مجموع فيه رسائل
للحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي
محمد بن أبي بكر عبد الله بن محمد القيسي
(777 - 842 هـ)
تحقيق وتعليق
أبي عبد الله مشعل بن باني الجبرين المطيري
دار ابن حزم
الطبعة الأولى
1422 هـ - 2001 م(/)
مجلس في فضل يوم عرفة وما يتعلق به(1/117)
بسم الله الرحمن الرحيم
[و]صلى الله على سيدنا محمدٍ وآل سيدنا محمدٍ وصحبه وسلم.
الحمد لله الذي تعرف إلى أوليائه [بنعمائه] فشكره كل من عرفه، ورفع إلى جنابه من شاء من أحبابه فحاز فخره وشرفه، وكفى من توكل عليه، ومن لجأ إليه ولطف به وأسعفه؛ ذلت الصعاب لهيبته، وخضعت الرقاب لعظمته، وعنت الوجوه لعزته، وتحرك كل لسانٍ بقدرته وشفه؛ جل عظمةً وسلطاناً، وتمجد قدرةً وشأناً، وتبارك رحيماً ورحماناً، وتنزه ذاتاً وصفه.
نحمده على جزيل الإنعام، ونشكره على جسيم الإكرام، فنعمه لا تحصى وأجلها الإسلام، ومنها أن أكمل لنا ديننا في يوم عرفة.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من أخلص في(1/129)
مقاله، وسدد لله في أقواله وأعماله، وذكر الله على كل أحواله، فمنحه الهداية وعن الغواية صرفه ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أرسله للعباد رحمة، وأيده بالحماية، وأمده بالعصمة، وشرف بمبعثه هذه الأمة، وبالرأفة والرحمة وصفة؛ صلى الله عليه وعلى آله الأشراف الأمجاد،وأصحابه الأئمة الأجواد، وتابعيهم [بإحسانٍ] إلى يوم المعاد، ما شق [الفجر] ليلاً وخلفه؛ وسلم تسليماً.
قال الله عز وجل:{والفجر. وليالٍ عشرٍ. والشفع والوتر. واليل إذا يسر. هل في ذلك قسمٌ لذي حجرٍ}الآيات.
قوله تعالى.{ والفجر}: هذا قسمٌ، أقسم الله تعالى به، وهو من جملة الأقسام الواقعة في القرآن، وكل منها له سرٌ كريم، وشأنٌ عظيمٌ واختلف في المراد بالفجر هنا.
فقيل: هو على ظاهره وهو بدو النهار روي عن علي [بن] أبي طالب -رضي الله عنه- وغيره.
وهذا كما أقسم الله تعالى بالصبح في قوله تعالى: {والصبح إذا تنفس}.
فيتضمن القسم بوقت صلاة الفجر كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن المراد بالفجر هنا: صلاة الفجر التي هي أول الصلوات، كما تضمن آخر القسم وهو قوله تعالى:{والليل إذا يسر} آخر(1/130)
الصلوات، ففتح القسم بوقت أول الصلوات، [وختم بوقت آخر الصلوات].
وقيل: والفجر، أي: ورب الفجر، فيكون القسم بالخالق سبحانه وتعالى.
وقيل: الفجر: فجر أول يوم النحر قاله مجاهد.
وقيل: [الفجر] فجر أول يوم من المحرم، لأن منه تتفجر أيام السنة قاله قتادة.
وقيل: الفجر: فجر أول يوم من عشر ذي الحجة قال الضحاك بن مزاحم.
وقيل : الفجر: فجر يوم عرفة، وليال عشر: عشر ذي الحجة رواه أبو الزبير عن جابر -رضي الله تعالى عنه- بمعناه.
وهو المشهور الصحيح عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-.
رواه عن زرارة بن أوفى، وأبو نصر محمد بن قيس الأسدي.(1/131)
وقاله مجاهدٌ ومسروقٌ وقتادةٌ والضحاك ومقاتل والسدي وغيرهم، وحكى الحافظ أبو موسى المديني في كتاب ((الترغيب والترهيب)) اتفاق المفسرين على هذا القول إلا ما روي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه العشر الأواخر من رمضان، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-.
والقول الأول أكثر أنه عشر ذي الحجة، وممن قال عكرمة، وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال أبو الضحى: سئل [مسروق] عن قوله تعالى{والفجر. وليال عشر} قال: هي أفضل أيام السنة. انتهى.
وهذا العشر يتضمن أيضاً الصلوات المفروضات، والمناسك المختصة بالعبادات.(1/132)
وقوله تعالى: {والشفع والوتر} هما من جملة الأقسام المذكورة في هذه السورة بين أول القسم وآخره، لأنهما يتضمنان المناسك والصلوات المختصة بالعبادة، والعبادة منها شفع ومنها وتر في الأماكن والأعمال والزمان.
فالأماكن: كالصفا والمروة شفعٌ، والبيت وترٌ، ومنى ومزدلفة شفعٌ، وعرفة وترٌ.
وأما الأعمال: فالطوف وترٌ، وركعتاه شفعٌ، والصلوات منها وترٌ كالمغرب، ومنها شفعٌ.
وخرج الترمذي من حديث عمران بن حصين -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي- سئل عن الشفع والوتر قال:
((هي الصلاة بعضها شفعٌ وبعضها وترٌ)).(1/133)
هذا حديث غريبٌ.
وأما الأزمان فقد قال عكرمة عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في قوله تعالى:{ والشفع والوتر} قال: الشفع يوم النحر، الوتر يوم عرفة)).
خرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في ((مسنده)).
وجاء من حديث أبي الزبير عن جابر -رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: ((العشر: عشر الأضحى، والوتر: يوم عرفة، والشفع: يوم النحر)).
خرجه الإمام أحمد في ((مسنده)) والنسائي وإسناده حسنٌ.(1/134)
وجاء عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- [موقوفاً.
وعن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن الوتر آدم وشفع بزوجته حواء.
وعن غير مجاهد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما]: ((أن الشفع آدم وزوجته حواء، والوتر الله تعالى وحده.
وهكذا قاله مقاتل في ((تفسير)).
وجاء عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- رواية ثالثة: أن الشفع يوم النحر، والوتر اليوم الثالث.
وقال ابن الزبير -رضي الله تعالى عنهما-: ((الشفع يومان بعد يوم النحر، والوتر اليوم الثالث)).
وقال عطية العوفي: الشفع الخلق قال الله تعالى:{وخلقنكم أزواجاً}، والوتر هو الله عز وجل .
وروي نحوه عن مجاهد ومسروق والحكم وغيرهم.
وجاء عن مقاتل، أن الشفع الأيام والليالي، والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة.
وقيل: الشفع تضاد أوصاف المخلوقين من عز وذل، وقدرة وعجز،(1/135)
وقوة وضعف، وعلم وجهل، وحياة وموت، والوتر: انفراد صفة الله عز وجل [عن] عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت قاله أبو بكر بن عمر الوراق.
وقيل فيهما غير ذلك نحواً من ثلاثين قولاً، ومدار الأقوال على القسم بالخالق سبحانه وتعالى ثم بالمخلوق.
وقوله تعالى: {والليل إذا يسر}: الليل هو: ليلة الأضحى قاله مقاتل وغيره.
ويسري معناه: أقبل، [وقيل: يسري ذاهباً]، وقيل: يسري فيه كما يقال: ليل نائم، أي ينام فيه، والياء من يسري حذفت لمشاكلتها رؤوس الآي، واتباعاً للمصحف، وجرياً على قاعدة العرب لأنها تحذف الياء وتكتفي منها بكسر ما قبلها، فيما ذكره أبو إسحاق الزجاج وغيره.
وقرئ بإثباتها وصلاً ووقفاً، وبحذفها فيهما، وبإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً.
ولما ذكر الله سبحانه وتعالى القسم قال الله تعالى: [{هل في ذلك(1/136)
قسمٌ لذي حجرٍ} يعني:] هل في هذا القسم كفاية لذي لب وعقل يحجزه عن الغفلة واتباع الهوى، فيعرف عظم هذا القسم الذي أقسم الله تعالى فيه بنفسه جل وعلا، ثم بخلقه الذي في كل شيء منه آية تدل على وحدانية الله عز وجل.
تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وجواب هذا القسم الذي أقسم الله تعالى به قوله تعالى: {إن ربك لبالمرصاد} [فأقسم الله تعالى بنفسه، ثم بخلقه على أن ربك لبالمرصاد] رقيب عليكم، وناظر إليكم، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
والمرصاد: قيل: موضع الرصد، وهم القوم يرصدون [فيه] أي: يرقبون، وقيل: هو الطريق.
وقال أبو صالح الهذيل بن حبيب الأزدي عن مقاتل بن سليمان في قوله تعالى: {إن ربك لبالمرصاد} يعني : الصراط، وذلك أن جسر جهنم -أجارنا الله منها- عليه سبع قناطر، كل قنطرة مسيرة سبعين عاماً، على كل قنطرة ملائكة قيام، وجوههم مثل الجمر، وأعينهم مثل البرق،(1/137)
بأيديهم المحاسك والمحاجز والكلاليب، يسألون في أول قنطرة عن الإيمان بالله عز وجل، وفي الثانية عن الصلوات الخمس، وفي الثالثة عن الزكاة، وفي الرابعة عن صوم شهر رمضان، وفي الخامسة عن حج البيت، وفي السادسة عن العمرة، وفي السابعة عن مظالم الناس والقصاص، فذلك قوله عز وجل: {إن ربك لبالمرصاد}.
وفي تفسير هذه الأقسام غير ذلك.
منها: ما علق القاضي عياض في كتابه ((الشفا)) عن ابن عطاء في قوله تعالى:{والفجر} قال: هو محمد- صلى الله عليه وسلم - منه تفجر الإيمان.
وقيل: الفجر: هو انفجار المياه والعيون والنبات من الأرض، والثمار من الأشجار، التي لو اجتمع الخلائق على إخراج قطرة ماء من حجر لما قدروا عليه، [ولو اجتمعوا على إخراج ثمرة من شجرة لما قدروا عليه]، ولا يقدر على ذلك إلا الرب القادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
ذكره طاهر الحدادي في كتابه ((عيون المجالس)).
ثم قال: ((وشاهد ذلك القول حكاية وجدتها في بعض الكتب أن رجلاً استلقى تحت شجرة فنظر إلى أوراق تلك الشجرة في الحسن فخطر على قلبه: من أورق هذه الشجرة؟ فوقعت على وجهه ورقة مكتوب عليها: أخرج الورق من الشجرة من شق على الوجه البصر)).(1/138)
والأكثرون على أن الفجر فجر يوم عرفة، والعشر [عشر] ذي الحجة كما تقدم.
وقال أبو عثمان النهدي: كانوا يفضلون ثلاث عشرات: العشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم، والعشر الأواخر من رمضان.
والأخبار مشعرةٌ بتفضيل عشر ذي الحجة على العشرين المذكورين لأن فيه يوم التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر.
قال عبيد الله بن عبد المجيد: حدثنا مرزوق أبو بكر [قال:] حدثنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال:
((ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة)). قالوا: يا نبي الله! ولا مثلها في سبيل الله؟.
قال: ((ولا مثلها في سبيل الله، إلا من عفر وجهه في التراب)).
ورواه فضيل الجحدري عن عاصم بن هلال عن أيوب عن أبي الزبير بنحوه.(1/139)
وفيه: ((إن أفضل أيام الدنيا أيام العشر)).
وخرجه البزار في ((مسنده)) وابن حبان في ((صحيحه)) ولفظه:
((ما من أيام أفضل عند الله من [أيام] عشر ذي الحجة)).
فقال رجلٌ: يا رسول الله: هو أفضل أم عدتهن جهاداً في سبيل الله؟.
قال: ((هو أفضل من عدتهن جهاداً في سبيل الله)).
وروي من طريق أخرى ولفظه: ((ما من أيام أفضل عند الله من أيام(1/140)
عشر ذي الحجة، ولا ليالي أفضل من لياليهن)) الحديث.
خرجه موسى أبو موسى المديني في ((الترغيب والترهيب)).
[وفي الحديث وما قبله دلالة على] أن العشر أفضل أيام الدنيا، وفي حديث جابر -رضي الله تعالى عنه-: ((ولا ليالي أفضل من لياليهن)) ما يشعر بتفضيلهن على ليالي عشر رمضان.
وجاء في حديث عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- لكن إسناده ضعيفٌ:
((قيام كل ليلةٍ منها كقيام ليلة القدر)).(1/141)
وقال بعض الأئمة: يقال: مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر [شهر] رمضان، لأن هذا العشر أقسم الله عز وجل بفجر أول يوم منه على قوله الضحاك وغيره.
وأيضاً: أقسم الله عز وجل بلياليه العشر على قول الجمهور، وصح عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-.
وهو العشر التي أتمها الله عز وجل لموسى -عليه الصلاة والسلام- في قوله تعالى:{ووعدنا موسى ثلثين ليلةً وأتممناها بعشرٍ فتم ميقات ربه أربيعين ليلةٍ} قاله مجاهد.
وهو خاتمة الأشهر المعلومات، المذكورة في قوله تعالى: {الحج أشهرٌ معلوماتٌ} وهي: شوال وذو القعدة، وعشر [من] ذي الحجة.
قاله عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وأكثر التابعين.(1/142)
وبعضهم أخرج منه يوم النحر.
وهو الأيام المعلومات قاله ابن عمر وابن عباس -رضي الله تعالى عنهم-، وطائفةٌ من التابعين منهم الحسن وعطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة وسعيد بن جبير.
ويروى عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [قال:]
((اختار الله عز وجل الزمان، فأحب الزمان إلى الله عز وجل الأشهر الحرم، وأحب الأشهر إلى الله عز وجل ذو الحجة، وأحب ذي الحجة إلى الله عز وجل العشر الأول)).
وخرج البخاري في ((صحيحه)) من [حديث] مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال:
((ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني أيام العشر-)).(1/143)
قالوا يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟.
قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع بشيء)).
وخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
ورويناه من طريق القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- [قال:] قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:
((ما من أيام أزكى ولا أحب إلى الله عز وجل، ولا أعظم منزلة من خير عمل في العشر [من] الأضحى)).
قيل: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟
قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ جاهد بماله ونفسه فلم يرجع من ذلك بشيء)).
وفي هذا دلالة على أن العمل في هذا العشر -وإن كان مفضولاً – أفضل من العمل في غيره، وإن كان فاضلاً، وربما يزيد عليه بمضاعفة(1/144)
الثواب كما رويناه من [حديث] عدي بن ثابت وعن النهاس بن قهم عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنهما-ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم - قال:
(([ما] من أيام الدنيا أحب إلى الله عز وجل أن يتعبد له فيها من أيام العشر يعدل صيام كل يوم منها صيام سنةٍ، وقيام كل ليلةٍ منها كقيام ليلة القدر)).
وخرجه الترمذي وابن ماجه بنحوه.
وروينا من حديث مقاتل بن إبراهيم، حدثنا عثمان بن عبد الله عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:
((ما عمل في عشر ذي الحجة [العمل] يضاعف فيها ما لا يضاعف في غيرها، صيام يومٍ منها يعدل صيام سنة، وقيام ليلة منها يعدل قيام ليلة القدر)).
ويروى عن مجاهد عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال:
((ليس يوم أعظم عند الله تعالى من يوم الجمعة ليس العشر، وإن العمل فيها يعدل عمل سنة)).(1/145)
وعن حميد سمعت ابن سيرين وقتادة يقولان: ((صوم كل يوم من العشر يعدل سنة)).
وجاء أنه يستجاب في هذا العشر الدعاء، كما روي عن أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- أن الأيام المعلومات هي تسع ذي الحجة غير يوم النحر، وأنه لا يرد فيهن الدعاء.
وكيف يرد فيهن الدعاء وفيهن يوم عرفة الذي روي أنه أفضل أيام الدنيا فيما خرجه ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث جابر -رضي الله تعالى عنه- مرفوعاً به.
وعلق أبو زكريا النووي -رحمه الله- عن البغوي وغيره، أن يوم عرفة أفضل أيام السنة، وعلى المرجح من المذهب، لو علق [أحدٌ] طلاق زوجته فقال: أنت طالق في أفضل أيام الدنيا، طلقت يوم عرفة.
وليوم عرفة أسماء:
منها هذا الاسم، واختلفوا لم سمي بذلك.
فذكر أبو بكر [ابن] الأنباري إنما سمي يوم عرفة لأن جبريل- عليه السلام- علم إبراهيم- عليه [الصلاة] والسلام المناسك كلها بعرفة، فقال: أعرفت في أي موضع تطوف؟ وفي أي موضع تسعى؟ وفي أي موضع تقف؟ وفي أي موضع تنحر [وترمي]؟(1/146)
فقال له: عرفت فسميت: عرفة.
وروي عن سليمان التيمي عن أبي مجلز قال: إنما سميت عرفة لأن جبريل -عليه السلام- كان يري إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- المناسك ويقول له: أعرفت، أعرفت؟
وجاء نحوه عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وعطاء -رحمه الله تعالى-.
وقال الضحاك: إنما سمي بذلك لأن آدم -عليه السلام- وقع بالهند، وحواء بجدة واجتمعا بعرفة وتعارفا.
وروى إسماعيل بن عياش، [عن الكلبي]، عن أبي صالح، عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: إن إبراهيم الخليل عليه [الصلاة] والسلام رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه، فلما أصبح روَّى يومه أجمع -أي: فكر- أمن [أمر] الله عز وجل ذلك الحلم أو من الشيطان؟ فسمي اليوم من فكرته: [يوم] تروية. ثم رأى ليلة عرفة(1/147)
ذلك ثانياً، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله عز وجل، فسمي اليوم: عرفة.
وقيل: سمي ذلك بذلك لطيب رائحته، مأخوذ من العرف الذي هو الأرج الطيب، ومنه قوله تعالى:{ويدخلهم الجنة عرفها لهم} أي طيبها [لهم] في أحد التأويلات.
وقيل: لأن آدم اعترف بذنبه فيه، فوقعت له التوبة والقبول فيه.
وقيل: سمي بذلك لأن الناس يتعارفون بعرفات، كالركب الشامي مثلاً يعرف أخبار العراقي، والعراقي أخبار اليماني.
وقيل: يحتمل أن يكون سمي عرفة لأن الناس يعترفون هناك في ذلك اليوم بذنوبهم إلى الله عز وجل.
وقيل: إن الحور العين تستأذن رضوان عليه السلام، فيطلعن على أزواجهن في يوم عرفة، فيعرفن أزواجهن، فسميت عرفة [لذلك].
ذكره الترمذي الحكيم في كتابه ((أسرار الحج)).
ومن أسماء يوم عرفة: يوم التمام، لأن الله عز وجل أكمل فيه الدين وأتم فيه النعمة على المؤمنين، وهو عيد لأهل الإسلام كما قاله عمر(1/148)
وعلي -رضي الله تعالى عنهما- [وغيرهما].
ومن أسمائه: يوم الحج الكبر.
[يروى عن محمد بن قيس عن المسور بن مخرمة -رضي الله تعالى عنهما- قال: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بعرفة فقال: ((إن هذا يوم الحج الأكبر))].
ويروى من حديث الحارث عن علي -رضي الله تعالى عنه- من قوله.
وجاء نحوه عن أبي جحيفة وابن عباس -رضي الله تعالى عنهم- [وقاله عطاء].
ومن أسمائه المشهود.
ذكر جماعةٌ من المفسرين أن المشهود في قوله تعالى:{وشاهدٍ ومشهودٍ} يوم عرفة.(1/149)
ويعضده ما خرجه الترمذي في ((جامعه)) عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:
((اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة)). وذكر الحديث.
وله شاهد من حديث أبي مالك الأشعري -رضي الله تعالى عنه-.
والشيء إذا تعددت أسماؤه دل على عظمته وشرفه، ويوم عرفة كذلك ولهذا عظمت فيه الطاعات، وزكت فيه العبادات.
قال أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتابه ((أسرار الحج)).(1/150)
وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((من تصدق في عرفة احتساباً قبل الله تعالى منه، وكان كمن أدرك ما فاته من صدقات السنة)).
وجاء من حديث خالد بن خداش [قال]: حدثنا سكين بن عبد العزيز، عن أبيه عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال للفضل بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- يوم عرفة:
((ابن أخي [إن] هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره غفر الله له ما تقدم من ذنبه)).
ورويناه من حديث عفان بن مسلم [قال]: حدثنا سكين [قال]: حدثني أبي [قال]: سمعت عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال:
كان الفضل بن عباس رضي الله تعالى عنهما- رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة. [قال]: فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:(1/151)
((يا ابن أخي إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له)).
ومن فضائل يوم عرفة: ما رويناه من حديث حرمي بن عمارة قال: حدثني زيد بن موسى [قال]: سمعت الحسن عن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال:
((كان يقال في أيام العشر: لكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة عشرة آلاف يوم -يعني في الفضل-)).
وعن هزيل عن مسروق عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت:
((ما من السنة يوم أحب إلي أن أصومه من يوم عرفة)).
وروى ابن لهيعة عن عمران بن سليمان قال: سألت ابن عمر(1/152)
-رضي الله تعالى عنهما- عن صيام يوم عرفة، قال:
((هو أحق من الأيام أن يصام بعد شهر رمضان)).
ويروى من حديث محمد بن المنكدر عن جابر -رضي الله تعالى عنه- [قال]: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((من صام أيام العشر كتب له بكل يوم صوم سنةٍ غير عرفة، فإنه من صام يوم عرفة كتب له صوم سنتين)).
وجاء عن يزيد بن جابر عن عطاء بن أبي رباح قال:
((من صام يوم عرفة كان له كأجر ألفي يوم)).
وصح من حديث أبي قتادة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال:
((صيام يوم عرفة [إني] أحتسب على الله تعالى أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله)).
وجاء عن نصر بن باب عن حجاج بن أرطاه، عن صفوان بن سليم، عن عياض بن عبد الله عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:(1/153)
((صوم [يوم] عرفة كفارة سنةٍ قبلها، ونافلة سنةٍ بعدها)).
وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما [قال]: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:
((صوم أيام العشر من ذي الحجة كل يوم كفارة شهرٍ، وصوم يوم التروية كفارة سنةٍ، وصوم يوم عرفة كفارة سنتين)).
ويوم التروية: الثامن من هذا العشر، واختلف في سبب تسميته بذلك.
فقيل: من تروي إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- في أمر رؤياه بذبح الولد.
وقيل: سمي بذلك لأن الناس كانوا يتروون معهم من الماء من مكة، فإن عرفات لم يكن بها ماء.(1/154)
رواه إسحاق بن راشد عن الزهري [قوله].
وقاله ابن الحنفية وغيره.
وقيل: إن آدم -عليه الصلاة السلام- أقبل من السند والهند حاجاً، وكان في وقت الحر الشديد فعطش فشكى ذلك إلى جبريل -عليه الصلاة والسلام - فنفح في الأرض نفحةً فخرج منها الماء فسقى آدم فقال: يا جبريل رويت، وكان يوم الثامن فسمي يوم التروية.
وقيل: لأن الناس يتروون في ذلك اليوم تحت رحمة الله.
ذكره الترمذي الحكيم في ((أسرار الحج)).
واليوم الذي قبل يوم التروية يسمى: يوم الزينة، والتاسع: يوم عرفة، والعاشر: يوم النحر، والحادي عشر: يوم القر لأنهم يقرون فيه بمنى، والثاني عشر: يوم النفر الأول، والثالث عشر: يوم النفر الثاني.
وصيام يوم عرفة للعلماء فيه مذاهب.
فذهب مالكٌ -رحمة الله تعالى عليه- إلى استحبابه من غير تأكيد، وجاء عنه أنه استحب فطره للحاج [ليتقوى على الدعاء وهو مذهب الثوري وخلقٍ من العلماء.
وذهب الشافعي -رحمة الله عليه- إلى استحبابه لغير الحاج وإنه ينبغي(1/155)
فطره للحاج] وعند كثير (1) أصحابه أنه مكروه للحاج فيما حكاه النووي -رحمه الله-.
[و] في القديم عن الشافعي -رحمة الله تعالى-: ((لو كان رجل يعلم أن الصوم لا يضعفه -يعني بعرفة- فصامه كان حسناً)).
وروي عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- [أنه] قال:
حججت مع النبي- صلى الله عليه وسلم - فلم يصمه -يعني يوم عرفة- وحججت مع أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- فلم يصمه، وحججت مع عمر -رضي الله تعالى عنه- فلم يصمه، وحججت مع عثمان -رضي الله تعالى عنه- فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهي عنه)).
وجاء النهي عن صيامه [بعرفة] فيما خرجه أبو داود من حديث حوشب بن عقيل عن مهدي الهجري [قال]: حدثنا عكرمة قال: كنا عند أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- فحدثنا ((أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة)).
__________
(1) [[كذا في المطبوع]].(1/156)
وخرجه ابن ماجه ولفظه: عن حوشب بن عقيل قال: حدثني مهدي العبدي عن عكرمة قال: دخلت على أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في بيته، فسألته عن صوم يوم عرفة بعرفات فقال أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-:
((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة بعرفات)).
وخرجه النسائي وعنده:
عن عقبة بن عامر -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكلِ وشربٍ)).(1/157)
ترجم عليه النسائي:
((النهي عن صوم يوم عرفة بعرفة)).
وروى أحمد بن عيسى بن السكين البلدي، حدثنا هاشم بن القاسم [قال]: حدثنا يعلى بن الأشدق [قال]: حدثنا عبد الله بن جراد -رضي الله تعالى عنه- [قال]: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:
((من صام يوم عرفة مقيماً في أهله ليس مسافراً يعدل صيام سنتين: سنةٍ قبلها وسنةٍ بعدها)).
وجاء عن سفيان الثوري عن عروة عن عطاء قال:
((من أفطر يوم عرفة ليتقوى على الدعاء كان له مثل أجر الصائم)).
وسئل سفيان بن عيينة عن النهي عن صيام يوم عرفة -يعني للحاج- قال:(1/158)
((لأنهم زوار الله -عز وجل- وأضيافه، ولا ينبغي للكريم أن يجوع أضيافه)).
وذهب أبو حنيفة -رحمة الله تعالى عليه- إلى أن صيام يوم عرفة مستحب للحاج أيضاً إلا أن يضعف عن الدعاء.
وذهب أحمد بن حنبل -رحمة الله تعالى عليه- إلى أنه إن قدر على الصوم صام، وإن أفطر فذاك يوم يحتاج فيه إلى قوةٍ.
وكان إسحاق بن راهويه يستحب صيامه للحاج.
وقال قتادة: ((لا بأس إذا لم يضعف عن الدعاء)).
فالدعاء مندوبٌ إليه في هذا اليوم الشريف لما خرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله تعالى عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال:
((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)).
وخرجه [الإمام] أحمد في ((مسنده)).(1/159)
وقال أبو عبد الله الحسين بن الحسن المروزي صاحب ابن المبارك:
سألت سفيان بن عيينة عن تفسير قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((أكثر ما كان من دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))، فقلت له: إنما ذلك كله ذكرٌ وليس فيه دعاء؟ فقال لي: عرفت حديث مالك بن الحارث؟ فقلت: نعم، حدثتنيه أنت عن منصور عن مالك بن الحارث.
قال: ذاك يأتي على هذا الأثر ألا تراه يقول تبارك وتعالى: ((إذا شغل عبدي ثنائي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)).
ثم قال: عرفت ما قال أمية بن أبي الصلت، حين أتى ابن جدعان يطلب نائله وفضله؟ فقلت: لا، قال: قال له:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حباؤك إن شيمتك الحباء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
فال: فهذا مخلوقٌ حين ينسب إلى الجود أخبر أنه يكفينا من مسألتك الثناء عليك حتى تأتي على حاجتنا فكيف بالخالق -عز وجل-؟!.
سفيان -رحمة الله تعالى عليه- ذكر هذا الحديث منقطعاً، وقد رواه أبو بكر بن عياش عن مالك بن الحارث، عن عبد الله بن عصمة، عن(1/160)
حكيم بن حزام -رضي الله تعالى عنه- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول الله- تبارك وتعالى-:
((إذا شغل عبدي بذكري عن مسألتي أعطيته [أفضل] ما أعطي السائلين)).
وخرج أبو بكر بن أبي الدنيا عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:
((عامة دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير)).
وخرج الترمذي من حديث خليفة بن حصين عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- قال: أكثر ما دعا به رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عشية عرفة في الموقف:
((اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخيراً ما نقول، اللهم لك صلاتي، ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك رب تراثي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يجئ به الريح)).(1/161)
وفي رواية عن علي -رضي الله تعالى عنه- قال: [كان] أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، [بيده الخير]، وهو على كل شيء قدير، اللهم اغفر لي ذنبي، ويسر لي أمري، واشرح لي صدري، اللهم إني أعوذ بك من وسواس الصدر، ومن شتات الأمر، ومن عذاب القبر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل ، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر)).
وخرج ابن أبي الدنيا من حديث كثير بن معقل الباهلي، حدثنا محمد بن مروان -رجلٌ من بني عامر بن ذهل من أهل الكوفة- قال: لقيت رجلاً من أهل الكوفة بعرفات، فأخبرني عن أبيه أنه لقي علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- بعرفات ، فقال عليٌ -رضي الله تعالى عنه- : ((لا أدع هذا الموقف ما وجدت إليه سبيلاً، إنه ليس في الأرض يومٌ إلا لله عز وجل فيه عتقاء من النار، وليس يومٌ أكثر عتيقاً لله للرقاب فيه من يوم عرفة، فأكثر فيه أن تقول: اللهم أعتق رقبتي من النار، وأوسع لي من الرزق الحلال، واصرف عني فسقة الجن والإنس. فإنه عامة ما أدعو به اليوم)).
وجاء من عاصم الأحول عن عبد الله بن الحارث، أن ابن عمر(1/162)
رضي الله تعالى عنهما كان يرفع صوته عشية عرفة
يقول: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم اهدنا بالهدى، وزينا بالتقوى، واغفر لنا في الآخرة والأولى)).
[ثم يخفض صوته، ثم] يقول: ((اللهم إني أسألك من فضلك وعطائك رزقاً طيباً مباركاً، اللهم [أنت] أمرت بالدعاء، وقضيت على نفسك بالإجابة، وأنت لا تخلف وعدك، ولا تكذب عهدك، اللهم ما أحببت من خير فحببه إلينا ويسره لنا، وما كرهت من شر فكرهه إلينا وجنبناه، ولا تنزع منا الإسلام بعد إذ أعطيتناه)).
وخرج الطبراني في ((معجمه الكبير)) و((مصنفه في فضل يوم عرفة)) من حديث يحيى بن بكير حدثنا يحيى بن صالح الأيلي، عن إسماعيل بن أمية، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: كان فيما دعا به رسول - صلى الله عليه وسلم - عشية عرفة:
((اللهم إنك ترى مكاني وتسمع دعائي، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل لك جسده، ورغم أنفه لك، اللهم لا تجعلني بدعائك [رب] شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين)).(1/163)
فهذا الدعاء دعاءٌ عظيم، فيه خيرٌ جسيم، وذكرٌ بليغ، وتنبيه لطيف، على رغبة الأمة إلى الله تعالى في هذا اليوم الشريف، وإلحاحهم عليه في السؤال، ودعائهم إياه على كل حال، لأن أبواب السماء تفتح مراراً في ليلته، لما يفيضه الله على عباده من رحمته.
روي عن إبراهيم بن الحكم بن أبان، [قال]: حدثني أبي، [قال]: حدثني فرقد -يعني السبخي- رحمة الله عليه- قال: ((إن أبواب السماء تفتح كل ليلة ثلاث مرات، وفي ليلة الجمعة سبع مرات، وفي ليلة عرفة تسع مرات)).
وبهذا ونحوه صار لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية [فضل] على غيرها من الأيام، لا من جهة أنها تعدل ثنتين وسبعين حجةً، لأن هذا حديث باطل لا يصح، وكذلك لا يثبت ما روي عن زر بن حبيش أنه أفضل من سبعين حجةٌ في غير يوم الجمعة.
وإنما مزية وقفة الجمعة من وجوه:
منها: الموافقة لوقفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي اختارها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنها كانت يوم الجمعة بلا خلاف ومعلوم أن الله تعالى(1/164)
لا يختار لرسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا الأفضل.
ومنها: ما تقدم عن فرقد: أن أبواب السماء تفتح في ليلة الجمعة سبع مرات، وفي ليلة عرفة تسع مرات. فعلى هذا إذا كان يوم عرفة يوم جمعة تفتح في ليلته أبواب السماء ست عشرة مرة.
ومنها: اجتماع المسلمين في أقطار الأرض للخطبة وصلاة الجمعة، واجتماع وفد الله تعالى [بعرفة] للوقوف بها، فيحصل من الجمعين من الدعاء، والتضرع والابتهال، والعبادة ما لا يحصل منهما في يوم سواه.
ومنها: أن الأعمال تزكو بشرف الزمان، كما تزكو بشرف المكان، وشرف الذات، وقد اجتمع يومان شريفان تزكو فيهما الأعمال: فيوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وهو اليوم الذي هدانا الله له واختاره لنا وأنعم بفضله علينا، والعمل فيه له مزية على غيره من الأيام.
يروي في بعض الأثار: ((الجمعة حج المساكين)).
وقال سعيد بن المسيب: شهود الجمعة هو أحب إلي من حجة نافلة.(1/165)
وقد تقدم عن عطاء بن أبي رباح: أن من صام يوم عرفة كان له كأجر ألفي يوم.
وفي نحو ذلك من الأخبار.
وذكر الحكيم أبو عبد الله الترمذي في كتاب ((أسرار الحج)) عن النبي صلى الله عليه وسلم تعليقاً أن ((من تصدق في يوم عرفة احتساباً قبل الله تعالى منه، وكان كمن أدرك ما فاته من صدقات السنة)).
ومنها: أنهما عيدان لأهل الإسلام اجتمعا في يوم، فيوم عرفة عيدٌ، كما سماه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه،- ويوم الجمعة عيدٌ، كما هو المشهور.
ومنها: اجتماع الشاهد والمشهود في يوم، كما قدمناه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً: ((اليوم المشهود: يوم عرفة، والشاهد: يوم الجمعة)).
ومنها :اجتماع يومين محترمين عظيمين: يوم الجمعة الذي صح في شأنه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة..)) الحديث.
خرجه مسلم في ((صحيحه)).(1/166)
وأيضاً: فإن أكثر أهل الفسق والعصيان يحترمون يوم الجمعة وليلته، لما روي: ((أن من تجرأ فيه على معاصي الله عجل الله عقوبته ولم يمهله)).
وحرمة يوم عرفة مشهورة، وجاء عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم عرفة: ((هذا يومٌ من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له)).
ومنها: أنه موافقٌ لليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم النعمة على المؤمنين.
ومنها: اجتماع يومين يستجاب فيهما الدعاء: أما يوم الجمعة فقد صح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: ((فيه ساعةٌ لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه)).
وأشار بيده يقللها. أي : أن وقتها قصير، كما في ((صحيح مسلم)) في بعض طرق الحديث: ((وهي ساعة خفيفة)).
وهذه الساعة مختلف فيها، للأحاديث الواردة فيها، ففي(([صحيح] مسلم)) من حديث أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري قال: قال لي عبد الله بن(1/167)
عمر -رضي الله عنهما-: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة؟ قال: قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضي الصلاة)).
وخرج الترمذي من حديث [كثير بن عبد الله بن] عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده -رضي الله عنه،- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجمعة ساعةٌ لا يسأل الله العبد فيها شيئاً إلا أتاه [الله] إياه)).
قالوا: يا رسول الله أية ساعة هي؟ قال: ((حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها)).(1/168)
وفي حديث خرجه الإمام أحمد في ((مسنده)) عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ قال: ((لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم عليه السلام، وفيها الصعقة والبعثة، وفيها البطشة، وآخر ثلاث ساعات منها ساعةٌ من دعا الله فيها استجيب له)).
وجاء عن أبي هريرة عن عبد الله بن سلام -رضي الله تعالى عنهما-، أن الساعة هي آخر ساعة من يوم الجمعة، قبل أن تغيب الشمس، فقال له أبو هريرة: أليس قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (([لا يصادفها مؤمنٌ وهو في الصلاة)) ليس تلك ساعة صلاة؟! قال: أليس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:] ((من صلى وجلس ينتظر الصلاة: لم يزل في صلاة حتى تأتيه التي تليها)). قلت: بلى. قال: فهو كذلك.(1/169)
وأما إجابة الدعاء يوم عرفة: فأمرٌ قد اشتهر، وورد به الأثر، ودعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة بالمغفرة والرحمة، فأعطاه الله سوله، وبلغه في أمته مأموله، فجزاه الله عنا أفضل الجزاء، [وأنالنا بذلك أجراً].
روي عن حسين بن عبد الله الهاشمي، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:
((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة، يداه إلى صدره كاستطعام المساكين)).
خرجه الحاكم أبو عبد الله من طريق حسين المذكور.
[وجاء عن عباس بن مرادي [الأسلمي] -رضي الله عنه- أن(1/170)
رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته] عشية عرفة بالمغفرة والرحمة، فأكثر الدعاء، فأجابه: ((إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضاً، فأما ما بيني وبينهم فقد غفرتها)) فقال: ((يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم وتغفر لهذا الظالم)). فلم يجب تلك العشية بشيء، ثم لما كانت غداة المزدلفة أعاد الدعاء فأجابه: ((إني قد غفرت لهم)) ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله إنك قد تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها؟ فقال: ((تبسمت من عدو الله إبليس لما علم أن الله تعالى قد استجاب لي، أخذ يدعو بالويل والثبور ويحثو التراب على رأسه)).
خرجه أحمد في ((مسنده)) وابن ماجه في ((سننه)).
وحدث إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز [قال]: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما رئي الشيطان يوماً هو أصغر ولا أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا أن الرحمة تنزل فيه فتتجاوز عن الذنوب العظام، إلا ما رأى يوم بدر)) قيل: وما رأى يوم بدر؟ قال: ((أما(1/171)
إنه قد رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة)).
وقال أبو مطيع عبد الرحمن بن المثنى: سمعت علي بن الجارود قال: كنا خرجنا في طلب العلم فمررنا عشية عرفة أنا وصاحبٌ لي بمدينة قوم لوط، فقلت أنا لصاحبي -أو قال لي-: ادخل نتطوف في هذه السكك، ونحمد ربنا على ما عافانا مما ابتلاهم به، قال: فبينا نحن نطوف في تلك السكك إلى غروب الشمس، إذا نحن برجل كوسج أشعث أغبر على جمل له أحمر، فوقف علينا فسألنا: من أنتم؟ [ومن أين انتم؟] فأخبرناه، فلما أراد أن يجوزنا قلنا له: من أنت؟ فتغافل، فقلنا: لعلك إبليس! فقال: أنا إبليس!، قلنا: يا ملعون من أين؟ قال: هذا وجهي من الموقف، رأيت اليوم ثم من كان يذنب [منذ] خمسين سنة حتى كنت شفيت صدري منه، فاليوم نزل عليه الرحمة، فلم أصبر في ذلك حتى وضعت التراب على رأسي، وجئت ها هنا أنظر [إليهم]، يسكن ما بي.
وروى الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني -رحمه الله تعالى-: أن رجلاً كان أسيراً ببلاد الروم، وأنه هرب من بعض الحصون، قال: فكنت أسير بالليل وأكمن بالنهار، فبينا ذات ليلة أمشي بين(1/172)
جبال وأشجار، إذا أنا بحس، فراعني ذلك، فنظرت فإذا راكب بعير فازددت رعباً، وذلك أنه لا يكون ببلاد الروم بعير، فقلت: سبحان الله! في بلاد الروم راكب بعير؟! إن هذا لعجب! فلما انتهى إلي قلت: يا عبد الله من أنت؟ قال: لا تسأل، قلت: إني أرى عجباً فأخبرني، فقال: لا تسأل، فأبيت عليه، قال: أنا إبليس، وهذا وجهي من عرفات، واقفتهم عشية اليوم، أطلع عليهم فنزلت عليهم الرحمة والمغفرة، ووهب بعضهم لبعض، فدخلني الهم و الحزن والكآبة، وهذا وجهي إلى قسطنطينية أتفرج بما أسمع من الشرك [بالله] وادعاء أن له ولداً. فقلت: أعوذ بالله منك، فلما قلت هذه الكلمات لم أر أحداً.
وصح عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر أن يعتق فيه من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، يقول: ما أراد هؤلاء)).
وجاء عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فقال: ((يا أيها الناس إن الله تعالى باهى بكم [الملائكة] في هذا اليوم فغفر لكم عامة)).(1/173)
وخرج أبو عبد الله محمد ابن منده في ((كتاب التوحيد)) من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين، [قال]: حدثنا مرزوق مولى طلحة، عن أبي الزبير عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يوم عرفة ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم، [فتقول الملائكة: يا رب فيهم فلانٌ كان يرهق، فيقول عز وجل: قد غفرت لهم]. فما كان يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة)).
تابعه وكيع عن مرزوق.
وخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) ولفظه: ((ما من يوم أفضل عند الله عز وجل من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا [فيباهي(1/174)
بأهل الأرض أهل السماء]، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً ضاحين، جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي. فلم ير أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة)).
وله شاهدٌ عن أنس وابن عمر وعبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنهم-.
وجاء في بعض الآثار: ((إن الله تعالى يقول عشية عرفة لأهل الموقف: قد وهبت مسيئكم لمحسنكم)).
وحج بعض السلف فنام ليلةً، فرأى في النوم ملكين نزلا من السماء، فقال أحدهما للآخر: كم حج العام؟ قال: ستمائة ألف. فقال: كم قبل منهم؟ قال: ستة. فاستيقظ الرجل مرعوباً قلقاً مما رأى، ثم نام في الليلة الثانية، فرأى كأن الملكين نزلا وأعادا القول، وقال أحدهما: إن الله عز وجل وهب لكل واحد من الستة مائة ألف.
ووقف الفضيل بن عياض -رحمة الله عليه- بعرفة فنظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل(1/175)
فسألوه دانقاً أكان يردهم؟ قالوا: لا. قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
وقال محمد بن الفضل بن عطية البخاري: كنا بعرفات والمسلمون في الدعاء والتضرع إلى الله تعالى: فلما وجبت الشمس دفعنا من عرفات، فقال لي كريي: يا أبا عبد الله ما ترى يصنع بهؤلاء القوم؟ قال: قلت: أرجو قال: ترجو، ترجو!! فعظم ذلك، حتى خشيت أني قد أسقطت، ثم قال: والله لو أن هؤلاء ذهبوا إلى شر خلق الله لشفعوا، فكيف أرحم الراحمين؟! لا، بل [الله] غفر لهم البتة.
قال محمد بن الفضل: جمالي أعلم مني.
وروي أن سفيان الثوري وقف بعرفة، فرأى فيها قوماً من أهل الكبائر، والفجور معروفين، فخطر على قلبه: أترى أن هؤلاء يغفر لهم؟ فنام، فقيل له في المنام: يا أبا عبد الله عفونا أكثر من ذنوبهم، قد غفرنا لهم كلهم.
فهنيئاً لمن وصل يا منقطعين، وسعداً لمن وفد على الله يا متخلفين، وفوزاً لمن تقرب إليه يا قاعدين.
إخواني إن إخواننا وفد الله الكريم قد أناخوا ركائبهم بباب مولاهم في هذا اليوم العظيم، يطلبون فضله الجسيم، ويناجونه بما يجد كل منهم ويهيم، فمنهم المستقيل من ذنوبه، النادب على عيوبه، النادم على قبيح مكنونه، المنادي طالباً عفو محبوبه.(1/176)
بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تحنو علي ألا تجود
سرور العيد قد عم النواحي ... وحزني في ازدياد ما يبيد
فإن كنت اقترفت خلال سوءٍ ... فإني تبت ربي لا أعود
ومنهم: من أضنى الفراق كبده، وأذاب الهجران جسده، فهو ينشد وقد رفع إلى مولاه يده:
يا ممطر ناظري ومضني كبدي ... يا ناءٍ وهو قاطنٌ في خلدي
هجرانك والجفا أذابا جسدي ... أقبلت إليك تائباً خذ بيدي
ومنهم من غلب عليه شدة الحياء، فلم يرفع صوته إلى السماء، وأسبل عينيه بالبكاء، ذاكراً لخطيئاته، قائلاً في مناجاته:
مولاي عفواً وإن عفوتم ... يا سوأتا منك يا إلهي
ومنهم: من يقتله الخوف إذا وقف، حياءً مما جنى واقترف.
رئي بعض العارفين واقفاً بعرفة ساكتاً، قد ألجمته الهيبة عن الدعاء صامتاً، فقيل له: ألا تدعو الله؟ فقال: ثم وحشة. فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب! فبسط يديه ليدعو فسقط ميتاً مع بسط يديه.
وقد لذ قتلي في هواكم وطاب لي ... لعلكم أن تنعشوني بنظرة
ومنهم: من يستحضر زلله، ويستذكر ما فعله، لكنه يعلم أنه لا بد له من مولاه [وأنه لا يغفر الذنوب سواه] فلجأ إليه قائلاً ودعاه:
قرة عيني لا بد لي منك وإن ... أوحش بيني وبينك الزلل(1/177)
قرة عيني أنا الغريق فخذ ... كف غريقٍ عليك يتكل]
ومنهم: من يطفح عليه سرور الرجاء، ويتلذذ بالتضرع والالتجاء، ويتيقن أنه واقف بباب الحبيب، ومن وقف بباب الكريم لا يخيب:
وإني لأدعو الله أسأل فضله ... وأعلم أن الله يعفو ويغفر
لئن عظم الناس الذنوب فإنها ... وإن عظمت في رحمة الله تصغر
ومنهم:من فضحه الشوق والقلق، واتسع عليه الوجد و[انخرق، فهو يصيح من شدة] الحرق:
[أشتاق] إلى الحبيب واشوقاه ... والحجب هو البلاء، وابلواه
والعبد لذا تزايدات حرقته ... إن لم أركم فيا شقا مسعاه
ومنهم: من اشتاق إلى لقاء مولاه، فتملق إليه حين دعاه معترفاً بما أسلفه وجناه، وأنه ليس في القلب سواه، وليس يريد إلا رؤياه:
يا حبيب القلوب من لي سواكا ... ارحم اليوم مذنباً قد أتاكا
أنت سؤلي ومنيتي وسروري ... قد أبى القلب أن يحب سواكا
يا مرادي وسيدي واعتمادي ... طال شوقي متى يكون لقاكا
ليس سؤلي من الجنان نعيماً ... غير أني أريدها لأراكا
ومنهم: من استغرق في مناجاة المعبود، وغاب شغلاً بربه عن(1/178)
الوجود، فالبدن حاضر والفؤاد مفقود.
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي
ومنهم: من وصل إلى الحضرة فاتصل، وعلى مراده من أشرف لذاته حصل، فيا شرف ذلك المقام الذي ما سواه دون {فلا تعلم نفسٌ مآ أخفى لهم من قرة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعلمون}.
إخواني: هذه بعض أحوال أهل الموقف من عرفات، ألكم حالٌ من هذه الحالات، أفيكم من حصل له بعض هذه المقامات، أمنكم من تشرف لنيل هذه السعادات، لقد سار وفد الله وقعدنا، وقربوا إلى جنابه وبعدنا، وقربوا إلى حماه وطردنا، فإن كان لنا معهم نصيب بقلوبنا فزنا -والله- وسعدنا:
يا سائرين إلى الأحبة بلغوا ... عني السلام وأنني معذور
قد عاقني وزري الثقيل وصدني ... عنكم وقلبي عندكم مأسور
[لكن من إحسانكم وفعالكم ... جبر الكسير وعبدكم مكسور]
إخواني: القاعد لعذرٍ ثوى به، شريك السائر في أجره وثوابه، والمنقطع ببدنه عن رفقة السائرين، محسوبٌ بقلبه في جملة الوافدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك وقرب من المدينة: ((إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم فيه)). قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: ((وهم بالمدينة حبسهم العذر)).
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد ... سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا(1/179)
إنا أقمنا على عذر وقد رحلوا ... ومن أقام على عذر كمن راحا
هذا وربما سبق القاعد بقلبه، السائر ببدنه في ركبه.
رأى بعضهم في المنام عشية عرفة قائلاً يقول: أترى هذا الزحام على هذا الموقف، فإنه لم يحج منهم أحدٌ إلا رجلٌ تخلف عن الموقف فحج بهمته، فوهب له أهل الموقف.
هذا من كرم الله الواسع ورحمته العامة، وخيراته العظيمة.
خرج ابن أبي الدنيا من طريق الصباح بن موسى، عن أبي داود السبيعي القاص، عن ابن عمر رضي الله عنهما [قال]: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يبقى أحدٌ يوم عرفة في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا غفر الله له)) فقال رجل: لأهل معرف يا رسول الله أم للناس عامة؟ قال: ((بل للناس عامةٌ)).
يعني لمن وقف بعرفة ومن لم يقف بها.
وجاء بلفظ آخر عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن الله عز وجل ينظر [إلى] عباده يوم عرفة فلا يدع أحداً في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا غفر له)) قال: فقلت لابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-: للناس جميعاً أو لأهل عرفة؟ قال: للناس جميعاً.
ولهذه المغفرة والرحمة تعرض جماعة من السلف، حيث كانوا يتشبهون بالحاج يوم عرفة في السنة التي لم يحجوا فيها، ويرون فعل ذلك في المساجد ويسمى (التعريف) بغير عرفة.(1/180)
جاء عن الحكم بن عتيبة قال: [أول] من عرف بالكوفة مصعب بن الزبير.
وحدث هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: أول من عرف بالبصرة ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-.
وجاء عن قتادة عن الحسن نحوه.
وعن الحسن قال: أول ما عرف ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- بالبصرة، صعد المنبر فقرأ سورة البقرة ففسرها حرفاً حرفاً، وكان مثجاً يسيل غرباً.
المثج: السائل الكثير، وهو من الثجاج، والغرب هنا: الدوام.
وقال أبو عوانة: رأيت الحسن البصري يوم عرفة بعد العصر جلس فذكر الله ودعا، واجتمع إليه الناس.
وفي رواية: رأيت الحسن البصري خرج يوم عرفة من المقصورة بعد العصر، فقعد وعرف.
وقال أبو بكر الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن التعريف في الأمصار يجتمعون في المساجد يوم عرفة؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، قد فعله غير واحد: الحسن، وبكر، وثابت، ومحمد بن واسع، كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة.
وقال عمر بن الورد: قال لي عطاء -يعني الخراساني-: إن استطعت أن تخلو بنفسك عشية عرفة فافعل.(1/181)
وكره التعريف بغير عرفة جماعةٌ، منهم: نافع، وإبراهيم النخعي، والحكم، وحماد، ومالك.
وجعله بدعةً أبو بكر الطرطوشي في كتابه ((البدع)).
قال أبو زكريا النواوي -رحمة الله تعالى عليه-: ((ولا شك أن من جعلها بدعةً لا يلحقها بفاحشات البدع، بل يخفف أمرها بالنسبة إلى غيرها)). انتهى.
وإذا خرج التعريف بغير عرفات عن أن يكون بدعةً فاحشةً: التحق التحاقاً ما بالبدع الحسنة، وبعضده ما قدمنا عن الحسن البصري -رحمة الله عليه- أنه جلس يوم عرفة بعد العصر، فذكر الله -عز وجل- ودعا واجتمع إليه الناس. فمن فعل ذلك فحسن.
وليكن من أهم الأدعية في هذا الوقت الشريف الأدعية المأثورة ومنها المقيد [بهذا اليوم كما تقدم.
ومنها المقيد] باليوم والمكان [كما] خرج أبو القاسم ابن عساكر في ((املائه في فضل [يوم] عرفة)) عن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- [قال]: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(1/182)
((ما من مسلم يقف عشية عرفة بالموقف ويستقبل القبلة بوجهه ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة ثم يقرأ {قل هو الله أحد} مائة مرة، ثم يقول: اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وعلينا معهم مائة مرة إلا قال الله -تبارك وتعالى-: يا ملائكتي ما جزاء عبدي هذا؟ سبحني وهللني، وكبرني وعظمني وعرفني، وأثنى على نبيي، اشهدوا ملائكتي أني قد غفرت له وشفعته في نفسه، ولو سألني عبدي هذا لشفعته في أهل الموقف كلهم))].
ومنها المأثور المطلق كحديث أنس -رضي الله تعالى عنه- قال:
كان أكثر دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم -:
((اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)).
وكحديثه أيضاً قال:
مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل وهو يقول: يا أرحم الراحمين.
[فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سل، فقد نظر الله تعالى إليك)).(1/183)
وجاء عن أبي أمامة -رضي الله تعالى عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((إن لله -عز وجل- ملكاً موكلاً بمن يقول: يا أرحم الراحمين] فمن قالها ثلاثاً قال له الملك: إن أرحم الراحمين، قد أقبل عليك فاسأل)).
فاسألوا الله من فضله فهو أرحم الراحمين، وادعوه مخلصين له الدين [الحمد لله رب العالمين]، وأنشد بعضهم:
اعف عني وأقلني عثرتي ... يا عياذي لملمات الزمن
لا تعاقبني فقد عاقبني ... ندم أقلق روحي في البدن
لا تطير وسناً عن مقلةٍ ... أنت أهديت لها طيب الوسن
إن تؤاخذني فمن ذا أرتجي ... وإذا لم تعف عن ذنبي فمن؟
[آخر الجزء ولله الحمد كثيراً وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً](1/184)