مِن بَعْدِ مواضعه } [ المائدة : 41 ] فمعنى «عن مواضعه» على ما بينا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه ، ومعنى { مِن بَعْدِ مواضعه } أنه كانت له مواضع هو جدير بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره والمعنيان متقاربان { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا } قولك { وَعَصَيْنَا } أمرك قيل أسرّوا به { واسمع } قولنا { غَيْرَ مُسْمَعٍ } حال من المخاطب أي اسمع وأنت غير مسمع وهو قول ذو وجهين يحتمل الذم أي اسمع منا مدعواً عليك بلا سمعت ، لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع شيئاً فكان أصم غير مسمع ، قالوا ذلك اتكالاً على أن قولهم «لا سمعت» دعوة مستجابة ، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعوه إليه ومعناه غير مسمع جواباً يوافقك فكأنك لم تسمع شيئاً ، أو إسمع غير مسمع كلاماً ترضاه فسمعك عنه ناب . ويحتمل المدح أي اسمع غير مسمع مكروهاً من قولك «أسمع فلان فلاناً» إذا سبه . وكذلك قوله { وراعنا } يحتمل راعنا نكلمك أي ارقبنا وانتظرنا ، ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها وهي «راعينا» فكانوا سخرية بالدين وهزؤوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } فتلا بها وتحريفاً أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون «راعنا» موضع «انظرنا» و«غير مسمع» موضع «لا أسمعت مكروهاً» ، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً { وَطَعْناً فِي الدين } هو قولهم : «لو كان نبياً حقاً لأخبر بما نعتقد فيه» { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ولم يقولوا وعصينا { واسمع } ولم يلحقوا به غير مسمع { وانظرنا } مكان «راعنا» { لَكَانَ } قولهم ذاك { خَيْراً لَّهُمْ } عند الله { وَأَقْوَمَ } وأعدل وأسد { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ } طردهم وأبعدهم عن رحمته بسبب اختيارهم الكفر { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } منهم قد آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه ، أو إلا إيماناً قليلاً ضعيفاً لا يعبأ به وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره .(1/230)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
ولما لم يؤمنوا نزل { يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا } يعني القرآن { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } يعني التوراة { مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم { فَنَرُدَّهَا على أدبارها } فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها . والفاء للتسبيب ، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم تُوُعدوا بعقابين أحدهما عقيب الآخر ، ردها على أدبارها بعد طمسها فالمعنى : أن نطمس وجوهاً فننكس الوجوه إلى خلف والأقفاء إلى قدام . وقيل : المراد بالطمس القلب والتغيير كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة ، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت } أي نخزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت . والضمير يرجع إلى الوجوه إن أريد الوجهاء ، أو إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات . والوعيد كان معلقاً بأن لا يؤمن كلهم وقد آمن بعضهم فإن ابن سلام قد سمع الآية قافلاً من الشام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً قبل أن يأتي أهله وقال : ما كنت أرى أن أصل إلى أهلي قبل أن يطمس الله وجهي . أو أن الله تعالى أوعدهم بأحد الأمرين : بطمس الوجوه أو بلعنهم ، فإن كان الطمس تبدل أحوال رؤسائهم فقد كان أحد الأمرين ، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان . وقيل : هو منتظر في اليهود { وَكَانَ أَمْرُ الله } أي المأمور به وهو العذاب الذي أوعدوا به { مَفْعُولاً } كائناً لا محالة فلا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا .
{ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } إن مات عليه { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } أي ما دون الشرك وإن كان كبيرة مع عدم التوبة ، والحاصل أن الشرك مغفور عنه بالتوبة ، وأن وعد غفران ما دونه لمن لم يتب أي لا يغفر لمن يشرك وهو مشرك ويغفر لمن يذنب وهو مذنب . قال النبي عليه السلام « من لقي الله تعالى لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ولم تضره خطيئته » وتقييده بقوله { لِمَن يَشَاءُ } لا يخرجه عن عمومه كقوله : { الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء } [ الشورى : 19 ] . قال علي رضي الله عنه : ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية . وحمل المعتزلة على التائب باطل لأن الكفر مغفور عنه بالتوبة لقوله تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] . فما دونه أولى من أن يغفر بالتوبة . والآية سيقت لبيان التفرقة بينهما وذا فيما ذكرنا { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } كذب كذباً عظيماً استحق به عذاباً أليماً .(1/231)
ونزل فيمن زكى نفسه من اليهود والنصارى حيث قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] . { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] . { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ } ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى { بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَاءُ } إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتد بها لا تزكية غيره لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية ونحوه : { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } [ النجم : 32 ] . { وَلاَ يُظْلَمُونَ } أي الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكية أنفسهم حق جزائهم ، أو من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم { فَتِيلاً } قدر فتيل وهو ما يحدث بفتل الأصابع من الوسخ . { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } في زعمهم أنهم عند الله أزكياءٌ { وكفى بِهِ } بزعمهم هذا { إِثْماً مُّبِيناً } من بين سائر آثامهم .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب } يعني اليهود { يُؤْمِنُونَ بالجبت } أي الأصنام وكل ما عبدوه من دون الله { والطاغوت } الشيطان { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هؤلاء أهدى مِنَ الذين ءَامَنُواْ سَبِيلاً } وذلك أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أنتم أهل الكتاب وأنتم إلى محمد أقرب منا وهو أقرب منكم إلينا فلا نأمن مكركم ، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا ، فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس عليه اللعنة فيما فعلوا . فقال أبو سفيان : أنحن أهدى سبيلاً أم محمد؟ فقال كعب : أنتم أهدى سبيلاً . { أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله } أبعدهم من رحمته { وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } يعتد بنصره . ثم وصف اليهود بالبخل والحسد وهما من شر الخصال ، يمنعون ما لهم ويتمنون ما لغيرهم فقال { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك } ف «أم» منقطعة ومعنى الهمزة الإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك { فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً } أي لو كان لهم نصيب من الملك أي ملك أهل الدينا أو ملك الله فإذا لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم ، والنقير : النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة كالفتيل .
{ أَمْ يَحْسُدُونَ الناس عَلَى مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على إنكار الحسد واستقباحه ، وكانوا يحسدونهم على ما آتاهم الله من النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم { فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءالَ إبراهيم الكتاب } أي التوراة { والحكمة } الموعظة والفقه { وءتيناهم مُّلْكاً عَظِيماً } يعني ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام ، وهذا إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد عليه السلام ، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتي أسلافه { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ } فمن اليهود من آمن بما ذكر من حديث آل إبراهيم { وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } وأنكره مع علمه بصحته ، أو من اليهود من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أنكر نبوته وأعرض عنه { وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } للصادين .(1/232)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بئاياتنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ } ندخلهم { نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أحرقت { بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا } أعدنا تلك الجلود غير محترقة ، فالتبديل والتغيير لتغاير الهيئتين لا لتغاير الأصلين عند أهل الحق خلافاً للكرامية . وعن فضيل : يجعل النضيج غير نضيج { لِيَذُوقُواْ العذاب } ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز : «أعزك الله» أي أدامك على عزك { إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً } غالباً بالانتقام لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين { حَكِيماً } فيما يفعل بالكافرين { والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ } من الأنجاس والحيض والنفاس { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } هو صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه كما يقال : «ليل أليل» وهو ماكان طويلاً فيناناً لا وجوب فيه ودائماً لا تنسخه الشمس وسجسجاً لا حر فيه ولا برد ، وليس ذلك إلا ظل الجنة .
ثم خاطب الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل بقوله :
{ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا } وقيل : قد دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان ، وحفظ الحواس التي هي ودائع الله تعالى { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس } قضيتم { أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } بالسوية والإنصاف . وقيل : إن عثمان بن طلحة بن عبد الدار كان سادن الكعبة وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه مفتاح الكعبة ، فلما نزلت الآية أمر علياً رضي الله عنه بأن يرده إليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد أنزل الله في شأنك قرآناً " وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان فهبط جبريل عليه السلام وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبداً { إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } «ما» نكرة منصوبة موصوفة ب «يعظكم به» كأنه قيل : نعم شيئاً يعظكم به ، أو موصولة مرفوعة المحل صلتها ما بعدها أي نعم الشيء الذي يعظكم به . والمخصوص بالمدح محذوف أي نعّما يعظكم به ذلك وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم . وبكسر النون وسكون العين : مدني وأبو عمرو ، وبفتح النون وكسر العين : شامي وحمزة وعلي .(1/233)
{ إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً } لأقوالكم { بَصِيراً } بأعمالكم .
ولما أمر الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل أمر الناس بأن يطيعوهم بقوله { ياأيها الذين ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } أي الولاة أو العلماء لأن أمرهم ينفذ على الأمر { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ } فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر في شيء من أمور الدين { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } أي ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } أي إن الإيمان يوجب الطاعة دون العصيان ، ودلت الآية على أن طاعة الأمراء واجبة إذا وافقوا الحق فإذا خالفوه فلا طاعة لهم لقوله عليه السلام " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " . وحكي أن مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال لأبي حازم : ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله : و«أولي الأمر منكم»؟ فقال أبو حازم : أليس قد نزعت الطاعة عنكم إذا خالفتم الحق . بقوله «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله» أي القرآن و«الرسول» في حياته وإلى أحاديثه بعد وفاته { ذلك } إشارة إلى الرد أي الرد إلى الكتاب والسنة { خَيْرٌ } عاجلاً { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } عاقبة كان بين بشر المنافق ويهودي خصومة ، فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه أنه لا يرتشي ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ليرشوه ، فاحتكما إلى النبي عليه السلام فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال : تعال نتحاكم إلى عمر . فقال اليهودي لعمر رضي الله عنه : قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه . فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ قال : نعم . فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق فقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزل .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } وقال جبريل عليه السلام : إن عمر فرق بين الحق والباطل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنت الفاروق " { يُرِيدُونَ } حال من الضمير في« يزعمون» { أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت } أي كعب بن الأشرف سماه الله طاغوتاً لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله عليه السلام ، أو على التشبيه بالشيطان ، أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكماً إلى الشيطان بدليل قوله { وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ } عن الحق { ضلالا بَعِيداً } مستمراً إلى الموت { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } للمنافقين { تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول } للتحاكم { رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } يعرضون عنك إلى غيرك ليغروه بالرشوة فيقضي لهم { فَكَيْفَ } تكون حالهم وكيف يصنعون { إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ } من قتل عمر بشرا { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من التحاكم إلى غيرك واتهامهم لك في الحكم { ثُمَّ جَاءُوكَ } أي أصحاب القتيل من المنافقين { يَحْلِفُونَ بالله } حال { إِنْ أَرَدْنَا } ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك { إِلاَّ إِحْسَاناً } لا إساءة { وَتَوْفِيقاً } بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً لحكمك ، وهذا وعيد لهم على فعلهم وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم ولا يغني عنهم الاعتذار .(1/234)
وقيل : جاء أولياء المنافق يطلبون بدمه وقد أهدره الله فقالوا : ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بحكومة العدل والتوفيق بينه وبين خصمه ، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به .(1/235)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
{ أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ } من النفاق . { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } فأعرض عن قبول الأعذار وعظ بالزجر والإنكار وبالغ في وعظهم بالتخويف والإنذار ، أو أعرض عن عقابهم وعظهم في عتابهم وبلغ كنه ما في ضميرك من الوعظ بارتكابهم . والبلاغة أن يبلغ بلسانه كنه ما في جنانه . و«في أنفسهم» يتعلق ب «قل لهم» أي قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولاً بليغاً منهم ويؤثر فيهم .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ } أي رسولاً قط { إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله } بتوفيقه في طاعته وتيسيره ، أو بسبب إذن الله في طاعته وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه لأنه مؤد عن الله فطاعته طاعة الله { وَمَن يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالتحاكم إلى الطاغوت { جَاءُوكَ } تائبين من النفاق معتذرين عما ارتكبوا من الشقاق { فاستغفروا الله } من النفاق والشقاق { واستغفر لَهُمُ الرسول } بالشفاعة لهم . والعامل في «إذ ظلموا» خبر «أنّ» وهو «جاؤوك» والمعنى : ولو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم مع استغفارهم واستغفار الرسول { لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً } لعلموه تواباً أي لتاب عليهم . ولم يقل «واستغفرت لهم» وعدل عنه إلى طريقة الالتفات تفخيماً لشأنه صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لاستغفاره وتنبيهاً على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان { رَّحِيماً } بهم . قيل : جاء أعرابي بعد دفنه عليه السلام فرمى بنفسه على قبره وحثا من ترابه على رأسه وقال : يا رسول الله ، قلت فسمعنا وكان فيما أنزل عليك : « ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم» الآية . وقد ظلمت نفسي وجئتك أستغفر الله من ذنبي فاستغفر لي من ربي ، فنودي من قبره قد غفر لك .
{ فَلاَ وَرَبّكَ } أي فوربك كقوله { فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ } [ الحجر : 92 ] «ولا» مزيدة لتأكيد معنى القسم وجواب القسم { لاَ يُؤْمِنُونَ } أو التقدير : فلا أي ليس الأمر كما يقولون ثم قال « وربك لا يؤمنون» { حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً } ضيقاً { مّمَّا قَضَيْتَ } أي لا تضيق صدورهم من حكمك أو شكًّا ، لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين { وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } وينقادوا لقضائك انقياداً وحقيقته . سلم نفسه له وأسلمها أي جعلها سالمة له أي خاصة . وتسليماً مصدر مؤكد للفعل بمنزلة تكريره كأنه قيل : وينقادوا لحكمك انقياداً لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم ، والمعنى لا يكونون مؤمنين حتى يرضوا بحكمك وقضائك { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } على المنافقين أي ولو وقع كتبنا عليهم { أَنِ اقتلوا } «أن» هي المفسرة { أَنفُسَكُمْ } أي تعرضوا للقتل بالجهاد .(1/236)
أو ولو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم { أَوِ اخرجوا مِن دياركم } بالهجرة { مَّا فَعَلُوهُ } لنفاقهم . والهاء ضمير أحد مصدري الفعلين وهو القتل أو الخروج أو ضمير المكتوب لدلالة كتبنا «عليه» { إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ } «قليلاً» : شامي على الاستثناء والرفع على البدل من واو «فعلوه» { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } من اتباع رسول الله عليه السلام والانقياد لحكمه { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } في الدارين { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } لإيمانهم وأبعد عن الاضطراب فيه { وَإِذَاً } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : وماذا يكون لهم بعد التثبيت؟ فقيل : وإذا لو ثبتوا { لاتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً } أي ثواباً كثيراً لا ينقطع .
{ ولهديناهم صراطا } مفعول ثانٍ { مُّسْتَقِيماً } أي لثبتناهم على الدين الحق { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين } كأفاضل صحابة الأنبياء . والصديق : المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة وباطنه بالمراقبة ، أو الذي يصدق قوله بفعله { والشهداء } والذين استشهدوا في سبيل الله { والصالحين } ومن صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } أي وما أحسن أولئك رفيقاً وهو كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه { ذلك } مبتدأ خبره { الفضل مِنَ الله } أو« الفضل» صفته و«من الله» خبره والمعنى : أن ما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله لأنه تفضل به عليهم ، أو أراد أن فضل المنعم عليهم ومزيتهم من الله . { وكفى بالله عَلِيماً } بِعِبَادِهِ وَبِمَن هُوَ أَهْلُ الفضل ودلت الآية على أن ما يفعل الله بعباده فهو فضل منه بخلاف ما يقوله المعتزلة { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } الحذر والحذر بمعنى وهو التحرز وهما كالإثر والأثر . يقال : أخذ حذره إذا تيقظ ، واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه ، والمعنى احذروا واحترزوا من العدو { فانفروا ثُبَاتٍ } فاخرجوا إلى العدو جماعات متفرقة سرية بعد سرية ، فالثباب الجماعات واحدها ثبة . { أَوِ انفروا جَمِيعاً } أي مجتمعين أو مع النبي عليه السلام ، لأن الجمع بدون السمع لا يتم ، والعقد بدون الواسطة لا ينتظم . أو انفروا ثباتٍ إذا لم يعم النفير ، أو انفروا جميعاً إذا عم النفير . وثبات «حال» وكذا «جميعاً» . واللام في { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن } للابتداء بمنزلتها في { إِنَّ الله لَغَفُورٌ } [ النحل : 18 ] و «من» موصولة . وفي { لَّيُبَطّئَنَّ } جواب قسم محذوف تقديره : وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن والقسم وجوابه صلة من ، والضمير الراجع منها إليه ما استكنّ في { لَّيُبَطّئَنَّ } أي ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد ، وبطؤ بمعنى أبطأ أي تأخر ويقال : «ما بطؤ بك» فيتعدى بالباء .(1/237)
والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله «منكم »أي في الظاهر دون الباطن يعني المنافقين يقولون لم تقتلون أنفسكم تأنوا حتى يظهر الأمر { فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ } قتل أو هزيمة { قَالَ } المبطىء { قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } «حاضر» فيصيبني مثل ما أصابهم { وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ الله } فتح أو غنيمة { لَّيَقُولَنَّ } هذا المبطىء متلهفاً على ما فاته من الغنمية لا طلباً للمثوبة { كَأنَ } مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي كأنه { لََّمْ تَكُنْ } وبالتاء مكي وحفص { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } وهي اعتراض بين الفعل وهو« ليقولن» وبين مفعوله وهو { ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ } والمعنى : كأن لم يتقدم له معكم موادة لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين في الظاهر وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن { فَأَفُوزَ } بالنصب لأنه جواب التمني { فَوْزاً عَظِيماً } فآخذ من الغنيمة حظاً وافراً .
{ فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ } يبيعون { الحياة الدنيا بالأخرة } والمراد المؤمنون الذين يستحبون الحياة الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها ، أي إن صد الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال فليقاتل الثابتون المخلصون أو يشترون ، والمراد المنافقون الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة ، وعطفوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله ويجاهدوا في سبيل الله حق جهاده { وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } وعد الله المقاتل في سبيل الله ظافراً أو مظفوراً به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله . { وَمَا لَكُمْ } مبتدأ وخبر ، وهذا الاستفهام في النفي للتنبيه على الاستبطاء ، وفي الإثبات للإنكار { لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله } حال والعامل فيها الاستقرار كما تقول «مالك قائماً» والمعنى وأي شيء لكم تاركين القتال وقد ظهرت دواعيه { والمستضعفين } مجرور بالعطف «على سبيل الله» أي في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين ، أو منصوب على الاختصاص منه أي واختص من سبيل الله خلاص المستضعَفين من المستضعِفين ، لأن سبيل الله عام في كل خير ، وخلاص المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه . والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد { مِنَ الرجال والنساء والولدان } ذكر الولدان تسجيلاً بإفراط ظلمهم حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين إرغاماً لآبائهم وأمهاتهم ، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالاً لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا كما فعل قوم يونس عليه السلام . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان { الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية } يعني مكة { الظالم أَهْلُهَا } « الظالم» وصف للقرية إلا أنه مسند إلى أهلها فأعطي إعراب القرية لأنه صفتها وذكر لإسناده إلى الأهل كما تقول «من هذه القرية التي ظلم أهلها» { واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } يتولى أمرنا ويستنقذنا من أعدائنا { واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً } ينصرنا عليهم .(1/238)
كانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولي وناصر وهو محمد عليه السلام ، فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر . ولما خرج محمد صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد فرأوا منه الولاية والنصرة كما أرادوا . قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعز بها من الظلمة
ثم رغب الله المؤمنين بأنهم يقاتلون في سبيل الله فهو وليهم وناصرهم ، وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان فلا ولي لهم إلا الشيطان بقوله { الذين ءامَنُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الطاغوت } أي الشيطان { فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان } أي الكفار { إِنَّ كَيْدَ الشيطان } أي وساوسه . وقيل : الكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال { كَانَ ضَعِيفاً } لأنه غرور لا يؤول إلى محصول ، أو كيده في مقابلة نصر الله ضعيف . كان المسلمون مكفوفين عن القتال مع الكفار ما داموا بمكة وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه فنزل .(1/239)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } أي عن القتال { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكواة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال } أي فرض بالمدينة { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله } يخافون أن يقاتلهم الكفار كما يخافون أن ينزل الله عليهم بأسه ، لا شكاً في الدين ولا رغبة عنه ولكن نفوراً عن الإخطار بالأرواح وخوفاً من الموت . قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : هذه خشية طبع لا أن ذلك منهم كراهة لحكم الله وأمره اعتقاداً ، فالمرء مجبول على كراهة مافيه خوف هلاكه غالباً ، وخشية الله من إضافة المصدر إلى المفعول ومحله النصب على الحال من الضمير في «يخشون» أي يخشون الناس مثل خشية أهل الله أي مشبهين لأهل خشية الله { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } هو معطوف على الحال أي أو أشد خشية من أهل خشية الله وأو للتخيير أي إن قلت؛ خشيتهم الناس كخشية الله فأنت مصيب ، وإن قلت : إنها أشد فأنت مصيب لأنه حصل لهم مثلها وزيادة .
{ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } هلا أمهلتنا إلى الموت فنموت على الفرش ، وهو سؤال عن وجه الحكمة في فرض القتال عليهم لا اعتراض لحكمه بدليل أنهم لم يوبخوا على هذا السؤال بل أجيبوا بقوله { قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ والأخرة خَيْرٌ لّمَنِ اتقى } متاع الدنيا قليل زائل ومتاع الآخرة كثير دائم ، والكثير إذا كان على شرف الزوال فهو قليل فكيف القليل الزائل! { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على مشاق القتل فلا ترغبوا عنه . وبالياء : مكي وحمزة وعلي . ثم أخبر أن الحذر لا ينجي من القدر بقوله :
{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } «ما» زائدة لتوكيد معنى الشرط في «أين» { وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ } حصون أو قصور { مُّشَيَّدَةٍ } مرفعة { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } نعمة من خصب ورخاء { يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله } نسبوها إلى الله { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } بلية من قحط وشدة { يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } أضافوها إليك وقالوا . هذه من عندك وما كانت إلا بشؤمك ، وذلك أن المنافقين واليهود كانوا إذا أصابهم خير حمدوا الله تعالى ، وإذا أصابهم مكروه نسبوه إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكذبهم الله تعالى بقوله { قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله } والمضاف إليه محذوف أي كل ذلك فهو يبسط الأرزاق ويقبضها { فَمَالِ هَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ } يفهمون { حَدِيثاً } فيعلمون أن الله هو الباسط القابض وكل ذلك صادر عن حكمة . ثم قال { مَا أَصَابَكَ } يا إنسان خطاباً عاماً . وقال الزجاج : المخاطب به النبي عليه السلام والمراد غيره { مِنْ حَسَنَةٍ } من نعمة وإحسان { فَمِنَ الله } تفضلاً منه وامتناناً { وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ } من بلية ومصيبة { فَمِن نَّفْسِكَ } فمن عندك أي فبما كسبت يداك .(1/240)
{ وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فِيمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] . { وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً } لا مقدراً حتى نسبوا إليك الشدة ، أو أرسلناك للناس رسولاً فإليك تبليغ الرسالة وليس إليك الحسنة والسيئة { وكفى بالله شَهِيداً } بأنك رسوله ، وقيل : هذا متصل بالأول أي يكادون يفقهون حديثاً يقولون ما أصابك . وحمل المعتزلة الحسنة والسيئة في الآية الثانية على الطاعة والمعصية تعسف بيّن وقد نادى عليه ما أصابك إذ يقال في الأفعال «ما أصبت» ولأنهم لا يقولون الحسنات من الله خلقاً وإيجاداً فأنى يكون لهم حجة في ذلك؟ «وشهيداً» تمييز .
{ مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } لأنه لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر الله به ونهى عنه ، فكانت طاعته في أوامره ونواهيه طاعة لله { وَمَن تولى } عن الطاعة فأعرض عنه { فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } تحفط عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم .
{ وَيَقُولُونَ } ويقول المنافقون إذا أمرتهم بشيء { طَاعَةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا وشأننا طاعة { فَإِذَا بَرَزُواْ } خرجوا { مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ } زور وسوّى فهو من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل ، أو من أبيات الشعر لأن الشاعر يدبرها ويسويها . وبالإدغام : حمزة وأبو عمرو . { غَيْرَ الذى تَقُولُ } خلاف ما قلت وما أمرت به أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة ، لأنهم أبطنوا الرد لا القبول والعصيان لا الطاعة وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون . { والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ } يثبته في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } في شأنهم فإن الله يكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام { وكفى بالله وَكِيلاً } كافياً لمن توكل عليه { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان } أفلا يتأملون معانيه ومبانيه . والتدبر : التأمل والنظر في أدبار الأمر وما يؤول إليه في عاقبته ثم استعمل في كل تأمل . والتفكر : تصرف القلب بالنظر في الدلائل وهذا يرد قول من زعم من الروافض أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم والإمام المعصوم ، ويدل على صحة القياس وعلى بطلان التقليد . { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله } كما زعم الكفار { لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } أي تناقضاً من حيث التوحيد والتشريك والتحليل والتحريم ، أو تفاوتاً من حيث البلاغة فكان بعضه بالغاً حد الإعجاز وبعضه قاصراً عنه يمكن معارضته ، أو من حيث المعاني فكان بعضه إخباراً بغيب قد وافق المخبر عنه ، وبعضه إخباراً مخالفاً للمخبر عنه ، وبعضه دالاً على معنى صحيح عند علماء المعاني ، وبعضه دالاً على معنى فاسد غير ملتئم .(1/241)
وأما تعلق الملحدة بآيات يدعون فيها اختلافاً كثيراً من نحو قوله : { فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [ الأعراف : 107 ] { كَأَنَّهَا جَانٌّ } [ النمل : 10 ] { فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] . { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ } [ الرحمن : 39 ] . فقد تفصى عنها أهل الحق وستجدها مشروحة في كتابنا هذا في مظانها إن شاء الله تعالى :
{ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف } هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم يكن فيهم خبرة بالأحوال ، أو المنافقون كانوا إذا بلغهم خبر من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل { أَذَاعُواْ بِهِ } أفشوه وكانت إذاعتهم مفسدة . يقال : أذاع السرع وأذاع به ، والضمير يعود إلى الأمر أو إلى الأمن أو الخوف لأن «أو» تقتضي أحدهما { وَلَوْ رَدُّوهُ } أي ذلك الخبر { إِلَى الرسول } أي رسول الله صلى الله عليه وسلم { وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ } يعني كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمِّرون منهم { لَعَلِمَهُ } لعلم تدبير ما أخبروا به { الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكائدها ، وقيل : كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء ، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة ، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا ، لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه . والنَبط : الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر ، واستنباطه استخراجه فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ } بإرسال الرسول { وَرَحْمَتُهُ } بإنزال الكتاب { لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان } لبقيتم على الكفر { إِلاَّ قَلِيلاً } لم يتبعوه ولكن آمنوا بالعقل كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وغيرهما .
لما ذكر في الآي قبلها تثبطهم عن القتال وإظهارهم الطاعة وإضمارهم خلافها قال { فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله } إن أفردوك وتركوك وحدك { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد فإن الله تعالى ناصرك لا الجنود ، وقيل : دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج وكان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت ، فخرج وما معه إلا سبعون ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده { وَحَرّضِ المؤمنين } وما عليك في شأنهم إلا التحريض على القتال فحسب لا التعنيف بهم { عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ } أي بطشهم وشدتهم وهم قريش وقد كف بأسهم بالرعب فلم يخرجوا . و «عسى» كلمة مطمعة غير أن أطماع الكريم أعود من إنجاز اللئيم { والله أَشَدُّ بَأْساً } من قريش { وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } تعذيباً وهو تمييز ك«بأساً» .(1/242)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
{ وَمَن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً } هي الشفاعة في دفع شر أو جلب نفع من جوازها شرعاً { يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا } من ثواب الشفاعة { وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً } هي خلاف الشفاعة الحسنة . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما لها مفسر غيري معناه من أمر بالتوحيد وقاتل أهل الكفر وضده السيئة . وقال الحسن : هو المشي بالصلح وضده النميمة { يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا } نصيب { وَكَانَ الله على كُلّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } مقتدراً من أقات على الشيء اقتدر عليه ، أو حفيظاً من القوت لأنه يمسك النفس ويحفظها .
{ وَإِذَا حُيّيتُم } أي سلم عليكم فإن التحية في ديننا بالسلام في الدارين { فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله } [ النور : 61 ] . { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام } [ الأحزاب : 44 ] . وكانت العرب تقول عند اللقاء : حياك الله أي أطال الله حياتك فأبدل ذلك بعد الإسلام بالسلام { بِتَحِيَّةٍ } هي تفعله من حيّا يحيّي تحية { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا } أي قولوا : وعليكم السلام ورحمة الله إذا قال السلام عليكم . وزيدوا «وبركاته» إذا قال «ورحمة الله» . ويقال لكل شيء منتهى ومنتهى السلام «وبركاته» . { أَوْ رُدُّوهَا } أي أجيبوها بمثلها ، ورد السلام جوابه بمثله لأن المجيب يرد قول المسلّم ، وفيه حذف مضاف أي ردوا مثلها . والتسليم سنة والرد فريضة والأحسن فضل . وما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة . ولا يرد السلام في الخطبة وقراءة القرآن جهراً ورواية الحديث وعند مذاكرة العلم والأذان والإقامة . وعند أبي يوسف رحمه الله : لا يسلم على لاعب الشطرنج والنرد والمغني والقاعد لحاجته ومطير الحمام والعاري من غير عذر في حمام أو غيره . ويسلم الرجل إذا دخل على امرأته ، والماشي على القاعد ، والراكب على الماشي ، وراكب الفرس على راكب الحمار ، والصغير على الكبير ، والأقل على الأكثر ، وإذا التقيا ابتدرا . وقيل : «بأحسن منها» لأهل الملة «أو ردوها» لأهل الذمة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم " أي وعليكم ما قلتم لأنهم كانوا يقولون «السام عليكم» . وقوله عليه السلام " لاغرار في تسليم " أي لا يقال «عليك» بل «عليكم» لأن كاتبيه معه { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً } أي يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها .
{ الله } مبتدأ { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } خبره أو اعتراض والخبر { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } ومعناه : الله والله ليجمعنكم { إلى يَوْمِ القيامة } أي ليحشرنكم إليه . والقيامة القيام كالطلابة والطلاب وهي قيامهم من القبور ، أو قيامهم للحساب { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين } [ المطففين : 6 ] { لاَ رَيْبَ فِيهِ } هو حال من يوم القيامة والهاء يعود إلى اليوم ، أو صفة لمصدر محذوف أي جمعاً لا ريب فيه ، والهاء يعود إلى الجمع { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً } تمييز وهو استفهام بمعنى النفي أي لا أحد أصدق منه في إخباره ووعده ووعيده لاستحالة الكذب عليه لقبحه لكونه إخباراً عن الشيء بخلاف ما هو عليه .(1/243)
{ فما لكم } مبتدأ وخبر { فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } أي مالكم اختلفتم في شأن قوم قد نافقوا نفاقاً ظاهراً وتفرقتم فيهم فرقتين ، وما لكم لم تقطعوا القول بكفرهم؟ وذلك أن قوماً من المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينة ، فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين . فاختلف المسلمون فيهم فقال بعضهم : هم كفار ، وقال بعضهم : هم مسلمون . و«فئتين » حال كقولك «مالك قائماً» ، قال سيبويه : إذا قلت «مالك قائماً» فمعناه لم قمت؟ ونصبه على تأويل أي شيء يستقر لك في هذه الحال؟ { والله أَرْكَسَهُمْ } ردهم إلى حكم الكفار { بِمَا كَسَبُواْ } من ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين فردوهم أيضاً ولا تختلفوا في كفرهم { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ } أن تجعلوا من جملة المهتدين { مَنْ أَضَلَّ الله } من جعله الله ضالاً ، أو أتريدون أن تسموهم مهتدين وقد أظهر الله ضلالهم فيكون تعييراً لمن سماهم مهتدين . والآية تدل على مذهبنا في إثبات الكسب للعبد والخلق للرب جلت قدرته { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } طريقاً إلى الهداية .
{ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ } الكاف نعت لمصدر محذوف و «ما» مصدرية أي ودوا لو تكفرون كفراً مثل كفرهم { فَتَكُونُونَ } عطف على «تكفرون» «سَوَآء» أي مستوين أنتم وهم في الكفر { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } فلا توالوهم حتى يؤمنوا لأن الهجرة في سبيل الله بالإسلام { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن الإيمان { فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } كما كان حكم سائر المشركين { وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } وإن بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ } أي ينتهون إليهم ويتصلون بهم . والاستثناء من قوله { فَخُذُوهُمْ واقتلوهم } دون الموالاة { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق } القوم هم الأسلميون كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، وذلك أنه وادع قبل خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، وعلى أن من وصل إلى هلال والتجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال ، أي فاقتلوهم إلا من اتصل بقوم بينكم وبينهم ميثاق { أَوْ جَآءُوكُمْ } عطف على صفة «قوم» أي إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين ، أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم أو على صفة الذين أي إلا الذين يتصلون بالمعاهدين ، أو الذين لا يقاتلونكم { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } حال بإضمار «قد» . والحصر : الضيق والانقباض { أن يقاتلوكم } عن أن يقاتلوكم أي عن قتالكم { أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ } معكم { وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ } بتقوية قلوبهم وإزالة الحصر عنها { فلقاتلوكم } عطف على { لَسَلَّطَهُمْ } ودخول اللام للتأكيد { فَإِنِ اعتزلوكم } فإن لم يتعرضوا لكم { فَلَمْ يقاتلوكم وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم } أي الانقياد والاستسلام { فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } طريقاً إلى القتال .(1/244)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
{ سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ } بالنفاق { وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } بالوفاق هم قوم من أسد وغطفان ، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين ، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم { كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الفتنة } كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين { أُرْكِسُواْ فِيِهَا } قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه وكانوا شراً فيها من كل عدو { فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ } فإن لم يعتزلوا قتالكم { وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السلم } عطف على «لم يعتزلوكم» أي ولم ينقادوا لكم بطلب الصلح { وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ } عطف عليه أيضاً أي ولم يمسكوا عن قتالكم { فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ } حيث تمكنتم منهم وظفرتم بهم { وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سلطانا مُّبِيناً } حجة واضحة لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر وإضرارهم بالمسلمين ، أو تسلطاً ظاهراً حيث أذنا لكم في قتله
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله { أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً } ابتداء من غير قصاص أي ليس المؤمن كالكافر الذي تقدم إباحة دمه { إِلاَّ خَطَئاً } إلا على وجه الخطأ وهو استثناء منقطع بمعنى «لكن» أي لكن إن وقع خطأ ، ويحتمل أن يكون صفة لمصدر أي إلا قتلاً خطأ والمعنى : من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي كافراً فيصيب مسلماً أو يرمي شخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً } صفة مصدر محذوف أي قتلاً خطأ { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } مبتدأ والخبر محذوف أي فعليه تحرير رقبة . والتحرير : الإعتاق ، والحر والعتيق الكريم لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد ، ومنه عتاق الطير وعتاق الخيل لكرامها . والرقبة : النسمة ويعبر عنها بالرأس في قولهم : «فلان يملك كذا رأساً من الرقيق { مُؤْمِنَةٍ } قيل : لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار ، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات ، إذ الرق أثر من آثار الكفر والكفر موت حكماً . { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] . ولهذا منع من تصرف الأحرار وهذا مشكل إذ لو كان كذلك لوجب في العمد أيضاً ، لكن يحتمل أن يقال : إنما وجب عليه ذلك لأن الله تعالى أبقى للقتال نفساً مؤمنة حيث لم يوجب القصاص فأوجب عليه مثلها رقبة مؤمنة . { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } مؤادة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء فيقضي منها الدين وتنفذ الوصية ، وإذا لم يبق وارث فهي لبيت المال .(1/245)
وقد ورّث رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم ، لكن الدية على العاقلة والكفارة على القاتل . { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } إلا أن يتصدقوا عليه بالدية أي يعفوا عنه ، والتقدير : فعليه دية في كل حال إلا في حال التصدق عليه بها .
{ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ } فإن كان المقتول خطأ من قوم أعداء لكم أي كفرة فالعدو يطلق على الجمع { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي المقتول مؤمن { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } يعني إذا أسلم الحربي في دار الحرب ولم يهاجر إلينا فقتله مسلم خطأ تجب الكفارة بقتله للعصمة المؤثمة وهي الإسلام ، ولا تجب الدية لأن العصمة المقومة بالدار ولم توجد { وَإِن كَانَ } أي المقتول { مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ } بين المسلمين { وَبَيْنَهُمْ ميثاق } عهد { فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً } أي وإن كان المقتول ذمياً فحكمه حكم المسلم ، وفيه دليل على أن دية الذمي كدية المسلم وهو قولنا { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } رقبة أي لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } فعليه صيام شهرين { مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ الله } قبولاً من الله ورحمة منه ، من تاب الله عليه إذا قبل توبته يعني شرع ذلك توبة منه ، أو فليتب توبة فهي نصب على المصدر { وَكَانَ الله عَلِيماً } بما أمر { حَكِيماً } فيما قدّر . { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً } حال من ضمير القاتل أي قاصداً قتله لإيمانه وهو كفر أو قتله مستحلاً لقتله وهو كفر أيضاً { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا } أي إن جازاه . قال عليه السلام " هي جزاؤه إن جازاه " والخلود قد يراد به طول المقام . وقول المعتزلة بالخروج من الإيمان يخالف قوله تعالى : { ا يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] : { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } أي انتقم منه وطرده من رحمته { وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } لارتكابه أمراً عظيماً وخطباً جسيماً . في الحديث " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرىء مسلم " { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله } سرتم في طريق الغزو { فَتَبَيَّنُواْ } «فتثبتوا» : حمزة وعلي وهما من التفعل بمعنى الاستفعال أي اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوكوا فيه { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام } «السلم» : مدني وشامي وحمزة وهما الاستسلام . وقيل : الإسلام . وقيل : التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام . { لَسْتَ مُؤْمِناً } في موضع النصب بالقول . وروي أن مرداس بن نهيك أسلم ولم يسلم من قومه غيره ، فغزتهم سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه ، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى منعرج من الجبل وصعد فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم ، فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد وجداً شديداً وقال(1/246)
" قتلتموه إرادة ما معه " ثم قرأ الآية على أسامة . { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا } تطلبون الغنيمة التي هي حطام سريع النفاد فهو الذي يدعوكم إلى ترك التثبت وقلة البحث عن حال من تقتلونه . والعرض : المال ، سمي به لسرعة فنائه . و «تبتغون» حال من ضمير الفاعل في «تقولوا» { فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } يغنّمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام ويتعوذ به من التعرض له لتأخذوا ماله { كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ } أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم ، والكاف في «كذلك» خبر «كان» وقد تقدم عليها وعلى اسمها { فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ } بالاستقامة والاشتهار بالإيمان فافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم { فَتَبَيَّنُواْ } كرر الأمر بالتبين ليؤكد عليهم { إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك .
{ لاَّ يَسْتَوِى القاعدون } عن الجهاد { مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر } بالنصب : مدني وشامي وعلي لأنه استثناء من القاعدين ، أو حال منهم . وبالجر عن حمزة صفة للمؤمنين ، وبالرفع غيرهم صفة للقاعدين . والضرر المرض أو العاهة من أعمى أعرج أو زمانة أو نحوها { والمجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ } عطف على «القاعدون» . » ونفى التساوي بين المجاهد والقاعد بغير عذر وإن كان معلوماً ، توبيخاً للقاعد عن الجهاد وتحريكاً له عليه ونحوه { هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] فهو تحريك لطلب العلم وتوبيخ على الرضا بالجهل { فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين } ذكر هذه الجملة بياناً للجملة الأولى وموضحة لما نفى من استواء القاعدين والمجاهدين كأنه قيل : ما لهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك { دَرَجَةً } نصب على المصدر لوقوعها موقع المرة من التفضيل كأنه قيل؛ فضلهم تفضلة كقولك «ضربه سوطاً» . ونصب { وَكُلاًّ } أي وكل فريق من القاعدين والمجاهدين لأنه مفعول أول لقوله { وَعَدَ الله } والثاني { الحسنى } أي المثوبة الحسنى وهي الجنة وإن كان المجاهدون مفضلين على القاعدين درجة { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين } بغير عذر { أَجْراً عَظِيماً * درجات مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } قيل : انتصب «أجراً» بفضل لأنه في معنى أجرهم أجراً و «درجات ومغفرة ورحمة» بدل من «أجراً» ، أو انتصب «درجات» نصب «درجة» كأنه قيل : فضلهم تفضيلات كقولك «ضربه أسواطاً» أي ضربات ، و «أجراً عظيماً» . على أنه حال من النكرة التي هي «درجات» مقدمة عليها . و«ومغفرة ورحمة» .(1/247)
بإضمار فعلهما أي وغفر لهم ورحمهم مغفرة ورحمة . وحاصله أن الله تعالى فضل المجاهدين على القاعدين بعذر درجة وعلى القاعدين بغير عذر بأمر النبي عليه السلام اكتفاء بغيرهم درجات لأن الجهاد فرض كفاية { وَكَانَ الله غَفُوراً } بتكفير العذر { رَّحِيماً } بتوفير الأجر .
ونزل فيمن أسلم ولم يهاجر حين كانت الهجرة فريضة وخرج مع المشركين إلى بدر مرتداً فقتل كافراً { إِنَّ الذين توفاهم الملئكة } يجوز أن يكون ماضياً لقراءة من قرء «توفتهم» ومضارعاً بمعنى تتوفاهم ، وحذفت التاء الثانية لاجتماع التاءين . والتوفي : قبض الروح ، والملائكة : ملك الموت وأعوانه { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } حال من ضمير المفعول في «توفاهم» أي في حال ظلمهم أنفسهم بالكفر وترك الهجرة { قَالُواْ } أي الملائكة للمتوفّين { فِيمَ كُنتُمْ } أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم؟ ومعناه التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين . { قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ } عاجزين عن الهجرة { فِى الأرض } أرض مكة فأخرجونا كارهين { قَالُواْ } أي الملائكة موبخين لهم { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا } أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ، ومن الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ونصب «فتهاجروا» على جواب الاستفهام { فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً } خبر «إن» «فأولئك» ودخول الفاء لما في «الذين» من الإبهام المشابه بالشرط ، أو «قالوا فيم كنتم» والعائد محذوف أي قالوا لهم ، والآية تدل على أن لم يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يجب وعلم أنه يتمكن من إقامته في غيره حقت عليه المهاجرة . وفي الحديث " من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة " وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنساء والولدان } استثنى من أهل الوعيد المستضعفين الذين { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } في الخروج منها لفقرهم وعجزهم { وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } ولا معرفة لهم بالمسالك . «ولا يستطيعون» صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان . وإنما جاز ذلك والجمل نكرات لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس بشيء بعينه كقوله
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... .(1/248)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
{ فَأُوْلَئِكَ عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } و «عسى» وإن كان للإطماع فهو من الله واجب لأن الكريم إذا أطمع أنجز . { وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً } لعباده قبل أن يخلقهم .
{ وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرض مُرَاغَماً } مهاجراً وطريقاً يراغم بسلوكه قومه أي يفارقهم على رغم أنوفهم ، والرغم : الذل والهوان ، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب . يقال راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك { كَثِيراً وَسَعَةً } في الرزق أو في إظهار الدين أو في الصدر لتبدل الخوف بالأمن { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا } حال من الضمير في «يخرج» { إِلَى الله وَرَسُولِهِ } إلى حيث أمر الله ورسوله { ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت } قبل بلوغه مهاجره وهو عطف على «يخرج» { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } أي حصل له الأجر بوعد الله وهو تأكيد للوعد فلا شيء يجب على الله لأحد من خلقه . { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } قالوا : كل هجرة لطلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة أو زهداً أو ابتغاء رزق طيب فهي هجرة إلى الله ، ورسوله ، وإن أدركه الموت في طريقه فقد وقع أجره على الله .
{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرض } سافرتم فيها ، فالضرب في الأرض هو السفر { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } حرج { أَن تَقْصُرُواْ } في أن تقصروا { مِنَ الصلاة } من أعداد ركعات الصلاة فتصلوا الرباعية ركعتين ، وظاهر الآية يقتضي أن القصر رخصة في السفر والإكمال عزيمة كما قال الشافعي رحمه الله ، لأن «لا جناح» يستعمل في موضع التخفيف والرخصة لا في موضع العزيمة وقلنا : القصر عزيمة غير رخصة ولا يجوز الإكمال لقول عمر رضي الله عنه : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم . وأما الآية فكأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ } إن خشيتم أن يقصدكم الكفار بقتل أو جرح أو أخذ ، والخوف شرط جواز القصر عند الخوارج بظاهر النص ، وعند الجمهور ليس بشرط لما روي عن يعلى بن أمية أنه قال لعمر : ما بالنا نقصر وقد أمنّا؟ فقال : عجبت مما تعجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " وفيه دليل على أنه لا يجوز الإكمال في السفر لأن التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد ، وإن كان المتصدق ممن لا تلزم طاعته كولي القصاص إذا عفا فمن تلزم طاعته أولى ، ، ولأن حالهم حين نزول الآية كذلك فنزلت على وفق الحال وهو كقوله :(1/249)
{ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [ النور : 33 ] . دليله قراءة عبد الله «من الصلاة أن يفتنكم» أي لئلا يفتنكم على أن المراد بالآية قصر الأحوال وهو أن يومىء على الدابة عند الخوف ، أو يخفف القراءة والركوع والسجود والتسبيح كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما . { إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } فتحرزوا عنهم .
{ وَإِذَا كُنتَ } يا محمد { فِيهِمْ } في أصحابك { فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } فأردت أن تقيم الصلاة بهم وبظاهره تعلق أبو يوسف رحمه الله فلا يرى صلاة الخوف بعده عليه السلام وقال : الأئمة نواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عصر فكان الخطاب له متناولاً لكل إمام كقوله تعالى : { خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ } [ التوبة : 103 ] . دليله فعل الصحابة رضي الله عنهم بعده عليه السلام { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ } فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك فصل بهم وتقوم طائفة تجاه العدو { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } أي الذين تجاه العدو . عن ابن عباس رضي الله عنهما : وإن كان المراد به المصلين فقالوا : يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر ونحوهما { فَإِذَا سَجَدُواْ } أي قيدوا ركعتهم بسجدتين فالسجود على ظاهره عندنا وعند مالك بمعنى الصلاة { فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ } أي إذا صلت هذه الطائفة التي معك ركعة فليرجعوا ليقفوا بإزاء العدو { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ } في موضع رفع صفة ل «طائفة» { فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ } أي ولتحضر الطائفة الواقفة بإزاء العدو فليصلوا معك الركعة الثانية { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ } ما يتحرزون به من العدو كالدرع ونحوه { وَأَسْلِحَتَهُمْ } جمع سلاح وهو ما يقاتل به . وأخذ السلاح شرط عند الشافعي رحمه الله ، وعندنا مستحب ، وكيفية صلاة الخوف معروفة { وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ } أي تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم { فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة } فيشدون عليكم شدة واحدة { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ } في أن تضعوا { أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } رخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم من مطر أو يضعفهم من مرض ، وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدو { إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً } أخبر أنه يهين عدوهم لتقوى قلوبهم ، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لتوقع غلبتهم عليهم وإنما هو تعبد من الله تعالى .
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة } فرغتم منها { فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ } أي دوموا على ذكر الله في جميع الأحوال ، أو فإذا أردتم أداء الصلاة فصلوا قياماً إن قدرتم عليه ، وقعوداً إن عجزتم عن القيام ، ومضطجعين إن عجزتم عن القعود { فَإِذَا اطمأننتم } سكنتم بزوال الخوف { فَأَقِيمُواْ الصلاة } فأتموها بطائفة واحدة أو إذا أقمتم فأتموا ولا تقصروا ، أو إذا اطمأننتم بالصحة فأتموا القيام والركوع والسجود { إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كتابا مَّوْقُوتاً } مكتوباً محدوداً بأوقات معلومة .(1/250)
{ وَلاَ تَهِنُواْ } ولا تضعفوا ولا تتوانوا { فِى ابتغاء القوم } في طلب الكفار بالقتال والتعرض به لهم . ثم ألزمهم الحجة بقوله { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } أي ليس ما تجدون من الألم بالجرح والقتل مختصاً بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم ، يصيبهم كما يصيبكم ، ثم إنهم يصبرون عليه فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم مع أنكم أجدر منهم بالصبر لأنكم ترجون من الله ما لا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان ، ومن الثواب العظيم في الآخرة { وَكَانَ الله عَلِيماً } بما يجد المؤمنون من الألم { حَكِيماً } في تدبير أمورهم .
روي أن طعمة بن أبريق أحد بني ظفر سرق درعاً من جار له اسمه قتادة بن النعمان في جراب دقيق ، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه وخبأها عند زيد بن السمين رجل من اليهود فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال : دفعها إليّ طعمة وشهد له ناس من اليهود . فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا : إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرىء اليهودي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل فنزل :(1/251)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق } أي محقاً { لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله } بما عرفك وأوحى به إليك . وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله : بما ألهمك بالنظر في أصوله المنزلة ، وفيه دلالة جواز الاجتهاد في حقه { وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ } لأجل الخائنين { خَصِيماً } مخاصماً أي ولا تخاصم اليهود لأجل بني ظفر { واستغفر الله } مما هممت به { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } يخونونها بالمعصية جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم لأن الضرر راجع إليهم ، والمراد به طعمة ومن عاونه من قومه وهم يعلمون أنه سارق ، أو ذكر بلفظ الجمع ليتناول طعمه وكل من خان خيانته { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } وإنما قيل بلفظ المبالغة لأنه تعالى عالم من طعمة أنه مُفْرط في الخيانة وركوب المآثم . ورُوي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطاً بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله . وقيل : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات . وعن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول : هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه ، فقال : كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة .
{ يَسْتَخْفُونَ } يستترون { مِنَ الناس } حياء منهم وخوفاً من ضررهم { وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله } ولا يستحيون منه { وَهُوَ مَعَهُمْ } وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليه خافٍ من سرهم ، وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياة والخشية من ربهم مع علمهم أنهم في حضرته لا سترة ولا غيبة { إِذْ يُبَيِّتُونَ } يدبرون وأصله أن يكون ليلاً { مَا لاَ يرضى مِنَ القول } وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد ليسرّق دونه ويحلف أنه لم يسرقها ، وهو دليل على أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس حيث سمى التدبير قولاً { وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } عالماً علم إحاطة .
{ هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء } «ها» للتنبيه في «أنتم» و «أولاء»» وهما مبتدأ وخبر { جادلتم } خاصمتم وهي جملة مبينة لوقوع «أولاء» خبراً كقولك لبعض الاسخياء «أنت حاتم تجود بمالك» . أو «أولاء» اسم موصول بمعنى «الذين» و «جادلتم» صلته والمعنى : هبوا أنكم خاصمتم { عَنْهُمْ } عن طعمة وقومه { فِي الحياة الدنيا فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة } فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه؟ وقرىء «عنه» أي عن طعمة { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } حافظاً ومحامياً من بأس الله وعذابه . { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً } ذنباً دون الشرك { أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } بالشرك أو سوءاً قبيحاً يتعدى ضرره إلى الغير كما فعل طعمة بقتادة واليهودي ، أو يظلم نفسه بما يختص به كالحلف الكاذب { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله } يسأل مغفرته { يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } له وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ } لأن وباله عليها { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } فلا يعاقب بالذنب غير فاعله { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً } صغيرة { أَوْ إِثْماً } أو كبيرة ، أو الأول ذنب بينه وبين ربه ، والثاني ذنب في مظالم العباد { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } كما رمى طعمة زيداً { فَقَدِ احتمل بهتانا } كذباً عظيماً { وَإِثْماً مُّبِيناً } ذنباً ظاهراً ، وهذا لأنه بكسب الإثم آثم ويرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين ، والبهتان كذب يبهت من قيل عليه ما لا علم له به { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } أي عصمته ولطفه من الإطلاع على سرهم { لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ } من بني ظفر ، أو المراد بالطائفة بنو ظفر الضمير في «منهم» يعود إلى الناس { أَن يُضِلُّوكَ } عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل مع علمهم بأن الجاني صاحبهم { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } لأن وباله عليهم { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك { وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب } القرآن { والحكمة } والسنة { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } من أمور الدين والشرائع أو من خفيات الأمور وضمائر القلوب { وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } فيما علمك وأنعم عليك .(1/252)
{ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ } من تناجي الناس { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } إلا نجوى من أمر ، وهو مجرور بدل من «كثير» أو من «نجواهم» أو منصوب على الانقطاع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير { أَوْ مَعْرُوفٍ } أي قرض أو إغاثة ملهوف أو كل جميل ، أو المراد بالصدقة الزكاة وبالمعروف التطوع { أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس } أي إصلاح ذات البين { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } المذكور { ابتغاء مرضات الله } طلب رضا الله وخرج عنه من فعل ذلك رياء أو ترؤساً وهو مفعول له . والإشكال أنه قال «إلا من أمر» ثم قال و «من يفعل ذلك» والجواب أنه ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله لأنه إذا دخل الآمر به في زمرة الخيرين كان الفاعل فيهم أدخل ، ثم قال و «ومن يفعل ذلك» فذكر الفاعل وقرن به الوعد بالأجر العظيم . أو المراد ومن يأمر بذلك فعبر عن الأمر بالفعل { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } «يؤتيه» : أبو عمرو وحمزة . { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى } ومن يخالف الرسول من بعد وضوح الدليل وظهور الرشد { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } أي السبيل الذي هم عليه من الدين الحنيفي ، وهو دليل على أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفتها كما لا تجوز مخالفة الكتاب والسنة ، لأن الله تعالى جمع بين أتباع غير سبيل المؤمنين وبين مشاقة الرسول في الشرط ، وجعل جزاءه الوعيد الشديد فكان اتباعهم واجباً كموالاة الرسول { نُوَلِّهِ مَا تولى } نجعله والياً لما تولى من الضلال وندعه وما اختاره في الدنيا { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } في العقبي { وَسَاءَتْ مَصِيراً } قيل : هي في طعمة وارتداده .(1/253)
{ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } مر تفسيره في هذه السورة { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً } عن الصواب { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } ما يعبدون من دون الله { إِلاَّ إناثا } جمع أنثى وهي اللات والعزى ومناة ، ولم يكن حي من العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان . وقيل : كانوا يقولون في أصنامهم هن بنات الله { وَإِن يَدْعُونَ } يعبدون { إِلاَّ شيطانا } لأنه هو الذي أغراهم على عبادة الأصنام فأطاعوه فجعلت طاعتهم له عبادة { مَّرِيداً } خارجاً عن الطاعة عارياً عن الخير ومنه الأمرد { لَّعَنَهُ الله وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ } صفتان يعني شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله وهذا القول الشنيع { مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } مقطوعاً واجباً لي في كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وواحد لله .
{ وَلأُضِلَّنَّهُمْ } بالدعاء إلى الضلالة والتزيين والوسوسة ولو كان إنفاذ الضلالة إليه لأضل الكل { وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } ولألقين في قلوبهم الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءَاذَانَ الأنعام } البتك : القطع . والتبتيك للتكثير والتكرير أي لأحملنهم على أن يقطعوا آذان الأنعام ، وكانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكراً وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله } بفقء عين الحامي وإعفائه عن الركوب ، أو بالخصاء وهو مباح في البهائم محظور في بني آدم ، أو بالوشم أو بنفي الأنساب واستلحاقها ، أو بتغيير الشيب بالسواد ، أو بالتحريم والتحليل ، أو بالتخنث ، أو بتبديل فطرة الله التي هي دين الإسلام لقوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } [ الروم : 30 ] . { وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله } وأجاب إلى ما دعاه إليه { فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } في الدارين { يَعِدُهُمْ } يوسوس إليهم أن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب { وَيُمَنِّيهِمْ } ما لا ينالون { وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } هو أن يرى شيئاً يظهر خلافه { أولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } معدلاً ومفراً .
{ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ولم يتبعوا الشيطان في الأمر بالكفر { سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَدًا } وقرأ النخعي «سيدخلهم» { وَعْدَ الله حَقّا } مصدران الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً } قولاً وهو استفهام بمعنى النفي أي لا أحد أصدق منه وهو تأكيد ثالث ، وفائدة هذه التوكيدات مقابلة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه .(1/254)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
{ لَّيْسَ بأمانيكم } ليس الأمر على شهواتكم وأمانيكم أيها المشركون أن تنفعكم الأصنام { وَلا أَمَانِيّ أَهْلِ الكتاب } ولا على شهوات اليهود والنصارى حيث قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] . { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] . { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } أي من المشركين وأهل الكتاب بدليل قوله { وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } وهذا وعيد للكفار لأنه قال بعده { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فقوله «وهو مؤمن» حال و «من» الأولى للتبعيض ، والثانية لبيان الإبهام في «من يعمل» ، وفيه إشارة إلى أن الأعمال ليست من الإيمان { فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة } «يدخلون» : مكي وأبو عمرو وأبو بكر { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } قدر النقير وهو النقرة في ظهر النواة والراجع في { وَلاَ يُظْلَمُونَ } لعمال السوء وعمال الصالحات جميعاً . وجاز أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دليلاً على ذكره عند الآخر . وقوله : { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } . وقوله : « وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات» . بعد ذكر تمني أهل الكتاب كقوله { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته } وقوله : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } عقيب قوله : { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله } أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له لا يعرف لها رباً ولا معبوداً سواء { وَهُوَ مُحْسِنٌ } عامل للحسنات { واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً } مائلاً عن الأديان الباطلة وهو حال من المتبع أو من إبراهيم { واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً } هو في الأصل المخال وهو الذي يخالك أي يوافقك في خلالك ، أو يداخلك خلال منزلك ، أو يسد خللك كما يسد خلله ، فالخلة صفاء مودة توجب الاختصاص بتخلل الأسرار ، والمحبة أصفى لأنها من حبة القلب وهي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كقوله «والحوادث جمة» . وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته وطريقته لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته ، ولو جعلتها معطوفة على الجمل قبلها ولم يكن لها معنى وفي الحديث " اتخذ الله إبراهيم خليلاً لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام " وقيل : أوحي إليه إنما اتخذتك خليلاً لأنك تحب أن تعطي ولا تعطى . وفي رواية «لأنك تعطي الناس ولا تسألهم» .
وفي قوله { وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } دليل على أن اتخاذه خليلاً لاحتياج الخليل إليه لا لاحتياجه تعالى إليه لأنه منزه عن ذلك { وَكَانَ الله بِكُلّ شَيْءً مُّحِيطاً } عالماً .
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النساء } ويسألونك الإفتاء في النساء والإفتاء تبيين المبهم { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النساء } أي الله يفتيكم والمتلو في الكتاب أي القرآن في معنى اليتامى يعني قوله :(1/255)
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } [ النساء : 3 ] . وهو من قولك «أعجبني زيد وكرمه» و «ما يتلى» في محل الرفع بالعطف على الضمير في «يفتيكم» أو على لفظ «الله» و «في يتامى النساء» صلة «يتلى» أي يتلى عليكم في معناهن . ويجوز أن يكون «في يتامى النساء» بدلاً من «فيهن» والإضافة بمعنى «من» { الاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } ما فرض لهن من الميراث وكان الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه ومالها ، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال ، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } أي في أن تنكحوهن لجمالهن أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن { والمستضعفين مِنَ الولدان } أي اليتامى وهو مجرور معطوف على «يتامى النساء» ، وكانوا في الجاهلية إنما يورثون الرجال القوام بالأمور دون الأطفال والنساء { وَأَن تَقُومُواْ لليتامى } مجرور كالمستضعفين بمعنى يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا ، أو منصوب بمعنى ويأمركم أن تقوموا وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا لهم حقوقهم { بالقسط } بالعدل في ميراثهم ومالهم { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } شرط وجوابه { فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً } أي فيجازيكم عليه .
{ وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً } توقعت منه ذلك لما لاح لها من مخايله وأمارته . والنشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته وأن يؤذيها بسب أو ضرب { أَوْ إِعْرَاضاً } عنها بأن يقل محادثتها ومؤانستها بسبب كبر سن أو دمامة أو سوء في خلق أو خلق أو ملال أو طموح عين إلى أخرى أو غير ذلك { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا } كوفي . «يصّالحا» : غيرهم أي يتصالحا وهو أصله فأبدلت التاء صاداً وأدغمت . { صُلحاً } في معنى مصدر كل واحد من الفعلين . ومعنى الصلح أن يتصالحا على أن تطيب له نفساً عن القسمة أو عن بعضها أو تهب له بعض المهر أو كله أو النفقة { والصلح خَيْرٌ } من الفرقة أو من النشوز أو من الخصومة في كل شيء ، أو والصلح خير من الخيور كما أن الخصومة شر من الشرور ، وهذه الجملة اعتراض كقوله { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } أي جعل الشح حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه يعني أنها مطبوعة عليه . والمراد أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمها والرجل لا يكاد يسمح بأن يقسم لها إذا رغب عنها ، فكل واحد منهما يطلب ما فيه راحته . «وأحضرت» يتعدى إلى مفعولين والأول «الأنفس» . ثم حث على مخالفة الطبع ومتابعة الشرط بقوله { وَإِن تُحْسِنُواْ } بالإقامة على نسائكم ، وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصحبة { وَتَتَّقُواْ } النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة { فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الإحسان والتقوى { خَبِيراً } فيثيبكم عليه .(1/256)
وكان عمران الخارجي من أدمّ بني آدم وامرأته من أجملهم فنظرت إليه وقالت : الحمد لله على أني وإياك من أهل الجنة . قال : كيف؟ فقالت : لأنك رزقت مثلي فشكرت ورزقت مثلك فصبرت والجنة موعودة للشاكرين والصابرين { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء } ولن تستطيعوا العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ، فتمام العدل أن يسوى بينهن بالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والمحالمة والمفاكهة وغيرها . وقيل : معناه أن تعدلوا في المحبة وكان عليه السلام يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : " هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك " يعني المحبة لأن عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه . { وَلَوْ حَرَصْتُمْ } بالغتم في تجري ذلك { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل } فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمها من غير رضا منها يعني أن اجتناب كل الميل في حد اليسر فلا تُفْرطوا فيه إن وقع منكم التفريط في العدل كله ، وفيه ضرب من التوبيخ . و «كل» نصب على المصدر لأن له حكم ما يضاف إليه { فَتَذَرُوهَا كالمعلقة } وهي التي ليست بذات بعلٍ ولا مطلقة { وَإِن تُصْلِحُواْ } بينهن { وَتَتَّقُواْ } الجور { فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } يغفر لكم ميل قلوبكم ويرحمكم فلا يعاقبكم .(1/257)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
{ وَإِن يَتَفَرَّقَا } أي إن لم يصطلح الزوجان على شيء وتفرقا بالخلع أو بتطليقه إياها وإيفائه مهرها ونفقة عدتها { يُغْنِ الله كُلاًّ } كل واحد منهما { مِّن سَعَتِهِ } من غناه أي يرزقه زوجاً خيراً من زوجه وعيشاً أهنأ من عيشه { وَكَانَ الله واسعا } بتحليل النكاح { حَكِيماً } بالإذن في السراح ، فالسعة الغنى والقدرة والواسع الغني المقتدر . ثم بين غناه وقدرته بقوله { وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } خلقاً والمتملكون عبيده رقا . { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب } هو اسم للجنس فيتناول الكتب السماوية { مِن قَبْلِكُم } مّن الأمم السالفة وهو متعلق ب « وصينا»أو ب «أتوا» { وإياكم } عطف على «الذين أوتوا» { أَنِ اتقوا الله } بأن اتقوا أو تكون «أن» المفسرة لأن التوصية في معنى القول ، والمعنى أن هذه وصية قديمة ما زال يوصي الله بها عباده ولستم بها مخصوصين لأنهم بالتقوى يسعدون عنده { وَإِن تَكْفُرُواْ } عطف على «اتقوا» لأن المعنى أمرناهم وأمرناكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا { فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض وَكَانَ الله غَنِيّاً } عن خلقه وعن عبادتهم { حَمِيداً } مستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه وإن لم يحَمده أحد . وتكرير قوله : «لله ما في السماوات وما في الأرض» . تقرير لما هو موجب تقواه لأن الخلق لما كان كله له وهو خالقهم ومالكهم فحقه أن يكون مطاعاً في خلقه غير معصي . وفيه دليل على أن التقوى أصل الخير كله ، وقوله : «وإن تكفروا» . عقيب التقوى دليل على أن المراد الاتقاء عن الشرك { وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً } فاتخذوه وكيلاً ولا تتكلوا على غيره .
ثم خوفهم وبين قدرته بقوله { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } يعدمكم { أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِاخَرِينَ } ويوجد إنساً آخرين مكانكم أو خلقاً آخرين غير الإنس { وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً } بليغ القدرة { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا } كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة { فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة } فما له يطلب أحدهما دون الآخر والذي يطلبه أخسهما { وَكَانَ الله سَمِيعاً } للأقوال { بَصِيراً } بالأفعال وهو وعد ووعيد .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط } مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا { شُهَدَاءَ } خبر بعد خبر { لِلَّهِ } أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } ولو كانت الشهادة على أنفسكم والشهادة على نفسه هي الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق ، وهذا لأن الدعوى والشهادة والإقرار يشترك جميعها في الإخبار عن حق لأحد على أحد غير أن الدعوى إخبار عن حق لنفسه على الغير ، والإقرار للغير على نفسه ، والشهادة للغير على الغير { أَوِ الوالدين والأقربين } أي ولو كانت الشهادة على آبائكم وأمهاتكم وأقاربكم { إِن يَكُنْ } المشهود عليه { غَنِيّاً } فلا يمنع الشهادة عليه لغناه طلباً لرضاه { أَوْ فَقَيراً } فلا يمنعها ترحماً عليه { فالله أولى بِهِمَا } بالغني والفقير أي بالنظر لهما والرحمة .(1/258)
وإنما ثنى الضمير في «بهما» وكان حقه أن يوحد ، لأن المعنى إن يكن أحد هذين لأنه يرجع إلى ما دل عليه قوله : «غنياً أو فقيراً» . وهو جنس الغني والفقير كأنه قيل : فالله أولى بجنسي الغني والفقير أي بالأغنياء والفقراء { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى } إرادة { أن تعدلوا } عن الحق من العدول أو كراهة أن تعدلوا بين الناس من العدل { وَإِن تَلُوُاْ } بواو واحدة وضم اللام : شامي وحمزة من الولاية { أَوْ تُعْرِضُواْ } أي وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها . غيرهما : «تلووا» بواوين وسكون اللام من اللي أي وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها { فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } فيجازيكم عليه .
{ يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ } خطاب للمسلمين { ءَامَنُواْ } اثبتوا على الإيمان ودوموا عليه ، ولأهل الكتاب لأنهم آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض ، أو للمنافقين أي يا أيها الذين آمنوا نفاقاً آمنوا إخلاصاً { بالله وَرَسُولِهِ } أي محمد صلى الله عليه وسلم { والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ } أي الفرقان { والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ } أي جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب ويدل عليه قوله و «كتبه» . نزل وأنزل بالبناء للمفعول : مكي وشامي وأبو عمرو ، وعلى البناء للفاعل فيهما : غيرهم . وإنما قيل «نزل على رسوله» و «أنزل من قبل» لأن الفرقان نزل مفرقاً منجماً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله { وَمَن يَكْفُرْ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر } أي ومن يكفر بشيء من ذلك { فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً } لأن الكفر ببعضه كفر بكله .
{ إِنَّ الذين ءَامَنُواْ } بموسى عليه السلام { ثُمَّ كَفَرُواْ } حين عبدوا العجل { ثُمَّ ءَامَنُواْ } بموسى بعد عوده { ثُمَّ كَفَرُواْ } بعيسى عليه السلام { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } إلى النجاة أو إلى الجنة ، أو هم المنافقون آمنوا في الظاهر وكفروا في السر مرة بعد أخرى ، وازدياد الكفر منهم ثباتهم عليه إلى الموت يؤيده قوله { بَشِّرِ المنافقين } أي أخبرهم ووضع بشر مكانه تهكماً بهم { بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } مؤلماً { الذين } نصب على الذم أو رفع بمعنى أريد الذين أو هم الذين { يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة } كان المنافقون يوالون الكفرة يطلبون منهم المنعة والنصرة ويقولون : لا يتم أمر محمد عليه السلام { فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } ولمن أعزه كالنبي عليه السلام والمؤمنين كما قال(1/259)
{ وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] .
{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ } بفتح النون : عاصم . وبضمها : غيره { فِي الكتاب } القرآن { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } حتى يشرعوا في كلام غير الكفر والاستهزاء بالقرآن ، والخوض : الشروع و «أن» مخففة من الثقيلة أي أنه إذا سمعتم أي نزل عليكم أن الشأن كذا . والشأن ما أفادته الجملة بشرطها وجزائها و «أن» مع ما في حيزها في موضع الرفع ب «نُزل» أو في موضع النصب ب «نَزل» والمنزل عليهم في الكتاب هو ما نزل عليهم بمكة من قوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِي ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [ الأنعام : 68 ] . وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزئون به ، فنهى المسلمين عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه ، وكان المنافقون بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين بمكة فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكة { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } أي في الوزر إذا مكثتم معهم ، ولم يرد به التمثيل من كل وجه فإن خوض المنافقين فيه كفر ومكث هؤلاء معهم معصية { إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } لاجتماعهم في الكفر والاستهزاء { الذين } بدل من «الذين يتخذون» أو صفة للمنافقين أو نصب على الذم منهم { يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله } نصرة وغنيمة { قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ } مظاهرين فأشركونا في الغنيمة { وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ } سمى ظفر المسلمين فتحاً تعظيماً لشأنهم لأنه أمر عظيم تفتح له أبواب السماء ، وظفر الكافرين نصيباً تخسيساً لحظهم لأنه لمظة من الدنيا يصيبونها .
{ قَالُواْ } للكافرين { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم ، والاستحواذ الاستيلاء والغلبة { وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين } بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت قلوبهم به ومرضوا عن قتالكم وتوانينا في مظاهرتهم عليكم فهاتوا نصيباً لنا مما أصبتم { فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أيها المؤمنون والمنافقون { يَوْمَ القيامة } فيدخل المنافقين النار والمؤمنين الجنة { وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } أي في القيامة بدليل أول الآية كذا عن علي رضي الله عنه ، أو حجة كذا عن ابن عباس رضي الله عنهما .(1/260)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
{ إِنَّ المنافقين يخادعون الله } أي يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر . والمنافق من أظهر الإيمان وأبطن الكفر ، أو أولياء الله وهم المؤمنون فأضاف خداعهم إلى نفسه تشريفاً لهم { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } وهو فاعل بهم ما يفعل المغالب في الخداع حيث تركهم معصومي الدماء والأموال في الدنيا ، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في العقبى . والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه . وقيل : يجزيهم جزاء خداعهم . { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى } متثاقلين كراهة ، أما الغفلة فقد يبتلى بها المؤمن وهو جمع كسلان كسكارى في سكران { يُرَاءَونَ الناس } حال أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة . والمرأة مفاعلة من الرؤية لأن المرائي يريهم عمله وهم يرونه استحساناً { وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } ولا يصلون إلا قليلاً لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس ، أو لا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكراً قليلاً نادراً . قال الحسن : لو كان ذلك القليل لله تعالى لكان كثيراً { مُّذَبْذَبِينَ } نصب على الذم أي مردّدين يعني ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر فهم مترددون بينهما متحيرون ، وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين أي يدفع فلا يقر في جانب واحد إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب { بَيْنَ ذلك } بين الكفر والإيمان { لآَ إلى هؤلاءآء } لا منسوبين إلى هؤلاء فيكونوا مؤمنين { وَلآَ إِلَى هؤلاءآء } ولا منسوبين إلى هؤلاء فيسموا مشركين { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } طريقاً إلى الهدى .
{ يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } حجة بينه في تعذيبكم { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } أي في الطبق الذي في قعر جنهم ، والنار سبع دركات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض . وإنما كان المنافق أشد عذاباً من الكافر لأنه أمن السيف في الدنيا فاستحق الدرك الأسفل في العقبى تعديلاً ، ولأنه مثله في الكفر وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله . والدرك بسكون الراء : كوفي غير الأعشى ، وبفتح الراء : غيرهم . وهما لغتان ، وذكر الزجاج أن الاختيار فتح الراء . { وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } يمنعهم من العذاب { إِلاَّ الذين تَابُواْ } من النفاق وهو استثناء من الضمير المجرور في «ولن تجد لهم نصير» { وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق { واعتصموا بالله } ووثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه { فأولئك مَعَ المؤمنين } فهم أصحاب المؤمنين ورفاقهم في الدارين { وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً } فيشاركونهم فيه .(1/261)
وحذفت الياء في الخط هنا إتباعاً للفظ . ثم استفهم مقرراً أنه لا يعذب المؤمن الشاكر فقال { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ } لله { وَءَامَنتُمْ } به ف «ما» منصوبة ب «يفعل» أي أي شيء يفعل بعذابكم؟ فالإيمان معرفة المنعم ، والشكر الاعتراف بالنعمة ، والكفر بالمنعم والنعمة عناد ، فلذا استحق الكافر العذاب . وقدم الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع فيشكر شكراً مبهماً ، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلاً فكان الشكر متقدماً على الإيمان { وَكَانَ الله شاكرا } يجزيكم على شكركم أو يقبل اليسير من العمل ويعطي الجزيل من الثواب { عَلِيماً } عالماً بما تصنعون .
{ لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول } ولا غير الجهر ولكن الجهر أفحش { إَلاَّ مَن ظُلِمَ } إلا جهر من ظلم استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء . وقيل : الجهر بالسوء من القول هو الشتم إلا من ظلم فإنه إن رد عليه مثله فلا حرج عليه { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ } [ الشورى : 41 ] { وَكَانَ الله سَمِيعاً } لشكوى المظلوم { عَلِيماً } بظلم الظالم . ثم حث على العفو وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار بعد ما أطلق الجهر به حثاً على الأفضل ، وذكر إبداء الخير وإخفاءه تشبيباً للعفو فقال { إِن تُبْدُواْ خَيْراً } مكان جهر السوء { أَوْ تُخْفُوهُ } فتعملوه سراً ثم عطف العفو عليهما فقال { أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء } أي تمحوه عن قلوبكم والدليل على أن العفو هو المقصود بذكر إبداء الخير وإخفائه قوله { فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } أي إنه لم يزل عفواً عن الآثام مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنته .
{ إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } كاليهود كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام والإنجيل والقرآن ، وكالنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } أي ديناً وسطاً بين الإيمان والكفر ولا واسطة بينهما { أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون } هم الكاملون في الكفر لأن الكفر بواحد كفر بالكل { حَقّاً } تأكيد لمضمون الجملة كقولك «هذا عبد الله حقاً» أي حق ذلك حقاً وهو كونهم كاملين في الكفر ، أو هو صفة لمصدر الكافرين أي هم الذين كفروا حقاً ثابتاً يقيناً لا شك فيه { وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً } في الآخرة { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } وإنما جاز دخول «بين» على «أحد» لأنه عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما { أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ } وبالياء : حفص { أُجُورَهُمْ } أي الثواب الموعود لهم { وَكَانَ الله غَفُوراً } يستر السيئات { رَّحِيماً } يقبل الحسنات ، والآية تدل على بطلان قول المعتزلة في تخليد المرتكب الكبيرة لأنه أخبر أن من آمن بالله ورسله ولم يفرق بين أحد منهم يؤتيه أجره ، ومرتكب الكبيرة ممن آمن بالله ورسله ولم يفرق بين أحد فيدخل تحت الوعد ، وعلى بطلان قول من لا يقول بقدم صفات الفعل من المغفرة والرحمة لأنه قال : «وكان الله غفوراً رحيماً» وهم يقولون : ما كان الله غفوراً رحيماً في الأزل ثم صار غفوراً رحيماً .(1/262)
ولما قال فنحاص وأصحابه للنبي صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبياً صادقاً فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه السلام نزل { يَسْئَلُكَ * أَهْلِ الكتاب أن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } وبالتخفيف : مكي وأبو عمرو { كتابا مّنَ السماء } أي جملة كما نزلت التوراة جملة ، وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت . وقال الحسن : ولو سألوه مسترشدين لأعطاهم لأن إنزال القرآن جملة ممكن { فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك } هذا جواب شرط مقدر معناه : إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك . وإنما أسند السؤال إليهم وقد وجد من آبائهم في أيام موسى عليه السلام وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم { فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً } عياناً أي أرنا نره جهرة { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة } العذاب الهائل أو النار المحرقة { بِظُلْمِهِمْ } على أنفسهم بسؤال شيء في غير موضعه ، أو بالتحكم على نبيهم في الآيات وتعنتهم في سؤال الرؤية لا بسؤال الرؤية لأنها ممكنة كإنزال القرآن جملة ، ولو كان ذلك بسبب سؤال الرؤية لكان موسى بذلك أحق فإنه قال { رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] وما أخذته الصاعقة بل أطمعه وقيده بالممكن ولا يعلق بالممكن إلا ما هو ممكن الثبوت ثم أحياهم { ثُمَّ اتخذوا العجل } إلهاً { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات } التوراة والمعجزات التسع { فَعَفَوْنَا عَن ذلك } تفضلاً ولم نستأصلهم { وَءَاتَيِْنَا مُوسَى سلطانا مُّبِيناً } حجة ظاهرة على من خالفه .(1/263)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
{ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم } بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه { وَقُلْنَا لَهُمُ } والطور مطل عليهم { ادخلوا الباب سُجَّداً } أي ادخلوا باب إيلياء مطأطئين عند الدخول رؤوسكم { وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ } لا تجاوزوا الحد «تَعدّوُا» : ورش «تعدوا» بإسكان العين وتشديد الدال : مدني غير ورش وهما مدغماً «تعتدوا» وهي قراءة أبي إلا أنه أدغم التاء في الدال وأبقى العين ساكنة في رواية ، وفي رواية نقل فتح التاء إلى العين { فِى السبت } بأخذ السمك { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً } عهداً مؤكداً .
{ فَبِمَا نَقْضِهِم } أي فبنقضهم و «ما» مزيدة للتوكيد والباء يتعلق بقوله «حرمنا عليهم طيبات» تقديره حرمنا عليهم طيبات بنقضهم ميثاقهم ، وقوله «فبظلم من الذين هادوا» بدل من قوله «فبما نقضهم» { ميثاقهم } ومعنى التوكيد تحقيق أن تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك { وَكُفْرِهِم بئايات الله } أي معجزات موسى عليه السلام { وَقَتْلِهِمُ الأنبياء } كزكريا ويحيى وغيرهما { بِغَيْرِ حَقٍّ } بغير سبب يستحقون به القتل { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } جمع أغلف أي محجوبة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والوعظ { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } هو رد وإنكار لقولهم «قلوبنا غلف» { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } كعبد الله بن سلام وأصحابه { وَبِكُفْرِهِمْ } معطوف على «فبما نقضهم» أو على ما يليه من قوله : «بكفرهم» . ولما تكرر منهم الكفر لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم عطف بعض كفرهم على بعض : { وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً } هو النسبة إلى الزنا { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح } سمي مسيحاً لأن جبريل عليه السلام مسحه بالبركة فهو ممسوح ، أو لأنه كان يمسح المريض والأكمة والأبرص فيبرأ فسمي مسيحاً بمعنى الماسح { عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله } هم لم يعتقدوه رسول الله لكنهم قالوا استهزاء كقول الكفار لرسولنا { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } [ الحجر : 6 ] ويحتمل أن الله وصفه بالرسول وإن لم يقولوا ذلك .
{ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبّهَ لَهُمْ } روي أن رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمه فدعا عليهم : اللهم أنت ربي وبكلمتك خلقتني ، اللهم العن من سبني وسب والدتي ، فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير . فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود ، فقال لأصحابه : أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم : أنا ، فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب . وقيل : كان رجل ينافق عيسى فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه فدخل بيت عيسى ورفع عيسى وألقى الله شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى .(1/264)
وجاز هذا على قوم متعنتين حكم الله بأنهم لا يؤمنون ، «وشبه» مسند إلى الجار والمجرور وهو «لهم» كقولك «خيل إليه» كأنه قيل : ولكن وقع لهم التشبيه . أو مسند إلى ضمير المقتول لدلالة «إنا قتلنا» عليه كأنه قيل : ولكن شبه لهم من قتلوه { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ } في عيسى يعني اليهود قالوا : إن الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا ، أو اختلف النصارى قالوا : إله وابن إله وثالث ثلاثة { لَفِى شَكّ مّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } استثناء منقطع لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم يعني ولكنهم يتبعون الظن . وإنما وصفوا بالشك وهو أن لا يترجح أحد الجانبين ، ثم وصفوا بالظن وهو أن يترجح أحدهما ، لأن المراد أنهم شاكون مالهم به من علم ولكن إن لاحت لهم أمارة فظنوا فذاك . وقيل : وإن الذين اختلفوا فيه أي في قتله لفي شك منه أي من قتله لأنهم كانوا يقولون إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى! { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } أي قتلاً يقيناً ، أو ما قتلوه متيقنين ، أو ما قتلوه حقاً فيجعل «يقيناً» تأكيداً لقوله «وما قتلوه» أي حق انتفاء قتله حقاً { بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } إلى حيث لا حكم فيه لغير الله أو إلى السماء { وَكَانَ الله عَزِيزاً } في انتقامه من اليهود { حَكِيماً } فيما دبر من رفعه إليه .(1/265)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
{ وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } «ليؤمنن به» جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ونحوه { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] والمعنى : وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى عليه السلام وبأنه عبد الله ورسوله يعني إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف . أو بالكتاب الضميران لعيسى يعني وإن منهم أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله . رُوي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام ، أو الضمير «في به» يرجع إلى الله أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم والثاني إلى الكتابي { وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } يشهد على اليهود بأنهم كذبوه وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله { فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ } وهي ما ذكر في سورة الأنعام { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] الآية . والمعنى ما حرمنا عليهم الطيبات إلا لظلم عظيم ارتكبوه وهو ما عدد قبل هذا { وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله } وبمنعهم عن الإيمان { كَثِيراً } أي خلقاً كثيراً أو صداً كثيراً { وَأَخْذِهِمُ * الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } كان الربا محرماً عليهم كما حرم علينا وكانوا يتعاطونه { وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل } بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة { وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ } دون من آمن { عَذَاباً أَلِيماً } في الآخرة { لكن الراسخون فِى العلم } أي الثابتون فيه المتقون كابن سلام وأضرابه { مِنْهُمْ } من أهل الكتاب { والمؤمنون } أي المؤمنون منهم والمؤمنون من المهاجرين والأنصار . وارتفع «الراسخون» على الابتداء { يُؤْمِنُونَ } خبره { بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ } أي القرآن { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } أي سائر الكتب { والمقيمين الصلاة } منصوب على المدح لبيان فضل الصلاة ، وفي مصحف عبد الله «والمقيمون» وهي قراءة مالك بن دينار وغيره { والمؤتون الزكواة } مبتدأ { والمؤمنون بالله واليوم الآخر } عطف عليه والخبر { أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } وبالياء : حمزة .
{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحي إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا { كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ } كهود وصالح وشعيب وغيرهم .
{ وَأَوْحَيْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ } أي أولاد يعقوب { وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وهارون وسليمان وَءاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } «زُبوراً» : حمزة مصدر بمعنى مفعول سمي به الكتاب المنزل على داود عليه السلام { وَرُسُلاً } نصب بمضمر في معنى أوحينا إليك وهو أرسلنا ونبأنا { قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } من قبل هذه السورة { وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } سأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء قال(1/266)
" مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً " قال : كم الرسل منهم؟ قال : " ثلثمائة وثلاثة عشر أول الرسل آدم وآخرهم نبيكم محمد عليه السلام وأربعة مِن العرب هود وصالح وشعيب ومحمد عليه السلام " والآية تدل على أن معرفة الرسل بأعيانهم ليست بشرط لصحة الإيمان بل من شرطه أن يؤمن بهم جميعاً إذ لو كان معرفة كل واحد منهم شرطاً لقص علينا كل ذلك { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } أي بلا واسطة .
{ رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } الأوجه أن ينتصب على المدح أي أعني رسلاً ، ويجوز أن يكون بدلاً من الأول ، وأن يكون مفعولاً أي وأرسلنا رسلاً . واللام في { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } يتعلق ب «مبشرين» ومنذرين والمعنى أن إرسالهم إزاحة للعلة وتتميم لإلزام الحجة لئلا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولاً فيوقظنا من سنة الغفلة ، وينبهنا بما وجب الانتباه له ، ويعلمنا ما سبيل معرفته السمع كالعبادات والشرائع أعني في حق مقاديرها وأوقاتها وكيفياتها دون أصولها فإنها مما يعرف بالعقل { وَكَانَ الله عَزِيزاً } في العقاب على الإنكار { حَكِيماً } في بعث الرسل للإنذار .
ولما نزل «إنا أوحينا إليك» قالوا ما نشهد لك بهذا فنزل { لكن الله يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } ومعنى شهادة الله بما أنزل إليه إثباته لصحته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب بالمعجزة { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } أي أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه ، أو أنزله بما علم من مصالح العباد ، وفيه نفي قول المعتزلة في إنكار الصفات فإنه أثبت لنفسه العلم { والملئكة يَشْهَدُونَ } لك بالنبوة { وكفى بالله شَهِيداً } شاهداً وإن لم يشهد غيره { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود { وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } ومنعوا الناس عن سبيل الحق بقولهم للعرب «إنا لا نجده في كتابنا» { قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً } عن الرشد { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } بالله { وَظَلَمُواْ } محمداً عليهم السلام بتغيير نعته وإنكار نبوته { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ } ما داموا على الكفر { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } وكان تخليدهم في جهنم سهلاً عليه ، والتقدير يعاقبهم خالدين فهوحال مقدرة والآيتان في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ويموتون على الكفر .(1/267)
{ يأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبّكُمْ } أي بالإسلام أو هو حال أي محقاً { فَئَامِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ } وكذلك { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } انتصابه بمضمر ، وذلك أنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر فقال «خيراً لكم» أي اقصدوا وأتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث وهو الإيمان به والتوحيد { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السماوات والأرض } فلا يضره كفركم { وَكَانَ الله عَلِيماً } بمن يؤمن وبمن يكفر { حَكِيماً } لا يسوي بينهما في الجزاء .
{ يأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ } لا تجاوزوا الحد فغلت اليهود في حط المسيح عن منزلته حتى قالوا إنه ابن الزنا ، وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه ابن الله { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } وهو تنزيهه عن الشريك والولد { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } لا ابن الله { رَسُولُ الله } خبر المبتدأ وهو «المسيح» و «عيسى» عطف بيان أو بدل { وَكَلِمَتُهُ } عطف على «رسول الله» . وقيل له «كلمة» لأنه يهتدي به كما يهتدي بالكلام { ألقاها إلى مَرْيَمَ } حال «وقد» معه مرادة أي أوصلها إليها وحصلها فيها { وَرُوحٌ } معطوف على الخبر أيضاً . وقيل له «روح» لأنه كان يحيي الموتى كما سمي القرآن روحاً بقوله { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] لما أنه يحيي القلوب { مِّنْهُ } أي بتخليقه وتكوينه كقوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِي الارض جَمِيعاً مّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] وبه أجاب عليّ بن الحسين بن واقد غلاماً نصرانياً كان للرشيد في مجلسه حيث زعم أن في كتابكم حجة على أن عيسى من الله { فَئَامِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة } خبر مبتدأ محذوف أي ولا تقولوا الآلهة ثلاثة { انتهوا } عن التثليث { خَيْراً لَّكُمْ } . والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة وأن المسيح ولد الله من مريم ألا ترى إلى قوله : { أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] . { وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] . { إِنَّمَا الله } مبتدأ { إِلَهٌ } خبرة { واحد } توكيد { سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أسبحه تسبيحاً من أن يكون له ولد { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِى الأرض } بيان لتنزهه مما نسب إليه بمعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه فكيف يكون بعض ملكه جزءًا منه . إذ البنوة والملك لا يجتمعان ، على أن الجزء إنما يصح في الأجسام وهو يتعالى عن أن يكون جسماً { وكفى بالله وَكِيلاً } حافظاً ومدبراً لهما ولما فيهما ، ومن عجز عن كفاية أمر يحتاج إلى ولد يعينه .
ولما قال وفد نجران لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تعيب صاحبنا عيسى؟ قال : " وأي شيء أقول؟ " قالوا : تقول إنه عبد الله ورسوله . قال : " إنه ليس بعار أن يكون عبد الله " قالوا : بلى ، نزل قوله تعالى :(1/268)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
{ لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح } أي لن يأنف { أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ } هو رد على النصارى { وَلاَ الملئكة } رد على من يعبدهم من العرب وهو عطف على «المسيح» { المقربون } أي الكروبيون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم . والمعنى : ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عباداً لله فحذف ذلك لدلالة عبد الله عليه إيجازاً . وتشبثت المعتزلة والقائلون بتفضيل الملك على البشر بهذه الآية وقالوا : الارتقاء إنما يكون إلى الأعلى . يقال : فلان لا يستنكف عن خدمتي ولا أبوه ، ولو قال «ولا عبده» لم يحسن وكان معنى قوله «ولا الملائكة المقربون» ولا من هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً ، ويدل عليه تخصيص المقربين . والجواب أنا نسلم تفضيل الثاني على الأول ولكن هذا لا يمس ما تنازعنا فيه ، لأن الآية تدل على أن الملائكة المقربين بأجمعهم أفضل من عيسى ، ونحن نسلم بأن جميع الملائكة المقربين أفضل من رسول واحد من البشر . إلى هذا ذهب بعض أهل السنة ، ولأن المراد أن الملائكة مع ما لهم من القدرة الفائقة قدر البشر والعلوم اللوحية وتجردهم عن التولد الازدواجي رأساً لا يستنكفون عن عبادته ، فكيف بمن يتولد من آخر ولا يقدر على ما يقدرون ولا يعلم ما يعلمون! وهذا لأن شدة البطش وسعة العلوم وغرابة التكون هي التي تورث الحمقى أمثال النصارى وهم الترفع عن العبودية حيث رأوا المسيح ولد من غير أب وهو يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وينبىء بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم ، فبرءوه من العبودية فقيل لهم هذه الأوصاف في الملائكة أتم منها في المسيح ، ومع هذا لم يستنكفوا عن العبودية فكيف المسيح! والحاصل أن خواص البشر وهم الأنبياء عليهم السلام أفضل من خواص الملائكة وهم الرسل منهم ، كجبريل وميكائيل وعزرائيل ونحوهم ، وخواص الملائكة أفضل من عوام المؤمنين من البشر ، وعوام المؤمنين من البشر أفضل من عوام الملائكة ، ودليلنا على تفضيل البشر على الملك ابتداء أنهم قهروا نوازع الهوى في ذات الله تعالى مع أنهم جبلوا عليها فضاهت الأنبياء عليهم السلام الملائكة عليهم السلام في العصمة وتفضلوا عليهم في قهر البواعث النفسانية والدواعي الجسدانية ، فكانت طاعتهم أشق لكونها مع الصوارف بخلاف طاعة الملائكة لأنهم جبلوا عليها فكانت أزيد ثواباً بالحديث { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ } يترفع ويطلب الكبرياء { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } فيجازيهم على استنكافهم واستكبارهم .
ثم فصل فقال :
{ فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } فإن قلت : التفصيل غير مطابق للمفصل لأن التفصيل اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد ، قلت : هو مثل قولك «جمع الإمام الخوارج» فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ، ومن خرج عليه نكل به .(1/269)
وصحة ذلك لوجهين : أحدهما أنه حذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه لأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله تعالى بعد هذا : «فأما الذين آمنوا باللّه واعتصموا به» . والثاني أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم فكان داخلاً في جملة التنكيل بهم فكأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله : { يَأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ } أي رسول يبهر المنكر بالإعجاز { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } قرآناً يستضاء به في ظلمات الحيرة { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ } بالله أو بالقرآن { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ } أي جنة { وَفَضَّلَ } زيادة النعمة { وَيَهْدِيهِمْ } ويرشدهم { إِلَيْهِ } إلى الله أو إلى الفضل أو إلى صراطه { صراطا مُّسْتَقِيماً } ف «صراطاً» حال من المضاف المحذوف .
{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة } كان جابر بن عبد الله مريضاً فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني كلالة فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت { إِنِ امرؤا هَلَكَ } ارتفع «امرؤ» بمضمر يفسره الظاهر ومحل { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد ، والمراد بالولد الابن وهو مشترك يقع على الذكر والأنثى لأن الابن يسقط الأخت ولا تسقطها البنت { وَلَهُ أُخْتٌ } أي لأب وأم أو لأب { فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } أي الميت { وَهُوَ يَرِثُهَا } أي الأخ يرث الأخت جميع مالها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها { إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ } أي ابن لأن الابن يسقط الأخ دون البنت . فإن قلت : الابن لا يسقط الأخ وحده فالأب نظيره في الإسقاط ، فلم اقتصر على نفي الولد؟ قلت : بين حكم انتفاء الولد ووكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة وهو قوله عليه السلام " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر " والأب أولى من الأخ { فَإِن كَانَتَا اثنتين } أي فإن كانت الأختان اثنتين دل على ذلك وله أخت { فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً } أي وإن كان من يرث بالإخوة . والمراد بالإخوة الإخوة والأخوات تغليباً لحكم الذكورة { رّجَالاً وَنِسَاء } ذكوراً وإناثاً { فَلِلذَّكَرِ } منهم { مِثْلُ حَظّ الأنثيين يُبَيّنُ الله لَكُمْ } الحق فهو مفعول «يبين» { أَن تَضِلُّواْ } كراهة أن تضلوا { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } يعلم الأشياء بكنهها قبل كونها وبعده .(1/270)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
{ يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } يقال وفى بالعهد وأوفى به ، والعقد العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف ، أو ما عقد الله عليكم ، أو ما تعاقدتم بينكم . والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه ، وأنه كلام قدم مجملاً ثم عقب بالتفصيل وهو قوله { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } والبهيمة كل ذات أربع قوائم في البر والبحر ، وإضافتها إلى الأنعام للبيان وهي بمعنى «من» كخاتم فضة ومعناه ، البهيمة من الأنعام وهي الأزواج الثمانية . وقيل : بهيمة الأنعام : الظباء وبقر الوحش ونحوهما { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } آية تحريمه وهو قوله «حرمت عليكم الميتة» الآية { غَيْرَ مُحِلّي الصيد } حال من الضمير في «لكم» أي أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } حال من «محلى الصيد» كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يضيق عليكم ، والحرم جمع حرام وهو المحرم { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } من الأحكام أو من التحليل والتحريم ونزل نهياً عن تحليل ما حرم { يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } جمع شعيرة وهي اسم ما أشعر أي جعل شعاراً وعلماً للنسك به من مواقف الحج ومرامي الجمار والمطاف والمسعى والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر { وَلاَ الشهر الحرام } أي أشهر الحج { وَلاَ الهدى } وهو ما أهدي إلى البيت وتقرب به إلى الله تعالى من النسائك وهو جمع هدية { وَلاَ القلائد } جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجر أو غيره { وَلا ءَامّينَ البيت الحرام } ولا تحلوا قوماً قاصدين المسجد الحرام وهم الحجاج والعمار ، وإحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمة الشعائر وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها ، وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدون به الناس عن الحج وأن يتعرضوا للهدى بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله . وأما القلائد فجاز أن يراد بها ذوات القلائد وهي البدن وتعطف على الهدى للاختصاص لأنها أشرف الهدى كقوله : { وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] . كأنه قيل : والقلائد منها خصوصاً ، وجاز أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي أي ولا تحلوا قلائدها فضلاً أن تحلوها كما قال : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [ النور : 31 ] فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها { يَبْتَغُونَ } حال من الضمير في «آمين» { فَضْلاً مّن رَّبِّهِمْ } أي ثواباً { ورضوانا } وأن يرضى عنهم أي لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم تعظيماً لهم { وَإِذَا حَلَلْتُمْ } خرجتم من الإحرام { فاصطادوا } إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم بقوله «غير محلي الصيد وأنتم حرم» .(1/271)
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } جرم مثل كسب في تعديته إلى مفعول واحد واثنين ، تقول جرم ذنباً نحو كسبه وجرمته ذنباً نحو كسبته إياه ، وأول المفعولين ضمير المخاطبين والثاني «أن تعتدوا» «وأن صدوكم» متعلق بالشنآن بمنعى العلة وهو شدة البغض ، وبسكون النون شامي وأبو بكر ، والمعنى : ولا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه . «إن صدوكم» على الشرط : مكي وأبو عمرو ويدل على الجزاء ما قبله وهو «لا يجرمنكم» ومعنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة ، ومعنى الاعتداء الانتقام منهم بإلحاق مكروه بهم { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى } على العفو والإغضاء { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } على الانتقام والتشفي ، أو البر فعل المأمور ، والتقوى ترك المحظور ، والإثم ترك المأمور والعدوان فعل المحظور ، ويحوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى ، ولكل إثم وعدوان فيتناول بعمومه العفو والانتصار { واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ } لمن عصاه وما اتقاه .
ثم بين ما كان أهل الجاهلية يأكلونه فقال { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } أي البهيمة التي تموت حتف أنفها { والدم } أي المسفوح وهو السائل { وَلَحْمَ الخنزير } وكله نجس . وإنما خص اللحم لأنه معظم المقصود { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } أي رفع الصوت به لغير الله وهو قولهم «باسم اللات والعزى» عند ذبحه { والمنخنقة } التي خنقوها حتى ماتت أو انخنقت بالشبكة أو غيرها { والموقوذة } التي أثخنوها ضرباً بعصا أو حجر حتى ماتت { والمتردية } التي تردت من جبل أو في بئر فماتت { والنطيحة } المنطوحة وهي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح { وَمَا أَكَلَ السبع } بعضه ومات بجرحه { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح ، والاستثناء يرجع إلى المنخنقة وما بعدها ، فإنه إذا أدركها وبها حياة فذبحها وسمى عليها حلت { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها يعظمونها بذلك ويتقربون إليها تسمى الأنصاب واحدها نصب ، أو هو جمع والواحد نصاب { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام } في موضع الرفع بالعطف على الميتة أي حرمت عليكم الميتة وكذا وكذا والاستقسام بالأزلام وهي القداح المعلمة واحدها زلم وزلم ، كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو غير ذلك يعمد إلى قداح ثلاثة على واحد منها مكتوب «أمرني ربي» وعلى الآخر «نهاني» والثالث «غُفْلٌ» . فإن خرج الآمر مضى لحاجته ، وإن خرج الناهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاده ، فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة ما قسم له مما لم يقسم له بالأزلام .(1/272)
قال الزجاج : لا فرق بين هذا وبين قول المنجمين «لا تخرج من أجل نجم كذا واخرج لطلوع نجم كذا» . وفي شرح التأويلات رد هذا وقال : لا يقول المنجم «إن نجم كذا يأمر بكذا ونجم كذا ينهى عن كذا» كما كان فعل أولئك ، ولكن المنجم جعل النجوم دلالات وعلامات على أحكام الله تعالى . ويجوز أن يجعل الله في النجوم معاني وأعلاماً يدرك بها الأحكام ويستخرج بها الأشياء ولا لائمة في ذلك إنما اللائمة عليه فيما يحكم على الله ويشهد عليه . وقيل : هو الميسر وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة { ذلكم فِسْقٌ } الاستقسام بالأزلام خروج عن الطاعة ، ويحتمل أن يعود إلى كل محرم في الآية .
{ اليوم } ظرف ل «يئس» ولم يرد به يوم بعينه وإنما معناه الآن ، وهذا كما تقول «أنا اليوم قد كبرت» تريد الآن . وقيل : أريد يوم نزولها وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع { يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } يئسوا منه أن يبطلوه أو يئسوا من دينكم أن يغلبوه لأن الله تعالى وفى بوعده من إظهاره على الدين كله { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } بعد إظهار الدين وزوال الخوف من الكفار وانقلابهم مغلوبين بعدما كانوا غالبين { واخشون } بغير ياء في الوصل والوقف أي أخلصوا لي الخشية .
{ اليوم } ظرف لقوله { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } بأن كفيتم خوف عدوكم وأظهرتكم عليهم كما يقول الملوك «اليوم كمل لنا الملك» أي كفينا من كنا نخافه ، أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والتوقيف على شرائع الإسلام وقوانين القياس { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين وهدم منار الجاهلية ومناسكهم { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } حال . اخترته لكم من بين الأديان وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] { فَمَنِ اضطر } متصل بذكر المحرمات ، وقوله «ذلكم فسق» اعتراض أكد به معنى التحريم ، وكذا ما بعده لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملل ومعناه ، فمن اضطر إلى الميتة أو إلى غيرها { فِي مَخْمَصَةٍ } مجاعة { غَيْرَ } حال { مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } مائل إلى إثم أي غير متجاوز سد الرمق { فَإِنَّ الله غَفُورٌ } لا يؤاخذه بذلك { رَّحِيمٌ } بإباحة المحظور للمعذور .(1/273)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
{ يَسْئَلُونَكَ } في السؤال معنى القول فلذا وقع بعده { مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } كأنه قيل : يقولون لك ماذا أحل لهم . وإنما لم يقل «ماذا أحل لنا» حكاية لما قالوا ، لأن «يسألونك» بلفظ الغيبة كقولك «أقسم زيد ليفعلن» ولو قيل «لأفعلن» وأحل لنا لكان صواباً . و«ماذا» مبتدأ و «أحل لهم» خبره كقولك «أي شيء أحل لهم» ومعناه ماذا أحل لهم من المطاعم كأنهم حين تلى عليهم ما حرم عليه من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم منها فقال : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } أي ما ليس بخبيث منها أو هو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب الله أو سنة أو إجماع أو قياس { وَمَا عَلَّمْتُمْ } عطف على «الطيبات» أي أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف ، أو تجعل «ما» شرطية وجوابها «فكلوا» { مّنَ الجوارح } أي الكواسب للصيد من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين ، وقيل : هي من الجراحة فيشترط للحل الجرح { مُكَلِّبِينَ } حال من «علمتم» . وفائدة هذه الحال مع أنه استغنى عنها ب «علمتم» أن يكون من يعلم الجوارح موصوفاً بالتكليب ، والمكلب مؤدب الجوارح ومعلمها مشتق من الكلب ، لأن التأديب في الكلاب أكثر فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه ، أو لأن السبع يسمى كلباً ومنه الحديث " اللهم سلط عليه كلباً من كلابك " فأكله الأسد . { تُعَلِّمُونَهُنَّ } حال أو استئناف ولا موضع له . وفيه دليل على أن على كل آخذ علماً أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علماً وأنحرهم دراية ، فكم من آخذ عن غير متقن قد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله . { مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله } من التكليب { فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } الإمساك على صاحبه أن لا يأكل منه فإن أكل منه لم يؤكل إذا كان صيد كلب ونحوه ، فأما صيد البازي ونحوه فأكله لا يحرمه وقد عرف في موضعه .
والضمير في { واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } يرجع إلى ما أمسكن على معنى وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته ، أو إلى ما علمتم من الجوارح أي سموا عليه عند إرساله { واتقوا الله } واحذروا مخالفة أمره في هذا كله { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } إنه محاسبكم على أفعالكم ولا يلحقه فيه لبث . { اليوم } الآن { أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } كرره تأكيداً للمنة { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ } أي ذبائحهم لأن سائر الأطعمة لا يختص حلها بالملة { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } فلا جناح عليكم أن تطعموهم لأنه لوكان حراماً عليهم طعام المؤمنين لما ساغ لهم إطعامهم { والمحصنات مِنَ المؤمنات } هن الحرائر أو العفائف ، وليس هذا بشرط لصحة النكاح بل هو للاستحباب لأنه يصح نكاح الإماء من المسلمات ونكاح غير العفائف .(1/274)
وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم وهو معطوف على «الطيبات» أو مبتدأ والخبر محذوف أي والمحصنات من المؤمنات حل لكم { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } هن الحرائر الكتابيات أو العفائف الكتابيات { إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أعطيتموهن مهورهن { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين } متزوجين غير زانين { وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } صدائق والخدن يقع على الذكر والأنثى { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان } بشرائع الإسلام وما أحل الله وحرم { فَقَدْ حَبِطَ } بطل { عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } .(1/275)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{ يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان } [ النحل : 98 ] أي إذا أردت أن تقرأ القرآن ، فعبر عن إرادة الفعل بالفعل لأن الفعل مسبب عن الإرادة فأقيم المسبب مقام السبب لملابسة بينهما طلباً للإيجاز ، ونحوه «كما تدين تدان» عبر عن الفعل الابتدائي الذي هو سبب الجزاء بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه ، وتقديره : وأنتم محدثون . عن ابن عباس رضي الله عنهما : أو من النوم لأنه دليل الحدث : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة يتوضأون لكل صلاة . وقيل : كان الوضوء لكل صلاة واجباً أول ما فرض ثم نسخ { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } «إلى» تفيد معنى الغاية مطلقاً ، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فما فيه دليل على الخروج { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] لأن الإعسار علة الإنظار وبوجود الميسرة تزول العلة ، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظراً في الحالتين معسراً وموسراً . وكذلك { أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] لو دخل الليل لوجب الوصال . ومما فيه دليل على الدخول قولك «حفظت القرآن من أوله إلى آخره» لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله ، ومنه قوله تعالى : { مّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ] لوقوع العلم بأنه عليه السلام لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله ، وقوله «إلى المرافق» لا دليل فيه على أحد الأمرين فأخذ الجمهور بالاحتياط ، فحكموا بدخولها في الغسل ، وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } المراد إلصاق المسح بالرأس ، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه؛ فأخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب ، والشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح ، وأخذنا ببيان النبي عليه السلام وهو ما روي أنه مسح على ناصيته وقدرت الناصية بربع الرأس { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين } بالنصب : شامي ونافع وعلي وحفص . والمعنى : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم على التقديم والتأخير . غيرهم بالجر بالعطف على الرؤوس لأن الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة ، تغسل بصب الماء عليها فكانت مظنة للإسراف المنهي عنه فعطفت على الممسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها . وقيل : «إلى الكعبين» فجيء بالغاية إماطة لظن ظانٍ يحسبها ممسوحة لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة ، وقال في جامع العلوم إنها مجرورة للجوار وقد صح أن النبي عليه السلام رأى قوماً يمسحون على أرجلهم فقال : " ويل للأعقاب من النار " وعن عطاء : والله ما علمت أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين وإنما أمر بغسل هذه الأعضاء ليطهرها من الأوساخ التي تتصل بها لأنها تبدو كثيرا ، والصلاة خدمة الله تعالى ، والقيام بين يديه متطهراً من الأوساخ أقرب إلى التعظيم فكان أكمل في الخدمة كما في الشاهد إذا أراد أن يقوم بين يدي الملك ، ولهذا قيل : إن الأولى أن يصلي الرجل في أحسن ثيابه ، وإن الصلاة متعمماً أفضل من الصلاة مكشوف الرأس لما أن ذلك أبلغ في التعظيم { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } فاغسلوا أبدانكم .(1/276)
{ وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مّنْكُمْ } قال الرازي معناه وجاء حتى لا يلزم المريض والمسافر التيمم بلا حدث { مّن الغآئط } المكان المطمئن وهو كناية عن قضاء الحاجة { أَوْ لامستم النساء } جامعتم { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءَ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } في باب الطهارة حتى لا يرخص لكم في التيمم { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } وليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته فيثيبكم { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } بالإسلام { وميثاقه الذى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي عاقدكم به عقداً وثيقاً وهو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره فقبلوا وقالوا سمعنا وأطعناه . وقيل : هو الميثاق ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان { واتقوا الله } في نقض الميثاق { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } بسرائر الصدور من الخير والشر وهو وعد ووعيد .
{ &
يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط } بالعدل { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ } عدي «يجرمنكم» بحرف الاستعلاء مضمناً معنى فعل يتعدى به كأنه قيل : ولا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } أي العدل أقرب إلى التقوى . نهاهم أوّلاً أن تحملهم البغضاء على ترك العدل ، ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً ، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله تعالى : «هو أقرب للتقوى» تعالى وإذا كان وجوب العدل مع الكفار بهذه الصفة من القوة فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه { واتقوا الله } فيما أمر ونهى { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وعد ووعيد ولذا ذكر بعدها آية الوعد وهو قوله تعالى { وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } «وعد» يتعدى إلى مفعولين : فالأول «الذين آمنوا» ، والثاني محذوف استغني عنه بالجملة التي هي قوله { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } والوعيد وهو قوله { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتِنَا أولئك أَصْحَابُ الجحيم } أي لا يفارقونها .(1/277)
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني قريظة ومعه الشيخان أبو بكر وعمر - والختنان يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين فقالوا : نعم يا أبا القاسم اجلس حتى نطعمك ونقرضك ، فأجلسوه في صفة وهموا بالفتك به ، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه فأمسك الله يده ونزل جبريل فأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية . «إذ» ظرف للنعمة { أَن يَبْسُطُواْ } بأن يبسطوا { إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } بالقتل يقال بسط لسانه إليه إذا شتمه وبسط إليه يده إذا بطش به { وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء } [ الممتحنة : 2 ] ومعنى بسط اليد مدها إلى المبطوش به { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } فمنعها أن تمد إليكم { واتقوا الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } فإنه الكافي والدافع والمانع .(1/278)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
{ وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِي إسراءيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً } هو الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها . ولما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحا أرض الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم : إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها وإني ناصركم ، وأمر الله موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم ، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وتكفل لهم به النقباء وسار بهم ، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا أجراماً عظيمة وقوة وشوكة فهابوا ورجعوا فحدثوا قومهم وقد نهاهم أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوقنا ويوشع بن نون وكانا من النقباء { وَقَالَ الله إِنّى مَعَكُمْ } أي ناصركم ومعينكم . وتقف هنا لابتدائك بالشرط الداخل عليه اللام الموطئة للقسم وهو { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءَاتَيْتُمُ الزكواة } وكانتا فريضتين عليهم { وَآمَنتُم بِرُسُلِي } من غير تفريق بين أحد منهم { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } وعظمتموهم أو نصرتموهم بأن تردّوا عنهم أعداءهم ، والعزر في اللغة الردّ ويقال عزرت فلاناً أي أدّبته يعني فعلت به ما يردعه عن القبيح كذا قاله الزجاج { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } بلا مَنٍّ وقيل : هو كل خير . واللام في { لأُِّّكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سيئاتكم } جواب للقسم وهذا الجواب سادّ مسد جواب القسم والشرط جميعاً { وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ } أي بعد ذلك الشرط المؤكد المتعلق بالوعد العظيم { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } أخطأ طريق الحق ، نعم من كفر قبل ذلك فقد ضل سواء السبيل أيضاً ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم .
{ فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم } «ما» مزيد لإفادة تفخيم الأمر { لعناهم } طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } يابسة لا رحمة فيها ولا لين . «قسيّة» : حمزة وعلي أي رديئة من قولهم : «درهم قسي» أي رديء { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مواضعه } يفسرونه على غير ما أنزل وهو بيان لقسوة قلوبهم لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير وحيه { وَنَسُواْ حَظَّا } وتركوا نصيباً جزيلاً وقسطاً وافياً { مّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } من التوراة يعني أن تركهم وإعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم ، أو قست قلوبهم وفسدت فحرفوا التوراة وزلت أشياء منها عن حفظهم . عن ابن مسعود رضي الله عنه : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية . وقيل : تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته { وَلاَ تَزَالُ } يا محمد { تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } أي هذه عادتهم وكان عليها أسلافهم ، كانوا يخونون الرسل وهؤلاء يخونونك ويهمون بالفتك بك ، وقوله «على خائنة» أي على خيانة أو على فعلة ذات خيانة أو على نفس أو فرقة خائنة ، ويقال : «رجل خائنة» كقولهم «رجل راوية للشعر» للمبالغة .(1/279)
{ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } وهم الذين آمنوا منهم { فاعف عَنْهُمْ } بعث على مخالفتهم ، أو فاعف عن مؤمنيهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم { واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } و« من» في قوله :
{ وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم } وهو الإيمان بالله والرسل وأفعال الخير يتعلق بأخذنا أي وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم ، فقدم على الفعل الجار والمجرور وفصل بين الفعل والواو بالجار والمجرور . وإنما لم يقل «من النصارى» لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصر الله وهم الذين قالوا لعيسى : نحن أنصار الله . ثم اختلفوا بعد نسطورية ويعقوبية وملكانية أنصاراً للشيطان { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا } فألصقنا وألزمنا من غرى بالشيء إذا لزمه ولصق به ومنه الغراء الذي يلصق به { بَيْنَهُمْ } بين فرق النصارى المختلفين { العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة } بالأهواء المختلفة { وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } أي في القيامة بالجزاء والعقاب .
{ ياأهل الكتاب } خطاب لليهود والنصارى ، والكتاب للجنس { قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا } محمد عليه السلام { يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب } من نحو صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن نحو الرجم { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } مما تخفونه لا يبينه أو يعفو عن كثير منكم لان يؤاخذه { قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ } يريد القرآن لكشفه ظلمات الشرك والشك ولإبانته ما كان خافياً على الناس من الحق ، أو لأنه ظاهر الإعجاز ، أو النور محمد عليه السلام لأنه يهتدى به كما سمي سراجاً { يَهْدِي بِهِ الله } أي بالقرآن { مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ } من آمن منهم { سُبُلَ السلام } طرق السلامة والنجاة من عذاب الله أو سبل الله فالسلام السلامة أو الله { وَيُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام { بِإِذْنِهِ } بإرادته وتوفيقه { وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } معناه بت القول على أن الله هو المسيح لا غير . قيل : كان في النصارى قوم يقولون ذلك ، أو لأن مذهبهم يؤدي إليه حيث إنهم اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً } فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئاً { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } أي إن أراد أن يهلك من دعوه إلهاً من المسيح وأمه يعني أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد .(1/280)
وعطف «من في الأرض جميعاً» على «المسيح وأمه» إبانة أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما وبينهم ، والمعنى أن من اشتمل عليه رحم الأمومية متى يفارقه نقص البشرية ، ومن لاحت عليه شواهد الحدثية أنى يليق به نعت الربوبية ، ولو قطع البقاء عن جميع ما أوجد لم يعد نقص إلى الصمدية .
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى بلا ذكر كما خلق عيسى ، ويخلق من ذكر من غير أنثى كما خلق حواء من آدم ، ويخلق من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم ، أو يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة له فلا اعتراض عليه لأنه الفعال لما يريد { والله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } أي أعزة عليه كالابن على الأب ، أو أشياع ابني الله عزير والمسيح كما قيل لأشياع أبي خبيب وهو عبد الله بن الزبير الخبيبيون ، وكما كان يقول رهط مسيلمة نحن أبناء الله ويقول أقرباء الملك وحشمه نحن أبناء الملوك أو نحن أبناء رسل الله { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } أي فإن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه فلم تعذبون بذنوبكم بالمسخ والنار أياماً معدودة على زعمكم ، وهل يمسخ الأب ولده وهل يعذب الولد ولده بالنار؟ ثم قال رداً عليهم { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } أي أنتم خلق من خلقه لا بنوه { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ } لمن تاب عن الكفر فضلاً { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ } من مات عليه عدلاً { وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المصير } فيه تنبيه على عبودية المسيح لأن الملك والبنوة متنافيان .
{ ياأهل الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا } محمد عليه السلام { يُبَيِّنُ لَكُمْ } أي الشرائع وحذف لظهوره ، أو ما كنتم تخفون وحذف لتقدم ذكره أو لا يقدر المبين ويكون المعنى يبذل لكم البيان وهو حال أي مبيناً لكم { على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل } متعلق ب «جاءكم» أي جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي ، وكان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة أو خمسمائة سنة وستون سنة { أَن تَقُولُواْ } كراهة أن تقولوا { مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } والفاء في { فَقَدْ جَاءَكُمْ } متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا فقد جاءكم { بَشِيرٌ } للمؤمنين { وَنَذِيرٌ } للكافرين ، والمعنى الامتنان عليهم بأن الرسول بعث إليهم حتى انطمست آثار الوحي أحوج ما يكونون إليه ليهشوا إليه ويعدوه أعظم نعمة من الله وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غفلتهم { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فكان قادراً على إرسال محمد عليه السلام ضرورة .(1/281)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء } لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } لأنه ملكهم بعد فرعون ملكه وبعد الجبابرة ملكهم ، ولأن الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء . وقيل : الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار وكانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية . وقيل : من له بيت وخدم ، أو لأنهم كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله فسمي إنقاذهم ملكاً { وءاتاكم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن العالمين } من فلق البحر وإغراق العدو وإنزال المن والسلوى وتظليل الغمام ونحو ذلك من الأمور العظام أو أراد عالمي زمانهم { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ } أي المطهرة أو المباركة وهي أرض بيت المقدس أو الشام { الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } قسمها لكم أو سماها أو كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكن لكم { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم } ولا ترجعوا على أعقابكم مدبرين منهزمين من خوف الجبابرة جبناً أو لا ترتدوا على أدباركم في دينكم { فَتَنقَلِبُواْ خاسرين } فترجعوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة .
{ قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا } بالقتال { حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا } بغير قتال { فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا } بلا قتال { فَإِنَّا داخلون } بلادهم حينئذ { قَالَ رَجُلاَنِ } كالب ويوشع { من الّذين يخافونَ } الله ويخشونه كأنه قيل رجلان من المتقين وهو في محل الرفع صفة ل «رجلان» وكذا { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } بالخوف منه { ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب } أي باب المدينة { فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالبون } أي انهزموا وكانت الغلبة لكم ، وإنما علما ذلك بإخبار موسى عليه السلام { وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إذ الإيمان به يقتضي التوكل عليه وهو قطع العلائق وترك التملق للخلائق { قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا } هذا نفي لدخولهم في المستقبل على وجه التوكيد { أَبَدًا } تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول { مَّا دَامُواْ فِيهَا } بيان للأبد { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ } من العلماء من حمله على الظاهر . وقال : إنه كفر منهم وليس كذلك إذ لو قالوا ذلك اعتقاداً وكفروا به لحاربهم موسى ولم تكن مقاتلة الجبارين أولى من مقاتلة هؤلاء ، ولكن الوجه فيه أن يقال : فاذهب أنت وربك يعينك على قتالك ، أو وربك أي وسيدك وهو أخوك الأكبر هارون ، أو لم يرد به حقيقة الذهاب ولكن كما تقول «كلمته فذهب يجيبني» تريد معنى الإرادة كأنهم قالوا أريدا قتالهم : { فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون } ماكثون لا نقاتلهم لنصرة دينكم فلما عصوه وخالفوه { قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ } لنصرة دينك { إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى } وهو منصوب بالعطف على «نفسي» أو على اسم «إن» أي إني لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه ، أو مرفوع بالعطف على محل «إن» واسمها ، أو على الضمير في «لا أملك» وجاز للفصل أي ولا يملك أخي إلا نفسه ، أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي وأخي كذلك ، وهذا من البث والشكوى إلى الله ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة وكأنه لم يثق بالرجلين المذكورين كل الوثوق فلم يذكر إلا النبي المعصوم ، أو أراد ومن يؤاخيني على ديني { فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين } فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما وعدتنا وتحكم عليهم بما هم أهله وهو في معنى الدعاء عليهم ، أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله :(1/282)
{ وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين } [ التحريم : 11 ] .
{ قَالَ فَإِنَّهَا } أي الأرض المقدسة { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } لا يدخلونها وهو تحريم منع لا تحريم تعبد كقوله { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع } [ القصص : 12 ] . والمراد بقوله «كتب الله لكم» أي بشرط أن تجاهدوا أهلها فلما أبوا الجهاد قيل : فإنها محرمة عليهم ، أو المراد فإنها محرمة عليهم : { أَرْبَعِينَ سَنَةً } فإذا مضى الأربعون كان ما كتب فقد سار موسى عليه السلام بمن بقي من بني إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتحها وأقام فيها ما شاء الله ثم قبض . و «أربعين» ظرف التحريم والوقف على سنة أو ظرف { يَتِيهُونَ فِى الأرض } أي يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً أربعين سنة والوقف على «عليهم» . وإنما عوقبوا بالحبس لاختيارهم المكث فكانوا مع شدة سيرهم يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في ستة فراسخ . ولما ندم على الدعاء عليهم قيل له : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } فلا تحزن عليهم لأنهم فاسقون . قيل : لم يكن موسى وهارون معهم في التيه لأنه كان عقاباً وقد سأل موسى ربه أنه يفرق بينهما وبينهم . وقيل : كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحاً لهما وسلاماً لا عقوبة . ومات هارون في التيه ، وموسى فيه بعده بسنة ، ومات النقباء في التيه إلا كالب ويوشع .
ثم أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقص على حاسديه ما جرى بسبب الحسد ليتركوه ويؤمنوا بقوله :(1/283)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
{ واتل عَلَيْهِمْ } على أهل الكتاب { نَبَأَ ابنى ءَادَم } من صلبه هابيل وقابيل ، أو هما رجلان من بني إسرائيل { بالحق } نبأ ملتبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأولين ، أو تلاوة ملتبسة بالصدق والصحة ، أو واتل عليهم وأنت محق صادق { إِذْ قَرَّبَا } نصب بالنبأ أي قصتهما وحديثهما في ذلك الوقت ، أو بدل من النبأ أي اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف { قُرْبَاناً } ما يتقرب به إلى الله من نسيكة أو صدقة . يقال : قرب صدقة وتقرب بها لأن تقرب مطاوع قرب ، والمعنى إذ قرب كل واحد منهما قربانه دليله { فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا } قربانه وهو هابيل { وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } قربانه وهو قابيل . رُوي أنه أوحى الله تعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر ، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها إقليما فحسده عليها أخوه وسخط فقال لهما آدم : قربا قرباناً فمن أيكما قبل يتزوجها فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعده بالقتل وهو قوله { قَالَ لأقْتُلَنَّكَ } أي قال لهابيل { قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } وتقديره : قال لم تقتلني : ؟ قال : لأن الله قبل قربانك ولم يقبل قرباني . فقال : إنما يتقبل الله من المتقين وأنت غير متق فإنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا من قبلي . وعن عامر ابن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له : ما يبكيك وقد كنت وكنت؟ قال : إني أسمع الله يقول : «إنما يتقبل الله من المتقين» .
{ لَئِن بَسَطتَ } مددت { إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ } بماد { يَدَىِ } مدني وأبو عمرو وحفص { إِلَيْكَ لأِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } قيل : كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكن تحرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفاً من الله تعالى لأن الدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت ، وقيل : بل كان ذلك واجباً فإن فيه إهلاك نفسه ومشاركة للقاتل في إثمه ، وإنما معناه ما أنا بباسط يدي إليك مبتدئاً كقصدك ذلك مني ، وكان هابيل عازماً على مدافعته إذا قصد قتله وإنما قتله فتكاً على غفلة منه . «إنّي أخاف» : حجازي وأبو عمرو { إِنّى أُرِيدُ } «إنّي» مدني { أَن تَبُوءَ } أن تحتمل أو ترجع { بِإِثْمِى } بإثم قتلي إذا قتلتني { وَإِثْمِكَ } الذي لأجله لم يتقبل قربانك وهو عقوق الأب والحسد والحقد ، وإنما أراد ذلك لكفره برده قضية الله تعالى أو كان ظالماً وجزاء الظالم جائز أن يراد { فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } فوسعته ويسرته من طاع له المرتع إذا اتسع { فَقَتَلَهُ } عند عقبة حراء أو بالبصرة والمقتول ابن عشرين سنة { فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين * فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأرض لِيُرِيَهُ } أي الله أو الغراب { كَيْفَ يُوَارِى سَوْءةَ أَخِيهِ } عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده .(1/284)
رُوي أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض من بني آدم ، ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع ، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فحينئذ { قَالَ ياويلتي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ } عطف على «أكون» { سَوْءةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } على قتله لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره ولم يندم ندم التائبين ، أو كان الندم توبة لنا خاصة أو على حمله لا على قتله . ورُوي أنه لما قتله أسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلاً . فقال : بل قتلته ولذا اسود جسدك . فالسودان من ولده . وما رُوي أن آدم رثاه بشعر فلا يصح لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر .
{ مِنْ أَجْلِ ذلك } بسبب ذلك وبعلته «وذلك» إشارة إلى القتل المذكور . قيل : هو متصل بالآية الأولى فيوقف على «ذلك» أي فأصبح من النادمين لأجل حمله ولأجل قتله . وقيل : هو مستأنف والوقف على «النادمين» و «من» يتعلق ب «كتبنا» لا ب «النادمين» { كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل } خصهم بالذكر وإن اشترك الكل في ذلك لأن التوراة أول كتاب فيه الأحكام { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً } الضمير للشأن و «من» شرطية { بِغَيْرِ نَفْسٍ } بغير قتل نفس { أَوْ فَسَادٍ فِى الأرض } عطف على «نفس» أي بغير فساد في الأرض وهو الشرك ، أو قطع الطريق وكل فساد يوجب القتل { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } أي في الذنب . عن الحسن : لأن قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب الله عليه والعذاب العظيم ، ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك { وَمَنْ أحياها } ومن استنقذها من أسباب الهلكة من قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك { فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } جعل قتل الواحد كقتل الجميع ، وكذلك الإحياء ترغيباً وترهيباً لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور أن قتلها كقتل الناس جميعاً عظم ذلك عليه فثبطه ، وكذا الذي أراد إحياءها إذا تصور أن حكمه حكم جميع الناس رغب في إحيائها { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ } أي بني إسرائيل { رُسُلُنَا } «رُسلنا» : أبو عمرو { بالبينات } بالآيات الواضحات { ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلك } بعدما كتبنا عليهم أو بعد مجيء الرسل بالآيات { فِى الأرض لَمُسْرِفُونَ } في القتل لا يبالون بعظمته .(1/285)
{ إِنَّمَا جَزَاؤُاْ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } أي أولياء الله في الحديث «يقول الله تعالى : من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة» { وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً } مفسدين ، ويجوز أن يكون مفعولاً له أي للفساد وخبر «جزاء» { أَن يُقَتَّلُواْ } وما عطف عليه وأفاد التشديد الواحد بعد الواحد ومعناه أن يقتلوا من غير صلب إن أفردوا القتل { أَوْ يُصَلَّبُواْ } مع القتل إن جمعوا بين القتل وأخذ المال { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم } إن أخذوا المال { مّنْ خلاف } حال من الأيدي والأرجل أي مختلفة { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } بالحبس إذا لم يزيدوا على الإخافة { ذلك } المذكور { لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدنيا } ذل وفضيحة { وَلَهُمْ فِى الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } فتسقط عنهم هذه الحدود لا ما هو حق العباد { فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر لهم بالتوبة ويرحمهم فلا يعذبهم .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله } فلا تؤذوا عباد الله { وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } هي كل ما يتوسل به أي يتقرب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك ، فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك السيئات { وجاهدوا فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً } من صنوف الأموال { وَمِثْلَهُ مَعَهُ } وأنفقوه { لِيَفْتَدُواْ بِهِ } ليجعلوه فدية لأنفسهم . و «لو» مع ما في حيزه خبر «إن» ، ووحد الراجع في «ليفتدوا به» وقد ذكر شيئان لأنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قيل : لِيَفْتَدُواْ بِذَلِكَ { مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فلا سبيل لهم إلى النجاة بوجه { يُرِيدُونَ } يطلبون أو يتمنون { أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } دائم .(1/286)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
{ والسارق والسارقة } ارتفعا بالابتداء والخبر محذوف تقديره : وفيما يتلى عليكم السارق والسارقة أو الخبر { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } أي يديهما والمراد اليمينان بدليل قراءة عبد الله بن مسعود ، ودخول الفاء لتضمنهما معنى الشرط لأن المعنى : والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما . والاسم الموصول يضمن معنى الشرط ، وبدأ بالرجل لأن السرقة من الجراءة وهي في الرجال أكثر ، وأخر الزاني لأن الزنا ينبعث من الشهوة وهي في النساء أوفر . وقطعت اليد لأنها آلة السرقة ولم تقطع آلة الزنا تفادياً عن قطع النسل . { جَزَاء بِمَا كَسَبَا } مفعول له { نكالا مّنَ الله } أي عقوبة منه وهو بدل من «جزاء» { والله عَزِيزٌ } غالب لا يعارض في حكمه { حَكِيمٌ } فيما حكم من قطع يد السارق والسارقة { فَمَن تَابَ } من السرقة { مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } سرقته { وَأَصْلَحَ } برد المسروق { فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ } يقبل توبته { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر ذنبه ويرحمه { أَلَمْ تَعْلَمْ } يا محمد أو يا مخاطب { أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُعَذّبُ مَن يَشَاء } من مات على الكفر { وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ } لمن تاب عن الكفر { والله على كُلّ شَىْء } من التعذيب والمغفرة وغيرهما { قَدِيرٌ } قادر . وقدم التعذيب على المغفرة هنا لتقدم السرقة على التوبة .
{ يأَيُّهَا الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِى الكفر } أي لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر أي في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة المشركين ، فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم . يقال أسرع فيه الشيب أي وقع سريعاً فكذلك مسارعتهم في الكفر وقوعهم فيه أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئووها { مِنَ الذين قَالُواْ } تبيين لقوله : «الذين يسارعون في الكفر» { ءَامَنَّا } مفعول «قالوا» { بأفواههم } متعلق ب «قالوا» أي قالوا بأفواههم آمنا { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } في محل النصب على الحال { وَمِنَ الذين هَادُواْ } معطوف على «من الذين قالوا» أي من المنافقين واليهود . ويرتفع { سماعون لِلْكَذِبِ } على أنه خبر مبتدأ مضمر أي هم سماعون والضمير للفريقين ، أو سماعون مبتدأ وخبره «من الذين هادوا» ، وعلى هذا يوقف «على قلوبهم» ، وعلى الأول «على هادوا» . ومعنى سماعون للكذب يسمعون منك ليكذبوا عليك بأن يمسخوا ما سمعوا منك بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير { سماعون لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لم يَأتُوك } أي سماعون منك لأجل قوم آخرين من اليهود وجّهوهم عيوناً ليبلغوهم ما سمعوا منك { يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه } أي يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا موضع .(1/287)
«يحرفون» صفة لقوم كقوله «لم يأتوك» ، أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم يحرفون ، والضمير مردود على لفظ الكلم { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا } المحرف المزال عن مواضعه ويقولون مثل يحرفون . وجاز أن يكون حالاً من الضمير في «يحرفون» { فَخُذُوهُ } واعلموا أنه الحق واعملوا به { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ } وأفتاكم محمد بخلافه { فاحذروا } فإياكم وإياه فهو الباطل . رُوي أن شريفاً زنى بشريفة بخيبر وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقالوا : إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا ، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا ، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ } ضلالته وهو حجة على من يقول : يريد الله الإيمان ولا يريد الكفر { فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } قطع رجاء محمد صلى الله عليه وسلم عن إيمان هؤلاء { أُوْلَئِكَ الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ } عن الكفر لعلمه منهم اختيار الكفر وهو حجة لنا عليهم أيضاً { لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ } للمنافقين فضيحة ولليهود جزية { وَلَهُمْ فِى الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي التخليد في النار .(1/288)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
{ سماعون لِلْكَذِبِ } كرر للتأكيد أي هم سماعون ومثله { أكالون لِلسُّحْتِ } وهو كل ما لا يحل كسبه وهو من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة ، وفي الحديث " هو الرشوة في الحكم " وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام . وبالتثقيل مكي وبصري وعلي { فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } قيل : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم بينهم . وقيل : نسخ التخيير بقوله : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله } { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } فلن يقدروا على الإضرار بك لأن الله تعالى يعصمك من الناس { وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط } بالعدل { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } العادلين .
{ وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله } تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدعون الإيمان به . «فيها حكم الله» حال من التوراة وهي مبتدأ وخبره «عندهم» { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك } عطف على «يحكمونك» أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به { وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين } بك أو بكتابهم كما يدعون .
{ إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى } يهدي للحق { وَنُورٌ } يبين ما استبهم من الأحكام { يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ } انقادوا لحكم الله في التوراة وهو صفة أجريت للنبيين على سبيل المدح ، وأريد بإجرائها التعريض باليهود لأنهم بعداء عن ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم { لِلَّذِينَ هَادُواْ } تابوا من الكفر ، واللام يتعلق ب «يحكم» { والربانيون والأحبار } معطوفان على «النبيون» أي الزهاد والعلماء { بِمَا استحفظوا } استودعوا ، قيل : ويجوز أن يكون بدلاً من «بها» في «يحكم بها» { مِن كتاب الله } «من» للتبيين والضمير في «استحفظوا» للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً ويكون الاستحفاظ من الله أي كلفهم الله حفظه ، أو ل «الربانيون والأحبار» ويكون الاستحفاظ من الأنبياء { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء } رقباء لئلا يبدل { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس } نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل خشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد { واخشون } في مخالفة أمري وبالياء فيهما : سهل وافقه أبو عَمرو في الوصل { وَلاَ تَشْتَرُواْ } ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه { ثَمَناً قَلِيلاً } وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله } مستهيناً به { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون } قال ابن عباس رضي الله عنهما : من لم يحكم جاحداً فهو كافر ، وإن لم يكن جاحداً فهو فاسق ظالم .(1/289)
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : هو عام في اليهود وغيرهم .
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا } وفرضنا على اليهود في التوراة { أَنَّ النفس } مأخوذة { بالنفس } مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق { والعين } مفقوءة { بالعين والأنف } مجدوع { بالأنف والأذن } مقطوعة { بالأذن والسن } مقلوعة { بالسن والجروح قِصَاصٌ } أي ذات قصاص وهو المقاصة ومعناه ما يمكن فيه القصاص وإلا فحكومة عدل . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت . وقوله «أن النفس بالنفس» يدل عى أن المسلم يقتل بالذمي والرجل بالمرأة والحر بالعبد . نصب نافع وعاصم وحمزة المعطوفات كلها للعطف على ما عملت فيه «أن» . ورفعها عليٌّ للعطف على محل «أن النفس» لأن المعنى : وكتبنا عليهم النفس بالنفس إجراء ل «كتبنا» مجرى «قلنا» ، ونصب الباقون الكل ورفعوا الجروح . والأذن بسكون الذال حيث كان : نافع . والباقون : بضمها وهما لغتان كالسحت والسحت { فَمَن تَصَدَّقَ } من أصحاب الحق { به } بالقصاص وعفا عنه { فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } فالتصدق به كفارة للمتصدق بإحسانه قال عليه السلام " من تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولدته أمه " { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } بالامتناع عن ذلك .
{ وَقَفَّيْنَا } معنى قفيت الشيء بالشيء جعلته في أثره كأنه جعل في قفاه يقال قفاه بقفوه إذا تبعه { على ءاثارهم } عى آثار النبيين الذين أسلموا { بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ مُصَدّقاً } هوحال من «عيسى» { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة وآتيناه الإِنجيل فيه هُدىً ونورٌ ومُصَدَّقاً لَّما بين يديه من التوراة } أي وآتيناه الإنجيل ثابتاً فيه هدى ونور ومصدقاً ، فنصب «مصدقاً» بالعطف على ثابتاً الذي تعلق به فيه وقام مقامه فيه . وارتفع «هدى ونور» بثابتاً الذي قام مقامه فيه { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } انتصبا على الحال أي هادياً وواعظاً { لّلْمُتَّقِينَ } لأنهم ينتفعون به { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنزَلَ الله فِيهِ } وقلنا لهم احكموا بموجبه ، فاللام لام الأمر وأصله الكسر ، وإنما سكن استثقالاً لفتحة وكسرة وفتحة . «وليحكم» بكسر اللام وفتح الميم : حمزة على أنها لام كي أي وقفينا ليؤمنوا وليحكم . { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } الخارجون عن الطاعة . قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : يجوز أن يحمل على الجحود في الثلاث فيكون كافراً ظالماً فاسقاً ، لأن الفاسق المطلق والظالم المطلق هو الكافر . وقيل : ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر بنعمة الله ظالم في حكمه فاسق في فعله .
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } أي القرآن فحرف التعريف فيه للعهد { بالحق } بسبب الحق وإثباته وتبيين الصواب من الخطأ { مُصَدّقاً } حال من «الكتاب» { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } لما تقدمه نزولاً .(1/290)
وإنما قيل لما قبل الشيء هو بين يديه لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه { مّنَ الكتاب } المراد به جنس الكتب المنزلة لأن القرآن مصدق لجميع كتب الله فكان حرف التعريف فيه للجنس ، ومعنى تصديقه الكتب موافقتها في التوحيد والعبادة { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } وشاهداً لأنه يشهد له بالصحة والثبات { فاحكم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله } أي بما في القرآن { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحق } نهى أن يحكم بما حرفوه وبدلوه اعتماداً على قولهم . ضمّن ولا تتبع معنى ولا تنحرف فلذا عدي ب «من» فكأنه قيل : ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم ، أو التقدير عادلاً عما جاءك { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ } أيها الناس { شِرْعَةً } شريعة { ومنهاجا } وطريقاً واضحاً . واستدل به من قال إن شريعة من قبلنا لا تلزمنا . ذكر الله إنزال التوراة على موسى عليه السلام ، ثم إنزال الإنجيل على عيسى عليه السلام ، ثم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ، وبين أنه ليس للسماع فحسب بل للحكم به فقال في الأول «يحكم به النبيون» وفي الثاني «وليحكم أهل الإنجيل» وفي الثالث «فاحكم بينهم بما أنزل الله» { وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة } جماعة متفقة على شريعة واحدة { ولكن } أراد { لِيَبْلُوَكُمْ } ليعاملكم معاملة المختبر { فِى مآءتاكم } من الشرائع المختلفة فتعبّد كل أمة بما اقتضته الحكمة { فاستبقوا الخيرات } فابتدروها وسابقوا نحوها قبل الفوات بالوفاة . والمراد بالخيرات كل ما أمر الله تعالى به { إلى الله مَرْجِعُكُمْ } استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات { جَمِيعاً } حال من الضمير المجرور والعامل المصدر المضاف لأنه في تقدير : إليه ترجعون { فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم وعاملكم ومفرطكم في العمل .
{ وَأَنِ احكم } معطوف على «بالحق» أي وأنزلنا إليك الكتاب بالحق وبأن احكم { بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ } أي يصرفوك وهو مفعول له أي مخافة أن يفتنوك . وإنما حذره وهو رسول مأمون لقطع أطماع القوم { عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن الحكم بما أنزل الله إليك وأرادوا غيره { فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } أي بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه فوضع «ببعض ذنوبهم» موضع ذلك وهذا الإبهام لتعظيم التولي ، وفيه تعظيم الذنوب فإن الذنوب بعضها مهلك فكيف بكلها! { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس لفاسقون } لخارجون عن أمر الله { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } يطلبون .(1/291)
وبالتاء شامي يخاطب بني النضير في تفاضلهم على بني قريظة وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القتلى سواء " فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بذلك فنزلت . وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فقرأ هذه الآية . وناصب «أفحكم الجاهلية يبغون» { وَمَنْ أَحْسَنُ } مبتدأ وخبره وهو استفهام في معنى النفي أي لا أحد أحسن { مِنَ الله حُكْماً } هو تمييز . واللام في { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } للبيان كاللام في { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام «لقوم يوقنون» فإنهم هم الذين يتبينون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكماً منه . وقال أبو علي : معنى لقوم عند قوم لأن اللام و«عند» يتقاربان في المعنى .
ونزل نهياً عن موالاة أعداء الدين .(1/292)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاءَ } أي لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين . ثم علل النهي بقوله { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وكلهم أعداء المؤمنين ، وفيه دليل على أن الكفر كله ملة واحدة { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } من جملتهم وحكمه حكمهم ، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } لا يرشد الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة { فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } نفاق { يسارعون } حال أو مفعول ثانٍ لاحتمال أن يكون «فترى» من رؤية العين أو القلب { فِيهِمْ } في معاونتهم على المسلمين وموالاتهم { يَقُولُونَ } أي في أنفسهم لقوله على «ما أسروا» { نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } أي حادثة تدور بالحال التي يكونون عليها { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح } لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين { أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ } أي يؤمر النبي عليه السلام بإظهار إسرار المنافقين وقتلهم { فَيُصْبِحُواْ } أي المنافقون { على مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ } من النفاق { نادمين } خبر «فيصبحوا» { وَيَقُولُ الذين ءَامَنُواْ } أي يقول بعضهم لبعض عند ذلك . «ويقول» بصري عطفاً على «أن يأتي» «يقول» بغير واو : شامي وحجازي على أنه جواب قائل يقول : فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل : يقول الذين آمنوا { أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } أي أقسموا لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار وجهد أيمانهم مصدر في تقدير الحال أي مجتهدين في توكيد أيمانهم { حَبِطَتْ أعمالهم } ضاعت أعمالهم التي عملوها رياء وسمعة لا إيماناً وعقيدة ، وهذا من قول الله عز وجل شهادة لهم بحبوط الأعمال وتعجيباً من سوء حالهم { فَأَصْبَحُواْ خاسرين } في الدنيا والعقبى لفوات المعونة ودوام العقوبة .
{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } من يرجع منكم عن دين الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر . «يرتدد» مدني وشامي { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } يرضى أعمالهم ويثني عليهم بها ويطيعونه ويؤثرون رضاه ، وفيه دليل نبوته عليه السلام حيث أخبرهم بما لم يكن فكان ، وإثبات خلافة الصديق لأنه جاهد المرتدين ، وفي صحة خلافته وخلافة عمر رضي الله عنهما . وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنهم فضرب على عاتق سلمان وقال «هذا وذووه لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس» والراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن لمعنى الشرط محذوف معناه فسوف يأتي الله بقوم مكانهم { أَذِلَّةٍ } جمع ذليل ، وأما ذلول فجمعه ذلل . ومن زعم أنه من الذُّلِ الذي هو ضد الصعوبة فقد سها لأن ذلولاً لا يجمع على أذلة .(1/293)
قال الجوهري : الذل ضد العز ، ورجل ذليل بيّن الذل ، وقوم أذلاء وأذلة ، والذل بالكسر اللين وهو ضد الصعوبة يقال : دابة ذلول ودواب ذلل { عَلَى المؤمنين } ولم يقل للمؤمنين لتضمن الذل معنى الحنو والعطف كأنه قيل : عاكفين عليهم على وجه التذلل والتواضع { أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } أشداء عليهم والعزاز الأرض الصلبة فهم مع المؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده ومع الكافرين كالسبع على فريسته { يجاهدون فِي سَبِيلِ الله } يقاتلون الكفار وهو صفة ل «قوم» ك «يحبهم» و «أعزة» و «أذلة» { وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ } الواو يحتمل أن تكون للحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين فإنهم كانوا موالين لليهود ، فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم ، وأما المؤمنون فمجاهدتهم لله لا يخافون لومة لائم . وأن تكون للعطف أي من صفتهم المجاهدة في سبيل الله وهم صلاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين لا تزعهم لومة لائم : واللومة المرة من اللوم وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل : لا يخافون شيئاً قط من لوم واحد من اللوام { ذلك } إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة { فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله واسع } كثير الفواضل { عَلِيمٌ } بمن هو من أهلها .
عقب النهي عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين ءَامَنُواْ } وإنما يفيد اختصاصهم بالموالاة ولم يجمع الولي وإن كان المذكور جماعة تنبيهاً على أن الولاية لله أصل ولغيره تبع ، ولو قيل إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع . ومحل { الذين يُقِيمُونَ الصلاة } الرفع على البدل من «الذين آمنوا» ، أو على هم الذين ، أو النصب على المدح { وَيُؤْتُونَ الزكواة } . والواو في { وَهُمْ راكعون } للحال أي يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة . قيل : إنها نزلت في علي رضي الله عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه كأنه كان مرجاً في خنصره فلم يتكلف لخلعه كثير عمل يفسد صلاته . وورد بلفظ الجمع وإن كان السبب فيه واحداً ترغيباً للناس في مثل فعله لينالوا مثل ثوابه . والآية تدل على جواز الصدقة في الصلاة ، وعلى أن الفعل القليل لا يفسد الصلاة .(1/294)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
{ وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين ءَامَنُواْ } يتخذه ولياً أو يكن ولياً { فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } من إقامة الظاهر مقام الضمير أي فإنهم هم الغالبون ، أو المراد بحزب الله الرسول والمؤمنون أي ومن يتولهم فقد تولى حزب الله ، واعتضد بمن لا يغالب . وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمرٍ حزبهم أي أصابهم .
وروي أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزل { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً } يعني اتخاذهم دينكم هزواً ولعباً لا يصح أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء بل يقابل ذلك بالبغضاء والمنابذة { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } «من» للبيان { مِن قَبْلِكُمْ والكفار } أي المشركين وهو عطف على «الذين» المنصوبة . و«الكفار» بصري وعلي عطف على الذين المجرورة أي من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفار { أَوْلِيَاءَ واتقوا الله } في موالاة الكفار { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } حقاً لأن الإيمان حقاً يأبى موالاة أعداء الدين { وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة اتخذوها } أي الصلاة أو المناداة { هُزُواً وَلَعِباً ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } لأن لعبهم وهزوهم من أفعال السفهاء والجهلة فكأنهم لا عقل لهم ، وفيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده { قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ } يعني هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالله وبالكتب المنزلة كلها { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون } وهو عطف على المجرور أي ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وما أنزل وبأن أكثركم فاسقون ، والمعنى أعاديتمونا لأنا اعتقدنا توحيد الله وصدق أنبيائه وفسقكم لمخالفتكم لنا في ذلك؟ ويجوز أن يكون الواو بمعنى «مع» أي ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله مع أنكم فاسقون . { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله } أي ثواباً وهو نصب على التمييز والمثوبة وإن كانت مختصة بالإحسان ولكنها وضعت موضع العقوبة كقوله { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وكان اليهود يزعمون أن المسلمين مستوجبون للعقوبة فقيل لهم { مَن لَّعَنَهُ الله } شر عقوبة في الحقيقة من أهل الإسلام في زعمكم وذلك إشارة إلى المتقدم أي الإيمان أي بشر مما نقمتم من إيماننا ثواباً أي جزاء ، ولا بد من حذف مضاف قبله أو قبل «من» تقديره : بشر من أهل ذلك أو دين من لعنه الله { وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة } يعني أصحاب السبت { والخنازير } أي كفار أهل مائدة عيسى عليه السلام ، أو كلا المسخين من أصحاب السبت فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير { وَعَبَدَ الطاغوت } أي العجل أو الشيطان لأن عبادتهم العجل بتزيين الشيطان وهو عطف على صلة «من» كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت .(1/295)
«وعبد الطاغوتِ» حمزة جعله اسماً موضوعاً للمبالغة كقولهم «رجل حذر وفطن» للبليغ في الحذر والفطنة ، وهو معطوف على «القردة والخنازير» أي جعل الله منهم عبد الطاغوت { أولئك } الممسوخون الملعونون { شَرٌّ مَّكَاناً } جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله للمبالغة { وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السبيل } عن قصد الطريق الموصل إلى الجنة .
ونزل في ناس من اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويظهرون له الإيمان نفاقاً .
{ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } الباء للحال أي دخلوا كافرين وخرجوا كافرين وتقديره ملتبسين بالكفر ، وكذلك قد دخلوا وهم قد خرجوا ولذا دخلت «قد» تقريباً للماضي من الحال وهو متعلق ب «قالوا آمنا» أي قالوا ذلك وهذه حالهم { والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } من النفاق { وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ } من اليهود { يسارعون فِي الإثم } الكذب { والعدوان } الظلم . أو الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم ، والمسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة { وَأَكْلِهِمُ السحت } الحرام { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لبئس شيئاً عملوه { لَوْلاَ } هلا وهو تحضيض { ينهاهم الربانيون والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } هذا ذم للعلماء والأول للعامة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي أشد آية في القرآن حيث أنزل تارك النهي عن المنكر منزلة مرتكب المنكر في الوعيد .
{ وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } روي أن اليهود لعنهم الله لما كذبوا محمداً عليه السلام كف الله ما بسط عليهم من السعة وكانوا من أكثر الناس مالاً ، فعند ذلك قال فنحاص : يد الله مغلولة ورضي بقوله الآخرون فأشركوا فيه . وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] . ولا يقصد المتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط حتى إنه يستعمل في ملك يعطي ويمنع بالإشارة من غير استعمال اليد ، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزلاً لقالوا ما أبسط يده بالنوال . وقد استعمل حيث لا تصح اليد يقال : بسط البأس كفيه في صدري فجعل للبأس الذي هو من المعاني كفان ، ومن لم ينظر في علم البيان يتحير في تأويل أمثال هذه الآية . وقوله «غلت أيديهم» دعاء عليهم بالبخل ومن ثم كانوا أبخل خلق الله ، أو تغل في جهنم فهي كأنها غلت وإنما ثنيت اليد في «بل يداه مبسوطتان» وهي مفردة في «يد الله مغلولة» ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه ، فغاية ما يبذله السخي أن يعطيه بيديه { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } تأكيد للوصف بالسخاء ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم } من اليهود { مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً } أي يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تمادياً في الجحود وكفراً بآيات الله ، وهذا من إضافة الفعل إلى السبب كما قال «فزادتهم رجساً إلى رجسهم» .(1/296)
{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } فكلمهم أبداً مختلف وقلوبهم شتى لا يقع بينهم اتفاق ولا تعاضد { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا لم يقم لهم نصر من الله على أحد قط ، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس . وقيل : كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم . عن قتادة : لا تلقي يهودياً في بلد إلا وقد وجدته من أذل الناس { وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً } ويجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر النبي عليه السلام من كتبهم { والله لاَ يُحِبُّ المفسدين * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءَامَنُواْ } برسول الله عليه السلام وبما جاء به مع ما عددنا من سيئآتهم { واتقوا } أي وقرنوا إيمانهم بالتقوى { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم } ولم نؤاخذهم بها { ولأدخلناهم جنات النعيم } مع المسلمين .(1/297)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } أي أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبِّهِمْ } من سائر كتب الله لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم . وقيل : هو القرآن . { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } يعني الثمار من فوق رؤوسهم { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } يعني الزروع وهذه عبارة عن التوسعة كقولهم «فلان في النعمة من فرقه إلى قدمه» . ودلت الآية على أن العمل بطاعة الله تعالى سبب لسعة الرزق وهو كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءَامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مِّنَ السماء والأرض } [ الأعراف : 96 ] . { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 3 ] . { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] الآيات . { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً } [ الجن : 16 ] { مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } طائفة حالها أُمَمٌ في عداوة رسول الله عليه السلام . وقيل : هي الطائفة المؤمنة وهم عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } فيه معنى التعجب كأنه قيل : وكثير منهم ما أسوأ عملهم . وقيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه وغيرهم .
{ ياأيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من رّبِّكَ } جميع ما أنزل إليك ، وأي شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه { وإن لّم تفعل } وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك { فما بَلَّغْتَ رسالته } «رسالاته» : مدني وشامي وأبو بكر . أي فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالة ولم تؤد منها شيئاً قط ، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض ، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً ، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لكونها في حكم شيء واحد لدخولها تحت خطاب واحد ، والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ مؤمناً به غير مؤمن . قالت الملحدة لعنهم الله تعالى : هذا كلام لا يفيد وهو كقولك لغلامك : «كل هذا الطعام فإن لم تأكله فإنك ما أكلته» ، قلنا : هذا أمر بتبليغ الرسالة في المستقبل أي بلغ ما أنزل إليك من ربك في المستقبل فإن لم تفعل أي إن لم تبلغ الرسالة في المستقبل فكأنك لم تبلغ الرسالة أصلاً ، أو بلغ ما أنزل إليك من ربك الآن ولا تنتظر به كثرة الشوكة والعدة ، فإن لم تبلغ كنت كمن لم يبلغ أصلاً ، أو بلغ ذلك غير خائف أحداً فإن لم تبلغ على هذا الوصف فكأنك لم تبلغ الرسالة أصلاً . ثم قال مشجعاً له في التبليغ { واللّهُ يعصمك من النّاسِ } يحفظك منهم قتلاً فلم يقدر عليه وإن شج في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته أو نزلت بعدما أصابه ما أصابه .(1/298)
والناس الكفار بدليل قوله { إنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين } لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك .
{ قل ياأهل الكتاب لستم على شيءٍ } على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لبطلانه { حتّى تقيموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليكم مّن رَّبِّكمْ } يعني القرآن { وليزيدنّ كثيراً مّنهم مّآ أنزل إليك من رّبّك طغياناً وكفراً } إضافة زيادة الكفر والطغيان إلى القرآن بطريق التسبيب { فلا تأس على القوم الكافرين } فلا تتأسف عليهم فإن ضرر ذلك يعود إليهم لا إليك .
{ إنَّ الّذين آمَنُوا } بألسنتهم وهم المنافقون ودل عليه قوله : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } [ آل عمران : 76 ] { والّذين هادوا والصّبئون والنّصارى } قال سيبويه وجميع البصريين : ارتفع «الصابئون» بالابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز «إن» من اسمها وخبرها كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى { من آمن باللّهِ واليومِ الآخر وعمل صالحاً فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون } والصابئون كذلك أي من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم فقدم وحذف الخبر كقوله
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
أي فإني لغريب وقيار كذلك ، ودل اللام على أنه خبر «إن» ولا يرتفع بالعطف على محل «إن» واسمها لأن ذا لا يصح قبل الفراغ من الخبر . لا تقول «إن زيداً وعمرو منطلقان» وإنما يجوز «إن زيداً منطلق وعمرو» ، والصابئون مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله «إن الذين آمنوا» إلى آخره ، ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها . وفائدة التقديم التنبيه على أن الصابئين وهم أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدهم غياً يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان فما الظن بغيرهم! ومحل «من آمن» الرفع على الابتداء وخبره «فلا خوف عليهم» والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط . ثم الجملة كما هي خبر «إن» والراجح إلى اسم «إن» محذوف تقديره : من آمن منهم .
{ لقد أخذنا ميثاق بني إسرآءِيل } بالتوحيد { وأرسلنا إليهم رسلاً } ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم { كلّما جآءَهُم رسولٌ } جملة شرطية وقعت صفة ل «رسلاً» والراجع محذوف أي رسول منهم { بما لا تهوى أنفسهم } بما يخالف هواهم ويضاد شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع ، وجواب الشرط محذوف دل عليه { فريقاً كذَّبُوا وفريقاً يقتلون } كأنه يقول : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه . وقوله «فريقاً كذبوا» جواب مستأنف لقائل كأنه يقول : كيف فعلوا برسلهم! وقال «يقتلون» بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل ، وتنبيهاً على أن القتل من شأنهم ، وانتصب «فريقاً» و«فريقاً» على أنه مفعول «كذبوا» و«يقتلون» . وقيل : التكذيب مشترك بين اليهود والنصارى ، والقتل مختص باليهود فهم قتلوا زكريا ويحيى .(1/299)
{ وحسبوا ألا تكون } «أن لا تكون» : حمزة وعلي وأبو عمرو على «أن» مخففة من الثقيلة أصله أنه لا تكون فخففت «إن» وحذف ضمير الشأن ، ونزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم فلذا دخل فعل الحسبان على «أن» التي هي للتحقيق { فتنةٌ } بلاء وعذاب أي وحسب بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل . وسد ما يشتمل عليه صلة «أن» وأن من المسند والمسند إليه مسد مفعولي «حسب» { فَعَمُوا وصَمُّوا } فلم يعملوا بما رأوا ولا بما سمعوا ، أو فعموا عن الرشد وصموا عن الوعظ { ثمّ تابَ اللَّهُ عليهم } رزقهم التوبة { ثمّ عَمُوا وصَمُّوا كثيرٌ مِّنهم } هو بدل من الضمير أي الواو وهو بدل البعض من الكل ، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم { واللّه بصيرٌ بما يعملون } فيجازيهم بحسب أعمالهم .
{ لقد كفر الّذين قالوآ إنّ اللّه هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسراءيل اعبدوا اللّه ربّي وربّكم } لم يفرق عيسى عليه السلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب ليكون حجة على النصارى { إنّه من يشرك باللّه } في عبادته غير الله { فقد حَرَّمَ اللَُّه عليهِ الجنّةَ } التي هي دار الموحدين أي حرمه دخولها ومنعه { ومأواه النَّارُ } أي مرجعه { وما للظّالمين } أي الكافرين { من أنصَارٍ } وهو من كلام الله تعالى أو من كلام عيسى عليه السلام .
{ لقد كفر الّذين قالوآ إنّ اللّه ثَالِثُ ثلاثةٍ } أي ثالث ثلاثة آلهة ، والإشكال أنه تعالى قال في الآية الأولى «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم» وقال في الثانية «لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة» والجواب أن بعض النصارى كانوا يقولون : كان المسيح بعينه هو الله لأن الله ربما يتجلى في بعض الأزمان في شخص فتجلى في ذلك الوقت في شخص عيسى ، ولهذا كان يظهر من شخص عيسى أفعال لا يقدر عليها إلا الله ، وبعضهم ذهبوا إلى آلهة ثلاثة : الله ومريم والمسيح وأنه ولد الله من مريم . و «من» في قوله { وما من إلهٍ إلاّ إلهٌ واحد } للاستغراق أي وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله وحده لا شريك له . وفي قوله { وإن لّم ينتهوا عمّا يقولون ليمسّنّ الّذين كفروا منهم } للبيان كالتي في { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] ولم يقل «ليمسنهم» لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر تكريراً للشهادة عليهم بالكفر ، أو للتبعيض أي ليمسن الذين بقوا على الكفر منهم لأن كثيراً منهم تابوا عن النصرانية { عذابٌ أليمٌ } نوع شديد الألم من العذاب . { أفلا يتوبون إلى اللّه ويستغفرونه } ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه وفيه تعجيب من إصرارهم { واللّه غفورٌ رّحيمٌ } يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم .(1/300)
{ مّا المسيح ابن مريم إلاّ رسولٌ } فيه نفي الألوهية عنه { قد خلت من قبله الرّسل } صفة لرسول أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله ، وإبراؤه الأكمه والأبرص وإحياؤه الموتى لم يكن منه لأنه ليس إلها بل الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده كما أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى ، وخلقه من غير ذكر كخلق آدم من غير ذكر وأنثى { وأمُّهُ صِدِّيقَةٌ } أي وما أمه أيضاً إلا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم . ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى : { وصدقت بكلمات ربها وكتبه } [ التحريم : 12 ] . ثم أبعدهما عما نسب إليهما بقوله { كانا يأكلان الطّعام } لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنقض لم يكن إلا جسماً مركباً من لحم وعظم وعروق وأعصاب وغير ذلك ما يدل على أنه مصنوع مؤلف كغيره من الأجسام { انظر كيف نبيّن لهم الآيات } أي الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم { ثمّ انظر أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله بعد هذا البيان ، وهذا تعجيب من الله تعالى في ذهابهم عن الفرق بين الرب والمربوب .
{ قل أتعبدون من دون اللّه ما لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعاً } هو عيسى عليه السلام أي شيئاً لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به الله من البلاء والمصائب في الأنفس والأموال ، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب ، لأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبتخليقه تعالى فكأنه لا يملك منه شيئاً ، وهذا دليل قاطع على أن أمره منافٍ للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً ، وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته { واللّه هو السّميعُ العليمُ } متعلق ب «أتعبدون» أي أتشركون بالله ولا تخشونه وهو الذي يسمع ما تقولونه ويعلم ما تعتقدونه { قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } الغلو مجاوزة الحد ، فغلو النصارى رفعه فوق قدره باستحقاق الألوهية ، وغلو اليهود وضعه عن استحقاق النبوة { غير الحقِّ } صفة لمصدر محذوف أي غلوا غير الحق يعني غلواً باطلاً { ولا تتّبعوآ أهوآءَ قومٍ قد ضلُّوا من قبلُ } أي أسلافكم وأئمتكم الذين كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم { وأضلُّوا كثيراً } ممن تابعهم { وضلُّوا } لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم { عن سوآءِ السَّبِيلِ } حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه .(1/301)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
{ لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم } قيل : إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة . ولما كفر أصحاب عيسى بعد المائدة قال عيسى : اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل { ذلك بما عصوا وّكانوا يعتدون } ذلك اللعن بعصيانهم واعتدائهم ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله { كانوا لا يتناهون } لا ينهي بعضهم بعضاً { عن مّنكرٍ فعلوه } عن قبيح فعلوه . ومعنى وصف المنكر ب «فعلوه» ولا يكون النهي بعد الفعل أنهم لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه أو عن مثل منكر فعلوه أو عن منكر أرادوا فعله ، أو المراد لا ينتهون عن منكر فعلوه بل يصرون عليه . يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه . ثم عجب من سوء فعلهم مؤكداً لذلك بالقسم بقوله { لبئس ما كانوا يفعلون } وفيه دليل على أن ترك النهي عن المنكر من العظائم فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عنه { ترى كثيراً مِّنهم يتوّلّون الّذين كفروا } هم منافقو أهل الكتاب كانوا يوالون المشركين ويصافونهم { لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سَخِطَ اللّه عليهم } لبئس شيئاً قدموه لأنفسهم سخط الله عليهم أي موجب سخط الله { وفي العذاب هم خالدون } أي في جهنم { ولو كانوا يؤمنون باللّهِ } إيماناً خالصاً بلا نفاق { والنّبيِّ } أي محمد صلى الله عليه وسلم { ومآ أنزل إليه } يعني القرآن { ما اتّخذوهم أوليآء } ما اتخذوا المشركين أولياء يعني أن موالاة المشركين تدل على نفاقهم { ولكن كثيراً مّنهم فاسقون } مستمرون في كفرهم ونفاقهم ، أو معناه ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله وبموسى وما أنزل إليه يعني التوراة ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون ولكن كثيراً منهم فاسقون خارجون عن دينهم فلا دين لهم أصلاً .
{ لَتَجِدَنَّ أشدّ النّاس عداوة لّلّذين آمنوا اليهودَ } هو مفعول ثان ل «تجدن» . و«عداوة» تمييز { والّذين أشركوا } عطف عليهم { ولتجدنّ أقربهم مّودّةً لّلّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى } اللام تتعلق ب «عداوة» و «مودة» . وصف اليهود بشدة الشكيمة والنصارى بلين العريكة ، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين ، ونبه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على المشركين { ذلك بأنّ منهم قِسّيسينَ ورهباناً } أي علماء وعباداً { وأنّهم لا يستكبرونَ } علل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين بأن منهم قسيسين ورهباناً وأن فيهم تواضعاً واستكانة ، واليهود على خلاف ذلك ، وفيه دليل على أن العلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير وإن كان علم القسيسين ، وكذا علم الآخرة وإن كان في راهب ، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني { وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرّسول تراى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ } وصفهم برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن كما روي عن النجاشي أنه قال لجعفر بن أبي طالب حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون وهم يقرأونه عليهم : هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر : فيه سورة تنسب إلى مريم .(1/302)
فقرأها إلى قوله : { ذلك عيسى ابن مريم } [ طه : 34 ] وقرأ سورة طه إلى قوله : { وهل أتاك حديث موسى } [ الآية : 9 ] فبكى النجاشي وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم سبعون رجلاً حين قرأ عليهم سورة «يس» فبكوا . «تفيض من الدمع» تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض أن يمتلىء الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه ، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء ، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أي تسيل من أجل البكاء . و«من» في «مما عرفوا» لابتداءالغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق وكان من أجله ، «ومن» في «من الحق» لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا ، أو للتبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله وقرأوا القرآن وأحاطوا بالسنَة { يقولون } حال من ضمير الفاعل في «عرفوا» { ربّنآ آمنّا } بمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد إنشاء الإيمان والدخول فيه { فاكتبنا مع الشّاهدين } مع أمة محمد عليه السلام الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة لتكونوا شهداء على الناس ، وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك .
{ وما لنا لا نؤمن باللّه } إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين . وقيل : لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك . «وما لنا» مبتدأ وخبر و «لا نؤمن» حال أي غير مؤمنين كقولك «مالك قائماً» { وما جآءنا } وبما جاءنا { من الحقِّ } يعني محمداً عليه السلام والقرآن { ونطمع } حال من ضمير الفاعل في «نؤمن» والتقدير : ونحن نطمع { أن يدخلنا ربّنا } الجنة { مع القوم الصّالحين } الأنبياء والمؤمنين { فأثابهم اللّه بما قالوا } أي بقولهم ربنا آمنا وتصديقهم لذلك { جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزآء المحسنين } وفيه دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان كما هومذهب الفقهاء . وتعلقت الكرامية في أن الإيمان مجرد القول بقوله «بما قالوا» لكن الثناء بفيض الدمع في السباق وبالإحسان في السياق يدفع ذلك ، وأنى يكون مجرد القول إيماناً وقد قال الله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } [ البقرة : 8 ] . نفى الإيمان عنهم مع قولهم «آمنا بالله» لعدم التصديق بالقلب . وقال أهل المعرفة : الموجود منهم ثلاثة أشياء : البكاء على الجفاء ، والدعاء على العطاء ، والرضا بالقضاء ، فمن ادعى المعرفة ولم يكن فيه هذه الثلاثة فليس بصادق في دعواه { والّذين كفروا وكذّبوا بأياتنا أولئك أصحاب الجحيم } هذا أثر الرد في حق الأعداء ، والأول أثر القبول للأولياء ، ونزل في جماعة من الصحابة رضي الله عنهم حلفوا أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويقوموا الليل ويصوموا النهار ويسيحوا في الأرض ويجبّوا مذاكيرهم ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب .(1/303)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
{ ياأيّها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّباتِ مآ أحلّ اللّه لكم } ما طاب ولذ من الحلال . ومعنى «لا تحرموا» لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم ، أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوذ وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال " إن المؤمن حلو يحب الحلاوة " وعن الحسن أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجي وأصحابه فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك ، فاعتزل فرقد ناحية فسأل الحسن : أهو صائم؟ قالوا : لا ولكنه يكره هذه الألوان ، فأقبل الحسن عليه وقال : يا فريقد أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم؟ وعنه أنه قيل له : فلان لا يأكل الفالوذ ويقول لا أؤدي شكره . فقال : أفيشرب الماء البارد؟ قالوا : نعم . قال : إنه جاهل أن نعمة الله عليه في الماء البارد أكبر من نعمته عليه في الفالوذ . { ولا تعتدوا } ولا تجاوزوا الحد الذي حد عليكم في تحليل أو تحريم ، أو ولا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات { إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين } حدوده .
{ وكلوا ممّا رزقكم اللّه حلالاً طيّباً } «حلالاً» حال «مما رزقكم الله» { واتّقوا اللّه } توكيد للتوصية بما أمر به وزاده توكيداً بقوله { الّذي أنتم به مؤمنون } لأن الإيمان به يوجب التقوى فيما أمر به ونهى .
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِي أيمانكم } اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم ، وهو أن يحلف على شيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن ، وكانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظن أنه قربة فلما نزلت تلك الآية قالوا : فكيف أيماننا؟ فنزلت . وعند الشافعي رحمه الله ما يجري على اللسان بلا قصد { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } أي بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها . وبالتخفيف : كوفي غير حفص . والعقد : العزم على الوطء ، وذا لا يتصور في الماضي فلا كفارة في الغموس . وعند الشافعي رحمه الله القصد بالقلب ويمين الغموس مقصودة فكانت معقودة فكانت الكفارة فيها مشروعة . والمعنى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم ، فخذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوماً عندهم ، أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف { فَكَفَّارَتُهُ } أي فكفارة نكثه أو فكفارة معقود الأيمان . والكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين } هو أن يغديهم ويعشيهم ، ويجوز أن يعطيهم بطريق التمليك وهو لكل أحد نصف صاع من بر أوصاع من شعير أو صاع من تمر . وعند الشافعي رحمه الله مد لكل مسكين { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي غداء وعشاء من بر إذ الأوسع ثلاث مرات مع الإدام والأدنى مرة من تمر أو شعير { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } عطف على «إطعام» أو على محل «من أوسط» ، ووجهه أن «من أوسط» بدل من «إطعام» والبدل هو المقصود في الكلام وهو ثوب يغطي العورة .(1/304)
وعن ابن عمر رضي الله عنه : إزار وقميص ورداء { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } مؤمنة أو كافرة لإطلاق النص ، وشرط الشافعي رحمه الله الإيمان حملاً للمطلق على المقيد في كفارة القتل . ومعنى «أو» التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } إحداها { فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ } «متتابعة» لقراءة أبيّ وابن مسعود كذلك { ذلك } المذكور { كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ } وحنثتم فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأن الكفارة لا تجب بنفس الحلف ولذا لم يجز التكفير قبل الحنث { واحفظوا أيمانكم } فبروا فيها ولا تحنثوا إذا لم يكن الحنث خيراً أو ولا تحلفوا أصلاً { كذلك } مثل ذلك البيان { يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } أعلام شريعته وأحكامه { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه .
{ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر } أي القمار { والأنصاب } الأصنام لأنها تنصب فتعبد { والأزلام } وهي القداح التي مرت { رِجْسٌ } نجس أو خبيث مستقذر { مِّنْ عَمَلِ الشيطان } لأنه يحمل عليه فكأنه عمله . والضمير في { فاجتنبوه } يرجع إلى الرجس ، أو إلى عمل الشيطان ، أو إلى المذكور ، أو إلى المضاف المحذوف كأنه قيل : إنما تعاطى الخمر والميسر ولذا قال «رجس» . { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أكد تحريم الخمر والميسر من وجوه حيث صدر الجملة بإنما وقرنهما بعبادة الأصنام ومنه الحديث " شارب الخمر كعابد الوثن " وجعلهما رجساً من عمل الشيطان ولا يأتي منه إلا الشر البحت ، وأمر بالاجتناب ، وجعل الاجتناب من الفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خساراً { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة } ذكر ما يتولد منهما من الوبال وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر ، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة ، وخص الصلاة من بين الذكر لزيادة درجتها كأنه قال : وعن الصلاة خصوصاً . وإنما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولاً ثم أفردهما آخراً ، لأن الخطاب مع المؤمنين وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر ، وذكر الأنصاب والألزام لتأكيد تحريم الخمر والميسر وإظهار أن ذلك جميعاً من أعمال أهل الشرك فكأنه لا مباينة بين عابد الصنم وشارب الخمر والمقامر ، ثم أفردهما بالذكر ليعلم أنهما المقصود بالذكر { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } من أبلغ ما ينهى به كأنه قيل : قد تُلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والزواجر فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا } وكونوا حذرين خاشعين لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } عن ذلك { فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين } أي فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات ، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه .(1/305)
ونزل فيمن تعاطى شيئاً من الخمر والميسر قبل التحريم .
{ لَيْسَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } أي شربوا من الخمر وأكلوا من مال القمار قبل تحريمهما { إِذَا مَا اتقوا } الشرك { وَءامَنُواْ } بالله { وَعَمِلُواْ الصالحات } بعد الإيمان { ثُمَّ اتَّقَواْ } الخمر والميسر بعد التحريم { وَءَامَنُواْ } بتحريمهما { ثُمَّ اتَّقَواْ } سائر المحرمات ، أو الأول عن الشرك والثاني عن المحرمات والثالث عن الشبهات { وَأَحْسَنُواْ } إلى الناس { والله يُحِبُّ المحسنين } .
ولما ابتلاهم الله بالصيد عام الحديبية وهم محرمون وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في زحالهم فيستمكنون من صيده أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم نزل :
{ يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم } ومعنى يبلو يختبر وهو من الله لإظهار ما علم من العبد على ما علم لا لعلم ما لم يعلم ، و«من» للتبعيض إذ لا يحرم كل صيد أو لبيان الجنس { لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب } ليعلم الله خوف الخائف منه بالامتناع عن الاصطياد موجوداً كما كان يعلم قبل وجوده أنه يوجد ليثيبه على عمله لا على علمه فيه { فَمَنِ اعتدى } فصاد { بَعْدَ ذَلِكَ } الابتلاء { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قلل في قوله «بشيء» من الصيد ليعلم أنه ليس من الفتن العظام «وتناله» صفة ل «شيء» { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد } أي المصيد إذ القتل إنما يكون فيه { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } أي محرمون جمع حرام كردح في جمع رداح في محل النصب على الحال من ضمير الفاعل في «تقتلوا» { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً } حال من ضمير الفاعل أي ذاكراً لإحرامه أو عالماً أن ما يقتله مما يحرم قتله عليه ، فإن قتله ناسياً لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد فهو مخطىء . وإنما شرط التعمد في الآية مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ ، لأن مورد الآية فيمن تعمد ، فقد رُوي أنه عَنَّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فقتله فقيل له : إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت . ولأن الأصل فعل المتعمد والخطأ ملحق به للتغليظ .(1/306)
وعن الزهري : نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ . { فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ } كوفي أي فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد وهو قيمة الصيد يقوّم حيث صيد ، فإن بلغت قيمته ثمن هدي خيّر بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد ، وبين أن يشتري بقيمته طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره ، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً . وعند محمد والشافعي رحمهما الله تعالى مثله نظيره من النعم ، فإن لم يوجد له نظير من النعم فكما مر .
«فجزاء مثل» على الإضافة : غيرهم . وأصله فجزاء مثل ما قتل أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل ، ثم أضيف كما تقول «عجبت من ضرب زيداً ثم من ضرب زيد» . { مِنَ النعم } حال من الضمير في «قتل» إذ المقتول يكون من النعم أو صفة ل «جزاء» { يَحْكُمُ بِهِ } بمثل ما قتل { ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } حكمان عادلان من المسلمين ، وفيه دليل على أن المثل القيمة لأن التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة ، ولأن المثل المطلق في الكتاب والسنة والإجماع مقيد بالصورة والمعنى ، أو بالمعنى لا بالصورة ، أو بالصورة بلا معنى ، ولأن القيمة أريدت فيما لا مثل له صورة إجماعاً فلم يبق غيرها مراداً إذ لا عموم للمشترك . فإن قلت : قوله «من النعم» ينافي تفسير المثل بالقيمة . قلت : من أوجب القيمة خُير بين أن يشتري بها هدياً أو طعاماً أو يصوم كما خير الله تعالى في الآية ، فكان من النعم بياناً للهدي المشتري بالقيمة في أحد وجوه التخيير ، لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هدياً فأهداه فقد جزى بمثل ما قتل من النعم ، على أن التخيير الذي في الآية بين أن يُجزي بالهدي أو يكفر بالطعام أو الصوم ، إنما يستقيم إذا قوم ونظر بعد التقويم أي الثلاثة يختار ، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير ، فإذا كان شيئاً لا نظير له قُوِّم حينئذ ثم يخير بين الطعام والصيام ، ففيه نبّو عما في الآية ألا ترى إلى قوله { أوكَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } كيف خير بين الأشياء الثلاثة ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم { هَدْياً } حال من الهاء في «به» أي يحكم به في حال الهدي { بالغ الكعبة } صفة ل «هدياً» لأن إضافته غير حقيقية . ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم ، فأما التصدق به فحيث شئت . وعند الشافعي رحمه الله : في الحرم { أَوْ كَفَّارَةٌ } معطوف على «جزاء» { طَعَامٌ } بدل من «كفارة» أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام . «أو كفارة طعام» على الإضافة : مدني وشامي . وهذه الإضافة لتبيين المضاف كأنه قيل : أو كفارة من طعام { مساكين } كما تقول «خاتم فضة» أي خاتم من فضة { أَو عَدْلُ } وقرىء بكسر العين .(1/307)
قال الفراء : العدل ما عادل الشيء من غير جنسه كالصوم والإطعام ، والعدل مثله من جنسه ومنه «عدلا الحمل» . يقال «عندي غلام عدل غلامك» بالكسر إذا كان من جنسه ، فإن أريد أن قيمته كقيمته ولم يكن من جنسه قيل «هو عَدل غلامك» بالفتح { ذلك } إشارة إلى الطعام { صِيَاماً } تمييز نحو «لي مثله رجلاً» والخيار في ذلك إلى القاتل ، وعند محمد رحمه الله إلى الحكمين { لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } متعلق بقوله «فجزاء» أي فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق سوء عقاب عاقبة هتكه لحرمة الإحرام . والوبال المكروه والضرر الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه من قوله تعالى : { فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً } [ المزمل : 16 ] أي ثقيلاً شديداً . والطعام الوبيل الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ . { عَفَا الله عَمَّا سَلَفَ } لكم من الصيد قبل التحريم { وَمَنْ عَادَ } إلى قتل الصيد بعد التحريم أو في ذلك الإحرام { فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } بالجزاء وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه { والله عَزِيزٌ } بإلزام الأحكام { ذُو انتقام } لمن جاوز حدود الإسلام .(1/308)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر } مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل { وَطَعَامُهُ } وما يطعم من صيده . والمعنى : أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر ، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده { متاعا لَّكُمْ } مفعول له أي أحل لكم تمتيعاً لكم { وَلِلسَّيَّارَةِ } وللمسافرين . والمعنى : أحل لكم طعامه تمتيعاً لتُنّائكم يأكلونه طرياً ولسيارتكم يتزودونه قديداً كما تزود موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر . { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر } ما صيد فيه وهو ما يفرخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كالبط فإنه بري لأنه يتولد في البر والبحر له مرعى كما للناس متجر { مَا دُمْتُمْ حُرُماً } محرمين { واتقوا الله } في الاصطياد في الحرم أو في الإحرام { الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
تبعثون فيجزيكم على أعمالكم .
{ جَعَلَ الله الكعبة } أي صير { البيت الحرام } بدل أو عطف بيان { قِيَاماً } مفعول ثانٍ أو «جعل» بمعنى «خلق» و«قياماً» حال { لِلنَّاسِ } أي انتعاشاً لهم في أمر دينهم ونهوضاً إلى أغراضهم في معاشهم ومعادهم لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وأنواع منافعهم . قيل : لو تركوه عاماً لم ينظروا ولم يؤخروا { والشهر الحرام } والشهر الذي يؤدي فيه الحج وهو ذو الحجة لأن في اختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأناً قد علمه الله ، أو أريد به جنس الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم . { والهدى } ما يهدى إلى مكة { والقلائد } والمقلد منه خصوصاً وهو البدن فالثواب فيه أكثر وبهاء الحج معه أظهر { ذلك } إشارة إلى جعل الكعبة قياماً أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره { لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ الله بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي لتعلموا أن الله يعلم مصالح ما في السموات وما في الأرض وكيف لا يعلم وهو بكل شيء عليم { اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن استخف بالحرم والإحرام { وَأَنَّ الله غَفُورٌ } لآثام من عظم المشاعر العظام { رَّحِيمٌ } بالجاني الملتجىء إلى البلد الحرام { مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ } تشديد في إيجاب القيام بما أمر به ، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط { والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } فلا يخفى عليه نفاقكم ووفاقكم .
{ قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب } لما أخبر أنه يعلم ما يبدون وما يكتمون ذكر أنه لا يستوي خبيثهم وطيبهم بل يميز بينهما ، فيعاقب الخبيث أي الكافر ويثيب الطيب أي المسلم { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث فاتقوا الله } وآثروا الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر .(1/309)
وقيل : هو عام في حلال المال وحرامه وصالح العمل وطالحه وجيد الناس ورديئهم .
{ ياأولي الألباب } أي العقول الخالصة { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء امتحاناً فنزل :
{ يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَسْئَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ } قال الخليل وسيبويه وجمهور البصريين : أصله «شيئاء» بهمزتين بينهما ألف وهي فعلاء من لفظ شيء وهمزتها الثانية للتأنيث ولذا لم تنصرف ك «حمراء» وهي مفردة لفظاً جمع معنى ، ولما استثقلت الهمزتان المجتمعتان قدمت الأولى التي هي لام الكلمة فجعلت قبل الشين فصار وزنها «لفعاء» ، والجملة الشرطية والمعطوفة عليها أي قوله { إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْئَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرءان تُبْدَ لَكُمْ } صفة ل «أشياء» أي وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم «تبد لكم» تلك التكاليف التي تسوؤكم أي تغمكم وتشق عليكم وتؤمرون بتحملها فتعرضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها { عَفَا الله عَنْهَا } عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاقبكم إلا بعد الإنذار . والضمير في { قَدْ سَأَلَهَا } لا يرجع إلى «أشياء» حتى يعدى ب «عن» بل يرجع إلى المسألة التي دلت عليها «لا تسألوا» أي قد سأل هذه المسألة { قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ } من الأولين { ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا } صاروا بسببها { كافرين } كما عرف في بني إسرائيل .
{ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } كان أهل الجاهلية إذا انتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا إذنها أي شقوها وامتنعوا من ركوبها وذبحها ، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى واسمها البحيرة . وكان يقول الرجل : إذا قدمت من سفري أو برأت من مرضي فناقتي سائبة وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها . وقيل : كان الرجل إذا أعتق عبداً قال : هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث . وكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع ذكراً أكله الرجال ، وإن كان أنثى أرسلت في الغنم ، وكذا إن كان ذكراً وأنثى وقالوا : أوصلت أخاها فالوصيلة بمعنى الواصلة . وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى . ومعنى «ما جعل» ما شرع ذلك ولا أمر به { ولكن الذين كَفَرُواْ } بتحريمهم ما حرموا { يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } في نسبتهم هذا التحريم إليه { وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } أن الله لم يحرم ذلك وهم عوامهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول } أي هلموا إلى حكم الله ورسوله بأن هذه الأشياء غير محرمة { قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا } أي كافينا ذلك ، «حسبنا» مبتدأ والخبر «ما وجدنا» «وما» بمعنى «الذي» والواو في { أَوَ لَّوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ } للحال قد دخلت عليها همزة الإنكار وتقديره : أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم { لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } أي الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة { يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } انتصب «أنفسكم» ب «عليكم» وهو من أسماء الأفعال أي الزموا إصلاح أنفسكم .(1/310)
والكاف والميم في «عليكم» في موضع جر لأن اسم الفعل هو الجار والمجرور لا على وحدها { لاَ يَضُرُّكُمْ } رفع على الاستئناف ، أو جزم على جواب الأمر ، وإنما ضمت الراء إتباعاً لضمة الضاد { مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة يتمنون دخولهم في الإسلام فقيل لهم : عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها لا يضركم الضّلاّل عن دينكم إذا كنتم مهتدين ، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن تركهما مع القدرة عليهما لا يجوز . { إلى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } رجوعكم { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ثم يجزيكم على أعمالكم .
روي أنه خرج بديل مولى عمرو بن العاص وكان من المهاجرين مع عدي وتميم وكانا نصرانيين إلى الشام ، فمرض بديل وكتب كتاباً فيه ما معه وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه ، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله . ومات ففتشا متاعه ، فأخذا إناء من فضة فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل :
{ يِأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان } ارتفع «اثنان» لأنه خبر المبتدأ وهو «شهادة» بتقدير شهادة بينكم شهادة اثنين ، أو لأنه فاعل «شهادة بينكم» أي فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان . واتسع في «بين» فأضيف إليه المصدر . «وإذا حضر» ظرف للشهادة و«حين الوصية» بدل منه ، وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية لأن حضور الموت من الأمور الكائنة ، «وحين الوصية» بدل منه فيدل على وجوب الوصية ولو وجدت بدون الاختيار لسقط الابتلاء فنقل إلى الوجوب ، وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل { ذَوَا عَدْلٍ } صفة ل «اثنان» { مِّنكُمْ } من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت { أو آخران } عطف على «اثنان» { مِنْ غَيْرِكُمْ } من الأجانب { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض } سافرتم فيها . «وأنتم» فاعل فعل يفسره الظاهر { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت } أو منكم من المسلمين ومن غيركم من أهل الذمة . وقيل : منسوخ إذ لا يجوز شهادة الذمي على المسلم ، وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين { تَحْبِسُونَهُمَا } تقفونهما للحلف هو استئناف كلام أو صفة لقوله «أو آخران من غيركم» أي أو آخران من غيركم محبوسان ، «وإن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت» اعتراض بين الصفة والموصوف { مِن بَعْدِ الصلاة } من بعد صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس .(1/311)
وعن الحسن رحمه الله : بعد العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما . وفي حديث بديل أنها لما نزلت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعديِّ وتميم فاستحلفهما عند المنبر فحلفا ثم وجد الإناء بمكة فقالوا : إنا اشتريناه من تميم وعدي . { فَيُقْسِمَانِ بالله } فيحلفان به { إِنِ ارتبتم } شككتم في أمانتهما وهو اعتراض بين «يقسمان» وجوابه وهو { لاَ نَشْتَرِي } وجواب الشرط محذوف أغنى عنه معنى الكلام والتقدير : إن ارتبتم في شأنهما فحلفوهما { بِهِ } بالله أو بالقسم { ثَمَناً } عوضاً من الدنيا { وَلَوْ كَانَ } أي المقسم له { ذَا قربى } أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ولو كان من نقسم له قريباً منا { وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله } أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها { إنّآ إذاً } إن كتمنا { لَّمِنَ الآثمين } . وقيل : إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين ، وإن أريد الوصيان فلم ينسخ تحليفهما .(1/312)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
{ فَإِنْ عُثِرَ } فإن اطلع { على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً } فعل ما أوجب إثماً واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين { فئاخران } فشاهدان آخران { يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ } أي من الذين استحق عليهم الإثم ، ومعناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته ، وفي قصة بديل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين حلف رجلان من ورثته إنه إناء صاحبهما وإن شهادتهما أحق من شهادتهما { الأولاين } الأحقان بالشهادة لقرابتهما أو معرفتهما . وارتفاعهما على «هما الأوليان» كأنه قيل : ومن هما؟ فقيل : الأوليان . أو هما بدل من الضمير في «يقومان» أو من ««آخران» . «استحق عليهم الأوليان» . حفص أي من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين . «الأوَّلين» : حمزة وأبو بكر على أنه وصف للذين استحق عليهم مجرور أو منصوب على المدح . وسموا أولين لأنهم كانوا أولين في الذكر في قوله «شهادة بينكم» { فَيُقْسِمَانِ بالله لشهادتنا أَحَقُّ مِن شهادتهما } أي ليميننا أحق بالقبول من يمين هذين الوصيين الخائنين { وَمَا اعتدينا } وما تجاوزنا الحق في يميننا { إِنَّآ إِذاً لَّمِنَ الظالمين } أي إن حلفنا كاذبين { ذلك } الذي مر ذكره من بيان الحكم { أدنى } أقرب { أَن يَأْتُواْ } أي الشهداء على نحو تلك الحادثة { بالشهادة على وَجْهِهَا } كما حملوها بلا خيانة فيها { أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم } أي تكرر أيمان شهود آخرين بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم { واتقوا الله } في الخيانة واليمين الكاذبة { واسمعوا } سمع قبول وإجابة { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } الخارجين عن الطاعة . فإن قلت : ما معنى «أو» هنا؟ قلت : معناه ذلك أقرب من أن يؤدّوا الشهادة بالحق والصدق ، إما لله أو لخوف العار والافتضاح برد الأيمان ، وقد احتج به من يرى ردّ اليمين على المدعي ، والجواب أن الورثة قد ادّعوا على النصرانيين أنهما قد اختانا فحلفا ، فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما فأنكرت الورثة فكانت اليمين على الورثة لإنكارهما الشراء .
{ يَوْمَ } منصوب ب «اذكروا» أو احذروا { يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } ما الذي أجابتكم به أممكم حين دعوتموهم إلى الإيمان؟ وهذا السؤال توبيخ لمن أنكرهم . «وماذا» منصوب ب «أجبتم» نصب المصدر على معنى أيَّ إجابة أجبتم { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا } بإخلاص قومنا دليله { إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } أو بما أحدثوا بعدنا دليله «كنت أنت الرقيب عليهم» أو قالوا ذلك تأدباً أي علمنا ساقط مع علمك ومغمور به فكأنه لا علم لنا { إِذْ قَالَ الله } بدل من «يوم يجمع» { ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى والدتك } حيث طهرتها واصطفيتها على نساء العالمين .(1/313)
والعامل في { إِذْ أَيَّدتُّكَ } أي قويتك «نعمتي» { بِرُوحِ القدس } جبريل عليه السلام أيد به لتثبت الحجة عليهم ، أو بالكلام الذي يحيا به الدين ، وأضافه إلى القدس لأنه سبب الطهر من أو ضارم الآثام دليله { تُكَلّمُ الناس فِى المهد } حال أي تكلمهم طفلاً إعجازاً { وَكَهْلاً } تبليغاً { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ } معطوف على «إذ أيدتك» ونحوه «وإذ تخلق» . «وإذ تخرج» . «وإذ كففت» . «وإذ أوحيت» { الكتاب } الخط { والحكمة } الكلام المحكم الصواب { والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ } تقدر { مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } هيئة مثل هيئة الطير { بِإِذْنِى } بتسهيلي { فَتَنفُخُ فِيهَا } الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ، وكذا الضمير في { فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } وعطف { وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي } على «تخلق» { وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى } من القبور أحياء { بِإِذْنِي } قيل : أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية .
{ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إسراءيل عَنكَ } أي اليهود حين هموا بقتله { إِذْ جِئْتَهُمْ } ظرف ل «كففت» { بالبينات فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ساحر حمزة وعلي { وَإِذْ أَوْحَيْتُ } ألهمت { إِلَى الحواريين } الخواص أو الأصفياء { أن آمنوا } أي آمنوا { بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون } أي اشهد بأننا مخلصون من أسلم وجهه { إِذْ قَالَ الحواريون } أي اذكروا إذ { ياعيسى ابن مَرْيَمَ } «عيسى» نصب على اتباع حركته حركة الابن نحو «يا زيد بن عمرو» { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } هل يفعل أو هل يطيعك ربك إن سألته ، فاستطاع وأطاع بمعنى كاستجاب وأجاب . هل تستطيع ربك على أي هل تستطيع سؤال ربك فحذف المضاف ، والمعنى : هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله { أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا } «ينزول» : مكي وبصري { مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } هي الخوان إذا كان عليه الطعام من مادَه إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليها { قَالَ اتقوا الله } في اقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إذ الإيمان يوجب التقوى .
{ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } تبركاً { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } ونزداد يقيناً كقول إبراهيم عليه السلام { ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } أي نعلم صدقك عياناً كما علمناه استدلالاً { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين } بما عاينا لمن بعدنا . ولما كان السؤال لزيادة العلم لا للتعنت { قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم } أصله «يا الله» فحذف «يَا» وعوض منه «الميم» { رَبَّنَا } نداء ثانٍ { أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء تَكُونُ لَنَا عِيداً } أي يكون يوم نزولها عيداً .(1/314)
قيل : هو يوم الأحد ومن ثم اتخذه النصارى عيداً ، والعيد : السرور العائد ولذا يقال «يوم عيد» فكان معناه : تكون لنا سروراً وفرحاً { لأَِوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا } بدل من «لنا» بتكرير العامل أي لمن في زماننا من أهل ديننا ، ولمن يأتي بعدنا ، أو يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم ، أو للمتقدمين منا والأتباع { وآيةً مِنكَ } على صحة نبوّتي ثم أكد ذلك بقوله { وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } وأعطنا ما سألناك وأنت خير المعطين { قَالَ الله إِنّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } بالتشديد : مدني وشامي وعاصم . وعد الإنزال وشرط عليهم شرطاً بقوله { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } بعد إنزالها منكم { فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَاباً } أي تعذيباً كالسلام بمعنى التسليم . والضمير في { لآَّ أُعَذِّبُهُ } للمصدر ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء { أَحَداً مِّنَ العالمين } عن الحسن أن المائدة لم تنزل ولو نزلت لكانت عيداً إلى يوم القيامة لقوله : «وآخرنا» . والصحيح أنها نزلت . فعن وهب نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملائكة عليها كل طعام إلا اللحم . وقيل : كانوا يجدون عليها ما شاءُوا . وقيل : كانت تنزل حيث كانوا بكرة وعشياً .(1/315)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
{ وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } الجمهور على أن هذا السؤال يكون في يوم القيامة دليله سياق الآية وسباقها . وقيل : خاطبه به حين رفعه إلى السماء دليله لفظ «إذ» { قَالَ سبحانك } من أن يكون لك شريك { مَا يَكُونُ لِي } ما ينبغي لي { أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } إن صح أني قلته فيما مضى فقد علمته ، والمعنى : أني لا أحتاج إلى الاعتذار لأنك تعلم أني لم أقله ولو قلته لعلمته لأنك { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } ذاتي { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } ذاتك . فنفس الشيء ذاته وهويته والمعنى : تعلم معلومي ولا أعلم معلومك { إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } تقرير للجملتين معاً لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ولأن ما يعلم علام الغيوب لا ينتهي إليه علم أحد .
{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني به . ثم فسر ما أمر به فقال : { أَنِ اعبدوا الله رَبّي وَرَبَّكُمْ } ف «أن» مفسرة بمعنى «أي» { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } رقيباً { مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } مدة كوني فيهم { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } الحفيظ { وَأَنتَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } من قولي وفعلي وقولهم وفعلهم { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } قال الزجاج : علم عيسى عليه السلام أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر فقال في جملتهم «إن تعذبهم» أي إن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك الذين علمتهم جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك وأنت العادل في ذلك فإنهم قد كفروا بعد وجوب الحجة عليهم ، وإن تغفر لهم أي لمن أقلع منهم وآمن فذلك تفضل منك ، وأنت عزيز لا يمتنع عليك ما تريد ، حكيم في ذلك ، أو عزيز قوي قادر على الثواب ، حكيم لا يعاقب إلا عن حكمة وصواب .
{ قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ } برفع اليوم والإضافة على أنه خبر هذا أي يقول الله تعالى «هذا يوم ينفع الصادقين» فيه صدقهم المستمر في دنياهم وآخرتهم . والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب على المفعولية كما تقول «قال زيد عمرو منطلق» ، وبالنصب : نافع . على الظرف أي قال الله هذا لعيسى عليه السلام يوم ينفع الصادقين صدقهم وهو يوم القيامة { لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ الله عَنْهُمْ } بالسعي المشكور { وَرَضُواْ عَنْهُ } بالجزاء الموفور { ذلك الفوز العظيم } لأنه باقٍ بخلاف الفوز في الدنيا فهو غير باقٍ { للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ } عظم نفسه عما قالت النصارى إن معه إلهاً آخر { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } من المنع والإعطاء والإيجاد والإفناء ، نسأله أن يوفقنا لمرضاته ويجعلنا من الفائزين بجناته ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .(1/316)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
مكية وهي مائة وخمس وستون آية كوفي أربع وستون بصرى
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الحمد للَّهِ } تعليم اللفظ والمعنى مع تعريض الاستغناء أي الحمد له وإن لم تحمدوه { الذى خَلَقَ السماوات والأرض } جمع السموات لأنها طباق بعضها فوق بعض . والأرض وإن كانت سبعة عند الجمهور فليس بعضها فوق بعض بل بعضها موال لبعض . «جعل» يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله { وَجَعَلَ الظلمات والنور } وإلى مفعولين إن كان بمعنى «صير» كقوله { وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } [ الزخرف : 19 ] وفيه رد قول الثنوية بقدم النور والظلمة ، وأفرد النور لإرادة الجنس ولأن ظلمة كل شيء تختلف باختلاف ذلك الشيء ، نظيره ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الموضع المظلم يخالف كل واحد منها صاحبها ، والنور ضرب واحد لا يختلف كما تختلف الظلمات ، وقدم الظلمات لقوله عليه السلام : " خلق اللّه خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ } بعد هذا البيان { بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } يساوون به الاوثان ، تقول عدلت بذا أي ساويته به ، والباء في { بِرَبِّهِمْ } لا للكفر ، أو ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه أي يعرضرن عنه فتكون الباء صلة للكفر وصلة { يَعْدِلُونَ } أي عنه محذوفة ، وعطف { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ } على { الحمد للَّهِ } على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق إلا نعمة ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ، أو على خلق السماوات على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه . ومعنى «ثم» استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته . { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ } «من» لابتداء الغاية أي ابتداء خلق أصلكم يعنى آدم منه { ثُمَّ قضى أَجَلاً } أي حكم أجل الموت { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } أجل القيامة ، أو الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ . أو الأول ، والثاني الموت ، أو الثاني هو الأول وتقديره : وهو أجل مسمى أي معلوم ، و { أَجَلٍ مُّسَمًّى } مبتدأ والخبر { عِندَهُ } وقدم المبتدأ وإن كان نكرة والخبر ظرفاً وحقه التأخير لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } تشكون من المرية أو تجادلون من المراء . ومعنى «ثم» استبعاد أن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم { وَهُوَ الله } مبتدأ وخبر { السماوات وَفِي الأرض } متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل : وهو المعبود فيهما كقوله { وَهُوَ الذي فِي السماء إله وَفِي الأرض إله }(1/317)
[ الزخرف : 84 ] أو المعروف بالإلهية فيهما ، أو هو الذي يقال له الله فيهما ، والأول تفريع على أنه مشتق وغيره على أنه غير مشتق { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } خبر بعد خبر أو كلام مبتدأ أي هو يعلم سركم وجهركم { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } من الخير والشر ويثيب عليه ويعاقب ، و «من» في { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ } للاستغراق وفي { مِّنْ ءايات رَبِّهِمْ } للتبعيض أي وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } تاركين للنظر لا يلتفتون إليه لقلة خوفهم وتدبرهم في العواقب { فَقَدْ كَذَّبُواْ } مردود على كلام محذوف كأنه قيل : إن كانوا معرضين على الآيات فقد كذبوا { بالحق لَمَّا جَاءَهُمْ } أي بما هو أعظم آية وأكبرها وهو القرآن الذي تُحدوا به فعجزوا عنه { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أنباؤا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } إي أنباء الشيء الذي كانوا به يستهزءون وهو القرآن أي أخباره وأحواله يعني سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا ، أو يوم القيامة ، أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته .
{ أَلَمْ يَرَوْاْ } يعني المكذبين { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ } هو مدة انقضاء أهل كل عصر وهو ثمانون سنة أو سبعون { مكناهم } في موضع جر صفة ل «قرن» وجمع على المعنى { فِي الأرض ما لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } التمكين في البلاد إعطاء المكنة والمعنى : لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا { وَأَرْسَلْنَا السماء } المطر { عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } كثيراً وهو حال من السماء { وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } من تحت أشجارهم والمعنى عاشوا في الخصب بين الأنهار والثمار وسقيا الغيث المدرار { فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ } ولم يغن ذلك عنهم شيئاً { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ } بدلاً منهم { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا } مكتوباً { فِي قِرْطَاسٍ } في ورق { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } هو للتأكيد لئلا يقولوا سكرت أبصارنا ومن المحتج عليهم العمى { لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } تعنتاً وعناداً للحق بعد ظهوره { وَقَالُواْ لَوْلآ } هلا { أُنزِلَ عَلَيْهِ } على النبي صلى الله عليه وسلم { مَلَكٌ } يكلمنا أنه نبي فقال الله { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر } لقضي أمر هلاكهم { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون . ومعنى «ثم» بعدما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الإنظار ، جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأه الشدة أشد من نفس الشدة { وَلَوْ جعلناه مَلَكاً } ولو جعلنا الرسول ملكاً كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون تارة لولا أنزل على محمد ملك ، وتارة يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة { لجعلناه رَجُلاً } لأرسلناه في صورة رجل كما كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعم الأحوال في صورة دحية ، لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } ولخلطنا وأشكلنا عليهم من أمره إذا كان سبيله كسبيلك يا محمد ، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة الإنسان هذا إنسان وليس بملك .(1/318)
يقال لبست الأمر على القوم وألبسته إذا أشبهته وأشكلته عليهم .
ثم سلى نبيه على ما أصابه من استهزاء قومه بقوله { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو الحق حيث أهلكوا من أجل استهزائهم به و «منهم» متعلق ب «سخروا» كقوله { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } [ التوبة : 79 ] والضمير للرسل والدال مكسورة عند أبي عمرو وعاصم لا لتقاء الساكنين ، وضمها غيرهما إتباعاً لضم التاء { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } والفرق بين فانظروا وبين { ثُمَّ انظروا } إن النظر جعل مسبباً عن السير في «فانظروا» فكأنه قيل : سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين . ومعنى { سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا } إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها وإيجاب النظر في آثار الهالكين على ذلك ب «ثم» لتباعد ما بين الواجب والمباح { قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض } «من» استفهام و «ما» معنى الذي في موضع الرفع على الابتداء و «لمن» خبره { قُل لِلَّهِ } تقرير لهم أي هو لله لا خلاف بيني وبينكم ، ولا تقدرون أن تضيفوا منه شيئاً إلى غيره { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } أصل كتب أوجب ولكن لا يجوز الإجراء على ظاهره إذ لا يجب على الله شيء للعبد ، فالمراد به أنه وعد ذلك وعداً مؤكداً وهو منجزه لا محالة . وذكر النفس للاختصاص ورفع الوسائط ، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر و إشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة } فيجازيكم على إشراككم { لاَ رَيْبَ فِيهِ } في اليوم أو في الجمع { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } نصب على الذم أي أريد الذين خسروا أنفسهم باختيارهم الكفر { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وقال الأخفش : «الذين» بدل من «كم» في { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } أي ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم و الوجه هو الأول لأن سيبويه قال : لا يجوز «مررت بي المسكين ولا بك المسكين» فتجعل «المسكين» بدلاً من الياء أو الكاف لأنهما في غاية الوضوح فلا يحتاجان إلى البدل والتفسير .(1/319)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
{ وَلَهُ } عطف على { لِلَّهِ } { مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار } من السكنى حتى يتناول الساكن والمتحرك أو من السكون ومعناه ما سكن وتحرك فيهما فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر كقوله { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 82 ] أي الحر والبرد ، و ذكر السكون لأنه أكثر من الحركة وهو احتجاج على المشركين لأنهم لم ينكروا أنه خالق الكون و مدبره { وَهُوَ السميع العليم } يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان .
{ قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً } ناصراً ومعبوداً وهو مفعول ثان ل { اتخذ } والأول { غَيْرَ } وإنما أدخل همزة الاستفهام على مفعول { اتخذ } لا عليه لأن الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً لا في اتخاذ الولي فكان أحق بالتقديم { فَاطِرَ السماوات والأرض } بالجر صفة لله أي مخترعهما . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } وهو يرزق ولا يرزق أي المنافع كلها من عنده ولا يجوز عليه الانتفاع { قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } لأن النبي سابق أمته في الإسلام كقوله : { وبذلك أُمِرْتُ وَأَنتَ أَوَّلُ المسلمين } [ الأنعام : 163 ] { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } وقيل لي لا تكونن من المشركين ولو عطف على ما قبله لفظاً لقيل : وأن لا أكون ، والمعنى : أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك { قُلْ إِنّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي إني أخاف عذاب يوم عظيم وهو القيامة إن عصيت ربي فالشرط معترض بين الفاعل والمفعول به محذوف الجواب { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ } العذاب { يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } الله الرحمة العظمى وهي النجاة .
{ مَّن يُصْرَفْ } حمزة وعلي و أبو بكر . أي من يصرف الله عنه العذاب { وَذَلِكَ الفوز المبين } النجاة الظاهرة { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ } من مرض أو فقر أوغير ذلك من بلاياه { فَلاَ كاشف لَهُ إلا هُوَ } فلا قادر على كشفه إلا هو { وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } من غنى أو صحة { فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } فهو قادر على إدامته وإزالته { وَهُوَ القاهر } مبتدأ وخبر أي الغالب المقتدر { فَوْقَ عِبَادِهِ } خبر بعد خبر أي عال عليهم بالقدرة . والقهر بلوغ المراد بمنع غيره من بلوغه { وَهُوَ الحكيم } في تنفيذ مراده { الخبير } بأهل القهر من عباده .
{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة } { أَيُّ شَيْء } مبتدأ و { أَكْبَرُ } خبره و { شَهَادَةً } تمييز و «أي» كلمة يراد بها بعض ما تضاف إليه ، فإذا كانت استفهاماً كان جوابها مسمى باسم ما أضيفت إليه .(1/320)
وقوله { قُلِ الله } جواب أي الله أكبر شهادة ف { الله } مبتدأ والخبر محذوف فيكون دليلاً على أنه يجوز إطلاق اسم الشيء على الله تعالى ، وهذا لأن الشيء اسم للموجود ولا يطلق على المعدوم والله تعالى موجود فيكون شيئاً ولذا نقول الله تعالى شيء لا كالأشياء . ثم ابتدأ { شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } أي هو شهيد بيني وبينكم ، ويجوز أن يكون الجواب { الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } لإنه إذا كان الله شهيداً بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرءان لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } أي ومن بلغه القرآن إلى قيام الساعة في الحديث " من بلغه القرآن فكأنما رأى محمد " صلى الله عليه وسلم و «من» في محل النصب بالعطف على «كم» والمراد به أهل مكة والعائد إليه محذوف أي ومن بلغه ، وفاعل { بَلَغَ } ضمير القرآن { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله ءَالِهَةً أخرى } استفهام إنكار وتبكيت { قُلْ لا أشهد } بما تشهدون وكرر { قُلْ } توكيداً { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } «ما» كافة «أن» عن العمل وهو مبتدأ و { إله } خبره و { واحد } صفة أو بمعنى الذي في محل النصب «إن» وهو مبتدأ وإله خبره والجملة صلة «الذي» و { واحد } خبر «إن» وهذا الوجه أوقع { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مّمَّا تُشْرِكُونَ } به .
{ الذين ءاتيناهم الكتاب } يعنى اليهود والنصارى . والكتاب : التوراة والإنجيل { يَعْرِفُونَهُ } أي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ } بحلاهم ونعوتهم وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوته ثم قال { الذين خسروا أنفسهم } من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } به { وَمَنْ أَظْلَمُ } استفهام يتضمن معنى النفي أي لا أحد أظلم لنفسه ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وأشنعه اتخاذ المخلوق معبوداً { مِمَّنِ افترى } اختلق { عَلَى الله كَذِبًا } فيصفه بما لا يليق به { أَوْ كَذَّبَ بئاياته } بالقرآن والمعجزات { إِنَّهُ } إن الأمر والشأن { لاَ يُفْلِحُ الظالمون } جمعوا بين أمرين باطلين ، فكذبوا على الله مالا حجة عليه وكذبوا بما ثبت بالحجة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وسموا القرآن والمعجزات سحراً .
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } هو مفعول به والتقدير : واذكر يوم نحشرهم { جَمِيعاً } حال من ضمير المفعول { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } مع الله غيره توبيخاً ، وبالياء فيهما : يعقوب { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ } آلهتكم التي جعلتموها شركاء الله { الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أي تزعمونهم شركاء فحذف المفعولان { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ } وبالياء : حمزة وعلي { فِتْنَتُهُمْ } كفرهم { إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ } يعني ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه إلا جحوده والتبرؤ منه والحلف على الانتفاء من التدين به ، أو ثم لم يكم جوابهم إلا أن قالوا : فسمي فتنة لأنه كذب .(1/321)
وبرفع الفتنة مكي وشامي وحفص؛ فمن قرأ { تَكُنْ } بالتاء ورفع الفتنة فقد جعل الفتنة اسم { تَكُنْ } و { أَن قَالُواْ } الخبر أي لم تكن فتنتهم إلا قولهم ، ومن قرأ بالياء ونصب الفتنة جعل { أَن قَالُواْ } اسم { يَكُنِ } أي لم يكن فتنتهم إلا قولهم ، ومن قرأ بالتاء ونصب الفتنة حمل على المقالة : { رَبَّنَا } حمزة وعلي ، على النداء أي ياربنا وغيرهما بالجر على النعت من اسم الله { انظُرْ } يامحمد { كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ } بقولهم { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } قال مجاهد : إذا جمع الله الخلائق ورأى المشركون سعة رحمة الله وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين قال بعضهم لبعض : تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو مع أهل التوحيد فإذا قال لهم الله : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين ، فيختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم { وَضَلَّ عَنْهُم } وغاب عنهم { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } إلهيته وشفاعته { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } حين تتلو القرآن . روي أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر : ما يقول محمد؟ فقال : والله ما أدري ما يقول محمد ألا إنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية . فقال أبو سفيان : إني لأراه حقاً فقال أبو جهل : كلا فنزلت { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أغطية جمع كنان وهو الغطاء مثل عنان وأعنة أن يفقهوه } كراهة أن يفقهوه { وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا } ثقلا يمنع من السمع ، ووحد الوقر لأنه مصدر وهو عطف على { أَكِنَّةً } وهو حجة لنا في الأصلح على المعتزلة { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حتى إِذَا جَاءُوكَ يجادلونك يَقُولُ الذين كَفَرُواْ } «حتى» هي التي تقع بعدها الجمل ، والجملة قوله { إذا جاؤك يقول الذين كفروا } و { يجادلونك } في موضع الحال ، ويجوز أن تكون جارة ويكون { إذا جاءوك } في موضع الجر بمعنى حتى وقت مجيئهم و { يجادلونك } حال و { يقول الذين كفروا } تفسير له ، والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك ، وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون { إِنْ هَذَآ } ما القرآن { إِلاَّ أساطير الأولين } فيجعلون كلام الله أكاذيب ، وواحد الأساطير أسطورة .
{ وَهُمْ } أي المشركون { يَنْهَوْنَ عَنْهُ } ينهون الناس عن القرآن أو عن الرسول واتباعه والإيمان به { ويَنْئَوْنَ عَنْهُ } ويبعدون عنه بأنفسهم فيضلون ويضلون { وَإِن يُهْلِكُونَ } بذلك { إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي لا يتعداهم الضرر إلى غيرهم وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله وقيل : عنى به أبو طالب لأنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه فلا يؤمن به والأول أشبه .(1/322)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
{ وَلَوْ ترى } حذف جوابه أي ولو ترى لشاهدت أمراً عظيماً { إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار } أروها حتى يعاينوها أو حبسوا على الصراط فوق النار { فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ } إلى الدنيا تمنوا الرد الدنيا ليؤمنوا وتم تمنيهم ثم ابتدأوا بقوله { وَلاَ نُكَذِّبَ بئايات رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } واعدين الإيمان كأنهم قالوا : ونحن لا نكذب ونؤمن . { وَلاَ نُكَذِّبَ } { وَنَكُونَ } حمزة وعلي وحفص على جواب التمني بالواو وبإضمار «أن» ومعناه أن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين ، وافقهما في { وَنَكُونَ } شامي { بَلْ } للإضراب عن الوفاء بما تمنوا { بَدَا لَهُمْ } ظهر لهم { مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ } من الناس { مِن قَبْلُ } في الدنيا من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم . وقيل : هو في المنافقين وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه ، أو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَلَوْ رُدُّواْ } إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار { لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } من الكفر { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } فيما وعدوا من أنفسهم لا يوفون به { وَقَالُواْ } عطف على { لعادوا } أي ولو ردوا لكفروا ولقالوا { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة ، أو على قوله { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } أي وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء وهم الذين قالوا إن إلا حياتنا الدنيا وهي كناية عن الحياة ، أو هو ضمير القصة { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } .
{ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ } مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه ، أو وقفوا على جزاء ربهم { قَالَ } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فقيل : قال { أَلَيْسَ هذا } أي البعث { بالحق } بالكائن الموجود وهذا تعيير لهم على التكذيب للبعث . وقولهم لما كانوا يسمعون من حديث البعث ما هو بحق { قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا } أقروا و أكدوا الإقرار باليمين { قَالَ } الله تعالى { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } بكفركم .
{ قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله } ببلوغ الآخرة وما يتصل بها ، أو هو مجرى على ظاهره لأن منكر البعث منكر للرؤية { حتى } غاية ل { كَذَّبُواْ } لا ل { خسر } لأن خسرانهم لا غاية له { إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة } أي القيامة لأن مدة تأخرها مع تابد ما بعدها كساعة واحدة { بَغْتَةً } فجأة وانتصابها على الحال يعني باغتة ، أو على المصدر كأنه قيل : بغتتهم الساعة بغتة وهي ورود الشيء على صاحبه من غير علمه بوقته { قَالُواْ ياحسرتنا } نداء تفجع معناه ياحسرة احضري فهذا أوانك { على مَا فَرَّطْنَا } قصرنا { فِيهَا } في الحياة الدنيا أو في الساعة أي قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ } آثامهم { على ظُهُورِهِمْ } خص الظهر لأن المعهود حمل الأثقال على الظهور كما عهد الكسب بالأيدي ، وهو مجاز عن اللزوم على وجه لا يفارقهم .(1/323)
وقيل : إن الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شيء صورة وأخبثه ريحاً فيقول : أنا عملك السيء فطالما ركبتني في الدنيا وأنا أركبك اليوم { أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ } بئس شيئاً يحملونه ، وأفاد «ألا» تعظيم ما يذكر بعده { وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ } جواب لقولهم { إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } واللعب ترك ما ينفع بما لا ينفع ، واللهو الميل عن الجد إلى الهزل . قيل : ما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو . وقيل : ما أعمال الحياة الدنيا إلا لعب ولهو لا تعقب منفعة كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة { وَلَلدَّارُ } مبتدأ { الآخرة } صفتها : { وَلَدَارُ الآخرة } بالإضافة : شامي . أي ولدار الساعة الآخرة لأن الشيء لا يضاف إلى صفته . وخبر المبتدأ على القراءتين { خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } وفيه دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } بالتاء : مدني وحفص .
ولما قال أبو جهل : ما نكذبك يا محمد وإنك عندنا لمصدق وإنما نكذب ما جئتنا به نزل { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ } الهاء ضمير الشأن { لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } لا ينسبونك إلى الكذب . وبالتخفيف : نافع وعلى من أكذبه إذا وجده كاذباً { ولكن الظالمين بآيات الله يَجْحَدُونَ } من أقامة الظاهر مقام المضمر ، وفيه دلالة على أنهم ظلموا في جحودهم والتاء يتعلق ب { يَجْحَدُونَ } أو ب { الظالمين } كقوله { فَظَلَمُواْ بِهَا } [ الاعراف : 103 ] والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله ، لأن تكذيب الرسول تكذيب المرسل . { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل على أن قوله { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ } ليس بنفي لتكذيبه وإنما هو من قولك لغلامك إذا أهانه بعض الناس «إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني» { فَصَبَرُواْ } والصبر حبس النفس على المكروه { على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ } على تكذيبهم وإيذائهم { حتى أتاهم نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله } لمواعيده من قوله { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } [ الصافات : 171 ، 172 ] { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] { وَلَقدْ جَآءكَ مِن نَّبَإِىْ المرسلين } بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين ، وأجاز الأخفش أن تكون «من» زائدة والفاعل { نَّبَإِ المرسلين } وسيبويه لا يجيز زيادتها في الواجب كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم ويحب مجيء الآيات ليسلموا فنزل { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ } عظم وشق { إِعْرَاضُهُمْ } عن الإسلام { فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً } منفذاً تنفيذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها { فِى الأرض } صفة ل { نَفَقاً } { أَوْ سُلَّماً فِي السماء فَتَأْتِيَهُمْ } منها { بِئَايَةٍ } فافعل ، وهو جواب { فَإِن استطعت } و { إِنِ استطعتم } وجوابها جواب { وَإِن كَانَ كَبُرَ } والمعنى إنك لا تستطيع ذلك ، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم { وَلَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } لجعلهم بحيث يختارون الهدى ، ولكن لما علم أنهم يختارون الكفر لم يشأ أن يجمعهم على ذلك كذا قاله الشيخ أبو منصور رحمه الله { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } من الذين يجهلون ذلك .(1/324)
ثم أخبر أن حرصه على هدايتهم لا ينفع لعدم سمعهم كالموتى بقوله :(1/325)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ } أي إنما يجيب دعاءك الذين يسمعون دعاءك بقلوبهم { والموتى } مبتدأ إي الكفار { يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ } هلا أنزل عليه { ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } كما نقترح من جعل الصفا ذهباً وتوسيع أرض مكة وتفجير الأنهار خلالها { قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً } كما اقترحوا { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } إن الله قادر على أن ينزل تلك الآية ، أو لا يعلمون ما عليهم في الآية من البلاء لو أنزلت { وَمَا مِن دَابَّةٍ } هي اسم لما يدب وتقع على المذكر والمؤنث { فِي الأرض } في موضع جر صفة ل { دَابَّةٍ } { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } قيد الطيران بالجناحين لنفي المجاز لأن غير الطائر قد يقال فيه طار إذا أسرع { إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم } في الخلق والموت والبعث والاحتياج إلى مدبر يدبر أمرها { مَّا فَرَّطْنَا } ما تركنا { فِي الكتاب } في اللوح المحفوظ { مِن شَيْءٍ } من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت ، أو الكتاب القرآن . وقوله { مِن شَيْءٍ } أي من شيء يحتاجون إليه فهو مشتمل على ما تعبدنا به عبارة وإشارة ودلالة واقتضاء { ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } يعني الأمم كلها من الدواب والطيور فينصف بعضها من بعض كما رُوي أنه يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول : كوني تراباً . وإنما قال { إِلاَّ أُمَمٌ } مع إفراد الدابة والطائر لمعنى الاستغراق فيهما . ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادي على عظمته قال { والذين كَذَّبُواْ باياتنا صُمٌّ } لا يسمعون كلام المنبه { وَبُكْمٌ } لا ينطقون بالحق خابطون { فِي الظلمات } أي ظلمة الجهل والحيرة والكفر ، غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه . { صُمٌّ وَبُكْمٌ } خبر { الذين } ودخول الواو لا يمنع من ذلك ، و { فِي الظلمات } خبر آخر . ثم قال إيذاناً بأنه فعال لما يريد { مَن يَشَأْ الله يُضْلِلْهُ } أي من يشأ الله ضلاله يضلله { وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ } وفيه دلالة خلق الأفعال وإرادة المعاصي ونفي الأصلح .
{ قُلْ أَرَءَيتَكُم } وبتليين الهمزة : مدني ، وبتركه : علي ، ومعناه هل علمتم أن الأمر كما يقال لكم فأخبروني بما عندكم ، والضمير الثاني لا محل له من الإعراب والتاء ضمير الفاعل ومتعلق الاستخبار محذوف تقديره أرأيتكم { إِنْ أتاكم عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة } من تدعون . ثم بكتهم بقوله { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } أي أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أم تدعون الله دونها { إِن كُنتُمْ صادقين } في أن الأصنام آلهة فادعوها لتخلصكم { بَلْ إياه تَدْعُونَ } بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } أي ما تدعونه إلى كشفه { إِن شَاءَ } إن أراد أن يتفضل عليكم { وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } وتتركون آلهتكم ، أو لا تذكرون آلهتكم في ذلك الوقت لأن أذهانكم مغمورة بذكر ربكم وحده إذ هو القادر على كشف الضر دون غيره ، ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } كأنه قيل : أرأيتكم أغير اللّه تدعون إن أتاكم عذاب اللّه .(1/326)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
{ وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ } رسلاً فالمفعول محذوف فكذبوهم { فأخذناهم بالبأساء والضراء } بالبؤس والضر ، والأول القحط والجوع والثاني المرض ونقصان الأنفس والأموال { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون عن ذنوبهم فالنفوس تتخشع عند نزول الشدائد .
{ فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } أي هلا تضرعوا بالتوبة ومعناه نفي التضرع كأنه قيل : يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا ولكنه جاء ب «لولا» ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم { ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } فلم يزجروا بما ابتلوا به { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } وصاروا معجبين بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } من البأساء والضراء أي تركوا الاتعاظ به ولم يزجرهم { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبواب كُلِّ شَيْءٍ } من الصحة والسعة وصنوف النعمة { فَتَحْنَا } شامي { حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ } من الخير والنعمة { أخذناهم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } آيسون متحسرون وأصله الإطراق حزناً لما أصابه أو ندماً على مافاته و «إذا» للمفاجأة { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ } أي أهلكوا عن آخرهم ولم يترك منهم أحد { والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم وأجزل القسم ، أو احمدوا الله على إهلاك من لم يحمد الله .
ثم دل على قدرته وتوحيده بقوله { قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم } بأن أصمكم وأعماكم { وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ } فسلب العقول والتمييز { مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ } بما أخذ وختم عليه . { مِنْ } رفع بالابتداء و { إِلَهٌ } خبره و { غَيْرِ } صفة ل { إله } وكذا { يَأْتِيَكُمُ } والجملة في موضع مفعولي { أَرَءيْتُمْ } وجواب الشرط محذوف { انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ } لهم { الآيات } نكررها { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } يعرضون عن الآيات بعد ظهورها ، والصدوف الإعراض عن الشيء { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً } بأن لم تظهر أماراته { أَوْ جَهْرَةً } بأن ظهرت أماراته . وعن الحسن : ليلاً أو نهاراً { هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون } ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بربهم { وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } بالجنان والنيران للمؤمنين والكفار ، ولن نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة والأدلة الساطعة { فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ } أي داوم على إيمانه { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فلا خوف يعقوب .
{ والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا يَمَسُّهُمُ العذاب } جعل العذاب ماساً كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى بالكفر { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله } أي قسمه بين الخلق وأرزاقه ، ومحل { وَلا أَعْلَمُ الغيب } النصب عطفاً على محل { عِندِي خَزَائِنُ الله } لأنه من جملة المقول كأنه قال : لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول { وَلآ أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ } أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله وعلم الغيب ودعوى الملكية ، وإنما أدعي ما كان لكثير من البشر وهو النبوة { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } أي ما أخبركم إلا بما أنزل الله علي { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير } مثل للضال والمهتدي ، أو لمن اتبع ما يوحى إليه ومن لم يتبع ، أو لمن يدعي المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } فلا تكونوا ضالين أشباه العميان أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر ، أو فتعلموا أن اتباع ما يوحى إلي مما لا بد لي منه ، { وَأَنذِرْ بِهِ } بما يوحى { الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ } هم المسلمون المقرّون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه ، أو أهل الكتاب لأنهم مقرون بالبعث { لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } في موضع الحال من { يُحْشَرُواْ } أي يخافون أن يحشروا غير منصورين و لا مشفوعاً لهم { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يدخلون في زمرة أهل التقوى .(1/327)
ولما أمر النبي عليه السلام بإنذار غير المتقين ليتقوا ، أمر بعد ذلك بتقريب المتقين ونهى عن طردهم بقوله :
{ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أي عبادته ويواظبون عليها . والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام ، أو معناه يصلون صلاة الصبح والعصر أو الصلوات الخمس . { بالغُدوة } شامي . ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } فالوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته ، نزلت في الفقراء بلال وصهيب وعمار وأضرابهم حين قال رؤساء المشركين : لو طردت هؤلاء السقاط لجالسناك . فقال عليه السلام : « ما أنا بطارد المؤمنين » فقالوا : اجعل لنا يوماً ولهم يوماً وطلبوا بذلك كتاباً فدعا علياً رضي الله عنه ليكتب فقام الفقراء وجلسوا ناحية فنزلت ، فرمى عليه الصلاة والسلام بالصحيفة وأتى الفقراء فعانقهم { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } كقوله { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّي } [ الشعراء : 113 ] { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ } وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم فقال : حسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم { فَتَطْرُدَهُمْ } جواب النفي وهو { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم } { فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } جواب النهي وهو { وَلاَ تَطْرُدِ } ويجوز أن يكون عطفاً على { فَتَطْرُدَهُمْ } على وجه التسبيب لأن كونه ظالماً مسبب عن طردهم { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } ومثل ذلك الفتن العظيم ابتليتا الأغنياء بالفقراء { لِّيَقُولُواْ } أي الأغنياء { أهؤلاءآء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا } أي أنعم الله عليهم بالإيمان ونحن المقدمون والرؤساء وهم الفقراء إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بينهم بالخير ونحوه(1/328)
{ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } بمن يشكر نعمته .
{ وَإِذَا جَاءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ } إِما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم ، وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم . وكذا قوله { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } من جملة ما يقول لهم ليبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم ومعناه وعدكم بالرحمة وعداً مؤكداً { أَنَّهُ } الضمير للشأن { مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا } ذنباً { بِجَهَالَةٍ } في موضع الحال أي عمله وهو جاهل بما يتعلق به من المضرة ، أو جعل جاهلاً لإيثاره المعصية على الطاعة { ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ } من بعد السوء أو العمل { وَأَصْلَحَ } أخلص توبته { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } { أَنَّهُ } { فَإِنَّهُ } شامي وعاصم . الأول بدل الرحمة ، والثاني خبر مبتدأ محذوف أي فشأنه أنه غفور رحيم . { أَنَّهُ } { فَإِنَّهُ } مدني الأول بدل الرحمة ، والثاني مبتدأ . { إِنَّهُ } { فَإِنَّهُ } غيرهم على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل : إنه من عمل منكم { وكذلك نُفَصَّلُ الآياتِ وَلتستبينَ } وبالياء : حمزة وعلي وأبو بكر { سَبِيلُ المجرمين } بالنصب : مدني . غيره : بالرفع . فرفع السبيل مع التاء والياء لأنها تذكر وتؤنث ، ونصب السبيل مع التاء على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم يقال استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته ، والمعنى ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه ومن يرجى إسلامه ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل .(1/329)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
{ قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي صرفت وزجرت بأدلة العقل والسمع عن عبادة ما تعبدون من دون الله { قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ } أي لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل ، وهو بيان سبب الذي منه وقعوا في الضلال { قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً } أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال { وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين } وما أنا من المهتدين في شيء يعني أنكم كذلك ولما نفي أن يكون الهوى متبعاً نبه على ما يجب اتباعه بقوله { قُلْ إِنّي على بَيّنَةٍ مِّن رَّبّي } أي إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه على حجة واضحة { وَكَذَّبْتُم بِهِ } حيث أشركتم به غيره . وقيل : على بينة من ربي على حجة من جهة ربي وهو القرآن وكذبتم به بالبينة ، وذكر الضمير على تأويل البرهان أو البيان أو القرآن . ثم عقبه بما دل على أنهم أحقاء بأن يعاقبوا بالعذاب فقال { مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } في تأخير عذابكم { يَقُصُّ الحق } حجازي وعاصم أي يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره من قص أثره . الباقون { يَقْضِ الحق } في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل ، والحق صفة لمصدر يقضي وقوله { وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين } أي القاضين بالقضاء الحق إذ الفصل هو القضاء ، وسقوط الياء من الخط لاتباع اللفظ لالتقاء الساكنين { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى } أي في قدرتي وإمكاني { مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } من العذاب { لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي { والله أَعْلَمُ بالظالمين } فهو ينزل عليكم العذاب في وقت يعلم أنه أردع .
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } المفاتح جمع مفتح وهو المفتاح ، أو هي خزائن العذاب والرزق ، أو ما غاب عن العباد من الثواب والعقاب والآجال والأحوال . جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال ، ومن علم مفاتحها وكيفية فتحها توصل إليها فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها فهو المتوصل إلى ما في المخازن . قيل : عنده مفاتح الغيب وعندك مفاتح الغيب ، فمن آمن بغيبه أسبل الله الستر على عيبه { وَيَعْلَمُ مَا فِي البر } من النبات والدواب { والبحر } من الحيوان والجواهر وغيرهما { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } «ما» للنفي و «من» للاستغراق أي يعلم عددها وأحوالها قبل السقوط وبعده { وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظلمات الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } عطف على { وَرَقَةٍ } وداخل في حكمها وقوله { إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ } كالتكرير لقوله { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } لأن معنى { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } ومعنى { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } واحد وهو علم الله أو اللوح .(1/330)
ثم خاطب الكفرة بقوله { وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل } أي يقبض أنفسكم عن التصرف بالتمام في المنام { وَيَعْلَمَ مَا جَرَحْتُم بالنهار } كسبتم فيه من الآثام { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } ثم يوقظكم في النهار ، أو التقدير ثم يبعثكم في النهار ويعلم ما جرحتم فيه فقدم الكسب لأنه أهم ، وليس فيه أنه لا يعلم ما جرحنا بالليل ولا أنه لا يتوفانا بالنهار فدل أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه { ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى } لتوفى الآجال على الاستكمال { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } رجوعكم بالبعث بعد الموت { ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في ليلكم ونهاركم . قال بعض أهل الكلام : أن لكل حاسة من هذه الحواس روحاً تقبض عند النوم ثم ترد إليها إذا ذهب النوم ، فأما الروح التي تحيا بها النفس فإنها لا تقبض إلا عند انقضاء الأجل . والمراد بالأرواح المعاني والقوى التي تقوم بالحواس ويكون بها السمع والبصر والأخذ والمشي والشم . ومعنى { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } أي يوقظم ويرد إليكم أرواح الحواس فيستدل به على منكري البعث لأنه بالنوم يذهب أرواح هذه الحواس ثم يردها إليها فكذا يحيي الأنفس بعد موتها .
{ وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً } ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون ليكون ذلك أزجر للعباد عن ارتكاب الفساد إذا تفكروا أن صحائفهم تقرأ على رؤوس الأشهاد { حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت } «حتى» لغاية حفظ الأعمال أي وذلك دأب الملائكة مع المكلف مدة الحياة إلى أن يأتيه الممات { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } أي استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه { توفيه } و { استوفيه } بالإمالة : حمزة { رُسُلُنَا } أبو عمرو { وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } لا يتوانون ولا يؤخرون { ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله } إلى حكمه وجزائه أي رد المتوفون برد الملائكة { مولاهم } مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم { الحق } العدل الذي لا يحكم إلا بالحق وهما صفتان لله { أَلاَ لَهُ الحكم } يومئذ لا حكم فيه لغيره { وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين } لا يشغله حساب عن حساب يحاسب جميع الخلق في مقدار حلب شاة وقيل : الرد إلى من رباك خير من البقاء مع من آذاك .
{ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ } { يُنَجِّيكُمْ } ابن عباس { مِّن ظلمات البر والبحر } مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما ، أو ظلمات البر الصواعق والبحر الأمواج وكلاهما في الغيم والليل { تَدْعُونَهُ } حال من ضمير المفعول في { يُنَجِّيكُمْ } { تَضَرُّعًا } معلنين الضراعة وهو مصدر في موضع الحال ، وكذا { وَخُفْيَةً } أي مسرين في أنفسكم { خفية } حيث كان : أبو بكر وهما لغتان { وَخُفْيَةً لَّئِنْ أنجانا } عاصم وبالإمالة حمزة وعلي .(1/331)
الباقون { أَنْجَيْتَنَا } والمعنى يقولون لئن خلصنا { مِنْ هذه } الظلمات { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } لله تعالى { قُلِ الله يُنَجّيكُمْ } بالتشديد كوفي { مِّنْهَا } من الظلمات { وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } وغم وحزن { ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } ولا تشكرون .
{ قُلْ هُوَ القادر } هو الذي عرفتموه قادراً أو هو الكامل القدرة فاللام يحتمل العهد والجنس { على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ } كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } كما غرّق فرعون وخسف بقارون ، أو من قبل سلاطينكم وسفلتكم ، أو هو حبس المطر والنبات { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } أو يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى ، كل فرقة منكم مشايعة لإمام . ومعنى خلطهم أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } يقتل بعضكم بعضاً . والبأس السيف وعنه عليه الصلاة والسلام « سألت الله تعالى أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف » { انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الآيات } بالوعد والوعيد { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ } بالقرآن أو بالعذاب { قَوْمُكَ } قريش { وَهُوَ الحق } أي الصدق أو لا بد أن ينزل بهم { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } بحفيظ وكل إليّ أمركم إنما أنا منذر { لِكُلِّ نَبَاءٍ } لكل شيء ينبأ به يعني إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به { مُّسْتَقَرٌّ } وقت استقرار وحصول لا بد منه { وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } تهديد .(1/332)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
{ وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِي ءاياتنا } أي القرآن يعني يخوضون فى الاستهزاء بها والطعن فيها ، وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } ولا تجالسهم وقم عنهم { حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } غير القرآن مما يحل فحينئذ يجوز أن تجالسهم { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان } ما نهيت عنه { يُنسِيَنَّكَ } شامي نسّي وأنسى واحد { فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى } بعد أن تذكر { مَعَ القوم الظالمين * وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم } من حساب هؤلاء الذين يخوضون في القرآن تكذيباً واستهزاء { مِّن شَيْءٍ } أي وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم { ولكن } عليهم أن يذكروهم { ذِكْرِى } إذا سمعوهم يخوضون بالقيام عنهم وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم . ومحل { ذِكْرِى } نصب أي ولكن يذكرونهم ذكرى أي تذكيراً ، أورفع والتقدير ولكن عليهم ذكرى؛ { ذِكْرِى } مبتدأ والخبر محذوف .
{ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم { وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ } الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام { لَعِباً وَلَهْواً } سخروا به واستهزءوا . ومعنى { ذَرْهُمْ } أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ، واللهو ما يشغل الإنسان من هوى أو طرب { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَذَكّرْ بِهِ } وعظ بالقرآن { أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسبها ، وأصل الإبسال المنع { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ } ينصرها بالقوة { وَلاَ شَفِيعٌ } يدفع عنها بالمسألة . ولا وقف على { كَسَبَتْ } في الصحيح لأن قوله { لَيْسَ لَهَا } صفة لنفس والمعنى وذكر بالقرآن كراهة أن تبسل نفس عادمة ولياً وشفيعاً بكسبها { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ } نصب على المصدر وإن تفد كل فداء ، والعدل الفدية لأن الفادي يعدل المفدي بمثله ، وفاعل { لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا } لا ضمير العدل لأن العدل هنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ ، وأما في قوله { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 48 ] فبمعنى المفدى به فصح إسناده إليه { أولئك } إشارة إلى المتخذين من دينهم لعباً ولهواً وهو مبتدأ والخبر { الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ } وقوله { لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ } أي ماء سخين حار خبر ثان ل { أولئك } والتقدير : أولئك المبسلون ثابت لهم شراب من حميم أو مستأنف . { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } بكفرهم .
{ قُلْ } لأبي بكر يقل لابنه عبد الرحمن وكان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان { أَنَدْعُواْ } أنعبد { مِن دُونِ الله } الضار النافع { مَا لاَ يَنفَعُنَا } ما لا يقدر على نفعنا إن دعوناه { وَلاَ يَضُرُّنَا } إن تركنا { وَنُرَدُّ } وأنرد { على أعقابنا } راجعين إلى الشرك { بَعْدَ إِذْ هدانا الله } للإسلام وأنقذنا من عبادة الأصنام { كالذي استهوته الشياطين } كالذي ذهبت به الغيلان ومردة الجن .(1/333)
والكاف في محل النصب على الحال من الضمير في { نُرَدُّ على أعقابنا } أي أننكص مشبهين من استهوته الشياطين وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه { فِي الأرض } في المهمه { حَيْرَانَ } حال من مفعول { استهوته } أي تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع { لَهُ } لهذا المستهوي { أصحاب } رفقة { يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى } إلى أن يهدوه الطريق . سمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له { ائتنا } وقد اعتسف المهمة تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم ، وهذا مبني على ما يقال إن الجن تستهوي الإنسان ، والغيلان تستولي عليه ، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان ، والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم { قُلْ إِنَّ هُدَى الله } وهو الإسلام { هُوَ الهدى } وحده وما وراءه ضلال { وَأُمِرْنَا } محله النصب بالعطف على محل { إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } على أنهما مقولان كأنه قيل : قل هذا القول وقل أمرنا { لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين * وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة } والتقدير : وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإسلام ولإقامة الصلاة { واتقوه وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } يوم القيامة { وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } بالحكمة أو محقاً { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ } على الخبر دون الجواب { قَوْلُهُ الحق } مبتدأ و { يَوْمَ يَقُولُ } خبره مقدماً عليه كما تقول «يوم الجمعة قولك الصدق» أي قولك الصدق كائن يوم الجمعة واليوم بمعنى الحين . والمعنى أنه خلق السماوات والأرض بالحق والحكمة وحين يقول لشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء ، قوله الحق والحكمة أي لا يكوَّن شيئاً من السماوات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب { وَلَهُ الملك } مبتدأ وخبر { يَوْمَ يُنفَخُ } ظرف لقوله { وَلَهُ الملك } { فِي الصور } هو القرن بلغة اليمن أو جمع صورة { عالم الغيب } هو عالم الغيب { والشهادة } أي السر والعلانية { وَهُوَ الحكيم } في الإفناء والإحياء { الخبير } بالحساب والجزاء .
{ وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ ءَازَرَ } هو اسم أبيه أو لقبه لأنه لا خلاف بين النسابين أن اسم أبيه تارخ ، وهو عطف بيان لأبيه وزنه فاعل { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً } استفهام توبيخ أي أتتخذها آلهة وهي لا تستحق الإلهية { إِنّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضلال مُّبِينٍ * وكذلك } أي وكما أريناه قبح الشرك { نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السماوات والأرض } أي نري بصيرته لطائف خلق السماوات والأرض ، ونرى حكاية حال ماضية . والملكوت أبلغ من الملك لأن الواو والتاء تزادان للمبالغة .(1/334)
قال مجاهد : فرجت له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى نظره إلى العرش ، وفرجت له الأرضون السبع حتى نظر إلى ما فيهن { وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } فعلنا ذلك أو ليستدل ، وليكون من الموقنين عياناً كما أيقن بياناً { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل } أي أظلم وهو عطف على { قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ } وقوله : { وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم } جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه { رَءاَ كَوْكَباً } أي الزهرة أو المشتري ، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئاً منها ليس بإله لقيام دليل الحدوث فيها ، ولأن لها محدثاً أحدثها ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها . فلما رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه { قَالَ هذا رَبّي } أي قال لهم هذا ربي في زعمكم ، أو المراد أهذا استهزاء بهم وإنكاراً عليهم ، والعرب تكتفي عن حرب الاستفهام بنغمة الصوت . والصحيح أن هذا قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه لأنه أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ، ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة { فَلَمَّا أَفَلَ } غاب { قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين } أي لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حال إلى حال لأن ذلك من صفات الأجسام { فَلَمَّا رَءَا القمر بَازِغاً } مبتدئاً في الطلوع { قَالَ هذا رَبّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضآلين } نبه قومه على أن من اتخذ القمر إلها فهو ضال ، وإنما احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال لأن الاحتجاج به أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب { فَلَمَّا رَءا الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبّي } وإنما ذكره لأنه أراد الطالع ، أو لأنه جعل المبتدأ مثل الخبر لأنهما شيء واحد معنى ، وفيه صيانة الرب عن شبهة التأنيث ولهذا قالوا في صفات الله تعالى علام ولم يقولوا علامة وإن كان الثاني أبلغ تفادياً من علامة التأنيث { هذا أَكْبَرُ } من باب استعمال النصفة أيضاً مع خصومه { فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنّي بَرِىءٌ مّمَّا تُشْرِكُونَ } من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها . وقيل : هذا كان نظره واستدلاله في نفسه فحكاه الله تعالى ، والأول أظهر لقوله { ياقوم إِنّي بَرِىءٌ مّمَّا تُشْرِكُونَ } { إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِى فَطَرَ السماوات والأرض } أي للذي دلت هذه المحدثات على أنه منشئها { حَنِيفاً } حال أي مائلاً عن الأديان كلها إلى الإسلام { وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين } بالله شيئاً من خلقه .
{ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ } في توحيد الله تعالى ونفى الشركاء عنه { قَالَ أَتُحَآجُّونّي فِي الله } في توحيده .(1/335)
{ أَتُحَاجُّونّي } مدني وابن ذكوان { وَقَدْ هدان } إلى التوحيد ، وبالياء في الوصل : أبو عمرو . ولما خوفوه أن معبوداتهم تصيبه بسوء قال { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبّي شَيْئاً } أي لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة إلا إذا شاء ربي أن يصيبني منها بضر ، فهو قادر على أن يجعل فيما شاء نفعاً وفيما شاء ضراً لا الأصنام { وَسِعَ رَبّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } فلا يصيب عبداً شيء من ضر أو نفع إلا بعلمه { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } فتميزوا بين القادر والعاجز { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ } معبوداتكم وهي مأمونة الخوف { وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ } بإشراكه { عَلَيْكُمْ سلطانا } حجة إذ
الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة ، والمعنى وما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف { فَأَيُّ الفريقين } أي فريقي الموحدين والمشركين { أَحَقُّ بالأمن } من العذاب { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ولم يقل «فأينا» احترازاً من تزكية نفسه ، ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله { الذين ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ } بشرك عن الصديق رضي الله عنه { أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } تم كلام إبراهيم عليه السلام .(1/336)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا } إشارة إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل } إلى قوله { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } { ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ } وهو خبر بعد خبر { نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاءُ } في العلم والحكمة وبالتنوين كوفي وفيه نقض قول المعتزلة في الأصلح { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } بالرفع { عَلِيمٌ } بالأهل .
{ وَوَهَبْنَا لَهُ } لإبراهيم { إسحاق وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا } أي كلهم وانتصب { كَلاَّ } ب { هَدَيْنَا } { وَنُوحاً هَدَيْنَا } أي وهدينا نوحاً { مِن قَبْلُ } من قبل إبراهيم { وَمِن ذُرّيَّتِهِ } الضمير لنوح أو لإبراهيم ، والأوّل أظهر لأن يونس ولوطاً لم يكونا من ذرية إبراهيم { دَاوُدَ وسليمان وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وهارون } والتقدير : وهدينا من ذريته هؤلاء { وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } ونجزي المحسنين جزاء مثل ذلك ، فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف { وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ } أي كلهم { مِّنَ الصالحين } وذكر عيسى معهم دليل على أن النسب يثبت من قبل الأم أيضاً لأنه جعله من ذرية نوح عليه السلام وهو لا يتصل به إلا بالأم ، وبذا أجيب الحجاج حين أنكر أن يكون بنو فاطمة أولاد النبي عليه السلام { وإسماعيل واليسع } { والليسع } حيث كان بلامين : حمزة وعلي { واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين } بالنبوة والرسالة { وَمِنْ ءَابَائِهِمْ } في موضع النصب عطفاً على { كُلاَّ } أي وفضلنا بعض آبائهم { وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ * ذلك } أي ما دان به هؤلاء المذكورون { هُدَى الله } دين الله { يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } فيه نقض قول المعتزلة لأنهم يقولون إن الله شاء هداية الخلق كلهم لكنهم لم يهتدوا { وَلَوْ أَشْرَكُواْ } مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات العلى { لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لبطلت أعمالهم كما قال { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ]
أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب } يريد الجنس { والحكم } والحكمة أو فهم الكتاب { والنبوة } وهي أعلى مراتب البشر { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا } بالكتاب والحكم والنبوة أو بآيات القرآن { هؤلاءآء } أي أهل مكة { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً } هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } أو أصحاب النبي عليه السلام ، أوكل من آمن به أو العجم . ومعنى توكيلهم بها أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه . والباء في { لَّيْسُواْ بِهَا } صلة { كافرين } وفي { بكافرين } لتأكيد النفي { أولئك الذين هَدَى الله } أي الأنبياء الذين مر ذكرهم { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } فاختص هداهم بالاقتداء ولا تقتد إلا بهم ، وهذا معنى تقديم المفعول .(1/337)
والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع فهي مختلفة ، والهاء في { اقتده } للوقف تسقط في الوصل ، واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في المصحف ويحذفها حمزة . وعلى في الوصل ويختلسها : شامي . { قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ } على الوحي أو على تبليغ الرسالة والدعاء إلى التوحيد { أَجْراً } جعلاً . وفيه دليل على أن أخذ الأجر على تعليم القرآن ورواية الحديث لا يجوز { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى للعالمين } ما القرآن إلا عظة للجن والإنس { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَيْءٍ } أي ما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم ، وذلك من أعظم رحمته { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] رُوي أن جماعة من اليهود منهم مالك بن الصيف كانوا يجادلون النبي عليه السلام فقال النبي عليه السلام له « أليس في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين » قال : نعم . قال : « فأنت الحبر السمين » فغضب وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء . و { حَقَّ قَدْرِهِ } منصوب نصب المصدر .
{ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذى جَاء بِهِ موسى نُوراً } حال من الضمير في { بِهِ } أو { مِّنَ الكتاب } { وَهُدًى لّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قراطيس تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } مما فيه نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعضوه وجعلوه قراطيس مقطعة وورقات مفرقة ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء . وبالياء في الثلاثة : مكي وأبو عمرو { وَعُلِّمْتُمْ } يا أهل الكتاب بالكتاب { مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَاؤُكُمْ } من أمور دينكم ودنياكم { قُلِ الله } جواب أي أنزله الله فإنهم لا يقدرون أن يناكروك { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ } في باطلهم الذي يخوضون فيه { يَلْعَبُونَ } حال من { ذَرْهُمْ } أو { مِنْ خَوْضِهِمْ } { وهذا كتاب أنزلناه } على نبينا عليه السلام { مُّبَارَكٌ } كثير المنافع والفوائد { مُّصَدِّقُ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب { وَلِتُنذِرَ } وبالياء : أبو بكر ، أي الكتاب وهو معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار { أُمَّ القرى } مكة ، وسميت أم القرى لأنها سرة الأرض وقبلة أهل القرى وأعظمها شأناً ولأن الناس يؤمونها { وَمَنْ حَوْلَهَا } أهل الشرق والغرب { والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة } يصدقون بالعاقبة ويخافونها { يُؤْمِنُونَ بِهِ } بهذا الكتاب فأصل الدين خوف العاقبة فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن { وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } خصت الصلاة بالذكر لأنها علم الإيمان وعماد الدين فمن حافظ عليها يحافظ على أخواتها ظاهراً .(1/338)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } هو مالك بن الصيف { أَوْ قَالَ أُوْحِي إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } هو مسيلمة الكذاب { وَمَن قَالَ } في موضع جر عطف على { مَنِ افترى } أي وممن قال { سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله } أي سأقول وأملي هو عبد الله بن سعد ابن أبي سرح كاتب الوحي ، وقد أملى النبي عليه السلام عليه { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } إلى { خَلْقاً ءاخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] فجرى على لسانه { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] . فقال عليه السلام : " اكتبها فكذلك نزلت " فشك وقال : إن كان محمد صادقاً فقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، وإن كان كاذباً فقد قلت كما قال ، فارتد ولحق بمكة . أو النضر ابن الحرث كان يقول : والطاحنات طحناً فالعاجنات عجناً فالخابزات خبزاً كأنه يعارض { وَلَوْ ترى } جوابه محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً { إِذِ الظالمون } يريد الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة فتكون اللام للعهد ، ويجوز أن تكون للجنس فيدخل هؤلاء لاشتماله { فِي غَمْرَاتِ الموت } شدائده وسكراته { والملائكة بَاسِطُوآ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ } أي يبسطون إليهم أيديهم يقولون : هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم ، وهذه عبارة عن التشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال { اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون } أرادوا وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع . والهون : الهوان الشديد وإضافة العذاب إليه كقولك «رجل سوء» يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه { بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق } من أن له شريكاً وصاحبة وولداً . { غَيْرَ الحق } مفعول { تَقُولُونَ } أو وصف لمصدر محذوف أي قولاً غير الحق { وَكُنتُمْ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ } فلا تؤمنون بها { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا } للحساب والجزاء { فرادى } منفردين بلا مال ولا معين وهو جمع فريد كأسير وأسارى { كَمَا خلقناكم } في محل النصب صفة لمصدر { جِئْتُمُونَا } أي مجيئاً مثل ما خلقناكم { أَوَّلَ مَرَّةٍ } على الهيئات التي ولدتم عليها في الانفراد { وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم } ملكناكم { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } ولم تحتملوا منه نقيراً { وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شركاوءا } في استعبادكم { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } بينكم وصلكم عن الزجاج والبين : الوصل والهجر قال
فوالله لولا البين لم يكن الهوى ... ولولا الهوى ما حن للبين الف
بَيْنِكُمْ } مدني وعلي وحفص أي وقع التقطع بينكم { وَضَلَّ عَنكُم } وضاع وبطل { مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أنها شفعاؤكم عند الله .
{ إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى } بالنبات والشجر أي فلق الحب عن السنبلة والنواة عن النخلة ، والفلق : الشق ، وعن مجاهد : أراد الشقين اللذين في النواة والحنطة { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } النبات الغض النامي من الحب اليابس { وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } الحب اليابس من النبات النامي ، أو الإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان ، أو المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، فاحتج الله عليهم بما يشاهدونه من خلقه لأنهم أنكروا البعث فأعلمهم أنه الذي خلق هذه الأشياء فهو يقدر على بعثهم .(1/339)
وإنما قال { وَمُخْرِجُ الميت } بلفظ اسم الفاعل لأنه معطوف على فالق الحب لا على الفعل { وَيُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } موقعه موقع الجملة المبينة لقوله { فَالِقُ الحب والنوى } لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي في حكم الحيوان دليله قوله : { ويحيي الأرض بعد موتها } [ الروم : 19 ] . { ذلكم الله } ذلكم المحيي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية لا الأصنام { فأنى تُؤْفَكُونَ } فكيف تصرفون عنه وعن تواليه إلى غيره بعد وضوح الأمر بما ذكرنا { فَالِقُ الإصباح } هو مصدر سمي به الصبح أي شاق عمود الصبح عن سواد الليل أو خالق نور النهار { وَجَعَلَ اليل } { وَجَعَلَ اليل } كوفي لأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى المضي ، فلما كان فالق بمعنى فلق عطف عليه { جَعَلَ } لتوافقهما معنى { سَكَناً } مسكوناً فيه من قوله { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } [ يونس : 67 ] أي ليسكن فيه الخلق عن كد المعيشة إلى نوم الغفلة ، أو عن وحشة الخلق إلى الأنس بالحق { والشمس والقمر } انتصبا بإضمار فعل يدل عليه جاعل الليل أي وجعل الشمس والقمر { حُسْبَاناً } أي جعلهما على حسبان لأن حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما . والحسبان بالضم مصدر حسب كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب { ذلك } إشارة إلى جعلهما حسباناً أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم { تَقْدِيرُ العزيز } الذي قهرهما وسخرهما { العليم } بتدبيرهما وتدويرهما { وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم } خلقها { لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظلمات البر والبحر } أي في ظلمات الليل بالبر وبالبحر ، وأضافها إليهما لملابستها لهما أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } قد بينا الآيات الدالة على التوحيد لقوم يعلمون .
{ وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ واحدة } هي آدم عليه السلام { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } { فَمُسْتَقَر } بالكسر : مكي وبصري . فمن فتح القاف كان المستودع اسم مكان مثله ، ومن كسرها كان اسم فاعل والمستودع اسم مفعول يعني فلكم مستقر في الرحم ومستودع في الصلب ، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها ، أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } وإنما قيل { يَعْلَمُونَ } ثم { يَفْقَهُونَ } هنا لأن الدلالة ثمّ أظهر وهنا أدق ، لأن إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة أدق فكان ذكر الفقه الدال على تدقيق النظر أوفق { وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً } من السحاب مطراً { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } بالماء { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } نبت كل صنف من أصناف النامي أي السبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف مختلفة { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } من النبات { خَضِْرًا } أي شيئاً غضاً أخضر .(1/340)
يقال أخضر وخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة { نُّخْرِجُ مِنْهُ } من الخضر { حَبّاً مُّتَرَاكِباً } وهو السنبل الذي تراكب حبه { وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قنوان } هو رفع بالابتداء { وَمِنَ النخل } خبره و { مِن طَلْعِهَا } بدل منه كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو جمع قنو وهو العذق نظيره «صنو» و «صنوان» . { دَانِيَةٌ } من المجتني لانحنائها بثقل حملها أو لقصر ساقها ، وفيه اكتفاء أي وغير دانية لطولها كقوله { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] { وجنات } بالنصب عطفاً على { نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ } أي وأخرجنا به جنات { مِّنْ أعناب } أي مع النخل وكذا { والزيتون والرمان } { وجنات } بالرفع : الأعشى أي وثم جنات من أعناب أي مع النخل { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه } يقال اشتبه الشيئان وتشابها نحو استويا وتساويا ، والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً وتقديره : والزيتون متشابهاً وغير متشابه ، والرمان كذلك يعني بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللون والطعم { انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضعيفاً لا ينتفع به { وَيَنْعِهِ } ونضجه أي انظروا إلى حال نضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع ، نظر اعتبار واستدلال على قدرة مقدره ومدبره وناقله من حال إلى حال .
{ إِنَّ فِي ذلكم لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } { ثَمَرِهِ } وكذا ما بعده : حمزة وعلي جمع ثمار فهو جمع الجمع يقال : ثمرة وثمر وثمار وثمر .
{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ الجن } إن جعلت { لِلَّهِ شُرَكَاءَ } مفعولي { جَعَلُواْ } كان { الجن } بدلاً من { شُرَكَاء } وإلا كان { شُرَكَاء الجن } مفعولين قدم ثانيهما على الأوّل ، وفائدة التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو غير ذلك ، والمعنى أنهم أطاعوا الجن فيما سولت لهم من شركهم فجعلوهم شركاء لله { وَخَلَقَهُمْ } أي وقد خلق الجن فكيف يكون المخلوق شريكاً لخالقه؟ والجملة حال ، أو وخلق الجاعلين لله شركاء فكيف يعبدون غيره؟ { وَخَرَقُواْ لَهُ } أي اختلقوا يقال : خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه بمعنى ، أو هو من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له { بَنْيَنَ } كقول أهل الكتابين في المسيح وعزير { وَبَنَاتٍ } كقول بعض العرب في الملائكة . { وَخَرَقُواْ } بالتشديد للتكثير : مدني لقوله { بَنِينَ وَبَنَاتٍ } { بِغَيْرِ عِلْمٍ } من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوا من خطأ أو صواب ولكن رمياً بقول عن جهالة ، وهو حال من فاعل { خرقوا } أي جاهلين بما قالوا { سبحانه وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ } من الشريك والولد { بَدِيعُ السماوات والأرض } يقال بدُع الشيء فهو بديع وهو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها يعني بديع سمواته وأرضه ، أو هو بمعنى المبدع أي مبدعها وهو خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } أو هو فاعل { تَعَالَى } { وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة } أي من أين يكون له ولد والولد لا يكون إلا من صاحبة ولا صاحبة له ، ولأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون له ولد { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي ما من شيء إلا وهو خالقه وعالمه ومن كان كذلك كان غنياً عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج { ذلكم } إشارة إلى الوصوف بما تقدم من الصفات وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي { الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلِّ شَيْءٍ } وقوله { فاعبدوه } مسبب عن مضمون الجملة أي من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه { وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي هو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأَرزاق والآجال رقيب على الأعمال { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } لا تحيط به أو أبصار من سبق ذكرهم .(1/341)
وتشبث المعتزلة بهذه الآية لا يستتب لأن المنفي هو الإدراك لا الرؤية ، والإدراك هو الوقوف على جوانب المرئي وحدوده ، وما يستحيل عليه الحدود والجهات يستحيل إدراكه لا رؤيته ، فنزل الإدراك من الرؤية منزلة الإحاطة من العلم ، ونفى الإحاطة التي تقتضي الوقوف على الجوانب والحدود لا يقتضي نفي العلم به فهكذا هذا ، على أن مورد الآية وهو التمدح يوجب ثبوت الرؤية إذ نفي إدراك ما تستحيل رؤيته لا تمدح فيه لأن كل ما لا يرى لا يدرك ، وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية إذ انتفاؤه مع تحقق الرؤية دليل ارتفاع نقيصة التناهي والحدود عن الذات ، فكانت الآية حجة لنا عليهم . ولو أمعنوا النظر فيها لاغتنموا التقصي عن عهدتها ، ومن ينفي الرؤية يلزمه نفي أنه معلوم موجود وإلا فكما يعلم موجوداً بلا كيفية وجهة بخلاف كل موجود لم يجز أن يرى بلا كيفية وجهة بخلاف كل مرئي ، وهذا لأن الرؤية تحقق الشيء بالبصر كما هو ، فإن كان المرئي في الجهة يرى فيها وإن كان لا في الجهة يرى لا فيها { وَهُوَ } للطف إدراكه { يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف } أي العالم بدقائق الأمور ومشكلاتها { الخبير } العليم بظواهر الأشياء وخفياتها وهو من قبيل اللف والنشر .(1/342)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
{ قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } البصيرة نور القلب الذي به يستبصر القلب كما أن البصر نور العين الذي به تبصر أي جاءكم من الوحي والتنبيه ما هو للقلوب كالبصائر { فَمَنْ أَبْصَرَ } الحق وآمن { فَلِنَفْسِهِ } أبصر وإياها نفع { وَمَنْ عَمِيَ } عنه وضل { فَعَلَيْهَا } فعلى نفسه عمى وإياها ضر بالعمى { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم . الكاف في { وكذلك نُصَرّفُ الآيات } في موضع نصب صفة المصدر المحذوف أي نصرف الآيات تصريفاً مثل ما تلونا عليك { وَلِيَقُولُواْ } جوابه محذوف أي وليقولوا { دَرَسْتَ } نصرفها ومعنى { دَرَسْتَ } قرأت كتب أهل الكتاب . { دارست } مكي وأبو عمرو أي دارست أهل الكتاب . { دَرَسْتَ } شامي أي قدمت هذه الآية ومضت كما { قالوا أساطير الأولين } { وَلِنُبَيِّنَهُ } أي القرآن وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوماً أو الآيات لأنها في معنى القرآن . قيل : اللام الثانية حقيقة ، والأولى لام العاقبة والصيرورة أي لتصير عاقبة أمرهم إلى أن يقولوا درست وهو كقوله { فالتقطه ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] وهم لم يلتقطوه للعداوة وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى العداوة ، فكذلك الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا درست ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين فشبه به . وقيل : ليقولوا كما قيل لنبينه وعندنا ليس كذلك لما عرف { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } الحق من الباطل { اتبع مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } ولا تتبع أهواءهم { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } اعتراض أكد به إيجاب اتباع الوحي لا محل له من الإعراب أو حال { مِن رَبِّكَ } مؤكدة { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } في الحال إلى أن يرد الأمر بالقتال { وَلَوْ شَاءَ الله } أي إيمانهم فالمفعول محذوف { مَا أَشْرَكُواْ } بيّن أنهم لا يشركون على خلاف مشيئة الله ولو علم منهم اختيار الإيمان لهداهم إليه ولكن علم منهم اختيار الشرك فشاء شركهم فأشركوا بمشيئته { وَمَا جعلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } مراعياً لأعمالهم مأخوذاً بإجرامهم { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } بمسلط .
وكان المسلمون يسبون آلهتهم فنهوا عنه لئلا يكون سبهم سبباً لسب الله بقوله :
{ وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله } منصوب على جواب النهي { عَدْوَاً } ظلماً وعدواناً { بِغَيْرِ عِلْمٍ } على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به { كذلك } مثل ذلك التزيين { زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ } من أمم الكفار { عَمَلَهُمْ } وهو كقوله { أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء }(1/343)
[ فاطر : 8 ] وهو حجة لنا في الأصلح { ثُمَّ إلى رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ } مصيرهم { فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فيخبرهم بما عملوا ويجزيهم عليه { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } جهد مصدر وقع موقع الحال أي جاهدين في الإتيان بأوكد الأيمان { لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ } من مقترحاتهم { لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله } وهو قادر عليها لا عندي فكيف آتيكم بها { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } وما يدريكم { إنَّهَا } أن الآية المقترحة { إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بها يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تعلمون ذلك ، وكان المؤمنون يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال الله تعالى : وما يدريكم أنهم لا يؤمنون على معنى إنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون { أَنَّهَا } بالكسر : مكي وبصري وأبو بكر على أن الكلام تم قبله أي وما يشعركم ما يكون منهم ، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال : إنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة . ومنهم من جعل «لا» مزيدة في قراءة الفتح كقوله { وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 95 ] . { لاَ تُؤْمِنُونَ } شامي وحمزة . { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ } عن قبول الحق { وأبصارهم } عن رؤية الحق عند نزول الآية التي اقترحوها فلا يؤمنون بها . قيل : هو عطف على { لاَ يُؤْمِنُونَ } داخل في حكم { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } أي وما يشعركم أنهم لا يؤمنون وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } كما كانوا عند نزول آياتنا أولا لا يؤمنون بها { وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قيل : وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم يعمهون يتحيرون .
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة } كما قالوا : لولا أنزل علينا الملائكة { وَكَلَّمَهُمُ الموتى } كما قالوا فأتوا بآبائنا { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ } جمعنا { كُلَّ شَيْء قُبُلاً } كفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا جمع قبيل وهو الكفيل { قُبُلاً } مدني وشامي أي عياناً وكلاهما نصب على الحال { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله } إيمانهم فيؤمنوا وهذا جواب لقول المؤمنين لعلهم يؤمنون بنزول الآية { ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } أي هؤلاء لا يؤمنون إذا جاءتهم الآية المقترحة .
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوّاً } وكما جعلنا لك أعداء من المشركين جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء أعداء لما فيه من الابتلاء الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر وانتصب { شياطين الإنس والجن } على البدل من { عَدُوّا } أو على أنه من المفعول الأول و { عَدُوّا } مفعول ثانٍ { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، وكذلك بعض الجن إلى بعض ، وبعض الإنس إلى بعض ، وعن مالك بن دينار : إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً .(1/344)
وقال عليه السلام « قرناء السوء شر من شياطين الجن » { زُخْرُفَ القول } ما زينوه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي { غُرُوراً } خدعاً وأخذاً على غرة وهو مفعول له { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } أي الإيحاء يعني ولو شاء الله لمنع الشياطين من الوسوسة ولكنه امتحن بما يعلم أنه أجزل في الثواب { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } عليك وعلى الله فإن الله يخزيهم وينصرك ويجزيهم { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } ولتميل إلى زخرف القول قلوب الكفار وهي معطوفة على { غُرُوراً } أي ليغروا ولتصغي إليه { وَلِيَرْضَوْهُ } لأنفسهم { وَلِيَقْتَرِفُواْ مَاهُم مُّقْتَرِفُونَ } من الآثام { أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً } أي قل يا محمد أفغير الله أطلب حاكماً يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل { وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب } المعجز { مُفَصَّلاً } حال من الكتاب أي مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء . ثم عضد الدلالة على أن القرآن حق بعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه ما عندهم وموافقته له بقوله { والذين ءاتيناهم الكتاب } أي عبد الله بن سلام وأصحابه { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ } شامي وحفص { مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } الشاكين فيه أيها السامع ، أو فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق ولا يَرِبْكَ جحود أكثرهم وكفرهم به .(1/345)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } أي ما تكلم به . { كلمات رَبّكَ } حجازي وشامي وأبو عمرو أي تم كل ما أخبر به وأمر ونهي ووعد وأوعد { صِدْقاً } في وعده ووعيده { وَعَدْلاً } في أمره ونهيه . وانتصبا على التمييز أو على الحال { لاَ مُبَدّلَ لكلماته } لا أحد يبدل شيئاً من ذلك { وَهُوَ السميع } لإقرار من أقر { العليم } بإصرار من أصر أو السميع لما يقولون العليم بما يضمرون .
{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض } أي الكفار لأنهم الأكثرون { يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله } دينه { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق فهم يقلدونهم { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } يكذبون في أن الله حرم عليهم كذا وأحل لهم كذا { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } أي هو يعلم الكفار والمؤمنين . من رفع بالابتداء ولفظها لفظ الاستفهام والخبر { يَضِلُّ } وموضع الجملة نصب ب «يعلم» المقدر لا ب { أَعْلَمُ } لأن أفعل لا يعمل في الاسم الظاهر النصب ويعمل الجر . وقيل : تقديره أعلم بمن يضل بدليل ظهور الباء بعده في بالمهتدين { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُم بئاياته مُّؤْمِنِينَ } هو مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال ، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم . فقيل للمسلمين : إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه خاصة أي على ذبحه دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم أو مات حتف أنفه { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ } «ما» استفهام في موضع رفع بالابتداء و { لَكُمْ } الخبر أي وأي غرض لكم في أن لا تأكلوا { مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم } بين لكم { مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } مما لم يحرم بقوله { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] { فَصْلٌ } و { حَرَّمَ } كوفي غير حفص وبفتحهما مدني وحفص وبضمهما غيرهم { إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ } مما حرم عليكم فإنه حلال لكم في حال الضرورة أي شدة المجاعة إلى أكله { وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ } { ليضلون } كوفي { بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي يضلون فيحرمون ويحللون بأهوائهم وشهواتهم من غير تعلق بشريعة { إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين } بالمتجاوزين من الحق إلى الباطل .
{ وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ } علانيته وسره أو الزنا في الحوانيت والصديقة في السر أو الشرك الجلي والخفي { إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ } يوم القيامة { بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ } يكتسبون في الدنيا { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } عند الذبح { وَأَنَّهُ } وإن أكله { لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ } ليوسوسون { إلى أَوْلِيَائِهِمْ } من المشركين { ليجادلوكم } بقولهم لا تأكلون مما قتله الله وتأكلون مما تذبحون بأيديكم ، والآية تحرم متروك التسمية وخصت حالة النسيان بالحديث أو بجعل الناسي ذاكراً تقديراً { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } في استحلال ما حرمه الله { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } لأن من اتبع غير الله في دينه فقد أشرك به ، ومن حق المتدين أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه لما في الآية من التشديد العظيم .(1/346)
ومن أوّل الآية بالميتة وبما ذكر غير اسم الله عليه لقوله { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } وقال : إن الواو في { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } للحال لأن عطف الجملة الاسمية على الفعلية لا يحسن فيكون التقدير : ولا تأكلوا منه حال كونه فسقاً والفسق مجمل فبين بقوله { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } فصار التقدير ولا تأكلوا منه حال كونه مهلاً لغير الله به فيكون ما سواه حلالاً بالعمومات المحلة منها قوله { قُل لا أَجِدُ } أي كافراً فهديناه لأن الإيمان حياة القلوب { مَيْتًا } مدني { وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناس } مستضيئاً به والمراد به اليقين { كَمَن مَّثَلُهُ } أي صفته { فِي الظلمات } أي خابط فيها { لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا } لا يفارقها ولا يتخلص منها وهو حال . قيل : المراد بهما حمزة وأبو جهل . والأصح أن الآية عامة لكل من هداه الله ولكل من أضله الله ، فبين أن مثل المهتدي مثل الميت الذي أحيي وجعل مستضيّئاً يمشي في الناس بنور الحكمة والإيمان ، ومثل الكافر مثل من هو في الظلمات التي لا يتخلص منها { كذلك } أي كما زين للمؤمن إيمانه { زُيّنَ للكافرين } بتزيين الله تعالى كقوله { زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم } [ النمل : 4 ] { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي أعمالهم .
{ وكذلك } أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا الناس فيها { جَعَلْنَا } صيرنا { فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } ليتجبروا على الناس فيها ويعملوا بالمعاصي . واللام على ظاهرها عند أهل السنة وليست بلام العاقبة ، وخص الأكابر وهم الرؤساء لأن ما فيهم من الرياسة والسعة أدعى لهم إلى المكر والكفر من غيرهم ، دليله { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض } [ الشورى : 27 ] ثم سلى رسوله عليه السلام ووعد له النصرة بقوله { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ } لأن مكرهم يحيق بهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } أنه يحيق بهم { أكابر } مفعول أول والثاني { فِي كُلِّ قَرْيَةٍ } و { مُجْرِمِيهَا } بدل من { أكابر } أو الأول { مُجْرِمِيهَا } والثاني { أكابر } والتقدير : مجرميها أكابر .(1/347)
ولما قال أبو جهل : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحي إليه والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، نزل { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ } أي الأكابر { ءَايَةً } معجزة أو آية من القرآن بالإيمان { قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله } أي نعطي من الآيات مثل ما أعطي الأنبياء فأعلم الله تعالى أنه أعلم بمن يصلح للنبوة فقال تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } مكي وحفص { رسالاته } : غيرهما { حَيْثُ } مفعول به والعامل محذوف والتقدير يعلم موضع رسالته .
{ سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ } من أكابرها { صَغَارٌ } ذل وهو إن { عَندَ الله } في القيامة { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ } في الدارين من القتل والأسر وعذاب النار { بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } في الدنيا { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام } يوسعه وينور قلبه . قال عليه السلام « إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح » قيل وما علامة ذلك قال « الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت » { وَمَن يُرِدِ } أي الله { أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً } { ضَيقاً } مكي { حَرَجاً } { حَرِجاً } صفة ل { ضَيّقاً } مدني وأبو بكر بالغافي الضيق { حَرَجاً } غيرهما وصفاً بالمصدر { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السماء } كأنه كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه إذا ضاقت عليه الأرض ، فطلب مصعداً في السماء أو كعازب الرأي طائر القلب في الهواء { يَصْعَدُ } مكي { يصّاعد } أبو بكر وأصله يتصاعد الباقون { إِلَيْهِ يَصّعّد } وأصله يتصعد { كذلك يَجْعَلُ الله الرجس } العذاب في الآخرة واللعنة في الدنيا { عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } والآية حجة لنا على المعتزلة في إرادة المعاصي { وهذا صراط رَبِّكَ } أي طريقه الذي اقتضته الحكمة وسنته في شرح صدر من أراد هدايته وجعله ضيقاً لمن أراد ضلاله { مُّسْتَقِيماً } عادلاً مطرداً وهو حال مؤكدة { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } يتعظون .
{ لَهُمْ } أي لقوم يذكرون { دَارُ السلام } دار الله يعني الجنة أضافها إلى نفسه تعظيماً لها ، أو دار السلامة من كل آفة وكدر ، أو السلام التحية سميت دار السلام لقوله : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } [ يونس : 10 ] . { إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما } [ الواقعة : 26 ] { عِندَ رَبِّهِمْ } في ضمانة { وَهُوَ وَلِيُّهُم } محبهم أو ناصرهم على أعدائهم { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بأعمالهم أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون أو هو ولينا في الدنيا بتوفيق الأعمال وفي العقبى بتحقيق الآمال .(1/348)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } وبالياء حفص أي واذكر يوم نحشرهم أو ويوم نحشرهم قلنا { جَمِيعًا يامعشر الجن قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس } أضللتم منهم كثيراً وجعلتموهم أتباعكم كما تقول استكثر الأمير من الجنود { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس } الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم { رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها ، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم في أغوائهم { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا } يعنون يوم البعث وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى ، والتكذيب بالبعث وتحسر على حالهم { قَالَ النار مَثْوَاكُمْ } منزلكم { خالدين فِيهَا } حال والعامل معنى الاضافة كقوله تعالى { أَنَّ دَابِرَ هؤلاءآء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] ف { مُّصْبِحِينَ } حال من هؤلاء والعامل في الحال معنى الاضافة إذ معناه الممازجة والمضامّة والمثوى ليس بعامل لأن المكان لا يعمل في شيء { إِلاَّ مَا شَاءَ الله } أي يخلّدون في عذاب النار الأبد كله إلا ما شاء اللّه إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب السعير إلى عذاب الزمهرير { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } فيما يفعل بأوليائه وأعدائه { عَلِيمٌ } بأعمالهم فيجزي كلاً على وفق عمله { وكذلك نُوَلّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً } نتبع بعضهم بعضاً في النار ، أو نسلط بعضهم على بعض أو نجعل بعضهم أولياء بعض { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي ، ثم يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ { يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } عن الضحاك : بعث إلى الجن رسلا منهم كما بعث إلى الإنس رسلاً منهم لأنهم بهم آنس وعليه ظاهر النص ، وقال آخرون : الرسل من الإنس خاصة وإنما قيل { رُسُلٌ مّنكُمْ } لأنه لما جمع الثقلين في الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] أو رسلهم رسل نبينا كقوله { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [ الأحقاف : 29 ] { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتي } يقرءون كتبي { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذا } يعني يوم القيامة { قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } بوجوب الحجة علينا وتبليغ الرسل إلينا { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين } بالرسل .
{ ذلك } إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك { أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون } تعليل أي الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم على أن «أن» مصدرية ، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة ، والمعنى لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم بسبب ظلم أقدموا عليه أو ظالماً ، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبهوا برسول وكتاب لكان ظالماً وهو متعال عنه { وَلِكُلٍّ } من المكلفين { درجات } منازل { مّمَّا عَمِلُواْ } من جزاء أعمالهم ، وبه استدل أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على أن للجن الثواب بالطاعة لأنه ذكر عقيب ذكر الثقلين { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } بساه عنه وبالتاء شامي .(1/349)
{ وَرَبُّكَ الغني } عن عباده وعن عبادتهم { ذُو الرحمة } عليهم بالتكليف ليعرِّضهم للمنافع الدائمة { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أيها الظلمة { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ } من الخلق المطيع { كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ } من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام { إِنَّ مَا } ما بمعنى الذي { تُوعَدُونَ } من البعث والحساب والثواب والعقاب { لآتٍ } خبر «إن» أي لكائن { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } بفائتين رد لقولهم من مات فقد فات . المكانة تكون مصدراً يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن ، وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة وقوله { قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، واعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، ويقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله : على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه { إِنّي عامل } على مكانتي التي أنا عليها أي اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم وهو أمر تهديد ووعيد ، دليله قوله { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار } أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة ، وهذا طريق لطيف في الإنذار { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } أي الكافرون { مكاناتكم } حيث كان : أبو بكر { يَكُونَ } حمزة وعلي . وموضع { منْ } رفع إذا كان بمعنى «أي» وعلق عنه فعل العلم ، أو نصب إذا كان بمعنى الذي { وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } أي وللأصنام نصيباً فاكتفى بدلالة قوله تعالى { فَقَالُواْ هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَائِنَا } { يزعمهم } علي . وكذا ما بعده أي زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة { لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله } أي لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين { وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ } من إنفاقهم عليها والإجراء على سدنتها . رُوي أنهم كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله وأشياء منهما لآلهتهم ، فإذا رأوا ما جعلوا لله زاكياً نامياً رجعوا فجعلوه للأصنام ، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها وقالوا : إن الله غني ، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها . وفي قوله { مِمَّا ذَرَأَ } إشارة إلى أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي لأنه هو الذي ذرأه .(1/350)
ثم ذم صنيعهم بقوله { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } في إيثار آلهتهم على الله وعملهم على ما لم يشرع لهم . وموضع «ما» رفع أي ساء الحكم . حكمهم بأو نصب أي ساء حكماً حكمهم .
{ وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين } أي كما زين لهم تجزئة المال زين وأد البنات { قَتْلَ } هو مفعول زين { أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ } هو فاعل زين ، { زُيِّنَ } بالضم { قَتْلَ } بالرفع { أولادهم } بالنصب { شُرَكَائِهِمْ } بالجر : شامي على إضافة القتل إلى الشركاء أي الشياطين والفصل بينهما بغير الظرف وهو المفعول وتقديره : زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم { لِيُرْدُوهُمْ } ليهلكوهم بالإغواء { وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } وليخلطوا عليهم ويشوبوه ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل حتى زلوا عنه إلى الشرك { وَلَوْ شَاء الله مَا فَعَلُوهُ } وفيه دليل على أن الكائنات كلها بمشيئة الله تعالى { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } وما يفترونه من الإفك ، أو وافتراءهم لأن ضرر ذلك الافتراء عليهم لا عليك ولا علينا { وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ } للأوثان { حِجْرٍ } حرام فعل بمعنى المفعول كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات ، وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا { لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ } يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء ، والزعم قول بالظن يشوبه الكذب { وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا } هي البحائر والسوائب والحوامي { وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا } حالة الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام { افتراء عَلَيْهِ } هو مفعول له أو حال أي قسموا أنعامهم قسم حجر ، وقسم لا يركب ، وقسم لا يذكر اسم الله عليها ونسبوا ذلك إلى الله افتراء عليه { سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } وعيد { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب : ما ولد منها حياً فهو خالص للذكور لا يأكل منه الإناث ، وما ولد ميتاً اشترك فيه الذكور والإناث . وأنث { خَالِصَةٌ } وهو خبر «ما» للحمل على المعنى لأن «ما» في معنى الأجنة ، وذكر { وَمُحَرَّمٌ } حملاً على اللفظ أو التاء للمبالغة كنسابة { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } أي وإن يكن ما في بطونها ميتة . { وَأَنْ تَكُنْ مَيْتَةً } أبو بكر أي وإن تكن الأجنة ميتة ، { وَإِنْ تَكُنْ مَيْتَةً } شامي على «كان» التامة ، { يَكُن مَّيْتَةً } مكي لتقدم الفعل . وتذكير الضمير في { فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ } لأن الميتة اسم لكل ميت ذكر أو أنثى فكأنه قيل : وإن يكن ميت فهم فيه شركاء { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } جزاء وصفهم الكذب على الله في التحريم { إِنَّهُ حَكِيمٌ } في جزائهم { عَلِيمٌ } باعتقادهم { قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم } كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر { قَتَّلُواْ } مكي وشامي { سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ } لخفة أحلامهم وجهلهم بأن الله هو رازق أولادهم لاهم { وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله } من البحائر والسوائب وغيرها { افتراء عَلَى الله } مفعول له { قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } إلى الصواب .(1/351)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
{ وَهُوَ الذي أَنشَأَ } خلق { جنات } من الكروم { معروشات } مسموكات مرفوعات { وَغَيْرَ معروشات } متروكات على وجه الأرض لم تعرش ، يقال عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القضبان { والنخل والزرع مُخْتَلِفًا } في اللون والطعم والحجم والرائحة ، وهو حال مقدرة لأن النخل وقت خروجه لا أكل فيه حتى يكون مختلفاً وهو كقوله { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] { أَكُلُهُ } { أَكْله } حجازي وهو ثمره الذي يؤكل ، والضمير للنخل ، والزرع داخل في حكمه لأنه معطوف عليه ، أو لكل واحد { والزيتون والرمان متشابها } في اللون { وَغَيْرَ متشابه } في الطعم { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } من ثمر كل واحد ، وفائدة { إِذَا أَثْمَرَ } أن يعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر ولا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك { وَءَاتُواْ حَقَّهُ } عشره وهو حجة أبي حنيفة رحمه الله في تعميم العشر { يَوْمَ حَصَادِهِ } بصري وشامي وعاصم ، وبكسر الحاء غيرهم . وهما لغتان { وَلاَ تُسْرِفُواْ } بإعطاء الكل وتضييع العيال . وقوله { كُلُواْ } إلى { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } اعتراض { وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشًا } عطف على { جنات } أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح ، أو الحمولة الكبار التي تصلح للحمل والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها { كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } أي ما أحل الله لكم منها ولا تحرموها كما في الجاهلية } { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } طرقه في التحليل والتحريم كفعل أهل الجاهلية { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } فاتهموه على دينكم { ثمانية أزواج } بدل من { حَمُولَةً وَفَرْشًا } { مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين } زوجين اثنين يريد الذكر والأنثى ، والواحد إذا كان وحده فهو فرد ، وإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجاً وهما زوجان بدليل قوله { خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى } [ النجم : 45 ] ويدل عليه قوله { ثمانية أزواج } ثم فسرها بقوله { مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين } { وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين } والضأن والمعز جمع ضائن وماعز كتاجر وتجر . وفتح عين المعز : مكي وشامي وأبو عمرو وهما لغتان .
والهمزة في { قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين } للإنكار . والمراد بالذكرين الذكر من الضأن والذكر من المعز ، وبالأنثيين الأنثى من الضأن والأنثى من المعز والمعنى إنكار أن يحرم الله من جنسي الغنم ضأنها ومعزها شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها ولا مما تحمل الإناث ، وذلك أنهم كانوا يحرمون ذكورة الأنعام تارة وإناثها طوراً وأولادها كيفما كانت ذكوراً أو إناثاً أو مختلطة تارة ، وكانوا يقولون : قد حرمها الله فأنكر ذلك عليهم .(1/352)
وانتصب { آلذكرين } ب { حَرَّمَ } وكذا { أَمِ الأنثيين } أي أم حرم الأنثيين وكذا «ما» في { أَمَّا اشتملت } { نَبّئُونِي بِعِلْمٍ } أخبروني بأمر معلوم من جهة الله يدل على تحريم ما حرمتم { إِن كُنتُمْ صادقين } في أن الله حرمه .
{ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ } منهما { حَرَّمَ أَمِ الأنثيين } منهما { أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين } أم ما تحمل إناثها { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ } «أم» منقطعة أي بل أكنتم شهداء { إِذْ وصاكم الله بهذا } يعني أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم . ولما كانوا لا يؤمنون برسول الله وهم يقولون الله حرم هذا الذي نحرمه تهكم بهم في قوله { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ } على معنى أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } فنسب إليه تحريم ما لم يحرم { لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } أي الذين في علمه أنهم يختمون على الكفر . ووقع الفاصل بين بعض المعدود وبعضه اعتراضاً غير أجنبي من المعدود ، وذلك أن الله تعالى مَنَّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم ، فالاعتراض بالاحتجاج على من حرمها يكون تأكيداً للتحليل ، والاعتراضات في الكلام لا تساق إلا للتوكيد .
{ قُل لا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ } أي في ذلك الوقت أو في وحي القرآن لأن وحي السنة قد حرم غيره ، أو من الأنعام لأن الآية في رد البحيرة وأخواتها . وأما الموقوذة والمتردية والنطيحة فمن الميتة ، وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يثبت بوحي الله وشرعه لا يهوى الأنفس { مُحَرَّمًا } حيواناً حرم أكله { على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } على آكل يأكله { إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً } إلا أن يكون الشيء المحرم ميتة { أَن تَكُونَ } مكي وشامي وحمزة { مَيْتَةً } شامي { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } مصبوباً سائلاً فلا يحرم الدم الذي في اللحم والكبد والطحال { أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } نجس { أَوْ فِسْقًا } عطف على المنصوب قبله . وقوله { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه { أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } منصوب المحل صفة ل { فِسْقًا } أي رفع الصوت على ذبحه باسم غير الله ، وسمي بالفسق لتوغله في باب الفسق { فَمَنِ اضطر } فمن دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات { غَيْرَ بَاغٍ } على مضطر مثله تارك لمواساته { وَلاَ عَادٍ } متجاوز قدر حاجته من تناوله { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لا يؤاخذه { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } أي ماله أصبع من دابة أو طائر ويدخل فيه الإبل والنعام { وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } أي حرمنا عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه وكل شيء منه ، ولم يحرم من البقر والغنم إلا الشحوم وهي الثروب وشحوم الكلى { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السَّحفة { أَوِ الحوايا } أو ما اشتمل على الأمعاء واحدها حاوياء أو حوية { أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ } وهو الألية أو المخ { ذلك } مفعول ثان لقوله { جزيناهم } والتقدير جزيناهم ذلك { بِبَغْيِهِمْ } بسبب ظلمهم { وِإِنَّا لصادقون } فيما أخبرنا به وكيف نشكر من سبب معصيتهم لتحريم الحلال ومعصية سالفنا لتحليل الحرام حيث قال :(1/353)
{ وعفا عنكم فالآن باشروهن { } [ البقرة : 187 ] { فَإِن كَذَّبُوكَ } فيما أوحيت إليك من هذا { فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة } بها يمهل المكذبين ولا يعاجلهم بالعقوبة { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ } عذابه مع سعة رحمته { عَنِ القوم المجرمين } إذا جاء فلا تغتر بسعة رحمته عن خوف نقمته .(1/354)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
{ سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ } إخبار بما سوف يقولونه { لَوْ شَآءَ الله } أن لا نشرك { مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } ولكن شاء فهذا عذرنا ، يعنون أن شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحل الله لهم بمشيئته ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك { كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي كتكذيبهم إياك . كان تكذيب المتقدمين رسلهم وتشبثوا بمثل هذا فلم ينفعهم ذلك إذ لم يقولوه عن اعتقاد بل قالوا ذلك استهزاء ، ولأنهم جعلوا مشيئته حجة لهم على أنهم معذورون به وهذا مردود لا الإقرار بالمشيئة ، أو معنى المشيئة هنا الرضا كما قال الحسن : أي رضي الله منا ومن آبائنا الشرك والشرك مراد لكنه غير مرضي ، ألا ترى أنه قال { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أخبر أنه لو شاء منهم الهدى لآمن كلهم ولكن لم يشأ من الكل الإيمان بل شاء من البعض الإيمان ومن البعض الكفر ، فيجب حمل المشيئة هنا على ما ذكرناه دفعاً للتناقض { حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا } حتى أنزلنا عليهم العذاب { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ } من أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم { فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } فتظهروه { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } تكذبون { قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة } عليكم بأوامره ونواهيه ولا حجة لكم على الله بمشيئته { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي فلو شاء هدايتكم وبه تبطل صولة المعتزلة { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ } هاتوا شهداءكم وقربوهم ، ويستوي في هذه الكلمة الواحد والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين ، وبنو تميم تؤنث وتجمع { الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا } أي ما زعموه محرماً { فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم فكان واحداً منهم { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذين كَذَّبُواْ بآياتنا } من وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن من كذب بآيات الله فهو متبع للهوى إذ لو تبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحداً لله { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } هم المشركون { وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } يسوون الأصنام .
{ قُلْ } للذين حرموا الحرث والأنعام { تَعَالَوْاْ } هو من الخاص الذي صار عاماً وأصله أن يقول : من كان في مكان عالٍ لمن هو أسفل منه ثم كثر حتى عم { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } الذي حرمه ربكم { عَلَيْكُمْ } من صلة حرم { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } «أن» مفسرة لفعل التلاوة و «لا» للنهي { وبالوالدين إِحْسَانًا } وأحسنوا بالوالدين إحساناً . ولما كان إيجاب الإحسان تحريماً لترك الإحسان ذكر في المحرمات وكذا حكم ما بعده من الأوامر { وَلاَ تَقْتُلُواْ أولادكم مِّنْ إملاق } من أجل فقر ومن خشيته كقوله(1/355)
{ خَشْيَةَ إملاق } [ الإسراء : 31 ] { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لأن رزق العبيد على مولاهم { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا } ما بينك وبين الخلق { وَمَا بَطَنَ } ما بينك وبين الله ، ما ظهر بدل من الفواحش { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } كالقصاص والقتل على الردة والرجم { ذلكم وصاكم بِهِ } أي المذكور مفصلاً أمركم ربكم بحفظه { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لتعقلوا عظمها عند الله { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } إلا بالخصلة التي هي أحسن وهي حفظه وتثميره { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } أشده مبلغ حلمه فادفعوه إليه وواحده شد كفلس وأفلس { وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط } بالسوية والعدل { لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } إلا ما يسعها ولا تعجز عنه ، وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك لأن مراعاة الحد من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما فيه حرج فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفو عنه { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا } فاصدقوا { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القائل كقوله { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين } [ النساء : 135 ] { وَبِعَهْدِ الله } يوم الميثاق أو في الأمر والنهي والوعد والوعيد والنذر واليمين { أَوْفُواْ ذلكم } أي ما مر { وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } بالتخفيف حيث كان : حمزة وعلي وحفص على حذف إحدى التاءين . غيرهم بالتشديد أصله «تتذكرون» فأدغم التاء الثانية في الذال أي أمركم به لتتعظوا .
{ وَأَنَّ هذا صراطي } ولأن هذا صراطي فهو علة الاتباع بتقدير اللام ، { وَأَنْ } بالتخفيف شامي ، وأصله وأنه على أن الهاء ضمير الشأن والحديث . { وَإنْ } على الابتداء : حمزة وعلي { مُّسْتَقِيماً } حال { فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل } الطرق المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } فتفرقكم أيادي سبأ عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام . رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطاً مستوياً ثم قال " هذا سبيل الرشد وصراط الله فاتبعوه " ثم خط على كل جانب ستة خطوط ممالة ثم قال " هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه فاجتنبوها " وتلا هذه الآية . ثم يصير كل واحد من الاثني عشر طريقاً ستة طرق فتكون اثنين وسبعين ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب . وعن كعب : إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة { ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لتكونوا على رجاء إصابة التقوى .(1/356)
ذكر أولاً { تَعْقِلُونَ } ثم { تَذَكَّرُونَ } ثم { تَتَّقُونَ } لأنهم إذا عقلوا تفكروا ثم تذكروا أي اتعظوا فاتقوا المحارم { ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَامًا } أي ثم أخبركم إنا آتينا أو هو عطف على { قُلْ } أي ثم قل آتينا ، و «ثم» مع الجملة تأتي بمعنى الواو كقوله { ثُمَّ الله شَهِيدٌ } [ يونس : 46 ] { عَلَى الذي أَحْسَنَ } على من كان محسناً صالحاً يريد جنس المحسنين دليله قراءة عبد الله { عَلَى الذين أَحْسَنُواْ } أو أراد به موسى عليه السلام أي تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ في كل ما أمر به { وَتَفْصِيلاً لّكُلِّ شَيْءٍ } وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاجون إليه في دينهم { وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم } أي بني إسرائيل { بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ } يصدقون أي بالبعث والحساب وبالرؤية .
{ وهذا } أي القرآن { كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ } كثير الخير { فاتبعوه واتقوا } مخالفته { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لترحموا { أَن تَقُولُواْ } كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا { إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب على طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } أي أهل التوراة وأهل الإنجيل ، وهذا دليل على أن المجوس ليسوا بأهل كتاب { وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ } عن تلاوة كتبهم { لغافلين } لا علم لنا بشيء من ذلك «إن» مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية والأصل : وإنه كنا عن دراستهم غافلين على أن الهاء ضمير الشأن ، والخطاب لأهل مكة والمراد إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كيلا يقولوا يوم القيامة : إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا وكنا غافلين عما فيهما { أَوْ تَقُولُواْ } كراهة أن تقولوا { لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ } لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا وغزارة حفظنا لأيام العرب { فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبِّكُمْ } أي إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم فقد جاءكم ما فيه البيان الساطع والبرهان القاطع ، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله } بعدما عرف صحتها وصدقها { وَصَدَفَ عَنْهَا } أعرض { سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنَا سُوءَ العذاب } وهو النهاية في النكاية { بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } بإعراضهم .(1/357)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
{ هَلْ يَنظُرُونَ } أي أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما يعتقدون من الضلالة فما ينتظرون في ترك الضلالة بعدها { إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم { يَأْتِيهِمُ } حمزة وعلي { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } أي أمر ربك وهو العذاب أو القيامة ، وهذا لأن الإتيان متشابه وإتيان أمره منصوص عليه محكم فيرد إليه { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءايات رَبِّكَ } أي أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءايات رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } لأنه ليس بإيمان اختياري بل هو إيمان دفع العذاب والبأس عن أنفسهم { لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ } صفة { نَفْساً } { أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمانها خَيْرًا } أي إخلاصاً كما لا يقبل إيمان الكافر بعد طلوع الشمس من مغربها لا يقبل إخلاص المنافق أيضاً أو توبته وتقديره : لا ينفع إيمان من لم يؤمن ولا توبة من لم يتب قبل { قُلِ انتظروا } إحدى الآيات الثلاث { إِنَّا مُنتَظِرُونَ } بكم إحداها .
{ إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } اختلفوا فيه وساروا فرقاً كما اختلفت اليهود والنصارى وفي الحديث " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية وإلا واحدة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي السواد الأعظم " وفي رواية " وهي ما أنا عليه وأصحابي " وقيل : فرقوا دينهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض . { فارقوا دِينَهُمُ } حمزة وعلي أي تركوا { وَكَانُواْ شِيَعاً } فرقاً كل فرقة تشيع إماماً لها { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } أي من السؤال عنهم وعن تفرقهم أو من عقابهم { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } فيجازيهم على ذلك { مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } تقديره عشر حسنات أمثالها إلا أنه أقيم صفة الجنس المميزة مقام الموصوف { وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بنقص الثواب وزيادة العقاب { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبّي } { رَبّي } أبو عمرو ومدني { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ دِينًا } نصب على البدل من محل { إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } لأن معناه هداني صراطاً بدليل قوله { وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً } [ الفتح : 20 ] ( قِيِّماً ) «قيما» فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من القائم { قَيِّماً } كوفي وشامي وهو مصدر بمعنى القيام وصف به { مِلَّةِ إبراهيم } عطف بيان { حَنِيفاً } حال من { إِبْرَاهِيمَ } { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } بالله يا معشر قريش .
{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي } أي عبادتي ، والناسك العابد أو ذبحي أو حجي { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } وما أتيته في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل { للَّهِ رَبِّ العالمين } خالصة لوجهه .(1/358)
{ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } بسكون الياء الأول وفتح الثاني : مدني . وبعكسه غيره { لاَ شَرِيكَ لَهُ } في شيء من ذلك { وبذلك } الإخلاص { أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } لأن إسلام كل نبيٍ متقدم على إسلام أمته .
{ قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً } جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم . والهمزة للإنكار أي منكر أن أطلب رباً غيره ، وتقديم المفعول للإشعار بأنه أهم { وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } وكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } جواب عن قولهم { اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم } [ العنكبوت : 12 ] { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أي لا تأخذ نفس آثمة بذنب نفس أخرى { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الأديان التي فرقتموها { وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خلائف الأرض } لأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فأمته قد خلفت سائر الأمم ، أو لأن بعضهم يخلف بعضاً أو هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ } في الشرف والرزق وغير ذلك { درجات } مفعول ثانٍ ، أو التقدير إلى درجات ، أو هي واقعة موضع المصدر كأنه قيل رفعة بعد رفعة { لّيَبْلُوَكُمْ فِى ما آتاكم } فيما أعطاكم من نعمة الجاه والمال كيف تشكرون تلك النعمة وكيف يصنع الشريف بالوضيع والغني بالفقير والمالك بالمملوك { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب } لمن كفر { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن قام بشكرها ، ووصف العقاب بالسرعة لأن ما هو آتٍ قريب { وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم « من قرأ ثلاث آيات من أول الأنعام حين يصبح وكل الله تعالى به سبعين ألف ملك يحفظونه وكتب له مثل أعمالهم إلى يوم القيامة » .(1/359)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
{ المص } قال الزجاج : المختار في تفسيره ما قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا الله أعلم وأفصل { كِتَابٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب { أُنزِلَ إِلَيْكَ } صفته والمراد بالكتاب السورة { فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ } شك فيه ، وسمي الشك حرجاً لأن الشاك ضيق الصدر حرجه كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه أي لا شك في أنه منزل من الله أو حرج منه بتبليغه لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم ، فكان يضيق صدره من الأذى ولا ينشط له فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم ، والنهي متوجه إلى الحرج وفيه من المبالغة ما فيه ، والفاء للعطف أي هذا الكتاب أنزلناه إليك فلا يكن بعد إنزاله حرج في صدرك . واللام في { لِتُنذِرَ بِهِ } متعلق ب { أُنزِلَ } أي أنزل إليك لإنذارك به ، أو بالنهي ولأنه إذا لم يخفهم أنذرهم ، وكذا إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار لأن صاحب اليقين جسور متوكل على ربه { وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } في محل النصب بإضمار فعلها أي لتنذر به وتذكر تذكيراً ، فالذكرى اسم بمعنى التذكير ، أو الرفع بالعطف على { كِتَابٌ } أي هو كتاب وذكرى للمؤمنين ، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو الجر بالعطف على محل { لّتُنذِرَ } أي للإنذار وللذكرى { اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ } أي القرآن والسنة { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ } من دون الله { أَوْلِيَاء } أي ولا تتولوا من دونه من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره و { قَلِيلاً } نصب ب { تَذَكَّرُونَ } أي تذكرون تذكراً قليلاً . و «ما» مزيدة لتوكيد القلة { تَتَذَكَّرُونَ } شامي .
{ وَكَمْ } مبتدأ { مِن قَرْيَةٍ } تبيين والخبر { أهلكناها } أي أردنا إهلاكها كقوله { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } [ المائدة : 6 ] { فَجَاءهَا } جاء أهلها { بَأْسَنَا } عذابنا { بَيَاتًا } مصدر واقع موقع الحال بمعنى بائتين ، يقال بات بياتاً حسناً { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } حال معطوفة على { بَيَاتًا } كأنه قيل : فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين . وإنما قيل { هُمْ قَائِلُونَ } بلا «واو» ولا يقال «جاءني زيد هو فارس» بغير واو ، لأنه لما عطف على حال قبلها حذفت الواو استثقالاً لاجتماع حرفي عطف ، لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل . وخص هذان الوقتان لأنهما وقتا الغفلة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع . وقوم لوط عليه السلام أهلكوا بالليل وقت السحر ، وقوم شعيب عليه السلام وقت القيلولة . وقيل { بَيَاتًا } ليلاً أي ليلاً وهم نائمون أو نهاراً وهم قائلون { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } دعاؤهم وتضرعهم { إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا } لما جاءهم أوائل العذاب { إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين } اعترفوا بالظلم على أنفسهم والشرك حين لم ينفعهم ذلك .(1/360)
و { دَعْوَاهُمْ } اسم «كان» و { أَن قَالُواْ } الخبر ويجوز العكس { فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } أرسل مسند إلى إليهم أي فلنسألن المرسل إليهم وهم الأمم عما أجابوا به رسلهم { وَلَنَسْئَلَنَّ المرسلين } عما أجيبوا به { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم } على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم { بِعِلْمِ } عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } عنهم وعما وجد منهم ومعنى السؤال التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا به بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم { والوزن } أي وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها وهو مبتدأ وخبره { يَوْمَئِذٍ } أي يوم يسأل الله الأمم ورسلهم فحذفت الجملة وعوض عنها التنوين { الحق } أي العدل صفته ثم قيل توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفتان إظهاراً للنصفة وقطعاً للمعذرة . وقيل : هو عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل ، والله أعلم بكيفيته { فَمَن ثَقُلَتْ موازينه } جمع ميزان أو موزون أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات أو ما توزن به حسناتهم { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } الفائزون { وَمَنْ خَفَّتْ موازينه } هم الكفار فإنه لا إيمان لهم ليعتبر معه عمل فلا يكون في ميزانهم خير فتخف موازينهم { فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ } يجحدون فالآيات الحجج والظلم بها وضعها في غير موضعها أي جحودها وترك الانقياد لها .(1/361)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
{ وَلَقَدْ مكناكم فِى الأرض } جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ، أو مكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش } جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما . والوجه تصريح الياء لأنها أصلية بخلاف صحائف فالياء فيها زائدة ، وعن نافع أنه همز تشبيهاً بصحائف { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } مثل { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الحاقة : 42 ] .
{ وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم } أي خلقنا أباكم آدم عليه السلام طيناً غير مصور ثم صورناه بعد ذلك دليله { ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين } ممن سجد لآدم عليه السلام { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } «ما» رفع أيْ أيّ شيء منعك من السجود؟ «ولا» زائدة بدليل { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [ ص : 75 ] ومثلها { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] أي ليعلم { إِذْ أَمَرْتُكَ } فيه دليل على أن الأمر للوجوب ، والسؤال عن المانع من السجود مع علمه به للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه السلام { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } وهي جوهر نوراني { وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } وهو ظلماني وقد أخطأ الخبيث بل الطين أفضل لرزانته ووقاره ومنه الحلم والحياء والصبر وذلك دعاه إلى التوبة والاستغفار ، وفي النار الطيش والحدة والترفع وذلك دعاه إلى الاستكبار . والتراب عمدة الممالك ، والنار عدة المهالك . والنار مظنة الخيانة والإفناء ، والتراب مئنة الأمانة والإنماء ، والطين يطفيء النار ويتلفها ، والنار لا تتلفه . وهذه فضائل غفل عنها إبليس حتى زل بفاسد من المقاييس . وقولنا في القياس أول من قاس إبليس قياس . على أن القياس عند مثبته مردود عند وجود النصوص وقياس إبليس عناد للأمر المنصوص . وكان الجواب ل { مَا مَنَعَكَ } أن يقول «منعني كذا» وإنما قال { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } لأنه قد استأنف قصة وأخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم عليه السلام وبعلة فضله عليه فعلم منها الجواب كأنه قال : منعني من السجود فضلي عليه ، وزيادة عليه وهي إنكار الأمر واستبعاد أن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله ، إذ سجود الفاضل للمفضول خارج عن الصواب { قَالَ فاهبط مِنْهَا } من الجنة أو من السماء لأنه كان فيها وهي مكان المطيعين والمتواضعين . والفاء في { فاهبط } جواب لقوله { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } أي إن كنت تتكبر فاهبط { فَمَا يَكُونُ لَكَ } فما يصح لك { أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } وتعصي { فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين } من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه ، يذمك كل إنسان ويلعنك كل لسان لتكبرك ، وبه علم أن الصغار لازم للاستكبار { قَالَ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أمهلني إلى يوم البعث وهو وقت النفخة الأخيرة { قَالَ إِنَّكَ مِنَ المنظرين } إلى النفخة الأولى .(1/362)
وإنما أجيب إلى ذلك لما فيه من الابتلاء ، وفيه تقريب لقلوب الأحباب أي هذا بريء بمن يسيئني فكيف بمن يحبني وإنما جسره على السؤال مع وجود الزلل منه في الحال علمه بحلم ذي الجلال .
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى } أضللتني أي فبسبب إغوائك إياي . والباء تتعلق بفعل القسم المحذوف تقديره فسبب إغوائك أقسم ، أو تكون الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } لأعترضن لهم على طريق الإسلام مترصداً للرد متعرضاً للصد كما يتعرض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة . وانتصابه على الظرف كقولك «ضرب زيد الظهر» أي على الظهر . وعن طاوس أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل قدري فقال له طاوس : تقوم أو تقام . فقام الرجل فقيل له : أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال : إبليس أفقه منه { قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } وهو يقول أنا أغوي نفسي .
{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أشككهم في الآخرة { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أرغبهم في الدنيا { وَعَنْ أيمانهم } من قبل الحسنات { وَعَن شَمَائِلِهِمْ } من قبل السيئات وهو جمع شمال يعني ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الأغلب . وعن شقيق : ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد : من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم فاقرأ { وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا } [ طه : 82 ] . ومن خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي فاقرأ { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] وعن يميني فيأتيني من قبل الثناء فاقرأ { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] وعن شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فاقرأ { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [ سبأ : 54 ] ولم يقل من فوقهم ومن تحتهم لمكان الرحمة والسجدة ، وقال في الأولين «من» لابتداء الغاية وفي الأخيرين «عن» لأن «عن» تدل على الانحراف { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين } مؤمنين قاله ظناً فأصاب لقوله { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [ سبأ : 20 ] أو سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى إياهم .
{ قَالَ اخرج مِنْهَا } من الجنة أو من السماء { مَذْءومًا } معيباً من ذأمه إذا ذمه والذأم والذم العيب { مَّدْحُورًا } مطروداً مبعداً من رحمة الله . واللام في { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } موطئة للقسم وجوابه { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ } وهو ساد مسد جواب الشرط { مّنكُمْ } منك ومنهم فغلب ضمير المخاطب { أَجْمَعِينَ وَيا ءَادَمَ } وقلنا يا آدم بعد إخراج إبليس من الجنة { اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة } اتخذها مسكناً { فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا } فتصيرا { مِنَ الظالمين فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان } وسوس إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره وهو غير متئد ، ورجل موسوس بكسر الواو ولا يقال موسوس بالفتح ولكن موسوس له وموسوس إليه وهو الذي يلقي إليه الوسوسة .(1/363)
ومعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ووسوس إليه ألقاها إليه { لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءاتِهِمَا } ليكشف لهما ما ستر عنهما من عوراتهما . وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور ، وأنه لم يزل مستقبحاً في الطباع والعقول . فإن قلت : ما للواو المضمومة في { ووري } لم تقلب همزة كما في «أو يصل» تصغير واصل وأصله «وويصل» فقلبت الواو همزة كراهة لاجتماع الواوين؟ قلت : لأن الثانية مدة كألف «وارى» فكما لم يجب همزها في «واعد» لم يجب في { وورى } وهذا لأن الواوين إذا تحركتا ظهر فيهما من الثقل ما لا يكون فيهما إذا كانت الثانية ساكنة ، وهذا مدرك بالضرورة فالتزموا إبدالها في موضع الثقل لا في غيره . وقرأ عبد الله { أورى } بالقلب { وَقَالَ مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } إلا كراهة أن تكونا ملكين تعلمان الخير والشر وتستغنيان عن الغذاء . وقرىء { مَلَكَيْنِ } لقوله { وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } [ طه : 120 ] { أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين { وَقَاسَمَهُمَا } وأقسم لهما { إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } وأخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه لما كان منه القسم ومنهما التصديق فكأنهما من اثنين .(1/364)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
{ فدلاهما } فنزلهما إلى الأكل من الشجرة { بِغُرُورٍ } بما غرهما به من القسم بالله وإنما يخدع المؤمن بالله . وعن ابن عمر رضي الله عنهما : من خدعنا بالله انخدعنا له { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة } وجدا طعمها آخذين في الأكل منها وهي السنبلة أو الكرم { بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا } ظهرت لهما عوراتهما لتهافت اللباس عنهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر . وقيل : كان لباسهما من جنس الأظفار أي كالظفر بياضاً في غاية اللطف واللين فبقي عند الأظفار تذكيراً للنعم وتجديداً للندم { وَطَفِقَا } وجعلا يقال طفق يفعل كذا أي جعل { يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } يجعلان على عورتهما من ورق التين أو الموز ورقة فوق ورقة ليستترا بها كما تخصف النعل .
{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة } هذا عتاب من الله وتنبيه على الخطأ . وروي أنه قال لآدم عليه السلام : ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟ فقال : بلى ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا بكد يمين وعرق جبين ، فأهبط وعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد ودرس وذرى وطحن وعجن وخبز { وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } فيه دليل لنا على المعتزلة لأن الصغائر عندهم مغفورة { قَالَ اهبطوا } الخطاب لآدم وحواء بلفظ الجمع لأن إبليس هبط من قبل ، ويحتمل أنه هبط إلى السماء ثم هبطوا جميعاً إلى الأرض { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } في موضع الحال أي متعادين يعاديهما إبليس ويعاديانه { وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ } استقرار أو موضع استقرار { ومتاع } وانتفاع بعيش { إلى حِينٍ } إلى انقضاء آجالكم . وعن ثابت البناني : لما أهبط آدم عليه السلام وحضرته الوفاة وأحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها : خلي ملائكة ربي فإنما أصابني ما أصابني فيك . فلما توفي غسلته الملائكة بماء وسدر وتراً وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له قبراً ودفنوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه : هذه سنتكم بعده { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ } في الأرض { وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } للثواب والعقاب { تُخْرَجُونَ } حمزة وعلي { يابَنِي ءادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا } جعل ما في الأرض منزلاً من السماء لأن أصله من الماء وهو منها { يوارى سَوْءاتِكُمْ } يستر عوراتكم { وَرِيشًا } لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين : لباساً يواري سوءاتكم ولباساً يزينكم { وَلِبَاسُ التقوى } ولباس الورع الذي يقي العقاب وهو مبتدأ وخبره الجملة وهي { ذلك خَيْرٌ } كأنه قيل : ولباس التقوى هو خير لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر ، أو { ذلك } صفة للمبتدأ و { خَيْرٌ } خبر المبتدأ كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير ، أو { لِبَاسَ التقوى } خبر مبتدأ محذوف أي وهو لباس التقوى أي ستر العورة لباس المتقين ، ثم قال { ذلك خَيْرٌ } وقيل : ولباس أهل التقوى من الصوف والخشن .(1/365)
{ وَلِبَاسُ التقوى } مدني وشامي وعلي عطفا على { لِبَاساً } أي وأنزلنا عليكم لباس التقوى { ذلك مِنْ ءايَاتِ الله } الدالة على فضله ورحمته على عباده يعني إنزال اللباس { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فيعرفوا عظيم النعمة فيه ، وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوءات وخصف الورق عليها إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العري من الفضيحة وإشعاراً بأن التستر من التقوى .
{ يابنى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة } لا يخدعنكم ولا يضلنكم بأن لا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم بأن أخرجهما منها { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } حال أي أخرجهما نازعاً لباسهما بأن كان سبباً في أن نزع عنهما . والنهي في الظاهر للشيطان وفي المعنى لبني آدم أي لا تتبعوا الشيطان فيفتنكم { لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا } عوراتهما { إِنَّهُ } الضمير للشأن والحديث { يَرَاكُمْ هُوَ } تعديل للنهي وتحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدو المداجي يكيدكم من حيث لا تشعرون { وَقَبِيلُهُ } وذريته أو وجنوده من الشياطين وهو عطف على الضمير في { يَرَاكُمْ } المؤكد ب { هُوَ } ، ولم يعطف عليه لأن معمول الفعل هو المستكن دون هذا البارز وإنما يعطف على ما هو معمول الفعل { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } قال ذو النون : إن كان هو يراك من حيث لا تراه فاستعن بمن يراه من حيث لا يراه وهو الله الكريم الستار الرحيم الغفار .
{ إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } فيه دلالة خلق الأفعال { وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة } ما يبالغ في قبحه من الذنوب وهو طوافهم بالبيت عراة وشركهم { قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا } أي إذا فعلوها اعتذروا بأن آبائهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم ، وبأن الله أمرهم بأن يفعلوها حيث أقرنا عليها إذا لو كرهها لنقلنا عنها وهما باطلان ، لأن أحدهما تقليد للجهال والثاني افتراء على ذي الجلال { قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء } إذ المأمور به لا بد أن يكون حسناً وإن كان فيه على مراتب على ما عرف في أصول الفقه { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } استفهام إنكار وتوبيخ { قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط } بالعدل وبما هو حسن عند كل عاقل فكيف يأمر بالفحشاء { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } وقل أقيموا وجوهكم أي اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها في كل وقت سجود أو في كل مكان سجود { وادعوه } واعبدوه { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي الطاعة مبتغين بها وجهه خالصاً { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } كما أنشأكم ابتداء يعيدكم ، احتج عليه في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق ، والمعنى أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة { فَرِيقًا هدى } وهم المسلمون { وَفَرِيقًا } أي أضل فريقاً { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } وهم الكافرون { إِنَّهُمُ } إن الفريق الذين حق عليهم الضلالة { اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله } أي أنصاراً { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } والآية حجة لنا على أهل الاعتزال في الهداية والإضلال .(1/366)
{ يابنى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ } لباس زينتكم { عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } كلما صليتم . وقيل : الزينة المشط والطيب ، والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئاته للصلاة لأن الصلاة مناجاة الرب فيستحب لها التزين والتعطر كما يجب التستر والتطهر { وَكُلُواْ } من اللحم والدسم { واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ } بالشروع في الحرام أو في مجاوزة الشبع { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كل ما شئت ، واشرب ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة . وكان للرشيد طبيب حاذق فقال لعليّ بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان : علم الأبدان وعلم الأديان . فقال له عليّ : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه وهو قوله { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ } فقال النصراني : ولم يرو عن رسولكم شيء في الطب فقال : قد جمع رسولنا الطب في ألفاظ يسيرة وهي قوله عليه السلام « المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته » فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً . ثم استفهم إنكاراً على محرم الحلال بقوله .
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله } من الثياب وكل ما يتجمل به { التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } أي أصلها يعني القطن من الأرض والقز من الدود { والطيبات مِنَ الرزق } والمستلذات من المآكل والمشارب . وقيل : كانوا إذا أحرموا حرموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها { قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فيالحياة الدنيا } غير خالصة لهم لأن المشركين شركاؤهم فيها { خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } لا يشركهم فيها أحد . ولم يقل للذين آمنوا ولغيرهم لينبه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة والكفار تبع لهم . { خَالِصَةٌ } بالرفع : نافع ف { هِىَ } مبتدأ خبره { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } و { فيالحياة الدنيا } ظرف للخبر ، أو { خَالِصَةٌ } خبر ثانٍ أو خبر مبتدأ محذوف أي هي خالصة ، وغيره نصبها على الحال من الضمير الذي في الظرف الذي هو الخبر أي هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها يوم القيامة { كذلك نُفَصّلُ الآيات } نميز الحلال من الحرام { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أنه لا شريك له .(1/367)
{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش } { رَبّي } حمزة { الفواحش } ما تفاحش قبحه أي تزايد { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } سرها وعلانيتها { والإثم } أي شرب الخمر أو كل ذنب { والبغي } والظلم والكبر { بِغَيْرِ الحق } متعلق بالبغي . ومحل { وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } حجة النصب كأنه قال حرم الفواحش وحرم الشرك { يُنَزّلٍ } بالتخفيف : مكي وبصري ، وفيه تهكم إذ لا يجوز أن ينزل برهاناً على أن يشرك به غيره { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وأن تتقولوا عليه وتفتروا الكذب من التحريم وغيره { وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } وقت معين يأتيهم فيه عذاب الاستئصال إن لم يؤمنوا ، وهو وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } قيد بساعة لأنها أقل ما يستعمل في الإمهال { يابنى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ } هي «إن» الشرطية ضمت إليها «ما» مؤكدة لمعنى الشرط ، لأن «ما» للشرط ولذا لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة { رُسُلٌ مّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتى } يقرءون عليكم كتبي وهو في موضع رفع صفة ل { رُسُلُ } وجواب الشرط { فَمَنِ اتقى } الشرك { وَأَصْلَحَ } العمل منكم { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أصلاً { فَلاَ خَوْفٌ } يعقوب { والذين كَذَّبُواْ } منكم { بئاياتنا واستكبروا عَنْهَا } تعظموا عن الايمان بها { أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } .(1/368)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
{ فَمَنْ أَظْلَمُ } فمن أشنع ظلماً { مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بئاياته } ممن تقول على الله ما لم يقله أو كذب ما قاله { أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب } ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار { حتى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا } ملك الموت وأعوانه . و «حتى» غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له وهي «حتى» التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام هنا الجملة الشرطية وهي { إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا } { يَتَوَفَّوْنَهُمْ } يقبضون أرواحهم وهو حال من الرسل أي متوفيهم و «ما» في { قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ } في خط المصحف موصولة ب { أَيْنَ } وحقها أن تكتب مفصولة لأنها موصولة ، والمعنى أين الآلهة الذين تعبدون { مِن دُونِ الله } ليذبوا عنكم { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } غابوا عنا فلا نراهم { وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين } اعترفوا بكفرهم بلفظ الشهادة التي هي لتحقيق الخبر .
{ قَالَ ادخلوا } أي يقول الله تعالى يوم القيامة لهؤلاء الكفار : ادخلوا { فِى أُمَمٍ } في موضع الحال أي كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم { قَدْ خَلَتْ } مضت { مِن قَبْلِكُم مّن الجن والإنس } من كفار الجن والإنس { فِى النار } متعلق ب { أَدْخِلُواْ } { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ } النار { لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } شكلها في الدين أي التي ضلت بالاقتداء بها { حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا } أصله تداركوا أي تلاحقوا واجتمعوا في النار ، فأبدلت التاء دالاً وسكنت للإدغام ثم أدخلت همزة الوصل { جَمِيعاً } حال { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } منزلة وهي الأتباع والسفلة { لأولاهم } منزلة وهي القادة والرءوس . ومعنى { لأولاهم } لأجل أولاهم لأن خطابهم مع الله لا معهم { رَبَّنَا } يا ربنا { هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا } مضاعفاً { مّنَ النار قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ } للقادة بالغواية والإغواء وللأتباع بالكفر والاقتداء { ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } ما لكل فريق منكم من العذاب . { لاَّ يَعْلَمُونَ } أبو بكر أي لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر .
{ وَقَالَتْ أولاهم لأُِخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسفلة { لِكُلّ ضِعْفٌ } أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا وأنا متساوون في استحقاق الضعف { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } بكسبكم وكفركم وهو من قول القادة للسفلة . ولا وقف على { فَضَّلَ } أو من قول الله لهم جميعاً والوقف على { فَضَّلَ } { إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء } أي لا يؤذن لهم في صعود السماء ليدخلوا الجنة إذ هي في السماء ، أو لا يصعد لهم عمل صالح ولا تنزل عليهم البركة ، أو لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين إلى السماء ، وبالتاء مع التخفيف : أبو عمرو وبالياء معه : حمزة وعلي .(1/369)
{ وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط } حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة أي لا يدخلون الجنة أبداً لأنه علقه بما لا يكون . والخياط والمخيط ما يخاط به وهو الإبرة { وكذلك } ومثل ذلك الجزاء الفظيع الذي وصفنا { نَجْزِي المجرمين } أي الكافرين بدلالة التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها { لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } فراش { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } أغطية جمع غاشية { وكذلك نَجْزِى الظالمين } أنفسهم بالكفر .
{ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } طاقتها والتكليف إلزام ما فيه كلفة أي مشقة { أولئك } مبتدأ والخبر { أصحاب الجنة } والجملة خبر { الذين } ، و { لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } اعتراض بين المبتدأ والخبر { هُمْ فِيهَا خالدون * وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } حقد كان بينهم في الدنيا فلم يبق بينهم إلا التواد والتعاطف ، وعن علي رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأضنهار } حال من «هم» في { صُدُورُهُمْ } والعامل فيها معنى الإضافة { وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا } لما هو وسيلة إلى هذا الفوز العظيم وهو الإيمان { وَمَا كُنَّا } { مَا كُنَّا } بغير «واو» : شامي على أنها جملة موضحة للأولى { لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله } اللام لتوكيد النفي أي وما كان يصح أن نكون مهتدين لولا هداية الله ، وجواب «لولا» محذوف دل عليه ما قبله { لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق } فكان لطفاً لنا وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا ، يقولون ذلك سروراً بما نالوا وإظهاراً لما اعتقدوا { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الجنة } «أن» مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ، والجملة بعدها خبرها تقديره ونودوا بأنه تلكم الجنة . والهاء ضمير الشأن ، أو بمعنى أي كأنه قيل ، لهم تلكم الجنة { أُورِثْتُمُوهَا } أعطيتموها وهو حال من { الجنة } والعامل فيها ما في { تِلْكَ } من معنى الإشارة { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } سماها ميراثاً لأنها لا تستحق بالعمل بل هي محض فضل الله وعده على الطاعات كالميراث من الميت ليس بعوض عن شيء بل هو صلة خالصة . وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله : إن المعتزلة خالفوا الله فيما أخبر ونوحاً عليه السلام وأهل الجنة والنار وإبليس ، لأنه قال الله تعالى { يُضِلُّ مَن يَشَآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء } [ النحل : 93 ] وقال نوح عليه السلام : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] وقال أهل الجنة : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله } وقال أهل النار : { لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ } [ ابراهيم : 21 ] وقال إبليس { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى }(1/370)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
{ وناداى أصحاب الجنّة أصحاب النّار أن قد وجدنا } «أن» مخففة من الثقيلة أو مفسرة وكذلك { أن لعنة اللّه على الظالمين } { ما وعدنا ربّنا } من الثواب { حقًّا } حال { فهل وجدّتم مّا وعد ربّكم } من العذاب { حقًّا } وتقديره وعدكم ربكم فحذف «كم» لدلالة { وعدنا ربنا } عليه . وإنما قالوا لهم ذلك شماتة بأصحاب النار واعترافاً بنعم الله تعالى { قالوا نعم } وبكسر العين حيث كان : عليٌّ { فأذّن مؤذّنٌ بينهم } نادى مناد وهو ملك يسمع أهل الجنة والنار { أن لّعنة اللّه على الظّالمين } { أن لعنة } مكي وشامي وحمزة وعلي { الّذين يصدّون } يمنعون { عن سبيل اللّه } دينه { ويبغونها عوجاً } مفعول ثان ل «يبغون» أي ويطلبون لها الاعوجاج والتناقض { وهم بالآخرة } بالدار الآخرة { كافرون وبينهما } وبين الجنة والنار أو بين الفريقين { حجابٌ } وهو السور المذكور في قوله : { فضرب بينهم بسور } [ الحديد : 13 ] { وعلى الأعراف } على أعراف الحجاب وهو السور المضروب بين الجنة والنار وهي أعاليه جمع عرف ، استعير من عرف الفرس وعرف الديك { رجالٌ } من أفاضل المسلمين أو من آخرهم دخولاً في الجنة لاستواء حسناتهم وسيآتهم ، أو من لم يرض عنه أحد أبويه أو أطفال المشركين { يعرفون كلاًّ } من زمرة السعداء والأشقياء { بسيماهم } بعلامتهم . قيل : سيما المؤمنين بياض الوجوه ونضارتها ، وسيما الكافرين سواد الوجوه وزرقة العيون { ونادوا } أي أصحاب الأعراف { أصحاب الجنّة أن سلامٌ عليكم } أنه سلام أو أي سلام وهو تهنئة منهم لأهل الجنة { لم يدخلوها } أي أصحاب الأعراف ولا محل له لأنه استئناف كأن سائلاً سأل أصحاب الأعراف فقيل { لم يدخلوها } { وهم يطمعون } في دخولها أوله محل وهو صفة ل { رجال } .
{ وإذا صرفت أبصارهم } أبصار أصحاب الأعراف ، وفيه أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا { تلقآء } ظرف أي ناحية { أصحاب النّار } ورأوا ما هم فيه من العذاب { قالوا ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظّالمين } فاستعاذوا بالله وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم { ونادى أصحاب الأعراف رجالاً } من رءوس الكفرة { يعرفونهم بسيماهم قالوا مآ أغنى عنكم جمعكم } المال أو كثرتكم واجتماعكم و «ما» نافية { وما كنتم تستكبرون } واستكباركم على الحق وعلى الناس ثم يقولون لهم :
{ أهؤلاء } مبتدأ { الّذين } خبر مبتدأ مضمر تقديره أهؤلاء هم الذين { أقسمتم } حلفتم في الدنيا ، والمشار إليهم فقراء المؤمنين كصهيب وسليمان ونحوهما { لا ينالهم اللّه برحمةٍ } جواب { أقسمتم } وهو داخل في صلة { الذين } تقديره أقسمتم عليهم بأن لا ينالهم الله برحمة أي لا يدخلهم الجنة يحتقرونهم لفقرهم . فيقال لأصحاب الأعراف : { ادخلوا الجنّة } وذلك بعد أن نظروا إلى الفريقين وعرفوهم بسيماهم وقالوا ما قالوا { لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون وناداى أصحاب النّار أصحاب الجنّة أن أفيضوا علينا من المآء } أن مفسرة .(1/371)
وفيه دليل على أن الجنة فوق النار { أو ممّا رزقكم اللّه } من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة ، أو أريد أو ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله :
علفتها تبناً وماءاً بارداً
أي وسقيتها وإنما سألوا ذلك مع يأسهم عن الإجابة لأن المتحير ينطق بما يفيد وما لا يفيد { قالوآ إنّ اللّه حرّمهما على الكافرين } هو تحريم منع كما في { وحرمنا عليه المراضع } [ القصص : 12 ] وتقف هنا إن رفعت أو نصبت ما بعده ذماً ، وإن جررته وصفاً للكافرين فلا . { الّذين اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً } فحرموا وأحلوا ما شاءوا أو دينهم عيدهم { وغرّتهم الحياة الدّنيا } اغتروا بطول البقاء { فاليوم ننساهم } نتركهم في العذاب { كما نسوا لقآء يومهم هذا وما كانوا بئاياتنا يجحدون } أي كنسيانهم وجحودهم .
{ ولقد جئناهم بكتابٍ فصّلناه } ميزنا حلاله وحرامه ومواعظه وقصصه { على علمٍ } عالمين بكيفية تفصيل أحكامه { هدًى ورحمةً } حال من منصوب { فصلناه } كما أن { على علم } حال من مرفوعة { لّقومٍ يؤمنون هل ينظرون } ينتظرون { إلاّ تأويله } إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد { يوم يأتي تأويله يقول الّذين نسوه من قبل } تركوه وأعرضوا عنه { قد جآءت رسل ربّنا بالحقّ } أي تبين وصح أنهم جاءوا بالحق فأقروا حين لا ينفعهم { فهل لّنا من شفعآء فيشفعوا لنآ } جواب الاستفهام { أو نردّ } جملة معطوفة على الجملة قبلها داخلة معها في حكم الاستفهام كأنه قيل : فهل لنا من شفعاء ، أو هل نرد؟ ورافعه وقوعه موقعاً يصلح للاسم كقولك ابتداء «هل يضرب زيد» ، أو عطف على تقدير : هل يشفع لنا شافع أو هل نرد { فنعمل } جواب الاستفهام أيضاً { غير الّذي كنّا نعمل قد خسروآ أنفسهم وضلّ عنهم مّا كانوا يفترون } ما كانوا يعبدونه من الأصنام .
{ إنّ ربّكم اللّه الّذي خلق السّماوت والأرض في ستّة أيّامٍ } أراد السموات والأرض وما بينهما وقد فصلها في «حم السجدة» أي من الأحد إلى الجمعة لاعتبار الملائكة شيئاً فشيئاً ، وللإعلام بالتأني في الأمور ، ولأن لكل عمل يوماً ، ولأن إنشاء شيء بعد شيء أدل على عالم مدبر مريد يصرّفه على اختياره ويجريه على مشيئته { ثمّ استوى } استولى { على العرش } أضاف الاستيلاء إلى العرش وإن كان سبحانه وتعالى مستولياً على جميع المخلوقات ، لأن العرش أعظمها وأعلاها . وتفسير العرش بالسرير والاستواء بالاستقرار كما تقوله المشبهة باطل ، لأنه تعالى كان قبل العرش ولا مكان وهو الآن كما كان ، لأن التغير من صفات الأكوان . والمنقول عن الصادق والحسن وأبي حنيفة ومالك رضي الله عنهم ، أن الاستواء معلوم ، والتكييف فيه مجهول ، والإيمان به واجب ، والجحود له كفر ، والسؤال عنه بدعة . { يغشى الّيل النّهار } { يغشى } حمزة وعلي وأبو بكر .(1/372)
أي يلحق الليل بالنهار والنهار بالليل { يطلبه حثيثاً } حال من الليل أي سريعاً . والطالب هو الليل كأنه لسرعة مضيه يطلب النهار { والشّمس والقمر والنّجوم } أي وخلق الشمس والقمر والنجوم { مسخّراتٍ } حال أي مذللات { والشمس والقمر والنجوم مسخراتٌ } شامي { والشمس } مبتدأ والبقية معطوفة عليها والخبر { مسخرات } { بأمره } هو أمر تكوين . ولما ذكر أنه خلقهن مسخرات بأمره قال { ألا له الخلق والأمر } أي هو الذي خلق الأشياء وله الأمر { تبارك اللّه } كثر خيره أو دام بره من البركة النماء أو من البروك الثبات ومنه البركة { ربّ العالمين } .
{ ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً } نصب على الحال أي ذوي تضرع وخفية ، والتضرع تفعل من الضراعة وهي الذل أي تذللاً وتملقاً . قال عليه السلام " إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً إنه معكم أينما كنتم " عن الحسن : بين دعوة السر والعلانية سبعون ضعفاً . { إنّه لا يحبّ المعتدين } المجاوزين ما أمروا به في كل شيء من الدعاء وغيره . وعن ابن جريج : الرافعين أصواتهم بالدعاء . وعنه : الصياح في الدعاء مكروه وبدعة . وقيل : هو الإسهاب في الدعاء . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وحسب المرء أن يقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل " ثم قرأ { إنه لا يحب المعتدين } { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } أي بالمعصية بعد الطاعة ، أو بالشرك بعد التوحيد ، أو بالظلم بعد العدل { وادعوه خوفاً وطمعاً } حالان أي خائفين من الرد طامعين في الإجابة ، أو من النيران وفي الجنان ، أو من الفراق وفي التلاق ، أو من غيب العاقبة وفي ظاهر الهداية ، أو من العدل وفي الفضل { إنّ رحمت اللّه قريبٌ مّن المحسنين } ذكر قريب على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم ، أو لأنه صفة موصوف محذوف أي شيء قريب ، أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول ، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ، أو للإضافة إلى المذكر .
{ وهو الّذي يرسل الرّياح } { الريح } مكي وحمزة وعلي { بُشرا } { نشرا } حمزة وعلي . مصدر نشر ، وانتصابه إما لأن أرسل ونشر متقاربان فكأنه قيل نشرها نشراً ، وإما على الحال أي منشورات { بشرا } عاصم تخفيف «بشرا» جمع «بشير» ، لأن الرياح تبشر بالمطر { نشراً } شامي تخفيف «نشر» كرسل ورسل وهو قراءة الباقين جمع «نشور» أي ناشرة للمطر { بين يدي رحمته } أمام نعمته وهو الغيث الذي هو من أجلّ النعم { حتى إذآ أقلّت } حملت ورفعت ، واشتقاق الإقلال من القلة لأن الرافع المطيق يرى ما يرفعه قليلاً { سحاباً ثقالاً } بالماء جمع سحابة { سقناه } الضمير للسحاب على اللفظ ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث كما لو حمل الوصف على اللفظ لقيل ثقيلاً { لبلدٍ مّيّتٍ } - ميت - لأجل بلد ليس فيه مطر ولسقيه { ميّت } مدني وحمزة وعلي وحفص { فأنزلنا به المآء } بالسحاب أو بالسوق وكذلك { فأخرجنا به من كلّ الثّمرات كذلك } مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات { نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون } فيؤديكم التذكر إلى الإيمان بالبعث إذ لا فرق بين الإخراجين ، لأن كل واحد منهما إعادة الشيء بعد إنشائه { والبلد الطّيّب } الأرض الطيبة الترب { يخرج نباته بإذن ربّه } بتيسيره وهو موضع الحال كأنه قيل : يخرج نباتة حسناً وافياً لأنه واقع في مقابلة { نكدا } { والّذي خبث } صفة للبلد أي والبلد الخبيث { لا يخرجُ } أي نباته فحذف للاكتفاء { إلاّ نكداً } هو الذي لا خير فيه وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ وهو المؤمن ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك وهو الكافر ، وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر مثل المطر وإنزاله بالبلد الميت وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد { كذلك } مثل ذلك التصريف { نُصرّف الآيات } نرددها ونكررها { لقومٍ يشكرون } نعمة الله وهم المؤمنون ليتفكروا فيها ويعتبروا بها .(1/373)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
{ لقد أرسلنا } جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا { نوحاً إلى قومه } أرسل وهو ابن خمسين سنة وكان نجاراً ، وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو اسم إدريس عليه السلام { فقال ياقوم اعبدوا اللّه ما لكم مّن إله غيره } { غيره } علي . فالرفع على المحل كأنه قيل : ما لكم إله غيره فلا تعبدوا معه غيره ، والجر على اللفظ { إنى أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيمٍ } يوم القيامة أو يوم نزول العذاب عليهم وهو الطوفان .
{ قال الملأ } أي الأشراف والسادة { من قومه إنّا لنراك في ضلالٍ مّبينٍ } أي بين في ذهاب عن طريق الصواب ، والرؤية رؤية القلب { قال يا قوم ليس بي ضلالةٌ } ولم يقل ضلال كما قالوا لأن الضلالة أخص من الضلال فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه كأنه قال : ليس بي شيء من الضلال . ثم استدرك لتأكيد نفي الضلالة فقال { ولكنّي رسولٌ مّن رّبّ العالمين } لأن كونه رسولاً من الله مبلغاً لرسالاته في معنى كونه على الصراط المستقيم فكان في الغاية القصوى من الهدى { أبلّغكم رسالات ربّي } ما أوحي إلي في الأوقات المتطاولة أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي والمواعظ والبشائر والنظائر . { أبلغكم } أبو عمرو . وهو كلام مستأنف بيان لكونه رسول رب العالمين { وأنصح لكم } وأقصد صلاحكم بإخلاص . يقال نصحته ونصحت له ، وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة . وحقيقة النصح إرادة الخير لغيرك مما تريده لنفسك أو النهاية في صدق العناية { وأعلم من اللّه ما لا تعلمون } أي من صفاته يعني قدرته الباهرة وشدة بطشه على أعدائه وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين { أو عجبتم } الهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف كأنه قيل : أكذبتم وعجبتم { أن جآءكم } من أن جاءكم { ذكرٌ } موعظة { مّن رّبّكم على رجلٍ مّنكم } على لسان رجل منكم أي من جنسكم ، وذلك أنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح عليه السلام ويقولون { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } يعنون إرسال البشر ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة { لينذركم } ليحذركم عاقبة الكفر { ولتتّقوا } ولتوجد منكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار { ولعلّكم ترحمون } ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم { فكذّبوه } فنسبوه إلى الكذب { فأنجيناه والّذين معه } وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة وقيل تسعة : بنوه سام وحام ويافث ، وستة ممن آمن به { في الفلك } يتعلق بمعه كأنه قيل : والذين صحبوه في الفلك { وأغرقنا الّذين كذّبوا بأياتنا إنّهم كانوا قوماً عمين } عن الحق . يقال أعمى في البصر وعمٍ في البصيرة .
{ وإلى عادٍ } وأرسلنا إلى عاد وهو عطف على { نوحا } { أخاهم } واحداً منهم من قولك «يا أخا العرب» للواحد منهم .(1/374)
وإنما جعل واحداً منهم لأنهم عن رجل منهم أفهم فكانت الحجة عليهم ألزم { هوداً } عطف بيان ل { أخاهم } وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح { قال ياقوم اعبدوا اللّه ما لكم مّن إله غيره أفلا تتّقون } وإنما لم يقل { فقال } كما في قصة نوح عليه السلام لأنه على تقدير سؤال سائل قال : فما قال لهم هود؟ فقيل : { قال يا قوم اعبدوا اللّه } وكذلك { قال الملأ الّذين كفروا من قومه } وإنما وصف الملأ بالذين كفروا دون الملأ من قوم نوح لأن في أشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد فأريدت التفرقة بالوصف ، ولم يكن في أشراف قوم نوح عليه السلام مؤمن { إنّا لنراك في سفاهةٍ } في خفة حلم وسخافة عقل حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر . وجعلت السفاهة ظرفاً مجازاً يعني أنه متمكن فيها غير منفك عنها { وإنّا لنظنّك من الكاذبين } في ادعائك الرسالة .
{ قال يا قوم ليس بي سفاهةٌ ولكنّي رسولٌ مّن رّبّ العالمين أبلّغكم رسالات ربّي وأنا لكم ناصحٌ } فيما أدعوكم إليه { أمينٌ } على ما أقول لكم . وإنما قال هنا { وأنا لكم ناصح أمين } لقولهم { وإنا لنظنك من الكاذبين } أي ليقابل الاسم الاسم ، وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من ينسبهم إلى الضلالة والسفاهة بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم ، أدب حسن وخلق عظيم ، وإخبار الله تعالى ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم على ما يكون منهم { أو عجبتم أن جآءكم ذكرٌ مّن رّبّكم على رجلٍ مّنكم لينذركم واذكروآ إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوحٍ } أي خلفتموهم في الأرض أو في مساكنهم . و «إذ» مفعول به وليس بظرف أي اذكروا وقت استخلافكم { وزادكم في الخلق بصطةً } طولاً وامتداداً فكان أقصرهم ستين ذراعاً وأطولهم مائة ذراع { بصطة } : حجازي وعاصم وعلي { فاذكروا ءالاء اللّه } في استخلافكم وبسطة أجرامكم وما سواهما من عطاياه . وواحد الآلاء «إلى» نحو «إنى» و «آناء» { لعلّكم تفلحون } .
ومعنى المجيء في { قالوا أجئتنا } أن يكون لهود عليه السلام مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث ، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم { لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد ءابآؤنا } أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه حباً لما نشئوا عليه { فأتنا بما تعدنآ } من العذاب { إن كنت من الصّادقين } أن العذاب نازل بنا { قال قد وقع } أي قد نزل { عليكم } جعل المتوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع كقولك لمن طلب إليك بعض المطالب «قد كان» { مّن رّبّكم رجسٌ } عذاب { وغضبٌ } سخط { أتجادلونني في أسمآء سمّيتموهآ } في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات لأنكم تسمون الأصنام آلهة وهي خالية عن معنى الألوهية { أنتم وءابآؤكم مّا نزّل الله بها من سلطانٍ } حجة { فانتظروآ } نزول العذاب { إنّي معكم مّن المنتظرين } ذلك .(1/375)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
{ فأنجيناه والذين مَعَهُ } أي من آمن به { بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } الدابر الأصل أو الكائن خلف الشيء ، وقطع دابرهم استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم { وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } فائدة نفي الإيمان عنهم مع إثبات التكذيب بآيات الله الإشعار بأن الهلاك خص المكذبين . وقصتهم أن عاداً قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت ، وكانت لهم أصنام يعبدونها صداء وصمود والهباء ، فبعث الله إليهم هوداً فكذبوه فأمسك القطر عنهم ثلاث سنين . وكانوا إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج منه عند بيته الحرام فأوفدوا إليه قيل ابن عنز ونعيم بن هزال ومرثد بن سعد وكان يكتم إيمانه بهود عليه السلام وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوز بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر ، فنزلوا عليه بظاهر مكة فقال لهم مرثد : لن تسقوا حتى تؤمنوا بهود فخلفوا مرثداً وخرجوا فقال قيل : اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه منادٍ من السماء : يا قيل اختر لنفسك ولقومك ، فاختار السوداء على ظن أنها أكثر ماء فخرجت على عاد من وادٍ لهم فاستبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا ، فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا .
{ وإلى ثَمُودَ } وأرسلنا إلى ثمود . وقريء { وإلى ثمودٍ } بتأويل الحي أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر ، ومنع الصرف بتأويل القبيلة ، وقيل : سميت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام { أَخَاهُمْ صالحا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } آية ظاهرة شاهدة على صحة نبوتي فكأنه قيل : ما هذه البينة؟ فقال : { هذه نَاقَةُ الله } وهذه إضافة تخصيص وتعظيم لأنها بتكوينه تعالى بلا صلب ولا رحم { لَكُمْ ءايَةً } حال من الناقة والعامل معنى الإشارة في { هذه } كأنه قيل : أشير إليها آية ولكم بيان لمن هي له آية وهي ثمود لأنهم عاينوها { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله } أي الأرض أرض الله والناقة ناقة الله فذروها تأكل في أرض ربها من نبات ربها فليس عليكم مؤنتها { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء } ولا تضربوها ولا تعقروها ولا تطردوها إكراماً لآية الله { فَيَأْخُذَكُمْ } جواب النهي { عَذَابٌ أَلِيمٌ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ } ونزلكم ، والمباءة المنزل { فِى الأرض } في أرض الحجر بين الحجاز والشام { تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا } غرفاً للصيف { وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتًا } للشتاء ، و { بُيُوتًا } حال مقدرة نحو «خط هذا الثوب قميصاً» إذ الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت ولا الثوب قميصاً في حال الخياطة { فاذكروا ءالآء الله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ } روي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوها في الأرض وعمروا أعماراً طوالاً ، فنحتوا البيوت من الجبال خشية الانهدام قبل الممات ، وكانوا في سعة من العيش فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان ، فبعث الله إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً وصالح من أوسطهم نسباً ، فدعاهم إلى الله فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فأنذرهم ، فسألوه أن يخرج من صخرة بعينها ناقة عشراء فصلى ودعا ربه فتمخضت تمخض النتوج بولدها فخرجت منها ناقة كما شاؤوا فآمن به جندع ورهط من قومه .(1/376)
{ قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ } { وَقَالَ } شامي { لِلَّذِينَ استضعفوا } للذين استضعفهم رؤساء الكفار { لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } بدل من { الذين استضعفوا } بإعادة الجار ، وفيه دليل على أن البدل حيث جاء كان في تقدير إعادة العامل ، والضمير في { مِنْهُمْ } راجع إلى قومه وهو يدل على أن استضعافهم كان مقصوراً على المؤمنين ، أو إلى { الذين استضعفوا } وهو يدل على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين { أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ } قالوه على سبيل السخرية { قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } وإنما صار هذا جواباً لهم لأنهم سألوهم عن العلم بإرساله أمراً معلوماً مسلماً كأنهم قالوا : العلم بإرساله وبما أرسل به لا شبهة فيه ، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنابه مؤمنون { قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بالذى ءامَنتُمْ بِهِ كافرون } فوضعوا { آمنتم به } موضع أرسل به رداً لما جعله المؤمنون معلوماً مسلماً { فَعَقَرُواْ الناقة } أسند العقر إلى جميعهم وإن كان العاقر قدار بن سالف لأنه كان برضاهم . وكان قدار أحمر أزرق قصيراً كما كان فرعون كذلك . وقال عليه السلام : « يا علي ، أشقى الأولين عاقر ناقة صالح وأشقى الآخرين قاتلك » { وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ } وتولوا عنه واستكبروا وأمر ربهم ما أمر به على لسان صالح عليه السلام من قوله { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله } أو شأن ربهم وهو دينه { وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا } من العذاب { إِن كُنتَ مِنَ المرسلين فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ } في بلادهم أو مساكنهم { جاثمين } ميتين قعوداً . يقال : الناس جثم أي قعود لا حراك بهم ولا يتكلمون { فتولى عَنْهُمْ } لما عقروا الناقة { وَقَالَ يا قَوْمِ } عند فراقه إياهم { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين } الآمرين بالهدى لاستحلاء الهوى والنصيحة منيحة تدرأ الفضيحة ، ولكنها وخيمة تورث السخيمة .(1/377)
روي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء فقال صالح : تعيشون بعده ثلاثة أيام ، تصفر وجوهكم أول يوم ، وتحمر في الثاني ، وتسود في الثالث ، ويصيبكم العذاب في الرابع وكان كذلك . روي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي ، فلما علم أنهم هلكوا رجع بمن معه فسكنوا ديارهم . { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } أي واذكر لوطاً «وإذ» بدل منه { أَتَأْتُونَ الفاحشة } أتفعلون السيئة المتمادية في القبح { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا } ما عملها قبلكم والباء للتعدية ومنه قوله عليه السلام " سبقك بها عكاشة " { مّنْ أَحَدٍ } «من» زائدة لتأكيد المنفي وإفادة معنى الاستغراق { مّن العالمين } «من» للتبعيض وهذه جملة مستأنفة أنكر عليهم أولاً بقوله { أَتَأْتُونَ الفاحشة } ثم وبخهم عليها فقال أنتم أول من عملها . وقوله تعالى { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال } -أئنكم لتأتون الرجال - بيان لقوله { أَتَأْتُونَ الفاحشة } والهمزة مثلها في { أَتَأْتُونَ } للإنكار . { إِنَّكُمْ } على الإخبار : مدني وحفص . يقال : أتى المرأة إذا غشيها { شَهْوَةً } مفعول له أي للاشتهاء لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة ، ولا ذم أعظم منه لأنه وصف لهم بالبهيمية { مّن دُونِ النساء } أي لا من النساء { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء فمن ثمّ أسرفوا في باب قضاء الشهوة حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد .
{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ } أي لوطاً ومن آمن معه يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط من إنكار الفاحشة ، ووصفهم بصفة الإسراف الذي هو أصل الشر ، ولكنهم جاءوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } يدّعون الطهارة ويدعون فعلنا الخبيث عن ابن عباس رضي الله عنهما : عابوهم بما يتمدح به { فأنجيناه وَأَهْلَهُ } ومن يختص به من ذويه أو من المؤمنين { إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } من الباقين في العذاب ، والتذكير لتغليب الذكور على الإناث وكانت كافرة موالية لأهل سدوم ، وروي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } وأرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً قالوا : أمطر الله عليهم الكبريت والنار . وقيل : خسف بالمقيمين منهم وأمطرت حجارة على مسافريهم . وقال أبو عبيدة : أمطر في العذاب ومطر في الرحمة { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين } الكافرين .
{ وإلى مَدْيَنَ } وأرسلنا إلى مدين وهو اسم قبيلة { أخاهم شُعَيْباً } يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين { قَالَ يَا قَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } أي معجزة وإن لم تذكر في القرآن { فَأَوْفُواْ الكيل والميزان } أتموهما والمراد فأوفوا الكيل ووزن الميزان ، أو يكون الميزان كالميعاد بمعنى المصدر { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ } ولا تنقصوا حقوقهم بتطفيف الكيل ونقصان الوزن ، وكانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعتهم .(1/378)
«وبخس» يتعدى إلى مفعولين وهما الناس وأشياءهم تقول : بخست زيداً حقه أي نقصته إياه { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إصلاحها } بعد الإصلاح فيها أي لا تفسدوا فيها بعدما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء والأولياء . وإضافته كإضافة { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] أي بل مكركم في الليل والنهار { ذلكم } إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض { خَيْرٌ لَّكُمْ } في الإنسانية وحسن الأحدوثة { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } مصدقين لي في قولي { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط } بكل طريق { تُوعَدُونَ } من آمن بشعيب بالعذاب { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } عن العبادة { مَنْ ءامَنَ بِهِ } بالله وقيل : كانوا يقطعون الطرق . وقيل : كانوا عشارين { وَتَبْغُونَهَا } وتطلبون لسبيل الله { عِوَجَا } أي تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة لتمنعوهم عن سلوكها . ومحل { تُوعَدُونَ } وما عطف عليه النصب على الحال أي لا تقعدوا موعدين وصادين عن سبيل الله وباغين عوجاً { واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً } «إذ» مفعول به غير ظرف أي واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلاً عددكم { فَكَثَّرَكُمْ } الله ووفر عددكم . وقيل : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا { وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين } آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح وهود ولوط عليهم السلام { وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فاصبروا } فانتظروا { حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا } أي بين الفريقين بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم ، وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله تعالى منهم ، أو هو حث للمؤمنين على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم ، أو هو خطاب للفريقين أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار ، والكافرون على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب . { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } لأن حكمه حق وعدل لا يخاف فيه الجور .(1/379)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
{ قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أي ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم وإما عودكم في الكفر { قَالَ } شعيب { أَوَلَوْ كُنَّا كارهين } الهمزة للاستفهام والواو للحال تقديره أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا ومع كوننا كارهين قالوا : نعم . ثم قال شعيب { قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ } وهو قسم على تقدير حذف اللام أي والله لقد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } خلصنا الله . فإن قلت : كيف قال شعيب { إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ } والكفر على الأنبياء عليهم السلام محال؟ قلت : أراد عود قومه إلا أنه يضم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب { وَمَا يَكُونُ لَنَا } وما ينبغي لنا وما يصح { أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله رَبُّنَا } إلا أن يكون سبق في مشيئته أن نعود فيها إذ الكائنات كلها بمشيئة الله تعالى خيرها وشرها { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } تمييز أي هو عالم بكل شيء فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول وقلوبهم كيف تتقلب { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } أي الحكم والفتاحة الحكومة والقضاء بالحق بفتح الأمر المغلق فلذا سمي فتحاً ، ويسمي أهل عمان القاضي فتاحاً { وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } كقوله { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } { وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون } مغبونون لفوات فوائد البخس والتطفيف باتباعه لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية . وجواب القسم الذي وطأته اللام في { لَئِنِ اتبعتم } وجواب الشرط { إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون } فهو ساد مسد الجوابين { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } الزلزلة { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين } ميتين { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا } مبتدأ خبره { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } لم يقيموا فيها . غني بالمكان أقام { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا } مبتدأ خبره { كَانُواْ هُمُ الخاسرين } لا من قالوا لهم إنكم إذاً لخاسرون وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل : الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهلكوا كأن لم يقيموا في دارهم ، لأن الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله ، الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه فهم الرابحون ، وفي التكرار مبالغة واستعظام لتكذيبهم ولما جرى عليهم .
{ فتولى عَنْهُمْ } بعد أن نزل بهم العذاب { وَقَالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسى } أحزن { على قَوْمٍ كافرين } اشتد حزنه على قومه ، ثم أنكر على نفسه فقال : كيف يشتد حزني على قوم ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم واستحقاقهم ما نزل بهم ، أو أراد لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والتحذير مما حل بكم فلم تصدقوني فكيف آسى عليكم { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ } يقال لكل مدينة قرية ، وفيه حذف أي فكذبوه { إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأساء } بالبؤس والفقر { والضراء } الضر والمرض لاستكبارهم عن اتباع نبيهم ، أو هما نقصان النفس والمال { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة } أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء ، والمحنة : الرخاء والسعة والصحة { حتى عَفَواْ } كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم «عفا النباب» إذا كثر ، ومنه قوله عليه السلام(1/380)