مجالس في تفسير قوله تعالى
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم
للإمام الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي
(777 - 842 هـ)
تحقيق
محمد عوامة
دار القبلة الإسلامية
مؤسسة الريان
الطبعة الأولى
1421 هـ - 2000 م(/)
[1] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي افتتح أولاً كتابه بعد ذكر اسمه بتحميده، وأوضح من العلم أبوابه لمن ارتضاه من عبيده، وضاعف بره وثوابه لمن قام بخدمته مخلصاً في توحيده، عم العالمين براً ورحمة، وأتم على المؤمنين من هذه الأمة النعمة، وامتن عليهم بما ساقه إليهم تفضيلاً {إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
فلا منة أعظم على العباد، ولا نعمة أبسط على العباد والبلاد، من بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة والرشاد، الذي أتى بالقرآن المعظم والسنة الشريفة، وأوتي جوامع الكلم وبدائع الحكم اللطيفة، وخص بخصائص عظيمة ومفاخر عجيبة طريفة، منها: ثناء الله سبحانه على كلامه، وما سنه لأمته من أحكامه، وما بينه من خاص القول وعامه، مجملاً ومشروحاً، فقال تعالى: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى}.
فنحمد الله على ما يسر من المنة والهداية، ونشكره على ما نشر من السنة واتصالها إلينا بالرواية، ونسأله فوزاً بالجنة، ووقاية من النار وحماية.
ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، جل عظمةً وسلطاناً، وعز قدرةً وتعاظم شأناً، وتبارك رحيماً وتعالى رحماناً، تقدس عن الضد والند والكفء والسند، وتنزه عن الشبيه والنظير والصاحبة(1/27)
والوالد والولد {قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد}.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب السنة الغراء والشريعة الطاهرة، الشفيع في الخلائق إذا جمعوا بالساهرة، سيد الناس ومولاهم في الدنيا والآخرة، صلى الله عليه أشرف صلواته الزكية، وعلى آله ذوي الخلائق الرضية، وأصحابه أولي الطرائق العلية، وتابعي سنته، ومقتفي طريقته المرضية، ما أمليت فنون السنة انتفاعاً، وشرحت دروس علومها قراءة وسماعاً، وسلم تسليماً.
ونسأل الله الكريم، البر الرحيم، ذا الجود والكرم والإحسان، الذي هو بعباده ألطف من آبائهم بهم وأرأف، أن يديم النصر والتأييد، والبقاء والعز لمولانا السلطان الملك الأشرف، وأن يعز بتأييده ونصره دولته ورجاله، وخاصةً المقر الأشرف الزيني أسبغ الله ظلاله:
وكم له من يدٍ بيضاء باسطةٍ ... وسبقها قد غدا بالجود معروفاً
فالباسط الله مولاه لذا بسطت ... منه الأيادي، فعم الناس معروفاً
ورضي الله تعالى عن أئمة الإسلام، وخصوصاً عن الأربعة الأعلام، الذين منهم إمامنا القرشي المطلبي النفيس، أبو عبد الله الشافعي محمد ابن إدريس، وعمن سلف من العلماء، وخلف من الأئمة النبلاء، اللهم وارض عن ساداتنا شيوخ الإسلام الحاضرين، وخاصة عن مولانا وشيخنا شيخ الإسلام، وبركة المسلمين أبي الفضل شهاب الدين:
إن قيل من يرتجى جوداً وتفضلةً ... قال: المفيد لفضلٍ كل من وفدا
قاضي القضاة إمام العصر حافظه ... فرد الزمان الذي في فضله انفردا
إذا أردت نظيراً في تبحره ... علماً وفضلاً وجوداً لم تجد أحداً(1/28)
لا تنكروا جوده كالماء منسجماً ... فالماء من حجر يحيى به أبداً
أسبغ الله ظلاله، وبلغه في خيرٍ آماله، ورضي الله عن ساداتنا الحاضرين، وختم لنا ولهم بخير في عافية. آمين.
أما بعد: فإن الله عز وجل، وله الفضل والامتنان، والطول والكرم والإحسان، أنعم على المؤمنين إنعاماً كبيراً، ومنحهم فضلاً غزيراً، وكرماً خطيراً، من ذلك ما أشار إليه في كتابه المنزل، على أكرم مرسل، نبي الرأفة والرحمة، بقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
فالكتاب: هو القرآن العظيم المحكم، والحكمة هنا: هي سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حافظ أعيان هذه الأمة على حفظ الكتاب في الصدور، والإقبال على تفهمه وما فيه من الأمور، واعتنى الأئمة بحفظ السنة وتدوينها في المسطور، والقيام بخدمتها والذب عنها كما هو مشهور، وسمت الأنفس الشريفة من الخلفاء والملوك، فبنوا دور السنة لحفظها ونشرها للغني والصعلوك.(1/29)
وممن بنى دارين للسنة في بلد، ولم نعلم أنه سبقه إلى ذلك أحد: السلطان الملك الأشرف مظفر الدين أبو الفتح موسى بن الملك العادل أبي بكر بن الأفضل نجم الدين أيوب بن شاذي، الذي ملك دمشق بعد حصاره ابن أخيه الناصر داود ابن المعظم عيسى، في سنة ست وعشرين وست مئة، وأقام ملكاً بدمشق تسع سنين، وفيها بنى الدارين المشار إليهما، إحداهما التي بسفح قاسيون شرطها للمقادسة الحنابلة، وأول من باشرها شيخ الإسلام شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن ابن أبي عمر المقدسي أول قضاة الحنابلة بدمشق.
ودار الحديث الثانية داخل دمشق جوار قلعتها المنصورة، وكانت أولاً دار قيماز النجمي، فاشتراها الملك الأشرف وجعلها داراً للحديث النبوي، على قائله أفضل الصلاة والسلام، وجعل فيها نعل النبي صلى الله عليه وسلم في الخزانة الشرقية لصيق المحراب.
ولما كان الملك الأشرف بخلاط، قدم عليه شخصٌ يقال له النظام ابن(1/30)
أبي الحديد ومعه نعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فتلقاه الملك الأشرف ووضع النعل على عينيه وجعل يبكي، وخلع على النظام، ورتب له مرتباً كثيراً، وقال الملك الأشرف: قلت في نفسي: هذا النظام يطوف البلاد، وأنا أؤثر أن يكون عندي قطعة من النعل، فعزمت أن آخذ منه قطعةً، ثم قلت في نفسي: ربما يتأسى بي أحد فيؤدي إلى استئصاله، وقلت: من ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه.
فأقام عندي النظام شهوراً ثم مات فأوصى لي بالنعل، فأخذت النعل بأسره. ثم وضعها الملك الأشرف في ذاك المكان.
وهي هذه التي أول من وليها الإمام العلامة الحافظ أبو عمرو عثمان ابن الصلاح، ثم الخطيب عماد الدين ابن الحرستاني، ثم الشيخ شهاب الدين أبو شامة، ثم شيخ الإسلام أبو زكريا النواوي، ثم الشيخ زين الدين أبو محمد عبد الله الفارقي، ثم الإمام صدر الدين ابن الوكيل، ثم الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني، ثم القاضي كمال الدين أبو العباس أحمد بن الشريشي.(1/31)
ثم وليها بعد موته أحق الناس بها وأولاهم، شيخ الحفاظ وأعلاهم: أبو الحجاج يوسف المزي، وأول مباشرته لها كان يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة سنة سبع عشرة وسبع مئة، واستمرت بيده إلى حين موته نحواً من خمس وعشرين سنة، ولم يتولها بعده حافظٌ نظيره، وإن كان قد وليها شيخ الإسلام تقي الدين أبو الحسن السبكي، وابن عمه الإمام بهاء الدين أبو البقاء وغيرهما.
ولم يحضرها بعد الحافظ المزي فيما نعلم أحدٌ في درجته من أهل هذا الشأن، غير شيخنا الحاضر في هذا المكان، وهو شيخ الإسلام حافظ الزمان، قاضي القضاة شهاب الدين أبو الفضل، فإنه أربى عليه بزيادة المصنفات، وإتقان المؤلفات، وفنون العلوم أصلاً وفرعاً، واستنباطاً للأحكام المحتج بها شرعاً، أسبغ الله ظلاله على الإسلام والمسلمين.
وما نذكره ونبديه، من بعض فوائده وما يحويه، ولولا امتثال أمره الذي مقتضاه الوجوب اللازم، لم أحدث بحضرته شيئاً استعمالاً لأدب المتعلم بين يدي العالم، ولكن من جبر من الأئمة، قلب من هو دونه من الأمة، لا يخيب إن شاء الله تعالى من حصول الرحمة، المشار إليها(1/32)
في القرآن، وعلى لسان نبينا حبيب الرحمن، صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وعظم.
كما أخبرنا جماعة من المسندين منهم: أبو يوسف عبد الرحمن ابن التاجر الصالحي، وهو أول حديث سمعته من كل منهم، والمسمى من لفظه، قالوا: أخبرنا محمد بن أبي المحاسن بن أبي العز المصري، قال كل منهم: وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا عبد اللطيف بن أبي محمد التاجر، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا عبد الرحمن ابن علي السلامي، وهو أول حديث سمعته من لفظه، حدثنا إسماعيل بن أحمد المؤذن، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا أبي: أحمد بن عبد الملك بن علي، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال البزاز، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا سفيان بن عيينة، وهو أول حديث سمعته من سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاصي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)).(1/33)
تابعه مسلسلاً كذلك أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز بن محمد المهلبي، عن أبي حامد بن بلال، وهذا هو المشهور في تسلسله، يقول الراوي عن شيخه: وهو أول حديث سمعته منه.(1/34)
ورواه مسلسلاً فوق هذا بدرجة: أبو عاصم عبد الله بن محمد الشعيري، عن أبي أحمد هاشم بن عبد الله بن محمد السرخسي المؤذن، عن أبي حامد ابن بلال، فوصل التسلسل إلى سفيان بقوله: وهو أول حديث سمعته من عمرو بن دينار.
وروي مسلسلاً بدرجة أخرى فوق هذه، وكلاهما لا يصح.
ورويناه موصول التسلسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، من رواية أبي نصر الوزيري محمد بن طاهر بن محمد بن الحسين بن الوزير الواعظ، وتكلم فيه لذلك.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد المقدسي المجاور بطيبة، وهو أول حديث سمعته منه بقراءتي عليه، أخبرنا أبو العباس(1/35)
أحمد بن محمد البدر، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أحمد بن أبي الفتح الشيباني، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو عمرو عثمان بن أبي القاسم النصري، وهو أول حديث سمعته منه، قال: وأخبرنا أبو محمد عبد البر ابن الحافظ أبي العلاء الهمذاني بها، حدثنا والدي الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد العطار، حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن محمد الحافظ، حدثنا أبو صالح المؤذن، أخبرنا أبو سعد عبد الرحمن بن حمدان الشاهد، حدثنا أبو نصر محمد ابن طاهر الوزيري الأديب، حدثنا أبو حامد البزاز، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء)).
قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: هذا أول حديث سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم بعد خطبة الوداع، وقال أبو قابوس: هذا أول حديث رواه عبد الله بن عمرو بالشام، وقال عمرو بن دينار: هذا أول حديث رواه(1/36)
لنا أبو قابوس، وقال ابن عيينة: هذا أول حديث أملاه علينا عمرو بن دينار، وقال عبد الرحمن بن بشرٍ: هذا أول حديث سمعته من سفيان، وقال أبو حامد: هذا أول حديث سمعناه من عبد الرحمن، وقال أبو نصر الوزيري: هذا أول حديث سمعناه من أبي حامد، وقال أبو سعد: هذا أول حديث سمعته من أبي نصر، وقال أبو صالح: هذا أول حديث سمعته من أبي سعدٍ في رجوعي إلى نيسابور سنة اثنتين وثلاثين -يعني وأربع مئة- وقال أبو جعفر الحافظ: وهذا أول حديث سمعته من أبي صالح، وقال الحافظ أبو العلاء: وهذا أول حديث سمعته من أبي جعفر، قال ابنه أبو محمد عبد البر: وهو أول حديث سمعناه من أبي من لفظه، قال أبو عمرو النصري: وهذا أول حديث سمعته من أبي محمد عبد البر.
وأنبأنا به عالياً جداً جماعةٌ من شيوخنا منهم: أبو هريرة عبد الرحمن ابن الذهبي، عن يحيى بن محمد بن سعد وغيره، أخبرنا أبو صالح نصر ابن عبد الرزاق الجيلي كتابةً، عن الحافظ أبي العلاء الحسن بن أحمد العطار، فذكره.
والحديث عند عدة من أصحاب سفيان بن عيينة من غير تسلسل، منهم أحمد بن حنبل فرواه في ((مسنده)) عنه، وخرجه أبو داود في ((السنن)) عن أبي بكر بن أبي شيبة ومسدد، والترمذي في ((الجامع)) عن محمد بن أبي عمر العدني، الثلاثة عن سفيان، وهو من أفراده، كما تفرد به شيخه عمرو، عن أبي قابوس.
وله متابعٌ عن عبد الله بن عمرو بمعناه، رويناه في مسندي أحمد بن(1/37)
حنبل، وعبد بن حميد، كلاهما عن يزيد -وهو ابن هارون- أخبرنا حريز، حدثنا حبان الشرعبي، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال على المنبر: ((ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويلٌ لأقماع القول، ويلٌ للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون)).
تابعه هاشم بن القاسم، عن حريز -وهو ابن عثمان- الرحبي، بفتح الحاء المهملة، وحكى أبو منصور الأزهري سكونها أيضاً، وهو حمصيٌّ محتجٌّ به في ((صحيح البخاري)). وشيخه حبان أبو خداشٍ حمصيٌّ مذكور في ((ثقات)) ابن حبان، وعده بعضهم في الصحابة،(1/38)
ولا يصح له صحبة، فيما ذكر أبو عمر يوسف بن عبد البر.
وللحديث شاهدٌ عن عدة من الصحابة، ذكرتهم في كتاب ((نفحات الأخيار من مسلسلات الأخبار)).
ورويناه من طريق منكرة عن ابن عباس رضي الله عنهما.
أنبأنا أبو محمد بن أحمد بن الموفق الطرائفي، في آخرين، عن محمد بن أبي بكر بن أحمد، عن جده، أخبرنا زيد بن الحسن سماعاً أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي(1/39)
الحافظ قال: أخبرني محمد بن أحمد بن رزق، حدثنا أبو سعيد الحسن بن علي بن محمد بن ذكوان البزاز يعرف بابن الزهراني، حدثنا حسنٌ الصائغ، حدثنا الكديمي قال:
خرجت أنا وعلي بن المديني وسليمان الشاذكوني نتنزه، قال: ولم يبق لنا موضع نجلس غير بستان الأمير، وكان الأمير قد منع من الخروج إلى الصحراء، قال: فكما قعدنا وافى الأمير، فقال: خذوهم، قال: فأخذونا وكنت أنا أصغر القوم سناً، فبطحوني وقعدوا على أكتافي.
قال: قلت: أيها الأمير اسمع مني. قال: هات، قلت: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء))، قال: أعده علي، قال: فأعدته عليه، فقال لهؤلائك: قوموا، ثم قال لي: أنت تحفظ مثل هذا وأنت تخرج تتنزه! أو كما قال. قال: فكان الشاذكوني يقول: نفعك حديث الحميدي هذا.
هذه الرواية خطأ على الحميدي، إنما رواه عن سفيان على(1/40)
الصواب، كرواية مسدد وغيره من الأصحاب نحو ما تقدم. والله سبحانه أعلم.
أما فقه الحديث وما فيه من الأحكام، والمعاني والبيان اللذين يظهر بهما حسن الكلام، وإيضاح لغته، ومعاني الرحمة، ووصف الرب عز وجل بها، ثم نعت الأمة وما يليق بذلك من الشرح المجانس للمجالس: يكون إن شاء الله تعالى فيما بعد هذا من المجالس، والآن نختم(1/41)
ما أمليناه، بأبيات قلتها في معناه:
خير العلوم كتاب الله فاعن به ... وبعده سنة المختار إنسانا
خذها بنقل ثقاتٍ واعملن بها ... وابدأ بأولها في السمع تبيانا
مسلسلاً برواةٍ أولا سمعوا ... هذا الحديث الذي معناه أحيانا
الراحمون عباد الله يرحمهم ... بفضله ربنا الرحمن إحسانا
وخالصاً ارحموا أهل الأرض يرحمكم ... من في السماء تعالى الله رحمانا
صلى وسلم رب العالمين على ... نبي رحمته المخصوص قرآنا
كذا على آله والصحب أجمعهم ... والتابعين لهم عقداً وإيمانا
ما درست سنة المختار في ملأ ... لا خيب الله سعياً منهم كانا(1/43)
[تعريف بمشايخ دار الحديث الأشرفية قبله]
السلطان الملك الأشرف مظفر الدين أبو الفتح موسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن الأفضل نجم الدين أيوب بن شاذي، مولده سنة ست وسبعين وخمس مئة بالقاهرة، ونشأ بالقدس في كفالة الأمير فخر الدين عثمان الزنجاري.
سمع الحديث من عمر ابن طبرزد، وحدث عنه بحر بن بخيت وغيره، وأول شيء وليه: القدس من قبل أبيه، ثم حران والرها وما والى ذلك، وحضر عدة حروب منها المواصلة فكسرهم وكسر الروم أيضاً، وكسر جلال الدين خوارزم شاه، والخوارزمية، وحينئذ لقب شاه أرمن، ولم يلق حرباً فانكسرت له راية بل يؤيده الله وينصره.
ولما قصد أخوه الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد بن الملك العادل صاحب مصر أخذ دمشق من ابن أخيه الناصر داود بن المعظم عيسى في سنة خمس وعشرين وست مئة كاتب الناصر عمه الأشرف لينصره فقدم لذلك، ثم اتفق مع أخيه الكامل وحاصرا ابن أخيهما(1/44)
الناصر داود في سنة ست وعشرين وأخذا منه دمشق وعوضاه عنها بالكرك ونابلس.
ثم سلم الكامل دمشق لأخيه الأشرف وأخذ منه حران والرها وآمد، وذهب فتسلمها وأعطاها لابنه الصالح أيوب، واستمر الأشرف ملك دمشق تسع سنين، وأخذ بعلبك من الأمجد.
وكان ملكاً شجاعاً حيياً عفيفاً عن المحارم، وقضيته مع ابنة صاحب خلاط معروفة، وكان محباً للصالحين، حسن الظن بهم، متواضعاً، محبباً إلى الرعية، كثير الصدقات والبر، وبنى أماكن ووقفها منها: جامع التوبة بمحلة الأوزاع، وهي العقيبة الكبرى، وبنى مسجد القصب بغير خطبة، وجامع جراح، وغير ذلك. ومنه: دار الحديث التي جوار قلعة دمشق، وأول من ولي مشيختها:
1- أبو عمرو ابن الصلاح باشرها نحو ثلاث عشرة سنة، وتوفي بمنزله من هذه الدار سحر يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ربيع(1/45)
الآخر سنة ثلاث وأربعين وست مئة، وصلي عليه بالجامع الأموي وخرجوا به من باب الفرج، ومن هذا الباب رجع الناس عن جنازته، ثم خرجوا بها ومعه نفر يسير دون عشرة أنفس إلى مقابر الصوفية فدفنوه بها، وذلك أيام حصار الخوارزمية دمشق مع معين الدين ابن الشيخ، من جهة الصالح أيوب صاحب مصر لعمه الصالح إسماعيل بن أيوب.
2- ثم وليها بعد ابن الصلاح الخطيب عماد الدين أبو محمد عبد الكريم بن قاضي القضاة جمال الدين أبي القاسم عبد الصمد بن محمد ابن الحرستاني، توفي سنة اثنتين وستين وست مئة في جمادى الأولى.
3- ثم وليها الإمام العلامة المقرئ الحافظ شهاب الدين أبو القاسم -ويقال أبو محمد- عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد المقدسي المعروف بأبي شامة، ولد ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وخمس مئة، برأس درب الفواخير داخل الباب الشرقي بدمشق، أخذ عن الشيخ موفق الدين الحنبلي أبي محمد عبد الله بن أحمد ابن قدامة المتوفى يوم عيد الفطر سنة عشرين وست مئة، وسمع الحديث منه ومن طائفة كثيرة، وأخذ الفقه من فخر الدين ابن عساكر -وهو أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الدمشقي المتوفى عاشر شهر رجب سنة عشرين وست مئة- وغيره، وقرأ على أبي الحسن علي بن محمد السخاوي المتوفى في جمادى الآخرة سنة وفاة ابن الصلاح، وأخذ الأصول عن السيف الآمدي: أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي المتوفى في صفر سنة إحدى وثلاثين وست مئة، وشرح الشاطبية، واختصر ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر، وله(1/46)
التاريخ المسمى بـ ((الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية))، والذيل عليه، وغير ذلك.
توفي في رجب سنة خمس وستين وست مئة، نزل عليه بمنزله بطواحين الأشنان جماعة فضربوه حتى ظنوا أنه مات، ثم ذهبوا وتركوه، وعرفهم؛ وقد أشار إلى هذه القصة في كتابه:
قلت لمن قال: أما تشتكي ... ما قد جرى فهو عظيم جليل
يقيض الله تعالى لنا ... من يأخذ الحق ويشفي الغليل
إذا توكلنا عليه كفى ... فحسبنا الله ونعم الوكيل
ولم يزل الشيخ شهاب الدين متمرضاً إلى أن توفي رحمه الله.
4- فوليها بعده الشيخ الإمام العلامة الزاهد شيخ الإسلام بركة الأنام الإمام محيي الدين أبو زكريا النووي رحمة الله عليه.
5- ثم وليها بعده الشيخ الإمام مفتي المسلمين زين الدين أبو محمد عبد الله بن مروان بن الفارقي، وكانت وفاته بعد عصر يوم الجمعة الحادي والعشرين من صفر سنة ثلاث وسبع مئة، ودفن من الغد بتربة أهله بسفح قاسيون جوار تربة الشيخ أبي عمر.
6- ثم وليها الإمام صدر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد بن عطية بن أحمد الشافعي ابن الوكيل.
7- ثم وليها بعد عزل ابن الوكيل عنها الإمام العلامة كمال الدين أبو المعالي محمد ابن الزملكاني، توفي ببلبيس ليلة الأربعاء سادس عشر شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فحمل إلى القاهرة ودفن بها.(1/47)
8- ثم وليها القاضي الإمام كمال الدين أبو العباس أحمد ابن شيخ المالكية كمال الدين أبي بكر محمد بن أحمد الشريشي، مولده سنجار في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وست مئة، وسمع من النجيب عبد اللطيف وخلق، توفي خارجاً إلى الحج بمنزلة الحسامي ليلة الاثنين سلخ شوال سنة ثمان عشرة وسبع مئة، ودفن من الغد بالمنزلة المذكورة إلى جانب الطريق.
9- ثم وليها أحق الناس بها وأولاهم، شيخ الحفاظ وأعلاهم، الإمام الحجة القدوة شيخ المحدثين، جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الملك بن علي بن أبي الزهر الحلبي ثم المزي، فباشرها يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة سنة سبع عشرة وسبع مئة، ولم يحضر عنده من الأعيان إلا القليل، واستمرت بيده نحواً من خمس وعشرين سنة، إلى أن توفي على حالته الرضية من سلامة في دينه، وتواضع وفراغ عن الرئاسة وقناعة، وحسن سمت وقلة كلام وكثرة احتمال، رحمه الله، كانت وفاته سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة ودفن بمقبرة الصوفية جوار قبر ابن تيمية.
10- ثم وليها -بعد أن ذكر لها الحافظ أبو عبد الله الذهبي فلم(1/48)
يتفق-: الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي، فباشرها يوم الأربعاء سابع ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة بعد قدومه قاضياً إلى دمشق بسنتين وسبعة أشهر، وكان درسه في حديث أبي ذر من صحيح مسلم خمس عشرة سنة.
11- ثم وليها بعده بنزوله عنها ولده الإمام العلامة قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب ابن السبكي، فباشرها يوم الخميس سنة ست وخمسين وسبع مئة.
12- ثم وليها أخوه قاضي القضاة أبو حامد أحمد ابن السبكي بعد ما كان نائباً له فيها، ثم عزل عنها وعن القضاء.
13- فوليها أخوه قاضي القضاة تاج الدين مرةً ثانيةً، ثم جرت له أمور وعزل، وأرسل من مصر بالكشف عليه واعتقاله بالعذراوية، ثم نقل إلى القلعة محبوساً بعد ما عقد له مجلس بقاعة الدوادار ونسب(1/49)
إليه أنه وقع منه كفر، وتحملوا عليه وكثر تعصبهم في ذلك المجلس حتى بدت منه كلمة تعلقوا بها عليه، فاستمر بالقلعة إلى أن ورد كتاب السلطان يطلبه في التاسع والعشرين من شوال سنة .. فتوجه إليها.
14- ثم وليها شيخنا شيخ الإسلام خاتمة المجتهدين سراج الدين البلقيني رحمة الله عليه، لما قدم من الديار المصرية قاضياً بدمشق إلى أن عزل عنها.
15- ثم وليها مرة ثالثة قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر ابن السبكي في سنة سبعين وسبع مئة.
16- ثم وليها بعد وفاته الإمام العلامة الحافظ جمال الإسلام عماد الدين أبو الفداء وأبو الفضل إسماعيل بن الخطيب ضياء الدين أبي حفص عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن ضوء بن ذرع القرشي الخصيلي، وبنو خصيلة من ولد علي الرضا بن جعفر الصادق، وهو خصيلة بن حرزى بن قاسم بن إبراهيم بن محمد بن علي الرضى، ودرس بها يوم الاثنين خامس المحرم سنة إحدى وسبعين وسبع مئة.
17- ثم وليها بعده قاضي القضاة كمال الدين أبو القاسم عمر بن(1/50)
عثمان ابن أبي القاسم هبة الله المعري الحلبي، ودرس بها يوم الاثنين السابع والعشرين من ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين وسبع مئة.
18- ثم وليها بعد عزله منها الإمام العلامة قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء محمد بن القاضي سديد الدين عبد البر السبكي، وباشرها في صفر سنة خمس وسبعين وسبع مئة، سنتين وشهرين.
19- ثم وليها بعده ولده قاضي القضاة ولي الدين أبو ذر عبد الله في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وسبع مئة.
20- ثم وليها بعده قاضي القضاة برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحيم بن محمد بن إبراهيم بن سعدالله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر الكناني المصري القاضي، أربع سنين وسبعة أشهر ونصفاً.
21- ثم وليها بعده قاضي القضاة سري الدين أبو الخطاب محمد ابن قاضي المالكية جمال الدين محمد بن عبد الرحيم بن علي السلمي الأطرابلسي المعري الأصل الدمشقي، سبط الشيخ تقي الدين أبي الحسن السبكي، فباشر ذلك تسعة أشهر ونيفاً وجاءت فتنة الناصري، فعزله الناصري لما استقر بمصر.
22- ثم وليها قاضي القضاة شهاب الدين أبو العباس أحمد ابن العلامة الشيخ زين الدين أبي حفص عمر بن مسلم القرشي في أول رجب سنة إحدى وتسعين وسبع مئة.
23- ثم وليها والده الشيخ زين الدين القرشي ثم عزله عنها الأمير الظاهر حين قبض على ولده، ثم قبض عليه، وسجن بالقلعة فلم يزل(1/51)
مسجوناً بها إلى أن توفي في ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وسبع مئة بالقلعة ودفن بالقبيبات، وقبره [مشهور ..].(1/52)
[2] بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
هذه الآية الشريفة آية واحدة باتفاق أهل العدد المدني والبصري والكوفي، وهذه الثلاثة هي التي عليها عدد آي القرآن.
أما العدد المدني: فمنسوب إلى قارئ المدينة أبي جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي مولاهم، وإلى ختنه على ابنته ميمونة شيبة بن نصاح ابن سرجس بن يعقوب، مولى أم سلمة أم المؤمنين، قاضي المدينة، ومات هو وأبو جعفر في عام واحد سنة ثلاثين ومئة.
وأما العدد البصري: فمنسوب إلى أبي المجشر عاصم بن أبي الصباح الجحدري البصري المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئة.
وأما العدد الكوفي: فرواه أبو محمد خلف بن هشام البزار، عن سليم بن عيسى، عن حمزة بن حبيب الزيات أنه قال: هذا العدد عدد أبي عبد الرحمن السلمي، ولا أشك فيه، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلا أني أجبن عنه.(1/53)
وهذه الطرق الثلاثة في العدد تارةً ينفرد المدنيون بعدد دون البصريين والكوفيين، أو البصريون أو الكوفيون دون الباقين، وتارة يتفق اثنان من الثلاثة دون الثالث، وتارة يتفقون على عددٍ من غير خلاف، كهذه الآية الشريفة، اتفق المدنيون والبصريون والكوفيون على أنها آية واحدة.
ومعنى الآية لغة: العلامة، وتطلق على الدليل، وقال أبو عبيدة معمر ابن المثنى التيمي مولاهم البصري: والآية من القرآن إنما سميت آيةً لأنها كلام متصل إلى انقطاع، وانقطاع معناه: انقطاع قصةٍ ثم قصة، قاله في كتابه ((مجاز القرآن)).
وهذه الآية الشريفة فيها قصة منٍّ من الله عز وجل من به على المؤمنين من بعثه أشرف الرسل صلوات الله وسلامه عليهم محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، ومن أنفسهم، وتلاوة كتاب الله عليهم، وتزكيتهم، وتعليمهم الكتاب والحكمة: القرآن والسنة، وإنقاذهم من الضلال المبين؛ فلم تنقطع قصة المن والإخبار عنه إلا باستيفاء قوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
فهذه آية واحدة، وهي من الجوامع، لاشتمالها على أحكام خطيرة، ومعانٍ كثيرة، تؤخذ معرفة علومها من منطوقها ومفهومها.
وسبيل مأخذ ذلك من وجوهٍ، منها الاعتبار، وهو أحد أقسام البلاغة.
واختلف في اشتقاقه، فقيل: من قولهم: عبرت النهر، إذا دخلت فيه من أحد شطيه إلى الآخر، فاعتبرت عمقه وما في قراره من سهوله أو غيرها بعبورك فيه.
وقيل: اشتقاقه من عبرت الدراهم، إذا عرفت أوزانها، وجيدها من رديئها.(1/54)
وقيل: هو من اعتبرت الكتاب، إذا قرأته في نفسك متدبراً ما فيه لتحيط علماً بمعانيه.
وإذا اعتبرنا وجوه الكلام على هذه الآية الشريفة رأيناها تزيد على خمسين وجهاً، منها: اعتبار الوسائط التي بها إلينا وصلت، وعنهم إلينا نقلت، فإذا اعتبرنا ذلك وجدناهم على أقسام ثلاثة: قسم من الملائكة، وقسم من الرسل، وقسم من غيرهم.
فالأول: ما ذكر في آياتٍ من القرآن، منها قول الله عز وجل: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك، أنزله بعلمه، والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيداً} وقال الله عز وجل: {وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين}، وهذا الروح الأمين هو جبريل روح القدس عليه الصلاة والسلام.
والقسم الثاني من الوسائط: الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم على ما رويناه في حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً: أن الرسل ثلاث مئة وثلاثة عشر رسولاً.(1/55)
ومن هؤلاء أولو العزم، وهم على الأشهر: نوحٌ وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وأفضلهم نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، وهو المذكور في هذه الآية الشريفة: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً}.
والقسم الثالث من الوسائط: من كان من غير الملائكة والرسل، وهم على قسمين: صحابةٍ وغيرهم.
فالأول: المشار إليهم بقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} فالذين بعث فيهم هذا الرسول وتلا عليهم القرآن وعلمهم الكتاب(1/56)
والحكمة هم الذين نقلوا إلينا ذلك، وهم الصحابة رضي الله عنهم، كما هو ظاهر الآية، أن المؤمنين الذين بعث فيهم نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام هم أصحابه.
وقيل: هم المؤمنون مطلقاً، وأفضلهم الصدر الأول الذين شاهدوا تنزيل القرآن وتلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الزمان.
والثاني: من بعد الصحابة من السلف والخلف.
وهذه الوسائط على أقسامها الثلاثة يطلق عليها الإسناد، ويقال له السند، عند الجمهور، وفرق آخرون بينهما فجعلوا الإسناد: رفع الحديث إلى قائله، من قولهم: أسند في الجبل إذا صعد فيه وعلا على سفحه. والسند: الإخبار عن طريق المتن.
ويطلق على المتن: الأثر والخبر والحديث، لكن في اصطلاح الفقهاء من الخراسانيين أن ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم يسمى بالأثر، وما رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمى بالخبر، كما حكاه عنهم شيخ الإسلام أبو زكريا النواوي رحمة الله عليه.(1/57)
وجاء عن آخرين إطلاق الخبر على غير المرفوع، وتخصيص الحديث بالمرفوع.
أما الأثر: فهو من أثرت الحديث -بالفتح- آثره -بالضم- إثراً -بالسكون- فهو مأثور: إذا رويته، والاسم الأثر.
وأما الخبر: فهو من أخبر بالشيء يخبر به، إخباراً، إذا أعلم به، فهو مخبر، والاسم الخبر.
ومعنى الحديث في اللغة: ضد القديم، ويطلق على الخبر قليله وكثيره لأنه يحدث شيئاً فشيئاً، فسمي حديثاً، ثم صار الحديث علماً على السنة التي هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريره، لأنها حدثت منه شيئاً فشيئاً، إلى أن أكملها الله تعالى حسبما ورد به النص.
ويطلق على السنة المتن أيضاً، ولا يوصل إليه إلا بالسند كما تقدم، ويتعلق بالسند نيفٌ وأربعون نوعاً من أنواع علوم الحديث، كالمسند، والمرسل، والمتصل، والمنقطع، والمعضل، والمقلوب، والمسلسل،(1/58)
والمزيد، والمتفق والمفترق، والمؤتلف والمختلف، والمتشابه. ومن ذلك: المتواتر، ومنه المستفيض، ومنه المشهور، وصحيح الإسناد، وحسنه، وضعيفه، إلى غير ذلك.
فمما نقل بالإسناد الصحيح المتواتر بالإجماع المتيقن بالعلم القطعي من غير انقطاع: كلام الله القرآن الذي تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل عليه الصلاة والسلام، عن رب العالمين جل وعلا.
ومنه هذه الآية الشريفة: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته} وهي القرآن، تلقاه منه المؤمنون حين تلاه عليهم، وهم الصحابة خير القرون، وأخذه عنهم التابعون، ثم من بعدهم، وهلم جراً، حتى انتهى علم ذلك إلينا، وآضت بركاته لدينا، وفاضت أنواره علينا. ولله الحمد.
والقسم الثاني من الوسائط: وهو الصحابة رضي الله عنهم وكلهم عدول.
واختلف في تعريف الصحابي على أقوال أجمعها أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، بعد المبعث، من المسلمين، ممن يعقل، ثم مات مسلماً.(1/59)
وهم على طبقات، منهم: سابقون، وغيرهم، ومن السابقين: مهاجرون، وغيرهم، ومن المهاجرين: من له روايةٌ، ومنهم له رؤيةٌ بلا رواية. وأصحاب الرواية: منهم المكثرون، ومنهم المقلون.
وأعلا المكثرين: أصحاب الألوف من الأحاديث، كأبي هريرة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
وأدنى المقلين: من له حديث واحد، بل من له رواية لفظةٍ واحدةٍ، كطارق بن شهاب بن عبدشمس البجلي الأحمسي، أو عقل أمراً ما من النبي صلى الله عليه وسلم مرةً واحدة كمحمود بن الربيع بن سراقة الأنصاري.
ومن أنواع تطبيقهم: أن منهم خلفاء وغير خلفاء، وأمراء وغير(1/60)
أمراء، ونقباء وغير نقباء، وخطباء وغير خطباء، وشعراء وغير شعراء، وشهداء وغير شهداء.
ومن أنواع تطبيقهم: أولهم إسلاماً مطلقاً، وآخرهم إسلاماً مطلقاً، وأول المهاجرين إسلاماً، وأول الأنصار إسلاماً.
ومن أنواع تطبيقهم: مراتب السابقين، وهي تسع مراتب:
الأولى: كأبي بكر، وخديجة، ومن كان في حجر النبوة رضي الله عنهم.
الثانية: كعثمان بن عفانٍ، وسعد بن أبي وقاص، وبلال رضي الله عنهم.
الثالثة: أصحاب دار الأرقم بن أبي الأرقم التي عند الصفا، وكانوا تسعة وثلاثين صحابياً من السابقين، وكملوا بإسلام عمر بن الخطاب أربعين، وللإمام أبي القاسم سعيد بن يعقوب بن شاه الكشاني مصنف في ذكر هؤلاء الأربعين وتراجمهم وما يتعلق بذلك سماه ((السراج)).
الرابعة: مهاجرة الحبشة.
الخامسة: أصحاب العقبتين من الأنصار.
السادسة: من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم بقباء في الهجرة قبل أن ينتقل إلى المدينة.
السابعة: من صلى القبلتين مع النبي صلى الله عليه وسلم .
الثامنة: أهل بدر.
التاسعة: أهل بيعة الرضوان. وبهم انقطع السابقون، وقد شهد لهم بأنهم من أهل الجنة لا يدخلون النار.
أخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله محمد ابن الذهبي الدمشقي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن الشيخ عمر ابن الشيخ القدوة أبي بكر بن قوام البالسي، وأبو الحسن علي، وأم(1/61)
محمد زينب ولدا الفخر عثمان بن محمد بن الشمس لولو الحلبي، وأم عبد الله زينب ابنة الإمام أبي محمد عبد الله ابن الإمام أبي أحمد عبد الحليم ابن تيمية الحرانية، بقراءتي على الأول بجامع كفر بطنا من الغوطة، وعلى الثاني بزاوية جده من سفح قاسيون، وعلى الأخوين بجامع بيت لهيا، وعلى ابنة تيمية بمنزلها داخل دمشق قالوا:
أخبرنا أبو العباس أحمد بن أبي طالب الديرمقرني -قال علي وابنة تيمية: حضوراً، وقال الباقون: ونحن نسمع، زاد أبو هريرة فقال: وأخبرنا عيسى بن عبد الرحمن السمسار الصالحي قراءةً عليه وأنا حاضر في الثالثة، وأجاز لي ما يرويه، وأبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم، وأبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم المقدسيان إجازةً قالوا -سوى ابن عبد الدائم-: أخبرنا أبو المنجى عبد الله بن عمر العتابي، وقال الحاكم أيضاً وابن عبد الدائم: أخبرنا الحسين بن المبارك الزبيدي قراءة عليه، قال القاضي: وأنا حاضر، وابن عبد الدائم: وأنا اسمع، قالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى السجزي، أخبرنا محمد بن أبي مسعود الفارسي، أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد الهروي، أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي، حدثنا العلاء بن موسى البغدادي، أخبرنا الليث بن سعد المصري، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يدخل أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة النار)). هذا حديث حسن صحيح، قاله الترمذي بعد أن خرجه في(1/62)
((جامعه))، كما خرجه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد.
وقال مسلم في ((صحيحه)): حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث. وحدثنا محمد بن رمح، أخبرنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، أن عبداً لحاطبٍ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطبٌ النار! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كذبت، لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية)).
ولم يخرج البخاري حديث الليث هذا -والله أعلم- لعلة هي من باب المزيد في الأسانيد، لكنها لا تقدح، وهي رواية جابر رضي الله عنه للحديث، عن أم مبشر الأنصارية الصحابية، بنت البراء بن معرور زوج زيد بن حارثة رضي الله عنهم.
أنبأنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد المقدسي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفخر علي بن أحمد، وزينب ابنة الكمال أحمد، وحبيبة ابنة الزين عبد الرحمن المقدسيون قراءةً عليهم وأنا أسمع قالوا: أخبرنا محمد بن نصر بن أبي الفرج بن الحصري إجازةً -زادت زينب فقالت: ومحمد بن عبد الكريم بن السيدي كتابة- قالا أخبرنا أبو الفتح عبيد الله بن عبد الله بن شاتيل قراءةً عليه ونحن نسمع -قال ابن(1/63)
الحصري: وأنا حاضر- أخبرنا أبو هاشم عيسى بن أحمد بن محمد الدوشابي سماعاً، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن علي بن البسري، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان، أخبرنا أبو أحمد حمزة بن محمد بن العباس، حدثنا أحمد بن عبيد الله النرسي، حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول:
أخبرتني أم مبشر رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يدخل النار إن شاء الله أحدٌ من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها)) قالت حفصة: بلى يا رسول الله! فانتهرها، فقالت حفصة: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((قد قال الله عز وجل: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً}. خرجه مسلم في الفضائل عن هارون بن عبد الله، والنسائي في التفسير عن هارون والحسن بن محمد، كلاهما عن حجاج بن محمد، به.
وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في ((كتاب المعرفة)) حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أم مبشر رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لن يدخل النار أحدٌ شهد بدراً والحديبية)).
وقال محمد بن سعد في ((الطبقات الكبرى)): أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم الصنعاني، حدثني إبراهيم بن عقيل بن معقل، عن أبيه، عن وهب بن منبه قال: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كم كانوا(1/64)
يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مئةً، فبايعته تحت الشجرة -وهي سمرةٌ- وعمر رضي الله عنه آخذٌ بيده غير جد بن قيس اختبأ تحت إبط بعيره.
وسألته: كيف بايعوه؟ قال: بايعناه على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت.
وسألته: هل بايع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة؟ قال: لا، ولكن صلى بها ولم يبايع عند الشجرة إلا الشجرة التي بالحديبية، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على بئر الحديبية، وأنهم نحروا سبعين بدنةً، بين كل سبعةٍ منهم بدنة.
قال جابر: وأخبرتني أم مبشر رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عند حفصة رضي الله عنها يقول: ((لا يدخل النار إن شاء الله أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها)) قالت حفصة: بلى يا رسول الله! فانتهرها فقالت حفصة: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((قال الله عز وجل: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً})).
ورواه سنيد في ((تفسيره)) فقال: وحدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كنا في يوم الحديبية أربع عشرة مئة فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعمر بن الخطاب آخذٌ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة- فبايعناه غير الجد بن قيس اختبأ تحت بطن بعيره. قيل لجابر: هل بايع النبي بذي الحليفة؟ قال: لا. ولكنه صلى بها ولم يبايع تحت الشجرة إلا الشجرة التي عند الحديبية. قال أبو الزبير: قلت لجابر: كيف بايعوا؟ قال: بايعناه على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت.(1/65)
أهل هذه البيعة يقال لهم أصحاب الشجرة، وأصحاب السمرة، وأهل الحديبية، وأهل بيعة الرضوان، وشهود هذه البيعة آخر مراتب السابقين، كما تقدم، وأعلاها مرتبةً من كان إسلامه أول الصحابة كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، على قول الجمهور، وعليه قول حسان ابن ثابت الأنصاري رضي الله عنه:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقةٍ ... فاذكر أخاك أبا بكرٍ بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا(1/66)
وبهذا استشهد ابن عباس رضي الله عنهما على أن أبا بكر رضي الله عنه أول من أسلم مطلقاً.
وأما أول الأنصار أسلم مطلقاً: فهو إياس بن معاذ الأوسي الأشهلي، قدم مكة وهو غلام قبل الهجرة في نفر من قومه يطلبون الحلف من(1/67)
قريش على قومهم من الخزرج، بسبب الحرب التي كانت بين الأوس والخزرج، فسمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن فقال إياس لقومه: هذا والله خير مما جئتم له، فرجع ومات قبل الهجرة؛ وذكر قومه أنه مات مسلماً رضي الله عنه، قاله بنحوه أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده في كتابه في ((المعرفة)) بعد أن ذكره في الصحابة وقصته بطولها رويناها من طريق ابن إسحاق في ((المغازي)).
وقد ذكرته مع ذكر ستةٍ سابقين من الأنصار، وأصحاب العقبتين في أبياتٍ وهي:
ألا أول الأنصار أسلم مطلقاً ... إياس معاذٍ ستةٌ بعد تابعوا
بمكة هم عوفٌ وأسعد جابرٌ ... وقطبة منهم عقبةٌ ثم رافع
ومات إياسٌ ثم وافوا بسبعة ... سوى جابرٍ عهد النساء فبايعوا
عبادة عباسٌ عويمٌ يزيد مع ... معوذ، ذكوان، ابن تيهان سابع
وبعد أتوا بضعاً وسبعين بايعوا ... على الهجرة الغراء والسعد طالع
فحازوا رسول الله حياً ودفنه ... بطيبة فضلاً عم والفضل واسع
آخر المجلس ولله الحمد
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم(1/68)
الحمد لله:
إياس بن معاذ الأوسي الأشهلي.
عوف ابن عفراء، وهي أمه، وأبوه الحارث بن رفاعة النجاري.
أسعد بن زرارة النجاري أبو أمامة، نقيب النقباء.
جابر بن عبد الله بن رئاب الخزرجي السلمي.
قطبة بن عامر بن حديدة الخزرجي السلمي.
عقبة بن عامر بن نابي الخزرجي السلمي.
رافع بن مالك بن العجلان الخزرجي الزرقي، أحد النقباء.
عبادة بن الصامت الخزرجي القوقلي، أحد النقباء.
عباس بن عبادة بن نضلة الخزرجي العجلاني.
عويم بن ساعدة، من بني عمرو بن عوف.(1/69)
يزيد بن ثعلبة أبو عبد الرحمن، حليف الأنصار.
معوذ ابن عفراء، أخو عوف.
ذكوان بن عبد قيس بن خالد الخزرجي الزرقي، وهو أنصاري مهاجري.
مالك بن التيهان أبو الهيثم الأوسي، أحد النقباء في قولٍ. رضي الله عنهم.(1/70)
[3] بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
الحمد لله رب العالمين.
الكلام على هؤلاء الآيات الشريفات من واحد وخمسين وجهاً من المعاني المنوعات:
الأول: فيما يتعلق بمعرفة الله تعالى، من قوله تعالى: {لقد من الله} وأن معرفة الله أول الواجبات، لا النظر المؤدي إليها، خلافاً للأستاذ أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفراييني، ولا أول جزء من النظر المؤدي إلى معرفة الله، ولا قصد النظر المذكور، خلافاً لمن شرط ذلك في أول الواجبات.
الوجه الثاني: في الصفات الإلهية المتعلقة باسم الله عز وجل، وذكر بعض الأسماء الحسنى، ومنها: المنان، خلافاً لمن أنكر وروده.(1/71)
الوجه الثالث: ذكر الخلاف في الاسم: هل هو المسمى أو غيره، أو لا هو المسمى ولا غير المسمى؟ وبيان مذهب أهل السنة في ذلك.
الوجه الرابع: إثبات الرسالة والنبوة، والرد على منكري النبوات، وما يتفرع من ذلك.
الوجه الخامس: في معنى النبي لغةً واصطلاحاً، وهل هو أعم من الرسول أم لا؟ وذكر مرتبتي النبوة والرسالة، وأيهما أفضل.
الوجه السادس: إثبات وجود الملائكة -ومنهم روح القدس جبريل- عليهم السلام.
الوجه السابع: بيان المؤمنين المشار إليهم في الآية، هل هم المؤمنون مطلقاً أو العرب؟
الوجه الثامن: في معنى إطلاق ذكر المؤمنين هنا ولم يقيد، كما في قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} الآية، وهل يحمل ذاك المطلق على هذا المقيد أم لا؟
الوجه التاسع: في معنى الإيمان لغة واصطلاحاً، وهل هو مخلوق أم لا؟
الوجه العاشر: بم يستحق الإنسان اسم الإيمان؟
الوجه الحادي عشر: بيان أول المؤمنين مطلقاً من هذه الأمة، ومقيداً، كأول من أسلم من المهاجرين، وأول من أسلم من الأنصار.
الوجه الثاني عشر: بيان أقسام المؤمنين المشار إليها بقوله تعالى:(1/72)
{فمنهم ظالم لنفسه} الآية.
الوجه الثالث عشر: تلاوة القرآن ومعناها لغة واصطلاحاً، وبيان بعض أحكامها.
الوجه الرابع عشر: بيان أن الكتاب هو القرآن، وهل تسميته بالكتاب باعتبار كتابته في اللوح المحفوظ، أو باعتبار ما آل إليه الأمر من جمع أبي بكر رضي الله عنه القرآن وكتابته إياه بين الدفتين؟
الوجه الخامس عشر: ذكر بعض علوم القرآن من التفسير والتأويل، وذكر معناهما لغةً واصطلاحاً، والفرق بينهما.
الوجه السادس عشر: الإشارة إلى ذكر الخطأ في تأويل آيات الصفات وأحاديثها الثابتات، هل يكفر المخطئ في ذلك أم لا؟
الوجه السابع عشر: الكلام على أسباب نزول القرآن، وذكر سبب نزول هذه الآية.
الوجه الثامن عشر: بيان أن القرآن نزل مرتين، وما السر في ذلك، وذكر أول شيء نزل من القرآن، وآخر شيء نزل منه.
الوجه التاسع عشر: ذكر إعجاز القرآن وبعض وجوهه.
الوجه العشرون: الكلام على أحد قسمي المتشابه في القرآن.
الوجه الحادي والعشرون: ذكر ما في الآية من وجوه القراءات المختلف فيها، وذكر الحجة لها من العربية.
الوجه الثاني والعشرون: الإشارة إلى بعض الأمثال المضروبة في القرآن.
الوجه الثالث والعشرون: الإشارة إلى الناسخ والمنسوخ.
الوجه الرابع والعشرون: بيان (الحكمة) المشار إليها في هذه الآية، وأنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر بعض وجوه السنن، ومعاني الحكمة، وبيان الحكمة الفلسفية، وكيف انتقلت فوضعت بين المسلمين.(1/73)
الوجه الخامس والعشرون: استحباب مدارسة القرآن.
الوجه السادس والعشرون: بيان ما في الآية من الوعد والوعيد، والمدح والذم.
الوجه السابع والعشرون: الكلام على المن، وبيان وجوهه التي من الله بها في هذه الآية، ومعاني المن.
الوجه الثامن والعشرون: في النعم وما يتعلق بها، وأنها أعيانٌ وأوصاف ومعاني.
الوجه التاسع والعشرون: بيان أمهات النعم، وأنها ترجع إلى نعمةٍ واحدةٍ، تتفرع منها جميع النعم.
الوجه الثلاثون: في وجوب الشكر للمنعم سبحانه، وهل الشكر واجبٌ شرعاً أو عقلاً، وبيان مذهب أهل السنة في ذلك.
الوجه الحادي والثلاثون: ذكر أركان الشكر ووجوهه.
الوجه الثاني والثلاثون: ذكر معنى الشكر، وهل هو بمعنى الحمد أو بينهما فرق؟ وإذا كان بينهما فرق، أيهما أعم من الآخر؟
الوجه الثالث والثلاثون: الكلام على العلم المشار إليه بقوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} وأن العلم على قسمين: علم الله القديم، والثاني: العلم المحدث، وبيان هذا القسم الثاني، وأنه ضروري وكسبي.
الوجه الرابع والثلاثون: في تعريف العلم، والإشارة إلى علم الدين.
الوجه الخامس والثلاثون: في الحث على طلب العلم.
الوجه السادس والثلاثون: استحباب التعليم بغير أجرة، وذكر الخلاف في ذلك.
الوجه السابع والثلاثون: في الكلام على البعثة وما يتعلق بها.(1/74)
الوجه الثامن والثلاثون: في ذكر بعض شرف هذه الأمة، كالتزكية ونحوها.
الوجه التاسع والثلاثون: في وجه الجمع بين آية الدعاء التي في سورة البقرة، وبين هذه الآية في تقديم قوله تعالى: {ويزكيهم} على قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} وتأخير {ويزكيهم} في آية الدعاء.
الوجه الأربعون: في الكلام على مناسبة الآية وانتظامها بما قبلها وما بعدها.
الوجه الحادي والأربعون: الكلام على الآيات من جهة العربية.
الوجه الثاني والأربعون: في الكلام على الآيات من جهة اللغة.
الوجه الثالث والأربعون: في الكلام على قوله تعالى: {من أنفسهم} ومعنى النفس والروح، وهل هما واحدٌ أو اثنان، ومعنى النفس.
الوجه الرابع والأربعون: في الكلام على نسب النبي صلى الله عليه وسلم المشار إليه على أحد التفسيرين في قوله تعالى: {من أنفسهم}.
الوجه الخامس والأربعون: بيان ما في هذه الآيات منطوقاً ومفهوماً من المبهمات.
الوجه السادس والأربعون: في التنبيه على بعض ما في الآيات من الأحكام الشرعية سوى ما تقدم.
الوجه السابع والأربعون: في فائدة تكرار ذكر القرآن مرتين في هذه الآية في قوله تعالى: {يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
الوجه الثامن والأربعون: في الإشارة إلى ما في الآيات من الأشباه والنظائر.(1/75)
الوجه التاسع والأربعون: في الإشارة إلى ما في الآيات من ضروب البلاغة.
الوجه الخمسون:ذكر ما في الآيات من المعاني والبيان وأنواع البديع.
الوجه الحادي والخمسون: الإشارة إلى جلب المصالح ودرء المفاسد، وذكر بعض أحوال أهل الجاهلية.
وهذا الوجه أوسع الوجوه مجالاً، وأعمها أحكاماً، وأكثرها مقالاً، كما يأتي بيانه عند الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
ولنرجع إلى ما بدأنا من الوجوه بذكره، مع شرحه مختصراً وبيان أمره، وكذلك الكلام على باقي الوجوه، والله الموفق لما نؤمله والمعين على ما نرجوه.
الوجه الأول فيما يتعلق بمعرفة الله تعالى: وقبل السلوك في هذا المهيع، وورود صافي هذا المشرع، نذكر مقدمة تؤخر التمثيل والتشبيه بتحقيق التنزيه، وتزيح التعطيل بالنفي وتكشف التمويه، وتعين على الفهم لما نذكره ونبديه:
فليعلم الإنسان المعرض للخطأ والنسيان: أنه عبدٌ مملوكٌ، فقيرٌ صعلوك، ذليلٌ مسكين، ابن الماء والطين، مخلوقٌ من ماء مهين، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا لخير جراً، ولا لأذى بعوضةٍ فما فوقها دفعاً، وليتحقق قدر نفسه الضعيفة روحاً وجسماً، تجد عقله معقولاً عن الإحاطة بنفسه علماً، فضلاً عن معرفة روحه، وسر الحكمة في تركيب بدنه وتشريحه. وإذا كان الأمر على ما أشرت إليه، من عجز الإنسان عن(1/76)
معرفة نفسه وما جبلت عليه، فكيف يصل بعقله المعقول عن السلوك إلى معرفة الله العظيم ملك الملوك، إلا على وفق ما وقف عليه من الكتاب الذي لا ريب فيه، والسنة الثابتة بالنقل إليه؟!
فليقف كل إنسان عند حدود القرآن وما ثبت من السنة، وليحذر من نزغات شياطين الإنس والجنة، بما نمقوه من جدل الكلام، ولفقوه بعبارات لا تجدي نفعاً على الأنام، وقد حذر من ذلك أئمة الأمة، وأعلام الأئمة، ومنهم الأئمة الأربعة، ذموا الكلام ومن اشتغل به ومن استمعه، وقبلهم علماء لا يحصرون، وبعدهم خلق آخرون.(1/77)
نذكر مقال الأئمة الأربعة أولي المذاهب المتبوعة، حسبما وصل إلينا بالأسانيد المسموعة.
أما الشافعي رضي الله عنه: فقال إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: سمعت الربيع يقول: قال الشافعي رحمه الله: لأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك خيرٌ له من أن يبتلى بالكلام.
وقال أبو ثور: سمعت الشافعي يقول: من ارتدى بالكلام لم يفلح.
وقال المزني: سمعت الشافعي يقول: الكلام يلعن أهل الكلام.(1/80)
وقال أبو ثور، والحسن بن محمد بن الصباح -واللفظ له-: سمعت الشافعي يقول: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل. هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام.
وأما مالك بن أنس رضي الله عنه: فقال عبد الرحمن بن مهدي: دخلت على مالك بن أنس وعنده رجل سأله عن القرآن والقدر فقال: لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد؟! لعن الله عمراً، فإنه ابتدع هذه البدعة من الكلام، ولو كان الكلام علماً لتكلم به الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل.
وقال إسحاق بن عيسى: سمعت مالك بن أنس يعيب الجدال في الدين ويقول: كلما جاءنا رجلٌ أجدل من رجل أرادنا أن نرد ما جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم !
وأما أبو حنيفة رضي الله عنه: فقال صاحبه محمد بن الحسن: قال أبو حنيفة: لعن الله عمرو بن عبيد، فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم من الكلام.
قال محمد بن الحسن: كان أبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام.(1/81)
وأما أحمد بن حنبل رضي الله عنه: فقال أبو علي حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: عليكم بالسنة والحديث وما ينفعكم، وإياكم والخوض والمراء فإنه لا يفلح من أحب الكلام.
قال: وسمعت أبا عبد الله وذكر -أهل البدع- فقال: لا أحب لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم، فكل من أحب الكلام لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة، لأن الكلام لا يدعوه إلى خير، فلا أحب الكلام ولا الخوض فيه ولا الجدال، عليكم بالسنن والفقه الذي تنتفعون به، ودعوا الجدال وكلام أهل الزيغ والمراء، أدركنا الناس وما يعرفون هذا ويجانبون أهل الكلام.
هؤلاء الأئمة وعلماء الإسلام، ومقتدى الأمة، حذروا من الكلام وأهله، لما فيه من البلاء في اقتباسه ونقله.
وقلت في معناه:
علم الكلام بلاؤه متعدد ... منه الأئمة حذروا يا متقي
وبلاؤه من منطقٍ، صدق الذي ... قال: البلاء موكل بالمنطق(1/82)
ولما ذكر الإمام الجليل الزاهد أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم ابن الخطاب الخطابي البستي الشافعي في كتابه ((الغنية عن الكلام)) ظهور ما ظهر من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها قال: ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بزيادة فهم وفضل ذكاء وذهن، ويوهمه: أنه إن رضي من علمه ومذهبه بظاهر من السنة، واقتصر على واضح بيان منها، كان أسوة العامة، وعد واحداً من عدد الجمهور والكافة، وأنه قد ضل فهمه واضمحل لطفه وذهنه، فحركهم بذلك على التنطع في النظر، والتبدع لمخالفة السنة والأثر، ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء، ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء، فاختدعهم بهذه المقدمة، حتى استزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهاتٍ تعلقوا بزخارفها، وتاهوا عن حقائقها،(1/83)
ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس، ولا قبلوها بيقين علمٍ به.
ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ما انتحلوه، وشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه ضربوا بعض آياته ببعض: وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته المأثورة عنه، وردوها على وجوهها وأساؤا في نقلتها القالة، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزيد، ونسبوهم إلى ضعف المنة وسوء المعرفة بمعاني ما يروونه من الحديث والجهل بتأويله، ولو سلكوا سبيل القصد، ووقفوا عند ما انتهى بهم التوقيف، لوجدوا برد اليقين وروح القلوب، ولكثرت البركة وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور، ولأضاءت فيها مصابيح النور، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
واعلم -أدام الله توفيقك- أن الأئمة الماضين، والسلف المتقدمين، لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزاً عنه، ولا انقطاعاً دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة، وقد كان وقع في زمانهم هذه الشبه والآراء، وهذه النحل والأهواء، وإنما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخوفوه من محنتها وفتنتها، وحذروه من سوء مغبتها، وقد كانوا على بينة من أمرهم، وعلى بصيرة من دينهم، لما هداهم الله له من توفيقه، وشرح به صدورهم من نور معرفته، ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته، وتوقيف السنة وبيانها: غنىً ومندوحةً عما سواهما، وأن الحجة قد وقعت بهما، والعلة قد أزيحت بمكانهما، فلما تأخر الزمان بأهله، وفترت عزائمهم(1/84)
في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة، وقلت عنايتهم بها، واعترضهم الملحدون بشبههم، والمتحذلقون بجدلهم، حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام، ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا بهم، ولم يظهروا في الحجاج عليهم، فكان ذلك ضلة من الرأي، وغبناً فيه وخدعة من الشيطان، والله المستعان.
فإن قال هؤلاء القوم: فإنكم إن أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول، فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم، ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها، وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول، وأنتم قد نفيتموها؟!
قلنا: إنا لا ننكر أدلة العقول، والتوصل بها إلى المعارف، ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها على حدث العالم وإثبات الصانع، ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بياناً وأصح برهاناً، وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات، ولا يرون لها حقيقة، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء، فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله عز وجل عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤنة في ركوب هذه الطريقة المنعوجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، والإبداع والانقطاع على سالكها.
ثم ذكر أبو سليمان الخطابي بيان معرفة الصانع وإثبات توحيده من الطريق الذي ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين. كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.(1/85)
فأول الواجبات معرفة رب الأرض والسموات، وهو الله، [لا النظر المؤدي إليها، خلافاً للأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، ولا أول جزء من النظر] المؤدي إلى معرفة الله تعالى، ولا قصد النظر المذكور، خلافاً لمن شرط ذلك في أول الواجبات، بل معرفة الله عز وجل أول الواجبات، قال الله عز وجل: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}.
-قيل: هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة-.
وهذا الوجه مأخوذ من قول الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين} لم يذكر الله عز وجل هنا من أسمائه الحسنى غير الاسم الأعظم الذي هو (الله) لأن عامة الناس في العالم معترفون بأن لهم خالقاً وهو الله، لكثرة استجابة دعائهم إياه من دون الأنام، ومفاجأة الفرج عنهم إذا استغاثوا به عند الحوادث العظام، فهم معترفون له بالإلهية والقدرة لكن يشركون معه غيره، فسبحان الله عما يشركون، وتعالى عما يصفون. قال الله عز وجل: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}.
فذكر سبحانه في هذه الآية الشريفة أشهر أسمائه وهو (الله) المعروف عند المؤمن والكافر، والبر والفاجر، لما ذكرهم نعمته على المؤمنين ببعثة رسوله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، ليعرف المؤمن والكافر والخاص والعام أن خالقهم المعترفون له بالإلهية وهو (الله) هو الذي من ببعثة هذا الرسول، ليكون أبلغ في تذكيرهم بهذه النعمة، وأجلب لإيمانهم ودخولهم في هذه الأمة.
وأيضاً معرفة بعثة الرسل تتوقف على معرفة من أرسلهم، فيستدعي ذلك معرفة الصانع خالق الخلق وباعث الرسل، وهو الله عز وجل الموجود الحق والإله الصدق الواحد الأحد الفرد {الصمد. لم يلد ولم(1/86)
يولد. ولم يكن له كفواً أحد}، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، له الأسماء الحسنى والصفات العلى.
وصفاته سبحانه على نوعين كما ذكره الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتابه ((الأسماء والصفات)).
أحدهما: صفات ذاته سبحانه، كالحي والقدير، والسميع والبصير.
والنوع الآخر: صفات فعله سبحانه، كالخالق والرازق، والمحيي والمميت.(1/87)
فمن صفات ذاته سبحانه: العلم والإرادة، والحياة والكلام، والقدرة، والسمع والبصر، وإلى جميعها تشير هذه الآية الشريفة {لقد من الله على المؤمنين}. ففي قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب} لا خلاف بين المفسرين أنه القرآن، ولا خلاف أن معلمه للمؤمنين عن الله عز وجل هو الذي من الله على المؤمنين ببعثه رسولاً وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن هاشم أبو القاسم المذكور في قوله سبحانه: {محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} والكتاب الذي علمهم أنزله الله تعالى عليه. قال الله عز وجل: {وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين}.
وفي نزول القرآن الإشارة إلى صفة العلم. قال الله عز وجل: {لكن الله يشهد أنزله بعلمه، والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيداً}.
ويؤخذ من الآية أيضاً وصف الله عز وجل بالإرادة والمشيئة، لأنه سبحانه لو لم يرد ما بعث هذا الرسول، ولا من.
ويؤخذ منها أيضاً وصف الله عز وجل بالحياة لقوله تعالى: {لقد من الله} ذكر هذا الاسم الشريف دون غيره لعموم صفات الإلهية التي من بعضها الحياة، كما صرح بها وصفاً في قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}.
ويؤخذ منها أيضاً وصف الله عز وجل بالكلام لأن قوله تعالى: {يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب} وهذا بالاتفاق هو القرآن وهو كلام الله المصرح به في قوله تعالى: {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}.
ويؤخذ من الآية أيضاً وصف الله عز وجل بالقدرة التي بها بعث هذا الرسول، وأجرى على يديه ما أجرى من تلاوة الآيات، وهداية المؤمنين(1/88)
وتزكيتهم، وجلب المنافع لهم، ودفع المضار عنهم.
ويؤخذ من الآية وصف الله بالسمع والبصر لقول الله عز وجل: {ويعلمهم الكتاب} ومما علمهم من هذا الكتاب قول الله عز وجل فيه وصفاً له سبحانه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
ويؤخذ من الآية أيضاً وصف الله بالبقاء لأنه من معاني الاسم الشريف المذكور في قوله تعالى: {لقد من الله}.
وقال الله عز وجل: {كل من عليها فانٍ. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}.
وهذه الصفات السبع الأول المشار إليها اتفق أهل النظر عليها أنها من صفات الله الذاتية، وأثبت الجمهور مع ذلك صفة البقاء، وقد نظم الثمان أبو القاسم الشاطبي رحمة الله عليه في قصيدته في المرسوم.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الشرف محمد بن عبد الله بن المحتسب إجازةً إن لم يكن سماعاً، أنبأنا أبو محمد الحسن بن عبد الكريم الغماري قال: أنشدنا العلامة أبو عبد الله محمد بن عمر بن يوسف القرطبي سماعاً، أنشدنا ولي الله أبو القاسم بن فيره بن أبي القاسم الرعيني الشاطبي رحمه الله قال:
حي، عليمٌ، قديرٌ، والكلام له ... باقٍ، سميعٌ، بصيرٌ، ما أراد جرى(1/89)
وأنشدنا العلامة الحافظ أبو حفص عمر بن أبي الحسن الأنصاري لنفسه كتابةً من مصر:
حياةٌ، وعلم، قدرةٌ، وإرادةٌ ... كلامٌ، وإبصارٌ، وسمعٌ، مع البقا
ولو أشار شيخنا إلى أن هذه صفات لله عز وجل كان أبين وأمتن. وقد نظمت ذلك مع الإشارة إلى غيره من صفات الذات، كما ذكرها الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه ((الأسماء والصفات)) فقلت:
صفاتٌ لذات الله: علمٌ، إرادةٌ ... حياةٌ، كلامٌ، قدرة، السمع، والبصر
قد اتفق النظار في عد هذه ... وجمهورهم زاد البقاء وما انحصر
فما قد أتى في الذكر أو صح سنةً ... بوصفٍ لذات الله أو فعلٍ اشتهر
فنثبته لله علماً بأنه ... تعالى عن التشبيه والمثل والغير
هذا من الأحكام الأصولية المستنبطة من هذه الآية الشريفة، وهي من الآيات المحكمات المشار إليها -والله أعلم- بقوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب}.
لأن هذه الآية مبينةٌ غاية البيان بمن الله على المؤمنين وبعثته خير المرسلين، وتعليم الكتاب والسنة على يديه، وإنقاذهم به من الضلال الذي كانوا عليه، فهي من هذا الوجه محكمة.
وهي أيضاً من أحد أقسام المتشابه في القرآن، وهو التشابه في اللفظ، كأول آية الكرسي {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وفاتحة سورة آل عمران: {الم. الله لا إله إلا هو الحي القيوم}.(1/90)
وهذه الآية الشريفة أنزل الله ما يشابهها في سورتي البقرة والجمعة. قال الله عز وجل إخباراً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}.
وقال تعالى في سورة الجمعة: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
فهذه الآية متشابهة من هذا الوجه، محكمة على الوجه الأول.
وفي قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب} وقع التعليم كما أخبر العزيز الحكيم، فنقل إلينا الكتاب -وهو القرآن- نقلاً متواتراً بالوسائط الثقات الأعيان، وقد تقدمت الإشارة إلى قسمي الوسائط، وأن كل قسم يرجع إلى قسمين، ومنهم التابعون للصحابة رضي الله عنهم، والتابعون على قسمين: مخضرمون وغير مخضرمين، وكل منهما على قسمين، فغير المخضرمين حفاظ وغير حفاظ، وكل منهما على قسمين: ثقات وغير ثقات.
ولا يخلو من بعد الصحابة من الرواة من هذين القسمين، وكل منهما -الثقات وغير الثقات- على مراتب تفهم من نوع واحد من أنواع الحديث وهو التعديل والتجريح.
فأعلى مراتب التعديل: تكرار لفظ قولهم ((ثقة)) كما روينا عن سفيان ابن عيينة رحمه الله قال: حدثنا عمرو بن دينار، وكان ثقة ثقة ثقة ثقة، كرر ذلك سفيان أربع مرات.(1/91)
وأدنى مراتب الثقات قولهم: فلان شيخ ونحوه.
وأسوأ مراتب التجريح قولهم: فلان كذاب، ونحو ذلك، كدجال، وشبهه، وأقل مراتب ذلك -وهو أسهلها- فلان فيه خلفٌ، أو سيء الحفظ، أو في حفظه شيء، ونحو ذلك.
وفي الرواة من يكون حجةً في حديث أناسٍ ليناً في حديث غيرهم، كالحافظ هشيم بن بشير، فهو لين في روايته عن الزهري، حجةٌ مقبول في روايته عن غيره بلا عنعنة، فإذا روى بالعنعنة -أو نحوها- ولم يبين سماعاً أوجب وهناً ما، لكن ما وقع في الصحيحين عن هشيم وأمثاله من ثقات المدلسين بالعنعنة أو بلفظ موهم: فهو محمولٌ(1/92)
على ثبوت سماعهم لذلك من وجه آخر.
فهشيم من أعيان الثقات، لكنه معدود في المدلسين، وقد رماه باللحن النضر بن شميل، وذلك فيما:
أخبرنا المسند أبو الخير سعد بن عبد الله النوبي البهائي مولاهم المجمر، بقراءتي عليه بمسجد القصب سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، أخبرك أبو إسحاق إبراهيم بن بركات بن أبي الفضل بن ألقى ريشه قراءةً عليه وأنت تسمع قال: أخبرنا الإمام التقي أبو عبد الله محمد بن الحسين بن أحمد الفقيه سماعاً، أخبرنا أبو طاهر بركات بن إبراهيم،(1/93)
أنبأنا أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري النحوي قال: أخبرنا أبو علي علي بن عيسى التستري، عن حميه القاضي أبي القاسم عبد العزيز بن محمد العسكري، عن أبي أحمد الحسن بن سعيد العسكري اللغوي، عن أبيه، عن إبراهيم بن حامد، عن محمد بن ناصح الأهوازي قال: حدثني النضر بن شميل قال:
كنت أدخل على المأمون في سمره، فدخلت ذات ليلة وعلي قميصٌ مرقوعٌ. فقال: يا نضر ما هذا التقشف حتى -يعني: تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان- قلت: يا أمير المؤمنين أنا شيخ ضعيف، وحر مرو شديد فأتبرد بهذه الخلقان. قال: لا، ولكنك قشفٌ.
ثم أجرينا الحديث، وأجرى هو ذكر النساء فقال: حدثنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سدادٌ من عوز)) فأورده بفتح السين، فقلت: صدق يا أمير المؤمنين هشيم. حدثنا عوف ابن أبي جميلة، عن الحسن، عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز)).
قال: وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً فقال: كيف قلت سداد؟(1/94)
قلت: لأن السداد هنا لحن، قال: أو تلحنني؟! قلت: إنما لحن هشيم، وكان لحانةً، فتبع أمير المؤمنين لفظه، قال: فما الفرق بينهما؟ قلت: السداد -بالفتح- القصد في الدين والسبيل، والسداد -بالكسر- البلغة، وكل ما سددت به شيئاً فهو سداد، قال: أوتعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم، هذا العرجي يقول:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فقال المأمون: قبح الله من لا أدب له!! وأطرق ملياً ثم قال: ما مالك يا نضر؟ قلت: أريضة لي بمرو أتصابها وأتمززها، قال: أفلا نفيدك مالاً؟ قلت: إني إلى ذلك لمحتاج، قال: فأخذ القرطاس وأنا لا أدري ما يكتب، ثم قال: كيف تقول إذا أمرت أن يترب الكتاب؟ قلت: أتربه،(1/95)
قال: فهو ماذا؟ قلت: مترب، قال: فمن الطين؟ قلت: طنه، قال: فهو ماذا؟ قلت: مطين، قال: هذه أحسن من الأولى، ثم قال: يا غلام أتربه وطنه.
ثم صلى بنا العشاء وقال لخادمه: تبلغ معه إلى الفضل بن سهل. قال -يعني- فأتيته فلما قرأ الكتاب قال: يا نضر إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب فيه؟ فأخبرته ولم أكذبه، فقال: ألحنت أمير المؤمنين! فقلت: كلا، إنما لحن هشيم، وكان لحانة، فتبع أمير المؤمنين لفظه وقد تتبع ألفاظ الفقهاء ورواة الآثار. ثم أمر لي الفضل بثلاثين ألف درهم، فأخذت ثمانين ألف درهم بحرفٍ أستفيد مني.
هذه القصة رواها مطولةً الإمام أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري اللغوي في كتابه ((الحكم والأمثال)) كما رويناه من طريقه، لكن في كتاب ((الحكم)) رواه أيضاً من طريق أخرى فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن أبي يحيى، حدثنا إبراهيم بن ناصح، حدثنا النضر ابن شميل.
وكأن الحريري الذي روينا القصة من طريقه اختصر هذه الطريق واقتصر على رواية العسكري عن أبيه.
ومذهب الأصمعي كمذهب النضر في أن السداد من عوز بكسر أوله(1/96)
لا يجوز فتحه، وقاله بالفتح غيرهما، وذكر أن فيه الوجهين: الفتح والكسر.
وقولهم ((فيه سداد من عوز)): معناه -فيما قاله الأصمعي-: إن أعوز الأمر كله ففي هذا ما يسد بعض الأمر، وقيل: معناه ما تسد به الخلة. والله سبحانه أعلم.(1/97)
[4] بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
من وجوه الكلام على هؤلاء الآيات العظام من طريقي التفسير والتأويل: ذكر مواطن التنزيل، لأن القرآن نزل سماوياً وأرضياً، والأرضي نزل حضراً وسفراً، وشتاء وصيفاً، وليلاً ونهاراً، ونزول القرآن على قسمين:
أحدهما: ماله سبب نزل لأجله، وقد صنف الأئمة في ذلك، ومنهم: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متويه النيسابوري الواحدي.
والقسم الآخر: نزل بغير سبب.
وهذه الآية، من القسم الأول، وسبب نزولها: الدعوة الإبراهيمية التي أخبر الله تعالى عنها بقوله تعالى إخباراً عن إبراهيم عليه الصلاة(1/98)
والسلام: {ربنا وابعث فيهم رسولاً .. .. } الآية.
والآيات التي تلوناها من الآي المدني، لأنها من سورة آل عمران، وهي مدنية بلا خلاف، وثالث سورةٍ نزلت بالمدينة، كما رويناه من حديث خصيف بن عبد الرحمن الجزري، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فأنزل الله عز وجل بالمدينة: البقرة، والأنفال، وآل عمران.
ورويناه بـ ((ثم)) بدل الواو من حديث عثمان بن عطاء بن أبي مسلم، عن أبيه [عن ابن عباس] قال: ثم كان أول ما أنزل بالمدينة سورة البقرة، وقال: ثم الأنفال، وقال: ثم آل عمران.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما بالإسناد السابق تعليقاً إليه، أن آخر ما نزل بالمدينة سورة التوبة، وأول ما نزل بمكة: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}، وآخر ما نزل بمكة: سورة {ويل للمطففين}.
ومن الاتفاق: أن هؤلاء الآيات، ذكرت بنحوها في سورة البقرة، وسورة الجمعة، وهؤلاء الثلاث نزلن بالمدينة، وترتيبهن في النزول كترتيبهن في المصحف.
وعلم نزول القرآن ومواطن التنزيل، أحد أقسام علوم القرآن، وعلومه(1/99)
كثيرة، منها: بيان ما هو مبهم غير معلوم من المنطوق والمفهوم، ومنه في هذه الآيات: قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} المراد بهم هذه الأمة، وهي أمة الإجابة، لأن الأمة على ضربين: أمة دعوة، وهم جميع الثقلين، وأمة إجابة: وهم من أجاب إلى الإسلام، وذكروا في هذه الآية بالمؤمنين، وهم الذين وصفوا بالأمية، كما صرح بذلك في آية سورة الجمعة في قوله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم .. .. } الآية.
ومن ذلك: أن الرسول الذي من الله به على المؤمنين هو نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام بلا خلاف بين الأمة.
ومن ذلك: أن الكتاب المذكور هو القرآن جل منزله، لا خلاف في ذلك، وهو بمعنى المكتوب، مصدر سمي به المفعول، ولم يكن مكتوباً وقت نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أنه أطلق عليه ذلك، لكن من قواعد كلام العرب أنهم تارةً يصفون الشيء بما هو ملابس له حقيقة، نحو زيد قائم، إذا كان قائماً حال الإخبار عنه، وتارة يصفون الشيء باعتبار ما يؤول إليه.
والحكمة فسرت هنا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم . والحكمة تطلق ولها معانٍ، منها:
1- القرآن، كما في قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} فسرت هنا بالقرآن.(1/100)
2- ومنها: أن الحكمة علم تفسير القرآن، كما فسر بذلك قوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} قيل: علم القرآن.
وقال يعقوب بن إبراهيم الدورقي في ((تفسيره)): حدثنا سعيد بن محمد، عن جويبر، عن الضحاك: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} قال: يعني القرآن في هذه المواضع.
3-8- وتطلق الحكمة أيضاً على المواعظ والآداب، وعلى العلم، والعدل، والحلم، والمنع، والإتقان.
والحكمة في عرف الفلاسفة علومها، ولأن تسمى بلازم الحكمة أولى من أن تسمى بالحكمة، لما فيها من الدواهي الغائلة، والسموم القاتلة، ومن زعم أن حكمة الفلاسفة هي المذكورة في القرآن فقد تجرأ وافترى، وكذب فيما رأى، وإنما الحكمة المشار إليها في القرآن على وجوهٍ ذكرها الأئمة ومن صنف في الأشباه والنظائر. منها: أن المراد بالحكمة في قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} سنة النبي صلى الله عليه وسلم(1/101)
كما تقدم، وممن فسرها بذلك ابن عباس ومجاهد وقتادة وآخرون منهم: الشافعي رضي الله عنهم.
قال الشافعي رضي الله عنه في كتابه ((الرسالة)): وقد فرض الله تعالى على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم فقال في كتابه: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}. وقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} وذكر الشافعي آياتٍ في ذلك آخرها قوله تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً}.
قال الشافعي: فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى.
ومعاني الكتاب والسنة كثيرة لا تعد، ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا من جهة التفسير من طريق المنقول عن الأئمة المرضية، ومن التأويل الراجع إلى القواعد الشرعية والعقائد السنية، ومعاني اللغة ووجوه العربية.
وإن انضم إلى ذلك معرفة المعاني والبيان والبديع كان بليغاً في فهم الحكم والآيات، وعلم الحجج والبراهين القاطعات.
والمعاني: جمع معنى، ومعنى الشيء: حالته التي يصير إليها أمره، هذا موضوعه لغةً.(1/102)
وأما اصطلاحاً: فهو ما يحترز به عن الخطأ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال المفتقر في تأديته إلى أزيد من الدلالات الوضعية. فيعرف منه تتبع خواص تركيب الكلام وقيود دلالاته.
وأما البيان: فموضوعه لغة: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والظهور.
وأما اصطلاحاً: فهو ما يحترز به عن الخطأ في دلالة المركب لتمام المراد منه بمخالفة الوضوح أو الخفاء، فيعرف منه كيفية إيراد مقتضى الحال المفتقر إلى أزيد من الوضعية بطرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة أو النقصان.
وأما البديع فموضوعه لغة: المبتدع العجيب، وأصله من البدع، وهو ما حدث مما لم يكن قبل.
وأما اصطلاحاً: فهو إبانة المعنى الحسن باللفظ المختار.
فإذا كان الكلام خالياً عن التعسف والتعقيد في معناه، عاطلاً من الكلمات الحوشية المتنافرة المخارج في مبناه كان بديعاً، يعلق بالأفهام سريعاً، لكن إذا وقع البديع اتفاقاً من غير تكلف، كان أبلغ في التفنن والتصرف.
ولقد حدثنا شيخنا الإمام العلامة قاضي المسلمين ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد الحضرمي، عن العلامة مؤرخ بلاد المغرب أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد الغرناطي لسان الدين ابن الخطيب أنه قال: أشتهي من يتعاطى البديع في شعره(1/103)
أن يعزر ويطوف به وينادى عليه: هذا جزاء من يتعاطى البديع في شعره! أراد أن لا يتكلفه الشاعر بل يقع له انسجاماً وسجية.
ومن علوم القرآن المتعلقة بهذه الآية: حسن بيان كلمها، وتعديل معاني نظمها، ومناسبة فواصلها، وارتباطها بأوائلها، وهذا من أنواع ضروب نظم القرآن، وقد صنف فيه غير واحد منهم: أبو علي الحسن ابن يحيى بن نصر الجرجاني، وكتابه غريبٌ بديعٌ في بابه، وغلط في تسمية مصنفه الفخر الرازي، فجعله عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني صاحب ((المقدمة في النحو)) المشهورة بـ ((الجمل)) و ((شرح الإيضاح)) لأبي علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي في ثلاثين مجلداً!.
نعم لعبد القاهر الجرجاني هذا مصنفان في إعجاز القرآن ((الكبير))، وآخر دونه، فلعل الفخر الرازي أراد أحد مصنفيه في إعجاز القرآن فسماه ((ضروب نظم القرآن))؟ والله أعلم.
ويؤخذ حسن انتظام الكلام واتساق معانيه من مواضع في هذه الآية الشريفة، منها: أن الله تعالى قال: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً .. .. }.
ذكر الله تعالى هذه المنة العظمى باسمه المظهر دون المضمر، فلم يقل سبحانه: لقد مننت، بل قال: {لقد من الله} وذلك -والله أعلم- لعظم شأن هذه المنة التي لا منة أعظم منها، وهي بعثه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، ونعمةً امتن بها على المؤمنين.(1/104)
فذكر المن بهذه النعمة العظيمة باسمه الأعظم الذي هو (الله).
نعم، ولم يذكر هنا من أسمائه الحسنى غير هذا الاسم الشريف لفوائد، منها: أن هذا الاسم الشريف يعلمه المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وهم معترفون بأنه خالقهم وإياه يدعون، وإليه عند الحوادث يفزعون، لكن الكفار يشركون به غيره، كما كانوا يصنعون في التلبية يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً [هو لك] تملكه وما ملك. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قال الله عز وجل: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}.
فذكر سبحانه في هذه الآية الشريفة أعظم أسمائه وهو (الله) المشهور عند المؤمن والكافر، ليعرف الجميع أن خالقهم المعترفون له بالإلهية -وهو (الله)- هو الذي من ببعثة هذا الرسول، ليكون أبلغ في تذكيرهم بهذه النعمة، وأجلب لإيمانهم ودخولهم في هذه الأمة.
وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية وجوهاً من نعمه على المؤمنين ببعثة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
1- منها: تلاوته آيات الله عليهم.
2- ومنها: تزكيتهم وتطهيرهم حساً ومعنىً.
3- ومنها: تعليمه إياهم الكتاب والسنة.
4- ومنها: إنقاذهم على يديه من الضلال المبين، الموجب للخزي والنكال يوم الدين.(1/105)
وكل نعمة من هذه النعم المسماة تشتمل على نعم كثيرة لا يحصيها إلا الله، ولهذا -والله أعلم- عند ذكر المن بهذه النعم، ذكره الله باسمه الأعظم.
فكم حوى القرآن والسنة من عجائب ولطائف وأحكام، وقواعد وعقائد وبيان حلال وحرام، وأوامر وزواجر وترغيبٍ وترهيبٍ للخاص والعام.
وقد نبهنا على بعض معاني هذه الآية من القرآن.
ونذكر الآن حديثاً من السنة التي أشرنا من أحسن الحسان، لنجمع في المجلس بين تلاوة الكتاب ورواية السنة، ويحصل لنا بركاتهما، راجين من الله أول وهلة، دخول الجنة.
أخبرنا الشيخان المسندان الكبيران أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عمر البالسي، وأبو هريرة عبد الرحمن ابن الحافظ أبي عبد الله محمد ابن الذهبي، وآخرون، قالوا: أخبرنا أبو العباس أحمد ابن الشحنة أبي طالب الصالحي قراءةً عليه ونحن نسمع -زاد أبو هريرة فقال: وأخبرنا عيسى بن عبد الرحمن السمسار قراءةً عليه وأنا حاضر، وأبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم، وأبو بكر بن أحمد الضرير، وإسماعيل بن يوسف السويدي، وزينب ابنة أحمد بن عمر بن شكر إجازةً، قالوا -سوى الضرير-:
أخبرنا عبد الله بن عمر بن علي الحريمي سماعاً -وقال الحاكم أيضاً والضرير: أخبرنا الحسين بن المبارك بن محمد السلامي قراءةً عليه، قال الحاكم: وأنا حاضر، وقال الضرير: وأنا أسمع- قالا: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى الهروي سماعاً، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبي مسعودٍ عبد العزيز الفارسي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن أبي شريح الأنصاري، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد، حدثنا العلاء بن موسى، حدثنا الليث بن سعد، عن نافع، عن(1/106)
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)).
هذا حديث صحيحٌ عالٍ جداً، خرجه مسلم في ((صحيحه)) والنسائي في ((سننه)) عن قتيبة بن سعيد.
وخرجه مسلم أيضاً، وابن ماجه في ((سننه)) عن محمد بن رمح كلاهما عن الليث بن سعد، به، فوقع لنا بدلاً عالياً، وهو عند القعنبي، وأبي بكر بن أبي شيبة، عن الليث. تابعه مالك، وعبيد الله بن عمر، وعبد الله بن نمير، وأسامة بن زيد بن أسلم، عن نافع.
وله شاهد عن علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وثوبان، وجابر بن عبد الله، وجرير بن عبد الله، وأبي ذر جندب ابن جنادة، وحذيفة بن اليمان، وأبي سعيد سعد بن مالك الخدري، وسلمة بن نفيل السكوني، وسوادة بن الربيع الجرمي، وأبي أمامة صدي ابن عجلان الباهلي، وعبد الله بن بسر، وعبد الله بن عمرو بن العاصي، وعبد الله بن مسعود، وعتبة بن عبدٍ السلمي، وعروة بن الجعد -ويقال ابن أبي الجعد، ويقال عروة بن عياض بن أبي الجعد الأزدي البارقي- وعريب جد يزيد بن عبد الله بن عريب المليكي، وعمرو بن العاصي، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، والمقدام بن معدي كرب، ويعلى بن مرة، وأبي كبشة الأنماري، وأبي هريرة، وابن الحنظلية الأنصاري، وأسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنهم.(1/107)
وفي حديث ابن عمر زيادةٌ من قوله ليست في روايتنا الأولى.
قال إبراهيم بن محمد بن عرعرة السامي: حدثنا محمد بن بكر، حدثنا عمر بن صهبان، أخبرني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)) وقال: ولقد رأيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً، فلقد رأيته يمسح بردائه أو بداخلة إزاره عن وجهه العرق.
ورويت قصة مسح الفرس من مراسيل الحسن البصري، ونعيم بن أبي هند الجهني، ومسلم بن يسار المصبح. قال مسلم: أخبرت أن(1/113)
النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم فمسح وجه فرس له بردائه وقال: ((إني عوتبت الليلة في الخيل)).
وهذه الفرس جاءت الرواية به مبهمةً.
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عدةٌ من الخيل معلمة.
فأولها: الكميت -ويسمى السكب- فيما رويناه، وهو أول فرس اقتناه، ابتاعه بالمدينة من رجل من بني فزارة بعشر أواقٍ، وكان اسمه(1/114)
عند بائعه الضرس، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم السكب، لأنه كان خفيف الجري سريعه، وكان أول ما غزا عليه أحداً، وليس يومئذ مع المسلمين فرسٌ غيره، وغير فرسٍ لأبي بردة بن نيار يقال له: ملاوح.
والسكب هذا كان كميتاً لونه بين الشقرة والأدمة أغر محجلاً مطلق اليمين.
والثاني من الخيل النبوية: سبحة، من قولهم: فرس سابح، إذا كان حسن مد اليدين في الجري، وكانت سبحة شقراء، ابتاعها النبي صلى الله عليه وسلم من أعرابي من جهينة بعشرٍ من الإبل، وسابق عليها مرةً فجاءت سابقةً، فهش لذلك وأعجبه.
والثالث من الخيل النبوية: المرتجز، وهو الذي اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم من الأعرابي الذي جحد البيع فشهد خزيمة بن ثابت بتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادتين.(1/115)
واسم الأعرابي الذي جحد البيع: سواء بن قيس بن الحارث المحاربي.
وكان المرتجز فحلاً أشهب، وقيل أبيض، سمي المرتجز لحسن صهيله، ويقال لهذا الفرس أيضاً: الطرف والنجيب.
والرابع من الخيل النبوية: اللزاز -بكسر اللام وزايين، وقيل بفتح اللام مع التشديد- وهذا الفرس كان من جملة هدية جريج المقوقس، وهو أحد الأفراس الثلاثة التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم في حائط سعد بن سعد ابن مالك بن خالد الساعدي والد سهل رضي الله عنهما يعلفهن. والآخران: اللحيف والظرب.
فالظرب -وهو الخامس من الخيل النبوية- أهداه له فروة بن عمرو الجذامي، واسمه بفتح الظاء المعجمة، وكسر الراء، يليها موحدة، وقيل فيه: الطرب -بطاء مهملة- والأول المعروف، وكان هذا الفرس واللزاز مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع.
والسادس من الخيل النبوية: اللحيف، أهداه للنبي صلى الله عليه وسلم ربيعة بن أبي(1/116)
براءٍ ملاعب الأسنة، فأثابه عليه فرائض من نعم بني كلاب، وقد اختلف في اسمه على خمسة أقوال، منها: اللحيف، بالحاء المهملة، وزان شريف.
وقيل: بالتصغير.
وقيل: كذلك مع إعجام الحاء.
وقيل: النجيف، بنون وجيم، مصغر.
وقيل: بلام مفتوحة وجيم مكسورة، وهو أوهى الأقوال. وأراه تصحيفاً. والله أعلم.
والسابع من الخيل النبوية: الورد، وكان فحلاً بين الكميت الأحمر والأشقر، أهداه للنبي صلى الله عليه وسلم تميم الداري رضي الله عنه لما وفد عليه مع الداريين سنة تسع من الهجرة منصرفه من تبوك.
وهذه السبعة لا خلاف في نسبتها للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد نسب إليه عدة أفراس دخلن في ملكه على خلافٍ في ذلك.(1/117)
منها: فرس يقال له ذو اللمة، فيما ذكره أبو جعفر محمد بن حبيب ابن محمد البغدادي وغيره.
ومنها: السرحان، والمرتجل، والأدهم. ذكرهن أبو عبد الله الحسين ابن أحمد بن خالويه.
ومنها: ملاوح، ذكره سليمان بن بنين بن خلف الأنصاري المصري في كتابه ((آلات الجهاد وأدوات الصافنات الجياد)) والمعروف أن ملاوح فرس أبي بردة بن نيار شهد عليها أحداً، كما تقدم ذكره.
ومنها: ذو العقال، بضم العين المهملة وفتح القاف المشددة -وخففها بعضهم- وآخره لام.
ومنها: الأبلق، ذكر في حديث من رواية مسعود بن الضحاك أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه مطاعاً وقال: ((أنت مطاعٌ في قومك)) وقال له: ((امض إلى أصحابك)) وحمله على فرس أبلق. الحديث.
ومنها: اليعسوب، ذكره قاسم بن ثابت في ((الدلائل)) وغيره.(1/118)
ومنها: اليعبوب، ذكره بعضهم، وجعله قاسم بن ثابت لقباً لليعسوب في رواية بعضهم.
ومنها: البحر، ذكره بعضهم.
وكذلك: المندوب.
ومنها: السجل.
ومنها: السحاء -بسين وحاء مهملتين مع التشديد والمد- وقيده أبو محمد الدمياطي وتبعه غيره الشحا -بشين معجمة بدل المهملة-.
ومنها: المرواح -بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الواو، ويليها ألف، ثم حاء مهملة- ذكر في هدايا الرهاويين للنبي صلى الله عليه وسلم .
وعد بعضهم البراق في خيل النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم شيخنا شيخ الإسلام البلقيني في كتابه ((قطر السيل في أمر الخيل)).
وقد ذكر العلامة عز الدين أبو عمر عبد العزيز ابن الإمام أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن جماعة الشافعي في كتابه ((مختصر السيرة النبوية)) أن أباه جمع الخيل النبوية المتفق عليها في بيت واحد فقال:
والخيل: سكبٌ لحيف سبحةٌ ظربٌ ... لزاز مرتجزٌ وردٌ لها أسرار
لكن البيت يحتاج إلى تتمة من نسبة الخيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أنها متفق عليها، وقد أشرت إلى ذلك في بيت واحد تلوته بآخرين فيهما ذكر الخيل المختلف فيها، ومجموع ذلك كله أحد وعشرون فرساً، ذكرت في كل بيت سبعة فقلت:(1/119)
خيل النبي اتفاقاً: سبحةٌ ظرب ... سكبٌ لحيفٌ لزاز ورد مرتجز
خلفٌ: بيعسوب ذي العقال مرتجلٍ ... بحرٍ ملاوح سجلٍ أدهمٍ برزوا
سرحان ذي اللمة السحاء أبلقهم ... يعبوب مندوب مرواحٍ بذا حرزوا
آخر المجلس، ولله الحمد حمداً كثيراً دائماً
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً(1/120)
وجدت بخط غالي بن أبي الفتح عثمان بن جني: قال أبو سعيد: كتبت من خط ثعلبٍ أن رجلاً وصف خيلاً فقال: إنها لمخيلةٌ لكل خير، إنها لسامية العيون، لاحقة البطون، مصعنات الآذان، أفتاء الأسنان، ضخام الركبات، متشركات الحجبات، رحاب المناخر، صلاب الحوافر، وقعها تحليلٌ، ورفعها تعليل، إن طلبت سبقت، وإن طلبت فاتت.
قال: الصعون: الصغير الرأس.
أبو سعيد المذكور: أراه أبا سعيد السيرافي، توفي سنة ثمان وستين وثلاث مئة. والله أعلم.(1/121)
[5] بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم ويسر
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
هذه الآيات الشريفات، قد تلوناها في أوائل الدروس الماضيات، تبركاً بتلاوتها، وإيضاحاً لبعض معاني كلماتها، لأن الكلام فيها وما حوته معانيها من نيف وخمسين وجهاً، نذكرها مجملةً، ثم نوضحها وجهاً وجهاً مفصلة، مع بيان مآخذها من الآيات المذكورة، منطوقاً أو مفهوماً على القواعد المأثورة، التي بناؤها على أصلين كل منهما علم جليل، وهما: تفسير القرآن، والتأويل.
ومعنى التفسير في اللغة -ويقال له الفسر-: الكشف، يقال: فسرت الحديث -بالفتح- أفسره -بالكسر- فسراً، إذا بينته؛ وفسرته -بالتشديد- تفسيراً، كذلك، والتفسرة: ماء العليل الذي يرفع للطبيب، فإذا رآه كشف له عن العلة. هذا موضوعه لغةً.
وأما معناه اصطلاحاً: فهو الكلام على أسباب نزول القرآن، وبيان أحكامه المجملة فيه من السنة، كبيان الصلوات.
وفي قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً}:(1/122)
إشارةٌ إلى الرحمة المصرح بها في قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، فكان صلى الله عليه وسلم رحمةً للمؤمنين بالهداية، وللمنافقين بالأمان من القتل، وللمشركين بتأخير العذاب عنهم. وعلى قدر رحمته صلى الله عليه وسلم للعالمين تكون رحمة الله إياه مع التضاعف من غير تعيين وثوابٍ لا يدخل تحت العد والحصر ولا الإحصاء، فـ ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
وهذا الحديث رويناه من طرقٍ تقدم في المجلس الأول منها طريقان مسندان، وهذا طريق ثالث.
أخبرنا الأمير أسد الدين عبد الرحمن بن محمد القطلوبكي، وهو أول حديث سمعته منه بمنزلي من دمشق، قال: أخبرنا محمد بن أحمد المفيد، وهو أول حديث سمعته منه حضوراً. قال: وأخبرنا عيسى ابن يحيى الأنصاري بمصر، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا بشير(1/123)
ابن حامد بمكة، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا محمد بن معمر القرشي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا زاهر بن طاهر المستملي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أحمد بن عبد الملك المؤذن، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا الأستاذ أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش بن علي بن داود بن أيوب الزيادي، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال البزاز، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا سفيان بن عيينة، وهو أول حديث سمعته منه، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)).
هذا حديث حسن لقصور درجة أبي قابوس عن ثقات الصحيح، وارتفاعه عن مستوى الضعفاء، لكونه وثق، وتفرد به سفيان كشيخه عمرو عن أبي قابوس، وقد صحح الترمذي حديثه هذا، لكنه عنده(1/124)
بغير تسلسل.
وهذا أحد وجوه الكلام على الحديث.
والكلام عليه يرجع إلى أمرين: أحدهما يتعلق بالإسناد، والثاني بالمتن.
فالأول: الإسناد -ويقال السند- وهو لغةً في أحد معانيه: ما ارتفع في قبل جبل أو وادٍ. ومصطلحاً: هو الإخبار عن طريق المتن. ومذهب الجمهور أنه لا فرق بين الإسناد والسند، وقيل: السند -كما تقدم- الإخبار عن طريق المتن، والإسناد: رفع الحديث إلى قائله.
ويتعلق بالسند نيفٌ وأربعون نوعاً من أنواع علوم الحديث، منها هذا النوع، وهو المسلسل: مأخوذ من تسلسل الشيء إذا اتصل بعضه ببعض على صفة واحدة، كسلسلة الحديد وسلسلة الرمل. وفي المصطلح: المسلسل ما كان إسناده على صيغة واحدة إلى منتهاه، وتارة يأتي كاملاً، وتارة مقطوع الأول، وتارة مقطوع الوسط، وتارة مقطوع الآخر.
والمسلسل كثير الأنواع، منها التسلسل بقول الراوي عمن روى عنه: وهو أول حديث سمعته منه، كهذا الحديث، ويسمى المسلسل بالأولية، لكنه مقطوع الأول، كما هو المشهور في تسلسله إلى عبد الرحمن بن بشر بن الحكم أنه أول حديث سمعه من سفيان.
والتسلسل بزيادة على ذلك لا يصح، سواء قل: كرواية أبي عاصم عبد الله بن محمد الشعيري، أو كثر: كرواية أبي نصر محمد بن طاهر(1/125)
ابن محمد بن الحسين بن الوزير الوزيري الواعظ، فإنه وصل التسلسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، كما رويناه من طريقه، وتكلم فيه لذلك.
وقد رويناه بغير تسلسل في ((سنن)) أبي داود والترمذي وغيرهما من طريق سفيان بن عيينة.
وحدث به أحمد بن حنبل في ((مسنده)) عن سفيان.
وأبو قابوس عداده في الكوفيين، وقيل هو مكي، لا يعرف له اسم، ولا له ذكر في كتاب ((الكنى)) لمسلم بن الحجاج، وذكره يحيى بن معين في ((تاريخه)) ولم يسمه، وكذلك أبو عبد الله بن مندة في ((الكنى)) وغيرهما فلم يسموه، وإنما جاءت تسميته عن ثابت بن محمد المديني فذكر أن اسم أبي قابوس: المبرد، وقول ثابتٍ ليس بثابت.
وجاء من طريق الحسن بن داود بن محمد بن المنكدر، حدثنا سفيان ابن عيينة، عن ابن دينار، عن قابوس، عن عبد الله بن عمرو، فذكره، وهذا خطأ، إنما هو عن أبي قابوس، والمنكدري هذا يتكلمون فيه، فيما قاله البخاري.(1/126)
وجاء من رواية أبي أحمد بشر بن مطر الواسطي، عن سفيان، فذكره موقوفاً على عبد الله بن عمرو قوله، والصواب رفعه.
وقد رويناه في كتاب ((المحدث الفاصل بين الراوي والواعي)) لأبي محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي قال: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الراحمون يرحمهم الله، فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
قالوا: يا أبا محمد أعده، فقال: سمعت الزهري يقول: إعادة الحديث أشد من نقل الصخر.
عمرو بن أوس بن أبي أوس الثقفي المكي تابعي، وأبوه صحابي، مشهوران، ولا مدخل لعمرو بن أوس في هذا الحديث. والله أعلم.
وقد تفرد بذكر عمرو بن أوس إسناداً، وبذكر اسم (الله) بدل اسمه (الرحمن) متناً: عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري، عن سفيان بن عيينة، دون بقية أصحابه، والصواب ما رويناه(1/127)
أولاً عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس.
وقول سفيان فيه ((عن عمرو بن دينار)): هذا معنعن، وقد اختلف فيه هل يحمل على الاتصال أو لا؟ والجمهور أنه متصلٌ محتج به مع اشتراط عدالة الراوي وثبوت لقائه لمن روى عنه بالعنعنة؛ وهذا موجود في سفيان وروايته عن عمرو، ولا تضر عنعنته هنا وإن كان مدلساً، فتدليسه التدليس المبين، وإنما سمي المبين لأن المدلس إذا استفهم عنه بينه. قال أبو حاتم بن حبان: ولا يكاد يوجد لابن عيينة خبرٌ دلس فيه إلا وقد بين سماعه عن ثقةٍ مثل ثقته. انتهى.
ومع ذلك فقد جاءت روايةٌ عن سفيان قال: حدثنا عمرو، بلفظ التحديث بدل العنعنة، فيما رويناه من طريق أسعد بن أحمد بن محمد ابن حيان النسوي، عن أبي صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن، فذكره.
وجاء الحديث عن بشر بن الحكم بدل ولده عبد الرحمن، وهما من رجال الصحيحين، وهو غريب، ويحتمل سماع أبي حامد بن بلال منهما لقرب وفاة بشر من وفاة ولده عبد الرحمن، فإن بشراً توفي في سنة سبع وثلاثين ومئتين، ومات ابنه عبد الرحمن ليلة الأربعاء لثمان(1/128)
عشرة خلت من شهر ربيع الآخر سنة ستين ومئتين، ودفن من الغد بنيسابور.
وسماعه وسماع أبيه من سفيان مشهور، قال الحاكم أبو عبد الله في كتابه ((تاريخ نيسابور)): سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هاني يقول: سمعت إبراهيم بن أبي طالب، سمعت عبد الرحمن بن بشر -يعني ابن الحكم- يقول: حملني بشر بن الحكم على عاتقه في مجلس سفيان بن عيينة فقال: يا معشر أصحاب الحديث! أنا بشر بن الحكم بن حبيب النيسابوري، سمع أبي الحكم بن حبيب من سفيان بن عيينة، وقد سمعت أنا منه وحدثت عنه بخراسان، وهذا ابني عبد الرحمن قد سمع منه.
وقد وقع لي من حديث عبد الرحمن بن بشر، عن سفيان بن عيينة سبعٌ وسبعون حديثاً غير الآثار التي منها ما قال الحاكم أبو عبد الله في ((تاريخ نيسابور)): أخبرنا أحمد بن محمد الخطيب بمرو، حدثنا محمود ابن والان، حدثنا عبد الرحمن بن بشر النيسابوري قال: سمعت سفيان ابن عيينة يقول: من استغنى بالله أحوج الله إليه الناس.
هذا مما يتعلق بالإسناد.
وأما المتن فهو لغةً: ما صلب من الأرض وارتفع. وفي المصطلح: المتن: ما انتهى إليه السند من الكلام.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في المجلس الآتي ذكر بعض ما فيه من الأحكام. والله الموفق لكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وهذه الحسبلة قالها خلق من السلف، واقتدى بهم جماعة من الخلف، استنصاراً لما نابهم من الشرور، وتوكلاً على الله تعالى في جميع الأمور، ومنهم المدرس الثالث بهذا المكان، وهو الإمام العلامة المجتهد أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان.(1/129)
وقد أنبأنا جماعة منهم أبو حفص عمر بن محمد الملقن، عن القاسم ابن محمد الحافظ قال: وفي سابع عشر جمادى الآخرة -يعني سنة خمس وستين وست مئة- جرت للشيخ شهاب الدين أبي شامة مفتي دمشق محنةٌ بداره عند طواحين الأشنان، دخل عليه شخص معه فتوى، فلما صار معه في الدار ضربه وآذاه، وذكر الناس أنه كان حمل على ذلك، وصبر الشيخ لذلك ولم يشك إلى أحد.
زاد غير الحافظ قال: ولم يزل متمرضاً إلى أن مات في شهر رمضان سنة خمس وستين وست مئة، وأنهم كانوا جماعةً، فضربوه حتى ظنوا أنه مات، ثم ذهبوا وتركوه، وعرفهم، فقيل له: ألا تشتكي؟ فأنشأ يقول -فيما أنبأنا محمد بن محمد بن عبد الله النعالي، عن الحافظ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف-؛ وأنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الله الحافظ، وأبو هريرة عبد الرحمن بن الذهبي، وأبو الخير أحمد بن الحافظ العلائي وغيرهم، عن أبي الصبر أيوب بن نعمة بن محمد قالا: أنبأنا الشيخ شهاب الدين أبو شامة أنه قال في محنته:
قلت لمن قال: ألا تشتكي ... ما قد جرى فهو عظيمٌ جليل:
يقيض الله تعالى لنا ... من يأخذ الحق ويشفي الغليل
إذا توكلنا عليه كفى ... فحسبنا الله ونعم الوكيل(1/130)
[6] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى
قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
معنى من الله: أحسن وأنعم. والله أعلم.
والمن على وجوه منها: الطل الحلو ينزل على الأشجار والأحجار فيكون كالصمغ يجتنى منه ويؤكل، ومنه -والله أعلم- قوله تعالى: {وظللنا عليكم الغمام، وأنزلنا عليكم المن والسلوى}، قال مجاهد: المن صمغة، والسلوى الطير، علقه البخاري في ((صحيحه)) عن مجاهد، وهو في تفسير شيخه محمد بن يوسف الفريابي، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
وعلماء النبات يعدون المنون سبعةً بهذا المن، وغفلوا عن الكمأة فلم يذكروها، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من المن، فقال فيما صح من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين)).(1/131)
ومن وجوه المن: المنة، وهي أن يعتد المعطي بصنيعته على المعطى، فيمن بها عليه تقريعاً له، وهذا محرم ومعدود من الكبائر، لأنه متوعد عليه بما صح من حديث أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)) قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: ((المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) خرجه مسلم وغيره.
ومع هذا الوعيد الشديد يبطل أجر العطية بالمن. قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}.
وقال تعالى قبل هذا فيما أثنى به على من لا يمن بعطيته ولا يؤذي فقال تعالى: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذىً لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
وقال بعض العلماء: المن من الله تعالى هو التعريف، والمن من(1/132)
العباد هو التعنيف.
وقد قيل في المأثور عن السلف: المن أخو المن، فالمن الأول امتنان المعطي بالعطية على من أسداها إليه، والمن الثاني القطع والهدم، وهو أحد وجوه المن، من قولهم: مننت الشيء مناً إذا قطعته، ومنه قوله تعالى: {فلهم أجر غير ممنون} كما فسره جماعة، وقيل فيه غير ذلك. والله أعلم.
فمعنى الأثر: أن من من بعطيته فكأنما قطع وصول أجرها إليه، وهدم البناء الذي أسسها عليه، لأن العطية تسر من أسديت إليه، وتوجب الأجر لمن أعطاها، والمن يسوء الذي أسديت إليه، وتوجب إثماً على المنان مع حبوط أجره الذي لو لم يمن لكان ثابتاً له.
وتارة يكون المن ظاهراً، كأن يقول: أطعمتك، أو كسوتك، أو أحسنت إليك، ونحو هذا.
وتارة يكون المن تلويحاً، وقد عدوا في المن ذكر العطية، لأن من(1/133)
شروط المعروف تعجيله، وإتمامه، وتصغيره، ونسيانه بعد فعله.
ومن وجوه المن: الإنعام والإحسان، ومنه في أسماء الله تعالى المنان، وقد تقدم أن المنان الذي يبتدى بالنوال قبل السؤال، ويجود بالعطاء قبل الدعاء، وقيل: هو العظيم المواهب، فإنه سبحانه أعطى الحياة والعقل والنفس، وصور فأحسن الصور، ورزق من الطيبات، وأنعم بما لا يحصى من النعم والهبات، والعطايا والمنح السنيات، ومنه قوله تعالى في هذه الآية الشريفة: {لقد من الله على المؤمنين} أي أحسن فأجمل، وأنعم فأجزل.
ومن الإحسان المشار إليه: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين يتلو عليهم آيات الله فيسمعونها ويتعلمونها ويعملون بمقتضاها بتوفيق الله تعالى لذلك، وإذا وفقهم فقد زكاهم وأصلحهم، كما أشير إليه بقوله تعالى: {ويزكيهم}.
وقوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} الكتاب: القرآن، والحكمة عند الجمهور: السنة، وكلاهما علم الدين. والعلم إذا أطلق: المراد به هذا، وهو على أقسام:
1- منها: علم الأصل، وهو معرفة الله جل وعلا.
2- ومنها: علم الأحكام من الكتاب والسنة مجملاً ومفصلاً مع معرفة مراتب النصوص، والناسخ والمنسوخ، والاجتهاد في إدراك المعاني، وتمييز شروط القياس، ومعرفة أقاويل السلف، وما أجمعوا عليه واختلفوا فيه.(1/134)
3- ومنها: علم ما به تعرف الألفاظ ومراداتها، وهو معرفة لسان العرب ووجوه العربية واللغة.
4- ومنها: علم اتصال الأحكام من الكتاب والسنة إلينا وما يحصل ذلك إلا بمعرفة الأسانيد التي بها نقلت هذه العلوم، ورويت على أنواع كل منها عند أهله معلوم، منها: المتواتر، ومنها: المستفيض، ومنها: المشهور، ومنها: الأفراد، ومنها: ما اجتمعت فيه شروط الصحة، أو نقص عنها من غير ضعف في إسنادها، أو كان فيه ضعف.
وثم أنواعٌ أخر كالمسند، والمرسل، والمتصل، والمنقطع، والمسلسل الذي يأتي إسناده بصفة واحدة، كالحديث الذي رويناه قبل من طرق، وهذه طريقٌ رابعةٌ من طرقه.
أخبرنا العلامة أبو البقاء محمد بن أبي الفضل القرشي الخصيلي بقراءتي عليه بكفر سوسة، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو طلحة محمد بن علي، وهو أول حديث سمعته منه بمصر، أخبرنا أبو أحمد بن خلف التوني، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا محمد بن الحسن بن المقدسية، وعلي بن أبي الفضائل اللخمي، وهو أول حديث سمعته منهما متفرقين قالا: أخبرنا أحمد بن محمد الأصبهاني الحافظ –قال الأول: وهو أول حديث حضرته عنده، وقال الثاني: وهو أول حديث سمعته منه- قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن أحمد، وهو أول حديث سمعته منه، حدثني أبو نصر عبيد الله بن سعيد الوائلي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز المهلبي، وهو أول حديث سمعته منه بقراءتي عليه، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال البزاز، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا عبد الرحمن ابن بشر بن الحكم، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا سفيان، وهو أول حديث سمعته منه، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله(1/135)
صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
هذه الطريق التي روينا منها هذا الحديث هي من أعلى طرقه علواً معنوياً لجلالة قدر رجالها وثقتهم.
والعلو على أقسام، أعلاها وأجلها:
1- ما قرب إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برواةٍ ثقاتٍ، فإن كان والحالة هذه من الأحاديث الإلهية -ويقال لها القدسية لصدورها عن حظيرة القدس-: فناهيك به علواً وشرفاً.
2- ومنها: قرب الإسناد من إمام كمالك بن أنس ونحوه.
3- ومنها: علو الموافقات ونحوها، وتسمى علو التنزيل.
4- ومنها: علو تقدم وفاة راوٍ على وفاة آخر اشتركا في الأخذ عن شيخ، كأبي عبد الله البخاري صاحب الصحيح، وأبي عمرو عثمان بن أحمد بن السماك، اشتركا في الرواية عن أبي جعفر بن أبي داود بن المنادي، وبين وفاة البخاري وابن السماك ثمانٍ وثمانون سنة، فالبخاري مات سنة ست وخمسين ومئتين، ومات ابن السماك سنة أربع وأربعين وثلاث مائة.(1/136)
5- ومن أقسام العلو: قدم سماع الراوي من شيخ على سماع من شاركه في الأخذ منه، وهو قريب من الذي قبله.
6- ومنها: العلو إلى أحدٍ من مصنفي الكتب، كالبخاري ومسلم.
7- ومنها: العلو المعنوي. قال الحافظ أبو طاهرٍ السلفي فيما رويناه عنه قال: والأصل في الطلب الأخذ عن العلماء وإن كانت رواياتهم نازلةً من حيث العد والإحصاء، فنزولهم أولى من العلو عن الجهلة، على مذهب المحققين من النقلة. انتهى.
وفي معناه قلت:
إذا أحببت تخريج العوالي ... عن الراوين حقق ما أقول
نزولٌ عن ثقاتهم علو ... علو عن ضعافهم نزول
ومن هذا القسم: علو هذا الحديث الذي رويناه، وإن كان نازلاً بدرجة عما في المجلس الأول أمليناه، مع أنه وقع لنا من هذه الطريق عالياً بدرجة.
أخبرنا الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله المقدسي مشافهةً بالإجازة، أخبرنا أبو العباس أحمد بن أبي طالب وغيره سماعاً قالا: أنبأنا عبد اللطيف بن محمد، أخبرنا أحمد بن المقرب الكرخي، وهو أول حديث(1/137)
سمعته منه، حدثنا جعفر بن أحمد أبو محمد اللغوي، فذكره.
وأخبرناه أعلى من هذه بدرجة ومن التي قبلها بدرجتين من غير تسلسل: أبو هريرة عبد الرحمن بن الذهبي بقراءتي عليه، أنبأنا أبو الفضل سليمان بن حمزة ويحيى بن سعد، عن الحسن بن يحيى المخزومي -زاد سليمان فقال: وأنبأنا أيضاً محمد بن عماد- قالا: أخبرنا عبد الله بن رفاعة، أخبرنا علي بن الحسن الفقيه، أخبرنا عبد الرحمن بن عمر النحاس، أخبرنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا الحسن ابن محمد الزعفراني، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحيم، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء)).
لكن وقع في هذه الرواية: عن أبي قابوس، عن ابن لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو. فقوله ((عن ابن)) خطأ، ذكر الذهبي أنها كانت مولى لعبد الله، فصحف ((مولى)) بقوله: عن ابن؛ وما ذكره الذهبي صحيح، لأن متقني الحفاظ من أصحاب سفيان بن عيينة لم يرووه عنه إلا على الصواب.
فصار الحديث مروياً بهذه الطريق على ثلاثة أوجه، أولها -وهو المشهور المعروف-: ((الراحمون يرحمهم الرحمن))، وفي رواية الرامهرمزي ((الراحمون يرحمهم الله))، وفي هذه الرواية ((الرحيم)).(1/138)
1- وهذا من وجوه الكلام فيما يتعلق بالسند الذي هو طريق الإخبار عن المتن. والمتن -في اللغة-: ما صلب وارتفع من الأرض، وهو في المصطلح: ما انتهى إليه السند من الكلام، وهو أعم من أن يكون مرفوعاً أو موقوفاً أو مأثوراً عمن دون الصحابة رضي الله عنهم.
فإن كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو دائر بين أقواله وأفعاله وتقريره على ما يطلع عليه، وهي وجوه السنن، لكن التقرير يدخل في الأفعال، لأنه كف عن الإنكار، والكف -على المختار عند محققي الأصوليين- فعلٌ.
وزادوا في وجوه السنن ما لا يسلم من الاعتراض: كالإشارة، وهي من الأفعال؛ والهمة، وهي إرادة الفعل، وتدخل في الفعل، لأنها من أعمال القلوب.
وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه داخلٌ في تقريره، وكل ذلك دليل على الجواز، وسواء كان سكوته صلى الله عليه وسلم مستبشراً بالمسكوت عنه أو غير مستبشر، والأول فيه إعلام بأنه أولى وأقوى مما سكت عنه مع عدم الاستبشار، كسكوت النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع كلام مجزز بن الأعور بن جعدة الكناني المدلجي لما رأى أقدام زيد بن حارثة وابنه أسامة رضي الله عنهم: ((إن هذه الأقدام بعضها من بعض)) فسكت النبي صلى الله عليه وسلم(1/139)
مستبشراً ولم ينكر على مجزز ما قاله، فدل ذلك على جواز القيافة واعتبارها في النسب.
ومجزز أحد الصحابة الذين روى عنهم النبي صلى الله عليه وسلم .(1/140)
وهذا أحد فوائد الحديث وأحكامه: الاستدلال بأحد وجوه السنن وهي الأقوال.
ومن فوائد الحديث:
2- الحث على التراحم بين الأمة، لأن من صفاتها فيما بينهم الرحمة، قال الله عز وجل: {محمد رسول الله، والذين معه أشداء على الكفار، رحماء بينهم}.
3- ومنها: إثبات الثواب على الأعمال، وحصول الجزاء في الحال والمآل، لعموم الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم : ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) لما في معنى الرحمن من الرحمة في الدنيا والآخرة.
4- ومنها: أن الجزاء من جنس العمل، لقوله صلى الله عليه وسلم : ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) الحديث.
وقال أبو السري هناد بن السري في كتابه ((الزهد)): حدثنا عبدة، عن محمد بن عمرو، حدثنا محمد بن المنكدر قال: جاءت امرأة إلى(1/143)
النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في المسجد والناس حوله فأطافت به لتخلص إليه، فقام عنها رجل لتخلص إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أمك هي؟)) قال: لا، قال: ((أختك هي؟)) قال: لا، قال: ((فرحمتها رحمك الله)).
5- ومنها: أنه يستحب لمن رغب غيره في عمل خيرٍ أن يذكر له شيئاً من فوائده وما يترتب عليه من المصالح، تنشيطاً له وانبعاثاً على العمل، كهذا الحديث.
6- ومنها: أن العالم المعلم غيره يعمل بعلمه أولاً، ثم يعلمه، فإنه أبلغ في الإفادة وأرسخ للعبادة، وإذا نظرنا إلى صفة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي أمر بالرحمة ورغب فيها بهذا الحديث ونحوه: وجدنا رحمته قد عمت الخلق. قال الله عز وجل: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، ومن ألقابه: نبي الرحمة.(1/144)
وجاء أنه لم يكن أحدٌ أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
7- ومنها: أنه إذا عرض أمر يحتاج فيه إلى ذكر اسم من أسماء الله الحسنى يذكر ذلك الاسم المناسب لما عرض، ليكون أرجى لبلوغ الغرض فيما عرض، ومن ذلك قوله تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً}.
ولما كان التراحم مندوباً إليه، والجزاء من الله تعالى موعوداً عليه: ذكر اسمٌ من أسماء الله تعالى مناسبٌ للتراحم، وهو الرحمن جل وعلا.
8- ومنها: وصف الله تعالى بالرحمة، وأن الرحمن من أسماء الله الحسنى، وقد جاء به الكتاب والسنة.
قال الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه ((أسماء الله عز وجل وصفاته الواردة في الكتاب والسنة)) في قسم الأسماء التي تتبع إثبات التدبير لله سبحانه دون ما سواه، قال: ومنها الرحمن، الرحيم. قال الله عز وجل: {الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان} وقال: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} وقال: {وكان بالمؤمنين رحيماًْ} وقال في فاتحة الكتاب: {الرحمن الرحيم} وقال: {حم تنزيل من الرحمن الرحيم} وقال في فواتح السور [غير التوبة]: بسم الله الرحمن الرحيم.
ثم ذكر البيهقي كلام الخطابي الذي قاله في كتابه في ((الدعاء ومعاني(1/145)
أسماء الله تعالى)) وهو ما أنبأنا غير واحد منهم أبو الحسن علي بن محمد ابن سعيد بن ريان الطائي، عن زينب ابنة أحمد، أن عبد الخالق بن الأنجب أخبرها كتابةً من ماردين، عن أبي الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الهروي، أخبرنا أبو نصر بن أبي طاهر الحداد سماعاً، أخبرنا عبد الوهاب بن أبي سهل الأديب، أخبرنا الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي الشافعي رحمه الله قال: اختلف الناس في تفسير الرحمن ومعناه، وهل هو مشتق من الرحمة أم لا؟ فذهب بعضهم إلى أنه غير مشتق، واحتج بأنه لو كان مشتقاً من الرحمة لاتصل بذكر المرحوم، فجاز أن يقال: الله رحمان بعباده، كما يقال: رحيم بعباده، فلما لم يستقم صلته بذكر المرحوم دل على أنه غير مشتق من الرحمة. قال: ولو كان هذا الاسم مشتقاً من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعوه، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم، وقد حكى الله عنهم الإنكار له والنفور عنه في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن} الآية.
وزعم بعضهم أنه اسم عبراني، وذهب الجمهور من الناس إلى أنه مشتق من الرحمة مبني على المبالغة، ومعناه: ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها، ولذلك لا يثنى ولا يجمع كما يثنى الرحيم ويجمع، وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة، يقال لشديد الامتلاء: ملآن، ولشديد الشبع: شبعان.
ويدل على صحة مذهب الاشتقاق في هذا الاسم حديث عبد الرحمن ابن عوف.
حدثناه أحمد بن عبد الحليم الكريزي وعبد الله بن شاذان الكراني(1/146)
قالا: حدثنا محمد بن يحيى بن المنذر القزاز، حدثنا حجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، أن أباه عاد أبا الرداد، فقال له أبو الرداد: ما أحدٌ من قومي أوصل لي منك! قال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن ربه عز وجل: ((أنا الرحمن، وهي الرحم شققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته ثم أبته)) اللفظ للكريزي.
فالرحمن: ذو الرحمة الشاملة وسعت الخلق في أرزاقهم وأسباب معاشهم ومصالحهم، وعمت المؤمن والكافر والصالح والطالح. وأما الرحيم فخاص للمؤمنين، كقوله تعالى: {وكان بالمؤمنين(1/147)
رحيماً}.
وبالإسناد إلى الخطابي قال: ويقال: إن الرحمن خاص في التسمية، عام في المعنى، والرحيم عام في التسمية، خاص في المعنى.
والذي حكاه الخطابي ولم يسم قائله: هو ما حكاه أبو القاسم الحسن ابن محمد بن حبيب المفسر، عن عبد الرحمن بن يحيى أنه قال: الرحمن خاص في التسمية عام في الفعل، والرحيم عام في التسمية خاص في الفعل.
وكأن هذا إشارة إلى أن الرحمن اسم من أسماء الله تعالى لا يدعى به غيره، وليس لأحد أن يتسمى به إلا الله، كما دل القرآن على ذلك بقوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن}، فهذا خصوصية في التسمية وأما معناه فعام، لأن الرحمن يرحم الراحمين من عباده، وقد روي عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {هل تعلم له سمياً} قال: لم يسم أحدٌ الرحمن غيره.(1/148)
وأما الرحيم: فعام في التسمية، لقوله تعالى في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم : {بالمؤمنين رؤوف رحيم}، وتقول العرب: كن بي رحيماً، فهذا العموم في التسمية.
وأما الخصوص في المعنى: فجاء عن عكرمة وغيره أن الرحمن برحمة واحدة، والرحيم بمئة رحمة، إشارة إلى رحمة الرحيم في الآخرة، وأنها هناك مختصة بالموحدين، وإن كانت التسمية بالرحيم في الدنيا غير محظورة، فهو عام في التسمية خاص في المعنى.
والرحمن: يكتب بالألف إلا في البسملة بلا خلاف يكتب بغير ألف، وقيل: يكتب بلا ألف حيث جاء في القرآن، ولا يكتب كذلك فيما سواه إلا بألف.
وهذان الاسمان وهما (الرحمن الرحيم) دالان على رحمة الله التي وسعت كل شيء دنيا وآخرة.
وأصناف رحمة الله تعالى في الدنيا لا تحصر ولا تحصى، وهي في الآخرة أجل وأعظم من أن تستقصى.
قال أيوب بن أبي تميمة السختياني رحمة الله عليه: إن رحمة واحدة قسمها الله تعالى في دار الدنيا، وأصابني منها الإسلام، إني لأرجو من تسع وتسعين رحمة ما هو أكثر من ذلك.
وحكى معناه الإمام شيخ الإسلام أبو زكريا النواوي رحمة الله عليه فقال: قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار المبنية على الأكدار: الإسلام والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه وغير ذلك مما أنعم الله تعالى به، فكيف الظن بمئة رحمةٍ في الدار الآخرة، وهي دار القرار ودار الجزاء؟! والله أعلم. قاله في ((شرح(1/149)
صحيح مسلم)).
وهو من أجل مصنفاته التي رفعها الله وشهرها، وبإخلاصه ونيته الصالحة نفع بها من قرأها أو كتبها أو نظرها.
ولقد كان مصنفها الشيخ محيي الدين على غاية من الزهد والتقوى والورع، ومحبة أهل السنة، ومجانبة أهل البدع، معمور الأوقات بالقرب لله والطاعات، مع إفادته العلم النفيس، وبما يصنعه ويلقنه في التدريس، ولقد درس بهذه الدار دار الحديث حين وليها بعد الشيخ شهاب الدين أبي شامة في سنة خمس وستين وست مئة، وكان رابع من وليها، ولم تزل بيده إلى أن توفي بعد رجوعه من بيت المقدس في شهر رجب سنة ست وسبعين وست مئة ببلده نوى، وبها دفن رحمة الله عليه.
ولم يتناول من معلوم دار الحديث شيئاً، وأتي مرةٌ بمعلومها فلم يأخذه وقال: اشتروا به بسطاً للمكان، ففعلوا، فكان يجلس على تلك البسط أيام الدروس إلى أن ولي دار الحديث العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي، وكان عاشر من وليها، وأول مباشرته إياها كان يوم الأربعاء سابع شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، فأخبر خبر تلك البسط، وأن الشيخ محيي الدين النواوي كان يمشي عليها ويجلس، فتبرك السبكي بها: كان يطوف ويصلي عليها وينشد ما أنشدنا أبو اليسر أحمد بن عبد الله بن محمد الأنصاري مشافهةً بالإجازة قال: أنشدنا العلامة قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي من لفظه لنفسه:(1/150)
وفي دار الحديث أطلت مكثي ... أطوف في جوانبها وآوي
عسى أني أمس بحر وجهي ... مكاناً مسه قدم النواوي(1/151)
[7] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
هذه الآيات الشريفات تبركنا بذكرها في أوائل الدروس الماضيات، مع الكلام على بعض معانيها، والتنبيه على فوائد مما تحويها، والكلام عليها من نيف وخمسين وجهاً، لأن القرآن لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه.
فمن الوجوه: كيفية نزول القرآن وما يتعلق بهذا الشأن.
فنزوله كان على أحوال، وفي صفة ذلك أقوال، أحدها: وهو المشهور -وعليه الجمهور- أنه نزل في ليلة القدر جملةً واحدة إلى سماء الدنيا، ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً.
روينا في كتاب ((فضائل القرآن)) لأبي عبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا يزيد -يعني ابن هارون- عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن جملةً واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنةً {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً}، وخرجه الحاكم في ((مستدركه)) وصحح إسناده.(1/152)
والقول الثاني: أن القرآن كان ينزل منه من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من كل سنة قدر ما ينزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة، فنزوله من اللوح المحفوظ في عشرين ليلةً، كل ليلة منها كانت ليلة القدر، ونزل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة.
قال أبو محمد عبد الله بن ثابت بن يعقوب المقرئ القاضي: حدثني أبي، حدثني الهذيل بن حبيب أبو صالح الأزدي، عن مقاتل بن سليمان قال عن القرآن: أنزله الله عز وجل من اللوح المحفوظ إلى(1/153)
السفرة -وهم الكتبة من الملائكة- في سماء الدنيا، فكان ينزل ليلة القدر من الوحي على قدر ما ينزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة كلها إلى مثلها من القابل، حتى نزل القرآن كله في ليلة القدر، ونزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة.
والقول الثالث: أن الله عز وجل ابتدأ بإنزال القرآن في ليلة القدر. قاله الشعبي، فيما حكاه أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي في ((تفسيره)).
وروينا في كتاب ((فضائل القرآن)) لأبي عبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن داود بن أبي هند قال: قلت للشعبي: قوله: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} أما نزل عليه القرآن في سائر السنة إلا في شهر رمضان؟ قال: بلى، ولكن جبريل عليه السلام كان يعارض محمداً صلى الله عليه وسلم بما ينزل عليه في سائر السنة في شهر رمضان.
تابعه أبو بكر بن أبي شيبة، عن ابن أبي عدي.
وجوز بعضهم في قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} -مع العلم بنزوله أيضاً في غير شهر رمضان-: أن يكون أنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في شهر رمضان، وأول نزوله إلى الأرض على النبي صلى الله عليه وسلم كان في شهر رمضان، وعرضه مع جبريل عليه السلام في شهر رمضان.(1/154)
وفي إنزال القرآن جملةً واحدة إلى سماء الدنيا، ثم في إنزاله مفرقاً -كما تقدم-: تعظيمٌ لأمر القرآن وأمر من أنزل عليه ذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب، المنزل على خاتم النبيين، لأشرف الأمم، قد قربه الله إليهم لينزله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم مفرقاً بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملةً كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله تعالى باين بينه وبينها فجمع لنبينا صلى الله عليه وسلم الأمرين: إنزاله جملةً، ثم إنزاله مفرقاً.
وفيه أيضاً إشارة إلى زيادة شرف لنبينا صلى الله عليه وسلم ، لأن كل رسول أنزل الله عليه كتابه جملةً واحدة، كما أنزل القرآن جملةً واحدة إلى سماء الدنيا، فشارك نبينا صلى الله عليه وسلم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وامتاز عليهم بإنزال القرآن أيضاً عليه مفرقاً.
ونزول القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا: هل كان بعد ظهور نبوة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، أم قبل بعثته؟ يحتمل كلاً من الأمرين، والظاهر أنه قبلها، ومن فائدته: إعلام الملائكة بقرب ظهور الأمة المحمدية، وإرسال نبيهم خاتم الأنبياء الذي ينزل عليه هذا القرآن، كما(1/155)
أعلم الله الملائكة بخلق آدم عليه الصلاة والسلام قبل إيجاده، فقال تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة}.
وفي إنزال القرآن جملةً ثم نزل مفرقاً من الفوائد أيضاً: ما أشار الله عز وجل إليه بقوله تعالى جواباً عن مقالة الكفار التي أخبر الله تعالى بها في قوله عز وجل: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} فقال تعالى في الجواب: {كذلك} أي نزلناه مفرقاً {لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً} أي: لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشد عنايةً بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول جبريل إليه وسلامه عليه، وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة عن ذلك الجناب العظيم الإلهي، فيحدث له بذلك من الخيرات والمسرات، ما تضيق عن تفصيله العبارات، ولهذا -والله أعلم- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة.
واختلف: كم كان بين نزول أول القرآن وآخره على ثلاثة أقوال.
أحدها -وتقدم عن ابن عباس وغيره-: أنه عشرون سنةً، وعلى هذا الأكثر.
والثاني: أنه ثلاث وعشرون سنةً، وهو الأظهر لي.(1/156)
والثالث: أنه خمس وعشرون سنة.
أما مدة نزوله بالمدينة فلا خلاف أنها كانت عشر سنين، وإنما الخلاف فيما نزل بمكة بعد البعثة.
وأول ما نزل بمكة -بل مطلقاً- أول سورة: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} نزلت بغار حراء، وهذا أول مرة نزل فيها جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، ثم نزل بعد ذلك: {يا أيها المدثر. قم فأنذر} وقيل: أول ما نزل: {يا أيها المدثر}.
وقيل: أول ما نزل من القرآن فاتحة الكتاب، ويروى في ذلك عن(1/157)
علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ونصر هذا القول لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بعد البعثة على المشهور ثلاث عشرة سنة، فما يظن أنه في هذه المدة كان يصلي بغير فاتحة الكتاب. والله أعلم.(1/158)
وأما آخر ما نزل من القرآن من آياته: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} الآية، كما رويناه في كتاب ((فضائل القرآن)) لأبي عبيد قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: آخر آية أنزلت من القرآن هي: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله}. قال: زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليالٍ. وبدى به يوم السبت، ومات يوم الاثنين صلى الله عليه وسلم .
وقيل: آخر آية نزلت آيات الربا، وهذا داخلٌ في القول الأول، لأن آخر آيات الربا {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} الآية. قال أبو عبيد -فيما رويناه عنه-: حدثنا عبد الله بن صالح وابن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدين.
وقيل آخر آية نزلت آية الكلالة: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} إلى آخرها.(1/159)
وقيل: آخر آية نزلت: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخر الآيتين.
وكذلك اختلف في آخر سورة نزلت، فصح عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: آخر سورة نزلت: براءة، وروي ذلك عن أبي الشعثاء والجمهور.
وقيل: آخر سورة نزلت المائدة، وقد جاء حديثٌ مرفوع بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال: ((يا أيها الناس إن آخر القرآن نزولاً سورة المائدة، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها)).(1/160)
وترتيب الآيات والسور كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بأمره، روينا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن عثمان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية يقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، خرجه الترمذي في ((جامعه)) وحسنه، والحاكم في ((مستدركه)) وصححه.(1/161)
وراويه عثمان بن عفان رضي الله عنه كان أحد كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم . فكتابه من الصحابة رضي الله عنهم: الخلفاء الأربعة، وأبي بن كعب -وهو أول من كتب للنبي صلى الله عليه وسلم - وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان -وهما كانا مداومين على الكتابة- وحنظلة بن الربيع الأسيدي، وخالد بن العاصي بن هشام بن المغيرة، وأبان بن سعيد بن العاصي بن أمية، والعلاء بن عبد الله الحضرمي، والسجل، وخبره(1/162)
لا يثبت، قيل: وهو المراد في قوله تعالى: {يوم نطوي السماء كطي(1/163)
السجل للكتب}. والمشهور من الكتاب، المذكورون قبله رضي الله عنهم.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي رحمة الله عليه: واعلم أن القرآن كان مجموعاً كله في صدور الرجال أيام حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومؤلفاً هذا التأليف الذي نشاهده ونقرؤه إلا سورة براءة، فإنها كانت من آخر ما نزل من القرآن ولم يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه موضعها من التأليف حتى خرج من الدنيا، فقرنها الصحابة بالأنفال، وبيان ذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان رضي الله عنه: ما حملكم على أن عمدتم إلى براءة -وهي من المئين- وإلى الأنفال(1/164)
-وهي من المثاني- فقرنتم بينهما ولم تجعلوا بينهما سطراً في بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطول؟ فقال عثمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه من السور التي يذكر فيها كذا وكذا، فإذا أنزلت عليه الآيات يقول: ضعوا هذه الآيات في موضع كذا وكذا، فإذا نزلت عليه السورة يقول: ضعوا هذه في موضع كذا وكذا، وكانت الأنفال أول ما أنزل عليه بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها تشبه قصتها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين أمرها، فظننت أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أجعل بينهما سطراً فيه بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطول.
قال البيهقي: وفيما روينا من الأحاديث المشهورة في ذكر من جمع القرآن من الصحابة رضي الله عنهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ما روينا عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: كنا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن، ثم ما روينا في كتاب السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة كذا(1/165)
بسورة كذا: دلالةٌ على صحة ما قلناه، إلا أنه كان مثبتاً في صدور الرجال، مكتوباً في الرقاع واللخاف والعسب، وأمر أبو بكر رضي الله عنه حين استحر القتل بقراء القرآن يوم اليمامة بجمعه من مواضعه في صحف، ثم أمر عثمان بن عفان رضي الله عنه حين خاف الاختلاف في القراءة بتحويله منها إلى مصاحف، مع بذل المجهود في معارضة(1/166)
ما كان في الصحف بما كان مثبتاً في صدور الرجال، وذلك كله بمشورة من حضر من علماء الصحابة، وارتضاه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحمد أثره فيه. والله يغفر لنا ولهم.
ويشبه أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما لم يجمعه في مصحف واحد لما كان يعلم من جواز ورود النسخ على أحكامه ورسومه، فلما ختم الله دينه بوفاة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وانقطع الوحي قيض لخلفائه الراشدين عند الحاجة إليه جمعه بين الدفتين. وقد أشار أبو سليمان الخطابي رحمه الله إلى جملة ما ذكرناه، وذكره أيضاً غيره من أئمتنا، والأخبار المشهورة ناطقةٌ بجميع ذلك، والحمد لله على ظهور دينه ووضوح سبيله. قاله البيهقي في كتابه ((المدخل إلى السنن)).
هذا مما أشير به إلى ترتيب القرآن في المصحف.
أما ترتيب نزوله: فلم يكن كترتيبه في المصحف، ونزوله على نيف وعشرين وجهاً.
فمنه ما نزل بمكة، وعدد السور المكيات أربعٌ وثمانون سورةً، -أولها كما تقدم على الأكثر- {اقرأ باسم ربك الذي خلق}، وآخرها في قول ابن عباس رضي الله عنهما: سورة العنكبوت، وفي قول الضحاك ابن مزاحم، وعطاء بن أبي رباح: المؤمنون.(1/167)
هذا من أنواع علوم القرآن الذي بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بتعليمه، كما قال تعالى في الآية: {ويعلمهم الكتاب والحكمة}. وكلما تدبر القرآن وأثير ثارت علومه، وأبرزها منطوقه ومفهومه. روينا من حديث سفيان الثوري رحمة الله عليه، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين.
و(الحكمة) المذكورة في الآية: هي السنة النبوية التي تلقاها خير القرون المشار إليهم في الآية الشريفة بقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين}.
والمؤمنون في هذه الآية الشريفة صحابةٌ وغير صحابة، وأفضل القسمين الصحابة، وعنهم أخذ دين الإسلام، وقامت شرائع الأحكام، والصحابة على أقسام وطبقات، كما أن التابعين في درجاتٍ، أعلاهم المخضرمون، لكن وقع لنا مسلمٌ روى عن النبي صلى الله عليه وسلم سماعاً منه مشافهةً ورؤية له، وليست له صحبة!.(1/168)
[8] بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
علوم القرآن التي اشتمل عليها كثيرة، ومعانيها المستنبطة منها خطيرة، والعلوم في القرآن إما مفصلة، وإما مجملة، نصاً أو دلالة، ومأخذ علومه تارةً تؤخذ من منطوقه نصاً، وتارة تؤخذ من مفهومه دلالةً .. وإلحاقاً للفروع بالأصول.
وهذه الآيات فيها علوم كثيرة، ومأخذها من المنطوق ومن المفهوم.
فمن الأول: الإشارة إلى كرم الله سبحانه وتعالى وأنه يعطي من يشاء من عباده بلا سؤال، بل بمجرد من وإفضال منه سبحانه على المؤمنين ببعثة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلى غير ذلك من العطايا المصرح بها في هذه الآيات مفصلةً ومجملةً.
ومن مفهوم الآيات: اقتضاء شكر الله تعالى على نعمه، إذ من لازم تذكير الله عباده بنعمه عليهم أن يشكروه، كما جاء التذكير مصرحاً به في غير ما آية، منها قوله تعالى: {يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض}.
ولا يتوصل إلى شكر النعم إلا بذكرها، وبحصول العلم القطعي أنها من الله عز وجل، قال الله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} وقال عز وجل: {وما بكم من نعمة فمن الله}.(1/169)
روينا في ((كتاب الشكر)) لابن أبي الدنيا من حديث القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنعم الله على عبدٍ نعمةً فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها)) الحديث.
وعن الحسن البصري قال: أكثروا ذكر هذه النعم، فإن ذكرها شكر.
وعن عمر بن عبد العزيز قال: ذكر النعم شكرها.
وعن أبي عبد الرحمن الشامي، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((التحدث بالنعم شكر وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والجماعة بركة، والفرقة عذاب)) ورواه بنحوه عبد الله بن الإمام أحمد من ((زوائده في مسند أبيه)).(1/170)
فالتحدث بالنعم والعلم بأنها من الله عز وجل: ركنان من أركان الشكر. والشكر نصف الإيمان، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. وروي أيضاً عن(1/172)
الشعبي من قوله.
وجاء مرفوعاً في ((مسند الفردوس)) لأبي منصور الديلمي من طريق يزيد الرقاشي -وهو متروك- عن أنس رضي الله عنه.
وقد جمع الله سبحانه وتعالى بينهما في قوله تعالى: {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} في أربع سور من القرآن:
في سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآياتٍ لكل صبارٍ شكور}.
وقال تعالى في سورة لقمان عليه السلام: {ألم تر أن الفلك تجري(1/173)
في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآياتٍ لكل صبار شكور}.
وقال تعالى في سورة سبأ: {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}.
وقال تعالى في سورة الشورى: {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}.
فالصبر والشكر هو الإيمان، لأن جميع ما يباشره العبد في هذه الدار لا يخرج عن حصول أمر إما ينفعه في الدنيا والآخرة، وإما يضره فيهما، وإما ينفعه في أحد الدارين ويضره في الأخرى، وأشرف الأقسام أن يفعل العبد ما ينفعه في الآخرة ويترك ما يضره فيها. وهذا حقيقة الإيمان. ففعل ما ينفعه هو الشكر، وترك ما يضره هو الصبر.
والشكر والصبر متلازمان، لكن اختلف أيهما أفضل: مقام الشكر أو مقام الصبر؟ على ثلاثة أقوال، الثالث: أنهما سواء.
ومن الأدلة على تفضيل الشكر على الصبر: أن الله عز وجل قرن ذكره الذي هو المراد من خلقه بشكره فقال تعالى: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}.(1/174)
وقد أخبر سبحانه أنه إنما يعبده من يشكره، فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته، فقال تعالى: {واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} وجعل سبحانه وتعالى الشكر هو الغاية التي خلق عباده لأجلها، فقال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون}.
ومن الأدلة على تفضيل الشكر: أنه مراد لنفسه، والصبر مراد لغيره، وإنما حمد الصبر لإفضائه وإيصاله إلى الشكر، فهو بمنزلة الخادم للشكر.
وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى تفطرت قدماه فيقال له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)).
ولو لم يكن من فضل الشكر إلا أن النعم به موصولة، والمزيد لها مرتبطٌ به لكان كافياً، ولهذا كانوا يسمون الشكر (الحافظ) ويسمونه (الجالب)، فهو حافظ للموجود من النعم، جالب للمفقود منها بالمزيد، وقالوا: الشكر يقيد النعم الموجودة، ويصيد النعم المفقودة.
وقد روينا من حديث عبد الله بن صالح قال: حدثنا أبو زهير يحيى ابن عطارد القرشي، عن أبيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يرزق الله عبداً الشكر فيحرمه الزيادة، لأن الله تعالى يقول: {لئن شكرتم(1/175)
لأزيدنكم}.
والشكر أحد نوعي حقوق الله على عباده، فإن لله تعالى على عبده نوعين من الحقوق لا ينفك عنهما العبد.
أحدهما: أمر الله ونهيه، وذلك محض حقه سبحانه على عباده.
والثاني: شكر الله على نعمه التي أنعم بها عليهم.
وهو سبحانه يطالب عباده بالقيام بطاعته في أمره ونهيه، ويطالبهم بشكر نعمته.
فمن طالع شهود الواجب عليه لا يزال يشهد تقصيره وتفريطه، وأنه محتاج إلى عفو الله ومغفرته، فإن لم يتداركه بذلك هلك، وكلما كان العبد أفقه في دين الله كان شهوده للواجب عليه أتم، وشهوده لتقصيره أعظم.(1/176)
ومن طالع شهود نعم الله عليه لم يدع له رؤية حسنةٍ من حسناته أصلاً، ولو عمل من الصالحات أعمال الثقلين، فإن نعم الله عليه أكثر، وأدنى نعمةٍ من نعم الله تستغرق جميع أعماله.
وفي كتاب ((الشكر)) لابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال: عبد الله تعالى عابدٌ خمسين عاماً، فأوحى الله تعالى إليه: أني قد غفرت لك! قال: يا رب وما تغفر لي ولم أذنب؟! فأذن الله لعرق في عنقه فضرب عليه، فلم ينم ولم يصل، ثم سكن فنام، فأتاه ملك فشكا إليه فقال: ما لقيت من ضربان العرق؟! فقال الملك: إن ربك يقول: عبادتك خمسين سنة تعدل سكون ذا العرق.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أبو أيوب القرشي مولى بني هاشم قال: قال داود عليه الصلاة والسلام: رب أخبرني ما أدنى نعمك علي، فأوحى الله تعالى إليه: يا داود تنفس، فتنفس، قال: هذا أدنى نعمي عليك.
وقال أحمد بن أبي الحواري: قالت لي امرأة: أنا في شيء قد شغل قلبي، قلت: وما هو؟ قالت: أريد أن أعرف نعمة الله علي في طرفة عين، أو أعرف تقصيري عن شكر النعمة على طرفة عين، فقلت: تريدين ما لا تهتدي إليه عقولنا.
ومعنى الشكر: الثناء على المحسن بما أولاكه من معروف. قاله الجوهري في ((صحاحه)) يقال: شكر له النعمى شكراً وشكراناً، عرف النعمى للمنعم فأظهرها، ولا يكادون يقولون شكرتك، وباللام أفصح.
وقيل: الشكر الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع.(1/177)
وقيل: الشكر مشاهدة المنة، وحفظ الحرمة، والقيام بالخدمة.
وقيل: شكر النعمة: أن ترى نفسك فيها طفيلياً.
وروي نحوه عن الجنيد رحمة الله عليه أنه قال: الشكر أن لا ترى نفسك للنعمة أهلاً.
وقيل: الشكر معرفة العجز عن الشكر.
وفرقوا بين الشاكر والشكور، فقيل: الشاكر الذي يشكر على الموجود، والشكور الذي يشكر على المفقود.
وقيل: الشاكر على العطاء، والشكور على البلاء.
وأما الشكور في أسماء الله تعالى ففسر بأنه المجازي بالجزيل على القليل، والمثني على المطيع في الملأ الرفيع، كمباهاته الملائكة بالحاج وغيره.
وقد جاء الخلاف في الحمد والشكر في أمرين:
أحدهما: هل معناهما واحد، أو لكل معنى؟(1/178)
وعلى الأول طائفة، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الحمد هو الشكر لله، والاستخذاء لله، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه -يعني بالنعم- وغير ذلك.
والثاني عليه الجمهور، وصحح، لأن الحمد: ثناء على المحمود بصفاته الجميلة وأفعاله الحسنى، والشكر: ثناء على المحسن بما أولى من الإحسان.
والأمر الثاني: في العموم والخصوص بين الحمد والشكر.
فقيل: الحمد أعم من الشكر، كما تقدم في معنى الفرق بينهما، وقيل: الشكر أعم، لأن الحمد باللسان. قال الله عز وجل: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً}، والشكر بالقول وسائر الأعمال. قال الله عز وجل: {اعملوا آل داود شكراً}، وقيل كل منهما أعم من وجهٍ وأخص من آخر، وهذا ظاهر، لأن الشكر أخص بالأفعال، لأنه لا يكون إلا على إحسانٍ للشاكر من المشكور.
والحمد أخص بالأقوال، لقول كل من المنعم عليه والمبتلى: الحمد لله، ولا يقع الشكر إلا ممن أولاه المشكور إحساناً.
وسبب الحمد أعم من سبب الشكر، لأن ما يحمد عليه الرب تبارك وتعالى أعم مما يشكر عليه، فإنه سبحانه يحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه، ويشكر سبحانه على نعمه، فكان سبب الحمد أعم.
ومتعلق الشكر وما به: أعم مما به الحمد، فالحمد يطلق على القول، لأن الله سبحانه وتعالى يحمد بالقلب واللسان، والشكر يطلق على القول(1/179)
والفعل جميعاً، لأن شكر الله تعالى يتعلق بالقلب واللسان وبقية الجوارح، فالقلب لمعرفة الله ومحبته وتوحيده، واللسان للثناء عليه وحمده وتمجيده، والجوارح في استعمالها بطاعة الله وكفها عن معاصيه. وأنشد بعضهم:
أفادتكم النعماء عندي ثلاثةً ... يدي، ولساني، والضمير المحجبا
ولو قال:
أفادتني النعماء شكراً لفضلكم ... بقلبي ونطقي والجوارح مرسلا
وتوفيقكم للشكر يلزم شكره ... كذا كل شكرٍ بعده متسلسلا
وما ثم إلا العجز عن شكر ربنا ... كما ينبغي سبحانه متفضلا
كان أجود في الكلام، وأمجد لله الملك العلام.
فالشكر من وجه متعلقه أعم. والشكر -كما قدمناه- واجبٌ بحسب الشرع، حسبما قام الدليل عليه نقلاً وعقلاً.
فمن المنقول: قول الله عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاًْ}. نفى الله تعالى التعذيب مطلقاً إلى بعثة الرسول، فلو كان الشكر واجباً بحسب العقل لعذب الله تاركه قبل الشرع، لكنه بمقتضى الآية الشريفة لا يعذبه الله حتى تقام عليه الحجة ببعثة الرسول. والله أعلم.
وأما الدليل على ذلك عقلاً: فلأن شكر المنعم لو وجب عقلاً، فلا يخلو إما أن يكون لغير فائدة، أو لا. وعلى الأول: يلزم العبث، وهو غير جائز عقلاً.
وإما أن يكون لفائدة: إما للمشكور -وهو باطل قطعاً- لتعالي الله سبحانه عنها.
وأما للشاكر: وعلى هذا: فلا يخلو: إما أن تكون الفائدة في الدنيا، فذلك مشقةٌ بلا حظ، أو في الآخرة: فلا استقلال للعقل في الآخرة. والله أعلم.(1/180)
وللشكر فوائد عظيمةٌ منها:
التوفيق له، وهو أحد أنواع النعم، ولهذا جاء الحديث بالدعاء للإعانة عليه من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ومن الوصية به.
أخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن بن محمد بن الذهبي بقراءتي عليه، أخبرنا يحيى بن محمد بن سعد، أخبرنا الحسن بن يحيى بن الصباح إجازة، أخبرنا عبد الله بن رفاعة سماعاً، أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسن القاضي، أخبرنا القاضي أبو الحسن الخصيب بن عبد الله بن محمد بن الخصيب إملاءً، حدثنا عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب، حدثنا خالد بن يزيد المكي، حدثنا ابن أبي ذئب، عن صفوان ابن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال: اللهم أعني على شكرك وذكرك وحسن عبادتك: فقد اجتهد في الدعاء)).
وأنبأنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله المقدسي قال: أخبرتنا زينب ابنة الكمال أحمد بن عبد الرحيم بقراءتي عليها، عن عبد الرحمن ابن مكي، عن أبي طاهر أحمد بن محمد الحافظ. وقالت زينب: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الفهم اليلداني إجازة أيضاً، عن الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد سماعاً، أخبرنا أبو طاهر الحافظ سماعاً، أخبرنا أبو طالب أحمد بن أبي هاشم الكندلاني، أخبرنا أبو سعيد محمد ابن علي النقاش، أخبرنا عبد الله بن منصور بن محمد الكاغدي(1/181)
بنيسابور، حدثنا إبراهيم بن محمد بن هجمويه النصراباذي، حدثنا أحمد ابن عاصم المصري الحافظ، حدثنا جعفر بن سليمان النوفلي، حدثنا عتيق بن يعقوب، حدثنا عبد الله ومحمد ابنا المنذر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحب أن يجتهد في الدعاء فليقل: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
وقال شيخنا الحافظ أبو بكر أيضاً: أخبرنا أبو بكر بن أحمد الضرير، قراءة عليه وأنا أسمع في محرم سنة ثمان عشرة وسبع مئة، أخبرنا محمد ابن إبراهيم بن مسلم قراءة عليه وأنا حاضر في الخامسة، أخبرتنا شهدة ابنة أحمد الكاتبة سماعاً، أخبرنا أحمد بن عبد القادر بن محمد اليوسفي، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحرفي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن سلمان الفقيه، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد القرشي، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا أبو معاوية وجعفر بن عون، عن هشام بن عروة، عن ابن المنكدر قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ((اللهم أعني على شكرك وذكرك وحسن عبادتك)).
وأخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن ابن الذهبي قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا يحيى بن محمد بن سعد، أخبرنا جعفر بن علي المقرئ قراءة(1/182)
عليه وأنا في الخامسة، وأبو الحسن علي بن محمود ابن الصابوني وآخرون إجازةً قالوا: أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ سماعاً، أخبرنا أبو عبد الله القاسم بن الفضل، حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن جعفر القاضي إملاء في جمادى الأولى سنة تسع وأربع مئة، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، حدثنا محمد بن محمد بن صخر، حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا حيوة، عن عقبة بن مسلم، عن أبي عبد الرحمن، عن الصنابحي، عن معاذ رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: ((يا معاذ والله إني لأحبك)) فقلت: بأبي أنت وأمي وأنا والله أحبك، قال: ((يا معاذ لا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
قال: فأوصى بذلك معاذٌ الصنابحي، وأوصى به الصنابحي أبا عبد الرحمن، وأوصى به أبو عبد الرحمن عقبة بن مسلم.
وأخبرنا الشيوخ المسندون: أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عثمان بن محمد بن محمد بن محمد المعظمي، وأبو العباس أحمد بن أبي العز بن أحمد بن أبي العز الثوري، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الصوفي بقراءتي عليهم متفرقين قالوا: أخبرنا أحمد ابن الشحنة أبي طالب، والعفيف إسحاق بن يحيى الآمدي، قال الأول: أنبأنا جعفر بن علي المقرئ، وعبد الله بن عمر العتابي قال جعفر: أخبرنا أحمد بن محمد الحافظ سماعاً، وقال العتابي: أخبرنا أبو علي الحسن بن جعفر قراءة عليه ونحن نسمع، قال هو والحافظ: أخبرنا أبو غالب محمد بن الحسن الباقلاني، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد البرقاني.
وقال الآمدي: أخبرنا يوسف بن خليل الحافظ، أخبرنا أبو سعيد(1/183)
خليل بن أبي الرجاء الراراني، وأبو الحسن مسعود بن أبي منصور قالا: أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد الحداد، أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله، قال هو والبرقاني: أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر البندار، حدثنا ابن أبي العوام، حدثنا أبو عاصم، حدثنا حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن الصنابحي، عن معاذ رضي الله عنه قال: لقيني النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فقال: ((يا معاذ إني أحبك)) قلت: يا رسول الله وأنا والله أحبك، قال: ((أفلا أوصيك بكلمات تقولهن في دبر كل صلاة! قل: رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
تابعه أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي قال: حدثنا محمد بن أحمد ابن أبي العوام، حدثنا الضحاك بن مخلد، فذكره.
وحدث به أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي في ((معجم الصحابة)) عن علي بن مسلم، عن أبي عاصم النبيل.
وخرجه الإمام أحمد بن حنبل في ((مسنده)) عن عبد الله بن يزيد المقرئ، وخرجه أبو داود في ((سننه)) عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة -هو القواريري- عن عبد الله بن يزيد المقرئ، وخرجه النسائي في ((سننه)) عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، كلاهما عن حيوة بن شريح بنحوه.
وخرجه أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبو حاتم محمد بن حبان في صحيحيهما وهو في ((مستدرك الحاكم)) وقال: صحيح على شرط الشيخين.
ورواه أبو بكر أحمد بن محمد ابن السني في كتابه ((عمل اليوم والليلة)) فقال: أخبرني محمد بن محمد الباهلي، حدثنا الحسن بن حماد، حدثنا يحيى بن يعلى -يعني القطواني- عن حيوة بن شريح -هو(1/184)
أبو زرعة المصري- فذكره.
ورويناه من طرق غير ما ذكر.
والصنابحي راويه عن معاذ هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن عسيلة بن عسل بن عسال المرادي، منسوب إلى صنابح بن زاهر، بطن من مراد، رحل من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يدركه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبض والصنابحي قد وصل إلى الجحفة فقدم المدينة بعد خمسة أيام من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو تابعي ووقعت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم في ((سنن ابن(1/185)
ماجه)) فهي مرسلة.
شهد الصنابحي فتح مصر، ونزل دمشق، وبها توفي رضي الله عنه.(1/186)
ومما قلته في معنى الحديث نظماً، نجعله لما ذكرناه ختماً، وهو:
أوصيكم بالذكر يا إخوتاه ... ذكر الإله الحق فيه النجاة
خصوصاً المأثور فهو الذي ... قبوله يرجى لمن قد رجاه
ومنه ما أوصى معاذاً به ... نبينا صلى عليه الإله
بدعوةٍ جامعةٍ للغنى ... يدعو بها الرحمن دبر الصلاة
إعانة الرب على ذكره ... وشكره مع حسن فرض قضاه
فادعوا بهن الله فهو الذي ... يعطي ولا يمنع عبداً دعاه
سبحانه من ماجدٍ واجدٍ ... رب الورى لا رب حقاً سواه
آخره، ولله الحمد
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم(1/187)
[9] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى
قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
في هذه الآية الشريفة معانٍ عظيمةٌ وحكمٌ لطيفةٌ، منها: أن الله تعالى ذكر عباده نعمه وإحسانه، وعرفهم ببعض الآية امتنانه، كما ذكر ذلك في آيات كثيرة من القرآن، ليشكروه على ما أنعم، وليعبدوه كما أمر وعلم، وليبعثهم ذكر نعمه على محبته -والله أعلم- لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها.
ومن الآيات المشار إليها قوله تعالى: {الله الذي جعل لكم الأرض قراراً، والسماء بناءً، وصوركم فأحسن صوركم، ورزقكم من الطيبات} الآية.
ومنها: هذه الآية الشريفة: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم}. وهذه النعمة التي امتن الله بها على المؤمنين، وأحسن إليهم أجمعين، أعظم نعمةٍ أنعم بها عليهم، لأن نعم الله الظاهرة دائرةٌ بين أمرين:
أحدهما: يتعلق بأمور الدنيا.
والثاني: بأمور الدين.
ويرجعان إلى المبدأ والمعاد، ولم يحصل العلم بذلك، وكيفية العمل بما شرع أمراً ونهياً وغير ذلك، إلا من جهة نبينا محمد عليه(1/188)
أفضل الصلاة والسلام؛ فلولاه ما عرف الهدى من الضلال، ولا الحرام من الحلال، ولا قواعد العقائد أصلاً وفرعاً، ولا شعائر الشرائع نقلاً وشرعاً، ولا أمر المعاد وما فيه من الأخطار: كالحشر والنشر، والجزاء والقصاص، والجنة والنار، وكيف طريق السلامة في الدنيا، والنجاة يوم القيامة، مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، فأي نعمةٍ أعظم من بعثة هذا النبي، نبي الرحمة، الذي عرف كل ذلك من قبله واعتمد عليه، وحصلت سلامة المؤمنين ونجاتهم على يديه؟!
ولعظم هذه النعمة التي هي أجل الإنعام، أخبر الله تعالى عنها مؤكدة باللام فقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم}، ولم يذكر سبحانه اسماً من أسمائه الحسنى في هذه الآية سوى هذا الاسم الشريف وهو (الله) إشارة -والله أعلم- إلى أنه لما كان قدر هذا الرسول عظيماً ذكر مرسله سبحانه اسمه الأعظم الدال على العظمة حين ذكر منه ببعثته في المؤمنين رسوله محمداً، كما قال في الآية الأخرى: {محمدٌ رسول الله، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}.
وأيضاً أهل الملل الذين يعتقدون الصانع، وأنه الله، يعلمون أن النعم كلها من الله، فذكر الرب سبحانه عند ذكر نعمته ببعثة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم اسمه الذي هو (الله) ليعلم المؤمن والكافر أن بعثة هذا الرسول من نعم الله الذي جميع النعم منه. قال الله عز وجل:
{قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون: الله، قل أفلا تتقون. قل من بيده ملكوت كل شيءٍ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟ سيقولون: الله، قل فأنى تسحرون. بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون. ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ، إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون. عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون}.(1/189)
وهذا الاسم الشريف وهو (الله) أول أسماء الله الحسنى ذكراً، وأجمعها للمعاني، وأدلها على الإلهية، وأثبتها للربوبية، ولم يسم به أحدٌ سوى الله.
قبض الله تعالى القلوب عن التجاسر على إطلاق هذا الاسم الشريف على غيره سبحانه، فلم يطلق على أحدٍ سواه، لا من قبل ولا من بعد، مع كثرة أعداء الدين، ومعارضة بعضهم للقرآن.
والعلماء مختلفون هل هو مشتقٌ، أو هو كالأسماء الأعلام موضوعٌ غير مشتق؟ على قولين.
فكثير من الأئمة الورعين ألجمتهم هيبة هذا الاسم وعظمته عن التماس علم اشتقاقه من لغة العرب، وأجمعوا على تعظيمه بالاتفاق.
وعن أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي روايتان، إحداهما: أنه اسم علم غير مشتق، ولا يجوز حذف الألف واللام منه، كما يجوز من الرحمن الرحيم.
وهذه أشهر الروايتين عن الخليل، وقد بلغنا أنه رئي في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بقولي في اسم الله تعالى إنه غير مشتق.
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج: وأكره أن أذكر جميع(1/190)
ما قال النحويون في اسم الله جل وعز أعني قوله (الله) تنزيهاً لله جل وعز. قاله في كتابه ((معاني القرآن)) ولم يتعرض لشيء من الكلام في اشتقاقه.
ولما حكى البيهقي في كتابه ((الأسماء والصفات)) القولين في اسم الله عز وجل، والأقوال عن القائلين بالاشتقاق، قال: وأحب هذه الأقاويل إلي قول من ذهب إلى أنه اسم علم، وليس بمشتق كسائر الأسماء المشتقة، والدليل على أن الألف واللام من بنية هذا الاسم ولم يدخلا للتعريف: دخول حرف النداء عليه كقولك: يا الله، وحرف النداء لا يجتمع مع الألف واللام للتعريف، ألا ترى أنك لا تقول: يا الرحمن، ولا يا الرحيم كما تقول يا الله، فدل أنهما من بنية الاسم، والله أعلم. انتهى قول البيهقي.
وعند أكثر العلماء أن اسم الله الأعظم هو (الله).(1/191)
قال جابر بن زيد: اسم الله الأعظم هو الله، ألم تروا أنه يبدأ به في القرآن قبل الأسماء كلها.
وقال وكيع بن الجراح: رأيت رجلاً في المنام له جناحان، قلت: من أنت؟ قال: ملك، قلت: ما اسم الله الأعظم؟ قال: الله، قلت: وما بيان ذلك؟ قال: قوله لموسى: {إنني أنا الله} ولو كان اسمٌ أعظم منه لقاله له.
وخرج أبو نعيم الأصبهاني في كتابه ((حلية الأولياء))، وأبو الحسن علي بن جهضم في كتابه ((بهجة الأسرار)) -واللفظ له- من طريق أحمد بن أبي الحواري، حدثني أبو اليمان الحمصي قال: كان لنا شيخٌ يقال: إنه كان يعرف اسم الله الأعظم، فأتيته فقلت له: يا عم قد بلغني أنك تعرف اسم الله الأعظم، فقال: يا ابن أخي أتعرف قلبك؟ قال: قلت: نعم. فقال: إذا رأيته قد أقبل، وخشع ورق، ودمعت عينك فاسأل الله عند ذلك حاجتك، فهو اسم الله الأعظم.
قلت: إن أنعمت النظر في هذا الأثر، وجدت الشيخ المسئول قد صرح لأبي اليمان، بالاسم الأعظم العظيم الشان، ويكفيك من التفسير،(1/192)
النظر إلى الضمير، لكنه ورى -والله أعلم- بالكلام الذي قدم، غيرةً منه على كشف الاسم الأعظم.
ولهذا الاسم الشريف من الخصائص اللفظية والمعنوية مالا يحصى، وقد افتتحت به البسملة أول القرآن العظيم في قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم}.
ذكر بعض المفسرين أنه لما نزل قوله تعالى: {بسم الله} وقع الخلق في الفزع والهيبة، فلما نزل قوله تعالى: {الرحمن الرحيم} استقروا وسكنوا، وذاك لأن من معاني اسم الله الجلال والعظمة، ومعنى الرحمن الرحيم، رحمة الله التي عمت الخلق في الدنيا، وتعمهم في الآخرة. قال الله عز وجل: {ورحمتي وسعت كل شيء} فهي في الدنيا عامة، وفي الآخرة تختص الرحمة بالمؤمنين.
وجاء ذكر رحمة الرحمان في أحاديث، منها الحديث السابق ذكره الذي رويناه من طرق خمسة، وهذه طريق سادسة:
أخبرنا الشيخ عبد الرحمن بن محمد القنواتي المتقن، وهو أول حديث سمعته منه يوم جمعةٍ بمنزلي، أخبرنا محمد بن أحمد الفارقي، وهو أول حديث سمعته منه وأنا شاهد، أخبرنا علي بن أحمد الغرافي بالثغر، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا محمد بن أحمد البغدادي من القطيعة، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو الحسين عبد الحق ابن يوسف، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا جعفر بن أحمد، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا عبيد الله بن سعيد البكري، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا حمزة بن أبي محمد بنيسابور، وهو أول(1/193)
حديث سمعته منه بقراءتي عليه، أخبرنا أحمد بن محمد البلالي، وهو أول حديث سمعته منه سنة ثلاثين ومائتين، حدثنا عبد الرحمن بن بشر العبدي، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا سفيان بن عيينة، وهو أول حديث سمعته من سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاصي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)).
هذا أحد الوجوه الثلاثة التي روي هذا الحديث عليها: ((الراحمون يرحمهم الرحمن))، والثاني: ((يرحمهم الله))، والثالث: ((يرحمهم الرحيم)). والمشهور الأول.
وقد تقدم بعض الكلام على سنده وعلى متنه.
ومن الأول أيضاً: أن الحديث يدخل في باب (المزيد في متصل الأسانيد) لأنا رويناه من طريق أبي سعيد أحمد بن محمد ابن الأعرابي، حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي قابوس، عن ابن لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره.
فقوله ((عن ابن لعبد الله)): هو زيادة رجل مبهم، فيدخل الحديث في نوع المبهمات في أحد قسميها، ويدخل في باب المزيد في متصل الأسانيد، وهو من أحد أقسامه، لأنها إما أن يكون المزيد صواباً وغيره خطأٌ، أو خطأً وغيره صوابٌ، أو يكون كل منهما صواباً. وصورته: أن يسمع الرجل حديثاً من شيخ عن آخر، ثم يلقى الرجل شيخ شيخه، فيسمع منه ما حدث به عنه، فتارة يرويه بنزول، وتارة يرويه بعلو، وكلاهما صحيح.
ومن القسم الثاني: رواية ابن الأعرابي للحديث الذي رويناه، فالمزيد في إسناده خطأ، لأن لفظة ((عن ابن لعبد الله)) تصحيفٌ، كانت(1/194)
((عن مولى))، فصحفت.
وهذه علة للحديث لكنها غير قادحة، فلا تأثير لها في الحديث، ولهذا لما روى الحافظ أبو عبد الله الذهبي هذا الحديث من طريق ابن الأعرابي حذف لفظة ((عن ابن)) فلم يذكرها، وقال بعد فيما وجدته بخطه: صحف ((مولى)) عن ((ابن))؟! وإذا كان كذلك يجوز حذفه من الرواية إذ لم نحذف رجلاً من السند، وإنما حذفنا زيادة لا تفيد، فاعلم ذلك. انتهى.
وهذا من بعض الكلام على سند الحديث.
وقد رويناه في هذا المجلس لأجل ذكر اسم الله عز وجل (الرحمن)، وأن الله تعالى موصوف بالرحمة.
قال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتابه ((أسماء الله عز وجل وصفاته الواردة في الكتاب والسنة)) فقال في قسم الأسماء التي تتبع إثبات التدبير لله سبحانه دون ما سواه: ومنها الرحمن الرحيم. قال الله عز وجل: {الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان} وقال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} وقال تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيماً} وقال في فاتحة الكتاب: {الرحمن الرحيم} وقال: {حم. تنزيلٌ من الرحمن الرحيم} وقال في فواتح السور [غير التوبة]: {بسم الله الرحمن الرحيم}. ثم ذكر البيهقي كلام الخطابي الذي قاله في كتابه في ((الدعاء ومعاني أسماء الله تعالى)) وهو ما أنبأنا غير واحد، منهم: أبو الحسن علي بن محمد بن سعيد بن ريان(1/195)
الطائي، عن زينب ابنة أحمد، أن عبد الخالق بن الأنجب أخبرها كتابةً من ماردين، عن أبي الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الهروي، أخبرنا أبو نصر بن أبي طاهر الحداد سماعاً، أخبرنا عبد الوهاب بن أبي سهل الأديب، أخبرنا الإمام أبو سليمان حمد ابن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي الشافعي رحمه الله، قال:
اختلف الناس في تفسير الرحمن ومعناه، وهل هو مشتقٌ من الرحمة أم لا، فذهب بعضهم إلى أنه غير مشتق، واحتج بأنه لو كان مشتقاً من الرحمة لاتصل بذكر المرحوم، فجاز أن يقال: الله رحمان بعباده، كما يقال: رحيم بعباده، فلما لم يستقم صلته بذكر المرحوم، دل على أنه غير مشتق من الرحمة، قال: ولو كان هذا الاسم مشتقاً من الرحمة لم ينكره العرب حين سمعوه، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم، وقد حكى الله عنهم الإنكار له والنفور عنه في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن، قالوا وما الرحمن؟} الآية.
وزعم بعضهم أنه اسم عبراني.(1/196)
وذهب الجمهور من الناس إلى أنه مشتق من الرحمة، مبني على المبالغة، ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها، ولذلك لا يثنى ولا يجمع كما يثنى الرحيم، ويجمع. وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة، يقال لشديد الامتلاء: ملآن، ولشديد الشبع: شبعان، ويدل على صحة مذهب الاشتقاق في هذا الاسم حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
حدثناه أحمد بن عبد الحليم الكريزي وعبد الله بن شاذان الكراني قالا: حدثنا محمد بن يحيى بن المنذر القزاز، حدثنا حجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، أن أباه رضي الله عنه عاد أبا الرداد، فقال له أبو الرداد: ما أحدٌ من قومي أوصل لي منك، قال عبد الرحمن رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن ربه عز وجل ((أنا الرحمن، وهي الرحم، شققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته ثم أبته)). اللفظ للكريزي.
فالرحمن: ذو الرحمة الشاملة [التي] وسعت الخلق في أرزاقهم وأسباب معاشهم ومصالحهم، وعمت المؤمن والكافر، والصالح والطالح.
وأما الرحيم فخاص للمؤمنين، كقوله تعالى: {وكان بالمؤمنين(1/197)
رحيماً}.
وبالإسناد إلى الخطابي قال: ويقال إن الرحمن خاص في التسمية، عام في المعنى، والرحيم عام في التسمية، خاص في المعنى.
والذي حكاه الخطابي ولم يسم قائله: هو ما حكاه أبو القاسم الحسن ابن محمد بن حبيب المفسر، عن عبد الرحمن بن يحيى أنه قال: الرحمن خاص في التسمية، عام في الفعل، والرحيم عام في التسمية، خاص في الفعل.
وكأن هذا إشارة إلى أن الرحمن اسم من أسماء الله تعالى لا يدعى به غيره، وليس لأحد أن يتسمى به إلا الله، كما دل القرآن على ذلك بقوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن}، فهذا خصوصية في التسمية، وقد روي عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {هل تعلم له سمياً} قال: لم يسم أحد الرحمن غيره.
ومعنى الرحمن عام [في الفعل] لأنه يرحم الراحمين من عباده.
وأما الرحيم: فعام في التسمية، لقوله تعالى في وصف نبيه(1/198)
صلى الله عليه وسلم : {بالمؤمنين رؤوف رحيم}، وتقول العرب: كن لي رحيماً، فهذا العموم في التسمية.
وأما الخصوص في المعنى: فجاء عن عكرمة وغيره أن الرحمن برحمة واحدة، والرحيم بمائة رحمة، إشارة إلى رحمة الرحيم في الآخرة وأنها هناك مختصة بالموحدين، فالرحيم عام في التسمية، خاص في المعنى.
هذا الذي عليه الجمهور، لكنه قد جاء أن الله عز وجل رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وذلك فيما رويناه في ((جزء أبي القاسم إبراهيم بن محمد المعاديلي)): حدثنا أبو الحسن محمد بن عمر الذهبي، حدثنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق، حدثنا أبو داود، حدثنا أحمد بن سعيد، حدثنا ابن وهب، أخبرني حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، عن عطاء بن [أبي] مروان، عن أبيه، أن كعباً حلف له بالذي فرق البحر لموسى عليه السلام أن في التوراة ثلاثة أملاكٍ أمروا إذا قال أحدٌ من العباد راهباً أو راغباً: بسم الله، قال له: هديت، ثم يقول: توكلت على الله، قال الثاني: كفيت، ثم يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قال الثالث: حفظت.
ثم إن كعباً حلف له بالذي فرق البحر لموسى أن في التوراة: أن الرب عز وجل يستجيب للعبد عند نزول القطر، ويستجيب له عند السحر، وعند السجود، وعند الفطر، وفي السحر تفتح أبواب السماء لكل داعٍ راهب أو راغب.
وقال: إن كعباً حلف له بالذي فرق البحر لموسى: أن في التوراة:(1/199)
أن عبداً من عباد الله عندما يقول: الله يا فارج الهم، ويا كاشف الغم، ومجيب دعوة المضطرين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أنت ارحمني رحمةً تغنيني بها عن رحمة من سواك، واقض عني ديني، واكبت عدوي: إلا كفي ذلك كله.
وهذا الدعاء جاء مرفوعاً في الحديث المأثور في الدعاء لقضاء الدين، وإسناده واهٍ جداً، ومن ألفاظه -وهو موافق لمذهب الجمهور- ما قال أبو بكر ابن أبي عاصم: حدثنا حميد بن كاسب، حدثنا أنس بن عياض، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الحكم بن عبد الله، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي أبو بكر رضي الله عنه فقال: هل علمك رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءً علمنيه؟ كان عيسى ابن مريم عليهما السلام يعلمه أصحابه ويقول: لو كان على أحدكم جبل ذهبٍ ثم دعا به قضاه الله عنه، ((اللهم فارج الهم، كاشف الغم، مجيب دعوة المضطرين، رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ورحيمهما، ارحمني رحمةً تغنيني بها عن رحمة من سواك)).
خرجه أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي في كتابه ((الدعوات)) من طريق ابن أبي عاصم، والحكم بن عبد الله هو الأيلي –يقال له: ابن خطاف، ويقال: هما اثنان، كان ابن المبارك شديد الحمل عليه،(1/200)
ورمي بالكذب، لكن حديثه هذا في الترغيب في الدعاء، وفيه جملةٌ من آدابه، منها تمجيد الرب سبحانه، والثناء عليه، وهذا أول آداب الدعاء الواردة في السنة الشريفة، وقد جمعتها في أبيات نختم بها مجلسنا هذا، وهي:(1/201)
بتمجيدٍ ابدأ، صل، ثلث، تضرعن ... ألح بسرا طاهراً وقت نافع
ومستقبلاً بالحل جاز، ومعرباً ... دع السجع، بالمأثور شرك وجامع
وأمن، ولا تعجل، مع الرفع، وامسحن ... فهذي شروطٌ في دعاءٍ لطائع(1/202)
[10] بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
تقدم الكلام على بعض ما في هذه الآية الشريفة من المعاني والأحكام، وهي من جوامع آيات القرآن، القائم خطابه في كل عصر وأوان، وكيف ما تدبر ما فيه وأثير، ظهرت معانيه لمتأمليه على التحرير.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الشرف أبي عبد الله محمد بن المحتسب مشافهةً بالإجازة، أنبأتنا أم الحسن فاطمة ابنة سليمان بن عبد الكريم، عن أبي البركات الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله، أخبرنا عمي الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله سماعاً، أخبرنا أبو المعالي محمد بن إسماعيل بن محمد الفارسي قراءةً عليه، أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا هارون بن سليمان الأصبهاني، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين.
وإذا تدبرنا قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} الآية، ظهر لنا كثير من أنواع علومها المأخوذة من منطوقها ومفهومها.
فمن منطوقها: ثناء الله تعالى على من بعث فيهم رسوله محمداً خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وذلك إذ وسمهم بالإيمان، وأعلم بنعمه عليهم بالامتنان، وذكر بعض ما أحسن إليهم، وبين عدةً(1/203)
مما أنعم به عليهم، فقال عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين} الآية.
ومن مفهومها: الإشارة إلى القضاء السابق في اللوح المحفوظ بإيمان من بعث فيهم رسوله صلى الله عليه وسلم ، إذ سماهم قبل البعثة مؤمنين، باعتبار ما قضاه وقدره، وفي اللوح المحفوظ قبل إخراجهم إلى الوجود سطره، فقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً} قال: {على المؤمنين} للبيان بقضائه السابق لهم بالإيمان، وهذا من بعض فضل الله عليهم والامتنان.
والمؤمنون المصدقون واحدهم مؤمن، والمؤمن: من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق بالشهادتين مع القدرة على النطق بهما. فهذا يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار، كما حكاه شيخ الإسلام أبو زكريا النواوي رحمة الله عليه عن اتفاق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين.
ولا يشترط في المؤمن الذي اعتقد بقلبه التوحيد ونطق بالشهادتين أن يقول مع ذلك حين يسلم: وأنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام إلا إذا كان من كفار يعتقدون اختصاص رسالة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام إلى العرب، فهذا لا يحكم بإسلامه إذا نطق بالشهادتين حتى(1/204)
يقول: وأنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام، وقد شرط بعضهم قول ذلك على كل كافر يدخل في الإسلام، وليس العمل على هذا. والله أعلم.(1/205)
والمؤمنون أقسام: منهم الملائكة، وهم على طبقات ومنازل.
ومنهم الإنس والجن، ومن الإنس: الأنبياء، وفيهم الرسل، وهم على درجات. قال الله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كل الله ورفع بعضهم درجات}.
ومنهم من دونهم من المؤمنين، كمؤمني الأمم المتقدمة، ومؤمني هذه الأمة المحمدية، وهم أمة الإجابة، وأفضلهم مطلقاً الصحابة، وهم في قول المشار إليهم بقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً}.
والمؤمنون: أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا على قسمين: قسم آمنوا به وحصلت لهم صحبته، وقسم كذلك في الإيمان، لكن فاتتهم صحبته، وهم بعض المخضرمين.
والصحبة: عامةٌ، وخاصة، فالعامة: يدخل تحتها كل من صاحب غيره، وإن اختلفا في جنس أو دين أو منزلة، يقال صحبه -بالكسر- يصحبه -بالفتح- صحبه -بالضم- وصحابة -بالفتح ويكسر-: إذا(1/210)
عاشره، فهو صاحب له، وجمعه صحابة -بالفتح- وأصحاب، وصحب، وصحاب، وصحبان. هذا معناه لغةً.
وأما اصطلاحاً: فالصاحب -ويقال له الصحابي، وهو الأكثر-: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، بعد المبعث، من المسلمين، ممن يعقل، ثم مات مسلماً.
وقيل في تعريف الصحابي غير ذلك.
ومعرفة الصحابة من أوكد العلوم وأهمها، وهو علم جسيم لا يعذر أحدٌ [ينسب إلى علم الحديث] بجهله، ولا خلاف علمته بين العلماء أن الوقوف على معرفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوكد علم الخاصة، وأرفع علم الخبر، وبه ساد أهل السير، وما أظن أهل دينٍ من الأديان إلا وعلماؤهم معتنون بمعرفة أصحاب أنبيائهم، لأنهم الواسطة بين النبي وبين أمته. قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري رحمة الله عليه.
ومن تبحر في معرفة الصحابة فهو حافظ كامل الحفظ. قاله الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري.
وطريق معرفة الصحابي من وجوه، منها: التواتر، كصحبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه المنصوص عليها في أعظم قولٍ وأحكم معنى، قال الله عز وجل: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}.
وكذلك تواتر صحبة بقية العشرة المشهود لهم بالجنة، وآخرين،(1/211)
كابن مسعود، وأبي هريرة، وخلق من الصحابة.
ومن وجوه معرفة الصحابة: الاستفاضة، وهي دون التواتر، كضمام ابن ثعلبة السعدي، وآخرين.
ومنها: إخبار بعض المشهورين من الصحابة بصحبة غيره.
ومنها: إخباره عن نفسه بذلك، لكن بشرط أن يقتضيه الحال مع وجود الثقة والأمانة، فإن كانت الحال لا تقتضيه أو ظهر كذب المخبر فيما يدعيه، فلا يقبل -والحالة هذه- إخباره بذلك، ولا خبر من ادعاه له من الهوالك، مثل:
رتن شاهون بن جندريق الهندي البترندي، وجعفر بن نسطور الرومي، ويسر بن عبد الله الخادم، ومعمر بن بريك، وفهر بن تميم الكلابي، وربيع بن محمود المارديني وأمثالهم، وقع لي منهم أحد وعشرون نفساً ذكرتهم مع نحوهم ممن ادعى أو ادعي له أنه تابعي، مع تراجمهم، وذكر شيء مما رووه في مؤلف سميته ((كشف القناع عن(1/212)
حال من افترى الصحبة أو الاتباع)).
وقد صنف في أسماء الصحابة وذكرهم كثيرٌ من الأئمة مع إفاضتهم في عددهم تقليلاً وتكثيراً، وكل من الأقوال رويناه مأثوراً. ومنها ما قال أبو الحسن محمد بن الحسين الآبري السجزي الحافظ: أخبرني محمد بن رمضان المصري، أخبرنا محمد بن عبد الحكم، أخبرنا الشافعي قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ثلاثون ألفاً بالمدينة، وثلاثون -يعني ألفاً- في قبائل العرب وغير ذلك.
ومن أكثر ما قيل فيهم: ما قال القاضي أبو عبد الله أحمد بن إسحاق بن خربان، أخبرنا الحسن بن بكر الوراق، حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد التستري، أخبرنا محمد بن سعيد بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن عيسى الهمذاني قال: قال أبو زرعة الرازي: توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادةٌ على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة، وكل قد روى عنه سماعاً أو رؤية.
روي من طريق أخرى عن أبي زرعة -وقيل له: حديث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف؟- فقال: ومن قال ذا؟! هذا قول الزنادقة! ومن يحصي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مائة ألفٍ وأربعة عشر ألفاً من الصحابة ممن رآه وسمع منه. قيل له: هؤلاء أين كانوا؟ وأين؟ -يعني يسعهم- قال: أهل المدينة، وأهل مكة، ومن بينهما من الأعراب، ومن شهد معه حجة الوداع، كل رآه وسمع منه بعرفة.(1/213)
وأول من جمع أسماء الصحابة فيما نعلم، مرتبين في الأسماء على حروف المعجم: أبو عبد الله البخاري، وهو قسم من أقسام ((تاريخه الكبير)) ثم تبعه الناس في الجمع الموصوف، فبعضهم على الطبقات، وآخرون على الحروف، ما بين مختصر ومطول، وأصل ومذيل، فأخصر مصنف في ذلك ((كتاب الصحابة)) تأليف أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، ومن ذلك ((معجم)) أبوي القاسم: عبد الله بن محمد البغوي، وسليمان بن أحمد الطبراني، و((معجم)) أبي الحسين عبد الباقي ابن قانع بن مرزوق القاضي، و((معجم)) أبي حفص عمر بن أحمد بن شاهين، و((كتاب المعرفة)) لأبي عبد الله محمد بن إسحاق بن منده،(1/214)
و((المذيل)) عليه لحفيده أبي زكريا يحيى بن عبد الوهاب، و((التتمة)) على ذلك لأبي موسى محمد ابن أبي بكر المديني، و((كتاب المعرفة)) لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، وكتاب ((الاستيعاب لأسماء الأصحاب)) لأبي عمر بن عبد البر، والمذيل عليه وغير ذلك من المؤلفات في أسمائهم، وكذلك المؤلفات في مسانيدهم كـ ((مسند)) الإمام أحمد بن حنبل، ومن ذلك التواريخ: كـ ((تاريخ)) أبي بكر أحمد ابن أبي خيثمة.
ومن أجمع مؤلف أفرد للصحابة كتاب ((أسد الغابة)) للعلامة عز الدين أبي الحسن علي بن أثير الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الكريم الجزري، وجرده الحافظ أبو عبد الله الذهبي باختصارٍ وزيادة صحابة كثيرة في كتاب سماه ((تجريد الصحابة)).
وهم على طبقات كما تقدم، منها: أنهم طبقتان سابقون، وغير سابقين، ذكر الله تعالى الطبقتين في القرآن، فقال عز وجل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين(1/215)
فيها أبداً ذلك الفوز العظيم}.
ومراتب السابقين تسع: الأولى: كأبي بكر الصديق، وأم المؤمنين خديجة، ومن كان في حجر النبوة ونشأ فيها كالذرية الطاهرة، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة رضي الله عنهم.
والمرتبة الثانية: كعثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، وبلال بن رباح رضي الله عنهم.
الثالثة: أصحاب دار الرقم بن أبي الأرقم المخزومي رضي الله عنه، التي بمكة عند الصفا، وكانوا تسعة وثلاثين صحابياً، وبإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه كملوا أربعين، جمعهم في مصنف يذكر تراجمهم وما يتعلق بهم الإمام أبو القاسم سعيد بن يعقوب بن شاه الكشاني، سمى مصنفه ((السراج)).
المرتبة الرابعة: مهاجرة الحبشة. الخامسة: أصحاب العقبتين من الأنصار.
السادسة: من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم بقباء لما نزلها في الهجرة قبل أن ينتقل إلى المدينة.
السابعة: من صلى القبلتين مع النبي صلى الله عليه وسلم .
الثامنة: أهل بدر. التاسعة: أهل بيعة الرضوان.
وبهم انقطع السابقون، وقد شهد لهم بأنهم من أهل الجنة لا يدخلون النار.
أخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله محمد بن الذهبي الدمشقي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن الشيخ عمر بن الشيخ القدوة أبي بكر ابن قوام البالسي، وأبو الحسن علي، وأم محمد زينب: ولدا الفخر عثمان بن محمد بن الشمس لولو الحلبي، وأم عبد الله زينب ابنة الإمام أبي محمد عبد الله بن الإمام أبي أحمد(1/216)
عبد الحليم بن تيمية الحرانية، بقراءتي على الأول بجامع كفر بطنا من الغوطة، وعلى الثاني بزاوية جده من سفح قاسيون، وعلى الأخوين بجامع بيت لهيا، وعلى ابنة تيمية بمنزلها داخل دمشق، قالوا: أخبرنا أبو العباس أحمد ابن أبي طالب الديرمقرني -قال علي وابنة تيمية: حضوراً، وقال الباقون: ونحن نسمع، زاد أبو هريرة فقال: وأخبرنا عيسى بن عبد الرحمن السمسار الصالحي قراءةً عليه وأنا حاضر في الثالثة، وأجاز لي ما يرويه، وأبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم، وأبو بكر بن أحمد ابن عبد الدائم المقدسيان إجازة- قالوا سوى ابن عبد الدائم: أخبرنا أبو المنجا عبد الله بن عمر العتابي، وقال الحاكم أيضاً وابن عبد الدائم: أخبرنا الحسين بن المبارك الزبيدي قراءةً عليه قال القاضي: وأنا حاضر، وابن عبد الدائم: وأنا أسمع -قالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى السجزي، أخبرنا محمد بن أبي مسعود الفارسي، أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد الهروي، أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي، حدثنا العلاء بن موسى البغدادي، أخبرنا الليث بن سعد المصري، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يدخل أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة النار)). هذا حديث حسن صحيح، قاله الترمذي بعد أن خرجه في ((جامعه)) كما خرجه أبو داود، والنسائي من حديث الليث بن سعد.
وقال مسلم في ((صحيحه)): حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث. وحدثنا محمد بن رمح، أخبرنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطبٌ النار! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كذبت،(1/217)
لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية)).
لم يخرج البخاري -والله أعلم- حديث الليث الذي تقدم لعلةٍ هي من باب المزيد في الأسانيد، لكنها لا تقدح، وهي رواية جابر رضي الله عنه هذا الحديث عن أم مبشر، وهي بنت البراء بن معرور الأنصارية الصحابية زوج زيد بن حارثة رضي الله عنهم.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن أبي عبد الله بن المحتسب إجازةً إن لم يكن سماعاً، أخبرنا أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم سماعاً في صفر سنة تسع وسبع مئة، أخبرنا أبو الوفاء محمود بن إبراهيم العبدي وأختاه أسماء وحميراء كتابةً قالوا: أخبرنا أبو الخير محمد بن أحمد بن الباغبان سماعاً، أخبرنا إبراهيم بن محمد الطيان، وأبو بكر محمد بن أحمد السمسار، وأبو عمرو عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق ابن منده قراءة عليهم وأنا أسمع قالوا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن محمد ..، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز ابن عبد الله، حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن أم مبشر رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: ((لا يدخل أحدٌ من أهل الشجرة الذين بايعوني تحتها النار إن شاء الله)) فقالت: بلى! فانتهرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: إن الله تعالى يقول في كتابه: {وإن منكم إلا واردها، كان على ربك حتماً مقضياً}! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قد قال الله عز وجل: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا})).
تابعه ابن جريج، عن أبي الزبير.(1/218)
أنبأنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد المقدسي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفخر علي، وزينب ابنة الكمال أحمد، وحبيبة ابنة الزين عبد الرحمن المقدسيون قراءةً عليهم وأنا أسمع قالوا: أخبرنا محمد بن نصر بن أبي الفرج بن الحصري إجازة -زادت زينب فقالت: ومحمد بن عبد الكريم بن السيدي كتابةً- قالا: أخبرنا أبو الفتح عبيد الله بن عبد الله بن شاتيل قراءة عليه ونحن نسمع، قال ابن الحصري وأنا حاضر، أخبرنا أبو هاشم عيسى بن أحمد بن محمد الدوشابي سماعاً، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن علي بن البسري، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان، أخبرنا أبو أحمد حمزة بن محمد بن العباس، حدثنا أحمد بن عبيد الله النرسي، حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: أخبرتني أم مبشر رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يدخل النار إن شاء الله أحدٌ من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها)). قالت حفصة رضي الله عنها: بلى يا رسول الله! فانتهرها! فقالت حفصة: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً}! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((قد قال الله عز وجل {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً})).
حدث به الإمام أحمد بن حنبل في ((مسنده)) عن حجاج كذلك.
وخرجه مسلم في الفضائل عن هارون بن عبد الله، والنسائي في التفسير عن هارون والحسن بن محمد، كلاهما عن حجاج بن محمد، به.
وقال أبو السري هناد بن السري في ((كتاب الزهد)): حدثنا أبو(1/219)
معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أم مبشر، عن حفصة رضي الله عنهم قالت: قال صلى الله عليه وسلم : ((إني لأرجو أن لا يدخل النار -إن شاء الله- أحدٌ شهد بدراً والحديبية)) قال: فقلت: يا رسول الله أليس الله تبارك وتعالى يقول: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً}؟ قال: أفلم تسمعيه يقول: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً}؟)).. ..
والمشهور أنه من مسند أم مبشر الأنصارية. وعلى المشهور ما قال أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في ((كتاب المعرفة)): حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أم مبشر رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لن يدخل النار أحدٌ شهد بدراً والحديبية)).
وقال محمد بن سعد في ((الطبقات الكبرى)): أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم الصنعاني، حدثني إبراهيم بن عقيل بن معقل، عن أبيه، عن وهب بن منبه قال: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائةً، فبايعته تحت الشجرة وهي سمرةٌ، وعمر رضي الله عنه آخذٌ بيده، غير جد بن قيس اختبأ تحت إبط بعيره!.
وسألته: كيف بايعوه؟ قال: بايعناه على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت.(1/220)
وسألته: هل بايع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة قال: لا، ولكن صلى بها ولم يبايع عند الشجرة، إلا الشجرة التي بالحديبية، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على بئر الحديبية، وإنهم نحروا سبعين بدنةً بين كل سبعةٍ منهم بدنةٌ.
قال جابر: وأخبرتني أم مبشر رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عند حفصة رضي الله عنها يقول: ((لا يدخل النار إن شاء الله أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها)). قالت حفصة: [بلى يا رسول الله، فانتهرها! فقالت حفصة] {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياًْ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((قال الله عز وجل: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً})).
ورواه الحافظ أبو علي الحسين بن داود المصيصي سنيد في ((تفسيره)) فقال: وحدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: كنا في يوم الحديبية أربع عشرة مائةً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه آخذٌ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، فبايعناه غير الجد بن قيس اختبأ تحت بطن بعيره! قيل لجابر: هل بايع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة؟ قال: لا، ولكنه صلى بها ولم يبايع تحت الشجرة إلا الشجرة التي عند الحديبية. قال أبو الزبير: قلت لجابر: كيف بايعوا؟ قال: بايعناه على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت.
الجد بن قيس: من بني سلمة، وكان سيدهم في الجاهلية، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم سيدهم عمرو بن الجموح، وكان الجد يزن بالنفاق، وقيل: إنه تاب وحسن إسلامه، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه.(1/221)
وقد اختلف فى عدة أهل الحديبية التي كانت بيعة الرضوان تحت سمرة من شجرها على أقوال، فقيل: بضع عشرة مائة، من غير تعيين، كما صح من حديث عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، يزيد أحدهما على صاحبه قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . الحديث.
وقيل: كانوا ألفاً وثلاث مئة كما علقه البخاري في ((صحيحه)) فقال: وقال عبيد الله بن معاذ: حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، حدثني عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: كان أصحاب الشجرة ألفاً وثلاث مئة وكانت أسلم ثمن المهاجرين.
تابعه محمد بن بشار: حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة.(1/222)
حديث عبيد الله: حدث به أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في ((مستخرجه)) عن أبي عمرو بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا عبيد الله بن معاذ، فذكره.
وحديث محمد بن بشار بندار رواه أبو بكر الإسماعيلي في ((مستخرجه)) فقال: حدثنا ابن عبد الكريم، حدثنا بندار، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن عمرو، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: كنا يوم الشجرة ألفاً وثلاث مئة، وكانت أسلم يومئذ ثمن المهاجرين.
وهو في ((مسند)) أبي داود سليمان بن داود الطيالسي عن شعبة، كما تقدم.
وقيل: كانوا ألفاً وأربع مئة. قال البخاري في ((صحيحه)): حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مئة وذكر الحديث.
تابعه زهير وشريك، عن أبي إسحاق.
وقال أبو حذيفة موسى بن مسعود: حدثنا عكرمة بن عمار، عن إياس(1/223)
ابن سلمة، عن أبيه رضي الله عنه قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مئة. وذكر الحديث.
وأنبأنا أبو حفص عمر بن الحسن المراغي إذناً عاماً، وقرأته على أبي المعالي عبد الله بن إبراهيم الفرضي وغيره عنه قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد السعدي قراءة عليه وأنا أسمع قال: وأخبرناه حنبل بن عبد الله بن الفرج الرصافي قراءةً عليه وأنا أسمع، أخبرنا هبة الله بن محمد بن حصين، أخبرنا الحسن بن علي الواعظ، أخبرنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا عبد الوهاب ابن عبد المجيد الثقفي أبو محمد، حدثنا خالد، عن الحكم ابن عبد الله الأعرج، عن معقل بن يسار رضي الله عنه، أنه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وهو رافعٌ غصناً من أغصان الشجرة بيده عن رسول الله(1/224)
صلى الله عليه وسلم فبايعوه على أن لا يفروا، وهم يومئذ ألف وأربع مئة.
خرجه مسلم في ((صحيحه))، عن يحيى بن يحيى التميمي، عن يزيد بن زريع، عن خالد الحذاء، به. تابعه أبو كامل الجحدري الفضيل ابن الحسين، عن يزيد بن زريع. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، أنه سمع جابراً رضي الله عنه يقول: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربع مئة فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنتم خير أهل الأرض)) وكنا ألفاً وأربع مئة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة.
تابعهما عبد الله بن الزبير الحميدي في ((مسنده)) فقال: حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، فذكره بنحوه.
وتابعه الأعمش، سمع سالماً، سمع جابراً: ألفاً وأربع مئة.
هذه المتابعة وصلها البخاري في آخر باب من كتاب الأشربة فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن الأعمش، حدثني سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله، فذكر الحديث، وفي آخره: قلت لجابرٍ: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفاً وأربع مئة.
وجاءت رواية ثانية ثابتة أيضاً عن جابر أنهم كانوا ألفاً وخمس مئة.
قال البخاري: حدثنا يوسف بن عيسى، حدثنا ابن فضيل، حدثنا(1/225)
حصين، عن سالم، عن جابر رضي الله عنه قال: عطش الناس يوم الحديبية، الحديث، وفيه: فقلت لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا! كنا خمس عشرة مئة.
ورواه مسدد: حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا حصين، فذكره.
وقال البخاري أيضاً: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كان يقول: كانوا أربع عشرة مئة؟ فقال لي سعيد: حدثني جابر رضي الله عنه كانوا خمس عشرة مئة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية.
ورواه محمد بن المثنى: حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، فذكره، وتابعه قرة بن خالد، عن قتادة.
الحديبية: قرية على طريق جدة دون مرحلة عن مكة، وتخفيفها أعرف عند أهل العربية، فيما قاله السهيلي، وذكر الجمهور الوجهين فيها، وممن حكاهما أبو الحسن علي بن سيده في كتابه ((المحكم)).
ومنع بعضهم من تشديدها، ونقل عن الشافعي رضي الله عنه.(1/226)
وأول من بايع بالحديبية بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي، واسمه عبد الله بن وهب، وقيل وهب بن عبد الله، وقيل عبد الله بن محصن أخو عكاشة، وقيل اسمه عامر، بدري.
حدث أبو بكر بن عياش قال: قال زر -يعني ابن حبيش-: أول من بايع تحت الشجرة أبو سنان بن وهب رضي الله عنه، وهكذا روي عن الشعبي، وهذا يوهن قول من ذكر أن أبا سنان توفي سنة خمس من الهجرة.
وأهل هذه البيعة كل منهم بايع مرةً مرةً إلا رجلين: أحدهما عبد الله ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فإن أباه أرسله يومئذ إلى فرس له عند رجل من الأنصار يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله بن عمر ثم ذهب إلى(1/227)
الفرس، فجاء به إلى عمر وأخبره بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة. قال: فانطلق، فذهب مع أبيه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قيل: وبايعه ابن عمر ثانيةً بعد أبيه.
والثاني: أبو إياس -ويقال: أبو مسلم- سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع سنان بن عبد الله بن قشير الأسلمي، بايع يوم الحديبية مرتين. وثبت في ((صحيح مسلم)) من حديث عكرمة بن عمار، حدثني إياس بن سلمة، حدثني أبي قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائةً وعليها خمسون شاةً لا ترويها. قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبا الركية، فإما دعا وإما بصق فيها. قال: فجاشت فسقينا واستقينا.
قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة. قال فبايعته أول الناس، ثم بايع وبايع، حتى إذا كان في وسط الناس قال: ((بايع يا سلمة)) قال: قلت قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس. قال: ((وأيضاً)) قال: ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلاً -يعني ليس معه سلاح- قال: فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حجفة أو درقة، ثم بايع، حتى إذا كان في آخر الناس قال: ((ألا تبايعني يا سلمة!)) قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس وفي أوسط الناس، قال: ((وأيضاً)) قال: فبايعته الثالثة ..، وذكر الحديث بطوله.
وكتب إلي بعض حفاظ مكة -زادها الله شرفاً- سؤالاتٍ، منها: وما الحكمة في مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع يوم الحديبية مرتين؟.(1/228)
فكان من جوابي إياه: أن المحفوظ أن سلمة بايع يومئذ ثلاث مرات، وبايع على الموت، والذي يظهر -والله سبحانه أعلم- من الحكمة في تكرار مبايعة سلمة أنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة عبد الرحمن الفزاري: ((خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة)).
وكان سلمة أيضاً حسن الرمي بالنبل، وكان سريع الجري، بحيث إنه كان يسبق الفرس إذا جرى معها، فهذه ثلاث خصال كانت فيه، فحسن أن تكون مبايعته ثلاث مرار، لأنه بايع على الموت في أي حال كان من أحواله الثلاثة: إن قاتل راجلاً بسلاحه، أو رامياً عن قوسه، أو مبادراً بجريه في أثر العدو، أو إلى انتهاز فرصة ونحوها في القتال.
ويحتمل أن تكون البيعة الأولى على الجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم رأى قرناءه من الصحابة بايعوا على أن لا يفروا ودعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المبايعة ثانياً فبايعه كأقرانه، ثم شحت نفسه بالقتل في سبيل الله ودعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المبايعة ثالثاً فبايعه على الموت.
ويحتمل أن تكرار المبايعة كان للتأكيد.
ويحتمل أن يكون لأمر ظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حال سلمة لا يليق ببيعته إلا تكرارها، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالمبايعة أيضاً ثانياً وثالثاً.
ويحتمل غير ذلك. والله أعلم.
وهذه البيعة يقال لها بيعة الرضوان، لقول الله عز وجل: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} الآية.
قال أبو العباس محمد بن إسحاق السراج: حدثنا أبو كريب، حدثنا محمد بن عبيد وأبو أسامة، عن إسماعيل، عن عامرٍ الشعبي قال:(1/229)
المهاجرون الأولون: الذين بايعوا بيعة الرضوان.
وحدث به الإمام أحمد عن هشيم، عن إسماعيل ومطرف، عن الشعبي قال: هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
وبأهل هذه البيعة ختم السابقون، فمن أسلم بعد هذه البيعة لم يعد من السابقين، لكنهم فيمن اتبعوهم بإحسان.
قال الله عز وجل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} الآية.
ومن السابقين: مهاجرون وأنصار، فأول المهاجرين -بل أول المسلمين من الصحابة مطلقاً إسلاماً على قول ابن عباس والجمهور- أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأول الأنصار مطلقاً إسلاماً إياس بن معاذٍ الأوسي الأشهلي، قدم مكة وهو غلامٌ قبل الهجرة في نفر من قومه يطلبون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، بسبب الحرب التي كانت بين الأوس والخزرج، فسمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم، فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن، فقال إياس لقومه: هذا -والله- خير مما جئتم له، فرجع ومات قبل الهجرة.
قال أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده بعد أن ذكر إياس بن معاذ في الصحابة، قال: وذكر قومه أنه مات مسلماً رضي الله عنه. قاله في كتاب ((المعرفة)).
وقال أبو نعيم: إياس بن معاذ الأشهلي قدم على النبي بمكة فعرض عليه الإسلام فأسلم، فتوفي قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة. انتهى.(1/230)
وقصة إياس وإسلامه وموته رويناها بطولها من طريق محمد بن إسحاق في ((المغازي))، وقد ذكرته مع ذكر ستةٍ سابقين من الأنصار وذكر أصحاب العقبتين في أبيات وهي:
ألا أول الأنصار أسلم مطلقاً ... إياس معاذٍ، ستةٌ بعد تابعوا
بمكة هم: عوف وأسعد، جابرٌ ... وقطبة، منهم عقبةٌ، ثم رافع
ومات إياسٌ ثم وافوا بسبعة ... سوى جابر عهد النساء فبايعوا
عبادة عباسٌ عويمٌ يزيد مع ... معوذ، ذكوان، ابن تيهان سابع
وبعد أتوا بضعاً وسبعين بايعوا ... على الهجرة الغراء والسعد طالع
فحازوا رسول الله حياً ودفنه ... بطيبة فضلاً عم، والفضل واسع
آخر المجلس ولله الحمد حمداً كثيراً
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً(1/231)
[11] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد وآله وصحبه وسلم، ويسر.
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} الآية.
الكلام على هذه الآيات من وجوه كثيرة مبنية على أصلين:
أحدهما: التفسير المأخوذ بطريق النقل والسماع.
والثاني: التأويل الراجع إلى القواعد الشرعية، والعقائد السنية، ومذاهب اللغة ووجوه العربية.
فمن وجوه الكلام على هذه الآيات: علم نزول القرآن، ومواطن تنزيله، وقد تقدم ذكر شيء من ذلك، فالقرآن نزل سماوياً، كنزوله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، وتقدم أن في نزوله كذلك قولين: أحدهما: نزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلةً، من كل سنة في ليلة القدر منها، فكان ينزل فيها بقدر ما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة.
والقول الثاني -وعليه الجمهور-: أنه نزل جملةً واحدةً إلى سماء الدنيا ثم نزل إلى الأرض، فكان نزوله على قسمين أحدهما: ماله سببٌ نزل لأجله، والثاني: ما نزل بغير سبب ظاهر.
وقد صنف في القسم الأول، ومن ذلك كتاب أبي الحسن علي بن(1/232)
أحمد بن محمد بن علي بن متويه النيسابوري الواحدي رحمه الله.
ومن مواطن تنزيل القرآن: مكة والمدينة، وهذه الآيات الشريفات نزلن بالمدينة، لأنهن من سورة آل عمران، وهي مدنية بلا خلاف، وثالث سورة نزلت بالمدينة، كما رويناه من حديث خصيف بن عبد الرحمن الجزري، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فأنزل الله عز وجل بالمدينة البقرة والأنفال وآل عمران.
ورويناه بـ ((ثم)) بدل الواو من حديث عثمان بن عطاء بن أبي مسلم الخراساني، عن أبيه، [عن ابن عباس] قال: ثم كان أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة، وقال: ثم الأنفال، وقال: ثم آل عمران.
ومن الاتفاق أن هؤلاء الآيات ذكرت بنحوها في سورة البقرة، وسورة الجمعة، وهؤلاء الثلاث نزلن بالمدينة، وترتيبهن في النزول كترتيبهن في المصحف.
والآيات داخلة أيضاً في وجه آخر من وجوه نزول القرآن، وهو ماله سببٌ نزل لأجله، والسبب في نزول هذه الآيات غامضٌ، ولهذا -والله أعلم- لم يذكره أبو الحسن الواحدي في كتابه ((أسباب نزول القرآن)). وسبب نزولها الدعوة الإبراهيمية التي أخبر الله تعالى عنها بقوله عز وجل إخباراً: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} فاستجاب الله عز وجل هذه الدعوة، وبعث هذا الرسول كما دعا إبراهيم عليهما السلام، وأنزل الله تعالى إعلاماً لهذه الأمة بإجابة الدعوة المشار إليها فقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} الآية.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى إجابة هذه الدعوة الشريفة، فقال فيما خرجه(1/233)
أبو القاسم الطبراني في ((معجمه الكبير)) عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، ما كان بدء أمرك؟ فقال: ((دعوة أبي إبراهيم، وبشر بي عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام)).
وللحديث طرق خرجتها في كتابي ((جامع الآثار)).(1/234)
وفي آية الدعوة الإبراهيمية قال تعالى إخباراً: {يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم} وقال تعالى في هذه الآية: {ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
والتزكية هي: التقديس والتطهير، والنماء والتكثير، ووجه تأخير التزكية في آية الدعوة الإبراهيمية -والله أعلم-: أن التطهير والتقديس لا يكون ذلك إلا بعد الإيمان وتلاوة القرآن، وتعليم الكتاب والحكمة، وطلب ذلك أهم من طلب التزكية، وتقديم الأهم أولى وأعلى، فحسن تقديم طلب تعليم الكتاب والحكمة على التزكية هنا.
وأما تقديم التزكية على تعليم الكتاب والحكمة في آية الإعلام بإجابة الدعوة الإبراهيمية: فإن الله عز وجل أثبت للمدعو لهم -وهم هذه الأمة- الإيمان أولاً بقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} فحصلت التزكية بالإيمان، وأي تزكيةٍ أعظم منها! فقدم ذكرها في هذه(1/235)
الآية قبل ذكر تعليم الكتاب والحكمة.
ووجه آخر: لما كان متعلمو العلم على قسمين: صالحون وغير صالحين، والصالح يفيد فيه التعليم، ويبعثه العلم على العمل أكثر من غيره، لصلاحه الذي هو التزكية، وكان صلاحه متقدماً على طلب العلم، فحصلت له الفائدة بذلك، وهذه الأمة اختارها الله على سائر الأمم قبل بعثة نبيها صلى الله عليه وسلم فيها، فلما بعث فيها كانت زاكيةً، كما أشير إليه في الآية بقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً} فقدم الإخبار بالتزكية على التعليم هنا، وأخرت في آية الدعوة الإبراهيمية للاهتمام بطلب تعليم الكتاب والحكمة، على طلب التزكية. والله أعلم بما أراد.
وبهذا تدخل هذه الآية الشريفة أيضاً في علمٍ من علوم القرآن العظيم، وهو نوعٌ من أنواع علم المقدم والمؤخر في كتاب الله عز وجل، وهو أحد وجوه كلام العرب.
وتدخل أيضاً في علم من علوم القرآن وهو علم المتشابه، والمتشابه في القرآن إما يكون في المعنى، أو اللفظ، والأول: ما اشتبهت وجوه المراد منه فلم يتعين المقصود به، قال الله عز وجل: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هن أم الكتاب وأخر متشابهاتٌ}.
فالمحكم المبين الذي ارتفعت عنه وجوه الإجمال والاحتمال. والمتشابه مقابله، وهو الوارد بصفة الإشكال.
وقد اختلف العلماء في تأويل المتشابهات المشار إليها في الآية، فذهب خلق من الأئمة إلى أنه لا يعلم تأويله إلا الله، وممن روي عنه ذلك من الصحابة: عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله ابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبو أمامة الباهلي رضي الله عنهم.
ولم نكلف طلب معناه، وإنما كلفنا الإيمان به لوجهين:(1/236)
أحدهما: ليظهر آثار نقصنا وقصور علمنا عن كمال العلم، كما قالت الملائكة: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا}.
والوجه الثاني: ليختبر الله بذلك حسن طاعتنا وقوة إيماننا في التصديق بذلك والتسليم له، ورد علمه إلى عالمه سبحانه.(1/237)
قال أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في كتابه ((مسند شيوخ الشاميين الثقات)): حدثنا عبيدٌ العجل، حدثنا هارون بن موسى المستملي. وحدثنا محمد ابن عبدوس بن كامل، حدثنا أبو الربيع سليمان ابن داود البغدادي قالا: حدثنا محمد ابن حرب، حدثنا أبو سلمة سليمان ابن سليم، حدثنا أبو حصين، عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن على أربعة وجوه: فوجهٌ حلال وحرامٌ لا يسع أحداً جهالته، ووجهٌ عربي يعرفه العرب، ووجهٌ تأويل يعلمه العلماء، ووجهٌ تأويل لا يعلمه إلا الله، من انتحل منه علماً فقد كذب.
والثاني من المتشابه في القرآن: المتشابه في اللفظ. وقد صنف فيه جماعة من أئمة القراء، ومن أغربها مصنفاً ((كتاب المتشابه)) لإبراهيم بن خالد الدقاق وهو يروي عن أصحاب أبي الوليد الطيالسي، وأبي نعيم(1/240)
الفضل بن دكين وأضرابهما. قال في كتابه المذكور في بابٌ ما في كتاب الله من حرف واحد في ترجمة: ومن سورة آل عمران، قال: وفيها: {إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو}: ليس في القرآن مثله.
يعني الدقاق: والباقي {رسولاً منهم} كما في آية البقرة: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك}، وفي آية الجمعة كذلك: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم}.
وفي آية آل عمران المتشابه أيضاً من وجه آخر، وهو قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم} فلفظة {ويزكيهم} هنا قبل قوله {ويعلمهم الكتاب والحكمة}، وكذلك مرتبتها في سورة الجمعة، وأخرت في آية سورة البقرة بعد قوله: {ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم}. وتقدم توجيه ذلك. والله سبحانه أعلم.
ومن المتشابه أيضاً: ما يجيء على الإطلاق فيرجع فيه إلى المقيد، كقوله تعالى: {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} يرجع فيه إلى قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به}، وإلى قوله تعالى: {وإني لغفارٌ لمن تاب وآمن} الآية.
ومن أنواع المتشابه: أن هذه الآية أشبهت فاتحة الكتاب من وجه، لأن فاتحة الكتاب افتتحت بذكر الله وحمده والإشارة إلى نعمه على خلقه مع الثناء عليه، وختمت بذكر أهل الغضب والضلال ممن ساق الله الشقاوة إليه.(1/241)
وكذلك هذه الآية الشريفة، افتتحت بذكر الله ومنه على المؤمنين بالإنعام ببعثة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وختمت بذكر الإنقاذ من الضلال المبين.
ومن المتشابه: متشابه السور، وهو على قسمين أحدهما: أن تشبه قصة سورةٍ قصة أخرى، كالأنفال وبراءة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قلت لعثمان رضي الله عنه ما حملكم على أن عمدتم إلى براءة وهي في المئين، وإلى الأنفال وهي من المثاني، فقرنتم بينهما ولم تجعلوا بينهما سطراً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطول؟ فقال عثمان رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه من السور التي يذكر فيها كذا وكذا، فإذا أنزلت عليه الآيات يقول: ضعوا هذه الآيات في موضع كذا وكذا، فإذا أنزلت عليه السورة يقول: ضعوا هذه في موضع كذا وكذا، وكانت الأنفال أول ما أنزل عليه بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها تشبه قصتها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين أمرها، فظننت أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أجعل بينهما سطراً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطول.
والقسم الثاني من متشابه السور: في عدد الآي، كسورة الفاتحة وسورة أرأيت: كل منهما سبع آيات، وكسورة يوسف والإسراء والأنبياء، كل منهن مائة آيةٍ وإحدى عشرة آية، وكسورة الجمعة والمنافقين والضحى والعاديات والقارعة، كل منهن إحدى عشرة آية، وكسورة العصر والكوثر والنصر، كل منهن ثلاث آيات؛ وهذا أقل المتشابه من السور في عدد الآي، وأكثر ما في متشابه السور عدداً سورة براءة وطه، كل منهما مائة آية وثلاثون آية.(1/242)
ومن المتشابه في القرآن: الأشباه والنظائر، وقد وقع في هذه الآية الشريفة من ذلك عدة، واستعمال ذلك في الكلام المنثور والمنظوم: من البلاغة، وهو أحد أصناف البيان، ويسمى التصريف، وليس المراد التصريف الذي هو الكلام على أسماءٍ وأفعالٍ يكون فيها أحد حروف العلة التي هي الياء والواو والألف ويجمعها قولك (آوي) المذكور في قول الشاعر:
أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيتٍ قعيدته لكاع
وإنما المراد التصريف الذي هو أحد أصناف البيان الذي ذكرها أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني في كتابه ((ضروب نظم القرآن)) وأبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي صاحب ((المجمل)) في كتابه ((فيما ترجع إليه علوم الإسلام من الفهم والإفهام، وغيرهما، فذكروا من أصناف البيان: التصريف، وهو القليل من اللفظ(1/243)
يعرف من المعاني بزيادة تقع في البناء الأول، وهو على قسمين:
- تصريف المعنى في الدلالات المختلفة، كهذه الآية الشريفة، ذكرت كما تلوناها أولاً في سورة آل عمران: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} الآية، وذكرت في سورة الجمعة: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ظلال مبين}، وذكرت في سورة البقرة في الدعوة الإبراهيمية قال الله تعالى إخباراً: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}.
فآية آل عمران ذكرت تذكيراً لبعض نعم الله على المؤمنين، وحثاً لهم على شكرها، وإشارة إلى إجابة الدعوة الإبراهيمية التي ذكرت في سورة البقرة.
وقد ذكرت آية البقرة إخباراً عن شرف نبينا صلى الله عليه وسلم وأنه دعوة أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وإظهاراً لكرامة هذه الأمة المحمدية.
وآية الجمعة ذكرت بعد تسبيح الله وتمجيده، وتقديسه، وذكر عدة من أسمائه الحسنى، تعظيماً لشأن هذا الرسول المبعوث صلى الله عليه وسلم ، فاختلفت الدلالات في المعنى الواحد.
وهذا هو القسم الأول من التصريف.
- وأما القسم الثاني: فهو تصريف المعنى في المعاني المختلفة، وهو عقدها به على جهة المعاقبة، فالمن يطلق وتصرف معانيه المختلفة بحسب الحال، فقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} هذا من المن الذي هو الإنعام والإحسان ابتداءً بغير سؤال، بل لمجرد من وإفضال.
ومن أسماء الله تعالى (المنان) ولا عبرة بقول من أنكر ورود هذا(1/244)
الاسم في جملة الأسماء الحسنى مطلقاً، لكن إن قيد برواية ليس فيها: سلم، فأسماء الله الحسنى رويت من طرق، وفي بعضها زيادة أسماء على غيرها، وفي بعضها إبدال أسماء بغيرها.
فمن الطرق ما رواه أبو سعيد أحمد بن محمد الأعرابي قال: حدثنا سليمان بن الربيع النهدي، حدثنا خالد بن مخلد القطواني، حدثنا عبد العزيز بن الحصين، حدثنا أيوب وهشامٌ، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) فذكر الأسماء وفيها ((الرب، المنان)).
تابعه جماعة منهم محمد بن عثمان بن كرامة، عن خالد بن مخلد.
وجاء هذا الاسم أيضاً فيما رويناه في ((مسند الإمام أحمد)) و((سنن))(1/245)
النسائي وابن ماجه، وهذا لفظه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، المنان، بديع السماوات والأرض، ذا الجلال والإكرام. فقال: ((لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)).
وقوله تعالى {لقد من}: يدل على أن المن حصل في زمن ماضٍ، لكنه مستمر، كما أشير إليه بلفظٍ يدل على الحال في قوله تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} فهذا لفظه لفظ الحال.
والمن أيضاً: اعتداد المعطي بصنيعته على من أعطاه، فيمن بعطيته عليه تقريعاً له، وهو المذكور في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}.
والمن أيضاً: الطل الحلو الذي ينزل على الأشجار والأحجار، فيكون كالصمغ يجتنى منه ويؤكل، وهو المشار إليه بقوله تعالى:(1/246)
{وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى}، قال مجاهد: المن صمغه، والسلوى الطير.
هكذا علقه البخاري في ((صحيحه)) بغير إسناد، وهو في ((تفسير)) شيخه محمد بن يوسف الفريابي: عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
وعلماء النبات يعدون المنون سبعةً منها المن المذكور، وغفلوا عن الكمأة فلم يذكروها، وقد صح عن سعيد بن زيد رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الكمأة من المن، وماؤها شفاءٌ للعين)).
والمن أيضاً القطع والهدم، ومنه قوله تعالى: {فلهم أجر غير ممنون} فسره جماعة أنه غير مقطوع. وفي ((مسائل نافع بن الأزرق))(1/247)
الحنفي الحروري فقيه الخوارج لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وسأله عن قول الله عز وجل {لهم أجر غير ممنون} فقال ابن عباس: غير مقطوع. قال: هل تعرف ذلك العرب، فقال: قد عرفه أخو بني يشكر حيث قال:
وترى خلفهن من سرعة الرجع ... منيناً كأنه أهباء
يعني الغبار تقطعه قطعاً وراءها، والمنين: الغبار الضعيف، ويقال منين وممنون: كقتيل ومقتول، وجريح ومجروح.
وقول بعض السلف: المن أخو المن: فالمن الأول: امتنان المعطي(1/248)
بالعطية على من أسداها إليه تقريعاً له، والمن الثاني: القطع والهدم، فيكون معنى الأثر أن من من بعطيته فكأنما قطع وصول أجرها إليه، وهدم البناء الذي أسسها عليه، لأن العطية تسر من أسديت إليه وتوجب الأجر لمن أعطاها. والمن يسوء الذي أسديت إليه، ويوجب إثماً على المنان مع حبوط أجره الذي لو لم يمن لكان ثابتاً له. والمنة: القوة، وفي ((كتاب الأضداد)) للتوزي أن المنين يكون القوي أيضاً، فعيلاً، من المنة.
فالمن في هذه المواضع لفظه متشابه، ومعانيه مختلفة، وهذا من تصريف المعاني من اللفظ الواحد.
ومن هذا الباب: قوله تعالى {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً}. فمعنى بعث هنا -والله أعلم- أرسل، يقال: بعثت الرجل في حاجة كذا، وإلى كذا، أبعثه: إذا أرسلته، وبعثته على كذا: إذا أرغبته فيه أن يفعله، ومصدر ذلك كله: البعث.
وله وجوه أيضاً، منها: البعث: الجند يبعثون في الأمر. والبعث أيضاً: النشور من القبور. والبعث: القوم يؤمر بهم إلى مكان، ومنه الحديث: أن آدم عليه الصلاة والسلام يقال له يوم القيامة أخرج بعث النار.(1/249)
والبعث أيضاً: المبعث، ويقال له البعثة أيضاً، وهي رسالة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام المشار إليها بقوله تعالى في هذه الآية الشريفة: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً}.
ومن الأشباه والنظائر أيضاً: الرسول، وهو هنا نبينا محمدٌ عليه أفضل الصلاة والسلام، ويطلق الرسول أيضاً على المبعوث برسالةٍ ما من ذكر أو أنثى، ويطلق على من أرسل من الملائكة بأمرٍ ما، قال الله عز وجل: {الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً} وقوله تعالى: {رسلاً} هو جمع رسول، ويجمع أيضاً على أرسل.
ومن الأشباه أيضاً: قوله تعالى {من أنفسهم} جمع نفس. واختلف في المراد بها هنا، فقيل: العرب، وقيل: المؤمنون، وقال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي: من أنفسهم بالإيمان والشفقة، لا بالنسب، كما يقول القائل: أنت نفسي. انتهى.
وتطلق النفس أيضاً ويراد بها نفس الإنسان وغيره التي يقوم بها جسمه، والخلاف فيها مشهور: هل هي الروح أم لا؟ وقيل: الروح بها الحياة، والنفس بها العقل، وعلى هذا قيل إذا نام: قبض الله نفسه، وإذا مات: قبض الله روحه، وحديث النوم عن صلاة الصبح في الوادي يرد على هذا ويثبت أن الروح والنفس شيء واحد.(1/250)
وتطلق النفس على حقيقة الشيء، وعلى جملته، والنفس أيضاً: العظمة، والعزة، والهمة، والأنفة، والعين المصيبة يقال: أصابت فلاناً نفسٌ، أي: عينٌ، والنفس أيضاً: الخلد والروع يقال: في نفس فلانٍ أن يفعل كذا وكذا، والنفس أيضاً: ملء الكف من الدباغ.
ومن الأشباه: قوله تعالى: {يتلو} معناه هنا: يقرأ، يقال: تلوت القرآن: إذا قرأته، كأنك أتبعت آيةً في إثر آيةٍ قراءةً، والمصدر: التلاوة -بكسر أوله- ويقال التلاوة بالضم لغتان، ويتلو أيضاً: يخبر، يقال: تلا الخبر يتلوه إذا أخبر به، ويتلو الشيء أيضاً يتتبعه، تلواً، فيهما.
ومن الأشباه أيضاً: قوله تعالى {يتلو عليهم آياته}، الآيات هنا فسرت بالقرآن، وآي أيضاً: جمع آية، والآية إنما سميت آيةً لأنها كلام متصل إلى انقطاع، وانقطاع معناه انقطاع قصةٍ ثم قصةٍ. قاله أبو عبيدة(1/251)
في كتاب ((مجاز القرآن)).
والآية أيضاً العلامة، ومنه الحديث: ((آية المنافق ثلاثٌ)). والآية أيضاً: المعجزة.
ومن الأشباه أيضاً في الآية: قوله {ويزكيهم}، أي يصلحهم، فيما ذكره مقاتل بن سليمان وغيره، ومنه قوله تعالى: {ولكن الله يزكي من يشاء}، فالزكاة: الصلاح. والزكاة أيضاً: كلمة التوحيد، كما فسر قوله تعالى {لا يؤتون الزكاة}: لا يشهدون أن لا إله إلا الله. والزكاة أيضاً: التطهير. والزكاة أيضاً: النماء والزيادة. والزكاة: صدقة الفرض المشهورة. والزكاة أيضاً: البركة والمدح. ويقال أيضاً: زكا الرجل صار عدلاً مرضياً. وزكا أيضاً: أخصب. وزكا أيضاً: تنعم.
ومن الأشباه في الآية: قوله تعالى {ويعلمهم الكتاب} المراد به القرآن، وهو بمعنى المكتوب، مصدر سمي به المفعول، ولم يكن(1/252)
مكتوباً وقت نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أنه أطلق عليه ذلك، لكن من قواعد كلام العرب أنهم تارةً يصفون الشيء بما هو ملابسٌ له حقيقةً، نحو: زيد قائم، إذا كان قائماً حالة الإخبار عنه، وتارة يصفون الشيء بما يؤول إليه مجازاً، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((من قتل قتيلاً فله سلبه)) فالقتيل: لا يقتل، وإنما عبر عنه بما يصير إليه، وتارة يصفون الشيء بما كان عليه أولاً، كقول الله عز وجل: {وآتوا اليتامى أموالهم} ولا يسمى اليتيم بعد بلوغه يتيماً إلا باعتبار ما كان عليه.
والقرآن -جل منزله- لم يكن وقت نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم مكتوباً وإنما ذلك باعتبار أنه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ، قال الله عز وجل: {بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ}، ويحتمل أنه سمى كتاباً باعتبار ما يؤول إليه، لأنه جمع بعد نزوله وكتب، والأول أظهر، لأن أبا بكر الصديق وغيره رضي الله عنهم لما امتنعوا من كتابة القرآن حين اجتمعوا عند أبي بكر رضي الله عنهم لجمعه، لو فهموا عن الله عز وجل أن الكتاب سمي بذلك باعتبار مصيره مكتوباً في المستقبل(1/253)
ما امتنعوا من الكتابة أولاً. والله أعلم.
ويطلق الكتاب أيضاً على الحكم، وبه فسر قول الله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} أي: في حكمه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((لأقضين بينكما بكتاب الله)). والكتاب أيضاً: الفرض، ومنه قوله تعالى: {كتاباً موقوتاً} وكتب الشيء: قضاه، وجعله، وأمر به، وفرغ منه، وقدره، وأحصاه، وغير ذلك من الوجوه.
ومن الأشباه أيضاً في الآية: قوله تعالى {والحكمة} هي هاهنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبذلك فسره ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه عنه مجاهد، وروي عن قتادة وآخرين، وبه قال إمامنا الشافعي رضي الله عنه، فقال في كتابه ((الرسالة)) من كتابه ((الأم)) -وهو أولها-: وقد فرض الله تعالى على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم فقال في كتابه: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم}.(1/254)
[12] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
ذكر الله عز وجل المؤمنين بنعمة عظمية من أمهات نعمه، وما أفاضه عليهم من بحار كرمه، وهي بعثة هذا الرسول سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وما حصل على يديه من الإنعام والإكرام، من ذلك: تلاوة آيات الله علينا أيها المؤمنون، إما: بغير واسطة لمن شاهدوا التنزيل، وكانوا يسمعونه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وعنه يأخذون. وهؤلاء هم السادة الصحابة خير القرون.
وإما: تلاوة الآيات بواسطة الصحابة مع بعضهم، ومع التابعين، وبواسطة التابعين لمن لم يسمع من الصحابة، وهلم جراً، إلى أن تليت علينا الآيات العظام، وتلقيناها سماعاً وتلاوة ممن أدركنا من الأعلام، وهكذا تتلى على من يأتي بعد من المؤمنين، إلى أن يرفع القرآن من صدور المسلمين.(1/255)
وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى -والله أعلم-: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته}.
والتلاوة -بكسر المثناة فوق، وضمها، لغتان- ومعناها إتباع بعض القرآن بعضه قراءةً. والآيات هنا فسرت بالقرآن، وتلاوته أحد علوم القرآن العظيم، وعلومه كثيرة الأنواع، ترجع إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: تلاوته بالإتقان، وتصحيح الإعراب، وحسن الأداء، ومنه الواجب والمستحب.
فمن الواجب: تصحيح التلاوة من اللحن الجلي، مثل تغيير الإعراب، لاسيما إذا غير اللحن المعنى، وكإخراج الحرف من غير مخرجه، وربما تغير به المعنى، وكذلك عدم أصل التشديد.
ومن المستحب: تصحيح التلاوة من اللحن الخفي، كترك المد المتفق عليه، وأحكام النون الساكنة والتنوين، ونحو ذلك من الترقيق والتفخيم.(1/256)
فهذا أحد أقسام علوم القرآن معرفة تلاوته المشار إليها بقوله تعالى: {يتلو عليهم آياته}.
والثاني: معرفة وجوه القراءات المأخوذة عن الأئمة، كالسبعة،(1/257)
وما يتعلق بذلك.
والثالث: معرفة تفسيره واستنباط أحكامه، كما هو من شروط المجتهد.
وهذا القسم هو غاية علومه، لأنه المقصود لمعرفة المتكلم به سبحانه، وما يتعلق بتوحيده وإخلاص الدين له، وكيفية عبادته سبحانه، كما أشار الله تعالى إليه بقوله: {يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
ومعنى التزكية: الإصلاح -والله أعلم- لأنه بتلاوة القرآن على المؤمنين انفتحت لسماعه آذانهم، وانشرحت لفهمه صدورهم، فصلحت بالتزكية، فتعلموا حينئذ الكتاب -وهو القرآن المتلو على المؤمنين-.
والحكمة -وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً- فصاروا بذلك من المهتدين، كما أشار إليه سبحانه بقوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} أي: {من قبل} أن يبعث الله فيهم هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بما بعثه به {لفي ضلال} وهو عدم الرشاد والهدى {مبين} أي: بين ظاهر. والله أعلم.
فأي نعمةٍ توازي هذه النعم! وأي فضل يوازي هذا الفضل والكرم!.
وفي قول الله عز وجل: {إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته} أي القرآن الذي أنزله الله عليه. ونزول القرآن كان في شهر رمضان، كما قال الله عز وجل: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}(1/260)
فقيل: ابتداء نزوله كان في شهر رمضان، ثم نزل مفرقاً في رمضان وغيره، وقيل: كان النزول في الشهر جملةً واحدةً، كما قال الله عز وجل: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} وهي الليلة المباركة عند الجمهور المشار إليها بقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على ذلك، جمعاً بين الآيات الثلاث وبين ما علم نزوله في غير شهر رمضان، وهو ما خرجه الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتابه ((أسماء الله تعالى وصفاته الواردة في الكتاب والسنة)) من حديث السدي، عن محمد بن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سأله عطية بن الأسود فقال: إنه قد وقع في قلبي الشك، قول الله عز وجل: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} وقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}، وقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} وقد أنزل في شوال، وذي القعدة، وذي الحجة -يعني وغير ذلك من الأشهر- فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه أنزل في رمضان، وهي ليلة القدر، وفي ليلة مباركة، جملةً واحدةً، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام.
ومعنى رسلاً أي رفقاً، وقوله صلى الله عليه وسلم : على مواقع النجوم: أي على مثل مساقط النجوم يتلو بعضه بعضاً على تؤدة ورفق.
وروينا في كتاب ((فضائل القرآن)) لأبي عبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا يزيد، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن جملةً واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، وقرأ: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً}. قال أبو عبيد: لا أدري كيف قرأه يزيد -يعني(1/261)
ابن هارون شيخه في حديثه- إلا أنه لا ينبغي أن يكون على هذا التفسير إلا فرقناه -بالتشديد-. والحديث خرجه الحاكم في ((مستدركه)) -دون قول أبي عبيد- وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
والسر في إنزال القرآن جملةً واحدة إلى سماء الدنيا، ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً: أن الكتب المنزلة قبل نزول القرآن أنزلت إلى الأرض جملةً واحدة، فحصل للنبي صلى الله عليه وسلم ما حصل للأنبياء الذين أنزل الله عليهم كتبه جملة واحدة، فأنزل القرآن جملةً واحدةً، ووضع في بيت العزة من سماء الدنيا، ثم زاده الله على الأنبياء نزول القرآن مفرقاً بعد نزوله جملةً، فكان نزول القرآن مرتين.
والمرة الأولى التي نزل فيها جملة: هل كانت بعد ظهور نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أم قبلها؟ كل منهما محتمل، وعلى كل فيه تفخيمٌ عظيمٌ للنبي صلى الله عليه وسلم إن كان بعد ظهور النبوة، وإن كان قبلها ففائدته أظهر وأكثر، لأن فيه إعلام الملائكة بقرب ظهور أمة النبي صلى الله عليه وسلم الأمة المرحومة الموصوفة في الكتب السالفة، وبإرسال نبيهم أحمد خاتم الأنبياء، وأرق الرحماء، خاتم النبيين، والمرسل رحمةً للعالمين، الذي أمر بالتراحم ورغب فيه، ووعد الثواب للراحم من جنس ما يعطيه، فقال في أحاديث منها ذلك الحديث العظيم الشان ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) الذي رويناه فيما تقدم من طرق ثمانية إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه طريقٌ تاسعة، هي لما قبلها تابعة.
أخبرنا الإمام أبو العباس أحمد بن أبي محمد بن موسى الحاكم، وهو أول حديث سمعته منه بمنزله بدمشق، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أبي بكر بن محمد الثغري، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا يحيى ابن محمد بن الحسن بن عبد السلام، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبي أبو بكر محمد بن الحسن، وهو أول حديث سمعته منه،(1/262)
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد الأصبهاني، وهو أول حديث سمعته منه وأنا حاضر، أخبرنا جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن جعفر ابن السراج، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو نصر عبيد الله الوائلي بمكة، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا حمزة بن أبي محمد بنيسابور، وهو أول حديث سمعته منه بقراءتي عليه، أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا عبد الرحمن بن بشر، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا سفيان بن عيينة، وهو أول حديث سمعته من سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاصي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)).
وأنبأناه أعلى من هذا بدرجة المسند الكبير أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله النعالي، عن الحافظ العلامة أبي محمد عبد المؤمن ابن خلف الدمياطي قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد السلام في الرحلة الثانية إلى ثغر الإسكندرية سنة تسع وثلاثين وستمائة، وهو أول حديث سمعته منه فذكره.
وبالإسناد إلى أبي طاهر قال: قال لي ابن السراج: لما دخلت مصر حضرت مجلس أبي إسحاق الحبال فأخرج لي هذا الحديث وكان يرويه عن أبي نصر فقلت: هو سماعي منه. فقال: أقرؤه فتسمعه أنت مني، وأسمعه أنا منك، فقرأه رحمه الله.
هذا حديثٌ حسنٌ عالٍ من حديث أبي محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران: ميمون الهلالي مولاهم، الكوفي الأصل، المكي الدار، عالم الحجاز. وكان أعور العين، أدرك من التابعين ستة وثمانين، وتفرد مدة عن الزهري وعمرو بن دينار، في آخرين.
ولما مات الزهري سنة أربع وعشرين ومئة كان لابن عيينة من العمر(1/263)
سبع عشرة سنةً، وحين مات عمرو بن دينار في سنة ستٍ وعشرين ومائة كان لابن عيينة إذ ذاك تسع عشرة سنةً.
قال البخاري: قال لنا علي، عن ابن عيينة: ولدت سنة سبعٍ ومائة، وجالست الزهري وأنا ابن ستة عشر سنة وشهرين ونصفٍ. رواه في ((تاريخه الكبير)).
وكان قد رأى في حياة شيوخه في المنام كأن أسنانه كله سقطت، فقص رؤياه على شيخه الزهري فقال: تموت أسنانك -يعني أقرانك- وتبقى أنت. قال سفيان: فماتت أسناني وبقيت.
وروي أن سفيان لما تفرد تمثل وأنشد:
خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد
هذا، والشافعي يقول عنه: ما رأيت أحداً فيه من آلة العلم ما في سفيان، وما رأيت أحداً أكف عن الفتيا منه!
وقال ابن المديني: ما بقي على وجه الأرض أحدٌ يشبهه.
وقال ابن وهب: ما رأيت أعلم بكتاب الله منه.
وأثنى عليه الأئمة، وكان أحد علماء الأمة، وكان له أخوة تسعة هم به عشرة، منهم: محمد، وآدم، وعمران، وإبراهيم، وسفيان، وكلهم محدثون، وسفيان أجل العشرة قدراً، وأشهرهم ذكراً.
مولده بالكوفة للنصف من شعبان سنة سبع ومائة ثم نقله أبوه إلى(1/264)
مكة، ثم دخل الكوفة وقد ناهز عشرين سنة فقال أبو حنيفة لأصحابه: جاءكم حافظ علم ابن دينار، فجاء الناس إليه يسألونه عن عمرو بن دينار. قال ابن عيينة: فأول من صيرني محدثاً أبو حنيفة، فذاكرته.
وقد روي أن أول من أخذ عنه من أهل الكوفة مسعر بن كدام. قال أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي: سمعت ابن عيينة يقول: أول من جاءني يطلب مني الحديث مسعر.
توفي مسعر سنة خمس وخمسين ومئة قبل وفاة سفيان بثلاث وأربعين سنة.
توفي سفيان سنة ثمان وتسعين ومئة بمكة، ودفن بالحجون وقبره ظاهر يزار، وحج سبعين حجة.
وهذا الحديث معروف به، وهو من أفراده عن عمرو بن دينار.
وهو أبو محمد المكي الجمحي الأثرم، مولى موسى بن باذان مولى بني جمح، ويقال مولى باذان والد موسى المذكور، وقيل باذان مولى بني مخزوم، ويقال هو مولى باذان عامل كسرى على اليمن.
قال أحمد بن حنبل: كان مولى فشرفه الله بالعلم. يعني عمراً.
وهذا غير عمرو بن دينار الأعور قهرمان آل الزبير، والقهرمان هذا(1/265)
متأخرٌ عن عمرو بن دينار المكي الأثرم مولى عبد الله بن عمرو حساً ومعنىً، لأن المكي لقي عدةً من الصحابة، منهم ابن عباس، وجابرٌ، وأبو شريح الخزاعي، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، والقهرمان ليس له صحابي يروي عنه، إنما يروي عن سالم بن عبد الله بن عمر.
وأما تأخر القهرمان معنىً: فهو ضعيف، قال البخاري: فيه نظر، وقد ضعفه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، ويحيى بن معين، والترمذي وغيرهم.
وعمرو بن دينار المكي التابعي من كبار الثقات، ولقد حدث عنه سفيان بن عيينة مرةً فقال: حدثنا عمرو بن دينار وكان ثقةً ثقةً ثقةً ثقةً، وحديثاً أسمعه من عمرو أحب إلي من عشرين من غيره.
وذكر بعضهم عمرو بن دينار ثالثاً وهو أبو خلدة الكوفي، من شيوخ(1/266)
سيف بن عمر صاحب ((الفتوح)) و ((الردة)). وهذا من المتفق والمفترق، وهو أحد الأنواع التي يدخل فيها الحديث.
وأول الثلاثة عمرو بن دينار المكي: أمثلهم، وقد تفرد بالحديث عن أبي قابوس.
والصحيح فيه أن اسمه كنيته، وزعم ثابت بن محمد المديني أن اسمه المبرد قال الذهبي فيما أخبرنا وحدثنا عنه: ومن زعم أن اسمه المبرد فقد تبارد. لكني قلت: وقول ثابت ليس بثابت.
وشيخ أبي قابوس مولاه: عبد الله بن عمرو بن العاصي بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي السهمي، أبو محمد، وقيل أبو عبد الرحمن، وقيل أبو نصير، وهو وأبوه، وأمه ريطة بنت منبه بن الحجاج السهمية صحابةٌ رضي الله عنهم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: ((نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله)) رضي الله عنهم.(1/267)
ولم يكن بين عبد الله وأبيه في السن سوى إحدى عشرة سنةً وقيل اثنتي عشرة سنةً.
أسلم عبد الله قبل أبيه، وكان اسمه كاسم جده: العاصي، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، وكان رجلاً طوالاً، أحمر، عظيم البطن، أبيض الرأس واللحية، وكان أحد فقهاء الصحابة وحفاظها، مع ورع وصلاح وعبادة، سخياً كريماً متواضعاً.
اختلف في وفاته ومكانها، فقيل: سنة ثلاث وستين، وقيل سنة ثمان وستين، وقيل سنة ثلاث وسبعين، بمكة وقيل بالطائف، وقيل بمصر، وقيل بفلسطين. وكان من المكثرين أصحاب المئين، قيل روى سبع مئة حديث، أخرج له في الصحيحين خمسة وأربعون حديثاً، المتفق عليه فيهما سبعة عشر حديثاً، وانفرد البخاري بثمانية أحاديث، وانفرد مسلم بعشرين حديثاً، وله في السنن عدة، وخرج له .. .. مسنداً مفرداً.
وحديثه هذا حسن، كما تقدم، وصححه الترمذي، وهو من الأفراد.(1/268)
ومن لطائف سنده: رواية الأقران عن أقرانهم، وهو على ثلاثة أجناس، منها المدبج: رواية كل من القرين عن الآخر، لأن ابن السراج سمعه من لفظ أبي إسحاق الحبال، حدثه به عن أبي نصر الوائلي، وسمعه ابن الحبال بقراءته على ابن السراج عن أبي نصر.
ومن لطائف السند أيضاً: أنه يدخل في نوع من أنواع الحديث، وهو أن يأتي نسب رجل يقرأ من آخره كما يقرأ من أوله لا يتغير نطقاً ولا خطاً، لكن لم يذكره أحد في الأنواع، ولا أفرد بالتأليف فيما أداه إلي السماع، مع أن الحافظ أبا موسى المديني صنف أنواعاً لطائف في الأسانيد منها: المتفق من الأسماء على نسقٍ، ولم يعرج على هذا النوع الذي ذكرته، وقد لقبته: ذكر من له نسب يستقيم إذا انقلب، ووقع منه في هذا السند رجلان: أحدهما: أبو محمد ابن السراج فهو جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن جعفر.
والثاني: الراوي عنه، وهو أبو طاهر الأصبهاني أحمد بن محمد بن أحمد.
وقد وقع لي عدةٌ صالحةٌ من هذا النوع، فمن المتقدمين: الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر القرشي الجمحي صحابي ابن صحابي، ولد بالحبشة، ومات أبوه بها مهاجراً، وسعيد بن العاصي أبي أحيحة بن سعيد بن العاصي بن أمية بن عبد شمس الأموي المدني، كان من أشراف قريش وأجوادهم وفصحائهم، وأحد من كتب المصاحف لعثمان، كان يقال له: عكة العسل، له صحبة وروايةٌ مرسلة، ولي الكوفة، وافتتح طبرستان، وقيل: وجرجان أيضاً، وولي المدينة زمن معاوية.
ووقع لي من هذا أيضاً عدة من شيوخنا، منهم: محمد بن محمد بن محمد بن عثمان بن محمد بن محمد بن محمد بن الغلفي، حدثنا عن العفيف إسحاق الآمدي، وأحمد بن الشحنة أبي طالب. ومنهم: أحمد(1/269)
ابن علي بن محمد بن علي بن أحمد الحنفي ابن قاضي الحصن، حدثنا عن الحافظ المزي وآخرين.
هذا بعض ما يتعلق بسند هذا الخبر.
وأما فوائد متنه: 1- فمنها: أن أسماء الله الحسنى يدعا بها رغباً ورهباً وغير ذلك، والأبلغ في إجابة الدعاء بواحد من هذه الأسماء أن يكون الاسم المسئول به دالاً على السؤال، إما باشتقاق أو نحوه من غير مثال، كمن يسأل في تدبير مصالحه رفقاً بلا تكليف، فيقول يا بر يا لطيف، والشاهد لذلك من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ((الراحمون يرحمهم الرحمن))، وهو يحتمل أمرين: إما أن يكون معناه الخبر، كلفظه، وإما أن يكون لفظه لفظ الخبر، ومعناه الدعاء، كقولهم: رضي الله عنه، رحمه الله، غفر الله له، ومعناه على هذا الوجه: الراحمون أسأل أن يرحمهم الرحمن.
2- ومن الفوائد أيضاً: قول سفيان: عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكر الحديث.
وفيه لفظان من ألفاظ الأداء:
أحدهما: ((عن)) وهي متصلة بإجماع أئمة النقل، على تورع رواتها عن التدليس، قاله الحاكم أبو عبد الله. ولفظة ((عن)) هي أعلى من لفظة ((قال)) التي هي أقل عبارات الأداء مرتبةً، كما أن أعلى عبارات الأداء مرتبةً لفظة ((سمعت)).(1/270)
والثاني: لفظة ((أن)) وحكمها حكم ((عن)) عند الجمهور، كما حكاه عنهم ابن عبد البر، وقال أبو بكر البرديجي: حرف ((أن)) محمول على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى. قال ابن عبد البر لما حكى هذا: وعندي لا معنى لهذا. انتهى.
وقول عبد الله بن عمرو: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكر الحديث، قد جاء التصريح بالسماع من طريق أخرى، وهي قول عبد الله في بعض طرق الحديث: ((وهذا أول حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خطبة الوداع)). وما حكاه ابن عبد البر عن الجمهور يشعر أنه لا فرق بين ((عن)) و ((أن)). وقد عقد الخطيب في كتاب ((الكفاية)) باباً للفرق بين ((أن)) و((عن)) وروى عن أبي بكر الخلال قال: أخبرنا سليمان بن الأشعث قال: وسمعت أحمد قيل له: إن رجلاً قال: قال عروة: إن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله. وعن عروة عن عائشة، سواءٌ؟ قال: كيف هذا سواء؟! ليس هذا سواءً.
وروى أبو بكر الخطيب مثل ذلك من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن عمر رضي الله عنه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أينام(1/271)
فظاهر الطريق الأولى -فيما ذكره الخطيب- أنها من مسند عمر، والثانية أنها من مسند ابن عمر -فيما ذكره الخطيب- وقد أدخل الثانية في مسند عمر محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني في ((مسنده)) وفعله غيره.
3- ومن فوائد متن هذا الحديث: أن الدعاء بالأسباب أبلغ في الإجابة، كمن أراد الله أن يستره فليستر مسلماً، أو أن يسره فليدخل السرور على مسلم، أو يرحمه الله فليرحم عباده، كما في هذا الحديث: ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) الحديث.
4- ومن فوائد الحديث: أن ظاهره يقتضي أن قوله ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) كقوله ((ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)) لأن معناهما واحد، وهو حصول الرحمة من الله لمن يرحم عباده، لكن لما ذكر الثاني بلفظ غير الأول حسن التكرار مع إفادة المعنى، وقد يكون الأول لأحد القسمين من الراحمين، والثاني للآخر منهم، فأحد القسمين من لم يبلغه النص في ثواب الرحمة لخلق الله، فأول الحديث لهذا القسم، لأنه لا بد لهم من الثواب وإن لم يعلموا النص عليه، لقوله(1/272)
صلى الله عليه وسلم : ((الراحمون يرحمهم الرحمن))، والقسم الثاني من بلغهم النص في ثواب الرحمة، فخوطبوا بقوله صلى الله عليه وسلم : ((ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)).
ويحتمل أن الرحمة لما كانت تصدر من المؤمنين والكفار، والله لا يضيع عمل عامل: أما الكفار فيجازيهم في الدنيا بحسناتهم حتى يلقوا الله ومالهم حسنة يجزون بها، فأول الحديث يتناولهم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) لأن الرحمن ذو الرحمة الشاملة التي عمت المؤمن والكافر، والصالح والطالح في الدنيا، وآخر الحديث خاص بالمؤمنين. ولهذا -والله أعلم- خاطبهم بقوله: ((ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)).
5- ومن فوائد الحديث: أن من سمعه وعمل به إيماناً بالله واحتساباً للثواب الموعود به فيه زكى الله عمله، وبلغه من الثواب أمله، وكان من أهل السنة التي وعد الله متبعها بالجنة، كما أن من ابتدع، وأعرض عن السنة وما اتبع، فقد دنا حتفه، ورغم بإعراضه أنفه.
وقد أخبرنا جماعة من الشيوخ منهم: أم يوسف فاطمة ابنة المحتسب أبي عبد الله محمد، بقراءتي عليها، قالوا: أخبرنا أبو العباس أحمد بن أبي طالب البياني، قراءةً عليه ونحن نسمع، أخبرنا عبد الله بن عمر(1/273)
البغدادي إجازةً إن لم يكن سماعاً، أخبرنا أبو الفتوح محمد بن محمد ابن علي، أنشدنا الزاهد أبو عبد الله محمد بن أميرجه بن أشعث الهروي، أنشدنا أبو الحسن علي بن الحسين بن حمزة، أنشدنا السيد أبو الحسن المغربي لنفسه.
أفق واطلب لنفسك مستواها ... ودع عصباً قد اتبعت هواها
وسنة أحمد المختار فالزم ... وعظمها وعظم من رواها
وإن رغمت أنوفٌ من أناسٍ ... فقل يا رب لا ترغم سواها
آخر المجلس ولله الحمد حمداً كثيراً دائماً
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم(1/274)
[13] بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآله وصحبه وسلم ويسر
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
هذه الآية الشريفة فيها معانٍ لطيفة، وأحكامٌ عالية منيفة، تقدم ذكر بعضها في المجالس الماضية، ونذكر الآن ما تيسر من المعاني الباقية، بعد ذكر مقدمة، هي كالمدخل إلى ذلك معلمة، وهي أن كل كلام مفيد إذا طرق السمع من قريب أو بعيد يحصل به العلم.
والعلم يطلق لغةً واصطلاحاً على أمور، أولها: الشعور، وهو أول مراتب العلم، فإذا شعر الإنسان بشيء فقد علم به، ومما يطلق العلم عليه الإدراك، والتصور، والحفظ، والتذكر، والذكر، والفهم، والفقه، والدراية، واليقين، والذهن، والفكر، والحدس، والذكاء، والفطنة، والكيس، والرأي، والتبين، والاستبصار، والإحاطة، والعقل، والحسبان.
فكل من هذه الأمور يطلق العلم عليه، وإذا حصل العلم بكلام مفيد يتعلق النظر فيه بأطرافٍ من وجوه معانيه.
فمن أطرافه: بيان معاني ألفاظه المفردة من حيث المدلول، وهو علم اللغة كلفظة:(1/275)
- ((من)) المذكورة في الآية، فمعناها أحسن وأنعم، وقيل: أوسع في العطاء وأعظم، وقيل: ابتدأ بالنوال قبل السؤال وأكرم.
و((من)) في غير هذا الموضع لها وجوه، منها: اعتداد المعطي بصنيعته على المعطى تقريعاً له، وبه فسر قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}.
ومنها: الطل الحلو، المشار إليه في قوله تعالى: {وأنزلنا عليكم المن والسلوى}.
ومنها: المن: القطع والهدم، ومنه قوله تعالى: {فلهم أجرٌ غير ممنون} فسره جماعة بأنه غير مقطوع.
- وكذلك قوله تعالى: {إذ بعث} فـ ((بعث)): لها وجوه، منها: بمعنى أرسل، وبمعنى: أيقظ، قال الله عز وجل: {وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم} أي: أيقظناهم، والبعث: النشور من القبور، ومنه قوله تعالى: {والموتى يبعثهم الله}.
- وكذلك قوله تعالى: {من أنفسهم} فالنفس تطلق ويراد بها أمور.
- وكذلك: الآيات، والتزكية، والكتاب، والحكمة، كل له عدة وجوه في كلام العرب.
ومن الأطراف التي يتعلق بها النظر في الكلام: حكم تركيب الألفاظ واختلافها على وفق كلام العرب، وهذا علم الإعراب، كرفع الاسم(1/276)
الشريف في قوله تعالى: {لقد من الله} والجر في قوله تعالى: {على المؤمنين} والنصب في قوله تعالى: {إذ بعث فيهم رسولاً} واعتبار العوامل فيما ذكر وألقابها، وما في الآية من الأسماء والأفعال والحروف، والمعرب من ذلك والمبني.
ومن الأطراف التي يتعلق بها النظر في الكلام: معرفة ما تدل عليه الألفاظ، وهو علم الأحكام، ومن أحكام الآية: إثبات النبوات وبعثة الرسل، ووجود الملائكة، ووجوب الشكر واستدعاؤه، وذكر النعم على سبيل التعريف لا على جهة التقريع والتعنيف، وغير ذلك مما يؤخذ من منطوق الآية ومفهومها.
ومن الأطراف أيضاً: اعتبار ضروب نظم الألفاظ التي أفادها التركيب، وهذا علم المعاني والبيان الذي هو أحد أقسام البلاغة التي هي: إيصال المعنى المقصود إلى القلب بأحسن ما يكون من اللفظ وأجوده، وهي على وجوهٍ منها: البيان الذي من أقسامه الاعتبار، فإذا اعتبرنا قوله تعالى {لقد من الله على المؤمنين}: علمنا أنه أنعم عليهم وأحسن إليهم، ثم ننظر في معنى المن على أحد وجوهه، فنعلم أنه سبحانه ابتدأهم بالإنعام بلا سؤال، ثم نعتبر وجوه إنعامه فنعلم أنها لا تحصى، كما جاء النص بذلك في قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}، وحينئذ يصير الفكر ملتفتاً إلى ذكر ما من الله به سبحانه على المؤمنين، فنسمع قوله تعالى: {إذ بعث فيهم رسولاً}، فيميل الفكر إلى هذا الرسول: ممن هو؟ فنجد قوله الله عز وجل بياناً لذلك: {من أنفسهم}.
ثم نعتبر فائدة البعثة فنراها لجلب المنافع ودفع المضار، وذلك مذكورٌ في هذه الآية الشريفة، فجلب المنافع في قوله تعالى: {يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} وأما دفع المضار ففي قوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.(1/277)
وإذا اعتبرنا قوله تعالى {من قبل}: ظهر لنا أن الإيمان لم يحصل للمؤمنين في الوجود الخارجي إلا من هذه البعثة، لقوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
ومن الأطراف التي يتعلق بها النظر في الكلام: اعتبار الوسائط بين القائل والناقل، وهذا علم الإسناد الذي هو من دين الإسلام، وبه حفظت الشريعة، فلولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
ولا فرق بين الإسناد والسند عند الجمهور، وعند غيرهم: أن الإسناد رفع الحديث إلى قائله، وكأنه من أسند في الجبل: إذا صعد فيه وعلا على سفحه، والسند: الإخبار عن طريق المتن الذي من معانيه: ما صلب من الأرض وارتفع منها.
ويطلق على المتن: الخبر، والأثر، والحديث، فالجمهور يستعملون هذه الألفاظ بمعنى ما جاء من المروي مرفوعاً وغير مرفوع، وقد فرق قوم بين الخبر والأثر، ففي اصطلاح الفقهاء الخراسانيين أن ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم يسمى بالأثر، والمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم : بالخبر، كما حكاه عنهم من المتأخرين شيخ الإسلام أبو زكريا النووي وغيره.
وجاء عن آخرين تخصيص الخبر بما جاء غير مرفوع، وإطلاق الحديث على المرفوع.
وجعل بعضهم بينهما عموماً من وجه وخصوصاً من وجه آخر، فيطلق الحديث على الخبر، ولا يطلق الخبر على الحديث.
ومعنى الحديث لغةً في الأصل: ضد القديم، ويطلق على الخبر قليله وكثيره، لأنه يحدث شيئاً فشيئاً، فسمي حديثاً، وجمعه أحاديث، قال يحيى بن زياد الفراء: نرى أن واحد الأحاديث أحدوثة، ثم جعلوه جمعاً(1/278)
للحديث، حكاه أبو نصر الجوهري.
وأما معنى الحديث اصطلاحاً: فالأقرب أنه: نقل ما حدث من النبي صلى الله عليه وسلم قولاً له أو فعلاً، وبمعنى نقل ذلك الخبر والأثر، ولهذا استعمل الجمهور الحديث والخبر والأثر بمعنى واحد.
وناقل ذلك: هو الوسائط التي اعتبارها أحد الأطراف التي يتعلق بها النظر في الكلام.
وللوسائط شروط: أحدها: العدالة، بإجماع أهل العلم، كما حكاه أبو بكر الخطيب في ((الكفاية)) على أنه لا يقبل إلا خبر العدل.
وأول شروط العدالة: الإسلام، وأجل الأخبار أخبار الدين، ومعظمها الكتاب والسنة، وناقلوهما هم الوسائط.
ومأخذ ذلك من مفهوم هذه الآية الشريفة، لأنها وصلت إلينا مع جملة القرآن -ولله الحمد- بالإسناد الصحيح المتواتر المجمع عليه بنقل الوسائط الثقات الضابطين، عن أمثالهم كذلك، حتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن عن جبريل عليه الصلاة والسلام، عن رب العالمين عز وجل، قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته} وهي القرآن، تلقاه منه المؤمنون حين تلاه عليهم، وهم الصحابة خير القرون، وأخذه عنهم التابعون، وهلم جراً، حتى انتهى علم ذلك إلينا، وحصلت بركاته لدينا، وفاضت أنواره علينا.
وأعلى الوسائط في ذلك: الصحابة رضي الله عنهم، وتعريف الصحابي فيه أقوالٌ، أجمعها: أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم في حياته،(1/279)
بعد المبعث، من المسلمين، ممن يعقل، ثم مات مسلماً.
وجميع الصحابة رضي الله عنهم عدولٌ، وهم على طبقات، من الأئمة من جعلهم خمس طبقات، كأبي عبد الله محمد بن سعد:
فالأولى: السابقون والبدريون.
والثانية: أصحاب أحد وما بعدها من المشاهد.
والثالثة: أصحاب الخندق وما بعدها.
والرابعة: مسلمة الفتح ومن بعدهم.
والخامسة: من لم يغز مع النبي صلى الله عليه وسلم وتوفي عنهم وهم أطفال، منهم من له رؤية وبعض رواية، ومنهم من له رؤية فقط.
وجعلهم الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري ثنتي عشرة طبقة:
أولها: من أسلم بمكة كأبي بكر والسابقين.
وآخرها: من له رؤية فقط.
والكل يشملهم اسم الصحبة، كما أن من لقيهم يقال لهم التابعون،(1/280)
ورتبهم مسلم بن الحجاج صاحب ((الصحيح)) على ثلاث طبقات على البلدان بعد ترتيب الصحابة.
فمن الطبقة الأولى من التابعين: كبارهم، وهم المخضرمون -بالخاء المعجمة على الصحيح وفتح الراء وحكي كسرها- واشتقاق هذا اللقب من قولهم: لحم مخضرم -بفتح الراء- لا يدرى لحم ذكر هو أم أنثى.
وقيل: هو من الخضرمة، وهي القطع، فكأن التابعي المخضرم قطع عن أقرانه الذين لقوا النبي صلى الله عليه وسلم فحصلت لهم الصحبة وفاته ذلك دونه، فالمخضرم: من أدرك الجاهلية والإسلام فلم يسلم إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو موسى محمد بن أبي بكر المديني: فإن جماعة في أحياء العرب كانوا قد أسلموا ولم يهاجروا، فخضرموا آذان إبلهم لتكون علامة لإسلامهم فلا يغار عليهم ولا يقاتلون، فسموا: مخضرمين، وأصحاب الحديث يفتحون الراء. قاله في كتابه ((التتمة)).(1/281)
وقيل: المخضرم من أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يره.
والقول الأول المشهور وعليه الجمهور: أن المخضرم من أدرك الجاهلية والإسلام فلم يسلم إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد ذكر مسلم بن الحجاج رحمة الله عليه المخضرمين فبلغ بهم عشرين، وهم يزيدون على مائة وأربعين مخضرماً، عد منهم جماعة في الصحابة، وهذه أسماؤهم مختصرة على حروف المعجم.(1/282)
أسلم مولى عمر، الأسود بن هلال المحاربي، الأسود بن يزيد النخعي، أمية بن الأشكر الجندعي، أوس بن ضمعج الحضرمي، أوس ابن مغراء الفريعي، أوسط البجلي، أويسٌ القرني، بشير بن يزيد -على خلاف في اسمه واسم أبيه- ثمامة بن حزن القشيري، جبير بن نفير الحضرمي، جبير بن الحويرث القرشي، جشيش الديلمي، جعدة بن هاني الحضرمي، جفينة الجهني، الحارث بن عبد كلال اليمامي، حارث بن كعب حازم بن أبي حازم أخو قيس، حجر بن العنبس، حنظل بن ضرار، خافر بن التوءم الحميري، خالد بن عمير العدوي، دغفل بن حنظلة النسابة، ذؤيب بن كليب الخولاني، ذو عمرو اليماني، ذو الكلاع اليماني، ربعي بن حراش، ربيعة بن زرارة، رحيل بن زهير الجعفي، رفيع أبو العالية الرياحي، الزبير بن عبد الله الكلابي، زر بن حبيش، زرعة بن سيف الحميري، زهير بن خيثمة، زياد بن جهور، زيد ابن وهب الجهني، سعد بن إياس أبو عمرو الشيباني، سعر الكناني، سعيد بن حيدة القشيري، سعيد بن وهب الخيواني، سفيان الدؤلي، سليم بن عامر، سويد بن غفلة، سيف بن ذي يزن والد زرعة المذكور قبل، سيف بن مالك الرعيني، شبيل بن عوف الأحمسي، شتير بن شكل، شداد بن الأزمع، شرحبيل بن عبد كلال، شربة بن عبد الله،(1/284)
شهر بن باذام، الصبي بن معبد، صعصعة بن صوحان، ضبة بن محصن الغنوي، ضغاطر الأسقف، طريح بن سعيد الثقفي، طفيل بن زيد، عابس بن ربيعة، عبد خير بن يزيد الخيواني، عبد الله بن ثوب أبو مسلم الخولاني، عبد الله بن خليفة الهمداني، عبد الله بن أبي رهم اليماني، عبد الله بن سخبرة أبو معمر، عبد الله بن سلمة الهمداني -بفتح اللام من سلمة-، عبد الله بن سلمة -بكسر اللام- المرادي، عبد الله بن عكيم الجهني، عبد الله بن عميرة، عبد الله بن هاني الكندي، عبد الله بن فضالة الليثي، عبد الرحمن بن عسيلة أبو عبد الله الصنابحي، عبد الرحمن بن غنم الأشعري، عبد الرحمن بن مل أبو عثمان النهدي، عبد الرحمن بن النعمان، عبد الرحمن بن يربوع، عبيد بن شريم -وفي اسمه ونسبه خلاف- عبيدة بن عمرو السلماني، عدي بن عمرو الطائي، عقبة بن النعمان العتكي، علبة بن زيد، علقمة بن قيس النخعي، عمران بن ملحان أبو رجاء العطاردي، عمر بن مالك الزهري، عمرو بن الأسود العنسي، عمرو بن ثبي، عمرو أخو أبي ثعلبة الخشني، عمرو بن سعد الهذلي، عمرو بن عبد الله الوادعي، عمرو بن ميمون الأودي، عمير الهمداني، غنيم بن قيس المازني، فنج اليماني، فيروز الوادعي مولاهم، قبيصة بن جابر، قيس بن أبي حازم، قيس بن عمرو أبو زيد، كعب بن عدي العبادي، كعب بن سور، كعب الأحبار، كعب بن(1/285)
يسار بن ضنة، لهب بن الخندق، مالك بن أوس بن الحدثان، مالك بن عامر الوادعي، مالك بن عمير الحنفي، محرز القصاب، المختار بن أبي عبيد الكذاب، مركبوذ الفارسي، مستظل بن حصين، مسروق بن الأجدع، مسروق بن الحارث، مسعود الثقفي، مسعود بن حراش أخو ربعي، مسعود بن الحكم الزرقي، مطرف بن عبد الله بن الشخير، معاذ بن يزيد، معضد بن يزيد، معرور بن سويد، منظور بن زبان، نضلة بن ماعز، النعمان بن بزرج، النعمان ابن حميد، نفيع الصائغ، النمر بن تولب، نهار بن الحارث، هاني المخزومي، هوذة، يزيد بن الأسود، يزيد بن ضرار، يسير ابن عمرو، أبو أمية الشعباني، أبو تميم الجيشاني، أبو ذؤيب الهذلي، أبو شداد الذماري، أبو شداد آخر، أبو صفرة والد المهلب، أبو عامر بن عمرو الأصبحي، أبو عنبة الخولاني، أبو عمرو السيباني اسمه زرعة، أبو فالج الأنماري، ابن عبس، ابن عفيف، أنيسة النخعية، معاذة زوج الأعشى التي نشزت عليه.
هذا ما تيسر من ذكر من عد في المخضرمين.
ومن الغرائب في هذا الباب، ونذاكر به الأصحاب: أن مسلماً من(1/286)
المسلمين روى عن النبي صلى الله عليه وسلم سماعاً منه مشافهةً ورؤيةً له، ومع هذا فليست له صحبة؟!
هذا هو كعب بن عدي بن حنظلة العبادي الحيري أحد وفد أهل الحيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .(1/287)
أخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله محمد بن الذهبي، وآخرون مشافهةً بالإجازة، عن أبي نصر محمد بن محمد ابن أبي نصر الفارسي، وأبي محمد القاسم بن المظفر الدمشقي قالا: أنبأنا أبو الوفاء محمود بن إبراهيم العبدي، أخبرنا أبو الخير محمد بن أحمد، قراءة عليه ونحن نسمع قال: أخبرنا أبو عمرو عبد الوهاب بن محمد، أخبرنا والدي أبو عبد الله محمد بن إسحاق الحافظ، أخبرنا أحمد بن مهران الفارسي، أخبرنا عبيد الله بن سعيد بن كثير بن عفير، عن أبيه.
قال محمد بن إسحاق أيضاً: وأخبرنا عبد الرحمن بن أحمد، حدثني محمد بن موسى المصري، عن إبراهيم بن أبي داود أنه كان في كتاب عمرو بن الحارث بخطه: حدثني يزيد بن أبي حبيب، أن ناعماً أبا عبد الله -هو ابن أجيل- حدثه عن كعب بن عدي أنه قال: كان أبي أسقف الحيرة، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم قال: هل لكم أن يذهب نفرٌ منكم إلى هذا الرجل فيسمعوا من قوله، لا يموت غداً فتقولون: لو أنا سمعنا من قوله، وقد كان على حق؟! فاختاروا أربعةً فبعثوهم، فقلت لأبي: ألا أنطلق معهم؟ قال: ما تصنع؟ قلت: أنظر.
فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نجلس إليه إذا صلى الصبح ونسمع كلامه والقرآن ولا ينكرنا أحدٌ، فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيراً حتى(1/288)
مات صلى الله عليه وسلم . فقال الأربعة: لو كان أمره حقاً لم يمت، انطلقوا. فقلت لهم: كما أنتم حتى تعلموا من يقوم مكانه فينقطع هذا الأمر أو يتم، فذهبوا ومكثت أنا لا مسلماً ولا نصرانياً، فلما بعث أبو بكر رضي الله عنه جيشاً إلى اليمامة ذهبت معهم، فلما فرغوا من مسيلمة ورجعوا مررت براهبٍ فرقيت إليه فدارسته فقال لي: أنصراني أنت؟ قلت: لا، قال: فيهودي أنت؟ قلت: لا، قال: ما بلغ علم أحداً يقع هذا علمك.
قال: فذكرت له محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: نعم هو مكتوب، قلت: فأرنيه، فأخرج سفراً ثم قال: ما اسمك؟ قلت: كعب، قال: لا أدري ما كعبٌ، أرني شبهه، قال: فنزلت فالتمست كعباً حتى وجدته، فجئت به فقلت له: هذا اسمي، قال: نعم. [قلت:] فأريد أتعرف صفته ونعته، ففتح فقرأت فعرفت صفة محمد ونعته، فوقع في قلبي الإيمان فآمنت حينئذ وأسلمت، فمررت على الحيرة فعيروني.
ثم توفي أبو بكر رضي الله عنه فقدمت على عمر رضي الله عنه، فبعثني إلى المقوقس، وذكر بقية الحديث.
عبد الرحمن بن محمد شيخ محمد بن إسحاق الحافظ: هو أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى.(1/289)
ورواية شيخه الأول سعيد بن كثير بن عفير أدرجها ولم يبين طريقه فيها، وهي ما قال سعيد بن عفير: حدثني عبد الحميد بن كعب بن علقمة بن كعب بن عدي التنوخي، عن عمرو بن الحارث بن علقمة بن كعب بن عدي التنوخي، عن ناعم بن أجيل، عن كعب بن عدي قال: أقبلت في وفد من أهل الحيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، ثم انصرفنا إلى الحيرة، فلم نلبث أن جاءتنا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فارتاب أصحابي وقالوا: لو كان نبياً لم يمت، فقلت: قد مات الأنبياء قبله، وثبت على الإسلام، ثم خرجت أريد المدينة، وذكر بقية الحديث.
هذه الطريق فيها الدلالة على أن كعباً له صحبة، وأنه اسلم على يدي النبي صلى الله عليه وسلم . فالله أعلم.(1/290)
[14] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى
قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
الكلام في معاني القرآن هو أحد علومه المستنبطة من منطوقه ومفهومه، وأنواع علوم القرآن كثيرةٌ، ترجع إلى أقسام ثلاثة خطيرة:
أحدها: معرفة تلاوته وإتقانها مع تصحيح إعرابه وحسن أدائه.
والثاني: علم وجوه قراءاته وما صح منها، كالسبعة المشهورة وغيرها، وما لا تصح، كالشاذ وغيره.
والقسم الثالث: معرفة تفسيره واستنباط أحكامه ومعانيه، وبيان غريبه وحكمه وضروب نظمه وما فيه، وهذا القسم أجل الأقسام، إذ به تتضح شرائع الدين، من توحيد الله رب العالمين، ومعرفة الرسل الكرام، وبيان ما فيه من الأحكام والفرق بين الحلال والحرام، والترغيب في الخيرات، والترهيب من المخالفات، إلى غير ذلك مما لا يستغنى عن علمه، ولا يسع مسلماً جهله مع وجود عقله وفهمه.
ومن هذا القسم الكلام على هؤلاء الآيات الشريفات.(1/291)
فالمن المشار إليه هو الإحسان، لأن المن على وجوه، منها هذا، يقال: من يمن مناً، إذا أحسن.
واختلف في المراد بالمؤمنين هنا فقيل: هم العرب، كما هو مروي عن علي بن أبي طالب وغيره.
وقيل: المراد المؤمنون مطلقاً، فهو عام.
والرسول المشار إليه هو نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، لا خلاف في ذلك أعلمه.
وقوله {من أنفسهم} جمع نفس، والنفس لها معانٍ، منها نفس الإنسان وغيره، ومنها عين الشيء، ومنها العزة، ومنها العظمة، ومنها الهمة.
فإن أريد بالمؤمنين العرب فمعنى {من أنفسهم}: الولادة. قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير {من أنفسكم} قال: قد ولدتموه يا معشر العرب.
وإن أريد بالمؤمنين كلهم: فيكون -كما قاله أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي-: من أنفسهم بالإيمان والشفقة، لا بالنسب، كما يقول القائل: أنت نفسي. انتهى.
وقوله تعالى: {يتلو عليهم آياته} معنى يتلو: يقرأ، يقال: تلوت(1/292)
القرآن إذا قرأته، كأنك أتبعت آية في إثر آيةٍ قراءة.
والمصدر التلاوة بالكسر ويقال: التلاوة بالضم، لغتان.
والمراد بالآيات هنا -والله أعلم- القرآن.
ومعنى {ويزكيهم}: أي يصلحهم، لأنهم بتلاوته القرآن عليهم أنصتوا له، فزكوا: صاروا صالحين لقبول ما يتلى عليهم فتعلموا ما أشار الله إليه بقوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} فتعلموهما علماً وعملاً.
والكتاب: هو القرآن، والحكمة: لها معانٍ، منها: أن الحكمة ما يمنع من الجهل، ومنها: الإصابة في القول من غير نبوة، وأيضاً الحكمة: المواعظ والأمثال، فكل كلمة اشتملت على موعظة أو دعاء إلى مكرمة أو نهي عن قبيح فهي حكمة.
والحكمة أيضاً: العلم والفهم، وأيضاً القرآن، وأيضاً: تفسيره، وأيضاً: سنة النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً. وبهذا فسرت الحكمة هنا في قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب} أي القرآن {والحكمة} أي السنة.
روي عن ابن عباس وغير واحد، وحكاه الشافعي عمن يرضى من أهل العلم وقال به.
وقوله تعالى: {وإن كانوا} أي المؤمنون {من قبل} أي من قبل بعثة هذا الرسول وهو نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام {لفي ضلال} وهو ضد الهدى، وأشير به -والله أعلم- إلى الكفر الذي كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأصنام وغيرها.
وقوله تعالى: {مبين} أي ظاهرٍ لمن يعقله، كما أن جماعة ممن كان(1/293)
في الضلال قبل البعثة ظهر لهم ضلالهم من الإشراك فانتقلوا عنه إلى التوحيد، وبعضهم تحقق ضلاله وأنه ليس على شيء فأصر عليه بعد الظهور. {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}.
وآخرون من أهل الضلال استمروا فيه إلى البعثة فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم {واتبعوا النور الذي أنزل معه} وهؤلاء الذين أحسن الله إليهم ودخلوا فيمن امتن عليهم بقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم}.
ووجوه المن من الله تعالى في هذه الآية الشريفة كثيرةٌ:
1- منها: بعثة هذا الرسول الذي هو سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
2-ومنها: إحسان الله على المؤمنين المأخوذ من قوله: {إذ بعث فيهم} ولم يقل: منهم، إشارة -والله أعلم- إلى رفع العذاب عنهم لقوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}.
3- ومنها: قوله تعالى: {من أنفسهم} فإن كان المراد الولادة فالنبي صلى الله عليه وسلم أتى بصلة الأرحام وأمر بها وحث عليها، فلا بد من صلته لذوي رحمه، وقد حصل للمؤمنين منه صلى الله عليه وسلم من الإكرام والإنعام قولاً وفعلاً ما لا يحصيه إلا الله تعالى، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ((من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)).(1/294)
هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فمنه قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل سبب ونسب منقطعٌ يوم القيامة إلا سببي ونسبي)).(1/295)
وإن كان المراد بقوله {من أنفسهم}: المؤمنين مطلقاً فلا يعلم قدر ما حصل منه صلى الله عليه وسلم لأمته من النعم والألطاف والكرم إلا الله تعالى، فيا شرفهم بذلك! إذ هو صلى الله عليه وسلم روح المؤمنين وعزهم، والشفيق عليهم، والرؤف والرحيم بهم.
وفي الآخرة لما يوضع للأنبياء منابر من نور في عرصات القيامة فيجلسون عليها، ويبقى منبر النبي صلى الله عليه وسلم خالياً لا يجلس عليه قائماً منتصباً بين يدي ربه عز وجل، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فيقول الله عز وجل: ما تريد أن أصنع بأمتك ..)) الحديث.(1/297)
4- ومن وجوه المن: تلاوة القرآن عليهم، وما في سماعه من اللفظ النبوي من الأجور.
5- ومنها: تزكيتهم بالصلاح ظاهراً وباطناً.
6- ومنها: تعليمهم القرآن وما في ذلك من وجوه النعم، وكذلك تعليم السنة الشريفة، والطريقة العالية المنيفة.
7-ومنها: إنقاذهم من الضلال المبين. وكل ذلك من بعض النعم التي امتن الله بها على المؤمنين، وهي في المؤمنين عامةً إلى يوم القيامة، فجميع ما نحن فيه من النعم والمنن -كالإيمان والقرآن ووجوه السنن وخيرات الدنيا والآخرة جزيلاً وقليلاً- من المن الذي أشار الله إليه بقوله تعالى، وهو أصدق قيلاً: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً}.
8- ومن هذا المن المشار إليه في هذه الآيات: إيصال الكتاب والحكمة إلينا بالأسانيد المرويات، ومن إيصال الحكمة، الحديث الذي حث فيه على الرحمة، الذي رويناه فيما سبق، من طرق تسعٍ مسلسلةٍ على نسق، وهذه طريق عاشرة، من طرقه المتصلة الفاخرة:
أخبرنا الشيخ المسند بقية ذوي الإسناد سليل الأمراء والأجناد عبد الرحمن بن محمد التنكزي بقراءتي عليه، وهو أول حديث سمعته منه بمنزلي من دمشق، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبي العباس أحمد المقرى المفيد، وهو أول حديث سمعته منه وأنا حاضر، حدثنا الإمام أبو الحسين علي بن محمد ببعلبك، وأبو عمرو عثمان بن محمد بمكة،(1/298)
وهو أول حديث سمعته منهما، قالا:
أخبرنا أبو الحسن علي بن هبة الله الخطيب بالقاهرة، وهو أول حديث سمعناه منه، أخبرنا الإمام أحمد بن محمد الإسكندراني، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا الإمام أبو محمد جعفر بن أحمد اللغوي، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا الإمام عبيد الله بن سعيد البكري، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا حمزة بن عبد العزيز، وهو أول حديث سمعته منه بقراءتي عليه بنيسابور، أخبرنا أحمد بن محمد البزاز، وهو أول حديث سمعته منه سنة ثلاثين وثلاث مئة، حدثنا عبد الرحمن ابن بشر بن الحكم، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا سفيان بن عيينة، وهو أول حديث سمعته منه، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاصي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)).
هذا حديث حسن، وقع لنا عالياً، لكن من طرق غير هذه الطريق من حيث العدد بدرجة على هذه، وبدرجتين أيضاً، وهذا علو حسي، وهذه الطريق التي رويناها علوها معنوي، لجلالة قدر رجالها ثقةً وعلماً وحفظاً.
والحديث في ((مسند)) الإمام أحمد عن سفيان، لكنه غير مسلسل، كما أخرجه أبو داود في ((سننه)) والترمذي في ((جامعه)) من طريق سفيان وصححه الترمذي، لكن سفيان تفرد به عن شيخه عمرو بن دينار، وكذا تفرد به عمرو عن أبي قابوس، فهو من الأفراد ويعبر عنها بالآحاد، وبخبر الواحد، وهو أحد أقسام الخبر.
لأن الخبر إما مقطوع بصدقه: كالمتواتر معنى أو لفظاً، وإما مقطوع بكذبه: كالمعلوم خلافه ضرورةً أو استدلالاً أو نصاً، وإما مظنون(1/299)
الصدق: لا يقطع بصدقه ولا يجزم بكذبه، وهو خبر الواحد الذي ليس له راو غيره.
وعند الأصوليين خبر الواحد ما لم يبلغ حد التواتر، سواء رواه واحد أو اثنان فصاعداً، وعلى هذا يدخل فيه المستفيض والمشهور، وذهب بعض الأئمة إلى أن خبر الواحد هو أحد القسمين الأولين بالنسبة إلى نفس الأمر، فلا بد أن يكون خبر الواحد في نفسه صدقاً: فيكون من القسم الأول، أو كذباً: فهو من القسم الثاني، لكن تقسيم الخبر إلى الثلاثة أقسامٍ بالنسبة إلينا.
وخبر الواحد الثقة معمولٌ به عند جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المحدثين والفقهاء والأصوليين، وهو حجة من حجج الشرع يلزم العمل به، ويفيد الظن ولا يفيد العلم، وإن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل. قاله شيخ الإسلام أبو زكريا النووي.
وقال مرة: وقد جاء الشرع بوجوب العمل به فوجب المصير إليه وأما من قال بوجوب العلم به فهو مكابرٌ للحس، وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب وغير ذلك متطرقٌ إليه؟!. انتهى.
وفيه التصريح بوجوب العمل بخبر الواحد الثقة، وعبر بعضهم بالجواز وعليه ترجم البخاري رحمة الله عليه في ((جامعه)): باب ما جاء(1/300)
في إجازة خبر الواحد الصدوق.
وذكر أبو زكريا النووي رحمه الله أن القاعدة العظيمة التي ينبني عليها معظم أحكام الشرع وهو وجوب العمل بخبر الواحد، فينبغي الاهتمام بها والاعتناء بتحقيقها، وقد أطنب العلماء رحمهم الله في الاحتجاج لها وإيضاحها، وأفردها جماعة من السلف بالتصنيف، واعتنى بها أئمة المحدثين وأصول الفقه، وأول من بلغنا تصنيفه فيها الإمام الشافعي رحمه الله. انتهى.
فلا يضر تفرد سفيان بالحديث، ولا تفرد شيخه، فسفيان بن عيينة سفيان في العلم والجلالة والثقة والعدالة، وشيخه عمرو بن دينار أحد الأئمة النقاد الثقات الكبار، وقد تقدم أن سفيان قال مرة: حدثنا عمرو بن دينار وكان ثقة ثقة ثقة ثقة، وحديث أسمعه من عمرو أحب إلي من عشرين من غيره. انتهى.
وحديثه هذا رواه عن أبي قابوس ولا يعرف إلا بكنيته.
وقد أنبأنا المحقق أبو زكريا يحيى بن يوسف الزغيبي أن الإمام أبا الحسن علي بن أيوب أخبره في يوم السبت ثالث عشر شوال سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، أخبرنا الإمام أبو محمد عبد الله بن مروان الفارقي وغيره، قالوا: أخبرنا الإمام أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن النصري(1/301)
قال: وحدثني الثقة الحديثي أبو رشيد بن أبي بكر قال: ذكر لي الحافظ أبو الفرج ثابت بن محمد المديني أن أبا قابوس اسمه المبرد، وجعل يتبجح به. قال أبو عمرو النصري: وليس هذا مما يركن إليه. انتهى.
وهو من موالي عبد الله بن عمرو بن العاص.
ومولاه عبد الله أسلم قبل أبيه، وكان اسمه العاصي كاسم جده، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله.
أما العاصي: فقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح: يقوله كثير من أهل الضبط حال الوصل بالياء جرياً على الجادة، والمتداول المشهور حذف الياء، وهو مشكل على من استطرف من العربية ولم يوغل وربما أنكروه، ولا وجه لإنكاره، فإنه لغة لبعض العرب، شبه فيها ما فيه الألف واللام بالمنون، لما بينهما من التعاقب، وبها قرأ عدة من القراء السبعة كما في قوله: {الكبير المتعال} وشبهه. والله أعلم.
وما قاله ابن الصلاح يأباه كلام النووي فإنه قال: وأما العاصي فأكثر(1/302)
ما يأتي في كتب الحديث والفقه ونحوها بحذف الياء، وهي لغة، والفصيح الصحيح العاصي بإثبات الياء وقال: ولا اغترار بوجوده في كتب الحديث أو أكثرها بحذفها. والله أعلم.
وكلام ابن الصلاح أمتن وأبين.
هذا من بعض ما يتعلق بسند الحديث الذي هو الإخبار عن طريق المتن.
وأما فوائد متنه المستنبطة منه:
1- فمنها: أنه كما الراحمون من في الأرض يرحمهم من في السماء مفيد لازمه، وهو أن غير الراحمين لا يرحمهم الله، وقد جاءت الرواية مصرحةً بلازم الحديث، وذلك فيما رويناه من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن جرير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لم يرحم من في الأرض لم يرحمه من في السماء))، وأعم منه حديث أبي هريرة رضي الله عنه(1/303)
الذي رويناه في ((جامع الترمذي)) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من لا يرحم لا يرحم)).
2- ومن فوائد الحديث: الحث على إغاثة اللهفان، وإعانة الحيران، وإفادة المستفيد، وإرفاد المستزيد، وحمل الكل، ونفع الكل، والعفو عن القصاص بالجملة، والإحسان في القتلة، والمنع من المثلة، واستحباب تحديد آلة الذكاة لسرعة إزهاق الروح، ومواراتها حين إرادة الذبح عن المذبوح، وكف الأذى عن جميع الأنواع، وصلة الأرحام حسبما ورد به السماع، وكل ذلك من الرحمة للخلق، التي أمر بها رسول الحق.
3- ومن فوائد الحديث: أنه يدل على الرجاء، فهو من أحاديثه، لأن الله سبحانه وتعالى إذا كان يستجلب لعباده رحمة غيره كما أخبر عنه الصادق المصدوق بقوله: ((الراحمون يرحمهم الرحمن)): كيف لا يجود لهم برحمته سبحانه وتعالى.
4- ومن فوائده: أن جزاء الراحم من الله على المبالغة في الرحمة، لأن الراحم وصفٌ لا مبالغة فيه، والرحمن وصفٌ يدل على المبالغة في الرحمة، فكان معنى قوله: ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) أي: من رحم رحم أضعاف ما رحم، ثم الجزاء في الآخرة أضعاف ذلك، لأن الراحم عنده من الرحمة جزء من الجزء الذي قسم بين الخلق من مئة جزء من الرحمة التي يقسمها الله على عباده المؤمنين في الآخرة.
روينا من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة(1/304)
رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها تعطف الوحش على ولدها؛ وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)).
قال أيوب بن أبي تميمة السختياني: إن رحمة واحدة قسمها سبحانه في دار الدنيا وأصابني منها الإسلام، إني لأرجو من تسع وتسعين رحمة ما هو أكثر من ذلك.
وكذلك قال سليم بن عيسى أحد الأئمة القراء حين روى الحديث عن حمزة الزيات، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي هريرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((خلق الله مئة رحمة أنزل منها رحمة بين(1/305)
عباده، فبها يتراحمون وبها يتعاطفون، فإذا كان يوم القيامة جمع هذه الرحمة إلى التسع والتسعين ففضها على عباده)) قال سليم: من رحمة واحدة أصابنا القرآن والإيمان وفعل وفعل، ألا نرجو نعمةً من أكثر من رحمة واحدة: الجنة؟!
وقلت في معناه، أبياتاً ختام ما أمليناه، وهي:
إذا كان رب الخلق أعطى عباده ... من الرحمة العظمى التي عمت الورى
فمن مائةٍ جزءاً تراحم خلقه ... به بينهم قسماً قويماً مسيرا
وأخر تسعاً بعد تسعين رحمةً ... ويكملها يوم المعاد لتنشرا
ومن بعض ذاك الجزء توحيد ربنا ... أتانا ودنا خير دينٍ وأنورا
فإنا لنرجو يوم نلقاه راحماً ... من التسع والتسعين أعلى وأكثرا
آخر المجلس ولله الحمد حمداً كثيراً دائماً
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم(1/306)
[15] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى
قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
الكلام على هذه الآية الشريفة من وجوه تقدم ذكر بعضها، وهي من علوم القرآن العظيم الذي لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، منها: علم أسباب نزوله، وقد صنف الأئمة فيه، فبعضهم أدخله ضمن تفسيره القرآن، وبعضهم أفرده بالتصنيف، وسبب نزول القرآن بجملته هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ببعثته.
وهذه الآية الشريفة لها سببٌ في نزولها، وهو ظاهر، لكنه غامض، ولغموضه لم أر أحداً ذكره ممن صنف في أسباب نزول القرآن، ومنهم أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري لم يذكره في كتابه ((أسباب النزول)).
والسبب في نزولها: إعلام الله تعالى الأمة بإجابته دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، حيث قال فيما أخبر الله تعالى عنه: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} فاستجاب الله تعالى هذه الدعوة، وبعث هذا الرسول كما دعا إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وأعلم الله تعالى هذه الأمة بإجابة الدعوة المشار إليها فقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} الآية.(1/307)
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى إجابة هذه الدعوة الشريفة فقال -فيما خرجه أبو القاسم الطبراني في ((معجمه الكبير)) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟- فقال: ((دعوة أبي إبراهيم، وبشر بي عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشام)). وللحديث طرق خرجتها في كتابي ((جامع الآثار)).
وفي الدعوة المشار إليها طلب التزكية بعد تعلم الكتاب والحكمة، وفي الإخبار عن الإجابة قدم التزكية قبل التعلم، وذلك -والله أعلم- أن متعلمي العلم على قسمين: صالحون وغير صالحين، والصالح يفيده التعليم، ويبعثه العلم على العمل أكثر من غيره، لصلاحه الذي كان متقدماً على طلب العلم، ولما كان كذلك قدمت التزكية في هذه الآية قبل ذكر التعليم.
وفيه الإشارة -والله أعلم- إلى شرف هذه الأمة، ففي هذه الآية الشريفة حصول التزكية المطلوبة في آية الدعوة، ولكنها قبل التعلم ليكون أبلغ في الفهم للعلم، وأسرع للعمل به. والله سبحانه أعلم بما أراد.
وكذلك في الآية الثالثة التي في سورة الجمعة: قدم الله تعالى الإخبار بالتزكية قبل التعلم فقال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
وفي آية الجمعة إشارةٌ إلى أن المؤمنين في قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} أنهم المؤمنون مطلقاً، لقوله تعالى في آية الجمعة: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} والأميون صفةٌ لهذه الأمة وهم الذي لا يكتبون، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنا أمةٌ أميةٌ(1/308)
لا نكتب ولا نحسب)).
واختلف في نسبتهم للأمية، فقيل: إلى الأم، لأن النساء غالباً لا يكتبن، ويحتمل أنهم نسبوا إلى الأم لأنهم يخرجون من بطون الأمهات، كما قال الله عز وجل: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون}.
فالأمي الباقي على أصل ولادة أمه له: لم يقرأ ولم يكتب.
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج: الأميون الذين لا يكتبون، الذين هم على ما خلقت عليه الأمة قبل تعليم الكتاب. قاله في كتابه ((معاني القرآن)) وذكر أن أول من تعلم الكتاب من العرب ثقيفٌ، تعلموه من الأنبار، ولم يعرج الزجاج على غيره، لكن أول من خط بالقلم مطلقاً من بني آدم إدريس النبي عليه الصلاة والسلام، فيما رويناه في الحديث الطويل عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً، خرجه أحمد بن حنبل في ((مسنده)) وأبو حاتم ابن حبان في ((صحيحه)) وغيرهما.(1/309)
وعلى قول ابن عباس وخلقٍ -وروي مرفوعاً-: أول المخلوقات القلم خلقه الله تعالى فكتب بإذنه في اللوح المحفوظ ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة.(1/310)
وقد ذكر جمهور من صنف في الأوائل أن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام أول من كتب: بسم الله الرحمن الرحيم.
أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الشرف محمد بن المحتسب وآخرون، عن أبي الفضل سليمان بن حمزة الحاكم، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الحافظ، سماعاً في محرم سنة تسع وثلاثين وستمائة، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الصيدلاني، في شوال سنة ثمان وتسعين وخمس مئة، أخبرنا أبو علي الحسين بن أحمد الحداد، حضوراً أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد، حدثنا عمرو بن أبي الطاهر بن السرح، حدثنا أبي، حدثنا موسى ابن عبد الرحمن الصنعاني، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: أول من كتب ((بسم الله الرحمن الرحيم)) سليمان عليه الصلاة والسلام.
وهذا من الأوائل التي هي من فنون الحديث، وقد عني بجمعها جماعة من الحفاظ، منهم أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، وأبو عروبة الحسين بن محمد بن أبي معشر الحراني، وأبو الفرج عبد الرحمن ابن علي بن الجوزي، وغيرهم. لكن لم يذكر واحد منهم في الأوائل(1/311)
المصنفة ما ترجمته: فلانٌ أول شيخ لقيه فلان فأخذ عنه، ولا: أن فلاناً أول من أخذ عنه فلان، ولا: هذا أول حديث سمعه فلان من فلان.
ومن الثاني: ما قال أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي سبط حماد ابن أبي سليمان: سمعت ابن عيينة يقول: أول من جاءني يطلب مني الحديث مسعر.
وهذا فيه شرف لسفيان، لأن مسعراً شيخ سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وآخرين، وهذا من باب رواية الأكابر عن الأصاغر.
ومن الأخير -وهو أول حديث سمعه فلان من فلان- حديث: ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) لأنه مسلسل بقول كل من شيوخنا فمن فوقهم إلى سفيان عن شيخه: وهو أول حديث سمعته منه، ويقال لهذا الحديث: المسلسل بالأولية، وقد رويناه من طرق عشرة، وهذه طريق حادية عشرة:
أخبرنا الشيخ المقرئ المحدث أبو المعالي عبد الله بن أبي إسحاق إبراهيم الزبيدي الفرضي، بقراءتي عليه وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا القاضي أبو العباس أحمد بن الجمال محمد بن أحمد الدمشقي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا الكمال أبو العباس أحمد بن أبي الفتح بن محمود بن أبي الوحش الشيباني، سماعاً بجامع الكرك وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا الإمام أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن ابن عثمان النصري، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا الشيخ النبيه(1/312)
أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد الوهاب المعروف بابن المعزم الهمذاني بها رحمه الله، وهو أول حديث سمعته منه وأول حديث سمعته بهمذان، حدثنا أبو منصور عبد الكريم بن محمد المعروف بابن الخيام من لفظه، وهو أول حديث سمعته منه حفظاً.
وبالإسناد إلى أبي عمرو النصري قال: وحدثنا الشيخ الأصيل أبو القاسم منصور بن عبد المنعم الفراوي، وهو أول حديث سمعته منه إن شاء الله، حدثنا الإمام أبو عبد الله محمد بن الفضل الصاعدي، وهو أول حديث سمعته منه، قالا: حدثنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا أبو طاهر محمد بن محمد ابن محمش الزيادي، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال البزاز، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا سفيان بن عيينة، وهو أول حديث سمعته منه -وعند ابن المعزم: من سفيان- عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله ابن عمرو -وعند ابن المعزم: مولى لعبد الله- عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)). وقال ابن المعزم: ((أهل الأرض، يرحمكم من في السماء)).(1/313)
وأنبأناه أعلى من هذا بدرجة الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد المقدسي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن النصري، وهو أول حديث سمعته منه، فذكره.
هذا حديث حسن خطير، رواه عن سفيان بن عيينة جم غفير، منهم عبد الرحمن بن بشر بن الحكم -كما تقدم- وأبوه بشر بن الحكم، وأحمد بن حنبل، والحسين بن الحسن المروزي، وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وأبو بكر عبد الله بن أبي شيبة، ومحمد بن عباد المكي، ومحمد بن أبي عمر العدني، ومحمود بن آدم، ومسدد بن مسرهد، وهارون بن معروف.
وله طرقٌ إلى كل من المذكورين وغيرهم، وله شاهدٌ عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
وفي إسناده الذي روينا الحديث به آنفاً: ما يدخل في قسم المؤتلف والمختلف أحد أنواع الحديث. فمن ذلك:
1- الزبيدي، وهو بضم الزاي، وفتح الموحدة، يليها مثناة فوق ساكنة، ثم دال مهملة مكسورة، يليها ياء النسب؛ وهو نسبة إلى زبيد الصغير، وهو منبه بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن منبه، وهو زبيد الكبير -وإليه جماع زبيد- من صعب بن سعد العشيرة بن مذحج وهو مالك بن أدد.
وهذه النسبة تأتلف مع ((الزبيدي)) خطاً، وتختلف معه نطقاً وضبطاً. فهذه بفتح الزاي، وكسر الموحدة، والباقي سواء، نسبة إلى زبيد، من أكبر بلاد اليمن.(1/314)
2- ومن هذا القسم في الإسناد: أبو عمرو النصري بنون مفتوحة، وصاد مهملة ساكنة، ثم راء مكسورة، يليها ياء النسب، وهو نسبة إلى جد له أعلى، فهو أبو عمرو عثمان بن أبي محمد عبد الرحمن بن عثمان ابن موسى بن أبي نصر النصري، وهو يأتلف مع ((البصري)) وضعاً، ويختلف مع النطق سمعاً، فهذه النسبة بالموحدة، والباقي سواءٌ، نسبة إلى البصرة البلد المشهور بأرض العراق، وهي إحدى المدن الإسلامية لأنها مصرت في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبع عشرة من الهجرة في قولٍ، قبل أن مصرت الكوفة بسنة.
3- ومن هذا القسم في الإسناد: عبد الرحمن ابن المعزم الهمذاني، ونسبته بالفتح محركاً وبالذال المعجمة إلى همذان، إحدى بلاد عراق العجم في سفح أروند، على خمسة عشر يوماً من بغداد، وهذه النسبة(1/315)
تأتلف مع الهمداني في الخط وتختلف معه في الضبط، لأن هذه النسبة بالسكون والدال المهملة، نسبة إلى همدان واسمه أوسلة بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.
4- ومن هذا القسم في الإسناد الفراوي بضم الفاء -على المشهور- وفتح الراء المخففة، يليها ألف، بعدها واو مكسورة لياء النسب، نسبة إلى بليدة على ثغر خراسان قرب الديلم مما يلي خوارزم يقال لها: رباط فراوة، والعجم ينطقون بها فراووه: بواوين الأولى مضمومة، والثانية ساكنة، وهذه البليدة بناها عبد الله بن طاهر أمير خراسان في خلافة المأمون.
وهذه النسبة تأتلف مع القراوي كتابةً، وتختلف معه بتقييد أهل الإصابة، فإن هذه النسبة بالقاف المفتوحة، والباقي سواء، نسبة إلى قراوا قريةٍ من قرى بيت المقدس.
5- ومن هذا القسم في الإسناد: الزيادي، بزاي مكسورة، تليها مثناة تحت مفتوحة، ثم ألف، ثم دال مهملة مكسورة لياء النسب، نسبة إلى محلة بنيسابور يقال لها: ميدان زياد بن عبد الرحمن، وهذه النسبة تأتلف مع الزبادي تسطيراً، وتختلف معه نطقاً وتحريراً، وهي بفتح الزاي، يليها موحدة مخففة، والباقي سواءٌ، نسبة إلى بطن من ذي(1/316)
الكلاع اسمه زباد بن كعب بن حجر بن الأسود بن الكلاع.
6- ومن هذا القسم في الإسناد: البزاز، بفتح الموحدة، وزايين، بينهما ألف، الأولى مشددة، نسبة إلى عمل البز والتجارة فيه، وهذه النسبة تأتلف مع البزار نظراً وشكلاً، وتختلف معه نطقاً وحلاً، وهذه بالراء آخره، نسبة إلى عمل دهن بزر الكتان وبيعه. والله أعلم.
وهذا من بعض فوائد إسناد الحديث الذي هو الإخبار عن طريق المتن.
وأما فوائد متنه: فكثيرة تقدم ذكر بعضها، ومما لم يذكر:
1- أن قوله صلى الله عليه وسلم ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) إن كان معناه كلفظه -وهو الظاهر- فيكون إخباراً أن الرحمن عز وجل يرحم الراحمين من عباده، ويحتمل أن معناه -وإن كان لفظه لفظ الخبر- الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم للراحمين، كما يقال: الله يغفر لفلان، وهذه إحدى مراتب ألفاظ الدعاء، وهي ثلاثٌ مرتبةٌ على الأفعال الثلاثة:
إحداها: بلفظ الطلب، كقوله: {ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار}.
والثانية: بلفظ الماضي، كقوله: غفر الله له، رحمه الله، رضي الله عنه.
والثالثة: بلفظ المستقبل، كقوله: يغفر الله له، ومنه الحديث على هذا الاحتمال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن)).
والمراتب الثلاث جائزةٌ في الدعاء، وقد تعرض الإمام أبو العباس أحمد بن أبي العلى إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يلين الصنهاجي المصري القرافي المالكي في كتابه الدعوات إلى أن المرتبة(1/317)
الثانية أبلغ من الأخريين فقال:
الأدب الثامن: أن يكون الطلب بصيغة الماضي، فإن أصل الطلب أن يكون بصيغة الأمر، لكن ليس من لوازم الأمر حصول مأموره في الوجود؛ وأبلغ من هذه الصيغة صيغة الخبر المستقبل؛ وأبلغ من هذه الصيغة صيغة الخبر الماضي؛ لأن الماضي شهد العيان بوقوع متعلقه، بخلاف المستقبل، فكان التفاؤل بحصول المطلوب بهذه الصيغة أكثر. فقولنا لزيد: يديم الله سعادتك، أبلغ من قولنا: اللهم أدم سعادتك، وقولنا: أدام الله سعادتك، أبلغ من قولنا: الله يديم سعادتك، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل ويكره الطيرة، فيكون التفاؤل بلفظي الخبر مطلوباً شرعاً. انتهى.
وفي هذا نظر، لأن غالب الأدعية المأثورة بصيغة الطلب، فتكون هذه الصيغة أبلغ وأكثر، لا كما قاله القرافي. والله أعلم.
2- ومن فوائد الحديث: أن لفظ الصدر الأول من الحديث غير لفظ الثاني، ومعناهما واحد، وهو أن من رحم يرحم، وهذا أحد الأقسام الثلاثة في باب اللفظ، وقد عقد سيبويه في ((الكتاب)) باباً لهذا فقال:(1/318)
((هذا باب اللفظ للمعاني. اعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين. قال: فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين نحو: جلس وذهب [واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو: ذهب] وانطلق، واتفاق اللفظين والمعنى مختلف قولك: وجدت عليه -في الموجدة- ووجدت إذا أردت وجدان الضالة. وأشباه ذلك كثير)).
ولم يمثل سيبويه للقسم الآخر من الثلاثة -وهو اختلاف اللفظين والمعنى واحد- وهو كقولك: ذراع، وساعد. ومن هذا القسم: الحديث، فلفظ صدره ولفظ عجزه مختلفان ومعناهما واحد: أن من رحم يرحم.
ويحتمل أن الرحمة لما كانت تصدر من المؤمنين والكفار، والله تعالى لا يضيع عمل عامل، أما المؤمنون فيجازيهم الله بثواب رحمتهم دنيا وآخرة، وأما الكفار فليس لهم في الآخرة من نصيبٍ، فيجازيهم الله بحسناتهم في الدنيا حتى يلقوا الله وما لهم حسنةٌ يجزون بها؛ فأول الحديث يتناولهم وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) فذكر (الرحمن) هنا لأن معناه ذو الرحمة الشاملة التي عمت المؤمن والكافر في الدنيا.
وآخر الحديث خاص بالمؤمنين، ولهذا خوطبوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)) ولم يقل: يرحمكم الرحمن. والله أعلم.(1/319)
3- ومن فوائد الحديث: الحث على العمل بالعلم، ويؤخذ هذا الحكم من قوله صلى الله عليه وسلم : ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) فهذا إعلام للأمة من نبيها صلى الله عليه وسلم بأن الراحمين يرحمهم الرحمن، فحصل العلم بذلك، ثم حثهم على العمل به فقال: ((ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)) فهذا وجه الحث على العمل بالعلم من هذا الحديث، وهو من لطيف فوائده وما حواه. وقلت في معناه أبياتاً نختم بها ما أمليناه، وهي:
إذا سمعت حديثاً من أخي ثقةٍ ... قيده خطاً وضبطاً متقن السبل
وإن يكن مسنداً في السمع أولها ... مسلسلاً عالياً ذا غاية الأمل
لأن من متنه تذكار رحمة من ... هو الرحيم بنا الرحمان في الأزل
واعمل به خالصاً لله تأت به ... إليك رحمته العظمى على عجل
من كان ذا عملٍ بالعلم فهو له ... جمال دينٍ ودنيا فاعن بالعمل
آخر المجلس ولله الحمد حمداً كثيراً
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً(1/320)
[16] بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
الكلام على هؤلاء الآيات، من عدة وجوه ظاهراتٍ وخفياتٍ، واستنباط معاني ذلك: بطريق الاعتبار الذي هو أحد أصناف البيان، والبيان أحد أقسام البلاغة، ولا فرق بين الصنف والقسم والنوع ونحوها عند جمهور أئمة اللغة، وبعضهم فرق بينها بفروق.
فالقسم: جزء من الشيء المقسوم، كدرهم من عشرة دراهم. والصنف من الشيء: ما شاكل باقيه، كالجنيب من التمر. والنوع من الشيء: ما قارب باقيه في الشكل، كالأدهان المائعات أنواع. والجنس: ما شاكل غيره مشاكلةً ما، كالأقوات أجناس. والضرب من الشيء: ما كان دونه كالرذاذ من المطر. والشكل: ما شابه غيره وإن لم يكن من جنسه. والمثل: ما شابه الشيء من جنسه سواءً. والنحو: ما قاربه في المشابهة والقدر.(1/321)
وظهور معاني ذلك إنما هو بالاعتبار الذي أشرنا إليه. واشتقاقه من: عبرت النهر، إذا سلكت من أحد شطيه إلى الآخر، فاعتبرت عمقه وما في قراره من سهوله أو غيرها بعبورك فيه.
وقيل: اشتقاقه من: عبرت الدراهم، إذا عرفت وزن كل درهم منها، وهل هو جيد أو غير جيد.
وقيل: من اعتبرت الكتاب، إذا قرأته في نفسك متدبراً ما فيه لتفهم معناه، كما أشار إليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: إذا سمعت قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} فارعها سمعك، فإنه خيرٌ يأمرك به أو شر ينهاك عنه.
ومعنى الاعتبار يظهر من مثالٍ، وهو أن تسمع كلام من لم تره يقول لآخر غائبٍ عن نظرك أيضاً: قم، فإذا اعتبرت كلمة ((قم)) علمت أن المأمور بالقيام لم يكن قائماً، بل كان على حالة تخالف القيام، ثم تعتبر أن عاقلاً آمراً لا يقول لمأمورٍ عاقلٍ ((قم)) إلا وثم للقيام معنىً، إما من جلب منفعة أو دفع مضرة، أو حالٍ توافق عقل الآمر والمأمور.
فإذا تقرر هذا اعتبرنا الكلام من حيث هو فوجدناه يشرف من وجوه، منها: شرف قائله، وشرف المقول له، وشرف المقول فيه.
ومنها: بلوغ الكلام نهاية الحسن وغاية البلاغة في أعلى مراتبها لفظاً ومعنىً.
وإذا اعتبرنا كلام الله القرآن: وجدناه كذلك، فلا أجل ولا أعظم، ولا أمجد ولا أجود، ولا أكرم من قائله تعالى، وهو الله رب العالمين وخالق الأنام.
والمقول له: هو نبينا محمد خير الخلق وحبيب الحق عليه أفضل الصلاة والسلام.
والمقول فيه: الشريعة المحمدية المطهرة الزكية المشتملة على(1/322)
شريف الحكمة وسني الأحكام.
وقد جمع الله تعالى في القرآن مع وجازة كلمه، وإحكام نظمه، وقواعد علمه، وتناسب آياته، والتئام كلماته: أضعاف ما في الكتب السابقة من الحكم والمواعظ والآيات، مع أنه معجزةٌ واحدة تحتوي على ألوف من المعجزات.
فهذا الاعتبار يظهر شرف القرآن وأنه محتوٍ على علوم كثيرة. قال الله عز وجل: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}.
ومأخذ علومه من وجوه: فباعتبار المراد من اللفظ: يؤخذ -كما قدمناه قبل- من منطوقه أو مفهومه.
وباعتبار دلالة اللفظ على الطلب: يؤخذ من أوامره أو نواهيه، أو العام المطلق، أو العام المقيد ببعض صفاته، أو من الخاص.
وباعتبار كيفية الدلالة من خفاء أو جلاء: يؤخذ من مجمله أو مبينه.
وباعتبار الدلالة على ارتفاع حكمٍ وبقاء آخر: يؤخذ من ناسخه ومنسوخه.
وإذا اعتبرنا علوم هذه الآيات وجدنا مأخذها من هذه الوجوه.
فمن مفهوماتها باعتبار دلالة المفهوم التي اختلف فيها -كما قدمناه قبل- هل هي دلالة قياسية -كما هو المنقول عن الشافعي رحمه الله(1/323)
ورضي عنه وحكي عن الأكثرين، فيما ذكره أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسن بن الحسين الرافعي رحمه الله-.
أو هي دلالة لفظية -كما ذهب إليه شيخ الشافعية أبو حامد أحمد بن أبي الطاهر محمد بن أحمد الإسفراييني إمام أهل العراق، وذكر أنه الصحيح من المذهب؟-.
فمن مفهوم الآيات: الإشارة إلى أقسام نعم الله تعالى، وهي -وإن كانت لا تحصى- فهي على ثلاثة أقسام كلها مأخوذٌ من هذه الآيات، فقسم أعيانٌ، وقسم أوصافٌ، وقسم معانٍ.
فمن الأعيان -وهو أجلها-: رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي من الله عز وجل ببعثته على المؤمنين، بل أنعم به على جميع المخلوقين، قال الله عز وجل: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
ومن الأوصاف في هذه الآيات: نعمة الله على هذه الأمة أمة الإجابة حيث سماهم المؤمنين، وخاطبهم في الكتاب المذكور في قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب}: بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا}.
وكذلك نعمته عليهم بالتزكية، من قوله تعالى {ويزكيهم} فصارت الأمة به صالحين أمةً وسطاً عدولاً خياراً. قال الله عز وجل في الكتاب الذي علمهم إياه: {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس}.
ومن المعاني: علم الشريعة المشار إليه بقوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
ومن المعاني: عافية المؤمنين من الكفر وتوابعه، المشار إلى ذلك(1/324)
بقوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
نعم، ومدار النعم على المؤمنين كلها على قطبين: نعمةٍ بالمسرة مقرونة، ونعمةٍ بالتطهير والتكفير مضمونة. وقد أشار إليهما أبو القاسم الجنيد بن محمد رحمة الله عليه فقال: لله عز وجل في السراء نعمة التفضيل، وفي الضراء نعمة التطهير، فكن في السراء عبداً شكوراً، وفي الضراء عبداً صبوراً.
وما أشار إليه الجنيد رحمة الله عليه هو الإيمان.
روى أبو منصور شهردار بين شيرويه بن شهردار الهمداني الديلمي في ((مسند الفردوس)) من طريق يزيد الرقاشي، عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: ((الإيمان نصفان: فنصفٌ في الصبر، ونصفٌ في الشكر)). هذا ضعيف الإسناد، والمعروف غير مرفوع، وهو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وروي أيضاً عن عامر بن شراحيل الشعبي قوله.
فبين الشكر والصبر منازل الإيمان كلها، لأن العبد لا يخلو: إما أن يكون في نعمة، أو بلية، وعليه في كل فرضان، ففي النعمة: القيام بالشكر الحافظ لها بالتقييد، والجالب لغيرها بالمزيد، والقيام بالصبر على سبب حفظها، والصبر على ما يكون سبباً لزوالها.
وفي البلية: يلزمه الصبر عليها احتساباً، والشكر لله عليها، فبالحقيقة بلية المؤمن إما تكون تطهيراً وتكفيراً، أو درجاتٍ وأجوراً.
فالقيام لله تعالى بالشكر والصبر لازمٌ في الحالتين، قال الله عز وجل: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} وقال تعالى: {وسيجزي الله الشاكرين}.(1/325)
وإذا اعتبرنا نعم الله عز وجل المشار إليها بقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} وعلمنا أنها لا تحصى، لورود النص بذلك في قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}: يصير الفكر ملتفتاً إلى ذكر شيء من من الله عز وجل على المؤمنين، فنعتبر الآية الشريفة فنجد من ذكر المن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم يميل الفكر إلى هذا الرسول: ممن هو؟ فنسمع قوله تعالى: {من أنفسهم}، ثم نعتبر ما فائدة البعثة؟ فنعلم أنها لجلب المنافع ودفع المضار، فيسمو الفكر إلى ذكر بعض ذلك، فنسمع قوله تعالى: {يتلو عليهم آياته ويزكيهم} هذا من جلب المنافع. وقوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} فهمنا أن الإيمان لم يحصل للمؤمنين المشار إليهم في الآية في الوجود الخارجي إلا من هذه البعثة.
وجلب المنافع ودفع المضار فيما يتعلق بأمور الدنيا وأمور الدين. فظهر بهذا الاعتبار أن النعم على قسمين: فنعم الله سبحانه وتعالى باعتبار وجوهها وصنوفها وسبوغها ظاهراً وباطناً، وتواترها ليلاً ونهاراً في كل حينٍ على جميع العالمين: لا توصف ولا تعد، ولا تحصر ولا تحد؛ وهي على ثلاثة أقسام باعتبار الأعيان، والأوصاف، والمعاني، كما تقدم بيانه.
وهي قسمان باعتبار جلب المنافع، ودفع المضار، وهي أيضاً قسمان باعتبار ما يتعلق بأمور الدنيا، وما يتعلق بأمور الدين.
ويرجع ذلك إلى قسمين أيضاً: نعمة المبدأ، والمعاد.
ولم يحصل العلم بذلك إلا من جهة هذا الرسول، وهو نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي من الله عز وجل ببعثته على المؤمنين وأرسله رحمةً للعالمين، وأنزل عليه كتابه الذي فيه ذكر المبدأ وما يتعلق به من أمور الدنيا، نحو قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ..} الآية.(1/326)
وقوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا}.
وما يتعلق بأمور الدين كقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين}.
وفي الكتاب ذكر المعاد والحشر والنشر، والجزاء والقصاص، والجنة والنار، وغير ذلك من أمور الآخرة.
والنعم في المبدأ والمعاد لا تحصى، فبهذا الاعتبار أيضاً ترجع النعم إلى قسمين، كما تقدم، ثم باعتبار إيجاد الموجودات وخلق الكائنات وما حصل بسبب ذلك هي نعمة واحدة أم النعم وأصلها، فكم تفرع منها من إنعام خاص وعام؟! وكم تشعب منها من أقسام لا يحصيها إلا المنعم بها سبحانه وتعالى؟!
ومن تأمل القرآن وتدبر ما ذكر فيه من وجوه الامتنان والآلاء والإنعام: علم ذلك علم اليقين، وتحقق أن حمد الحامدين وشكر الشاكرين لا يبلغ الثناء كما ينبغي لرب العالمين، سبحانه ما أسبغ إنعامه وأوسع إفضاله وإكرامه! وما ثم إلا الاعتراف بالعجز والتقصير، عن شكر ربنا العلي الكبير.
وإلى هذا المقام أشار نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله في السجود والقنوت، مناجاةً لله الحي الذي لا يموت: ((لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)).
أخبرنا أبو حفص عمر بن الحسن المراغي إذناً عاماً -وقرأته على أبي الحسن علي بن إسماعيل المؤذن وغيره، عنه سماعاً- أخبرنا علي ابن أحمد المقدسي، أخبرنا عمر بن محمد السلامي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن منصور، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ.
وأنبأنا يوسف بن عثمان العوفي وآخرون قالوا: أخبرنا أبو أحمد إبراهيم بن محمد المكي كتابةً من مكة، أخبرنا عم أبي أبو يوسف(1/327)
يعقوب بن أبي بكر سماعاً، أخبرنا نصر بن أبي الفرج، أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد العلوي النقيب، أخبرنا علي بن أحمد التستري، قال هو والحافظ واللفظ له -أخبرنا القاسم بن جعفر الهاشمي، أخبرنا محمد بن أحمد بن عمرو أبو علي قال: حدثنا سليمان بن الأشعث، حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، حدثنا عبدة، عن عبيد الله، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلمست المسجد فإذا هو ساجد وقدماه منصوبتان يقول: ((أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)).
تابعه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أخبرنا عبدة بن سليمان، فذكره.
هذا حديث صحيح، خرجه مسلم في ((صحيحه)) وابن ماجه في ((سننه)) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، وخرجه النسائي عن محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي، ونصير بن الفرج، كلاهما عن أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، به.(1/328)
وجعله أبو القاسم علي بن الحسن ابن عساكر في ((أطرافه)) من مسند أبي هريرة فوهم.
وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن التقي أحمد بن العز إذناً مطلقاً -وقرأته على الثقة، عنه، سماعاً- وأخبرناه أبو اليسر أحمد بن عبد الله الأنصاري، وعبد الرحمن بن أحمد بن الموفق، وعمر بن محمد الملقن مشافهةً قالوا: أخبرنا علي بن أبي بكر الحراني قالا: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد قراءةً عليه ونحن نسمع، أخبرنا حنبل أبو علي، أخبرنا هبة الله بن محمد، أخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا أحمد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن أحمد حدثني إبراهيم بن الحجاج الناجي، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عمرو الفزاري عن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)).
هذا حديث حسن من أفراد حماد بن سلمة، عن هشام بن عمرو الفزاري، وهشام ثقة ليس يروي عنه غير حماد، فيما قاله يحيى بن(1/329)
معين، وهو أقدم شيخ لحماد، فيما قاله أبو داود بعد أن خرج حديثه هذا في ((سننه)) عن موسى بن إسماعيل.
وخرجه الترمذي -مع تحسينه له وأنه من الأفراد- عن أحمد بن منيع، عن يزيد بن هارون.
وخرجه النسائي عن محمد بن عبد الله بن المبارك، عن سليمان بن حرب وهشام بن عبد الملك، وهو عند النسائي أيضاً عن إسحاق بن منصور، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك.
وخرجه ابن ماجه عن أبي عمر حفص بن عمرو، عن بهز بن أسد. الخمسة عن حماد بن سلمة، به.
تابعهم شهاب بن معمر بن يزيد بن بلال العوقي أبو الأزهر البلخي، فيما علقه البخاري في ((تاريخه الكبير)) مختصراً فقال: وقال شهاب: حدثنا حماد بن سلمة، فذكره بنحوه، وشهابٌ من شيوخ البخاري في ((كتاب الأدب المفرد)).(1/330)
وحدث به الإمام أحمد في ((مسنده)) عن بهز بن أسد وأبي كامل -هو فضيل بن حسين الجحدري- كلاهما عن حماد.
وحدث به أيضاً عن يزيد -هو ابن هارون- لكنه لم يسم علياً بل قال: عن رجل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك)) وذكر الحديث.
ومن بعض معانيه: ما قال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي: في هذا الكلام معنى لطيفٌ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قد استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته. والرضى والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمؤاخذة بالعقوبة، فلما صار إلى ذكر من لا ضد له -وهو الله سبحانه- استعاذ به منه لا غير.
ومعنى ذلك: الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه.
وقوله ((لا أحصي ثناء عليك)): أي لا أطيقه ولا أبلغه.(1/331)
وفيه إثبات إضافة الخير والشر معاً إليه سبحانه. قاله في كتابه ((معالم السنن)).
وقال غيره: لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من الأشياء بضدها، مثل أن تقول: وبحلمك من تعجيل عذابك، وبكذا من كذا، فلما كان التعداد يطول قال: ((وأعوذ بك منك)) أي: أعوذ بما يصدر منك من عفو ولطف، مما يصدر منك من عقوبة ونقمة.
وفسر الخطابي الإحصاء بالإطاقة له وبلوغه، كما تقدم.
وقوله صلى الله عليه وسلم ((أنت كما أثنيت على نفسك)): فيه الاعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، وأنه كما قال: لا يحصيه. ورد ثناءه إلى الجملة دون تفصيل وإحصاء وتعيين، ووكل ذلك إلى المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً.
وكما أنه تبارك وتعالى لا نهاية لسلطانه وعظمته وتمجيده وعزته وجليل قدرته، فكذلك لا نهاية للثناء عليه، وكل ثناء أثني به عليه -وإن كثر وطال وبولغ فيه- فقدرته تعالى أعظم - وسلطانه أعز، وأوصافه أكثر وأكبر، وفضله وإحسانه أوسع وأسبغ.
ومما قلته في معناه، نجعله ختاماً لما ذكرناه وهو:(1/332)
يا رب أنت الله رب الورى ... هديت أو أضللت كل إليك
أنلت كل الخلق فضلاً ... كذا الإنفاق لا ينقص ما في يديك
وكل وصفٍ حسنٍ كامل ... صفاتك الحسنى جلالاً لديك
أنت كما أثنيت حقاً على ... نفسك لا نحصي ثناء عليك
آخر المجلس ولله الحمد حمداً كثيراً
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً(1/333)
[17] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
تقدم أن المن في كلام العرب له وجوه منها: الإحسان، وبه فسر قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} أي: أحسن إليهم وأنعم بما ذكره عليهم. والمؤمنون: المصدقون، واحدهم مؤمن، وهو: من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق بالشهادتين مع القدرة على النطق بهما، فهذا يحكم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار، كما حكاه شيخ الإسلام أبو زكريا النووي عن اتفاق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين.
ولا يشترط في المؤمن الذي اعتقد بقلبه التوحيد ونطق بالشهادتين أن يقول مع ذلك حين يسلم: (وأنا بريءٌ من كل دين يخالف دين الإسلام) إلا إذا كان من كفارٍ يعتقدون اختصاص رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى العرب، فهذا لا يحكم بإسلامه إذا نطق بالشهادتين..
ولا يقال إذا كان بعث إلى الجن والإنس، فلم خص بكونه من الإنس(1/334)
دون الجن؟ لأنا نقول: إن الله سبحانه وتعالى شرف نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنواع من الشرف لا يحصيها إلا الله مانحه إياها، ومن وجوه شرفه أن جعله من الصنف الذي كرمه، قال الله عز وجل: {ولقد كرمنا بني آدم}.
ومنها: أنه جعله سيدهم، كما في ذلك الحديث الذي خرجه الترمذي وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ..)) الحديث.
بل أعم من هذا: الحديث الذي رويناه في ((مسند الدارمي)) و ((جامع الترمذي)) -واللفظ له- وغيرهما، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جلس ناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرونه قال: فخرج، وذكر الحديث، وفي آخره قال: ((وأنا أكرم الأولين والآخرين(1/335)
ولا فخر)).
وقوله تعالى: {يتلو عليهم آياته} فسر الجمهور (الآيات) هنا بالقرآن ثم أعيد ذكره بالتعليم مقروناً مع السنة في قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} ليعلم أنه لا سبيل إلى معرفة الآيات التي هي القرآن إلا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم بتعليمه إياه للمؤمنين. وتعليمه على قسمين:
- تعليم تلاوته كما أنزل، وهو المشار إليه بقوله تعالى -وهو أعلم-: {يتلو عليهم آياته}.
والثاني: تعليم تفسيره ومعانيه التي يشملها علم القرآن، وأشير إليه -والله أعلم- بقوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
فالكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة التي منها بيان ما في القرآن من الأحكام ونحوها إجمالاً وتفصيلاً.
ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال الله عز وجل: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} وهو عام في الصحابة ومن بعدهم.
ولا طريق إلى معرفة الكتاب والسنة إلا بإخبار الصحابة، ولا إلى معرفة إخبار الصحابة إلا بما جاء عن التابعين، ولا وصول إلى ذلك إلا بالإسناد الذي هو من الدين، وهو من خصائص هذه الأمة، فإن علم(1/336)
الدين هكذا أدي إلينا، فبلغنا بالإسناد درجةً بعد درجة حتى وصل علم ذلك إلينا، وحصلت بركاته لدينا، ولله الحمد.
وعلم الدين الذي اتصل، وحصل منه للمؤمنين ما حصل، هو علم الكتاب والسنة، أما علم الكتاب: فقال الإمام أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم الحليمي البخاري القاضي رحمه الله، قال: الإحاطة بعلم الكتاب كله لم تكن إلا لمن أنزل عليه صلى الله عليه وسلم ، وأما الناس بعده فعلم الكتاب فيهم متفرق، ولا يوجد عند أحد منهم إلا بعضه. وعلوم الكتاب كثيرة:
1- منها: علم ألفاظه وما أريد به، وهذا هو الذي يقال له التفسير، ويدخل في هذا القسم ما اختلف فيه من القراءات ووجوهها.
2- ومنها: علم المكي والمدني منها، وأسباب التنزيل ومن نزل فيه، ومن نزل لأجله.
3- ومنها: علم المحاجات فيه، فقد أودعه الله تعالى من البراهين والحجج ما إذا عرفت حق المعرفة لم يحتج معها ولا وراءها إلى غيرها.(1/337)
4- ومنها: علم الأحكام المبينة فيه جملة وتفصيلاً، وتمييز الثابت منها والزائل.
5- ومنها: علم الأمثال المضروبة فيه، والوقوف على ما هي أمثالٌ له ودلائل عليه.
6- ومنها: علم الوعد والوعيد، والمدح والذم.
7- ومنها: علم القصص وأنباء الأولين المذكورة للاعتبار بها وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتصبيره.
8- ومنها: علم ما جاء من الحث على الاعتصام بالله تعالى، والالتجاء في النوائب إليه، والدلالة على وجوه الاحتراس من شياطين الإنس والجن.
9- ومنها: علم الإخبار بالعواقب، تبشيراً للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً للمؤمنين.
10- ومنها: علم إعجازه ومباينته في نظمه نظم الشعراء أو خطب الخطباء وبلاغة الكتاب البلغاء.
وما شيءٌ من هذه العلوم إلا ويوجد منه في السنة مثل ما يوجد في الكتاب، إلا الإعجاز فإنه يخص القرآن، وفيها -أي السنة- زياداتٌ كثيرة، لأن الله تعالى جعل نبيه صلى الله عليه وسلم مبيناً للكتاب ومعرفاً للناس منه ما لا يدركونه إلا بتبيانه، وأوحى إليه كثيراً مما لا ذكر له في الكتاب فبلغه عنه، إلا أن ما ينتهى من سنته إلينا فقد تأتينا متواترة، وقد تأتينا مستفيضة غير متواترة، وقد تأتينا من قبل الآحاد. قاله الحليمي في كتابه ((المنهاج)).
وقال بعده: ولا غنىً بالمفتي عن دراية الأكثر الأظهر من عامة ما(1/338)
وصفنا، فإن شذ عنه بعد الطلب الحثيث والعناية الشديدة بعضٌ مما ذكرنا: فلا عليه، ولكنه لا يحل له أن يعتمد ما يراه مثبتاً في كتب العلماء ويشهد على أنه سنة حتى يسمعها ممن يرويها له، ويحدثه إياها بإسناد متصل منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون نقلتها عدولاً.
انظروا إلى قول الحليمي رحمة الله عليه ((لا يحل له)) ما لازمه! فقد ذهب الحليمي إلى أنه يحرم على من يعتمد حديثاً عملاً به أو استدلالاً ويسميه سنة، دون سماعه من عدل يرويه متصلاً عن مثله إلى منتهاه.
وحكى الحافظ أبو بكر محمد بن خير بن عمر بن خليفة الأموي -نسبة إلى بلد أمو- اللمتوني المتوفى سنة خمس وسبعين وخمس مئة بقرطبة، حكى في ((برنامجه)) الاتفاق على نحو ما قاله الحليمي فقال: وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أنه لا يصح لمسلم أن يقول قال(1/339)
رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا: حتى يكون عنده ذلك القول مروياً ولو على أقل وجوه الروايات.
فعلى هذا لا يحل لأحدٍ أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً حتى يسمعه بشرطه المذكور.
والأحاديث النبوية المتصلة برواية العدول على أقسام:
منها: غرائب الصحاح، وقد افرده بالتصنيف الحافظ الضياء أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله.
ومنها: تفرد الثقة بحديث له شواهد، كالحديث الذي رويناه فيما مضى من إحدى عشرة طريقاً، وهذه طريقٌ ثانية عشرة:
أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الحاسب بقراءتي عليه، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو العباس أحمد بن علي بن نحلة الدمشقي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا العماد أبو الحسن علي ابن عبد العزيز السكري، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو الحسن علي بن هبة الله اللخمي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا جعفر بن أحمد اللغوي، وهو أول حديث سمعته منه ببغداد، أخبرنا عبيد الله بن سعيد السجزي بمكة، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز بنيسابور، هو أول حديث سمعته منه، حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد البزاز، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا سفيان بن عيينة، وهو أول حديث سمعته منه، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاصي، عن عبد الله(1/340)
ابن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)).
وأنبأناه عالياً أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله المقدسي، عن الحافظ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، أخبرنا أبو بكر محمد ابن الحسن بن عبد السلام، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد، وهو أول حديث سمعته منه، فذكره.
هذا حديثٌ حسنٌ عالٍ من أفراد الثقات، ولهذا -والله أعلم- صححه الترمذي في ((جامعه)) حين حدث به من غير تسلسل عن محمد ابن أبي عمر العدني، عن سفيان. تابعه أحمد بن حنبل في ((مسنده)) وجماعة عن سفيان، عن عمرو بن دينار المكي التابعي الجليل. [وهو] روى عن عدة من الصحابة منهم ابن عباس، وجابر، وابن عمر، وابن عمرو، وأبو شريح الخزاعي.
وهذا غير عمرو بن دينار البصري قهرمان آل الزبير الراوي عن سالم ابن عبد الله بن عمر، ضعيف.
وهما غير عمرو بن دينار الكوفي، يكنى أبا خلدة من شيوخ سيف بن عمر صاحب ((كتاب الفتوح)) و ((الردة))، وهذا من المتفق والمفترق أحد أنواع الحديث، وقد أفرده غير واحد بالتصنيف، منهم الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، فجمع فيه كتاباً حافلاً.
وأمثل الثلاثة وأقدمهم عمرو بن دينار المكي التابعي راوي هذا(1/341)
الحديث عن أبي قابوس.
وأبو قابوس في الكنى ثلاثة، لا رابع لهم فيما أعلم، إلا ما جاء في قول الراجز:
لقد ولدت أبا قابوس رهوٌ ... أتوم الفرج حمراء العجان
أما الثلاثة فصحابي مختلف فيه، وتابعي، وجاهلي قبلهما، وهو أبو قابوس النعمان بن المنذر ملك الحيرة، ذكره بهذه الكنية الخليل بن أحمد في ((كتاب العين)) ولم يذكره من صنف في الكنى ممن وقفت على كناهم، كمسلم بن الحجاج صاحب ((الصحيح)) والنسائي صاحب ((السنن)) وأبي أحمد الحاكم، وابن منده، بل ولم يذكره الذهبي في كتابه ((المقتنى)) وكأنهم لم يذكروه -والله أعلم- لأنه لا مدخل له في الرواة، وهو الذي عناه النابغة في قوله:
وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكسٌ فالضواجع
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
يسهد من نوم العشاء سليمها ... لحلي النسا في يديه قعاقع
تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طوراً، وطوراً تراجع(1/342)
وأما أبو قابوس الصحابي: فاختلف في اسمه ونسبه، فقيل: اسمه مخارق، وهو الأكثر، وقيل أبو مخارق، وهو ابن سليم عند الأكثر، ومنهم مسلم في ((الكنى)) لكنه ذكره في أفراد الكنى فقال: أبو قابوس مخارق بن سليم عن علي، روى عنه ابنه مخارق. قال القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني: كذا في الكتاب: ابنه مخارق، وهو خطأ، ولعله من الناقل، قاله في كتابه ((ترتيب كنى مسلم)).
وقيل في أبي قابوس هذا: مخارق بن عبد الله، نسبه هكذا ابن عبد البر في ((الاستيعاب)) وتبعه الذهبي في ((التجريد))، وقيل: مخارق ابن عطية، قاله ابن منده في كتابه ((الكنى)) لكن لم ينسبه في كتابه ((المعرفة في الصحابة)) فقال: مخارق أبو قابوس، عداده في أهل الكوفة، ثم روى له ابن منده حديثين لم يسم أبوه فيهما.
ولا يقال: إنه تابعي، لما تقدم عن مسلم قوله: مخارق بن سليم، عن علي، وكذلك قاله غيره، لأنا نقول: لا تنفي روايته عن علي صحبته، فقد روى خلقٌ من الصحابة عن أمثالهم حتى عن التابعين، وكأن مسلماً ومن تابعه رأوا حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإسناد إليه اضطرابٌ، وروايته عن علي ليس فيها كذلك، فعدلوا عن رواية الرفع إلى ذكر روايته عن علي، لما ذكرناه، والله أعلم.(1/343)
وأما أبو قابوس التابعي: فهو راوي الحديث الذي أسندناه، واسمه كنيته على الصحيح.
أنبأنا شيخنا المحدث العالم أبو زكريا يحيى بن يوسف الزغيبي رحمه الله، أن الإمام أبا الحسن علي بن أيوب أخبره في يوم السبت ثالث عشر شوال سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، أخبرنا الإمام أبو محمد عبد الله بن مروان الفارقي وغيره، قالوا: أخبرنا الإمام أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن النصري قال: وحدثني الثقة الحديثي أبو رشيد بن أبي بكر قال: ذكر لي الحافظ أبو الفرج ثابت بن محمد المديني أن أبا قابوس اسمه المبرد وجعل يتبجح به. قال: أبو عمرو النصري: وليس هذا مما يركن إليه. انتهى.(1/344)
وأبو قابوس غير منصرف، واختلفوا في علة المنع، فالأكثر قالوا للعجمة والعلمية، وأما ما رواه أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري في كتابه ((تهذيب اللغة)) عن ابن الأعرابي أن القابوس الجميل الوجه الحسن اللون، فهذا لا ينفي عدم صرفه، فقد صح أن قابوس من المعرب. قال أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد: فأما تسميتهم قابوس فهو اسم أعجمي: كاوس اسم ملك من ملوك العجم فأعرب فقيل: قابوس، فوافق العربية. قاله في كتابه ((جمهرة اللغة))، وقال فيه: ومما أخذته العرب عن العجم من الأسماء قابوس، وهو بالفارسية: كاوس. انتهى.
ومن فوائد سند الحديث أيضاً: أنه فردٌ من وجهين هما قسمان من أقسام التفرد، فتارةً يأتي الحديث بسند لم يروه عن فلان إلا فلان، وهذا على صفاتٍ، و((معجم أبي القاسم الطبراني الأوسط)) من هذا، وكذلك ((الأفراد)) لأبي الحسن الدارقطني، وهي في مائة جزء، جمع لها أبو عبد الله محمد بن طاهر المقدسي أطرافاً.
وتارةً يأتي الحديث فيقال مثلاً: تفرد به أهل البصرة، أو أهل الكوفة، أو يقال: هذه سنة تفرد بها أهل بلد كذا، ولأبي داود صاحب ((السنن)) مصنف مفرد في ذلك سماه ((كتاب التفرد)) وذكر في ((سننه)) شيئاً(1/345)
يسيراً من ذلك.
وتارةً يأتي التفرد في إسناد فيه راوٍ عن آخر فيقال عنهما: فلان عن فلان، وتفرد عنه. أي: لم يبق من يروي عن ذلك الرجل من الموجودين أحدٌ غير ذلك الراوي، فتارة يأتي مطلقاً، وتارة مقيداً ببلد ونحوه، وهذا القسم قد وقع من زمن الصحابة رضي الله عنهم، وهلم جراً، كأبي الطفيل عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمير الكناني الليثي رضي الله عنه، آخر من بقي على وجه الأرض من الصحابة رضي الله عنهم، وأبوه واثلة صحابي أيضاً، ولا يلتفت إلى من ادعى الصحبة بعد ذلك أو ادعيت له.
ومنه ما روى الخطيب البغدادي في ((تاريخه)) عن أبي إسحاق المستملي عن محمد بن يوسف الفربري أنه كان يقول: سمع كتاب ((الصحيح)) لمحمد بن إسماعيل تسعون ألف رجل، فما بقي أحدٌ يروي عنه غيري.
وفي هذا نظر، فقد ذكر أبو العباس جعفر بن محمد المستغفري في ((تاريخ نسف)) والأمير أبو نصر علي بن هبة الله بن علي بن جعفر بن ماكولا وغيرهما أن آخر من روى عن البخاري ((صحيحه)) أبو طلحة منصور بن محمد بن علي البزدوي النسفي الدهقان المتوفى سنة تسع(1/346)
وعشرين وثلاثمائة، وهو ثقة، لكن ضعفت روايته من جهة صغره.
والوجهان من التفرد: في سند هذا الحديث، أحدهما: أن سفيان تفرد برواية هذا الحديث عن شيخه عمرو، لم يروه عن عمرو غير سفيان، ولا عن أبي قابوس غير عمرو.
والوجه الآخر: أن سفيان تفرد مدةً في عصره بالرواية عن عمرو بن دينار والزهري وغيرهما، لم يبق على وجه الأرض من يروي عنهم غيره.
وإذا كان في الإسناد مثل ذلك يقع عالياً في الغالب، وأكثر ما يقع في الإسناد من هذا النوع راوٍ أو اثنان، وقد وقع لنا بحمد الله تعالى حديث منا إلى الصحابي تفرد كل من رواته عمن فوقه بالرواية عنه، ويسمى المسلسل بالآخرية، وإذا انتهينا إن شاء الله تعالى من الكلام على المسلسل بالأولية أملينا المسلسل بالآخرية مع الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
ولما حدث سفيان بهذا الحديث حين سمعه منه عبد الرحمن بن بشر كان قد تفرد بالرواية عن عمرو بن دينار وغيره، وعبد الرحمن بن بشر(1/347)
ابن الحكم بن حبيب العبدي النيسابوري مات في ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة ستين ومئتين، بعد وفاة شيخه سفيان بن عيينة باثنتين وستين سنة، فكأنه -والله أعلم- آخر من روى عن سفيان، وقد سمع هو وأبوه وجده من سفيان.
قال إبراهيم بن أبي طالب: سمعت عبد الرحمن بن بشر بن الحكم يقول: حملني أبي على عاتقه في مجلس سفيان بن عيينة فقال: يا معشر أصحاب الحديث أنا بشر بن الحكم بن حبيب النيسابوري، سمع أبي الحكم بن حبيب من سفيان بن عيينة، وقد سمعت أنا منه وحدثت عنه بخراسان، وهذا ابني عبد الرحمن قد سمع منه.
هذا بعض ما يتعلق بسند هذا الحديث غير ما تقدم.
ومن فوائد متنه: الإشارة إلى سعة رحمة الله تعالى المأخوذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم : ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) فالرحمن: اسم لله عز وجل من أسمائه الحسنى، ورد به الكتاب والسنة، واختلف الناس في تفسيره ومعناه، وهل هو مشتق من الرحمة أم لا، فمذهب الجمهور من الناس -على ما حكاه أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي أنه مشتق من الرحمة مبني على المبالغة، ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها.(1/348)
وقال أبو الحسن علي ابن سيده في كتابه ((المحكم)): ولفظ الرحمن بني على فعلان، لأن معناه الكثرة، وذلك لأن رحمته وسعت كل شيء.
وقال أبو الحسن أيضاً: ومعناه عند أهل اللغة ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة، لأن فعلان بناءٌ من أبنية المبالغة. انتهى.
ومن فوائد الحديث: أن الطلب من الله تعالى بالأفعال أبلغ في الإجابة من الطلب بالأقوال، فمن طلب أن الله يستره فستر مسلماً: ستره الله، ومن طلب التيسير عليه فيسر على معسر: يسر الله عليه، وكذلك طلب الرحمة وغيرها، فمن طلب الرحمة من الله تعالى بالقول، ليس كمن رحم عباد الله لكي يرحمه الله، هذا أبلغ في استجلاب الرحمة لما فيه من النفع المتعدي، بخلاف الطالب من الله الرحمة لنفسه بالقول، هذا نفعه قاصرٌ، وذلك أبلغ وأفضل.
ومن الفوائد: أن الدنيا عنوان الآخرة، وإذا كانت رحمة الله في الدنيا عمت المؤمن والكافر وجميع دواب الأرواح، وحتى الجمادات، وهي جزء من مائة جزء من رحمة الله، وهذا الجزء انتشر في الخلق وتنوع، وتأصل فيهم وتفرع، ومما حصل منه بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والإسلام والقرآن وعلم الدين وفوائد الدنيا على كثرتها واختلاف صنوفها، فكيف يكون الأمر في الآخرة إذا أضيفت هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمةً مثلها فصارت مائةً يرحم الله بها عباده المؤمنين يوم القيامة؟!
ولهذا كان كثير من السلف ينظرون بعين البصيرة إلى ما يكون من الرحمة في الآخرة، فتنشرح صدورهم ويعظم سرورهم مع ملازمتهم للعبادة والخدمة، ومحافظتهم على الخشية لله وتعظيم الحرمة،(1/349)
وشكرهم لله على ما سخر من هذه الرحمة.
وإذا نظرنا إلى نعم الدنيا ومحتوياتها، ونعيم الآخرة ودرجاتها، تحققنا عقلاً وشرعاً، وعلمنا نقلاً وسمعاً: أن الكل من رحمة الله التي يرجوها كل مسلم، بل كل أحد. وهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وأتقاهم لله، وأشدهم له خشيةً يقول: ((اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين)) ويقول صلى الله عليه وسلم : ((لا يدخل أحداً الجنة عمله)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)) وفي روايةٍ ((إلا أن يتغمدني الله برحمته))، وفي حديث طويل رواه عثمان بن سعيد الدارمي، عن جابر مرفوعاً في آخره قال: إن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ((إنما الأشياء برحمة الله يا محمد)).(1/350)
فرجاء الرحمة والاعتماد عليه مع لزوم العبادة والرجوع إليها: هي الطريق الأسلم، اتباعاً لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم .
وفي معنى رجاء الرحمة: ما أخبرنا أبو حفص عمر بن الحسن المراغي -مراغة مصر لا مراغة العراق- إذناً مطلقاً، وقرأته على الثقة عنه سماعاً، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد السعدي، أخبرنا هبة الله ابن الخضر بن طاوس، أخبرنا أبو الفتح نصر الله بن محمد المصيصي، حدثنا نظام الملك الحسن بن علي الوزير، حدثنا أبو عدنان القرشي، قال: أنشدنا القاضي أبو أحمد منصور بن محمد الأزدي لنفسه.(1/351)
لما عدمت وسيلةً ألقى بها ... ربي تقي نفسي شديد عقابها
صيرت رحمته لدي وسيلةً ... وكفى بها، وكفى بها، وكفى بها
آخر المجلس ولله الحمد حمداً كثيراً
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً(1/352)
[18] بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
الكلام على هذه الآيات من وجوه تقدم ذكر بعضها.
ومنها: النظر في حكم تركيب الألفاظ واختلافها المؤدي إلى أصل المعنى على وفق كلام العرب، ويخرج منه علم النحو الذي يفهم به مقاصد الكلام، وهو على أنواع، منها: معرفة الحروف المفردة، والمركبة، ومعانيها.
فالأول: كالألف والباء، وباقي حروف المعجم ولكل منها معنى لغةً واصطلاحاً، كالباء اسم للحرف، وللنكاح، ويطلق على الرجل الكثير الجماع، وتارة تأتي للإلصاق، وتأتي للتعدية، وللاستعانة، ولمعانٍ أخر.
وأما الحرف المفرد نفسه فلا يمكن أن يلفظ به مفرداً.
قال إمام أهل البصرة سيبويه أبو بشرٍ عمرو بن عثمان بن قنبرٍ الحارثي مولاهم البصري في ((الكتاب)): قال الخليل -وسأل أصحابه-: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في: لك، والكاف التي في منك، والباء التي في: ضرب؟ فقيل له: باءٌ وكافٌ. فقال: إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف، وقال: أقول كه وبه، فقلنا: لم ألحقت(1/353)
الهاء؟ فقال: رأيتهم قالوا: عه، فألحقوا الهاء حتى صيروها يستطاع الكلام بها، لأنه لا يلفظ بحرف، فإن وصلت قلت: ك واعلم، وب يا فتى، كما تقول: ع يا فتى، فهذه طريقة كل حرف كان متحركاً، وقد يجوز أن تكون الألف هاهنا بمنزلة الهاء، لقربها منها وشبهها بها، فتقول: باْ، وكاْ، كما تقول: أنا.
فتلخص من قول الخليل بن أحمد أن النطق بالحرف الواحد له ثلاثة وجوه، أحدها: وصل هاء السكت به، مثل (به) في النطق بحرف الباء من: ضرب.
والثاني: وصل الكلام به مثل: ب يا فتى.
والثالث: وصله بألف مثل: باْ، بلا مد. والله أعلم.
وليس في الآية من الحروف المفردة سوى الواو العاطفة، ومعناها لغة: الجمل الذي له سنامان. والأصح أن الواو العاطفة لمطلق الجمع، لا تدل على ترتيب ولا معية، وقيل: تفيد الترتيب، وقيل: هي للمعية.
ومن الحروف ذوات التركيب مع غيرها مما هو مذكور في هذه الآية الشريفة: اللام في قوله تعالى: {لقد من الله} وفي قوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
ومعنى اللام في اللغة: اسم للحرف، ويطلق اسماً للشجر إذا استوى واستقام أيام الربيع، واللام أيضاً اسم للسهم لكنه بلغة الحبشة، وهو أيضاً اسم لشخص الإنسان.(1/354)
وجميع اللامات في كلام العرب منها ما يكون مفتوحاً، ومنها ما يكون مكسوراً. ومن الأول: اللامان في هذه الآية، فقوله تعالى {لقد} هي لام الابتداء، وهي لام التأكيد أيضاً، وكذلك اللام في قوله تعالى {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} معناها التأكيد.
وتجيء اللام في الكلام لمعانٍ، منها: بمعنى الملك المعين، كقوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض}، وتأتي بمعنى ملك المنافع، نحو قولهم: عمارة الدار لزيد، وبمعنى ملك التصرف نحو: خذ طرف الحبل لآخذ طرفه. وتسمى في هذه المعاني: لام الاختصاص.
ولها معان أخر. وهذا على مذهب الكوفيين في مجيء اللام لهذه المعاني، وأما حذاق البصريين فمذهبهم أن اللام على بابها ثم يضمنون الفعل ما يصلح معها، ويرون التجوز في الفعل أسهل من الحرف.
ومن معاني حروف الآية: أن معنى {وإن كانوا} أي: وقد كانوا، جاء تفسيرها بذلك عن ثابت بن يعقوب المقرئ، حدثني الهذيل بن حبيب أبو صالح الأزدي، عن مقاتل بن سليمان قال في قوله تعالى: {وإن} يعني: وقد {كانوا من قبل} أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم {لفي ضلال مبين} أي: بين، وهو الشرك.(1/355)
ومن وجوه الكلام على الآية: النظر في تصرف معاني الألفاظ، ويقال له في فن البلاغة: التصريف البياني الذي ذكره أبو علي الحسن ابن يحيى بن نصر الجرجاني في كتابه ((ضروب نظم القرآن))، وأبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي صاحب ((مجمل اللغة)) في كتابه ((فيما ترجع إليه علوم الإسلام من الفهم والإفهام)) وغيرهما، فذكروا من أصناف البيان: التصريف، وهو القليل من اللفظ يعرف من المعاني بزيادة، فتارة يكون تصريف المعنى في الدلالات المختلفة، وتارة يكون التصريف تصريف المعنى في المعاني المختلفة.
فالأول: كقصة موسى عليه الصلاة والسلام ذكرت في القرآن في غير ما موضعٍ، من ذلك في سورة الأعراف، والشعراء، وطه، لوجوهٍ من الحكمة،
منها: التصرف في البلاغة من غير نقصانٍ عن أعلى مرتبتها.
ومنها: تمكين العبرة والموعظة.
ومنها: ظهور الحجاج على الكفار بالدلالات المختلفة في المعنى الواحد. فهذه الآية الشريفة ذكرت في ثلاث سور من القرآن: في البقرة، وآل عمران، والجمعة.
وفي البقرة ذكرت مرتين في آية الدعوة الإبراهيمية {ربنا وابعث فيهم رسولاً} والآية الأخرى قوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}.
ففي كل موضع من هذه المواضع الأربعة ذكرت بمعناها لدلالات(1/356)
مختلفة. والله أعلم.
والثاني من قسمي تصريف البيان: تصريف المعنى في المعاني المختلفة، فقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} دل معناه على زمنٍ مضى.
وقوله تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} لفظه لفظ الحال.
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} فالمن هنا: اعتداد المعطي بصنيعته على المعطى تقريعاً له.
وقال الله عز وجل: {وأنزلنا عليكم المن والسلوى} فالمن هنا: الطل الحلو الذي ينزل على الأشجار والأحجار، فينعقد كالحلوى فيجتنى ويؤكل.
وقوله تعالى: {فلهم أجرٌ غير ممنون} فسره جماعة بأنه غير مقطوع، والمن في أحد وجوهه: القطع والهدم.
وللمن معانٍ أخر، ومدارها على مادة منن ثلاثة أحرف، بل هي حرفان وتحتهما هذه المعاني، فهذا من تصريف المعنى في المعاني المختلفة.
وكذلك قوله تعالى: {بعث} ومعناه هنا -والله أعلم- أرسل.
ويقال بعثه: أيقظه من نومه. قال الله تعالى: {وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم}.
والبعث أيضاً: النشور من القبور، قال الله عز وجل: {والموتى يبعثهم الله} وقال تعالى: {وأن الله يبعث من في القبور}.
وللعرب التصريف الكثير في معاني الكلمة الواحدة، لكن تارة(1/357)
يذكرونها بلفظها الواحد لعدة معانٍ، وتارة يتصرفون في اللفظ لاختلاف المعنى، فيقولون مثلاً: بعث فلان ويريدون: أرسل، ويقولون: انبعث فلان ويريدون: مضى متتابعاً إلى جهة قصده في خير أو شر.
ويقولون: كسب مالاً، وكسب غيره مالاً، يستعملونه لازماً ومتعدياً، ومن قال: أكسبه -فعداه بالهمزة أو التضعيف-: فقد أخطأ، وكسب واكتسب: معناهما واحد، وذكر بعضهم أن كسب يستعمل في الخير، واكتسب في الشر.
حكى الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود بن أبي محمد البغدادي ابن النجار في ((تاريخ بغداد)) عن أبي شجاع محمد بن عبد الحق المؤدب قال: تذاكرنا الفرق بين الكسب والاكتساب، وأن الكسب في الخير والاكتساب في الشر، لقوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها من اكتسبت}. فأخبرني بعد شخصٌ أنه رأى الوزير ابن هبيرة في المنام(1/358)
قال: فقلت يا سيدي ما فعل الله بك؟ فأنشدني:
قد سئلنا عن مثلها فأجبنا ... بعد ما حال حالنا وحجبنا
فوجدنا مضاعفاً ما كسبنا ... ووجدنا ممحصاً ما اكتسبنا
ومن الحروف المركبة في هذه الآية: ((قد)) في قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} و((قد)) في كلام العرب تأتي على ضربين:
أحدهما: اسم فعل، وتكون مرادفةً لـ: حسب، وهي مبنية على السكون يقال: قد زيدٍ درهمٌ، وربما أعربت فيقال: قد زيدٍ درهم، كما يقال: حسب زيدٍ درهم، ويقال قدي. أي: حسبي، وتزاد فيها النون محافظةً على السكون، فيقال: قدني.
وتأتي أيضاً اسم فعل مرادفةً لـ: يكفي، يقال: قد زيداً درهمٌ، أي: يكفيه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للكفار حين كان يسمع تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((قد قد)) أي: كفى كفى.
والضرب الثاني: أن ((قد)) تكون حرفاً، قال الخليل بن أحمد: ((وقد)) حرف يوجب به الشيء، قاله في ((كتاب العين)).
وتأتي ((قد)) التي هي حرف: للتوقع وتقريب زمن الفعل، ولا يليها(1/359)
بعدها إلا الفعل مظهراً غير مغيرٍ عن حاله التي كان عليها قبل دخول ((قد)) عليه، ولا يفصل بينها وبين الفعل بغيره، وتارة يليها الفعل المستقبل، كقوله تعالى: {قد يعلم الله المعوقين منكم}.
وتارة يليها الفعل الماضي، كقوله تعالى في هذه الآية الشريفة: {لقد من الله على المؤمنين}. ودخول اللام عليها هنا للتأكيد، تحقيقاً لوقوع المن من الله تعالى على المؤمنين.
و((قد)) هذه من الحروف المبنية، لها من مجاري أواخر الكلم الوقف، وهذه المجاري ثمانيةٌ على أربعة أضرب: رفع وضم، ونصب وفتح، وجر وكسر، وجزم ووقف.
هكذا ذكرها سيبويه في ((الكتاب)) ثمانية على أربعة أضرب، جعل ذلك للفرق بين ما يتغير إعرابه ويزول عنه من رفع ونصب وجر وجزم، كالأسماء المتمكنة والأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين، وبين ما لا يزول عنه ما بني عليه من ضم وفتح وكسر ووقف من الأسماء غير المتمكنة، ومن الأفعال الثلاثة -لكن لا ضم في الفعل سوى المضارع- ومن الحروف التي ليست إلا لمعنى، ومنها ((قد)).(1/360)
وهي مبنية على الوقف لا يزول عنها، كما نطقت بها العرب وجاءت في القرآن كذلك في غير ما موضع، ومنه في هذه الآية الشريفة، قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين}.
هذا بعض ما يتعلق من الكلام ببعض الحروف الواقعة في هذه الآية الشريفة، وهو أحد وجوه الكلام عليها.
ومن وجوه الكلام: النظر فيما دلت عليه الألفاظ، وهو علم الأحكام، ومن أحكام هذه الآية الشريفة:
- أن الله عز وجل رفع مقام نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن وضعه من دينه موضع الإبانة عنه ما أراد سبحانه بكتابه عاماً وخاصاً، وفرضاً وندباً، وإباحةً ووقتاً وعدداً، فقال الله عز وجل: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}، وجعل سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسن مما ليس فيه نص كتابٍ، وهذا أحد الأحكام التي في هذه الآية الشريفة {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} وهما: القرآن المعظم، والسنة التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم .
- ومن أحكام هذه الآية المستنبطة منها: أن فيها أدلة الشريعة التي(1/361)
هي أصولها، وهي: الكتاب والسنة والإجماع.
فمأخذ الكتاب والسنة: من قوله تعالى: {ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} فالكتاب: القرآن، والحكمة: السنة.
ومأخذ الإجماع: من مفهوم قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} والمؤمنون هنا هم أمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا أجمعوا بعده على أمر لم يأت فيه نص لم تجز مخالفتهم، كما ذكرهم الله تعالى في قوله: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين} وهم الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية {لقد من الله على المؤمنين}. والرسول المذكور في قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول} هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المذكور في هذه الآية {إذ بعث فيهم رسولاً}.
وأيضاً: يؤخذ الإجماع من مفهوم قوله تعالى {ويزكيهم} لأن الأمة حصلت لهم التزكية، وأشير إليها في آياتٍ، منها قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} ومنها قوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} أي: عدولاً خياراً، واتفاق عدول الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في كل عصر: إجماعٌ.
وهذه الثلاثة -الكتاب والسنة والإجماع- هي الأدلة فقط عند إمام الحرمين أبي المعالي عبد الله بن محمد بن يوسف الجويني رحمة الله عليه، لأن الأدلة عنده لا تتناول إلا القطعي، فلا يكون الدليل إلا قطعياً، والإجماع حجته قطعية عند الأكثرين، لكن إمام الحرمين جعل القياس -الذي هو في المصطلح- مساواة فرعٍ لأصلٍ في علةٍ جامعة- داخلاً مع الثلاثة في الاحتجاج، لقيام القاطع على العمل به.
وكذلك أبو حامد الغزالي عنده أيضاً الأدلة الثلاثة فقط، وجعل القياس داخلاً من وجهٍ غير الوجه السابق، لأنه من طرق الاستثمار، فإنه(1/362)
دلالةٌ من حيث معقول اللفظ، كما أن العموم والخصوص دلالةٌ من حيث صيغته.
وأهل الإجماع مختلف فيهم، فأحد الأقوال في الإجماع: أنه إجماع من كانوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أمة إجابته في أي عصر كان، على أي أمرٍ كان، من إثبات أو نفي أو حكم شرعي أو عقلي أو لغوي.
وقيل: إجماع المجتهدين مطلقاً من الأمة على ما تقدم، فلا اعتبار بإجماع العوام وفاقاً ولا خلافاً.
وقيل: الإجماع إجماع الصحابة فقط، كما حكاه أبو محمد ابن حزم عن مذهب داود بن علي وأصحابه.
والقول الثاني هو الراجح، وقد قال به الأكثرون.
وأدلة القول الأول كثيرةٌ، منها: حث النبي صلى الله عليه وسلم على لزوم الجماعة، وترغيبه في ذلك، كحديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقهٍ غير فقيه، ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، ثلاثٌ لا يغل عليهن(1/363)
قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)).
ومنه حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((ألا فمن سره بحبحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الاثنين أبعد)).(1/364)
ومنه حديث معاوية بن أبي سفيان وغيره رضي الله عنهم مرفوعاً: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمةً بأمر الله لا يضرهم من خذلهم -أو خالفهم- حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون)).
قال الشافعي رضي الله عنه في ((الرسالة)) بعد أن ذكر لزوم الجماعة، فقال: فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، فمن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافةً غفلة عن معنى كتاب الله ولا سنةٍ ولا قياسٍ إن شاء الله تعالى. انتهى قول الشافعي.
وقد استدل بأقوى دليل على الإجماع من كتاب الله عز وجل، وهو قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}.
أنبأنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله المقدسي، عن فاطمة ابنة سليمان الأنصارية، أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله الشافعي إذناً، أخبرنا عمي أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الحافظ(1/365)
سماعاً، أخبرنا محمد بن إسماعيل الفارسي، أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين الخسروجردي، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عبد الله الزبير بن عبد الواحد الحافظ الأسداباذي، سمعت أبا سعيد محمد بن عقيل الفاريابي يقول: قال المزني -أو الربيع-:
كنا يوماً عند الشافعي بين الظهر والعصر عند الصحن في الصفة، والشافعي قد استند -إما قال إلى أسطوانة، وإما قال إلى غيرها- إذ جاء شيخ عليه جبة صوف، وعمامة صوف، وإزار صوف، وفي يده عكاز قال: فقام الشافعي وسوى عليه ثيابه واستوى جالساً، قال: وسلم الشيخ وجلس، وأخذ الشافعي ينظر إلى الشيخ هيبةً له، إذ قال له الشيخ: أسأل؟ قال: سل. قال: إيشٍ الحجة في دين الله؟ فقال الشافعي: كتاب الله. قال: وماذا؟ قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة. قال: من أين قلت: اتفاق الأمة من كتاب الله؟ قال: فتدبر الشافعي ساعةً! فقال للشافعي: قد أجلتك ثلاثة أيام ولياليها، فإن جئت بحجةٍ من كتاب الله في الاتفاق، وإلا تب إلى الله عز وجل.
قال: فتغير لون الشافعي، ثم إنه ذهب فلم يخرج ثلاثة أيام ولياليهن، قال فخرج إلينا اليوم الثالث في ذلك الوقت -يعني بين الظهر والعصر- وقد انتفخ وجهه ويداه ورجلاه وهو مسقام، فجلس قال: فلم(1/366)
يكن بأسرع أن جاء الشيخ، فسلم فجلس فقال: حاجتي!
فقال الشافعي: نعم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} لا يصليه على خلاف المؤمنين إلا وهو فرضٌ. فقال: صدقت، وقام وذهب.
قال الفاريابي: قال المزني -أو الربيع-: قال الشافعي: فلما ذهب الرجل قرأت القرآن في كل يوم وليلة ثلاث مراتٍ حتى وقفت عليه. يعني على دليل الإجماع.
هذا من بعض أحكام القرآن وعجائبه وفوائده وغرائبه. وطريق استنباط ذلك للاتعاظ: الاعتبار بمدلولات الألفاظ.
وكذلك الحكمة المشار إليها في الآية الشريفة، وهي سنة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، فيستنبط من الحديث الواحد مع إيجازه عدةٌ من الأحكام، كيف لا وقد أعطي قائله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم.(1/367)
أخبرنا الخطيبان المتفقان أيضاً في الكنية والاسم واسم الأب والجد: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المصري، قدم علينا دمشق، بقراءتي عليه بها بمسجد العادلية الكبرى، وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن كامل، بقراءتي عليه ببلد حبرون، وآخرون، قالوا: أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد الخطيب قراءةً عليه ونحن نسمع، قال الثاني: وأنا حاضر، أخبرنا عبد اللطيف بن أبي محمد النميري سماعاً، أخبرنا عبد المنعم بن أبي نصر التاجر، أخبرنا علي بن أحمد العمري، أخبرنا محمد بن محمد البزاز، أخبرنا إسماعيل الملحي، أخبرنا الحسن العبدي، حدثنا هشيم بن بشير، عن عبد الرحمن بن إسحاق القرشي،(1/368)
عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أعطيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه)) فقلت: يا رسول الله علمنا مما علمك الله، فعلمنا التشهد في الصلاة.
هذا الحديث على شرط مسلم، لأن عبد الرحمن بن إسحاق القرشي انفرد مسلم بإخراج حديثه دون البخاري، لأن عبد الرحمن هذا عند البخاري ليس ممن يعتمد على حفظه وقال: ((ربما وهم)) فيما ذكره في ((تاريخه)) وللحديث علة وهي مجيئه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً.(1/369)
أنبأنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي الهيجاء السلمي قراءةً عليه وأنا أسمع، في ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة، بالجامع المظفري من سفح قاسيون، أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد التيمي، أخبرنا عبد المعز بن محمد، أخبرنا تميم بن أبي سعيد، أخبرنا علي بن محمد الحاكم، أخبرنا محمد بن أحمد الزوزني، أخبرنا محمد بن حبان التميمي، حدثنا أحمد بن عبد الله بحران، حدثنا النفيلي، حدثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلام وخواتمه -أو جوامع الخير وخواتمه- وإنا كنا لا ندري ما نقول إذا جلسنا في الصلاة حتى علمنا، فقال: ((قولوا: التحيات لله .. .. )) وذكر الحديث.
وله شاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا محمدٌ النبي الأمي، لا نبي بعدي، أوتيت جوامع الكلم وخواتمه، وعلمت [كم] خزنة النار، وحملة العرش)).
وخرج الدارقطني في ((سننه)) من حديث زكريا بن عطية، حدثنا سعيد(1/370)
ابن خالد، حدثني محمد بن عثمان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الحديث اختصاراً)).
وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب.. .. )) الحديث.
فسر جوامع الكلم بالقرآن، لإيجازه واحتوائه على علومٍ لا تحصى،(1/371)
وفنونٍ من البلاغة لا تستقصى.
وفي حديث هند بن أبي هالة رضي الله عنه، في وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ويتكلم بجوامع الكلم فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير)) فسر هذا(1/372)
بأنه الكلام الموجز المفيد المحكم.
وفي ((مسند)) الإمام أحمد -وأصله مخرج في الصحيح- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسرد سردكم هذا، كان يتكلم بكلام يبينه، فصلاً، يحفظه من يسمعه.
وفي قول عائشة رضي الله عنها ((يتكلم بكلام يبينه)) إشارةٌ إلى إحدى حالاته صلى الله عليه وسلم وهو أنه يبين كلامه بمعانيه، حين يتكلم به ويلقيه، ومن أحواله أنه كان يسأل عن كلامه إذا أشكل فيبينه لسامعيه.
ومن الأول: ما أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن هبة الله القيسي الصقلي قراءتي عليه، أخبرنا أحمد بن أبي طالب البياني(1/373)
محمد بن عمر الأصبهاني سماعاً قالا: أخبرنا عبد اللطيف بن محمد كتابةً من بغداد، أخبرنا أبو المعالي أحمد بن عبد الغني سماعاً، أخبرنا أبو منصور محمد بن أحمد الخياط، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن أحمد الصواف، أخبرنا بشر بن موسى، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول على المنبر يخبر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
حديث صحيح متفق على صحته وثبوته، لكنه من الأفراد بالنسبة إلى أوائل الإسناد، ومتواتر بالنسبة إلى الأواخر، فهو من يحيى بن سعيد الأنصاري إلى عمر رضي الله عنه من الأفراد، لم يصح أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير عمر، ولا عن عمر غير علقمة، ولا عن علقمة غير التيمي، ولا عن التيمي غير الأنصاري. هذا التفرد في الإسناد.
وأما بقيته فهو متواتر، فقد رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري خلقٌ(1/374)
بلغ بهم أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده ثلاث مئة رجلٍ وأربعين رجلاً.
وحكى أبو موسى المديني، عن شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري أنه قال: كتبت هذا الحديث عن سبع مئة نفس من أصحاب يحيى بن سعيد -يعني الأنصاري-.
فمن الأنصاري إلينا هو متواتر، وما هذا سبيله في التواتر والإفراد هل يعد متواتراً أو فرداً؟ هذا محل نظرٍ، والظاهر أن الحكم لأول الإسناد. والله أعلم.(1/375)
وأما القسم الثاني من الأحاديث النبوية فمنه: ما أنبأنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله ابن المحب، أخبرتنا زينب ابنة أحمد الكمالية بقراءتي عليها في يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة ست وثلاثين وسبع مئة، أخبرنا يوسف بن خليل الحافظ إجازةً، أخبرنا أبو محمود أسعد بن أحمد بن حامد الثقفي وأبو سعيد خليل بن أبي الرجاء الراراني وأبو المحاسن محمد بن الحسن التاجر سماعاً قالوا: أخبرنا أبو الفضل جعفر بن عبد الواحد، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم قال: قرئ على أبي محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان في سنة ثمان وستين وثلاث مئة فأقر به وأنا أسمع، حدثنا أحمد ابن عبدان بن سنان، حدثنا إسماعيل بن مسعود، حدثنا أحمد بن المنهال السرخسي قال:
مر بخارجة بن مصعب رجلٌ ممن يطلب الأشعار، فدعاه خارجة فقال له: لم لا تطلب الحديث؟ قال: أمرت بطلب الغريب، قال: إن في الحديث من الغريب أكثر مما في الأشعار، هات أغرب ما عندك.
فقال: رأيت الهبنق ذا اللعوتين، غدا كالعملس، في حضنه رؤوس العناظب كالعنجد.
فقال خارجة: أما قولك: رأيت الهبنق: فالهبنق الغلام المدرك قبل أن تخرج لحيته.
ذا اللعوتين: يعني الكلبتين.
العملس: الذئب.
في حضنه رؤوس العناظب: الجراد الذكر.
كالعنجد: الزبيب.
فقال خارجة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ليس على النخة والكسعة والجبهة صدقة)) فما هو؟ فلم يعرفها. فقال: إن الكسعة جماعة(1/376)
العجاجيل من البقر. والنخة: جماعة الحمير. والجبهة: جماعة الخيل.
ومن الباب: ما أنبأنا أبو هريرة عبد الرحمن بن محمد ابن الذهبي وآخرون، عن علي بن محمود بن عبد اللطيف السلمي، أخبرنا أبو الخطاب عمر بن الحسن الحافظ كتابةً، أخبرنا أبو القاسم خلف بن عبد الملك القاضي إذناً، أخبرنا يونس بن محمد بن مغيث، عن جده مغيث بن محمد، عن جده يونس بن عبد الله قال: حدثنا عباس بن عمرو الصقلي الوراق، عن ثابت بن قاسم بن ثابت، عن جده ثابت بن قاسم، حدثنا علي بن عبدك، حدثنا العباس بن عيسى، حدثنا يعقوب(1/377)
ابن عبد الوهاب الزبيري، حدثني محمد بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن جده قال: قال رجل من بني سليم للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله الرجل يدالك أهله؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((نعم إذا كان ملفجاً)) قال: فقال له أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله ما قال لك وما قلت له؟ قال: ((قال لي: الرجل يماطل أهله؟ قال: فقلت: نعم إذا كان مفلساً))، قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله طفت في العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك! فمن أدبك؟ قال: ((أدبني ربي، ونشأت في بني سعد)).
وجاءت هذه اللفظة ((أدبني ربي)) في حديث طهفة بن أبي زهير النهدي، ويقال طهية، ويقال ابن زهير، الذي روي من طريق عن عمران ابن حصين رضي الله عنهما قال: لما قدمت وفود العرب على النبي(1/378)
صلى الله عليه وسلم قام طهفة بن أبي زهير النهدي فقال: أتيناك يا رسول الله من غوري تهامة، على أكوار الميس، ترتمي بنا العيس. الحديث بطوله، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها وفرقها، وابعث راعيها في الدثر، بيانع الثمر، وافجر لهم الثمد، وبارك لهم في المال والولد)).
وفي الحديث: فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا رسول الله نراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره ونحن بنو أبٍ واحد؟! فقال: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي وربيت في بني سعد)).
وقال أبو محمد عبد الله بن محمد البلوي: حدثني عمارة بن زيد الأنصاري، من الأوس من ساكني تيماء، حدثني إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، حدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن زبان بن قسور الكلفي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بوادي الشوحط، ومعه رجل دونه في هديه وسمته، إذا كلم رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال: أومأ إليه أن اقتصد، وإذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، سمعه وفهمه قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت لبعض أصحابه: من هذا؟ قالوا: هذا صاحبه الأخص أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن لوباً -يعني نحلاً- كان في عيلم له(1/379)
طرم وشرو، فجاء رجل فضرب ميتين فأنتج حياً وكفنه بالثمام، فنحس، فطار اللوب هارباً، ودلى مشواره في العيلم، فاشتار العسل فمضى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ملعون ملعون من سرق شرو قوم فأضر بهم، أفلا تبعتم أثره، وعرفتم خبره؟!)) قال: قلت: يا رسول الله إنه دخل في قوم لهم منعة، وهم جيرتنا من هذيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((صبرك صبرك ترد نهر الجنة، وإن سعته كما بين اللقيقة والسحيقة، يتسبسب جرياً بعسلٍ صافٍ ما تقيأه لوبٌ ولا مجه نوب)).
الكلفي هذا مختلف في اسمه، فقيل زبار -بالزاي المفتوحة ثم موحدة مشددة وبعد الألف راء- وقيل كذلك لكن آخره نون، وبه جزم الدارقطني، وقال عن حديثه: منكر الإسناد، ثم قال: حدثنا الحسن ابن رشيق بمصر، حدثنا أحمد ابن محمد بن يحيى بن جرير الهمداني، حدثني أبو محمد عبد الله بن محمد البلوي، فذكره بطوله.
تابعه أبو القاسم يحيى بن علي بن محمد الحضرمي الحافظ، فرواه عن الحسن بن رشيق لكنه قال: زبار -بالراء- كما قاله عبد الغني بن(1/380)
سعيد المصري، وهو ابن قسور وقيل ابن قيسور، ذكره في الصحابة أبو موسى محمد بن أبي بكر المديني في كتابه ((التتمة لكتاب المعرفة)) تأليف أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن منده فاستدركه عليه، واختصر حديثه هذا.
وهذا الحديث وإن كان إسناده منكراً ففصاحة النبي صلى الله عليه وسلم لا تنكر، وبلاغة قوله لا تجهل، وحكم أحاديثه لا تحصى، ومعاني جوامع كلمه لا تستقصى، مع التأييد الإلهي، والمدد الرباني، والعصمة التي ذكرت في القرآن تصريحاً، فقال تعالى: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحيٌ يوحى}. فهذا وأمثاله من الأخبار، مما يدل على بلاغة نبينا المختار، الذي ما ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وعظم. وقلت في معنى ذلك:
بلاغة القول من المصطفى ... في كل فن نورها يشرق
مقاله فصلٌ ومن فضله ... عن الهوى نزه ما ينطق
فما أتى فيما مضى مثله ... كلا ولا يأتي ولا يخلق
صلاة ربي زاكياً نشرها ... عليه يطوى فائحاً يعبق(1/381)
وتشمل الآل وأصحابه ... ومن بهم في هديهم يلحق
آخر الإملاء ولله الحمد حمداً كثيراً
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً دائماً(1/382)
[19] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
أخبر الله تعالى بما من به وتفضل، وتكرم به على عباده المؤمنين وتطول، وأكد الإخبار باللام، تأكيداً لشأن هذا الإعلام، فقال تعالى: {لقد من الله}.
ومعنى {من} -والله أعلم بما أراد- أي: أحسن وأنعم، والمنان -في أحد معنييه- الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال، ويجود بالعطاء قبل الدعاء.
والمؤمنون: هذه الأمة، في قولٍ. والرسول: هو بلا خلاف نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
خرج أبو بكر بن مردويه في ((تفسيره)) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} قال: وكنتم أنتم المؤمنون، وكان محمد صلى الله عليه وسلم هو الرسول إليكم.(1/383)
وخرج أيضاً عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} قالت: من العرب.
وحكى الإمام الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي عن بعضهم أن لفظ الآية عام ومعناها خاص في العرب، لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وقد ولده صلى الله عليه وسلم ولهم فيه نسبٌ إلا بني تغلب، فإن الله سبحانه طهره منهم، لما فيهم من دنس النصرانية، إذ ثبتوا عليها، وبيان هذا التأويل قوله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم}.
وقال الآخرون: أراد به المؤمنين كلهم. ومعنى قوله: {من أنفسهم}: بالإيمان والشفقة لا بالنسب، كما يقول القائل: أنت نفسي، يدل عليه قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}. قاله الثعلبي في ((تفسيره)).
وقوله تعالى: {يتلو عليهم آياته} يتلو من التلاوة -بكسر المثناة فوق وضمها، لغتان- وهي: إتباع بعض القرآن بعضه قراءةً، والآيات هنا فسرت بالقرآن.
ومعنى {يزكيهم}: يصلحهم فيصيرون صالحين متقين. {ويعلمهم الكتاب} يعني القرآن: {والحكمة} يعني السنة، كما تقدم القول في المجلس الأول عن مجاهد عن ابن عباس، وحكاه الشافعي عن من يرضى من أهل العلم: أن {الحكمة} السنة.
والسنة: هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريره على أمرٍ اطلع عليه، وزيد على ذلك: ما إذا سلم من الاعتراض.
وقوله تعالى: {وإن كانوا} أي المؤمنون الذين من الله عليهم {من(1/384)
قبل} أي: من قبل أن يبعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم {لفي ضلالٍ} الضلال: ضد الرشاد والهدى، وقوله {مبين} أي بين ظاهر، حتى إن كثيراً من المشركين قبل البعثة كانوا يعلمون أنهم ليسوا على شيء.
فأي منةٍ أعظم من منة الله علينا، ببعثة نبي الرحمة إلينا، ومجيئه بالقرآن المعظم، وتشريعه الأحكام به وبسنته صلى الله عليه وسلم .
وهذا من بعض أنواع الرحمة التي رحم الله بها هذه الأمة. قال الله عز وجل: {ورحمتي وسعت كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون}.
1- وهذا أحد وجوه شكر النعم.
2- ومن وجوهه: الثناء على الله تعالى وحمده باللسان، جمعاً بين الاعتقاد بالجنان والنطق باللسان.
3- ومنها: لزوم طاعة المنعم سبحانه، والكف عما نهى عنه، لأنه لا مقابلة للنعم إلا بتعظيم المنعم، ولا يحصل تعظيم العبد له إلا بطاعته فيما أمر ونهى.
4- ومنها: الخوف من زوال النعم بمعصية المنعم، والسعي في الأسباب التي تديمها.
5- ومنها: الشكر بالفعل بعد الشكر بالقول، كالإنفاق في سبيل الله ووجوه البر.
6- ومن وجوه الشكر للنعم: ترك الأشر والبطر والتفاخر بها والتكاثر والتكبر.(1/385)
7- ومنها: التحديث بها لأعلى وجه الزهو والافتخار، بل إظهاراً لنعمة الله عليه، وثناءً على المنعم سبحانه بفضله وما ساقه إليه.
8- نعم، وفي ذكر نعم الله: الاستدلال بها على وجوده وعلمه وحكمته ووحدانيته، كما أشير إليه في هذه الآية الشريفة بذكر هذه النعمة العظيمة التي هي أجل أمهات النعم الست التي رويناها عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: النعم ست: أولها: الإسلام، والثاني: القرآن كلام الله، والثالث: محمد رسول الله، والرابعة: الستر، والخامسة: العافية، والسادسة: الغنى عن الناس.
وقد تقدم ذكر هذا الأثر وأبياتي التي نظمتها في معناه:
نعم الله لها مددٌ ... إن رمت الحصر فلن تجدا
فيها نعمٌ أماتٌ لها ... رويت أثراً ستاً عدداً
منها الإسلام، كذا القرآن ... كلام الله أعظم رشداً
ورسول الله فبعثته ... جلت وحلت عيشاً رغداً
والستر لنا خاصاً وكذا ... في عافية ديناً جسداً
والاستغناء بخالقنا ... فالحمد له حقاً أبداً
ولم يذكر فيما مضى أن النعم كلها اجتمعت لهذه الأمة من نعمة واحدة من الست، وهي نعمة الله علينا ببعثة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ، الذي قال الله عز وجل مذكراً ذلك: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً}.(1/386)
1- أما نعمة الإسلام: فقد حصلت بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فلولاه ما كنا مسلمين، ولا علمنا شرائع الدين ولا وجوه الأحكام.
2- وكذلك نعمة الله بالقرآن.
3- ونعمته بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام. وهذه الثلاث مذكورات في قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} أثبت لهم الإسلام. {إذ بعث فيهم رسولاً} دخلت في هذا نعمته سبحانه بمحمد صلى الله عليه وسلم . {من أنفسهم يتلو عليهم آياته} فدخلت نعمة الله بالقرآن.
4- وأما نعمته بالستر قد حصلت أيضاً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، عاماً وخاصاً، دنيا وآخرة، فمن العموم: أن الله تعالى جعل هذه الأمة آخر الأمم، فلا أمة بعدها تقف على ذنوب بعض هذه الأمة، ولا على انتقام الله عاجلاً من بعض من استحق العقوبة منهم، وأي سترٍ أعظم من هذا لهذه الأمة بين الأمم؟!
ومن الستر الخاص: درء الحدود بالشبهات، وجريان الشريعة على الظاهر. قال الله عز وجل: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ولم يقل: وعلى الآباء، لأن المولود له صادقٌ على الآباء وعلى من ولد على فراشه ولم يكن منه جاهلاً ذلك، فيعطى حكم الولد للصلب فلهذا -والله أعلم- عدل عن ذكر الآباء إلى قوله تعالى: {وعلى المولود له} لأن الدين مبني على الظاهر، والله يتولى السرائر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((الولد للفراش)).(1/387)
والأحاديث في الأمر بالستر على عورات المؤمنين كثيرةٌ، كقوله صلى الله عليه وسلم : ((ومن ستر مسلماً ستره الله)) الحديث، فبالنبي صلى الله عليه وسلم حصلت نعمة الله بالستر.
5- وأما نعمة الله بالعافية: فقد حصلت لهذه الأمة:
- منها: أنهم عوفوا مما أصاب قبلهم من الأمم.
- ومنها: أن الله لا يهلكهم بسنةٍ عامة.
- ومنها: أن الله لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فيستبيح بيضتهم. إلى غير ذلك مما عوفوا به.
وربما تستنبط عافية الأمة بوجود النبي صلى الله عليه وسلم فيهم من قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً} ولم يقل منهم، كما صرح في الآية الأخرى {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}.
قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أنزل الله تعالى عليه {وما كان الله ليعذبهم وأنت(1/388)
فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال: ((قد أنزل الله علي أمانين لأمتي: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فإذا مضيت تركت فيكم الاستغفار)) إلى غير ذلك من صنوف العافية حساً ومعنى، وكل ذلك حصل ببعثة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم .
6- وأما الغنى عن الناس: فقد حصل للأمة عاماً وخاصاً.
- فمن العموم: ما أحله الله لهم من الغنائم التي حرمت على من كان قبلهم، وما أبيح لهم مما حظر على غيرهم، وما ساقه الله إليهم من الفتوحات والغنائم على يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم من المقاتلين، لتكون كلمة الله هي العليا.
ومنها: ما شرع لهم من المكاسب ووجوه التجارات وأصناف الزراعات، وأنواع الأسباب في الأرض، وإرفاق بعضهم ببعض.
- ومن الخصوص: ما فرضه الله من الزكوات في أموال الأغنياء لمن كان محتاجاً إليها من الأصناف المباحة لهم أخذ الزكاة، فأغناهم الله بذلك حتى قيل: لو أخرجت الزكاة كما شرعت وصدق آخذوها لم(1/389)
يوجد فقير ولا مسكين.
ومنها: ما جعله الله في قلوب خيار أمته من الغنى والرضى والاستغناء بالله عز وجل عمن سواه، حسبما دلهم النبي صلى الله عليه وسلم وأرشدهم إليه بقوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث منها: ((ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)). ومنها: ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله)).
فقد حصلت للأمة نعمة الغنى حساً ومعنىً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فجميع الخلق مغمورون بهذه النعمة العظيمة التي ذكرنا الله تعالى إياها بقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً} الآية.
وفي التذكير بالنعم الاستدلال على الله عز وجل، كما تقدم، فبها يستدل على وجوده سبحانه، لأنا إذا أنعمنا النظر في بعض نعم الله -ومنها ما أشير إليه في هذه الآية {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً}- ظهر لنا الدليل القطعي الذي لا ريب فيه، وقام البرهان الجلي الذي لا شك يعتريه، بوجود المنعم، وهو الله سبحانه، وأنه قادر فمن قدرته حصول ما أنعم به وتفضل، ووصول ما من به وتطول.
وفي إيصال النعم إلى أربابها والأرزاق، وما قدره الله تعالى من العطاء والإرفاق: إشارةٌ إلى أن الله عز وجل قد أحاط بكل شيء علماً، فأوصل(1/390)
من نعمه إلى كل حي قسماً، وفي ترتيب الأرزاق والنعم، وتقديرها بين الأمم: دلالةٌ على حكمة الله فيما قسم.
وفي تصرف الله في مخلوقاته وتدبيره أمر مكوناته أعظم دليل على أنه سبحانه واحدٌ لا شريك له ولا عديل، وفردٌ لا ثاني له ولا شبيه ولا مثيل.
فنعم الله دالة على وجوده، وقدرته، وعلمه، وحكمته، ووحدانيته، وهذا من بعض أسرار الذكر الحكيم المستنبط دليلاً من قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً}.
وهذا الرسول قد تقدم أنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي أرسله الله للعالمين رحمة، وأتم به على المؤمنين النعمة، وجعله نبي الرحمة والمراحم، وهو الذي أمر أمته المرحومة بالتعاطف والتراحم، في أحاديث مسندةٍ مرضية، ومنها الحديث المسلسل بالأولية، الذي رويناه فيما تقدم من اثنتي عشرة طريقاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه طريقٌ ثالثة عشرة.
أخبرنا الشيخ المسند الكبير المحدث الأصيل، شهاب الدين أبو هريرة عبد الرحمن ابن الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله ابن الذهبي بقراءتي عليه بكفر بطنا، وهو أول حديث سمعته منه يومئذ بمنزله، أخبرنا أبو نصر محمد بن محمد ابن محمد أبي نصر الفارسي، أنبأنا الإمام شيخ الإسلام شهاب الدين أبو عبد الله وأبو نصر عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي.
وأخبرنا أبو المعالي عبد الله بن المسند أبي إسحاق السنجاري بقراءتي عليه، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو الثناء محمود بن خليفة العقيلي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو عبد الله محمد ابن أبي القاسم عبد الله بن عمر المصري، وهو أول حديث سمعته منه.
وأنبأنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله المقدسي، عن أبي عبد الله محمد ابن أبي القاسم المذكور قال: أخبرنا شيخنا شيخ الإسلام شهاب الدين أبو عبد الله عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي، وهو(1/391)
أول حديث سمعته منه، أخبرنا الإمام عمي شيخ الإسلام ضياء الدين أبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله بن محمد بن عمويه عبد الله، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو القاسم زاهر بن طاهر الشحامي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا أبو حامد أحمد ابن محمد بن بلال، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا عبد الرحمن ابن بشر بن الحكم العبدي، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا سفيان ابن عيينة، وهو أول حديث سمعته منه، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاصي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)).
الكلام على هذا الحديث من وجوه ترجع إلى أمرين، أحدهما يتعلق بالسند، والثاني بالمتن.
فالأول: السند -ويقال الإسناد- هذا مذهب الجمهور أنه لا فرق بينهما، وقيل: السند الإخبار عن طريق المتن. والإسناد: رفع الحديث إلى قائله.
وأصل السند في اللغة: الارتفاع، وغالب أنواع علوم الحديث تتعلق بالسند الذي تفردت به هذه الأمة الشريفة، فهو من خصائصها، وهو من دين الإسلام، كما:
أخبرنا عدة من الشيوخ منهم البهاء أبو محمد رسلان بن أحمد الطرائفي قال: أخبرنا عمر بن محمد بن عمر الفارسي في آخرين قالوا: أخبرنا إبراهيم بن عمر، أخبرنا منصور بن عبد المنعم، أخبرنا محمد بن الفضل، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، أخبرنا(1/392)
إبراهيم بن محمد، حدثنا مسلم قال: وحدثني محمد بن عبد الله بن قهزاذ من أهل مرو، سمعت عبدان بن عثمان يقول: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
تابعه أبو الموجه محمد بن عمرو قال: حدثنا عبدان قال: سمعت عبد الله بن المبارك رحمه الله، فذكره.
ورواه علي بن الحسن بن شقيق، سمعت عبد الله بن المبارك يقول: الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال الناس ما شاؤا.
فمن فوائد سند الحديث أنه يدخل في أنواع من علوم الحديث:
1- منها الصحيح، لأن الترمذي صححه في ((جامعه)) لكنه في آخر مراتب الصحيح التي هي أعلى مراتب الحسن، وإسناده كلهم ثقات وهم من رجال الصحيح غير أبي قابوس، وقد قصرت درجته عن ثقات(1/393)
الصحيح وارتفعت عن مرتبة الضعفاء، لكونه وثق فحسن حديثه لذلك، وبهذا يدخل أيضاً في نوع الحسن.
2- ومما يدخل فيه أيضاً من الأنواع: الأفراد، لتفرد سفيان به عن شيخه عمرو، وتفرد عمرو به عن أبي قابوس.
3- ومنها: المسلسل، وهو من أحد أقسامه الأربعة، لأنه مقطوع الأول من التسلسل، على الصحيح المشهور.
وفيه تسلسل من وجه آخر، يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
4- ومنها: المعل، ولا يقال: من شرط الصحيح والحسن أن لا يكون فيه علة وهذا الحديث معل، لأنا نقول: العلل التي جاءت في هذا الحديث غير قادحة فيه، وإذا لم تقدح العلة لا تأثير لها، والعلل التي جاءت في هذا الحديث من وجوهٍ، منها: اختلافٌ وقع في سنده لكنه خطأ، فجميع طرق الحديث التي وقعت لنا: عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس.
ووقع لنا من طريق أبي حامدٍ محمد بن هارون الحضرمي، حدثنا الحسن بن داود، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن دينار، عن قابوس، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
فقوله ((عن قابوس)): يخالف الرواية الأولى المتفق عليها من جميع طرقه: عن أبي قابوس: وهذه الصواب، ورواية الحسن بن داود خطأ، وهو ابن داود بن محمد بن المنكدر، قال البخاري: يتكلمون فيه.
وقد جاء كرواية المنكدري هذا من طريق عبد الله بن سبعون القيرواني، عن عبيد الله بن سعيد الوائلي، بسنده إلى عمرو بن دينار قال فيه: عن قابوس، كرواية المنكدري. قال أبو القاسم بن عساكر: ولعل أبا محمد بن سبعون لما حدث به من حفظه وهم فيه. انتهى.(1/394)
وفيه كلام غير ذلك ذكرته في كتابي ((نفحات الأخيار)).
5- ومن العلل في الحديث: المقلوب، فهذا الحديث من جميع طرقه التي وقعت لنا من رواية سفيان، عن عمرو، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو.
ورويناه من طريق أبي العباس محمد بن يونس بن موسى الكديمي القرشي الشامي البصري أحد الأعلام المتروكين، عن الحميدي، عن سفيان، فذكره إلا أنه قال بدل ((عبد الله بن عمرو)): عن عبد الله بن عباس، فانقلبت عليه، لرعب حصل لديه، فيما أعلم، والله أعلم.
وكان شيخ الإسلام وحافظ الأعلام قاضي القضاة أبو الفضل ابن حجر أمتع الله بوجوده أوقفني على كتاب صنفه في المقلوب، فلما حضر الدرس هنا أول يوم، ورويت في الدرس حديث الكديمي هذا فقال لي: هذا مما كنا فيه من المقلوب.
6- ومن العلل في الحديث: تعارض الرفع والوقف، وقد اختلف في الحكم في تعارض الوصل والإرسال، أو الرفع والوقف. فعلى الصحيح المختار الذي عليه الفقهاء والمحققون من المحدثين وأصحاب الأصول أن الحكم لمن وصل أو رفع إذا كان ثقة، لأن ذلك زيادة ثقة: على من لم يروها فتقبل.(1/395)
وهذا الحديث رواه أبو أحمد بشر بن مطر الواسطي، عن سفيان بن عيينة، فذكره موقوفاً على عبد الله بن عمرو قوله، والحكم لمن رفع الحديث لوجوهٍ:
- منها: أنها زيادة ثقة فتقبل.
- ومنها: أن الذي وقفه واحد والذي رفعه جماعة.
- ومنها: أن حال من وقفه وهو بشر بن مطر لا يقاوم حال من رفعه من أصحاب سفيان كأحمد بن حنبل، ومسدد بن مسرهد، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأضرابهم.
وثم وجوه أخر من العلل في هذا الحديث تقدم ذكرها، كالمزيد في متصل الأسانيد وغير ذلك، لكن جميع ما أعل به الحديث غير قادح فيه، لما بيناه، والله أعلم.
7- ويدخل الحديث في نوع معرفة الأسماء والكنى، لأن في سنده أبا قابوس، واسمه كنيته على الصحيح، وتقدم أن أبا قابوس ثلاثةٌ، وربما يكون لهم رابع، وهو ما جاء في قول الراجز:
لقد ولدت أبا قابوس رهوٌ ... أتوم الفرج حمراء العجان
الرهو: الواسعة عند الجماع، والأتوم: المفضاة، والعجان، ما بين الدبر والصفن الذي هو وعاء الخصيتين.
8- ويدخل الحديث في نوع المتابعات والشواهد، فقد روينا الحديث من طريقٍ متابعٍ لأبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو، في ((مسندي)) الإمامين أحمد بن حنبل وعبد بن حميد، كلاهما روياه عن يزيد -هو(1/396)
ابن هارون- أخبرنا حريزٌ، حدثنا حبان الشرعبي، عن عبد الله بن عمرو ابن العاصي رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره بمعناه مع زيادة.
وأما الشواهد: فللحديث شاهدٌ من حديث جماعة من الصحابة، منهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم.(1/397)
9- ويدخل الحديث في معرفة العالي والنازل: لأن فيه العلو الحسي، لقلة عدد رجاله في الطريق الأولى، والتحويل في الطريق الثانية. وأما النزول في الحديث: فهو في طريقه المتصلة الإسناد بالسماع.
10- ويدخل في المتفق والمفترق: كعمرو بن دينار ثلاثة، وتقدم.
11- ويدخل في المؤتلف والمختلف: كالعقيلي شيخ شيخنا، بفتح أوله، نسبة إلى جده الأعلى عقيل، وإليه ينسب بني عقيل الخيميون بدمشق، وتشتبه هذه النسبة بالعقيلي -بالضم مصغراً- وهم كثيرون.
12- ومنها: معرفة الموالي، فقد وقع في هذا السند ثلاثةٌ من الموالي على نسق، فسفيان بن عيينة: جده أبو عمران، واسمه ميمون، مولى لبني هلال. وشيخه عمرو والده دينارٌ، مولى، واختلف في مواليه، فقيل: هو مولى بني جمح، وقيل: مولى بني مخزوم، وقيل: مولى باذان عامل كسرى على اليمن. وشيخ عمرو أبو قابوس المكي، مولى عبد الله بن عمرو بن العاصي.
ويدخل هذا في المسلسل بالموالي، فيكون تسلسله من وجهين؛ ولأبي موسى محمد بن أبي بكر المديني مصنف في مسلسل الأسماء.(1/398)
13- ومنها أنه يدخل في النوع الذي ذكرته، وبذلك الاسم لقبته، وهو (ذكر من له نسب، يستقيم إذا انقلب)، وقد وقع منه في إسناد هذا الحديث شيخ مشايخنا أبو نصر عمر بن محمد بن عمر أبي نصر الفارسي.
14- ومنها: معرفة الأسماء المحولة إلى غيرها، ولأبي المظفر يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد السرمري رحمه الله مؤلف في ذلك، ويظهر هذا النوع من ترجمة صحابي الحديث، وهو عبد الله ابن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما، كان اسمه كاسم جده: العاصي، فلما أسلم -وكان إسلامه قبل أبيه- حول النبي صلى الله عليه وسلم اسمه فسماه عبد الله.
وأبوه وأمه ريطة بنت منبه بن الحجاج صحابيان أيضاً، قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : ((نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله)) رضي الله عنهم. ولم يكن بين عبد الله وأبيه عمرو في السن سوى إحدى عشرة سنة، وقيل اثنتي عشرة سنة.
توفي عبد الله رضي الله عنه سنة ثلاث -وقيل سنة ثمانٍ- وستين، وقيل سنة ثلاث وسبعين بمكة، وقيل بالطائف، وقيل بمصر، وقيل بفلسطين، وهو أحد المكثرين من الصحابة، ومن جمع بين القرآن(1/399)
والتوراة حفظاً.
هذا من بعض ما يتعلق بسند الحديث.
وأما ما يتعلق بمتنه -والمتن في اللغة: ما صلب من الأرض وارتفع، ويقال الظهر من الفرس والدواب. وفي المصطلح: المتن: ما انتهى إليه السند من الكلام-.
1- فمن فوائد متن الحديث: أن الجزاء من الله تعالى عاجلاً وآجلاً، يكون من جنس ما كان ابن آدم به عاملاً، لقوله صلى الله عليه وسلم : ((الراحمون يرحمهم الرحمن)).
2- ومنها: الإشارة إلى أن الجزاء على الأعمال، يكون أعظم مما يخطر في البال، لذكر اسم الرحمن تبارك وتعالى في سياق قوله: ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) لأن الرحمن على أحد الأقوال في تفسير معناه أنه ذو الرحمة التي لا غاية بعدها.
3- ومنها: أن في أسماء الله الحسنى ما هو خاص في التسمية، خاص(1/400)
في المعنى، كالاسم الأعظم الذي هو الله.
ومنها ما هو عام في التسمية خاص في المعنى، كالرحيم عام في التسمية قال الله عز وجل في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم : {بالمؤمنين رؤوف رحيم}، وتقول العرب: كن بي رحيماً.
وخصوص هذا الاسم في المعنى يظهر مما روي عن عكرمة وغيره أن الرحمن برحمة واحدة، والرحيم بمائة رحمة، إشارة إلى رحمة الرحيم في الآخرة، وهي هناك خاصة بالموحدين، بخلاف رحمته في الدنيا الدال عليها اسم الرحمن، فإنها عامةٌ في الدنيا للمؤمن وغيره.
ومن أسماء الله تعالى ما هو خاص في التسمية عام في المعنى، كالرحمن، وهو الذي عمت رحمته في الدنيا جميع خلقه، فهذا العموم، وأما الخصوص فإن الرحمن لم يسم به أحد غير الله، ولا يرد عليه ما روي أن مسيلمة كان يسمى رحمان اليمامة، فهذا -إن صح- لم يسم به مسيلمة إلا مقيداً باليمامة لا مطلقاً.(1/401)
وقد روى إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {هل تعلم له سمياً} قال: لم يسم أحد الرحمن غيره سبحانه وتعالى.
وهذه الثلاثة ذكرها جماعة ممن تكلم في معاني أسماء الله الحسنى، ولم يتعرضوا لقسم رابع، وهو العموم في التسمية والعموم في المعنى. ومع هذا لابد من اعتقادنا اعتقاداً يقينياً قطعياً لا ريب فيه، ولا شك يعتريه، ولا تشبيه يفسده ولا تعطيل يجحده: أن الله سبحانه وتعالى +وله المثل الأعلى- لا تشبه ذاته ذوات المخلوقين، ولا صفاته صفات المحدثين، تقدس وتعالى عن الشبيه والمثيل والنظير {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
وفي قول عكرمة وغيره: الرحمن برحمة واحدة -يعني في الدنيا- والرحيم بمائة رحمة -يعني في الآخرة- بشارة عظيمة للمؤمنين. وفي معناه قال شيخ الإسلام أبو زكريا النواوي رحمه الله: قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان من رحمةٍ واحدةٍ في هذه الدار المبنية على الأكدار: الإسلام والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه وغير ذلك مما أنعم الله تعالى به، فكيف الظن بمئة رحمةٍ في الدار الآخرة، وهي دار القرار ودار(1/402)
الجزاء. والله أعلم. قاله في ((شرح صحيح مسلم)).
ولي أبياتٌ في معناه، نختم بها ما أمليناه، وفيها من صناعة البديع المعلم، نوعٌ يسمى (التزام ما لا يلزم) ويسمى أيضاً (الإعنات) وهو: أن الناظم أو الناثر يعنت نفسه في التزام ردف أو دخيلٍ أو حرفٍ مخصوصٍ قبل حرف الروي، فيصير بذلك للقوافي طلاوة، وللأسجاع حلاوة، وفي كتاب الله تعالى كثير من هذا النوع، كقوله عز وجل: {فأما اليتيم فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر} وكان قد أولع الناس بهذا النوع في أشعارهم، فنظم فيه أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري ديواناً وقفت منه على مجلد لكن فيه بلايا من الاعتقاد الخبيث، نسأل الله السلامة والعافية.
والأبيات الموعود بإنشادها التزمت فيها حرف الفاء بعد حرف التأسيس الذي هو ألفٌ ساكنة لا تختلف، وقبل حرف الروي المقدم على حرف الإطلاق الذي يكون به الوصل لمد الصوت والترنم، فقلت:(1/403)
من رحمة الله أتت رحمةٌ ... فعمت المؤمن والكافرا
وكل ذي روح ومنها التي ... ترفع عن مولودها الحافرا
وأعظم الرحمة توحيدنا ... لله، نرجوه لنا غافراً
وفضل دنيانا فمنها أتى ... مؤلفاً ليس يرى نافراً
من رحمةٍ واحدةٍ كل ذا ... سبحان من أطلعه سافراً
لكن في الأخرى لنا رحمةٌ ... نرجو بها الخير غداً وافراً
ينال كل جنةً خالداً ... فيها مقيماً بالمنى ظافراً
آخر المجلس ولله الحمد حمداً كثيراً
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً(1/404)
[20] بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
إذا تدبرنا قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} الآية، وجدنا له وجوهاً من التفسير والتأويل تقدم ذكر بعضها، والآن نذكر وجهاً واحداً يتعلق بالمعاني والبيان، وهو أحد وجوه العربية ومذاهب اللغة، التي بمعرفتها يعقل عن الله عز وجل كتابه وما استودعه من حكمه وآياته، وحججه المنيرة وبراهينه القاطعة ومواعظه الشافية، وبها يفهم عن نبيه صلى الله عليه وسلم أخباره المؤدية لأمره ونهيه، وآثاره الموصلة إلى سنته وهديه. وبمعرفة ذلك يتسع المرء في منطقه، فإن قال أفصح، وإن احتج أوضح، وإن كتب أبلغ، وإن خطب أعجب، قاله بنحوه أبو علي الحسن ابن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي في كتابه ((المنطق))، وليس هو بالمنطق الذي يذكره أهل الكلام وبعض الأصوليين، وإنما هو منطق العربية من فنون الكلام وأجناسه وحدوده ومعانيه.
والكلام في المعاني منه أقسام البلاغة الواقعة في القرآن على أعلى مراتبها، فمما يتعلق بالآية الشريفة التي تلوناها من ذلك:
1- الإيجاز وهو: بيان المعنى بأقل ما يمكن من الكلام.
وقيل: الإيجاز: إظهار الكثير من المعاني بلفظ يسير.(1/405)
وقيل: هو تهذيب الكلام بما يحسن به البيان، وقيل غير ذلك.
والإيجاز على وجهين: حذف، وقصر.
فالحذف: إسقاط كلمة للاجتزاء عنها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام، وهو كثير في القرآن، ومنه قوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} أي: من قبل بعث هذا الرسول فيهم، أو تلاوته القرآن عليهم، أو التزكية لهم، أو تعليم الكتاب والسنة، والله أعلم بما أراد.
ومن الحذف نوع يقال له: حذف الأجوبة، وهو أبلغ من ذكرها، وفي القرآن منه كثير، كقوله تعالى: {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} أي: لكان هذا القرآن. والله أعلم بما أراد.
وأما القصر أحد وجهي الإيجاز: فهو أغمض من الحذف، كقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} ولا يفهم من القصر التقصير، فإن القصر بلاغة، والتقصير عي، فالقصر ما يقتصر عليه ويكتفى به، يقال: كان ذلك قصري وقصاراي. والتقصير: التواني في الشيء فلا يوصل إلى الغرض.
ومن أقسام البلاغة: 2- الإطناب وهو داخلٌ في الإيجاز من وجه، لأنه إذا ظهرت الفائدة بما يستحسن فهو إيجاز لخفته على النفس، قاله أبو الحسن الرماني.
والفرق بين الإطناب والتطويل -الذي ليس من البلاغة وهو عي- يظهر من مثال ضربه أبو الحسن علي بن عيسى بن علي الرماني في(1/406)
((النكت في إعجاز القرآن)) فصاحب التطويل كسالك طريقاً بعيداً جهلاً منه بالطريق القريب، وصاحب الإطناب كمن سلك طريقاً بعيداً لما فيه من النزه الكثيرة والفوائد العظيمة، فيحصل له في الطريق إلى غرضه من الفائدة على نحو ما يحصل له بالغرض المطلوب.
ووجه الإطناب ظاهر في قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً} الآية.
ومن أقسام البلاغة: 3- الاستعارة، وهي التي توجب بلاغة ببيانٍ لا تنوب منابه الحقيقة، ولابد لكل استعارة من حقيقة، ومن معنى مشتركٍ بين المستعار منه والمستعار له، فلابد من بيانٍ لا يفهم بالحقيقة. فقوله تعالى: {لقد من الله} حقيقة من: أحسن وأنعم، والإحسان قد يكون بسؤال وقد يكون بلا سؤال، والمن هو الإحسان ابتداءً بلا سؤال، فعلى هذا: (من) أبلغ من الحقيقة الذي هو (أحسن)، والمعنى المشترك بينهما: إيصال النفع إلى المنعم عليه، إلا أن الإيصال ابتداءً كمفهوم (من) أبلغ. والله أعلم.
ومن أقسام البلاغة: 4- الفواصل: وهي الأسجاع والقوافي. فالفواصل: حروفٌ متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني، وهي على وجهين:
أحدهما: على الحروف المتجانسة، ومنه قوله تعالى في هذه الآية الشريفة: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم}.
والوجه الثاني: على الحروف المتقاربة، ومثلوه بقوله تعالى: {الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين} فالميم والنون متقاربان.
ومن أقسام البلاغة: 5- حسن البيان، وأعلى مراتبه ما جمع أسباب(1/407)
الحسن في العبارة: ثم تعديل النظم، حتى يحسن في السمع ويسهل في النطق وتتقبله النفس، وحتى يأتي على مقدار الحاجة فيما هو حقه من المرتبة.
ولا يخفى ما في قول الله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} الآية من حسن البيان على أعلى مراتبه.
ومن أقسام البلاغة: 6- التصريف، وهو أحد أصناف البيان، وليس المراد التصريف الذي هو الكلام على أسماء وأفعال يكون فيها أحد حروف العلة التي هي عند الجمهور ثلاثة: الياء والواو والألف، إلى غير ذلك من أحكامه، هذا عند أئمة العربية أحد ضربي التصريف.
وأما الضرب الثاني: فهو المراد هنا، وهذا التصريف أحد أصناف البيان التي ذكرها أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني في كتابه ((ضروب نظم القرآن)) وأبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي صاحب ((المجمل)) في كتابه ((فيما ترجع إليه علوم الإسلام من الفهم والإفهام)) وغيرهما، فذكروا من أصناف البيان (التصريف) وهو: القليل من اللفظ يعرف من المعاني بزيادة تقع في البناء الأول، وهو على قسمين:
تصريف المعنى في الدلالات المختلفة، كقصة موسى عليه الصلاة والسلام، ذكرت في القرآن في سورة الأعراف، وفي سورة الشعراء، وفي سورة طه، وغيرها من السور، لوجوه من الحكمة:
منها: التصريف في البلاغة من غير نقصانٍ عن أعلى مرتبتها.
ومنها: تمكين العبرة والموعظة.
ومنها: ظهور الحجاج على الكفار بالدلالات المختلفة في المعنى الواحد.
وهذه الآية الشريفة ذكرت أيضاً في غير سورة آل عمران: في سورة(1/408)
الجمعة: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
وذكرت أيضاً في الدعوة الإبراهيمية التي في سورة البقرة: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}.
وآية آل عمران ذكرت تعريفاً لبعض نعم الله على المؤمنين وحثاً لهم على شكرها، وتعريفاً لإجابة الدعوة الإبراهيمية التي ذكرت في سورة البقرة، وآية الجمعة ذكرت بعد ذكر تسبيح الله وتمجيده وتقدسيه، وذكر عدة من أسمائه، تعظيماً لشأن هذا الرسول المبعوث صلى الله عليه وسلم ، فاختلفت الدلالات في المعنى الواحد.
والقسم الثاني: تصريف المعنى في المعاني المختلفة، وهو عقدها به على جهة المعاقبة، فقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} يدل على زمنٍ قد مضى.
وقوله تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} لفظه لفظ الحال.
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} المن المنهي عنه هنا: أن يعتد بصنيعته على المعطى فيمن بها عليه.
وقوله تعالى: {وأنزلنا عليكم المن والسلوى} المن هنا الطل الحلو ينزل على الأشجار والأحجار، فيكون كالصمغ يجتنى منه ويؤكل.
وقوله تعالى: {فلهم أجر غير ممنون} فسره جماعة أنه غير مقطوع، فالمن في اللغة على أحد وجوهه: القطع والهدم.
فهذه المعاني مدارها على مادة (م ن ن) وهي ثلاثة أحرف، بل حرفان أحدهما مكرر، وتحتها هذه المعاني.(1/409)
ومن أصناف البيان: الإعراب، وله وجهتان في العربية إحداهما: الفرق بين المعاني: كالفاعل والمفعول، فقوله تعالى: {إذ بعث فيهم رسولاً} دل بهذا الإعراب على أن الباعث هو الله، والرسول هو المبعوث، وكذلك ما بعده من الفرق بين التالي والمتلو ونحوهما.
فلو غير الإعراب -ونعوذ بالله من ذلك- لتحول المعنى.
وقد روي أن رجلاً كان ممن يرى رأي شبيبٍ الخارجي يقال له: الشيباني جيء به أسيراً إلى عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك: ألست القائل:
فمنا سويدٌ والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال له: لم أقل هكذا وإنما قلت:
ومنا -أمير المؤمنين- شبيب ...
فعفا عنه عبد الملك.
والجهة الأخرى التي للإعراب: الإتباع في قوله تعالى: {إذ بعث فيهم رسولاً} هذا فاعله معلوم من مفعوله، إلا أنه أتبع الفعل فيه، فلو قلت زيدٌ الماء، كان بعض الكلام معرباً وبعضه غير معرب، فإذا أتبعته: شرب فقلت: شرب زيد الماء، صار الكلام كله معرباً.
ومن أصناف البيان: 8- النظم، وهو التئام الكلام مع الذي قبله أو بعده، فيحكم له بحكمه، فقوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} بين في هذا أن الحكمة -وهي هنا السنة النبوية- حكمها في(1/410)
التعليم حكم الكتاب، لانتظامها في الذكر والتئامهما في الكلام.
ومن ضروب النظم في الآية: حسن نظمها في التئامها بما قبلها وبعدها، وتمكن كل كلمة في موضعها.
ولا يرد على هذا ما في آية الدعوة الإبراهيمية التي فيها تقديم التعليم على التزكية، وهي قوله تعالى إخباراً: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم}. لأن إجابة الله هذه الدعوة قد حصلت: من البعثة، وتلاوة الآيات، وتعليم الكتاب والحكمة، والتزكية.
لكن قدمت التزكية على التعليم في آية الإجابة، وهي هذه الآية: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} لأنه لما كان متعلمو العلم على قسمين: صالحين وغير صالحين، والصالح: يفيد فيه التعليم ويبعثه العلم على العمل أكثر من غيره، لصلاحه الذي هو التزكية الذي كان متقدماً على طلب العلم -فقدمت التزكية قبل التعليم هنا لفوائد، منها ما ذكر؛ والله أعلم بما أراد. فظهر بهذا في الآية تمكن نظم قوله تعالى: {ويزكيهم} قبل قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
ومن أصناف البيان: 9- الاعتبار، واختلفوا في اشتقاقه فقيل: هو من عبور النهر من أحد شطيه إلى الآخر.
وقيل: هو من: عبرت الدراهم، إذا عرفت وزن كل درهم منها.
وقيل: من اعتبرت الكتاب إذا قرأته في نفسك من غير نطق متدبراً ما فيه.
وصورة الاعتبار: مثل ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه(1/411)
قال: إذا سمعت قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} فارعها سمعك فإنه خير يأمرك به، أو شر ينهاك عنه.
ومثلوا للاعتبار: أن تسمع كلام من لم تره يقول لآخر غائب عن نظرك أيضاً: قم. فإذا اعتبرت هذا الأمر علمت أن المأمور بالقيام لم يكن قائماً، بل كان على حالة تخالف القيام، ثم تعتبر أن عاقلاً آمراً لا يقول لمأمورٍ عاقل قم إلا وثم معنى للقيام من جلب منفعة، أو دفع مضرة، أو حالٍ توافق عقل الآمر والمأمور.
فإذا اعتبرنا قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} علمنا أنه أنعم عليهم، ثم ننظر في وجوه إنعامه فنراها لا تحصى، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}، فيصير الفكر ملتفتاً إلى ذكر ما من الله به سبحانه على المؤمنين، فسمعنا قوله تعالى: {إذ بعث فيهم رسولاً} فمال الفكر إلى هذا الرسول ممن هو؟ فقال سبحانه وتعالى: من أنفسهم، فاعتبرنا فائدة البعثة فعلمنا أنه ما بعثه في المؤمنين إلا لجلب منافع لهم، ودفع مضار عنهم، فتشوفنا إلى ذكر بعض ذلك فقال سبحانه: {يتلو عليهم آياته ويزكيهم} الآية، فهذا من جلب المنافع. وقوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} أي: فأنقذهم منه، فهذا من دفع المضار.
وإذا اعتبرنا قوله تعالى {من قبل} ظهر أن الإيمان لم يحصل للمؤمنين في الوجود الخارجي إلا من هذه البعثة، لقوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
وهذه الأربعة: التصريف: وهو في الكلمة، والإعراب: وهو في الخبر، والنظم: وهو في القصة، والاعتبار: وهو معيار الثلاثة - هذه الأربعة هي أقسام البيان في الكلام.
وزاد أبو الحسين أحمد بن فارس على الأربعة أربعة أخر يكون بها أيضاً الفهم والإفهام وهي: الخط، والعقد، والإشارة، والنصبة.
وحكى هذه الأربعة أبو المطهر محمد بن داود النحوي في شرحه(1/412)
رسالة أبي الحسن علي بن عيسى بن علي الرماني في النكت في إعجاز القرآن.
10- أما الخط: فهو ثلاثة أنواع منها: ما أشير إليه في الحديث: أن نبياً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان يخط، فمن وافق خطه فذاك.(1/413)
وهذا من الأحكام في الواقعات بخطوط يعرفها أهلها، وقد ذهب علم هذا الخط، كما جزم به أبو الحسين ابن فارس وغيره.
والثاني: خط المهموم والحزين على الأرض، كقول الشاعر:
أخط وأمحو كل شيء خططته ... بكفي والغزلان حولي رتع
ويروى: والغربان حولي وقع.
والخط الثالث: الكتابة التي تقرأ ويتداولها الكتاب، سواءٌ كانت بعربية أو غيرها، وأشير إلى هذا الخط في هذه الآية الشريفة بقوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب} والكتاب هو المكتوب، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عدة من الكتاب، منهم الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، فكان إذا نزل شيء من القرآن يأمرهم بكتابته ووضع كل آية أو سورة مكانها.
11- وأما العقد: فهو عقد الحاسب بيده عدداً يفهم بصورة عقده، ويعقد باليد من واحد إلى ما لا نهاية له. ومنه الحديث في التسبيح:(1/414)
((واعقدن عليه بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقاتٌ)) لكن ليس هذا من وجوه البيان صريحاً في القرآن، مع ذكر العد وعقود بعضه في القرآن.
نعم، إن أريد بالعقد ارتباط الكلام والتئام بعضه ببعض وعدم تنافره، فهو داخل حينئذ في ضروب نظم القرآن.
12- وأما الإشارة: فهي الإيماء بما يدل على المقصود، وهي على قسمين: إشارة بجارحة كالعين واليد والرأس، ومنه قوله تعالى في قصة مريم عليها الصلاة والسلام: {فأشارت إليه}.
وربما دلت الإشارة بالجارحة إلى معانٍ كثيرة، لكنه بعيد، ومنه قول الشاعر:
أومت بعينيها من الهودج ... لولاك هذا العام لم أحجج
أنت إلى مكة أخرجتني ... حقاً، ولولا أنت لم أخرج
وقد لا يبعد هذا الاحتمال: أن هذه المرأة أومأت بعينيها مخاطبة لربها الذي قدر لها الحج وأخرجها إليه، وهو سبحانه {يعلم السر وأخفى}، {وهو عليم بذات الصدور}. ثم صرحت بعد ذلك فحدثت بلسان قالها ما كانت أومأت إليه بلسان حالها، فنظمه الشاعر على الحال الأول. والله أعلم.(1/415)
والقسم الثاني من الإشارة: نوعٌ يسمى الوحي والإشارة، وهو أن يجيء كلام قليل المباني كثير المعاني يشير إليها وينبه عليها، ومن هذا قوله تعالى: {إذ بعث فيهم رسولاً} فيه إشارة إلى البعثة، وذكرها يستدعي معاني، منها: البعثة كيف كانت، ومتى كانت، وأين كانت، وبما كانت أولاً، وما كان من دلائلها قبل وبعد، وأول شيء نزل من القرآن، وكيف كانت الدعوة قبل الإذن في القتال، وبعده، وكيف كان نزول الكتاب، وذكر أول من آمن وأجاب، وما يتعلق بكل فصل من ذلك إجمالاً وتفصيلاً، وإلى كل هذا تحتمل الإشارة بقوله تعالى: {إذا بعث فيهم رسولاً}.
13- وأما النصبة -وهو بكسر النون كالنصب- وهو: ما ينصب من حجر أو خشب يكون علماً دالاً على شيء، لكن معنى النصبة في البيان: الحالة الدالة بغير نطق على أمور، ومثلها بعضهم بخلق السموات والأرض، والبر والبحر، والنجم والشجر، الدال ذلك بوجوده على أن له صانعاً متقناً ومدبراً حكيماً، وهو الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، وعظمت آلاؤه، وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
ووجه هذا في القرآن ظاهر، مع ما ورد في الحديث في صفة القرآن أن الله سبحانه جعله حجة قائمة وعلماً منصوباً.
والعلم: ما يهتدى به، ويدل على جلب المنافع ودفع المضار.
والقرآن جل منزله المشار إليه بقوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب} جمع الله فيه مع وجازة الكلم أضعاف ما في الكتب السابقة من الحكم، أنزله بكل خير آمراً، وعن كل شر زاجراً، هدايةً لم تمسك به، وحجةً قائمة لمن استنصر به، وهو أكبر معجزات هذا الرسول المبعوث به حجةً(1/416)
قاطعة ودليلاً، المشار إليه بقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً}، وكانت رسالته رحمة عامة للخلق أجمعين، قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
نعم، ويلتفت من قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} إلى قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} ومن شرط الأخ أنه ينبغي أن يكون مشفقاً على أخيه، رحيماً به مع ما ورد به أمر المؤمنين بالتراحم في عدة أحاديث نبوية، منها الحديث المسلسل بالأولية، الذي روينا من ثلاث عشرة طريقاً، وهذه طريقٌ رابعة عشرة تالية لما تقدم، متصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
أخبرنا الإمام المفيد أبو محمد عبد الله بن إبراهيم البعلي بقراءتي عليه بمنزله، وهو أول حديث سمعته منه يومئذ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الخطيب المزي، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا التاج أبو العباس أحمد بن أبي العلا، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد التيمي، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الوهاب الهمذاني إمام جامع همذان بها، وأبو الفتوح محمد بن محمد بن الجنيد الصوفي بأصبهان، وهو أول حديث سمعته منهما متفرقين، قال الأول: أخبرنا أبو منصور عبد الكريم ابن محمد، وهو أول حديث سمعته من لفظه، وقال الثاني: أخبرنا أبو القاسم زاهر بن طاهر الشحامي، وهو أول حديث سمعته منه، قالا: أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك النيسابوري، وهو أول حديث سمعناه منه، حدثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد البلالي، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا سفيان بن عيينة، وهو أول حديث سمعته منه، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن(1/417)
عمرو، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)). لفظ عبد الكريم بن محمد.
وقال ابن الجنيد في روايته: ((فارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)).
هذا حديث فرد من الحسان، وقد صححه الترمذي في ((جامعه)) بعد روايته إياه من غير تسلسل من طريق سفيان.
ولا يقال: كيف حكم له بالصحة أو بالحسن، وفي إسناده زاهر الشحامي وقد ترك الرواية عنه غير واحد من الحفاظ، وتجاسر آخرون، فيما ذكره الذهبي في ((الميزان))؟.
لأنا نقول: إن زاهر بن طاهر بن محمد بن محمد بن أحمد بن محمد ابن يوسف المستملي الشحامي ((كان مسند نيسابور صحيح السماع)) وله مؤلفات في الحديث، وضعفه لم يكن من قبل الحديث، إنما ضعف لإخلاله بالصلاة، لا من جهة سماعه وروايته. ومع هذا فلم ينفرد(1/418)
برواية هذا الحديث عن أبي صالح، بل تابعه جم غفير قرنا به أحدهم وهو أبو منصور عبد الكريم بن محمد الذي يقال له ابن الخيام، وممن تابعهما ولد أبي صالح: وهو إسماعيل بن أبي صالح أحمد بن عبد الملك، وطريف بن محمد بن عبد العزيز النيسابوري، وأبو الوفاء علي ابن يزيد ابن علي بن أحمد بن شهريار الزعفراني، وأبو جعفر محمد ابن الحسن بن محمد الهمذاني، ومحمد بن الفضل الفراوي، وأبو الأسعد هبة الرحمن بن عبد الواحد القشيري.
وأيضاً فالحديث قد استفاض عن سفيان بن عيينة فلا يؤثر جرح زاهرٍ الشحامي أحد رواة هذا الحديث فيه، لما تقدم. والله أعلم.
فكم من حديث صحيح إسناداً ومتناً كأحاديث الصحيحين؟! وكم من حديث ضعيف من الطرفين؟! وكم من حديث موضوع من المرويات بإسناد جيد كله ثقات؟! وكم من حديث صحيح جاء بسندٍ كذبه صريح؟! وهذا والذي قبله من فعل السراق من ضعفاء المحدثين، ولي في ذلك مصنفٌ ذكرت فيه السراق على الحروف مرتبين.
وربما جاء المتن صحيحاً أو حسناً، وفي إسناده أحد الضعفاء معلناً، كهذا الحديث الذي رويناه بإسنادين أحدهما فيه ضعيف، لكن لا تأثير(1/419)
لضعفه لما بيناه.
ومن فوائد سنده: معرفة المغير من الأسماء، ووسمته بـ: الأنباء المسيرة في الأسماء المغيرة، وللعلامة الحافظ أبي المظفر يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد السرمري مصنف في ذلك.
ووجه هذا النوع في الحديث أن صحابيه وهو عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما كان اسمه العاصي، كاسم جده، فلما أسلم -وكان إسلامه قبل أبيه- سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، فاشتهر بهذا الاسم ونسي اسمه الأول.
ومن النوادر: أن عبد الله بينه وبين أبيه عمرو في الميلاد إحدى عشرة سنة أو اثنتي عشرة سنة.
وكان عبد الله أحد العباد المجتهدين والعلماء المكثرين، جمع بين القرآن والتوراة حفظاً، توفي سنة ثلاث وستين، وقيل سنة ثمان وستين، وقيل سنة ثلاث وسبعين بمكة، وقيل بالطائف، وقيل بمصر، وقيل بفلسطين. رحمه الله ورضي عنه.
ويدخل هذا الحديث في نوع الموافقات والأبدال، وهو: أن يروي حديثاً هو في كتاب من الكتب المشهورة من غير طريقه، إلى شيخ من شيوخ مصنف الكتاب، فتقع الموافقة مع المصنف في شيخه مع علو طريق الراوي على الطريق إلى المصنف، وقد تأتي الموافقة بلا علو، وتأتي مع نزول، والكل يسمى موافقة.(1/420)
وتارة تكون الموافقة في شيخ شيخ المصنف مع العلو، ومع غيره أيضاً، وتسمى بدلاً.
وهذا الحديث خرجه الإمام أحمد بن حنبل في ((مسنده)) عن سفيان.
ورواه أبو داود في ((سننه)) عن مسدد وأبي بكر بن أبي شيبة، والترمذي في ((جامعه)) عن محمد بن أبي عمر العدني، ثلاثتهم عن سفيان، فوقع لنا موافقة لأحمد، وبدلاً لأبي داود والترمذي.
هذا من بعض الأنواع التي يدخل فيها إسناد هذا الحديث -الذي هو الإخبار عن طريق المتن- غير ما تقدم.
وأما فوائد -المتن الذي هو: ما انتهى إليه السند من الكلام- فكثيرة تقدم ذكر بعضها .. ..(1/421)
[21] بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
تقدم الكلام على هذه الآيات الشريفات من وجوه، منها وجهٌ واحد ذكرناه في الدرس الماضي، فيما يتعلق بالمعاني والبيان، وذكرنا أن في هذه الآية من فنون البلاغة: الإيجاز والإطناب، والاستعارة، والفواصل، وحسن البيان، والتصريف، والإعراب، والنظم، والاعتبار، والخط، والعقد، والإشارة، والنصبة.
والآن نتكلم على فن واحد من فنون البلاغة التي اشتمل القرآن عليها على أعلى مراتب فنونها، وهذا الفن الواحد الذي نشير إليه الآن هو أحد قسمي الإشارة، وهو الذي يسميه أهل النقد والبلاغة: بالوحي والإشارة، وهو أن يجيء كلام قليل المباني يشير إلى كثير من المعاني، ينبه عليها ويرشد إليها، ويسمى اللطائف والإشارات، فمنها المتعلق بهذه الآيات عدة منها:
1- ثناء الله تعالى على نفسه بإظهار اسمه الأعظم في قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} ولم يقل سبحانه لقد مننت، فذكر الله(1/422)
تعالى المن باسمه المظهر دون المضمر، لعظم شأن هذه المنة التي بينا فيما تقدم أنها أم النعم كلها، وهي بعثه سبحانه هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن في هذه البعثة ومتعلقاتها أعظم دليلٍ على توحيد الله تعالى وحكمته وقدرته ونفوذ أمره وعظم سلطانه.
ففي قوله تعالى {لقد من الله}: ثناؤه سبحانه على نفسه بالإلهية والحمد، والتعظيم والتقديس والمجد، الذي هو من بعض المعاني التي يدل عليها اسم الله.
ودليل ما أشير إليه بقوله {لقد من الله} من الثناء والتمجيد والتنزيه والتقديس لله عز وجل: ما ذكره الله ظاهراً قبل ذكر هذه النعمة في سورة الجمعة فقال تعالى: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم. هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
2- ومن الإشارات المفهومات من هذه الآيات: شكر الناس على اصطناع المعروف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له)).
ووجه هذا في الآية الشريفة من جهتين:
إحداهما: ما قدمناه من معاني الآية وأحكامها، أن فيها الحث على(1/423)
شكر الله تعالى على نعمه، لأن فيها تذكير الله المؤمنين بمنه عليهم وإحسانه ابتداءً إليهم، ومن لازم التذكير معرفة النعم ومعرفة من أنعم بها، فيجب شكره عليها.
وشكر الله تعالى على وجوه تقدم ذكر بعضها، ومما لم يتقدم: أن من وجوه شكر الله شكر الناس، فقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من لا يشكر الناس لا يشكر الله)).
وله شاهد عن أبي سعيد الخدري، والنعمان بن بشير، والأشعث بن قيس رضي الله عنهم.(1/424)
والجهة الثانية لاستنباط شكر الناس من هذه الآية: أن ما فيها من المنن والإنعام كان بسبب دعوة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث قال: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} فاستجاب الله هذه الدعوة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما روي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله: ما كان بدء أمرك؟ فقال: ((دعوة أبي إبراهيم، وبشر بي عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام)) خرجه الطبراني في ((معجمه الكبير)) وغيره.
وقد أمرنا بمكافأة من أحسن، ومنهم سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام الذي أحسن بهذه الدعوة العظيمة، فأمرنا بمكافأته -تلويحاً، وإن لم يكن صريحاً- في ذلك الحديث الآتي ذكره إن شاء الله تعالى بالصلاة على إبراهيم، وآل إبراهيم، والدعاء لهم بالبركة مشروعاً (؟) لنا في صلواتنا.
ومن لطائف هذه الجهة الثانية: أن من أحسن قولاً أو فعلاً، لابد له من الجزاء كما ورد نقلاً، قال الله عز وجل في محكم القرآن: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} وقال تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً}.
وهذه النعمة العظيمة، بهذه البعثة العميمة، كانت بسبب دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وهي قوله: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} فلما أحسن إبراهيم عليه السلام بهذا الدعاء،(1/425)
جازاه الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم بعظيم من الجزاء، وهو الصلاة والدعاء في كل صلاة بالبركة عليه وعلى آله، كما صح في الحديث المتفق عليه لثقة رجاله، من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة رضي الله عنه فقال لي: ألا أهدي لك هديةً سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم ! فقلت: بلى، فأهدها لي، قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)).
وله شاهد من حديث أبي حميد الساعدي، وأبي مسعود الأنصاري، وغيرهما رضي الله عنهم.(1/426)
وهذا الجزاء الذي هو الصلاة والبركة لا ينقطع مدده، ولا ينتهي عدده، كما أن هذه البعثة المحمدية التي دعا بها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لا تحول ولا تزول، ولا تنفد خيراتها ما بقيت الدنيا، ولا تنقطع بركاتها في الآخرة.
ولو لم يكن من جزاء المحسن إلا الثناء عليه لكان كافياً.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لابنة هرم بن سنان المري: ما وهب أبوك لزهير؟ فقالت: أعطاه مالاً وأثاثاً أفناه الدهر! فقال عمر: لكن ما أعطاكموه لا يفنيه الدهر. يعني مدح زهير بن أبي سلمى هرم بن سنان وثناءه عليه، الذي منه قوله في قصيدته التي أولها:
غشيت دياراً بالبقيع فثهمد ... دوانٍ قد أقوين من أم معبد
فلو كان حمدٌ يخلد الناس لم تمت ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد
ولكن منه باقياتٍ وراثةً ... فأورث بنيك بعضها وتزود
تزود إلى يوم الممات فإنه ... -ولو كرهته النفس- آخر موعد(1/427)
وهذا معنى ما أشار إليه عمر رضي الله عنه من الثناء.
وقد امتدح نصيبٌ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأمر له بخيل وإبل وأثاث ودنانير ودراهم! فقال له رجل: أمثل هذا الأسود يعطى مثل هذا المال؟! فقال عبد الله رضي الله عنه: إن كان أسود فإن شعره لأبيض، وإن ثناءه لعربي، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ثياباً تبلى، ومالاً يفنى ومطايا تنضى، وأعطانا مدحاً يروى، وثناءً يبقى؟!
وقد ذكرت العرب معنى ذلك في أشعارها فقال بعضهم:
فأثنوا علينا -لا أبا لأبيكم- ... بأفعالنا، إن الثناء هو المجد
وقد استحسنوا في معناه قول أبي الطيب المتنبي:
ذكر الفتى عمره الثاني، وحاجته ... ما قاته، وفضول العيش أشغال(1/428)
لكني أقول: في هذا البيت نظر وإن كان في الظاهر بديعاً بليغاً ولهذا استحسنوه، ووجه النظر في قوله ((ذكر الفتى عمره الثاني)) لأن ذكر الإنسان إما يكون بخير، أو بضده، أو بهما، كأن يذكر بمدح خصلةٍ فيه حسنةٍ، وبذم بأخرى فيه قبيحة، فإذا قيل: فلان له ذكر، أو قيل: ذكر فلان، كان فيه إبهام، فالذكر يطلق ويراد به معانٍ، منها: الحفظ، والشرف، والصوت، وجري الشيء على اللسان، فقول المتنبي في البيت ((ذكر الفتى عمره الثاني)) يحتمل حفظه وشرفه وصوته وما جرى على لسانه وغير ذلك من وجوه معاني الذكر، ففيه إبهام، فلو قال: صيت الفتى عمره الثاني: لكان أبين، وفي البلاغة أقوى وأمتن، يقال: رجل له صيت: إذا كان عالي الذكر، يقال: ذهب صيته في الناس.
3- ومن الإشارات المفهومات من هذه الآيات: الحث على سماع تلاوة القرآن، لأن سماع تلاوته أحد وجوه الامتنان، لقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته}.
وإذا كان هذا من منة الله على المؤمن فيجب عليه شكرها، ومن وجوه شكرها: تعاهدها ورعايتها، فظهر بهذا أن في الآية الحث على سماع تلاوة القرآن.
4- نعم، وفي سماع تلاوة الآيات: الإشارة إلى الحث على الجلوس إلى العلماء سماعاً، والاجتماع بهم استفادةً وانتفاعاً، لأنه لا يكون سماع التلاوة وتعلم الكتاب والحكمة إلا بالجلوس إلى العلماء، والاستماع منهم، والانتفاع بهم، والأخذ عنهم، ومجالسهم هي المجالس التي يصيب أصحابها نفحاتها، وتعود على أهلها بركاتها، وقد جاء الكتاب والسنة بالحث على ذلك، ومنه قول الله عز وجل: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}.(1/429)
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما جلس قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده)).
ولقد مدحت في الجاهلية والإسلام، مجالس أولي الفهم والإفهام، وذوي التذكير والأحكام، كما تقدم بعض ذلك.
ومما جاء في معناه في الجاهلية: قول جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهب بن عبد مناف بن زهرة:
وإذا أتيت جماعةً في مجلس ... فاختر مجالسهم ولما تقعد
ودع الغواة الجاهلين وجهلهم ... وإلى الذين يذكرونك فاعمد
5- وفي هذه الآيات من الإشارات أيضاً: أن علم الدين هو الكتاب والسنة لقوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
فسر ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أن الحكمة هنا هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وحكاه الشافعي رضي الله عنه عن سماعه لذلك ممن يرضى من أهل العلم وقال به.
فلو كان قدرٌ زائد على الكتاب والسنة لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتعليمه للأمة، والعلم إذا أطلق إنما يراد به علم الدين.
6- نعم، وفي قول الله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} الحث على طلب العلم من الكتاب والسنة، لقول الله تعالى: {ما فرطنا في(1/430)
الكتاب من شيء} وقوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين} وقوله تعالى: {هذا بيانٌ للناس وهدىً وموعظةٌ للمتقين}.
وروي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك)).
وهذا المشار إليه هو علم الدين كما تقدم، والمقدار الذي يجب طلبه من العلم وتحصيله: ما تقع به الكفاية للعمل، وإفتاء من لا علم عنده فيما ينزل به وينوبه.
7- ومن الإشارات في هذه الآيات أيضاً: استحباب التعليم مجاناً بغير أجرة، ويؤخذ هذا من قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لأمته: جليله ودقيقه، وصريحه ومفهومه، وجمله وتفاصيله، لامتثال قوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} والذي أنزله إليه: القرآن، وكذلك السنة، بدليل قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحيٌ يوحى} ومع ذلك(1/431)
فقد علم علماً يقينياً قطعياً أن النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك كله من غير أخذ أجرة على ذلك، ولا على شيء منه.
وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: ((عليكم بسنتي)) وكان من سنته التعليم بغير أجرة، كما ذكرناه، فيستحب التعليم كذلك.
والتعليم عام في القرآن والسنة، لكن الإجارة على تعليم القرآن صحيحةٌ، وأخذ الأجرة عليه جائزة، لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: ((أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)) فتصح الإجارة على تعليم القرآن وإن كان عبادةً تجب لها نية كالحج ومسائل معروفةٍ، فإن كل أحد لا يختص بوجوب تعليم القرآن، وإن كان نشر القرآن وإشاعته من فروض الكفايات.
ومن الأئمة من منع من أخذ الأجرة على القرآن مطلقاً، ومنهم من جوز الأخذ بغير اشتراط: إن أعطي قبل وإن لم يعط لا يطالب، ومنهم من فرق بين المحتاج وغيره.
وأما الإجارة وأخذ الأجرة على التحديث وتدريس العلم: لا يجوز، لأن نشر العلم وتعليمه فرض كفاية كالجهاد، وفيه تفصيلٌ أشار إليه الإمام أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم الحليمي البخاري القاضي فقال: ولا يجوز لمن كانت عنده أخبارٌ عن(1/432)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسئل عنها أن يمتنع من روايتها ليعطى عليها مالاً، لأنه يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أداه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أمته، ومعلوم أن الله تعالى لم يكن أطلق له أخذ أجر من أمته على ما يبلغهم إياه عن ربهم عز وجل، فلذلك لا ينطلق لأحد من المؤدين عنه.
وقال أيضاً: وإذا حضر العالم ليسمع منه الحديث فأذن في القراءة عليه فقالوا ((نريد لفظك)): كان له أن لا يتكلف القراءة بنفسه إلا بعوض، وإنما يحرم العوض إذا لم يخرج ما عنده فيقرؤوا عليه إلا بعوض، فأما إذا أخرجه وأمر بالقراءة عليه فكلف أن يقرأ: فهذا شغل زائد على التبليغ والأداء، فله أن لا يفعله بغير عوض، فإن لم يوجد أحدٌ يقرأ عليه ووجب عليه أن يروي بلفظه فلا عوض له، وإن أعطي لم يجز له أخذه.
وذكر الحليمي أيضاً أن الطلبة إذا أرادوا من الشيخ ما يطول به المجلس وينقطع به عن السعي على نفسه وعياله: جاز أن يأخذ على إدمانه الجلوس وتفريغه نفسه لهم ما يعطونه ما لم يكن سرفاً، والسرف أن يطالبهم بأكثر مما كان يعود عليه من سعيه لو لم يجلس لهم. والله أعلم. انتهى قول الحليمي رحمه الله.
8- ومن الإشارات في الآيات: بيان المبهمات المفهومات منها، لأن الكتاب المشار إليه في قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب} معلومٌ -نقلاً متواتراً، ويقيناً قطعياً متوافراً- نزوله على هذا الرسول المشار إليه، وهو نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فالذي نزل به عليه روح القدس جبريل عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين} وقوله تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا .. .. } الآية،(1/433)
فظهر بهذا المبهم المفهوم والمبهم المنطوق.
9- نعم، وفي هذا إثبات وجود الملائكة، ومنهم الروح الأمين الذي نزل بهذا الكتاب على خاتم النبيين صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
10- وفي الآية: الإشارة إلى الرد على منكري النبوات من الفلاسفة والبراهمة وغيرهم، فإن من العقائد الواجبة شرعاً وعقلاً الإيمان بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فمن وجوبه شرعاً ما ورد في الكتاب والسنة، ففي الكتاب آياتٌ كثيرة منها: قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله .. .. } الآية.
ومنها: قوله تعالى في هذه الآية: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاًْ} وهذا الرسول بالإجماع هو نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو خاتم النبيين، قال الله عز وجل: {ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} فإذا كان هذا الرسول الذي من الله علينا ببعثته هو خاتم النبيين فعلم بالتواتر علماً قطعياً بعثة النبيين الذي نبينا هو خاتمهم كما قال الله عز وجل، فوجب الإيمان بهم عليهم الصلاة والسلام.
ومن الوارد في السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث في البنيان وموضع اللبنة قال: ((وأنا خاتم النبيين)).
وكذلك مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : ((لا نبي بعدي))، ولهذا الحديث طرق،(1/434)
لكن بعض الوضاعين من السراق المولدين -وهو محمد بن سعيد الدمشقي المصلوب على الزندقة- سرق هذا الحديث ورواه بزيادة في آخره عن حميد، عن أنس مرفوعاً: لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله. وقد حكم الحاكم أبو عبد الله بوضع هذه الزيادة في الحديث، وتأولها بعضهم على تقدير الصحة -وأنى لها الصحة- أنها محمولة على رؤيا المؤمن لأنها جزء من أجزاء النبوة ولم يبق بعد النبي صلى الله عليه وسلم من المبشرات غيرها. وهذا تأويل بعيد.
وتأولها بعضهم -لو صحت- على مجيء عيسى عليه الصلاة والسلام حين ينزل من السماء آخر الزمان بعد خروج الدجال.
وهذا بعيد أيضاً، لكنه أقرب في التأويل من الأول، مع الاعتقاد(1/435)
الجازم أنه لا نبي بعد نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام يأتي بشريعة غير شريعته، بل إذا نزل عيسى عليه الصلاة والسلام يقتدي بإمام هذه الأمة في الصلاة، ويحمل الناس على هذه الشريعة المحمدية ولا يقبل من أحد غيرها، كما صحت الأحاديث بذلك.
وعلى هذا يحمل ذلك الحديث الذي رواه خالد بن يزيد بن أسد القسري -وفيه كلام- قال: حدثني محمد بن إبراهيم الإمام، عن أبي جعفر المنصور، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لن تهلك أمة أنا أولها والمسيح آخرها))، وذلك أن المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل ينصر المؤمنين ويكشف عنهم -بإذن الله- ما هم فيه من البلاء، والجهد والجوع والغلاء، ويقتل عدوهم من الدجال، ويأجوج ومأجوج بهلاكهم، فتعيش هذه الأمة بعد تلك الشدة بخير عظيم، تخرج الأرض البركات، وتنزل عليهم الخيرات، فلن تهلك هذه الأمة وهذا حال آخرها.(1/436)
وأما حال أولها: فبعث فيهم هذا الرسول صلى الله عليه وسلم فتلا عليهم الآيات وزكاهم، وعلمهم الكتاب والحكمة، وكانوا من قبل ذلك في ضلال مبين، وعلى شفا حفرةٍ من النار فأنقذهم من ذلك بإرشادهم إلى توحيد الله رب العالمين، وتعليمهم ما ذكر من شرائع الدين، وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً. ومن رأفته بهم ورحمته إياهم ما أمرهم به ونهاهم عنه تحصيلاً لهم ما لا يعبر عنه من الأجور، وتحصيناً لهم من العذاب وأنواع من الشرور.
ومن أوامره التي هي من شعب الإيمان: قوله صلى الله عليه وسلم : ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) الحديث. وهذا الحديث قد رويناه فيما سبق من أربع عشرة طريقاً من الطرق، وهذه طريقٌ خامسة عشرة، وهذه طريق المصريين.
سمعت شيخنا شيخ الإسلام وفقيه الدنيا خاتمة المجتهدين سراج الدين أبا حفص عمر بن أبي الفتح رسلان بن نصير بن صالح بن أحمد ابن عبد الحق بن مسافر العسقلاني الأصل البلقيني رحمة الله عليه، فيما حدثناه من لفظه وحفظه بجامع دمشق، وأخبرنا الإمام العلامة قاضي القضاة أبو المعالي محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم السلمي الشافعي، بقراءتي عليه بدار السنة الظاهرية بدمشق، والإمام الخطيب أبو عبد الله محمد بن أحمد بن القاضي أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن إبراهيم بن داود الأذرعي المصري، بقراءتي عليه بمسجد المدرسة العادلية الكبرى من دمشق، وغيرهم، وهو أول حديث سمعته منهم مطلقاً، قالوا:
أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم البكري المصري، قال كل منهم: وهو أول حديث سمعته منه، زاد شيخ(1/437)
الإسلام فقال: وأخبرنا أيضاً أبو العباس أحمد بن كشتغدي ابن الصيرفي المعزي، وهو أول حديث سمعته منه، قالا أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف ابن عبد المنعم بن علي بن نصر بن الصيقل الحراني، وهو أول حديث سمعناه منه، حدثنا الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي البكري، وهو أول حديث سمعناه من لفظه وذلك في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وخمس مئة، أخبرنا الإمام أبو سعد إسماعيل ابن أبي صالح أحمد بن عبد الملك بن علي بن عبد الصمد النيسابوري، وهو أول حديث سمعناه منه، أخبرنا والدي أبو صالح أحمد بن عبد الملك بن علي الحافظ، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا الأستاذ أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال البزاز، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاصي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
قال عبد الرحمن بن بشر: هذا أول حديث سمعته من سفيان بن عيينة، وقال أبو حامد بن بلال: هذا أول حديث سمعته من عبد الرحمن ابن بشر، وقال أبو طاهر الزيادي: هذا أول حديث سمعته من أبي حامد بن بلال، وقال أبو صالح المؤذن: هذا أول حديث سمعته من الأستاذ أبي طاهر الزيادي رحمة الله عليه.
هذا الحديث له ألقاب بحسب الوجوه التي رويناه منها، فهو(1/438)
حديث صحيح، حسن، فرد، مسلسل من وجهين، معل من وجوه، مختلف في إسناده من وجوه، مرفوع، موقوف من وجه، منقطع على قول مرجوح، معنعن.
وكل هذه الأنواع تقدم بعض الكلام عليها، ونزيد كلاماً على النوع الأخير وهو المعنعن. ففي إسناد هذا الحديث: قول سفيان بن عيينة: عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
فسياقه هكذا بالعنعنة لا يظهر فيه صفة التحمل هل هو سماعٌ من لفظ الراوي؟ أو قراءة عليه؟ أو سماع وهو يقرأ عليه؟ أو مناولة؟ أو إجازة؟ أو كتابة؟ أو وجادة؟، فالمعنعن -والحالة هذه- مختلفٌ في حكمه، فذهب بعضهم على أنه من قبيل المرسل والمنقطع حتى يتبين اتصاله بغيره.
وهذا قول مرجوح ليس العمل عليه، بل الصحيح الذي قال به الجماهير من الأئمة وعليه العمل: أنه متصل الإسناد بشرط سلامة المعنعن الثقة من التدليس وثبوت لقائه لمن روى عنه، وزاد أبو المظفر عبد الرحيم .. .. في ((مسنده)) وفعله غيره. والله أعلم.
ومن فوائد متن الحديث: أن من أنواع الرحمة المرتب عليها الثواب الرحمة بالفعل، كمن هو في يسار من الدنيا فيرى مسلماً محتاجاً، فهذا لا تكفي رحمته للفقير ورقته عليه بقلبه، حتى يرحمه بالعطية من يساره:(1/439)
إن لم يساوه: فمن الفضل، أو من الفرض الواجب عليه كالزكاة، فهذا من الرحمة بالفعل.
وكثيرٌ من ذوي اليسار يرق بقلبه على الفقير إذا رآه، وهو قادر على إزالة ضرره بشيء من الدنيا يعطيه، لكن يمنعه البخل من ذلك.
وبعض الحمقى من الفقراء وغيرهم تراه يكرم هذا البخيل لماله، رجاء أن يصيب من ماله، والغني البخيل يحب أن يكرم لماله ويعظم من غير أن ينفع أحداً ممن يكرمه! وكل منهما مذموم.
وقلت في معناه: ما نختم به ما أمليناه وهو:
خلق من الناس في يسار ... لكن بالبخل في غرامة
من قال منهم ألا أكرموني ... للمال قولوا ولا كرامة
إكرام ذي المال مع إياس ... للنفع داءٌ بلا سلامة
آخر المجلس ولله الحمد
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً(1/440)
[22] بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
.. .. كفر نعمة الله عليه، والنعمة إذا كفرت نفرت وزالت، وقل أن ترجع كما كانت.
وقد أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد ابن النقاش بقراءتي عليه، أخبرنا أحمد ابن البياني المقدم سماعاً، أخبرنا عبد اللطيف ابن محمد البغدادي كتابة، أخبرنا محمد بن عبد الباقي قراءة عليه وأنا أسمع،(1/441)
أنشدنا محمد بن فتوح بن عبد الله، قال: وأنشدني والدي رحمه الله فيما لقننيه أيام الصبا:
من قابل النعمة من ربه ... بواجب الشكر له دامت
وكافر النعمة مسلوبها ... وقل ما ترجع إن زالت
وأما مأخذ الأمر والنهي من الآية فمن مفهومها أيضاً من مواضع، منها: قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً} وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم قيل لنا في حقه: {وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا} وفي قوله تعالى: {يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} فالكتاب وهو القرآن، والحكمة وهي السنة مشحونان بالأوامر والنواهي.
وأما العام المطلق في الآية: ففي قوله تعالى: {ويزكيهم} فهو عام في كل ما تحصل به التزكية.
وأما العام المقيد في الآية: ففي قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} فهو عام في كل مؤمن، لكنه قيد بهذه الأمة لقوله تعالى: {إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم}.
وأما الخاص في الآية: ففي قوله تعالى: {من أنفسهم} والمراد -والله أعلم- العرب على أحد الأقوال، قال محمد بن سعد في كتابه ((الطبقات)): أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} قال: قد ولدتموه يا معشر العرب.
ورواه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه ((دلائل النبوة)) من طريق محمد ابن السائب، ولفظه قال: ليس من العرب قبيلةٌ إلا ولدت رسول الله(1/442)
صلى الله عليه وسلم : مضريها، وربيعيها، ويمانيها.
وأما المجمل في الآية: ففي قوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} فيه إجمال واحتمال لأن يكون قبل بعثة الرسول المشار إليه صلى الله عليه وسلم ، أو قبل تلاوته الآيات عليهم، أو قبل التزكية لهم، أو قبل تعليمهم الكتاب والحكمة، أو قبل هدايتهم للإيمان.
وأما المبين في الآية: ففي قوله تعالى: {إذ بعث فيهم رسولاً} هذا بيانٌ للمن الذي امتن الله تعالى به على المؤمنين.
وأما الناسخ: فمن مفهوم قوله تعالى: {إذ بعث فيهم رسولاً} وقد اتفق المفسرون ووقع الإجماع عليه أن الرسول هنا هو نبينا خاتم الأنبياء أبو القاسم محمد بن عبد الله الهاشمي عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد نسخ الله تعالى ببعثته جميع الملل قبله إلا ما اتفقت عليه جميع الشرائع من توحيد الله عز وجل وأصوله وبعض الأحكام، كما هو معروف.
وكل موحد لله عز وجل مؤمن به، والمؤمنون وقع ذكرهم في القرآن عاماً وخاصاً ومطلقاً ومقيداً، فمن العام: قول الله عز وجل: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}.
ومن الخاص: قوله عز وجل: {محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}.
ومن المقيد: قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذي إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وعلى ربهم يتوكلون}.
ومن المطلق: قوله تعالى في هذه الآية الشريفة: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً} الآية.
أطلق ذكر المؤمنين هنا -وإن كان خاصاً بهذه الأمة- ولم يقيد(1/443)
بوصف ليشمل أقسامها الثلاثة المشار إليهم بقوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات} وهؤلاء كلهم مؤمنون، وهم هذه الأمة المشار إليهم بقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً}.
فالظالم لنفسه هو: العاصي بترك مأمور أو ارتكاب محظور.
والمقتصد: المؤدي للواجبات التارك للمحرمات.
والسابق بالخيرات: المتقرب إلى الله بما يستطيع من واجب ومستحب، التارك للمحرمات والمكروهات.
وهذان القسمان داخلان في قول الله عز وجل: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون}.
وأما القسم الثالث -وهو الظالم لنفسه- معه من الإيمان والحسنات ما يقتضي الثواب عليه، ومعه من المعاصي والسيئات ما يقتضي العقاب عليه، ولا تخرجه معصيته من دائرة الإسلام، هذا مذهب جميع الصحابة وتابعيهم بإحسان وأهل السنة والجماعة القائلين: بأنه لا يخلد في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وقد جاء أن هذه الأقسام الثلاثة كلهم في الجنة.
أنبأنا أبو حفص عمر بن محمد بن أحمد الملقن، أخبرتنا أم عبد الله زينب ابنة أحمد المقدسية سماعاً، أنبأنا أبو القاسم عبد الرحمن بن مكي، أخبرنا جدي لأمي أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا نصر بن أحمد الغازي بقراءتي عليه ببغداد، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبيد الله، أخبرنا الحسين ابن إسماعيل القاضي، حدثنا العباس البحراني، حدثنا أبو داود وعبد الصمد قالا: حدثنا شعبة، عن الوليد بن العيزار، عن رجل من ثقيف، عن رجل من كنانة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم {ثم أورثنا الكتاب الذين(1/444)
اصطفينا من عبادنا: فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات} قال: ((كلهم في الجنة)) وقال أحدهما: أو قال: ((بمنزلة واحدة)).
ولهذا الحديث شاهد عن أبي الدرداء رضي الله عنه، فيما خرجه الحاكم في ((مستدركه)) من طريق إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا جرير، حدثني الأعمش، عن رجل قد سماه، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله عز وجل: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} قال: ((السابق والمقتصد يدخلان الجنة بغير حساب، والظالم لنفسه يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة)).
ففي هذا وما قبله أنه من مات مؤمناً بالله عز وجل على توحيده فهو مقطوع له بالجنة.(1/445)
وقد قطع بالجنة لأقوام معينين ومبهمين، حسبما جاء النص بذلك، منهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد ذكرت حديثهم ببعض طرقه مع الكلام عليه في كتابي ((الأربعين حديثاً المتباينة الأسانيد والمتون)).
وممن قطع لهم بالجنة أهل الشجرة الذين بايعوا تحتها بيعة الرضوان.(1/446)
أخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن الذهبي الدمشقي بقراءتي عليه بجامع كفربطنا من الغوطة، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عمر البالسي بقراءتي عليه بزاوية جده من سفح قاسيون، وأبو الحسن علي، وأم محمد زينب ولدا الأمير فخر الدين عثمان بن محمد بن الشمس لولو الحلبي بقراءتي عليهم بجامع بيت لهيا، وأم عبد الله زينب ابنة الإمام العلامة أبي محمد عبد الله ابن الإمام أبي أحمد عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرانية بقراءتي عليها بمنزلها جوار المدرسة القيمرية داخل دمشق قالوا: أخبرنا أبو العباس أحمد ابن الشحنة أبي طالب الديرمقرني قراءة عليه، قال علي وابنة تيمية: ونحن حاضران، وقال الباقون: ونحن نسمع، زاد أبو هريرة فقال: وأخبرنا عيسى بن عبد الرحمن السمسار الصالحي قراءةً عليه وأنا حاضر، وأبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم، وأبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم المقدسيان إجازة قالوا -سوى ابن عبد الدائم-: أخبرنا أبو المنجا عبد الله بن عمر الحريمي سماعاً، وقال الحاكم أيضاً وابن عبد الدائم: أخبرنا الحسين بن المبارك الزبيدي قراءة عليه -قال الحاكم: وأنا حاضر، وقال ابن عبد الدائم: وأنا اسمع- قالا:
أخبرنا عبد الأول بن عيسى السجزي، أخبرنا محمد بن أبي مسعود الفارسي، أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد الهروي، أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي، حدثنا العلاء بن موسى البغدادي، أخبرنا الليث بن سعد المصري، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يدخل أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة النار)). خرجه أبو داود والترمذي والنسائي لليث، وهو حديث حسن صحيح فيما ذكره الترمذي، وفي صحيح مسلم معناه من طريق الليث.
وللحديث علةٌ غير مؤثرة، وهي رواية جابر رضي الله عنه للحديث عن(1/447)
أم مبشر الصحابية زوج زيد بن حارثة رضي الله عنه. خرجه مسلم في ((صحيحه)) والنسائي في ((سننه)) واللفظ لمسلم من حديث حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخبرتني أم مبشر رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة رضي الله عنها: ((لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحدٌ الذين بايعوا تحتها)) قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة: {وإن منكم إلا واردها} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((قد قال الله عز وجل: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا})).
ورواه أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أم مبشر، عن حفصة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إني أرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحدٌ شهد بدراً والحديبية)) وذكر الحديث بنحوه.
وفيه لطيفة وهي: رواية ثلاثة من الصحابة على نسق، وفي روايتنا الأولى لطيفة في إسناده وهي تباين رجاله بالنسبة إلى الأوطان، وفي الحديث من أنواعه: المزيد في متصل الأسانيد، وهو على أقسام بينها الحافظ الخطيب البغدادي في مصنف خاص بهذا النوع. والله أعلم.
وقد نظمت العشرة المشهود لهم بالجنة في بيت واحد قبله آخر تعريفاً للثاني فقلت:
وعشرةٍ خير صحبٍ بالجنان أتى ... وعد النبي لهم نصاً بلا خلل
عتيق عثمان عامر طلحةٌ عمر الزبير ... سعدٌ سعيدٌ وابن عوف علي(1/448)
[23] بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
هذه الآيات الشريفات تبركنا بتلاوتها أول التدريس، وهي من جوامع الكلم لاحتوائها على كل معنىً نفيس، والكلام عليها من وجوه كثيرة، لأن كل كلام مفيد منثور إذا طرق السمع يتعلق النظر فيه بأطراف من وجوه معاني الكلام، منها في بيان معاني ألفاظه المفردة، وهو علم اللغة، كالمن في قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين} فالمن هنا: الإحسان والإنعام، ومن أسماء الله تعالى، المنان وهو من أبنية المبالغة، ومعناه المنعم، وقيل: الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال، وقيل: الكثير العطاء العظيم المواهب.
فإنه سبحانه من بعض عطائه: أنه أعطى الحياة والعقل والمنطق بعد أن شق السمع والبصر، وصور فأحسن الصور، ورزق من الطيبات، وهدى إلى الإسلام، وأنعم بما لا يحصى من الإنعام الخاص والعام، وذكر الله عباده بنعمه خصوصاً وعموماً.
قال بعض السلف: المن من الله تعالى هو التعريف، والمن من العباد هو التعنيف، وهذان وجهان من معنى المن، وله معانٍ أخر.
ومن الأطراف التي يتعلق بها: النظر في حكم تركيب الألفاظ واختلافها على وفق كلام العرب، وهذا هو علم الإعراب، الذي به تفهم المقاصد والوسائل، ويتميز به المفعول من الفاعل، ويعقل معنى الكلام.(1/449)
وقد صنف فيه خلق من الأعلام ما بين إيجاز، ووسط، وإطناب، وأجله في الأقدمين مصنف سيبويه ((الكتاب))، وفي المتأخرين من مؤلفات الأعيان ((التسهيل)) لابن مالك، وشرحه لابن حيان. ويطلق على هذا الفن ألقابٌ منها: النحو، واشتقاقه من: نحوت الشيء أنحوه إذا قصدته، وكل شيء أممته فقد نحوته، ومنه اشتقاق النحو في الكلام، كأنه قصد الصواب. قاله ابن دريد في ((الجمهرة)).
ومن ألقاب هذا العلم: العربية، والإعراب، ومنها: المنطق.
ولم أر من وسمه بهذا سوى الإمام أبي علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي، له كتاب في النحو سماه ((المنطق)) وليس بالمنطق المبني على الكلام في الحد ونوعه، والقياس البرهاني(1/450)
ونوعه، ويقسم العلم إلى تصور أو تصديق، وكل منهما: إما بديهي أو نظري، إلى غير ذلك من قواعده التي يعتمدها أهل الجدل والكلام، ولا طائل تحته والسلام!
ومن نظمي في ذمه:
علم الكلام بلاؤه متعدد ... منه الأئمة حذروا يا متقي
وبلاؤه من منطق صدق الذي ... قال: البلاء موكل بالمنطق
ومن الأطراف التي يتعلق بها النظر: الاعتبار في مثار المقال، وهو علم أسباب الكلام، ومن وجوه علوم القرآن: أسباب نزوله، وهذه الآية الشريفة لها سبب في نزولها، وهو ظاهر، لكنه غامض، ولغموضه لم أر أحداً ذكره ممن صنف في أسباب نزول القرآن، كأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري لم يذكر في مصنفه لنزول هذه الآية سبباً، والسبب في نزولها -والله أعلم-: إعلام الله تعالى الأمة بإجابته دعوة خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، في حبيبه محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، حيث قال فيما أخبر الله تعالى عنه: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} فأعلم الله المؤمنين بهذه الدعوة في هذه الآية، وبإجابته لها في الآية الأخرى بقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
ومن الأطراف التي يتعلق بها النظر: كشف المكتوم من فحوى(1/451)
المنطوق والمفهوم، وهو علم المبهمات من الأسماء والقضيات.
وفي هذه الآية الشريفة عدة من ذلك تقدم بعض الكلام عليها، فمنه قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً} هذا الرسول الذي جاء ذكره هنا منكراً مبهماً جاء معرفاً مصرحاً به في غير ما آيةٍ من القرآن، مع تعريف المؤمنين، ومن ذلك قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} الآية.
وجاء في الآثار مثل ذلك: خرج الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في ((تفسيره المسند)) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} قال: وكنتم أنتم المؤمنين، وكان محمد صلى الله عليه وسلم هو الرسول إليكم.
ومن مبهمات القضايا في الآية في قوله تعالى: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. قال ثابت بن يعقوب المقري: حدثني الهذيل بن حبيب أبو صالح الأزدي، عن مقاتل بن سليمان قال في قوله تعالى: {وإن} يعني: وقد {كانوا من قبل} أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم {لفي ضلال مبين} أي بين وهو الشرك.
ومن الأطراف التي يتعلق بها النظر: اعتبار ضروب نظم الألفاظ التي أفادها التركيب، وهو علم المعاني والبيان، وهو أحد وجوه العربية، وهو فن جليل بمعرفته يعقل عن الله عز وجل كتابه وعن نبيه صلى الله عليه وسلم أحاديثه، وبمعرفته يتسع المرء في منطقه، فإن تكلم أفصح، وإن احتج أوضح، وإن كتب أبلغ، وإن خطب أعجب، والمعاني والبيان أحد أقسام البلاغة التي هي إيصال المعنى المقصود إلى القلب بأحسن ما يكون من اللفظ وأجوده، فلو كان الكلام يفهم المعنى بلفظ غير(1/452)
محكم لم يكن بليغاً، وكذلك لو كان اللفظ محكماً جيداً والمعنى غير طائل، لا يعد في البلاغة.
والبلاغة على ثلاث مراتب: عليا ووسطى ودنيا، والكلام إذا اجتمع فيه الفصاحة والجزالة والنظم كان كامل البلاغة، وأعلاها بلاغة القرآن لاجتماع هذه الثلاثة فيه.
فالفصاحة: دلالة اللفظ على المعنى مع الإفصاح والإيضاح. والجزالة: دلالة اللفظ على المعنى مع قلة حروف الكلم وتناسب مخارجها والاختصار. والنظم: ترتيب الألفاظ وارتباط بعضها ببعض مع تناسب الكلمات وتوازن الحركات والسكتات، والدلالة على المعنى المراد، وهذا كله في القرآن مع أسلوبه العجيب الذي لم يعهد نظيره ونظمه الغريب الذي لم يسمع لكلام غيره تحريره ولا تحبيره، ولهذا عجز البلغاء كافة والفصحاء عامة عن الإتيان بسورة من مثله، وانقطعوا عن المعارضة بحديث من شكله، مع تحديهم وتوفر دواعيهم إلى المعارضة، ولم يقع ذلك منهم، ولا جاء شيء مثله عنهم.
قال الله عز وجل: {وإن كنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا، ولن تفعلوا، فاتقوا النار} الآية.
وفي هذه الآية معجزةٌ من وجه آخر، وهي الإخبار عن نفي فعلهم الإتيان بسورة من مثله، فكان كما أخبر سبحانه، وقد قال عز وجل: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً}. فوقع التحدي من الله عز وجل على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بعشر سورٍ {قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفترياتٍ} أو بسورة واحدة. وهو أدنى التحدي عند الجمهور.
وقيل: وقع التحدي بآية واحدة لقوله تعالى: {فليأتوا بحديثٍ مثله} فلم يأتوا بشيء من ذلك، تعجيزاً من الله تعالى لهم عن ذلك، كما عجز(1/453)
المفحم عن نظم الشعر، مع اعتراف بعض فصحائهم وهو الوليد بن المغيرة المخزومي لما سمع أوائل (حم) فقال: إن فيه حلاوة، وعليه طلاوة، وإن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمعرق، وإنه ليعلو ولا يعلى، وما أراه بكلام البشر.
وقد عد جماعة من المعتزلة وغيرهم في وجوه إعجاز القرآن الصرفة، لكنهم اختلفوا فمنهم من قال: صرفوا عن القدرة على أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك، ومنهم من قال: صرفوا عن التعرض له، قال علي بن عيسى ابن علي الرماني -وكان معتزلياً- في كتابه ((النكت في إعجاز القرآن)): وأما الصرفة: فهو صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمة عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة كخروج سائر المعجزات التي دلت على النبوة، وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التي يظهر منها للعقول.
وما قاله الرماني -ومن نحا نحوه من اعتقاد الصرفة أنها من وجوه الإعجاز- فاسد، كما أشار إليه الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن(1/454)
فرح الأنصاري القرطبي، وعلل فساده بأن إجماع الأمة قبل حدوث المخالف على أن القرآن هو المعجز، فلو قلنا إن المنع والصرفة هو المعجز يخرج القرآن أن يكون معجزاً، وذلك خلاف الإجماع. قاله القرطبي في ((تفسيره)).(1/455)
[24] بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
وقد حصل للمؤمنين المشار إليهم في هذه الآية بالمنة والنعمة الثناء العظيم، من الله الكريم، في الذكر الحكيم، بقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وبقوله تعالى: {محمد رسول الله، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} الآية.
ووصفت هذه الأمة بأنها أمة مرحومة مع ما أمروا به من التراحم الذي منه الحديث الذي رويناه من طرق عديدة في الدروس الماضية، ومن طرقه التي لم نذكرها في الدروس هنا ما:
أخبرنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن أبي عبد الله المجاور بطيبة، وهو أول حديث سمعته منه بقراءتي عليه، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد المعري المنعوت بالبدر، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أحمد بن أبي الفتح الشيباني، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو عمرو عثمان بن أبي القاسم النصري، وهو أول حديث سمعته(1/456)
منه قال: وأخبرنا أبو محمد عبد البر بن الحافظ أبي العلاء الهمذاني بها، حدثنا والدي الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد العطار، حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن محمد الحافظ، حدثنا أبو صالح المؤذن وهو أحمد بن عبد الملك، أخبرنا أبو سعد عبد الرحمن بن حمدان الشاهد، حدثنا أبو نصر محمد ابن طاهر الوزيري الأديب، حدثنا أبو حامد البزاز، يعني أحمد بن محمد بن بلال، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء)).
قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: هذا أول حديث سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم بعد خطبة الوداع، وقال أبو قابوس: هذا أول حديث رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بالشام، وقال عمرو بن دينار: هذا أول حديث رواه لنا أبو قابوس، وقال ابن عيينة: هذا أول حديث أملاه علينا عمرو بن دينار، وقال عبد الرحمن بن بشر: هذا أول حديث سمعته من سفيان، وقال أبو حامد: هذا أول حديث سمعناه من عبد الرحمن، وقال أبو نصر الوزيري: هذا أول حديث سمعناه من أبي حامد، وقال أبو سعد: هذا أول حديث سمعته من أبي نصر، وقال أبو صالح: هذا أول حديث سمعته من أبي سعد في رجوعي إلى نيسابور سنة اثنتين وثلاثين، يعني وأربع مئة، وقال أبو جعفر الحافظ: وهذا أول حديث سمعته من أبي صالح، وقال الحافظ أبو العلاء: وهذا أول حديث سمعته من أبي جعفر، قال ابنه أبو محمد عبد البر: وهو أول حديث سمعناه من أبي من لفظه، قال أبو عمرو النصري: وهذا أول حديث سمعته من أبي محمد عبد البر.
وأنبأنا به عالياً جداً جماعةٌ من شيوخنا، منهم: أبو عبد الله محمد بن(1/457)
محمد بن عبد الله الصالحي، عن يحيى بن محمد بن سعد وغيره، أخبرنا أبو صالح نصر بن الحافظ أبي محمدٍ عبد الرزاق بن الشيخ العارف ولي الله أبي محمدٍ عبد القادر الجيلي كتابةً. وزاد شيخنا الصالحي فقال: وأنبأنا الحافظ الكبير أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن التوني، أخبرنا أبو الحسن علي بن أبي عبد الله الأزجي إجازةً إن لم يكن سماعاً، قالا جميعاً: عن الحافظ أبي العلاء الحسن بن أحمد ابن الحسن العطار الهمذاني، فذكره.
هذا الحديث له ألقاب بحسب طرقه التي رويناها منه، فهو حديث صحيح، وحسن، وضعيف الإسناد من وجه، وفرد، ومعل من وجوه، ومرفوع، وموقوف من وجه، ومسلسل بالأولية: مقطوع التسلسل، وموصول التسلسل من غير انقطاع، كما رويناه، ومعنعن، لقول سفيان فيه عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو.
فسياقه هكذا معنعناً لا يظهر فيه صفة التحمل: هل كان سماعاً من لفظ الراوي، أو عرضاً عليه، أو مناولة، أو إجازة مشافهةً أو كتابة، أو وجادةً؟ فالحديث المعنعن إسناده -والحالة ما ذكر- مختلف في حكمه، فقيل: هو كالمرسل والمنقطع حتى يتبين اتصاله من وجه آخر، وهذا قول مرجوح، فالصحيح وعليه جماهير الأئمة: أنه متصل الإسناد بشرط سلامة المعنعن الثقة من التدليس، وثبوت لقائه لمن روى عنه.
واشترط أبو المظفر عبد الرحيم ابن السمعاني مع ثبوت اللقاء طول الصحبة بين الراويين.
واشترط أبو عمروٍ عثمان بن سعيد الداني معرفة المعنعن بالرواية عمن روى عنه.(1/458)
واقتصر مسلم صاحب الصحيح على المعاصرة ولم يشترط ثبوت اللقاء.
وإذا تقرر هذا ونظرنا فيمن عنعن هذا الحديث وجدناه سفيان بن عيينة وقد اجتمعت فيه الشروط التي تحكم لما رواه بالاتصال، ولا يقال إن سفيان عد في المدلسين فبهذا فقد فيه شرط السلامة من التدليس، لأنا نقول: إن التدليس على أنواعٍ ترجع إلى قسمين:
أحدهما: تدليس السماع.
والثاني: تدليس الشيوخ والأماكن.
ومن ذلك ما هو مؤثر في الحديث قدحاً، ومنه ما لا يؤثر، كالتدليس المبين وهو: الذي إذا سئل عنه راويه بينه، وعليه يحمل ما في الصحيحين من رواية المدلسين، كهشيم بن بشير وغيره.
ومن هذا الذي هو غير مؤثر تدليس سفيان بن عيينة، فروايته لهذا الحديث بالعنعنة لا تضر، مع أنه قد روي عنه من طريقٍ بلفظ التحديث قال فيها سفيان: حدثنا عمرو بن دينار. وسفيان كان أجل من أن يدلس تدليساً يؤثر قدحاً.
وهو أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمونٍ الهلالي(1/459)
مولاهم، الكوفي الأصل، المكي الدار، عالم الحجاز، وكان أعور العين، أدرك ستةً وثمانين تابعياً، وتفرد مدة عن الزهري وعمرو بن دينار، في آخرين، ولد بالكوفة في النصف من شعبان سنة سبع ومائة، ثم نقله أبوه إلى مكة، ثم دخل الكوفة وقد ناهز عشرين سنة، فقال الإمام أبو حنيفة لأصحابه: جاءكم حافظ علم عمرو ابن دينار. فجاء الناس إليه يسألونه عن عمرو بن دينار. قال ابن عيينة: فأول من صيرني محدثاً أبو حنيفة، فذاكرته.
وقد روي أن أول من أخذ عن سفيان من أهل الكوفة مسعر بن كدام، توفي مسعر سنة خمس وخمسين ومائة، قبل وفاة سفيان بثلاث وأربعين سنة، توفي سفيان سنة ثمان وتسعين ومائة بمكة، ودفن بالحجون وقبره ظاهر يزار، حج سبعين حجةً، وله مناقب ومآثرٌ جمة، وحكم ومواعظ، وآداب ونوادر.
وكان إذا جلس أصحابه إليه لسماع الحديث قال: اسمعوا ما أقول لكم! لو أن رجلاً أصاب مال أخيه فجاء به بعد موته إلى ورثته، لرأينا أن ذلك كفارة، ولو أن رجلاً أصاب من عرض رجل فتورع عنه بعد موته فجاء إلى ورثته وإلى جميع أهل الأرض فجعلوه في حل ما كان في حل، فعرض المؤمن أشد من ماله، افهموا ما يقال لكم! هو خير لكم من سماع الحديث!
وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني: حدثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب، حدثنا محمد بن صالح بن الوليد، حدثنا أبو حفص عمرو بن علي قال: كنا عند سفيان بن عيينة فجاءته جاريته(1/460)
فقالت: مولاي! فلانٌ الصيرفي يقرئك السلام، قالت: ويقول لك: بعث إلي إنسان بعشرة آلاف درهم فقال: ادفعها إلى سفيان بن عيينة وهي عندي. فأخذ منها سفيان ثلاثة آلاف درهم وبقيت عنده سبعة آلاف، فجاء ابن أخيه عمران ذات يوم مع جماعة يخطب إليه ابنته قال: مرحباً بابن أخي جاء يطلب أخته إلا أن الله عز وجل قد أحلها له، ثم قال:
اقرأ عشر آياتٍ من كتاب الله عز وجل: فلم يحسن! فقال: هات ثلاثة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلم يحسن! فقال: هات ثلاثة أبيات شعر من شعر العرب. فلم يحسن! فقال: لا تحسن آياتٍ من كتاب الله تعالى، ولا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أبيات شعر، اذهب إلى فلان الصيرفي فخذ منه أربعة آلاف درهم وتزوج من شئت.
وبقي عند الصيرفي ثلاثة آلاف درهم، فمر به الصيرفي يوماً فقال: ألا تبعث إلى بقية المال من يأخذه -قال أبو حفص: وقد كان الصيرفي قضى له حاجة- فقال: هو لك، فقال الرجل: لا حاجة لي بها وأنا عنها غني، فقال: ابن أخيك اليتيم، ادفعها إليه ولا تراجعني فيه.
ومن نوادره الدالة على ورعه وتقواه، ونختم بذكر ذلك ما أمليناه، قال أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي الثمالي -وهو المبرد، بكسر الراء على الصحيح- قال: حدثت من غير وجه أن سفيان بن عيينة قال لجلسائه يوماً: إني أرى جارنا هذا السهمي قد أثرى وانفسحت له النعمة، وصار ذا جاه عند الأمراء، ووافداً إلى الخلفاء، فمم ذلك؟ -يعني يحيى بن جامع- فقال له جلساؤه: إنه يصير إلى الخليفة فيتغنى له، فقال سفيان: فيقول ماذا؟ فقال أحد جلسائه:(1/461)
فيقول:
أطوف نهاري مع الطائفين ... وأرفع من مئزري المسبل
فقال سفيان: ما أحسن والله ما قال! فقال الرجل:
وأسهر ليلي مع العاكفين ... وأتلو من المحكم المنزل
فقال: حسنٌ والله جميل! قال: إن بعد هذا شيئاً، قال سفيان: وما هو؟ قال:
عسى فارج الكرب عن يوسف ... يسخر لي ربة المحمل
فزوى سفيان وجهه وأومأ بيده: أن كف وقال: حلالاً حلالاً.(1/462)
[25] بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ}.
.. .. على ارتفاع الأحكام وبقائها.
فهذا بعض وجوه مأخذ علوم القرآن منه، وأصلها المنطوق والمفهوم، فالمنطوق ما دل على اللفظ بغير واسطة في محل النطق: تارة يكون نصاً، والنص اصطلاحاً: ما رفع في بيانه إلى أقصى غايته، وهو ما استقل بنفسه بنصه.
وتارة يكون ظاهراً وهو: ما احتمل أمرين أحدهما أقوى من الآخر.
وأما المفهوم: فهو ما دل عليه اللفظ في محل السكوت، ودلالته مختلف فيها: هل هي قياسية أو لفظية؟ والأول منقول عن الشافعي، وذكر الشيخ أبو حامد الإسفراييني أن دلالته [لفظية] وأنه الصحيح من المذهب.(1/463)
فقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} فمنطوقه تحريم التأفف، ومفهومه: تحريم الضرب والسب ونحوه.
فالتأفيف مصرح به لفظاً، وتحريم الضرب والسب ونحوه مفهوم من لحن الكلام وفحواه. والله أعلم.
وقد فرقوا بين اللحن والفحوى، فالفحوى: ما يعلم من الخطاب بطريق القطع، واللحن: معنى الخطاب.
إذا تقرر هذا فقوله سبحانه وتعالى: {يتلو عليهم آياته ويزكيهم} من مفهومه: القيام بشكر نعم الله وترك كفرانها، ولذلك مدركان يدرك بهما مذكوران في الآية: أحدهما: السمع، ومستنده تلاوة الآيات المشتملة على جميع أحكام الشرع في أفعال العباد.
والمدرك الثاني: حصول التزكية التي منها فتح البصيرة للنظر بعين الاعتبار فيدرك بذلك بعض حكمة الله في كل موجود خلقه الله، إذ ما خلق الله شيئاً إلا وفيه حكمة جلية وخفية، بل جميع أجزاء العالم، لا تخلو منه ذرة عن حكمة إلهية، فمن لم يطلع على أحكام الشرع التي تضمنته الآيات التي تتلى عليه في جميع أفعاله، فيمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، لم يمكنه القيام بحق شكر الله أصلاً.
ومن لم يعرف حكمة الله في خلق نفسه فضلاً عن غيره، أو استعمل شيئاً من جوارحه ظاهراً أو باطناً في غير الجهة التي خلق لها ذلك الشيء على غير الوجه الذي أريد به: فقد كفر نعمة الله فيه، قال الله عز وجل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
فكل من استعمل شيئاً من نعم الله في غير طاعته فقد كفر النعمة، والنعمة إذا كفرت نفرت وزالت، وإذا زالت بالكفران قل أن تعود كما كانت.(1/464)
أخبرنا إبراهيم بن محمد النقاش أبوه بقراءتي عليه، أخبرنا أحمد بن أبي طالب، أخبرنا عبد اللطيف بن القبيطي كتابة، أخبرنا محمد بن عبد الباقي سماعاً، قال: أنشدنا محمد بن فتوح بن عبد الله قال: وأنشدني والدي رحمه الله فيما لقننيه أيام الصبا.
من قابل النعمة من ربه ... بواجب الشكر له دامت
وكافر النعمة مسلوبها ... وقل ما ترجع إن زالت
وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من زوالها.
أخبرنا أبو محمد رسلان بن أحمد بن الموفق، أخبرنا محمد بن المحب عبد الله ابن أحمد، ومحمد بن أحمد بن أبي الهيجاء. قال ابن المحب: أخبرنا إبراهيم بن عمر الواسطي، أخبرنا منصور بن عبد المنعم، وقال ابن المحب أيضاً وابن أبي الهيجاء: أخبرنا محمد بن عبد الهادي، وقال ابن أبي الهيجاء أيضاً: أخبرنا أحمد ابن عبد الدائم، قال هو وابن عبد الهادي: أخبرنا محمد بن علي الحراني، قال هو ومنصور: أخبرنا محمد بن الفضل الصاعدي، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثنا مسلم، حدثنا عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة، حدثنا ابن بكير، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك)).
فبالشكر تثبت النعم ولا تزول، ويبلغ الشاكر من المزيد فوق المأمول، ولهذا كانوا يسمون الشكر (الحافظ، والجالب) لأنه حافظ للموجود من النعم، جالب للمفقود منها بالمزيد.(1/465)
ومادة شكر في اللغة كيف ما تصرف فيها تدل على الكثرة، يقال:
أشكر القوم: إذا أصاب نعمهم بقلاً تدر على أكله ألبانها.
ويقال: اشتكر ضرع الناقة: إذا امتلأ لبناً، فهي شكرة، وربما استعير ذلك للسحاب.
والشكير: ما نبت في أصول الشجر الكبار منه.
وأيضاً: هو الزرع ينبت في الأرض الكريمة في أصول الزرع من غير بذر.
والشكير أيضاً: ما نبت من الشعر بين الضفائر.
وأيضاً: ما نبت من الشعر الضعيف خلال الشيب.
وأيضاً: ما نبت من صغار الشعر في معرفة الفرس.
والشكور من النساء: من يستبين عليها أثر الغذاء كالسمن ونحوه.
وكذلك الشكور من الخيل.
والشكور من العباد: من كثر شكره لله عز وجل، قال تبارك وتعالى: {وقليل من عبادي الشكور}. والشكار أبلغ في الكثرة.
والشكر في أحد تعريفاته: الثناء على المحسن بما أولى من الإحسان، وهو أحد نوعي الحمد، لأن الحمد لله على نوعين: حمد ثناء ومدح، وحمد عبودية وشكر، والأول أفضل، لأن حمد الثناء والمدح(1/466)
متعلق بصفات الله تعالى وأسمائه كقوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين} فجميع أسماء الله تعالى حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووجد بحمده، {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}.
وأما حمد العبودية والشكر -ويقال له: حمد النعم والآلاء- فهو مشهود لكل من الخليقة مؤمنها وكافرها، وبرها وفاجرها. فمن أوائل النعم الإيجاد من العدم، فالمؤمن معترف بالله الخلاق، وتوحيده، والكافر معترف بالخلاق لكن مع الإشراك في معبوده {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}.
وهذا الخلق من قسم النعم التي ابتدأ الله تعالى بها قبل السؤال، بل بمجرد من وإفضال، ومن هذا القسم: ما خص الله تعالى به المؤمنين من الإيمان وغيره، ومنه ما قاله في كتابه المبين: {لقد من الله على المؤمنين} ومنه سبحانه عليهم أجله الإيمان الذي حببه إليهم وزينه وكتبه في قلوبهم، وذكرهم قبل أن يذكروه، وألحقهم قبل السؤال بمطلوبهم. هذا من بعض إنعامه عليهم في الدنيا، ومنه بعثه الرسل، وتيسير الطاعات التي ينالون بعملها الدرجات في الجنات، لأن الله عز وجل قد أعد للمؤمنين من نعمه في الآخرة داراً هي المقصود {فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين} مع الخلود، مودعةً من النعيم والحبرة والسرور، والغرف والخيام والقصور، من الذهب واليواقيت والدرر ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر!.
فأي شكر يقابل هذا الإنعام؟! أم أي ثناء يقاوم أصغر نعمة من هذا الإكرام؟!
روينا في ((كتاب الشكر)) لأبي بكر بن أبي الدنيا، عن وهب بن(1/467)
منبه قال: عبد الله تعالى عابد خمسين عاماً، فأوحى الله إليه أني قد غفرت لك، قال: يا رب وما تغفر لي ولم أذنب؟ فأذن الله لعرق في عنقه فضرب عليه، فلم ينم ولم يصل، ثم سكن فنام، فأتاه ملك فشكى إليه فقال: ما لقيت من ضربان العرق؟ فقال الملك: إن ربك يقول: عبادتك خمسين سنة تعدل سكون ذا العرق.
فهذه نعمة نوع واحد من أنواع عافية البدن استغرقت عبادة خمسين سنة من الزمان، فما ظنكم بما لا يحصى من النعم المتكاثرة في الدنيا والآخرة؟!
وما ثم إلا العجز عن شكر ربنا ... كما ينبغي سبحانه متفضلاً
والاعتراف بالعجز نوع من الشكر، والتوفيق للشكر نعمة يجب شكرها، وسؤال الإعانة على الشكر سنة يتبع أثرها، وينشر ذكرها.
أنبأنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله المقدسي، أخبرنا أبو بكر ابن أحمد الضرير قراءة عليه وأنا أسمع، في محرم سنة ثمان عشرة وسبع مئة، أخبرنا محمد بن إبراهيم بن مسلم قراءة عليه وأنا حاضر في الخامسة، أخبرتنا شهدة ابنة أحمد الكاتبة سماعاً، أخبرنا أحمد بن عبد القادر بن محمد اليوسفي، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحرفي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن سلمان الفقيه، أخبرنا عبد الله بن محمد القرشي، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا أبو معاوية وجعفر ابن عون، عن هشام بن عروة، عن ابن المنكدر قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ((اللهم أعني على شكرك وذكرك وحسن عبادتك)).
وأخبرنا الشيوخ المسندون: أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن(1/468)
عثمان بن محمد بن محمد بن محمد المعظمي، وأبو العباس أحمد بن أبي العز بن أحمد بن أبي العز الثوري، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الصوفي، بقراءتي عليهم متفرقين قالوا: أخبرنا أحمد ابن الشحنة أبي طالب، والعفيف إسحاق بن يحيى الآمدي. قال الأول: أنبأنا جعفر بن علي المقرئ، وعبد الله بن عمر العتابي. قال جعفر: أخبرنا أحمد بن محمد الحافظ سماعاً، وقال العتابي: أخبرنا أبو علي الحسن بن جعفر قراءة عليه ونحن نسمع، قال هو والحافظ: أخبرنا أبو غالب محمد بن الحسن الباقلاني، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد البرقاني.
وقال الآمدي: أخبرنا يوسف بن خليل الحافظ، أخبرنا أبو سعيد خليل بن أبي الرجاء الراراني، وأبو الحسن مسعود بن أبي منصور، قالا: أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد الحداد، أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله، قال هو والبرقاني: أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر البندار، حدثنا ابن أبي العوام، حدثنا أبو عاصم، حدثنا حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن الصنابحي، عن معاذ رضي الله عنه قال: لقيني النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فقال: ((يا معاذ إني أحبك)) قلت: يا رسول الله، وأنا والله أحبك، قال: ((أفلا أوصيك بكلماتٍ تقولهن في دبر كل صلاة! قل: رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
تابعه أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي فقال: حدثنا محمد بن أحمد ابن أبي العوام، حدثنا الضحاك بن مخلد، فذكره.
وحدث به أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي في كتابه ((معجم الصحابة)) عن علي بن مسلم، عن أبي عاصم النبيل.
وخرجه الإمام أحمد بن حنبل في ((مسنده)) عن عبد الله بن يزيد المقرئ.(1/469)
وخرجه أبو داود في ((سننه)) عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة، هو القواريري، عن عبد الله بن يزيد المقرئ.
وخرجه النسائي في ((سننه)) عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، كلاهما عن حيوة بن شريح، وهو أبو زرعة المصري، بنحوه.
وهو في صحيحي أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي حاتم محمد بن حبان، و((مستدرك)) الحاكم أبي عبد الله، وقال: صحيح على شرط الشيخين.
ورواه أبو بكر أحمد بن محمد بن السني في كتابه ((عمل اليوم والليلة)) فقال: أخبرني محمد بن محمد الباهلي، حدثنا الحسن بن حماد، حدثنا يحيى بن يعلى، عن حيوة بن شريح، فذكره.
ورويناه من طرق غير ما ذكر.
والصنابحي راويه: هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن عسيلة بن عسل بن عسال المرادي، ونسبه إلى صنابح بن زاهر، بطن من مراد، رحل الصنابحي من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يدركه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبض والصنابحي قد وصل إلى الجحفة، فقدم المدينة بعد خمسة أيام من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فهو تابعي، ووقعت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم في ((سنن ابن ماجه)) فهي مرسلة، شهد الصنابحي فتح مصر، ونزل دمشق، وبها توفي رضي الله عنه.
وقال أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم الخراساني: حدثنا جعفر بن محمد بن القعقاع، حدثنا خالد بن يزيد العمري، حدثنا ابن أبي ذئب، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال: اللهم أعني على أداء شكرك، وذكرك، وحسن عبادتك: فقد اجتهد في الدعاء)).
ومما قلته في معنى الحديث نظماً، نجعله لما ذكرناه ختماً، وهو:(1/470)
أوصيكم بالذكر يا إخوتاه ... ذكر الإله الحق فيه النجاة
خصوصاً المأثور فهو الذي ... قبوله يرجى لمن قد رجاه
ومنه ما أوصى معاذاً به ... نبينا صلى عليه الإله
بدعوة جامعة للغنى ... يدعو بها الرحمن دبر الصلاة
إعانة الرب على ذكره ... وشكره مع حسن فرضٍ قضاه
فادعوا بهن الله فهو الذي ... يعطي ولا يمنع عبداً دعاه
سبحانه من ماجدٍ واجدٍ ... رب الورى لا رب حقاً سواه
آخر المجلس ولله الحمد حمداً كثيراً
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً(1/471)
الفوائد التي كتبها المصنف ضمن المجالس وليست لها مناسبة بها (1)
1- أبو القاسم إبراهيم بن محمد ابن الإفليلي، حدث عن أبيه، وعن أبي زكريا يحيى بن مالك بن عائذ، وغيرهما.
2- الحمد لله
قال أبو حامد الغزالي في كتابه ((وسيلة الحاجات وآداب المناجاة)) في تفصيل قواعد العقائد، حين ذكر قصة سؤال مالك بن أنس عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} قال الغزالي: ولا يخفى كراهية السلف رضوان الله عليهم الخوض في تأويلاتها وشدة إنكارهم على من يتكلم فيها، وإن كان من المتأخرين من رأى جواز التأويل، وحاشى وكلا أبى الله علماً وحكماً! ولكن الإيثار ما عليه الجمهور واختيار أكثر الأئمة المتقدمين، إذ معرفة ذلك ليس بفرض عين بالاتفاق، فإذا علمت عقيدة التوحيد، وفهمت الواجب من ذلك فلا خلاف بين الأئمة أنه من
__________
(1) قال المحقق في المقدمة : ويذكر أحيانا قليلة في آخر المجلس فائدة، فإن كانت مناسبة للمجلس ألحقتها به، وما لم يكن منها مناسباً للمجلس جمعته آخر الكتاب، حرصاً مني على أن لا أفوت على القارئ فائدة يمكنني إيصالها إليه، والله الموفق.(1/472)
قدس الله ونزهه ووصفه بما وصف به نفسه، ولم يعتقد ما يقال فيه إنه بدعة: فعند أهل الحق علم ما وجب عليه تعلمه من ذلك، وليس أحد من الأئمة يوجب عليه العلم بتأويل هذه الظواهر، فلنقتصر على آرائهم، ولنترك مجاوزة اعتقاداتهم، والخطأ مع تعيين السلامة أحسن من الصواب مع توقع الخطر.
نسأل الله تعالى التوفيق والعصمة من طريق الخطل بمنه وكرمه.
3- الحمد لله
أنبأنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله المقدسي، أخبرنا التقي أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الولي سماعاً في سلخ ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وسبع مئة، أخبرنا جدي لأمي التقي عبد الرحمن بن أبي الفهم، أخبرنا يحيى بن أسعد، أخبرنا بهرام بن بهرام البيع، أخبرنا علي بن المحسن القاضي، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف فيما قرئ عليه وأنا أسمع في صفر سنة ثمان وثلاث مئة، حدثنا سماعة بن محمد بن سماعة، حدثنا علي بن الجعد، حدثنا أبو هلال، عن عبد الله بن بريدة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما تعلم أحد الفارسية إلا خبث، ولا خبث إلا ذهبت مروءته.(1/473)
قال أبو عبد الله بن منده في ((المعرفة)): أخبرنا محمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي بمكة، حدثنا محمد بن خالد البرذعي، حدثنا موسى بن سهل الرملي.
وقال ابن منده أيضاً: وحدثنا جمح بن أبان المؤذن بدمشق، حدثنا عبد الله بن إسحاق الرملي، حدثنا يحيى بن السكن الرملي، قالا: حدثنا محمد بن فهر بن جميل بن أبي كريم بن لفاف بن كدن، حدثنا أمية ولفاف ابنا مفضل بن أبي كريم، عن المفضل بن أبي كريم، عن أبيه، عن جده لفاف، عن الأقرع بن شفي العكي، قال: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم في مرضي فقلت: لا أحسب إلا أني ميتٌ من مرضي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((كلا لتبقين، ولتهاجرن إلى أرض الشام، وتموت وتدفن بالربوة من أرض فلسطين)).
رواه إسماعيل بن رشيد الرملي، عن ضمرة بن ربيعة، عن قادم بن ميسور القرشي، عن رجل من عكل، عن الأقرع العكي قال: مرضت. فذكر الحديث نحوه.(1/474)
4- الحمد لله
أجاز للمسئول لهم في هذه الاستجازة المباركة الشيختان المسندتان الست الجليلة باي خاتون ابنة قاضي القضاة أبي الحسن علي بن الإمام العلامة قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء محمد بن عبد البر السبكي الشافعي، وأم عبد الله عائشة ابنة إبراهيم بن خليل ابن الشرائحي ما تجوز لهما روايته بشرطه.
وكتب عنهما بإذنهما العبد محمد بن أبي بكر عبد الله بن محمد عفا الله عنهم.
وأجاز كذلك ما تجوز له وعنه روايته بشرطه. الحمد لله)).
5- الحمد لله
أنبؤونا عن الأئمة الحافظين أبي الحجاج يوسف بن الزكي المزي، وأبي محمد القاسم بن محمد ابن البرزالي، والمقرئ أبي عبد الله محمد ابن أحمد بن علي الرقي قالوا: أخبرنا أبو محمد عبد الواسع بن عبد الكافي الأبرهي سماعاً -قال المزي: بقراءتي- أخبرنا أبو الفتح محمد بن أحمد الواسطي كتابة، أخبرنا أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي سماعاً، أخبرنا جدي الإمام أبو بكر أحمد، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، حدثنا أحمد بن عيسى البرتي القاضي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبادة بن مسلم، حدثني جبير بن [أبي] سليمان بن جبير بن مطعم أنه كان جالساً مع ابن عمر رضي الله عنهما فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه حين يمسي وحين يصبح لم يدعه حتى فارق الدنيا -أو(1/475)
قال: حتى مات-: ((اللهم إني أسالك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني [ودنياي] وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، [و] أعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)).
قال جبير: هو الخسف.
قال عبادة: فلا أدري: قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا، أو قول جبير؟
فيه عدة من الأشياخ المتأخرين المتوفين في المائة (الثامنة؟).
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
السبت 3- من جمادى الآخرة- سنة 1416هـ
وكتبه محمد عوامة(1/476)