الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
قوله عزّ وجلّ : { الذين طغوا في البلاد } يعني عاداً وثموداً وفرعون عملوا بالمعاصي ، وتجبروا ، ثم فسر ذلك الطغيان بقوله { فأكثروا فيها الفساد } يعني القتل والفساد ضد الصلاح ، فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر فكذلك الفساد يتناول جميع أقسام الإثم . { فصب عليهم ربك سوط عذاب } يعني لوناً من العذاب صبّه عليهم ، وقيل هو تشبيه بما يكون في الدنيا من العذاب بالسوط ، وقيل هو إشارة إلى ما خلط لهم من العذاب ، لأن أصل السوط خلط الشيء بعضه ببعض؛ وقيل هذا على الاستعارة ، لأن السوط غاية العذاب فجرى ذلك لكل نوع منه . وقيل جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية يقول إن عند الله أسواطاً كثيرة ، فأخذهم بسوط منها . { إن ربك لبالمرصاد } قال ابن عباس يعني بحيث يرى ويسمع ، وقيل عليه طريق العباد ، لا يفوته أحد وقيل عليه ممر الناس لأن الرصد والمرصاد الطريق . وقيل ترجع الخلق إلى حكمه وأمره وإليه مصيرهم ، وقيل إنه يرصد أعمال بني آدم . والمعنى أنه لا يفوته شيء من أعمال العباد ، كما لا يفوت من المرصاد ، وقد قيل أرصد النار على طريقهم حتى تهلكهم .
قوله عزّ وجلّ : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه } أي امتحنه { ربه } أي بالنعمة { فأكرمه } أي بالمال { ونعمه } أي بما يوسع عليه { فيقول ربي أكرمن } أي بما أعطاني من المال والنعمة .(6/261)
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
{ وأما إذا ما ابتلاه } يعني بالفقر { فقدر عليه } أي فضيق عليه ، وقيل قتر . { رزقه } أي وقد أعطاه ما يكفيه . { فيقول ربي أهانن } أي أذلني بالفقر ، قيل نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر ، وقيل ليس المراد به واحداً بعينه ، بل المراد جنس الكافر ، وهو الذي تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة المال والحظ في الدنيا وقلته فرد الله تعالى على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة فقال تعالى : { كلا } أي ليس الأمر كذلك ، أي لم أبتله بالغنى لكرامته ، ولم أبتله بالفقر لهوانه ، فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال ، وسعة الرزق وقلته ، ولكن الغنى والفقر بتقدير الله جلّ جلاله وحكمته فقد يوسع على الكافر لا لكرامته ، ويضيق على المؤمن لا لهوانه ، لكن لأمر اقتضته حكمة الله تعالى ، وإنما يكرم المرء بطاعته ، ويهينه بمعصيته ، وقد يوسع على الإنسان من أصناف المال ليختبره ، أيشكر أم يكفر ، ويضيق عليه ليختبره ، أيصبر أم يضجر ، ويقلق . { بل لا تكرمون اليتيم } أي لا يعطونه حقه الثابت له في الميراث قال مقاتل : كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف ، فكان يدفعه عن حقه . { ولا تحضون على طعام المسكين } أي لا يطعمون مسكيناً ، ولا يأمرون بإطعامه ، وقرىء ولا يحاضون ومعناه ، ولا يحض بعضهم بعضاً على ذلك . { وتأكلون التراث } أي الميراث { أكلاً لمّاً } أي شديداً ، والمعنى أنه يأكل نصيبه ونصيب غيره ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ، ولا الصبيان ، ويأكلون نصيبهم ، وقيل الآكل اللم الذي يأكل كل شيء يجده لا يسأل أحلال أم حرام ، فيأكل الذي له ولغيره . { وتحبون المال حباً جمّاً } أي كثيراً والمعنى يحبون جمع المال ، ويولعون به ، وبحبه . { كلا } أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا ، من الحرص على جمع المال وحبه . وقيل معناه لا يفعلون ما أمروا به من إكرام اليتيم وغيره من المسلمين ، ثم أخبر عن تلهّفهم على ما سلف منهم ، وذلك حين لا ينفعهم الندم . فقال تعالى : { إذا دكت الأرض دكاً دكاً } أي دقت وكسرت مرة بعد مرة ، وكسر كل شيء عليها من جبل وبناء وغيره ، حتى لا يبقى على ظهرها شيء .(6/262)
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
{ وجاء ربك } اعلم أن هذه الآية من آيات الصفات التي سكت عنها وعن مثلها عامة السلف وبعض الخلف ، فلم يتكلموا فيها وأجروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل ، وقالوا يلزمنا الإيمان بها وأجراؤها على ظاهرها ، وتأولها بعض المتأخرين ، وغالب المتكلمين فقالوا ثبت بالدليل العقلي ، أن الحركة على الله محال ، فلا بد من تأويل الآية . فقيل في تأويلها وجاء أمر ربك بالمحاسبة والجزاء . وقيل جاء أمر ربك وقضاؤه . وقيل وجاء دلائل آيات ربك فجعل مجيئها مجيئاً له تفخيماً لتلك الآيات . { والملك صفاً صفاً } أي تنزل ملائكة كل سماء صفاً صفاً على حدة ، فيصطفون صفاً بعد صف ، محدقين بالجن والإنس ، فيكونون سبع صفوف . { وجيء يومئذ } يعني يوم القيامة { بجهنم } قال ابن مسعود : في هذه الآية تقاد جهنم بسبعين ألف زمام ، كل زمام بيد سبعين ألف ملك ، لها تغيط وزفير حتى تنصب عن يسار العرش { يومئذ } يعني يوم يجاء بجهنم { يتذكر الإنسان } أي يتعظ الكافر ويتوب . { وأنى له الذكرى } يعني أنه يظهر التوبة ، ومن أين له التوبة . { يقول يا ليتني قدمت لحياتي } أي قدمت الخير ، والعمل الصالح لحياتي في الآخرة التي لا موت فيها . { فيومئذ لا يعذب عذابه أحد } أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ . { ولا يوثق وثاقه أحد } يعني لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب ، والوثاق هو الأسر في السلاسل ، والأغلال ، وقرىء لا يعذب ، ولا يوثق بفتح الذال والثاء ، ومعناه لا يعذب عذاب هذا الكافر أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد ، وهو أمية بن خلف ، وذلك لشدة كفره وعتوه .
قوله عزّ وجلّ : { يا أيتها النفس المطمئنة } أي الثابتة على الإيمان ، والإيقان ، المصدقة بما قال الله تعالى ، الموقنة التي قد أيقنت بالله تعالى ، وبأن الله ربها ، وخضعت لأمره ، وطاعته ، وقيل المطمئنة المؤمنة ، الموقنة ، وقيل هي الراضية بقضاء الله ، وقيل هي الآمنة من عذاب الله ، وقيل هي المطمئنة بذكر الله؛ قيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب حين استشهد بأُحُد ، وقيل في حبيب بن عدي الأنصاري ، وقيل في عثمان حين اشترى بئر رومة وسبلها وقيل في أبي بكر الصديق؛ والأصح أن الآية عامة في كل نفس مؤمنة مطمئنة ، لأن هذه السورة مكية { ارجعي إلى ربك } أي إلى ما وعد ربك من الجزاء والثواب ، قيل يقال لها ذلك عند خروجها من الدنيا . قال عبد الله بن عمر : إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله عزّ وجلّ إليه ملكين ، وأرسل إليه بتحفة من الجنة ، فيقال اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى روح وريحان ، وربك عنك راض ، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه ، والملائكة على أرجاء السماء يقولون قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة فلا تمر بباب إلا فتح لها ، ولا بملك ، إلا صلى عليها حتى يؤتى بها الرحمن جل جلاله ، فتسجد له ثم يقال لميكائيل اذهب بهذه النفس فاجعلها مع أنفس المؤمنين ، ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعون ذراعاً عرضه ، وسبعون ذراعاً ، طوله وينبذ له فيه الروح والريحان ، فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره ، وإن لم يكن جعل له نور مثل الشمس في قبره ، ويكن مثله مثل العروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه ، وإذا توفي الكافر أرسل الله إليه ملكين ، وأرسل قطعة من بجاد أي من كساء أنتن من كل نتن ، وأخشن من كل خشن ، فيقال أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي إلى جهنم وعذاب أليم ، وربك عليك غضبان وقيل في معنى قوله { ارجعي إلى ربك } أي إلى صاحبك وهو الجسد ، وإنما يقال لا ذلك عند البعث فيأمر الله الأرواح أن ترجع إلى أجسادها ، وهو قول عكرمة وعطاء والضحاك ورواية عن ابن عباس .(6/263)
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
فإذا كان يوم القيامة قيل لها .
{ فادخلي في عبادي } أي في جملة عبادي ، الصالحين المصطفين { وادخلي جنتي } قال سعيد بن جبير : مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته ، فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط ، فدخل نعشه ثم لم ير خارجاً منه ، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وادخلي في عبادي وادخلي جنتي } ، وقال : بعض أهل الإشارة في تفسير هذه الآية يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا ، ارجعي إلى ربك بتركها ، والرجوع إليه هو سلوك سبيل الآخرة والله أعلم .(6/264)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
قوله عزّ وجلّ : { لا أقسم بهذا البلد } تقدم الكلام على قوله لا أقسم في أول سورة القيامة ، والبلد هي مكة في قول جميع المفسرين . { وأنت حل بهذا البلد } أي مقيم به ، نازل فيه ، فكأنه عظّم حرمة مكة من أجل أنه صلى الله عليه وسلم مقيم بها وقيل حل أي حلال ، والمعنى أحلت لك تصنع فيها ما تريد من القتل ، والأسر ، ليس عليك ما على الناس من الإثم في استحلالها ، أحل الله عزّ وجلّ له مكة يوم الفتح حتى قاتل ، وأمر بقتل ابن خطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، ومقيس بن صبابة وغيرهما ، وأحل دماء قوم ، وحرم دماء قوم آخرين ، فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ثم قال بعد ذلك إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ، ولم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، والمعنى أن الله تعالى لما أقسم بمكة دل ذلك على عظم قدرها ، وشرفها ، وحرمتها ، ومع ذلك فقد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم ، أنه يحلها له حتى يقاتل فيها ، وأن يفتحها على يده ، فهذا وعد من الله تعالى في الماضي ، وهو مقيم بمكة أن يفتحها عليه في المستقبل بعد الهجرة ، وخروجه منها ، فكان كما وعده ، وقيل في معنى قوله { وأنت حلّ بهذا البلد } ، أي أنهم يحرمون أن يقتلوا به صيداً ، ويستحلون قتلك فيه ، وإخراجك منه . { ووالد وما ولد } يعني آدم وذريته أقسم الله تعالى بمكة لشرفها ، وحرمتها ، وبآدم ، وبالأنبياء والصالحين من ذريته ، لأن الكافر وإن كان من ذريته فلا حرمة له حتى يقسم به ، وجواب القسم قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } قال ابن عباس : في نصب ، وقيل يكابد مصائب الدنيا ، وشدائد الآخرة ، وعنه أيضاً قال : في شدة من حمله ، وولادته ، ورضاعه ، وفطامه ، وفصاله ، ومعاشه ، وحياته ، وموته وأصل الكبد الشدة ، وقيل لم يخلق الله خلقاً يكابد ، ما يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق ، وعن ابن عباس أيضاً قال : الكبد الاستواء ، والاستقامة ، فعلى هذا يكون المعنى ، خلقنا الإنسان منتصباً معتدل القامة ، وكل شيء من الحيوان يمشيء منكباً ، وقيل منتصباً ، رأسه في بطن أمه فإذا أذن الله في خروجه انقلب رأسه إلى أسفل ، وقيل في كبد أي في قوة نزلت في أبي الأشد أسيد بن كلدة بن جمح ، وكان شديداً قوياً يضع الأديم العكاظي تحت قدميه ، ويقول من أزالني عنه فله كذا وكذا فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعاً ، ويبقى من ذلك الأديم بقدر موضع قدميه .(6/265)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
{ أيحسب } أبو الأشد من قوته { أن لن يقدر عليه أحد } يعني أيظن لشدته في نفسه ، أنه لا يقدر عليه الله ، وقيل هو الوليد بن المغيرة المخزومي . { يقول } يعني هذا الكافر { أهلكت } أي أنفقت { مالاً لبداً } أي كثيراً من التلبيد الذي يكون بعضه فوق بعض . يعني في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم { أيحسب أن لم يره أحد } يعني أيظن أن الله لم يره ، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه ، وقيل كان كاذباً في قوله ، إنه أنفق ولم ينفق جميع ما قال والمعنى أيظن أن الله لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته . ثم ذكره نعمه عليه ليعتبر فقال تعالى : { ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين } يعني أن نعم الله على عبده متظاهرة ، يقروه بها كي يشكره ، وجاءه في الحديث « إن الله عزّ وجلّ يقول : ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه ، وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه ، وإن نازعك فرجك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه » { وهديناه النجدين } قال أكثر المفسرين طريق الخير والشر والحق ، والباطل ، والهدى ، والضلالة ، وقال ابن عباس : الثديين { فلا أقتحم العقبة } أي فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام المساكين يكون ذلك خيراً له من إنفاقه في عداوة من أرسله الله إليه ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل معناه لم يقتحمها ولا جاوزها والاقتحام الدّخول في الأمر الشّديد ، وذكر العقبة مثل ضربه الله تعالى : لمجاهدة النّفس ، والهوى ، والشّيطان في أعمال الخير ، والبر ، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة يقول الله عزّ وجلّ : لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرّقبة ، والإطعام ، وقيل إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بالعقبة ، فإذا أعتق رقبة وأطعم المساكين . كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها ، وروي عن ابن عمر أن هذه العقبة جبل في جهنم ، وقيل هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله ومجاهدة النفس ، وقيل هي الصّراط يضرب على متن جهنم كحد السّيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة سهلاً وصعوداً وهبوطاً ، وأن بجنبيه كلاليب وخطاطيف ، كأنها شوك السّعدان فناج مسلم ، وناج مخدوش ، ومكردس في الناس منكوس ، فمن الناس من يمر كالبرق الخاطف ، ومنهم من يمر كالريح العاصف ، ومنهم من يمر كالفارس ، ومنهم من يمر كالرّجل يعدو ، ومنهم من يمر كالرجل يسير ، ومنهم من يزحف زحفاً ومنهم الزّالون ومنهم من يكردس في النار ، وقيل معنى الآية : فهلا سلك طريق النجاة ثم بين ما هي .(6/266)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
{ وما أدراك ما العقبة } أي وما أدراك ما اقتحام العقبة { فك رقبة } يعني عتق الرقبة وهو إيجاب الحرية لها ، وإبطال الرق ، والعبودية عنها ، وذلك بأن يعتق الرجل الرّقبة التي في ملكه ، أو يعطي مكاتباً ما يصرفه في فكاك رقبته ومن أعتق رقبة كانت فداءه من النار ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه » وروى البغوي بسنده عن البراء بن عازب قال : « جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله علمني عملاً يدخلني الجنة قال لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسالة أعتق النّسمة ، وفك الرّقبة قال أوليسا واحداً قال لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظّالم ، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظّمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير » وقيل في معنى الآية وفك رقبة من رق الذّنوب بالتّوبة وبما يتكلفه من العبادات ، والطاعات التي يصير بها إلى رضوان الله ، والجنة فهي الحرية الكبرى ويتخلص بها من النار { أو إطعام في يوم ذي مسغبة } أي في يوم ذي مجاعة والسغب الجوع { يتيماً ذا مقربة } أي ذا قرابة يريد يتيماً بينك وبينه قرابة { أو مسكيناً ذا متربة } يعني قد لصق بالتراب من فقره وضره وقال ابن عباس : هو المطروح في التّراب لا يقيه شيء والمتربة الفقر ، ثم بين أن هذه القرب لا تنفع إلا مع الإيمان بقوله { ثم كان من الذين آمنوا } والمعنى أنه كان مؤمناً تنفعه هذه القرب ، وكان مقتحماً العقبة ، وإن لم يكن مؤمناً لا تنفعه هذه القرب ولا يقتحم العقبة { وتواصوا بالصبر } يعني وصى بعضهم بعضاً على الصبر على أداء الفرائض ، وجميع أوامر الله ونواهيه . { وتواصوا بالمرحمة } أي برحمة الناس وفيه الإشارة إلى تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله .(6/267)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
{ أولئك } يعني أهل هذه الخصال { أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة } يعني مطبقة عليهم أبوابها لا يدخل فيها روح ولا يخرج منها غم .
والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده .(6/268)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
قوله عزّ وجلّ : { والشّمس وضحاها } أي إذا بدا ضوءها والضّحى حين ترتفع الشّمس ، ويصفو ضوءها ، وقيل الضّحى النهار كله لأن الضحى هو نور الشمس ، وهو حاصل في النهار كله ، وقيل الضحى هو حر الشمس لأن حرها ونورها متلازمان ، فإذا اشتد نورها قوى حرها وهذا أضعف الأقوال . { والقمر إذا تلاها } أي تبعها وذلك في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور ، وقيل تلاها في الاستدارة وذلك حين يكمل ضوءه ، ويستدير وذلك في اللّيالي البيض ، وقيل تلاها تبعها في الطلوع ، وذلك في أول ليلة من الشّهر إذا غربت الشمس ظهر الهلال فكأنه تبعها . { والنهار إذا جلاها } يعني جلا ظلمة الليل بضيائه وكشفها بنوره ، وهو كناية عن غير مذكور لكونه معروفاً { والليل إذا يغشاها } أي يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق وحاصل هذه الأقسام الأربعة ترجع إلى الشمس في الحقيقة . لأن بوجودها يكون النهار ويشتد الضحى ، وبغروبها يكون الليل ويتبعها القمر .(6/269)
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
{ والسماء وما بناها } أي ومن بناها ، وقيل والذي بناها فعلى هذا كأنه أقسم به وبأعظم مخلوقاته ، ومعنى بناها خلقها ، وقيل ما بمعنى المصدر أي والسماء وبنائها { والأرض وما طحاها } أي بسطها وسطحها على الماء { ونفس وما سواها } أي عدل خلقها وسوى أعضاءها هذا إن أريد بالنّفس الجسد وإن أريد بها المعنى القائم بالجسد فيكون معنى سواها أعطاها القوى الكثيرة كالقوة الناطقة ، والسامعة والباصرة ، والمفكرة ، والمخيلة وغير ذلك من العلم ، والفهم ، وقيل إنما نكرها لأنه أراد بها النّفس الشّريفة المكلفة التي تفهم عنه خطابه ، وهي نفس جميع من خلق من الإنس والجن { فألهمها فجورها وتقواها } قال ابن عباس : بين لها الخير والشّر وعنه علمها الطّاعة والمعصية ، وعنه عرفها ما تأتي وما تتقي ، وقيل ألزمها فجورها ، وتقواها ، وقيل وجعل فيها ذلك بتوفيقه إيّاها للتّقوى ، وخذلانه إياها للفجور ، وذلك لأن الله تعالى خلق في المؤمن التّقوى ، وفي الكافر الفجور ( م ) عن أبي الأسود الديلي قال : قال لي عمران بن حصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ، ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وثبتت الحجة عليهم ، فقلت بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم ، فقال أفلا يكون ظلماً قال ففزعت من ذلك فزعاً شديداً ، وقلت كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون فقال لي يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأختبر عقلك « إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ، ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ، ومضى عليهم ، من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وثبتت الحجة عليهم فقال لا بل شيء قضى عليهم ، ومضى فيهم ، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل ، ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها » ( م ) عن جابر قال : « جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير أو فيما يستقبل قال : لا بل فيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير قال : ففيم العمل؟ فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له » وهذه أقسام أقسم الله تعالى بالشمس وضحاها وما بعدها لشرفها ومصالح العالم بها ، وقيل فيه إضمار تقديره ورب الشمس وما بعدها .
وأورد على هذا القول أنه قد دخل في جملة هذا القسم قوله ، { والسّماء وما بناها } وذلك هو الله تعالى ، فيكون التقدير رب السماء ، ورب من بناها ، وهذا خطأ لا يجوز وأجيب عنه بأن ما إن فسرت بالمصدرية فلا إشكال وإن فسرت بمعنى من فيكون التقدير ورب السّماء الذي بناها .(6/270)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
{ قد أفلح من زكاها } المعنى لقد أفلح من زكاها أي فازت وسعدت نفس زكاها الله أي أصلحها وطهرها من الذّنوب ، ووفقها للطاعة . { وقد خاب من دساها } أي خابت وخسرت نفس أضلها الله تعالى ، وأفسدها ، وأصله من دس الشّيء إذا أخفاه فكأنه سبحانه وتعالى أقسم بأشرف مخلوقاته على فلاح من طهره ، وزكاه ، وخسارة من خذله ، وأضله حتى لا يظن أحد أنه يتولى تطهير نفسه ، أو إهلاكها بالمعصية من غير قدر متقدم وقضاء سابق ( م ) عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « اللّهم إني أعوذ بك من العجز ، والكسل ، والبخل ، والهرم وعذاب القبر ، اللّهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ، ومولاها ، اللّهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها » .
قوله عز وجل { كذبت ثمود } وهم قوم صالح عليه الصّلاة والسّلام { بطغواها } أي بطغيانها وعدوانها ، والمعنى أن الطغيان حملهم على التكذيب حتى كذبوا { إذا انبعث أشقاها } أي قام وأسرع وذلك أنهم لما كذبوا بالعذاب ، وكذبوا صالحاً انبعث أشقى القوم وهو قدار بن سالف ، وكان رجلاً أشقر أزرق العين قصيراً فعقر الناقة ( ق ) عن عبد الله بن زمعة « أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة ، والذي عقرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في أهله مثل أبي زمعة » لفظ البخاري قوله عارم أي شديد ممتنع .
قوله تعالى : { فقال لهم رسول الله } يعني صالحاً عليه الصّلاة والسّلام { ناقة الله } أي ذروا ناقة الله وإنما قال لهم ذلك لما عرف منهم أنهم قد عزموا على عقرها وإنما أضافها إلى الله تعالى لشرفها كبيت الله . { وسقياها } أي وشربها ولا تتعرضوا للماء يوم شربها { فكذبوه } يعني صالحاً { فعقروها } يعني الناقة { فدمدم عليهم ربهم } أي فدمر عليهم ربهم وأهلكهم والدمدمة هلاك استئصال ، وقيل دمدم أي أطبق عليهم العذاب طبقاً حتى لم ينفلت منهم أحد { بذنبهم } أي فعلنا ذلك بهم بسبب ذنبهم ، وهو تكذيبهم صالحاً عليه الصّلاة والسّلام وعقرهم الناقة { فسواها } أي فسوى الدّمدمة عليهم جميعاً وعمهم بها ، وقيل معناه فسوى بين الأمة وأنزل بصغيرهم ، وكبيرهم ، وغنيهم وفقيرهم العذاب ، { ولا يخاف عقباها } أي لا يخاف الله تبعة من أحد في هلاكهم كذا قال ابن عباس : وقيل هو راجع إلى العاقر والمعنى لا يخاف العاقر عقبى ما قدم عليه من عقر الناقة ، وقيل هو راجع إلى صالح عليه الصّلاة والسّلام والمعنى لا يخاف صالح عاقبة ما أنزل الله بهم من العذاب أن يؤذيه أحد بسبب ذلك والله أعلم .(6/271)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)
قوله عز وجل : { واللّيل إذا يغشى } أي يغشى النّهار بظلمته فيذهب الله بضوئه . أقسم الله تعالى بالليل لأنه سكن لكافة الخلق يأوى فيه كل حيوان إلى مأواه ، ويسكن عن الاضطراب ، والحركة ، ثم أقسم بالنهار بقوله { والنهار إذا تجلى } أي بان وظهر بعد الظلمة لأن فيه حركة الخلق في طلب الرزق { وما خلق الذكر والأنثى } أي ومن خلق فعلى هذا يكون أقسم بنفسه تعالى ، والمعنى والقادر العظيم الذي قدر على خلق الذكر ، والأنثى من ماء واحد إن أريد به جنس الذكر والأنثى ، وقيل هما آدم وحواء ، وإنما أقسم بهما لأنه تعالى ابتدأ خلق آدم من طين وخلق منه حواء من غير أم وجواب القسم قوله تعالى : { إن سعيكم لشتى } أي إن أعمالكم لمختلفة فساع في فكاك نفسه ، وساع في عطبها روى أبو مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها » قوله موبقها أي مهلكها .
قوله تعالى : { فأما من أعطى } أي أنفق ماله في سبيل الله عز وجل : { واتقى } أي ربه ، وفيه إشارة إلى الاحتراز عن كل ما لا ينبغي .(6/272)
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
{ وصدق بالحسنى } قال ابن عباس صدق بقول لا إله إلا الله وعنه صدق بالخلف به ، أي أيقن أن الله سيخلف عليه ما أنفقه في طاعته ، وقيل صدق بالجنة ، وقيل صدق بموعد الله عز وجل الذي وعده أنه يثيبه { فسنيسره } فسنهيئه في الدنيا { لليسرى } أي للخلة والفعلة اليسرى ، وهو العمل بما يرضاه الله .
قوله عز وجل : { وأما من بخل } أي بالنّفقة في الخير والطاعة { واستغنى } أي عن ثواب الله تعالى فلم يرغب فيه { وكذب بالحسنى } أي بلا إله إلا الله أو كذب بما وعده الله عز وجل من الجنة والثواب { فسنيسره للعسرى } أي فسنيهئه للشّر بأن نجريه على يديه حتى يعمل بما لا يرضى الله تعالى فيستوجب بذلك النار ، وقيل نعسر عليه أن يأتي خيراً وفي الآية دليل لأهل السّنة وصحة قولهم في القدر وأن التّوفيق والخذلان والسّعادة والشّقاوة بيد الله تعالى ، ووجوب العمل بما سبق له في الأزل ( ق ) عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال : « كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس ، وجعل ينكت بمخصرته ثم قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة » زاد مسلم « وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السّعادة فيصير لعمل أهل السّعادة وأما من كان من أهل الشّقاوة ، فيصير لعمل أهل الشّقاوة ثم قرأ { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } » المخصرة بكسر الميم كالسّوط والعصا ، ونحو ذلك مما يمسكه الإنسان بيده ، والنكت بالتاء المثناة فوق ضرب الأرض بذلك أو غيرها مما يؤثر فيه الضرب ، وهذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق ، وذلك أنه اشترى بلالاً من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه ، فأنزل الله تعالى { والليل إذا يغشى } إلى قوله { إن سعيكم لشتى } يعني سعي أبي بكر وأمية بن خلف ، وقيل كان لرجل من الأنصار نخلة وفرعها في دار رجل فقير وله عيال ، فكان صاحب النخلة إذا طلع نخلته ليأخذ منها التمر فربما سقطت التمرة ، فيأخذها صبيان ذلك الفقير ، فينزل الرجل عن نخلته حتى يأخذ التمرة من أيديهم وإن وجدها في فم أحدهم أدخل أصبعه في فيه حتى يخرجها فشكا ذلك الرّجل الفقير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقي النّبي صلى الله عليه وسلم صاحب النّخلة فقال له : « تعطيني نخلتك التي فرعها في دار فلان ، ولك بها نخلة في الجنة »(6/273)
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
قوله عز وجل : { وما يغني عنه ماله } أي الذي بخل به { إذا تردى } أي إذا مات ، وقيل هوى في جهنم { إن علينا للهدى } أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضّلالة وذلك أنه لما عرفهم ما للمحسن من اليسرى ، وما للمسيء من العسرى أخبرهم أن بيده الإرشاد والهداية وعليه تبيين طريقها ، وقيل معناه إن علينا للهدى والإضّلال فاكتفى بذكر أحدهما ، والمعنى أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأصرف أعدائي عن العمل بطاعتي ، وقيل معناه من سلك سبيل الهدى فعلى الله سبيله . { وإن لنا للآخرة والأولى } أي لنا ما في الدّنيا والآخرة فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق { فأنذرتكم } أي يا أهل مكة { ناراً تلظى } أي تتوقد وتتوهج { لا يصلاها إلا الأشقى } يعني الشّقي { الذي كذب } يعني الرّسل { وتولى } أي عن الإيمان { وسيجنبها الأتقى } يعني التّقي { الذي يؤتي } أي يعطي { ماله يتزكى } أي يطلب عند الله أن يكون زاكياً لا يطلب بما ينفقه رياء ولا سمعة وهو أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين قال ابن الزبير : كان يبتاع الضعفاء فيعتقهم ، فقال له أبوه أي بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك ، قال منع ظهري أريد فأنزل الله { وسيجنبها الأتقى } إلى آخر السّورة ، وذكر محمد ابن إسحاق قال : كان بلال لبعض بني جمح وهو بلال بن رباح ، واسم أمه حمامة ، وكان صادق الإسلام طاهر القلب ، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الشّمس فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة ثم يأمر بالصّخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد فيقول وهو في ذلك أحد أحد قال محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال : مر به أبو بكر يوماً وهم يصنعون به ذلك ، وكانت دار أبي بكر في بني جمح فقال لأمية : ألا تتقي الله في هذا المسكين قال : أنت أفسدته فأنقذه مما ترى فقال أبو بكر أفعل عندي غلام أسود أجلد منه ، وأقوى ، وهو على دينك أعطيكه قال قد فعلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالاً فأعتقه ، وكان قد أعتق ست رقاب على الإسلام قبل أن يهاجر بلال سابعهم ، وهم عامر بن فهيرة شهد بدراً وأحداً ، وقتل يوم بئر معونة شهيداً ، وأم عميس وزهرة فأصيب بصرها حين أعتقها أبو بكر فقالت قريش : ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى فقالت : كذبوا ورب البيت ما تضر اللاّت ، والعزى ، ولا تنفعان فرد الله تعالى : عليها بصرها وأعتق النّهدية وابنتها ، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار ، فرآهما أبو بكر وقد بعثتهما سيدتهما يحتطبان لها وهي تقول والله لا أعتقهما أبداً فقال أبو بكر كلا يا أم فلان فقالت كلا أنت أفسدتهما فأعتقهما ، قال فبكم قالت بكذا وكذا قال أخذتهما وهما حرتا ومر بجارية من بني المؤمل وهي تعذب فابتاعها وأعتقها فقال عمار بن ياسر : يذكر بلالاً وأصحابه وما كانوا فيه من البلاء وإعتاق أبي بكر إيّاهم وكان اسم أبي بكر عتيقاً فقال في ذلك :(6/274)
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
{ وما لأحد عنده } أي عند أبي بكر { من نعمة تجزى } أي من يد يكافئه عليها { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } أي لم يفعل ذلك مجازاة لأحد ولا ليد كانت له عنده لكن فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى وطلب مرضاته { ولسوف يرضى } أي بما يعطيه الله عز وجل في الآخرة من الجنة والخير والكرامة جزاء على ما فعل ، والله أعلم .(6/275)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
قوله عز وجل : { والضّحى } اختلفوا في سبب نزول هذه السّورة على ثلاثة أقوال : القول الأول ( ق ) « عن جندب بن سفيان البجلي قال : اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأة فقالت : يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك ليلتين أو ثلاثاً فأنزل الله عز وجل : { والضّحى واللّيل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى } » وأخرجه الترمذي عن جندب قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار فدميت أصبعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
قال : فأبطأ عليه جبريل فقال المشركون قد ودع محمداً ربه .(6/276)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
{ ما ودعك ربك وما قلى } وقيل إن المرأة المذكورة في الحديث المتفق عليه هي أم جميل امرأة أبي لهب .
القول الثاني : قال المفسرون : سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرّوح ، وعن ذي القرنين ، وأصحاب الكهف ، فقال سأخبركم غداً ، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عليه .
القول الثالث : قال زيد بن أسلم : كان سبب احتباس الوحي ، وجبريل عنه أن جروا كان في بيته ، فلما نزل عليه عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبطائه فقال إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة .
واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه ، فقيل اثنا عشر يوماً وقال ابن عباس : خمسة عشر يوماً ، وقيل أربعون يوماً فلما نزل جبريل عليه الصلاة والسلام قال النبي صلى الله عليه وسلم « يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك » فقال جبريل : إني كنت إليك أشد شوقاً ، ولكني عبد مأمور . ونزل { وما نتنزل إلا بأمر ربك } وأنزل الله هذه السّورة قوله عز وجل : { والضحى } قيل أراد به النهار كله بدليل أنه قابله باللّيل كله في قوله ، { واللّيل إذا سجى } وقيل وقت الضحى وهي السّاعة التي فيها ارتفاع الشّمس واعتدال النهار في الحر والبرد في الصيف والشتاء . { والليل إذا سجى } قال ابن عباس أقبل بظلامه وعنه إذا ذهب وقيل معناه غطى كل شيء بظلامه ، وقيل معناه سكن فاستقر ظلامه فلا يزاد بعد ذلك ، وهذا قسم أقسم الله تعالى بالضحى والليل إذا سجى وجواب القسم قوله تعالى : { ما ودعك ربك وما قلى } أي ما تركك ربك منذ اختارك ولا أبغضك منذ أحبك ، وإنما قال قلى ولم يقل قلاك لموافقة رؤوس الآي ، وقيل معناه وما قلى أحداً من أصحابك ومن هو على دينك إلى يوم القيامة . { وللآخرة خير لك من الأولى } أي الذي أعطاك ربك في الآخرة خير لك وأعظم من الذي أعطاك في الدّنيا ، وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدّنيا » { ولسوف يعطيك ربك فترضى } قال ابن عباس هي الشفاعة في أمته حتى يرضى ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص « أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وقال : اللّهم أمتي أمتي وبكى فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد ، واسأله ما يبكيك ، وهو أعلم فأتى جبريل ، وسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم ، فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد وقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك » ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(6/277)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
{ ألم يجدك يتيماً } أي صغيراً { فآوى } أي ألم يعلمك الله يتيماً من الوجود الذي هو بمعنى العلم ، والمعنى ألم يجدك يتيماً صغيراً حين مات أبوك ، ولم يخلف لك مالاً ، ولا مأوى فجعل لك مأوى تأوي إليه وضمك إلى عمك أبي طالب حتى أحسن تربيتك وكفاك المؤنة .
وذلك أن عبد الله مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل فكفله جده عبد المطلب ، فلما مات عبد المطلب ، كفله عمه أبو طالب إلى أن قوي ، واشتد وتزوج خديجة ، وقيل هو من قولهم درة يتيمة ، والمعنى ألم يجدك واحداً في قريش عديم النّظير فآواك إليه وأيدك وشرفك بنبوته واصطفاك برسالته . { ووجدك ضالا } أي عما أنت عليه اليوم { فهدى } أي فهداك إلى توحيده ونبوته ، وقيل وجدك ضالاً عن معالم النّبوة وأحكام الشّريعة ، فهداك إليها وقال ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضل في شعاب مكة وهو صبي صغير ، فرآه أبو جهل منصرفاً من أغنامه ، فرده إلى جده عبد المطلب ، وقال سعيد بن المسيب : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة مظلمة إذ جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته ، فعدل به عن الطريق فجاء جبريل عليه السّلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة ، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القافلة فمنّ الله عليه بذلك ، وقيل وجدك ضالاً نفسك لا تدري من أنت فعرفك نفسك وحالك ، وقيل ووجدك بين أهل الضّلال فعصمك من ذلك وهداك إلى الإيمان وإلى إرشادهم ، وقيل الضلال هنا بمعنى الحيرة وذلك لأنه كان صلى الله عليه وسلم يخلو في غار حراء في طلب ما يتوجه به إلى ربه حتى هداه الله لدينه ، وقال الجنيد : ووجدك متحيراً في بيان ما أنزل الله إليك ، فهداك لبيانه فهذا ما قيل في هذه الآية ولا يلتفت إلى قول من قال إنه صلى الله عليه وسلم كان قبل النّبوة على ملة قومه ، فهداه الله إلى الإسلام لأن نبينا صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الأنبياء قبله منذ ولدوا نشؤوا على التّوحيد ، والإيمان قبل النّبوة وبعدها ، وأنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بصفات الله تعالى وتوحيده ويدل على ذلك أن قريشاً لما عابوا النبي صلى الله عليه وسلم ورموه بكل عيب سوى الشّرك وأمر الجاهلية فإنهم لم يجدوا لهم عليه سبيلاً إذ لو كان فيه لما سكتوا عنه ولنقل ذلك فبرأه الله تعالى من جميع ما قالوه فيه وعيروه به . ويؤكد هذا ما روي في قصة بحير الرّاهب حين استحلف النبي صلى الله عليه وسلم باللاّت والعزى ، وذلك حين سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام فرأى بحيرا علامة النّبوة فيه وهو صبي فاختبره بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(6/278)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
{ فأما اليتيم فلا تقهر } أي لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيماً ، وقيل لا تقهره على ماله فتذهب به لضعفه ، وكذا كانت العرب في الجاهلية تفعل في أمر اليتامى يأخذون أموالهم ، ويظلمونهم حقوقهم روى البغوي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ثم قال : أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ويشير بأصبعيه » ( خ ) عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة ، والوسطى ، وفرج بينهما » { وأما السائل فلا تنهر } يعني السائل على الباب يقول لا تزجره إذا سألك فقد كنت فقيراً فإما أن تطعمه وإما أن ترده رداً ليناً برفق ولا تكهر بوجهك في وجهه وقال إبراهيم بن أدهم : نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة وقال إبراهيم النّخعي السّائل : يريدنا إلى الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول هل توجهون إلى أهليكم بشيء وقيل السائل هو طالب العلم فيجب إكرامه وإسعافه بمطلوبه ولا يعبس في وجهه ولا ينهر ولا يلقى بمكروه { وأما بنعمة ربك فحدث } قيل أراد بالنّعمة النّبوة أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي أتاك الله ، وقيل النعمة هي القرآن أمره أن يقرأه ويقرئه غيره ، وقيل أشكره لما ذكره نعمه عليه في هذه السّورة من جبر اليتيم والهدى بعد الضّلالة والإغناء بعد العيلة والفقر أمره أن يشكره على إنعامه عليه ، والتحدث بنعمة الله تعالى شكرها .
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من أعطي عطاء فليجزه إن وجد فإن لم يجد فليثن عليه فإن من أثنى عليه فقد شكره ، ومن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور » أخرجه التّرمذي وله عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من لا يشكر الناس لا يشكر الله » وله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الطّاعم الشّاكر بمنزلة الصّائم الصّابر » وروى البغوي بإسناد الثّعلبي عن النّعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول « من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب » والسنة في قراءة أهل مكة أن يكبر من أول سورة الضّحى على رأس كل سورة حتى يختم القرآن فيقول الله أكبر وسبب ذلك أن الوحي لما احتبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المشركون : هجره شيطانه ، وودعه ، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فلما نزلت والضّحى كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً بنزول الوحي ، فاتخذوه سنة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/279)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
قوله عز وجل : { ألم نشرح لك صدرك } استفهام بمعنى التّقرير ، أي قد فعلنا ذلك ومعنى الشرح الفتح بما يصده عن الإدراك والله تعالى فتح صدر نبيه صلى الله عليه وسلم للهدى ، والمعرفة بإذهاب الشّواغل التي تصده عن إدراك الحق ، وقيل معناه ألم نفتح قلبك ونوسعه ونلينه بالإيمان ، والموعظة ، والعلم ، والنبوة ، والحكمة ، وقيل هو شرح صدره في صغره ( م ) عن أنس رضي الله عنه « رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السّلام وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه ، فاستخرجه فاستخرج منه علقة فقال : هذا حظ الشّيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه ثم أعاده إلى مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا : إن محمداً قد قتل فاستقبلوه ، وهو ممتقع اللون . قال أنس : وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره » { ووضعنا عنك وزرك } أي حططنا عنك وزرك الذي سلف منك في الجاهلية فهو كقوله { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وقيل الخطأ والسّهو وقيل ذنوب أمتك فأضافها إليه لاشتغال قلبه بها ، وقيل المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى يبلغها لأن الوزر في اللغة الثقل تشبيهاً بوزر الجبل ، وقيل معناه عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك لو كان ذلك الوزر حاصلاً فسمى العصمة وضعاً مجازاً .
واعلم أن القول في عصمة الأنبياء قد تقدم مستوفى في سورة طه عند قوله تعالى : { وعصى آدم ربه فغوى } وعند قوله { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر }(6/280)
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
{ الذي أنقض ظهرك } أي أثقله وأوهنه حتى سمع له نقيض وهو الصوت الخفي الذي يسمع من المحمل ، أو الرحل فوق البعير ، فمن حمل الوزر على ما قبل النّبوة قال هو اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمور كان فعلها قبل نبوته إذ لم يرد عليه شرع بتحريمها ، فلما حرمت عليه بعد النبوة عدها أوزاراً وثقلت عليه وأشفق منها فوضعها الله عنه وغفرها له ومن حمل ذلك على ما بعد النبوة قال : هو ترك الأفضل لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وقوله عز وجل : { ورفعنا لك ذكرك } روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم « أنه سأل جبريل عن هذه الآية ، ورفعنا لك ذكرك قال : قال الله عز وجل : إذا ذكرت ذكرت معي » قال ابن عباس : يريد الأذان ، والإقامة ، والتّشهد ، والخطبة على المنابر ، فلو أن عبداً عبد الله وصدقه في كل شيء ، ولم يشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ينتفع من ذلك بشيء وكان كافراً ، وقال قتادة : رفع الله ذكره في الدّنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله وقال الضحاك : لا تقبل صلاة إلا به ولا تجوز خطبة إلا به ، وقال مجاهد يريد التأذين وفيه يقول حسان بن ثابت :
أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي مع اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وقيل رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النّبيين ، وإلزّامهم الإيمان به ، والإقرار بفضله ، وقيل رفع ذكره بأن قرن اسمه باسمه في قوله « محمد رسول الله » وفرض طاعته على الأمة بقوله : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } ومن يطع الله ورسوله فقد فاز ، ونحو ذلك مما جاء في القرآن وغيره من كتب الأنبياء ثم وعده باليسر ، والرخاء بعد الشّدة والعناء ، وذلك أنه كان في شدة بمكة فقال تعالى { فإن مع اليسر يسرا } أي مع الشدة التي أنت فيها من جهاد المشركين يسراً ورخاء بأن يظهرك عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به { إن مع العسر يسراً } وإنما كرره لتأكيد الوعد وتعظيم الرّجاء قال الحسن : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أبشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عسر يسرين » وقال ابن مسعود : لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخله عليه ويخرجه إنه لن يغلب عسر يسرين قال المفسرون في معنى قوله لن يغلب عسر يسرين إن الله تعالى كرر لفظ العسر ، وذكره بلفظ المعرفة ، وكرر اليسر بلفظ النكرة ، ومن عادة العرب .(6/281)
إذا ذكرت اسماً معرفاً ثم أعادته كان الثاني هو الأول وإذا ذكرت اسماً نكرة ثم أعادته كان الثاني غير الأول كقولك كسبت درهماً فأنفقت درهماً . فالثاني غير الأول وإذا قلت كسبت درهماً ، فأنفقت الدرهم فالثاني هو الأول ، فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف فكان عسراً واحداً ، واليسر مكرر بلفظ التنكير فكانا يسرين ، فكأنه قال فإن مع العسر يسراً إن مع ذلك العسر يسراً آخر وزيف أبو على الحسن بن يحيى الجرجاني صاحب النظم هذا القول ، وقال قد تكلم الناس في قوله لن يغلب عسر يسرين فلم يحصل منه غير قولهم إن العسر معرفة ، واليسر نكرة ، فوجب أن يكون عسر واحد ويسران وهو قول مدخول فيه إذا قال الرجل إن مع الفارس سيفاً إن مع الفارس سيفاً فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحداً والسيف اثنين فمجاز قوله لن يغلب عسر يسرين أن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم وهو مقل مخف ، فكانت قريش تعيره بذلك حتى قالوا : إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالاً حتى تكون كأيسر أهل مكة فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ، وظن أن قومه إنما كذبوه لفقره فعدد الله نعمه عليه في هذه السّورة ، ووعده الغنى ليسليه بذلك عما خامره من الغم . فقال تعالى : { فإن مع العسر يسرا } أي لا يحرنك الذي يقولون فإن مع العسر الذي في الدّنيا يسراً عاجلاً ، ثم انجز ما وعده وفتح عليه القرى القريبة ، ووسع ذات يده حتى كان يعطي المئين من الإبل ، ويهب الهبة السّنية ثم ابتدأ فضلاً آخر من أمور الآخرة فقال تعالى : { إن مع العسر يسراً } والدّليل على ابتدائه تعريه من الفاء والواو ، وهذا وعد لجميع المؤمنين ، والمعنى أن مع العسر الذي في الدّنيا للمؤمن يسراً في الآخرة وربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا وهو ما ذكره في الآية الأولى ويسر الآخرة وهو ما ذكره في الآية الثانية فقوله لن يغلب عسر يسرين أي إن عسر الدنيا لن يغلب اليسر الذي وعده الله للمؤمنين في الدنيا واليسر الذي وعدهم في الآخرة إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا فأما يسر الآخرة ، فدائم أبداً غير زائل ، أي لا يجتمعان في الغلبة فهو كقوله صلى الله عليه وسلم « شهرا عيد لا ينقصان » أي لا يجتمعان في النقص قال القشيري : كنت يوماً في البادية بحالة من الغم فألقي في روعي بيت شعر فقالت :
أرى الموت لمن أصب ... ح مغموماً له أروح
فلما جن الليل سمعت هاتفاً يهتف في الهواء :
ألا يا أيها المرء ال ... ذي الهم به برح
وقد أنشد بيتاً لم ... يزل في فكره يسنح
إذا اشتد بك العسر فف ... كر في ألم نشرح
فعسر بين يسرين ... إذا أبصرته فافرح(6/282)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
قوله عز وجل : { فإذا فرغت فانصب } لما عدد الله على نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه السالفة حثه على الشكر ، والاجتهاد في العبادة ، والنصب فيها وأن لا يخلي وقتاً من أوقاته منها ، فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى ، والنصب التعب قال ابن عباس : إذا فرغت من الصّلاة المكتوبة ، فانصب إلى ربك في الدعاء ، وارغب إليه في المسألة وقال ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض ، فانصب في قيام اللّيل ، وقيل إذا فرغت من التّشهد فادع لدنياك وآخرتك ، وقيل إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب في عبادة ربك ، وقيل إذا فرغت من تبليغ الرّسالة فانصب في الاستغفار لك وللمؤمنين . قال عمر بن الخطاب إني لأكره أن أرى أحدكم فارغاً سبهللاً لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته . السبهلل الذي لا شيء معه ، وقيل السبهلل الباطل { وإلى ربك فارغب } أي تضرع إليه راغباً في الجنة راهباً من النار ، وقيل اجعل رغبتك إلى الله تعالى في جميع أحوالك لا إلى أحد سواه والله أعلم .(6/283)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
قوله عز وجل : { والتين والزيتون } قال ابن عباس : هو تينكم الذي تأكلون وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت ، قيل إنما خص التين بالقسم لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التّنغيص ، وفيه غذاء ويشبه فواكه الجنة لكونه بلا عجم .
ومن خواصه أنه طعام لطيف سريع الهضم لا يمكث في المعدة يخرج بطريق الرشح ويلين الطبيعة ، ويقلل البلغم وأما الزيتون فإنه من شجرة مباركة فيه إدام ودهن يؤكل ويستصبح به وشجرته في أغلب البلاد ولا يحتاج إلى خدمة وتربية وينبت في الجبال التي ليست فيها دهنية ويمكث في الأرض ألوفاً من السنين ، فلما كان فيهما من المنافع ، والمصالح الدّالة على قدرة خالقهما لا جرم أقسم الله بهما ، وقيل هما جبلان فالتين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس ، واسمهما بالسريانية طور تيناً وطور زيتاً لأنهما ينبتان التين والزيتون ، وقيل هما مسجدان فالتين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس ، وإنما حسن القسم بهما لأنهما موضع الطاعة ، وقيل التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيلياء ، وقيل التين مسجد نوح الذي بناه على الجودى والزيتون مسجد بيت المقدس { وطور سينين } يعني الجبل الذي كلم الله موسى عليه الصّلاة والسّلام وسينين اسم للمكان الذي فيه الجبل سمي سينين وسيناء لحسنه ولكونه مباركاً وكل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سينين وسيناء { وهذا البلد الأمين } يعني الآمن ، وهو مكة حرسها الله تعالى لأنه الحرم الذي يأمن فيه الناس في الجاهلية والإسلام لا ينفر صيده ولا يعضد شجره ، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد وهذه أقسام أقسم الله بها لما فيها من المنافع والبركة وجواب القسم قوله تعالى { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } يعني في أعدل قامة ، وأحسن صورة ، وذلك أنه تعالى خلق كل حيوان منكباً على وجهه يأكل بفيه إلا الإنسان فإنه خلقه مديد القامة حسن الصورة يتناول مأكوله بيده مزيناً بالعلم ، والفهم ، والعقل ، والتّمييز ، والمنطق . { ثم رددناه أسفل سافلين } يعني إلى الهرم وأرذل العمر فيضعف بدنه وينقص عقله والسّافلون هم الضّعفاء ، والزمنى والأطفال والشّيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعاً لأنه لا يستطيع حيلة ، ولا يهتدي سبيلاً لضعف بدنه وسمعه وبصره وعقله ، وقيل ثم ردناه إلى النّار لأنها دركات بعضها أسفل من بعض ثم استثنى .(6/284)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
{ إلا الذين آمنوا وعملوا الصّالحات } فإنهم لا يردون إلى النار أو إلى أسفل سافلين وعلى القول الأول يكون الاستثناء منقطعاً ، والمعنى ثم رددناه أسفل سافلين فزال عقله وانقطع عمله فلا تكتب له حسنة لكن الذين آمنوا وعملوا الصّالحات ولازموا عليها إلى أيام الشيخوخة والهرم والضّعف ، فإنه يكتب لهم بعد الهرم والخرف مثل الذي كانوا يعملون في حالة الشّباب والصّحة وقال ابن عباس : هم نفر ردوا إلى أرذل العمر على زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عذرهم وأخبرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم فعلى هذا القول السبب خاص وحكمه عام قال عكرمة ما يضر هذا الشيخ كبره إذا ختم الله له بأحسن ما كان يعمل وروي عن ابن عباس : قال إلا الذين قرؤوا القرآن وقال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر { فلهم أجر غير ممنون } يعني غير مقطوع لأنه يكتب له بصالح ما كان يعمل قال الضّحاك : أجر بغير عمل ثم قال الزاماً للحجة . { فما يكذبك } يعني يا أيها الإنسان وهو خطاب على طريق الالتفات { بعد } أي بعد هذه الحجة والبرهان { بالدين } أي بالحساب والجزاء ، والمعنى فما الذي يلجئك أيها الناس إلى هذا الكذب ألا تتفكر في صورتك وشبابك ، ومبدأ خلقك ، وهرمك ، فتعتبر وتقول أن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني ، فما الذي يكذبك بالمجازاة ، وقيل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى فمن يكذبك أيها الرّسول بعد ظهور هذه الدّلائل ، والبراهين { أليس الله بأحكم الحاكمين } أي بأقضى القاضين يحكم بينكم وبين أهل التكذيب يوم القيامة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من قرأ والتين والزيتون ، فقرأ أليس الله بأحكم الحاكمين ، فليقل بلى وأنا على ذلك من الشّاهدين » أخرجه الترمذي وعن البراء « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فصلى العشاء الأخيرة فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءة منه صلى الله عليه وسلم » والله تعالى أعلم .(6/285)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
قوله عزّ وجلّ : { اقرأ باسم ربك } قيل الباء زائدة مجازه اقرأ اسم ربك ، والمعنى اذكر اسم ربك أمر أن يبتدىء القراءة باسم الله تأديباً ، وقيل الباء على أصلها والمعنى اقرأ القرآن مفتتحاً باسم ربك أي قل بسم الله ، ثم اقرأ فعلى هذا يكون في الآية دليل على استحباب البداءة بالتسمية في أول القراءة ، وقيل معناه اقرأ القرآن مستعيناً باسم ربك على ما تتحمله من النبوة وأعباء الرّسالة { الذي خلق } يعني جميع الخلائق وقيل الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه وقيل الذي خلق كل شيء .(6/286)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)
{ خلق الإنسان } يعني آدم وإنما خص الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات لأنه أشرفها ، وأحسنها خلقه { من علق } جمع علقة ولما كان الإنسان اسم جنس في معنى الجمع جمع العلق ولمشاكله رؤوس الآي أيضاً { اقرأ } كرره تأكيداً وقيل الأول اقرأ في نفسك ، والثاني اقرأ للتبليغ وتعليم أمتك ثم استأنف . فقال تعالى : { وربك الأكرم } يعني الذي لا يوازيه كريم ولا يعادله في الكرم نظير وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم كما جاء الأعز بمعنى العزيز ، وغاية الكريم إعطاؤه الشيء من غير طلب العوض ، فمن طلب العوض فليس بكريم ، وليس المراد أن يكون العوض عيناً بل المدح والثّواب عوض والله سبحانه وجلَّ جلاله وتعالى علاؤه وشأنه يتعالى عن طلب العوض ويستحيل ذلك في وصفه لأنه أكرم الأكرمين ، وقيل الأكرم هو الذي له الابتداء في كل كرم وإحسان وقيل هو الحليم عن جهل العباد فلا يعجل عليهم بالعقوبة ، وقيل يحتمل أن يكون هذا حثاً على القراءة ، والمعنى اقرأ وربك الأكرم لأنه يجزي بكل حرف عشر حسنات { الذي علم بالقلم } أي الخط والكتابة التي بها تعرف الأمور الغائبة وفيه تنبيه على فضل الكتابة لما فيها من المنافع العظيمة لأن بالكتابة ضبطت العلوم ، ودونت الحكم وبها عرفت أخبار الماضين ، وأحوالهم وسيرهم ومقالاتهم ولولا الكتابة ما استقام أمر الدين والدنيا قال قتادة : القلم نعمة من الله عظيمة . لولا القلم لم يقم دين ولم يصلح عيش ، فسأل بعضهم عن الكلام ، فقال ربح لا يبقى قيل له فما قيده قال الكتابة لأن القلم ينوب عن اللّسان ولا ينوب اللّسان عنه { علم الإنسان ما لم يعلم } قيل يحتمل أن يكون المراد علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ، فيكون المراد من ذلك معنى واحداً ، وقيل علمه من أنواع العلم ، والهداية ، والبيان ، ما لم يكن يعلم ، وقيل علم آدم الأسماء كلها ، وقيل المراد بالإنسان هنا محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله عزّ وجلّ : { كلا } أي حقاً { إن الإنسان ليطغى } أي يتجاوز الحد ، ويستكبر على ربه { أن } أي لأن { رآه استغنى } أي رأى نفسه غنياً وقيل يرتفع عن منزلته إلى منزلة أخرى في اللّباس والطعام وغير ذلك ، نزلت في أبي جهل وكان قد أصاب مالاً فزاد في ثيابه ومركبه وطعامه فذلك طغيانه { إن إلى ربك الرجعى } أي المرجع في الآخرة وفيه تهديد ، وتحذير لهذا الإنسان من عاقبة الطغيان ، ثم هو عام لكل طاغ متكبر .(6/287)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
{ أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } نزلت في أبي جهل وذلك أنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة ( م ) عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ، فقيل نعم فقال واللاّت والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ، ولأعفرن وجهه في التراب قال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته قال فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه ، فقيل له ما لك قال إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم « لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً » فأنزل الله هذه الآية ، لا أدري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه كلا إن الإنسان ليطغى إلى قوله كلا لا تطعه قال : وأمره بما أمره به زاد في رواية ، فليدع ناديه يعني قومه ( خ ) عن ابن عباس قال قال أبو جهل لئن رأيت محمداً يصلي عند البيت لأطأن على عنقه . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « لو فعله لأخذته الملائكة » زاد التّرمذي عياناً ومعنى أرأيت تعجباً للمخاطب وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وفائدة التنكير في قوله عبداً تدل على أنه كامل العبودية ، والمعنى أرأيت الذي ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية ، وهذا دأبه وعادته ، وقيل إن هذا الوعيد يلزم لكل من ينهى عن الصلاة عن طاعة الله تعالى ، ولا يلزم منه عدم جواز المنع من الصّلاة في الدّار المغصوبة ، وفي الأوقات المكروهة لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصّحيحة ، ولا يلزم من ذلك أيضاً عدم جواز منع المولى عبده ، والرجل زوجته عن قيام الليل ، وصوم التّطوع والاعتكاف لأن ذلك استيفاء مصلحة إلا أن يأذن فيه المولى أو الزوج { أرأيت إن كان على الهدى } يعني العبد المنهي وهو النبي صلى الله عليه وسلم { أو أمر بالتقوى } يعني في الإخلاص والوحيد { أرأيت إن كذب } يعني أبا جهل { وتولى } أي عن الإيمان وتقدير نظم الآية أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى وهو على الهدى آمر بالتّقوى والنّاهي مكذب متول عن الإيمان أي أعجب من هذا { ألم يعلم } يعني أبا جهل { بأن الله يرى } يعني يرى ذلك الفعل فيجازيه به ، وفيه وعيد شديد وتهديد عظيم { كلا } أي لا يعلم ذلك أبو جهل { لئن لم ينته } يعني عن إيذاء محمد صلى الله عليه وسلم وعن تكذيبه { لنسفعاً بالناصية } أي لنأخذن بناصيته فلنجرنه إلى النّار ، يقال سفعت بالشيء إذا أخذته وجذبته جذباً شديداً والناصية شعر مقدم الرأس والسفع الضرب أي لنضربن وجهه في النار ، ولنسودن وجهه ولنذلنه ثم قال على البدل { ناصية كاذبة خاطئة } أي صاحبها كاذب خاطىء .(6/288)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
قوله عزّ وجلّ : { إنا أنزلناه } يعني القرآن كناية عن غير مذكور { في ليلة القدر } وذلك أن الله تعالى أنزل القرآن العظيم جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر فوضعه في بيت العزة ، ثم نزل به جبريل عليه السّلام على النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً متفرقة في مدة ثلاث وعشرين سنة ، فكان ينزل بحسب الوقائع ، والحاجة إليه ، وقيل إنما أنزله إلى السّماء الدّنيا لشرف الملائكة بذلك ولأنها كالمشترك بيننا وبين الملائكة ، فهي لهم سكن ولنا سقف وزينة وسميت ليلة القدر لأن فيها تقدير الأمور ، والأحكام ، والأرزاق ، والآجال ، وما يكون في تلك السنة إلى مثل هذه اللّيلة من السّنة المقبلة يقدر الله ذلك في بلاده وعباده ، ومعنى هذا أن الله يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم بأن يكتب لهم ما قدره في تلك السنة ويعرفهم إيّاه ، وليس المراد منه أن يحدثه في تلك اللّيلة لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السّموات والأرض في الأزل ، قيل للحسين بن الفضل أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السّموات والأرض قال : نعم قيل له فما معنى ليلة القدر قال سوق المقادير إلى المواقيت وتنفيذ القضاء المقدر ، وقيل سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها على اللّيالي من قولهم لفلان قدر عند الأمير ، أي منزلة وجاه ، وقيل سميت بذلك لأن العمل الصّالح يكون فيها ذا قدر عند الله لكونه مقبولاً ، وقيل سميت بذلك لأن الأرض تضيق بالملائكة فيها .
( فصل في فضل ليلة القدر وما ورد فيها )
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه » ، واختلف العلماء في وقتها فقال بعضهم إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفعت لقوله صلى الله عليه وسلم حين تلاحى الرجلان « إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم » وهذا غلط ممن قال بهذا القول لأن آخر الحديث يرد عليهم فإنه صلى الله عليه وسلم قال في آخره « فالتمسوها في العشر الأواخر في التاسعة والسابعة والخامسة » ، فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها وعامة الصّحابة والعلماء فمن بعدهم على أنها باقية إلى يوم القيامة ، روي عن عبد الله بن خنيس مولى معاوية قال قلت لأبي هريرة زعموا أن ليلة القدر رفعت قال كذب من قال ذلك قلت هي في كل شهر رمضان استقبله قال نعم .
ومن قال ببقائها ووجودها اختلفوا في محلها ، فقيل هي متنقلة تكون في سنة في ليلة وفي سنة أخرى في ليلة أخرى هكذا أبداً قالوا : وبهذا يجمع بين الأحاديث الواردة في أوقاتها المختلفة وقال : مالك والثّوري وأحمد ، وإسحاق وأبو ثور ، إنها تنتقل في العشر الأواخر من رمضان ، وقيل بل تنتقل في رمضان كله ، وقيل إنها في ليلة معينة لا تنتقل عنها أبداً في جميع السنين لا تفارقها ، فعلى هذا هي في ليلة من السّنة كلها وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة ، وصاحبيه وروي عن ابن مسعود أنه قال : من يقم الحول يصبها فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال يرحم الله أبا عبد الرحمن .(6/289)
أما إنه علم أنها في شهر رمضان ولكن أراد أن لا يتكل الناس وقال جمهور العلماء : إنها في شهر رمضان ، واختلفوا في تلك الليلة فقال أبو رزين العقيلي : في أول ليلة من شهر رمضان ، وقيل هي ليلة سبعة عشر وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر يحكى هذا عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضاً ، والحسن والصّحيح الذي عليه الأكثرون أنها في العشر الأواخر من رمضان والله سبحانه وتعالى أعلم .
( ذكر الأحاديث الواردة في ذلك )
( ق ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور العشر الأواخر من رمضان ويقول تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان » ( م ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان » وذهب الشّافعي إلى أنها ليلة إحدى وعشرين ( ق ) عن أبي هريرة أن أبا سعيد قال « اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأواسط فلما كانت صبيحة عشرين نقلنا متاعنا فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال من كان اعتكف فليرجع إلى معتكفه ، وأنا رأيت هذه الليلة ، ورأيتني أسجد في ماء وطين ، فلما رجع إلى معتكفه هاجت السماء فمطرنا فوالذي بعثه بالحق لقد هاجت السماء من آخر ذلك اليوم ، وكان المسجد على عريش ، ولقد رأيت على أنفه وأرنبته أثر الماء والطين » ، وفي رواية نحوه إلا أنه قال « حتى إذا كانت ليلة أحدى وعشرين وهي اللّيلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر » وورد في فضل ليلة القدر اثنان وعشرون حديثاً عن عبد الله بن أنيس قال : « كنت في مجلس لبني سلمة وأنا أصغرهم فقالوا من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وذلك في صبيحة إحدى وعشرين من رمضان فخرجت فوافيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر ، فقال كم اللّيلة فقلت اثنتان وعشرون فقال هي اللّيلة ، ثم رجع فقال أو القابلة يريد ثلاثاً وعشرين »(6/290)
أخرجه أبو داود .
وذهب جماعة من الصّحابة وغيرهم أن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين ومال إليه الشّافعي أيضاً ( خ ) عن الصّنابحي ، أنه سأل رجلاً هل سمعت في ليلة القدر شيئاً قال ، أخبرني بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها في أول السبع من العشر الأواخر ، وهذا اللفظ مختصر عن عبد الله بن أنيس قال : « قلت يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها وأنا أصلي فيها بحمد الله فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد ، فقال انزل ليلة ثلاث وعشرين قيل لابنه كيف كان أبوك يصنع قال : كان يدخل المسجد إذا صلى العصر فلا يخرج إلا لحاجة حتى يصلي الصبح ، فإذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد فجلس عليها ولحق بباديته » أخرجه أبو داود ولمسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني أسجد صبيحتها في ماء وطين » قال فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه ، ويحكى عن بلال وابن عباس والحسن أنها ليلة أربع وعشرين ( خ ) عن ابن عباس قال التمسوها في أربع وعشرين ، وقيل في ليلة خمس وعشرين دليله قوله صلى الله عليه وسلم « تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان » ، وقيل هي ليلة سبع وعشرين يحكى ذلك عن جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وابن عباس وإليه ذهب أحمد ( م ) عن زر بن حبيش قال سمعت أبي بن كعب يقول وقيل له إن عبد الله بن مسعود يقول من قام السنة أصاب ليلة القدر قال أبيّ : والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان يحلف ، ولا يستثني ، فوالله إني لأعلم أي ليلة هي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ، وهي ليلة سبع وعشرين وأمارتها أن تطلع الشّمس من صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم « في ليلة القدر ، قال ليلة سبع وعشرين » أخرجه أبو داود ، وقيل هي ليلة تسع وعشرين دليله قوله « تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان » وقيل هي ليلة آخر الشهر ، عن ابن عمر قال : « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وأنا أسمع ، فقال هي في كل رمضان » أخرجه أبو داود قال ويروى موقوفاً عليه .
( ذكر ليال مشتركة )
عن ابن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر(6/291)
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
قوله عزّ وجلّ : { وما أدراك ما ليلة القدر } أي شيء يبلغ درايتك قدرها ومبلغ فضلها ، وهذا على سبيل التعظيم لها ، والتَّشويق إلى خيرها ثم ذكر فضلها من ثلاثة أوجه :
فقال تعالى : { ليلة القدر خير من ألف شهر } قال ابن عباس : ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني إسرائيل حمل السّلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر ، فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك ، وتمنى ذلك لأمته فقال : يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعماراً ، وأقلها أعمالاً ، فأعطاه الله تبارك وتعالى ليلة القدر ، فقال ليلة القدر خير من ألف شهر التي حمل فيها الإسرائيلي السّلاح في سبيل الله لك ولأمتك إلى يوم القيامة ، وعن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم أن النّبي صلى الله عليه وسلم أرى أعمار الناس قبله ، أو ما شاء الله من ذلك ، فكأنه تقاصر أعمار أمته أي لا يبلغوا من العمل مثل الذي يبلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر أخرجه مالك في الموطأ قال المفسرون : معناه العمل الصّالح في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى فيها من المنافع والأرزاق وأنواع الخير والبركة .
الوجه الثاني : من فضلها قوله عزّ وجلّ : { تنزل الملائكة } يعني إلى الأرض وسبب هذا أنهم لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها وظهر أن الأمر بخلاف ما قالوه وتبين حال المؤمنين وما هم عليه من الطاعة ، والعبادة ، والجد ، والاجتهاد نزلوا إليهم ليسلموا عليها ويعتذروا مما قالوه ، ويستغفروا لهم لما يرون من تقصير قد يقع من بعضهم { والروح } يعني جبريل عليه الصّلاة والسّلام قاله أكثر المفسرين : وفي حديث أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون ، ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عزّ وجلّ » ذكره ابن الجوزي ، وقيل إن الرّوح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة { فيها } أي في ليلة القدر { بإذن ربهم } أي بأمر ربهم { من كل أمر } أي بكل أمر من الخير والبركة ، وقيل بكل ما أمر به وقضاه من كل أمر .
الوجه الثالث : من فضلها قوله تعالى : { سلام } أي سلام على أولياء الله وأهل طاعته قال الشّعبي : هو تسليم الملائكة في ليلة القدر على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر ، وقيل الملائكة ينزلون فيها كلما لقوا مؤمناً أو مؤمنة يسلمون عليه من ربه عزّ وجلّ ، وقيل تم الكلام عند قوله { من كل أمر } ثم ابتدأ فقال تعالى : { سلام هي } يعني القدر سلامة وخير ليس فيها شر ، وقيل لا يقدر الله في تلك اللّيلة ولا يقضي إلا السلامة ، وقيل إن ليلة القدر سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يحدث فيها أذى { حتى مطلع الفجر } أي أن ذلك السّلام أو السّلامة تدوم إلى مطلع الفجر ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده .(6/292)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
قوله عزّ وجلّ : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني اليهود والنّصارى { والمشركين } أي ومن المشركين ، وهم عبدة الأوثان ، وذلك أن الكفار كانوا جنسين أحدهما أهل كتاب وسبب كفرهم ما أحدثوه في دينهم ، أما اليهود فقولهم عزير ابن الله وتشبيههم الله بخلقه ، وأما النّصارى فقولهم المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وغير ذلك ، والثاني المشركون أهل الأوثان الذين لا ينتسبون إلى كتاب الله ، فذكر الله الجنسين في قوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } أي منتهين عن كفرهم وشركهم وقيل معناه زائلين { حتى تأتيهم } أي حتى أتتهم لفظه مضارع ومعناه الماضي { البينة } أي الحجة الواضحة يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالتهم ، وشركهم وما كانوا عليه من الجاهلية ، ودعاهم إلى الإيمان ، فآمنوا فأنقذهم الله من الجهالة والضّلالة ولم يكونوا منفصلين عن كفرهم قبل بعثه إليهم ، والآية فيمن آمن من الفريقين ، قال الواحدي في بسيطة : وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً ، وتفسيراً وقد تخبط فيها الكبار من العلماء .
قال الإمام فخر الدين في تفسيره إنه لم يلخص كيفية الأشكال فيها وأنا أقول وجه الإشكال أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرّسول ، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عماذاً لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه ، فصار التقدير لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول ، ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية ، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرّسول ثم قال بعد ذلك وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرّسول ، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والثانية مناقضة في الظاهر ، وهذا منتهى الإشكال في ظني قال والجواب عنه من وجوه :
أولها : وأحسنها الوجه ، الذي لخصه صاحب الكشاف وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب ، وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التّوراة والإنجيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم فحكى الله تعالى عنهم ما كانوا يقولونه ، ثم قال { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } ، أي أنهم كانوا يعدلون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول ، ونظيره في الكلام ما يقول الفاسق الفقير لمن يعظه لست بمنفك مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقاً ، فيقول واعظه لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار فيذكره ما كان يقول توبيخاً ، وإلزاماً قال الإمام فخر الدين : وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد وهو أن قوله تعالى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة مذكور حكاية عنهم ، وقوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إخبار عن الواقع ، والمعنى أن الذي وقع كان بخلاف ما ادعوا أو ثانيها أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وعلى هذا التقدير يزول الإشكال إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء وذكر وجوهاً أخر قال : والمختار هو الأول ثم فسر البينة فقال تعالى : { رسول من الله } أي تلك البينة رسول من الله { يتلوا } أي يقرأ الرسول صلى الله عليه وسلم { صحفاً } أي كتباً يريد ما تضمنه المصحف من المكتوب فيه وهو القرآن لأنه كان صلى الله عليه وسلم يقرأ عن ظهر قلبه لا عن كتاب { مطهرة } أي من الباطل والكذب والزّور ، والمعنى أنها مطهرة من القبيح ، وقيل معنى مطهرة معظمة ، وقيل مطهرة أي لا ينبغي أن يمسها إلا المطهرون { فيها } أي في الصحف { كتب } أي الآيات المكتوبة وقيل الكتب بمعنى الأحكام { قيمة } أي عادلة مستقيمة غير ذات عوج ، وقيل قيمة بمعنى قائمة مستقلة بالحجة من قولهم قام بالأمر إذا أجراه على وجهه ، ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال تعالى : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم { إلا من بعد ما جاءتهم البينة } يعني جاءتهم البينة في كتبهم أنه نبي مرسل قال المفسرون لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله تعالى فلما بعث تفرقوا في أمره ، واختلفوا فيه ، فآمن به بعضهم وكفر به آخرون ، ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم .(6/293)
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
{ وما أمروا } يعني هؤلاء الكفار { إلا ليعبدوا الله } أي وما أمروا إلا أن يعبدوا الله قال ابن عباس : ما أمروا في التوراة ، والإنجيل ، إلا بإخلاص العبادة لله موحدين له { مخلصين له الدين } الإخلاص عبارة عن النّية الخالصة ، وتجريدها عن شوائب الرّياء ، وهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه ، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه والواجب لوجوبه والنّية الخالصة لما كانت معتبرة . كانت النية معتبرة فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منوياً فلا بد من اعتبار النية في جميع المأمورات ، قال أصحاب الشّافعي : الوضوء مأمور به ودلت هذه الآية على أن كل مأمور به يجب أن يكون منوياً ، فتجب النية في الوضوء ، وقيل الإخلاص محله القلب وهو أن يأتي بالفعل لوجه الله تعالى مخلصاً له ، ولا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا غرضاً آخر حتى قالوا في ذلك لا يجعل طلب الجنة مقصوداً ولا النجاة من النار مطلوباً ، وإن كان لا بد من ذلك بل يجعل العبد عبادته لمحض العبودية واعترافاً لربه عزّ وجلّ بالرّبوبية ، وقيل في معنى مخلصين له الدّين مقرين له بالعبودية ، وقيل قاصدين بقلوبهم رضا الله تعالى بالعبادة ( م ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ، ولا صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم » { حنفاء } أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، وقيل متبعين ملة إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام ، وقيل حنفاء أي حجاجاً وإنما قدمه على الصّلاة والزّكاة لأن فيه صلاة وإنفاق مال ، وقيل حنفاء أي مختونين محرمين لنكاح المحارم ، وقيل الحنيف الذي آمن بجميع الأنبياء والرّسل ، ولا يفرق بين أحد منهم فمن لم يؤمن بأشرف الأنبياء وهو محمد صلى الله عليه وسلم فليس بحنيف { ويقيموا الصلاة } أي المكتوبة في أوقاتها { ويؤتوا الزكاة } أي المفروضة عند محلها { وذلك } أي الذي أمروا به { دين القيمة } أي الملة المستقيمة والشّريعة المتبوعة ، وإنما أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين وأنث القيمة رداً إلى الملة ، وقيل الهاء في القيمة للمبالغة كعلامة ، وقيل القيمة الكتب التي جرى ذكرها ، أي وذلك دين أصحاب الكتب القيمة ، وقيل القيمة جمع القيم ، والقيم ، والقائم واحد والمعنى وذلك دين القائمين لله بالتوحيد واستدل بهذه الآية من يقول إن الإيمان قول وعمل لأن الله تعالى ذكر الاعتقاد أولاً وأتبعه بالعمل ثانياً ثم قال وذلك دين القيمة والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان بدليل قوله { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين }(6/294)
ثم ذكر ما للفريقين فقال تعالى { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } فإن قلت لم قدم أهل الكتاب على المشركين .
قلت لأن جنايتهم أعظم في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم كانوا يستفتحون به قبل بعثته ويقرون بنبوته ، فلما بعث أنكروه وكذبوه وصدوه مع العلم به فكانت جنايتهم أعظم من المشركين فلهذا قدمهم عليهم .
فإن قلت إن المشركين أعظم جناية من أهل الكتاب لأن المشركين أنكروا الصانع والنّبوة ، والقيامة وأهل الكتاب اعترفوا بذلك غير أنهم أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإذا كان كذلك كان كفرهم أخف فلم سوى بين الفريقين في العذاب .
قلت لما أراد أهل الكتاب الرّفعة في الدّنيا بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أذلهم الله في الدّنيا ، وأدخلهم أسفل سافلين في الآخرة ولا يمنع من دخولهم النّار مع المشركين أن تتفاوت مراتبهم في العذاب . { في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية } أي هم شر الخلق والمعنى أنهم لما استحقوا النار بسبب كفرهم قالوا : فهل إلى خروج من سبيل فقال بل تبقون خالدين فيها ، فكأنهم قالوا لم ذلك قال لأنكم شر البرية . { إن الذين آمنوا وعملوا الصّالحات أولئك هم خير البرية } يعني أنهم بسبب أعمالهم الصّالحة واجتنابهم الشرك استحقوا هذا الاسم { جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه } قيل الرّضا ينقسم إلى قسمين : رضا به ورضا عنه ، فالرضا به أن يكون ربا ومدبراً ، والرّضا عنه فيما يقضي ويدبر قال السري : إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضا عنك ، وقيل : رضي الله أعمالهم ، ورضوا عنه بما أعطاهم من الخير والكرامة { ذلك } أي هذا الجزاء والرضا { لمن خشي ربه } أي لمن خاف ربه في الدّنيا وانتهى عن المعاصي ( ق ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب « إن الله أمرني أن أقرأ عليك { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } قال وسماني قال نعم فبكى » وفي رواية البخاري « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ، قال الله سماني لك ، قال نعم قال وقد ذكرت عند رب العالمين قال نعم قيل فذرفت عيناه »
( شرح غريب الحديث )
أما بكاء أبي فإنه بكى سروراً ، واستصغاراً لنفسه عن تأهله لهذه النّعمة العظيمة وإعطائه تلك المنزلة الكريمة ، والنعمة عليه فيها من وجهين أحدهما : كونه منصوصاً عليه بعينه والثاني قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنها منقبة عظيمة لم يشاركه فيها أحد من الصّحابة ، وقيل إنما بكى خوفاً من تقصيره في شكره هذه النعمة .(6/295)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
قوله عزّ وجلّ : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } أي تحركت حركة شديدة ، واضطربت ، وذلك عند قيام الساعة ، وقيل تزلزل من شدة صوت إسرافيل حتى ينكسر كل ما عليها من شدة الزّلزلة ولا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها من جبل ، وشجر ، وبناء وفي وقت هذه الزّلزلة قولان أحدهما : وهو قول الأكثرين ، أنها في الدّنيا ، وهي من أشراط السّاعة والثاني أنها زلزلت يوم القيامة . { وأخرجت الأرض أثقالها } فمن قال إن الزّلزلة تكون في الدّنيا قال أثقالها كنوزها ، وما في بطنها من الدّفائن ، والأموال فتلقيها على ظهرها يدل على صحة هذا القول ، ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانة من الذهب ، والفضة ، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع ، فيقول في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السّارق فيقول في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً » أخرجه مسلم والأفلاذ جمع فلذة وهي القطعة المستطيلة شبه ما يخرج من باطنها بأقطاع كبدها ، لأن الكبد مستور في الجوف ، وإنما خص الكبد لأنها من أطيب ما يشوى عند العرب من الجزور ، واستعار القيء للإخراج ، ومن قال بأن الزّلزلة تكون يوم القيامة ، قال أثقالها الموتى فتخرجهم إلى ظهرها قيل إن الميت إذا كان في بطن الأرض ، فهو ثقل لها وإذا كان فوقها ، فهو ثقل عليها ، ومنه سميت الجن والإنس بالثقلين لأن الأرض تثقل بهم أحياء وأمواتاً . { وقال الإنسان ما لها } يعني ما لها تزلزلت هذه الزلزلة العظيمة ، ولفظت ما في بطنها وفي الإنسان وجهان . أحدهما أنه اسم جنس يعم المؤمن والكافر ، وهذا على قول من جعل الزّلزلة من أشراط السّاعة ، والمعنى أنها حين وقعت لم يعلم الكل أنها من أشراط السّاعة ، فيسأل بعضهم بعضاً عن ذلك ، والثاني أنه اسم للكافر خاصة وهذا على قول من جعلها زلزلة القيامة لأن المؤمن عارف بها فلا يسأل عنها ، والكافر جاحد لها ، فإذا وقعت سأل عنها ، وقيل مجاز الآية { يومئذ تحدث أخبارها } فيقول الإنسان ما لها ، والمعنى أن الأرض تحدث بكل ما عمل على ظهرها من خير أو شر ، فتشكوا العاصي ، وتشهد عليه وتشكر الطّائع وتشهد له « » عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { يومئذ تحدث أخبارها } قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم ، قال فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول عمل يوم كذا كذا وكذا فهذه أخبارها « أخرجه التّرمذي ، وقال حديث حسن صحيح { بأن ربك أوحى لها } أي أمرها بالكلام وأذن لها أن تخبر بما عمل عليها قال ابن عباس : أوحى إليها قيل إن الله تعالى يخلق في الأرض الحياة ، والعقل ، والنطق حتى تخبر بما أمر الله به وهذا مذهب أهل السنة .
قوله تعالى : { يومئذ يصدر النّاس } أي عن موقف الحساب بعد العرض { أشتاتاً } أي متفرقين فآخذ ذات اليمين إلى الجنة وآخذ ذات الشمال إلى النار { ليروا أعمالهم } قال ابن عباس ليروا جزاء أعمالهم ، وقيل معناه ليروا صحائف أعمالهم التي فيها الخير والشّر .(6/296)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
{ فمن يعمل مثقال ذرة } قال وزن نملة صغيرة وقيل هو ما لصق من التراب باليد { خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } قال ابن عباس : ليس مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً في الدّنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة ، فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر الله له سيئاته ، ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر ، فيرد حسناته ويعذبه بسيئاته ، وقال محمد بن كعب القرظي فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره من كافر يرى ثوابه في الدّنيا في نفسه وولده وأهله وماله حتى يخرج من الدّنيا وليس له عند الله خير ومن يعلم مثقال ذرة شراً يره من مؤمن يرى عقوبته في الدّنيا في نفسه ، وماله ، وولده وأهله حتى يخرج من الدّنيا وليس له عند الله شر قيل نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزلت { ويطعمون الطعام على حبه } وكان أحدهما يأتيه السائل ، فيستقل أن يطعمه التّمرة والكسرة ، والجوزة ونحو ذلك ويقول هذا ليس بشيء يؤجر عليه إنما يؤجر على ما يعطي ونحن نحبه ، وكان الآخر يتهاون بالذّنب الصّغير مثل الكذبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول إنما وعد الله النار على الكبائر وليس في هذا ، إثم فأنزل الله هذه الآية يرغبهم في القليل من الخير أن يعطوه فإنه يوشك أن يكثر ويحذرهم من اليسير من الذّنب ، فإنه يوشك أن يكبر والإثم الصغير في عين صاحبه يصير مثل الجبل العظيم يوم القيامة قال ابن مسعود : أحكم آية في القرآن { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } وسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية الجامعة الفاذة حين سأل عن زكاة الحمير ، فقال « ما أنزل الله فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة » ، { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } وتصدق عمر بن الخطاب وعائشة كل واحد منهما بحبة عنب ، وقالا فيها مثاقيل كثيرة ، قلت إنما كان غرضهما تعليم الغير وإلا فهما من كرماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقال الربيع بن خيثم : مر رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السّورة فلما بلغ آخرها قال حسبي الله قد انتهت الموعظة ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه .(6/297)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)
قوله عزّ وجلّ : { والعاديات ضبحاً } فيه قولان أحدهما ، أنها الإبل في الحج قال عليّ كرم الله وجهه : هي الإبل تعدو من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى ، وعنه قال كانت أول غزاة في الإسلام بدراً ، وما كان معنا إلا فرسان فرس للزّبير ، وفرس للمقداد بن الأسود ، فكيف تكون العاديات؟ فعلى هذا القول يكون معنى ضبحها مد أعناقها في السير وأصله من حركة النار في العود . { فالموريات قدحاً } يعني أن أخفاف الإبل ترمي بالحجارة من شدة عدوها فيضرب الحجر حجراً آخر فيوري النّار ، وقيل هي النيران بجمع { فالمغيرات صبحاً } يعني الإبل تدفع بركبانها يوم النّحر من جمع إلى منى والسنة أن لا يدفع حتى يصبح والإغارة سرعة السير ، ومنه قولهم أشرق ثبير كيما نغير { فأثرن به نقعاً } أي هيجن بمكان سيرها غباراً .(6/298)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
{ فوسطن به جمعاً } أي وسطن بالنقع جمعاً وهو مزدلفة ، فوجه القسم على هذا أن الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة ، وتعريضه بإبل الحج للتّرغيب وفيه تقريع لمن لم يحج بعد القدرة عليه ، فإن الكنود هو الكفور ، ومن لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك القول الثاني في تفسير والعاديات ، قال ابن عباس وجماعة هي الخيل العادية في سبيل الله والضبح صوت أجوافها إذا غدت قال ابن عباس : وليس شيء من الحيوانات يضبح سوى الفرس ، والكلب ، والثعلب ، وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغير حالها من فزع أو تعب ، وهو من قول العرب ضبحته النّار إذا غيرت لونه ، { فالموريات قدحاً } يعني أنها توري النّار بحوافرها إذا سارت في الحجارة ، وقيل هي الخيل تهيج الحرب ونار العداوة بين فرسانها وقال ابن عباس : هي الخيل تغزو في سبيل الله ثم تأوي باللّيل فيوري أصحابها ناراً ، ويصنعون طعامهم ، وقيل هو مكر الرّجال في الحرب ، والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه أما والله لأقدحن لك ثم لأورين لك ، { فالمغيرات صبحاً } يعني الخيل تغير بفرسانها على العدو عند الصّباح لأن النّاس في غفلة في ذلك الوقت عن الاستعداد ، { فأثرن به } أي بالمكان { نقعاً } أي غباراً { فوسطن به جمعاً } أي دخلن به أي بذلك النّقع وهو الغبار ، وقيل صرن بعدوهن وسط جمع العدو ، وهم الكتيبة وهذا القول في تفسير هذه الآيات أولى بالصّحة ، وأشبه بالمعنى ، لأن الضبح من صفة الخيل ، وكذا إيراء النار بحوافرها ، وإثارة الغبار أيضاً ، وإنما أقسم الله بخيل الغزاة لما فيها من المنافع الدينية ، والدنيوية ، والأجر ، والغنيمة ، وتنبيهاً على فضلها ، وفضل رباطها في سبيل الله عزّ وجلّ ، ولما ذكر الله تعالى المقسم به ذكر المقسم عليه . فقال تعالى : { إن الإنسان لربه لكنود } أي لكفور وهو جواب القسم قال ابن عباس : الكنود الكفور الجحود لنعمة الله تعالى ، وقيل الكنود هو العاصي ، وقيل هو الذي يعد المصائب ، وينسى النّعم ، وقيل هو قليل الخير مأخوذ من الأرض الكنود ، وهي التي لا تنبت شيئاً ، وقال الفضيل بن عياض الكنود : الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان ، وضده الشّكور الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة { وإنه على ذلك لشهيد } قال أكثر المفسرين : وإن الله على كونه كنود الشّاهد ، وقيل الهاء راجعة إلى الإنسان ، والمعنى أنه شاهد على نفسه بما صنع { وإنه } يعني الإنسان { لحب الخير } أي المال { لشديد } أي لبخيل والمعنى أنه من أجل حب المال لبخيل ، وقيل معناه وإنه لحب المال وإيثار الدّنيا لقوي شديد { أفلا يعلم } يعني هذا الإنسان { إذا بعثر } أي أثير وأخرج { ما في القبور } يعني من الموتى { وحصل ما في الصدور } أي ميز وأبرز ما فيها من الخير والشر { إن ربهم بهم } أي جمع الكناية لأن الإنسان اسم جنس { يومئذ لخبير } أي عالم والله تعالى خبير بهم في ذلك اليوم ، وفي غيره ، ولكن المعنى أنه يجازيهم في ذلك اليوم على كفرهم وإنما خص أعمال القلوب بالذّكر في قوله ، { وحصل ما في الصّدور } لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب ، فإنه لولا البواعث والإرادات التي في القلوب لما حصلت أعمال الجوارح والله أعلم .(6/299)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
قوله عزّ وجلّ : { القارعة } أصل القرع الصّوت الشّديد ، ومنه قوارع الدّهر أي شدائده ، والقارعة من أسماء القيامة . سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بالفزع ، والشدائد وقيل سميت قارعة بصوت إسرافيل لأنه إذا نفخ في الصور مات جميع الخلائق من شدة صوت نفخته ، { ما القارعة } تهويل وتعظيم ، والمعنى أنها فاقت القوارع في الهول والشّدة { وما أدراك ما القارعة } معناه لا علم لك بكنهها لأنها في الشدة بحيث لا يبلغها فهم أحد وكيفما قدرت أمرها فهي أعظم من ذلك { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } الفراش هذه الطير التي تراها تتهافت في النار سميت بذلك لفرشها ، وانتشارها ، وإنما شبه الخلق عند البعث بالفراش ، لأن الفراش إذا ثار لم يتجه لجهة واحدة . بل كل واحدة تذهب إلى غير جهة الأخرى ، فدل بهذا التشبيه على أن الخلق في البعث يتفرقون ، فيذهب كل واحد إلى غير جهة الآخر ، والمبثوث المتفرق ، وشبههم أيضاً بالجراد فقال : كأنهم جراد منتشر وإنما شبههم بالجراد لكثرتهم قال الفراء : كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضاً فشبه الناس عند البعث بالجراد لكثرتهم بموج بعضهم في بعض ، ويركب بعضهم بعضاً من شدة الهول . { وتكون الجبال كالعهن المنفوش } أي كالصّوف المندوف ، وذلك لأنها تتفرق أجزاؤها في ذلك اليوم حتى تصير كالصّوف المتطاير عند الندف ، وإنما ضم بين حال الناس وحال الجبال ، كأنه تعالى نبه على تأثير تلك القارعة في الجبال العظيمة الصّلدة الصّلبة حتى تصير كالعهن المنفوش ، فكيف حال الإنسان الضّعيف عند سماع صوت القارعة ثم لما ذكر حال القيامة قسم الخلق على قسمين فقال تعالى : { فأما من ثقلت موازينه } يعني رجحت موازين حسناته قيل هو جمع موزون ، وهو العمل الذي له قدر وخطر عند الله تعالى ، وقيل هو جمع ميزان وهو الذي له لسان وكفتان توزن فيه الأعمال فيؤتى بحسنات المؤمن في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان ، فإن رجحت فالجنة له ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فتخف ميزانه ، فيدخل النار ، وقيل إنما توزن أعمال المؤمنين فمن ثقلت حسناته على سيئاته دخل الجنة ، ومن ثقلت سيئاته على حسناته دخل النار ، فيقتص منه على قدرها ثم يخرج منها ، فيدخل الجنة أو يعفو الله عنه بكرمه ، فيدخل الجنة بفضل الله وكرمه ، ورحمته ، وأما الكافرون فقد قال : في حقهم { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } روى عن أبي بكر الصّديق أنه قال : إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الحق في دار الدّنيا ، وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً ، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدّنيا وخفته عليهم ، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غداً أن يكون خفيفاً .(6/300)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)
قوله عزّ وجلّ : { ألهاكم التكاثر } أي شغلتكم المفاخرة ، والمباهاة ، والمكاثرة بكثرة المال ، والعدد ، والمناقب عن طاعة الله ربكم ، وما ينجيكم من سخطه ، ومعلوم أن من اشتغل بشيء أعرض عن غيره ، فينبغي للمؤمن العاقل أن يكون سعيه وشغله في تقديم الأهم وهو ما يقربه من ربه عزّ وجلّ . فالتفاخر بالمال والجاه والأعوان ، والأقرباء تفاخر بأخس المراتب ، والاشتغال به يمنع الإنسان من الاشتغال بتحصيل السّعادة الأخروية التي هي سعادة الأبد ، ويدل على أن المكاثرة ، والمفاخرة بالمال مذمومة ، ما روي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية { ألهاكم التكاثر } « فقال » يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت « أخرجه التّرمذي وقال حديث حسن صحيح ( خ ) عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد يتبعه ماله وأهله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله « { حتى زرتم المقابر } أي حتى متم ودفنتم في المقابر يقال لمن مات زار قبره وزار رمسه ، فيكون معنى الآية ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت ، وأنتم على ذلك قيل نزلت هذه الآية في اليهود ، قالوا نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً ، وقيل نزلت في حيين من قريش ، وهما بنو عبد مناف ، وبنو سهم بن عمرو ، وكان بينهم تفاخر فتعادوا القادة ، والأشراف أيّهم أكثر فقال بنو عبد مناف نحن أكثر سيداً ، وأعز عزيزاً ، وأعظم نفراً ، وأكثر عدداً ، وقال بنو سهم مثل ذلك ، فكاثرهم بنو بعد مناف ، ثم قالوا نعد موتانا فعدوا الموتى حتى زار والقبور ، فعدوهم فقالوا هذا قبر فلان وهذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عدداً فأنزل الله هذه الآية ، وهذا القول أشبه بظاهر القرآن لأن قوله { حتى زرتم المقابر } يدل على أمر مضى ، فكأنه تعالى يعجبهم من أنفسهم ويقول مجيباً هب إنكم أكثر عدداً ، فماذا ينفع .(6/301)
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
{ كلا } أي ليس الأمر كما يتوهمه هؤلاء بالتكاثر والتّفاخر ، وقيل المعنى حقاً { سوف تعلمون } وعيد لهم { ثم كلا سوف تعلمون } كرره توكيداً والمعنى سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إذا نزل بكم الموت ، فهو وعيد بعد وعيد ، وقيل معناه كلا سوف تعلمون يعني الكافرين ثم كلا سوف تعلمون يعني المؤمنين وصاحب هذا القول يقرأ الأولى بالياء والثانية بالتاء . { كلا لو تعلمون علم اليقين } أي علماً يقيناً وجواب لو محذوف والمعنى لو تعلمون علماً يقيناً لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتّفاخر ، قال قتادة كنا نحدث أن علم اليقين أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت { لترون الجحيم } اللام تدل على أنه جواب قسم محذوف والقسم لتوكيد الوعيد ، وإن ما أوعدوا به لا يدخله شك ولا ريب ، والمعنى أنكم ترون الجحيم بأبصاركم بعد الموت { ثم لترونها } يعني مشاهدة { عين اليقين } وإنما كرر الرّؤية لتأكيد الوعيد { ثم لتسألن يومئذ عن النّعيم } يعني أن كفار مكة كانوا في الدّنيا في الخير والنعمة ، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه لأنهم لم يشكروا رب النّعيم حيث عبدوا غيره ثم يعذبون على ترك الشكر ، وذلك لأن الكفار لما ألهاهم التكاثر بالدّنيا ، والتّفاخر بلذاتها عن طاعة الله والاشتغال بشكره سألهم عن ذلك ، وقيل إن هذا السّؤال يعم الكافر ، والمؤمن ، وهو الأولى لكن سؤال الكافر توبيخ ، وتقريع لأنه ترك شكر ما أنعم الله به عليه ، والمؤمن يسأل سؤال تشريف وتكريم لأنه شكر ما أنعم الله به عليه ، وأطاع ربه فيكون السّؤال في حقه تذكرة بنعم الله عليه . يدل على ذلك ما روي « عن الزّبير قال لما نزلت { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال الزبير : يا رسول الله وأي نعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان التّمر والماء قال أما أنه سيكون » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن واختلفوا في النعيم الذي يسأل البعد عنه ، فروي عن ابن مسعود رفعه قال لتسألن يومئذ عن النّعيم قال الأمن ، والصحة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له ألم نصح لك جسمك ونروك من الماء البارد » أخرجه التّرمذي وقال حديث غريب ( م ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال صلى الله عليه وسلم ما أخرجكما من بيوتكما هذه السّاعة ، قالا الجوع يا رسول الله قال وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما ، فقوموا فقاموا معه فأتى رجلاً من الأنصار ، فإذا هو ليس في بيته فلما رأته المرأة قالت مرحباً وأهلاً ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أين فلان قالت ذهب يستعذب لنا الماء إذا جاء الأنصاري ، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ثم قال : الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني قال فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر ، وتمر ، ورطب فقال : كلوا وأخذ المدية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك والحلوب ، فذبح لهم شاة فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النّعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النّعيم »(6/302)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
قوله عزّ وجلّ : { والعصر } قال ابن عباس : هو الدّهر قيل أقسم الله به لما فيها من العبر ، والعجائب للنّاظر وقد ورد في الحديث « لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر » وذلك لأنهم كانوا يضيفون النّوائب والنّوازل إلى الدهر ، فأقسم به تنبيهاً على شرفه وأن الله هو المؤثر فيه فما حصل فيه من النّوائب والنّوازل كان بقضاء الله وقدره ، وقيل تقديره ورب العصر ، وقيل أراد بالعصر اللّيل والنّهار لأنهما يقال لهما العصران ، فنبه على شرف الليل والنهار لأنهما خزانتان لأعمال العباد ، وقيل أراد بالعصر آخر طرفي النهار أقسم بالعشى كما أقسم بالضّحى ، وقيل أراد صلاة العصر أقسم بها لشرفها ولأنها الصّلاة الوسطى في قول بدليل قوله تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } لما قيل هي صلاة العصر والذي في مصحف عائشة رضي الله عنها وحفصة والصّلاة الوسطى صلاة العصر وفي الصحيحين « شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر » وقال صلى الله عليه وسلم « من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » ، وقيل أراد بالعصر زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسم بزمانه كما أقسم بمكانه في قوله { لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } نبه بذلك على أنه زمانه أفضل الأزمان وأشرفها ، وجواب القسم قوله تعالى : { إن الإنسان لفي خسر } أي لفي خسران ونقصان قيل أراد بالإنسان جنس الإنسان بدليل قولهم كثر الدرهم في أيدي الناس أي الدرهم وذلك لأن الإنسان لا ينفك عن خسران ، لأن الخسران هو تضييع عمره وذلك لأن كل ساعة تمر من عمر الإنسان إما أن تكون تلك السّاعة في طاعة أو معصية ، فإن كانت في معصية فهو الخسران المبين الظاهر وإن كانت في طاعة ، فلعل غيرها أفضل وهو قادر على الإتيان بها فكان فعل غير الأفضل تضييعاً وخسراناً ، فبان بذلك أنه لا ينفك أحد من خسران ، وقيل إن سعادة الإنسان في طلب الآخرة وحبها والإعراض عن الدّنيا ثم إن الأسباب الداعية إلى حب الآخرة خفية ، والأسباب الدّاعية إلى حب الدّنيا ظاهرة ، فلهذا السبب كان أكثر الناس مشتغلين بحب الدّنيا مستغرقين في طلبها ، فكانوا في خسار وبوار قد أهلكوا أنفسهم بتضييع أعمارهم ، وقيل أراد بالإنسان الكافر بدليل أنه استثنى المؤمنين فقال تعالى : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصّالحات } يعني فإنهم ليسوا في خسر ، والمعنى أن كل ما مر من عمر الإنسان في طاعة الله تعالى فهو في صلاح وخير وما كان بضده فهو في خسر وفساد وهلاك . { وتواصوا } أي أوصى بعض المؤمنين بعضاً { بالحق } يعني بالقرآن والعمل بما فيه ، وقيل بالإيمان والتّوحيد { وتواصوا بالصبر } أي على أداء الفرائض وإقامة أمر الله وحدوده ، وقيل أراد أن الإنسان إذا عمر في الدّنيا وهرم لفي نقص وتراجع إلا الذين آمنوا ، وعملوا الصّالحات فإنهم تكتب أجورهم ومحاسن أعمالهم التي كانوا يعملونها في شبابهم وصحتهم وهي مثل قوله { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم أجر غير ممنون } والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/303)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
قوله عزّ وجلّ : { ويل } أي قبح ، وقيل اسم واد في جهنم { لكل همزة لمزة } قال ابن عباس هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب وقيل معناهما واحد وهو العياب المغتاب للناس في بعضهم قال الشاعر :
إذا لقيتك من كره تكاشرني ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزا
وقيل بل يختلف معناهما فقيل الهمزة الذي يعيبك في الغيب ، واللّمزة الذي يعيبك في الوجه ، وقيل هو على ضده ، وقيل الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللّمزة الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم ، وقيل هو الذي يهمز بلسانه ويلمز بعينه ، وقيل الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ ، واللمزة الذي يرمق بعينه ويشير برأسه ويرمز بحاجبه ، وقيل الهمزة المغتاب للناس واللمزة الطعان في أنسابهم وحاصل هذه الأقاويل يرجع إلى أصل واحد ، وهو الطعن وإظهار العيب وأصل الهمز الكسر والقبض على الشيء بالعنف ، والمراد منه هنا الكسر من أعراض الناس والغض منهم ، والطعن فيهم ، ويدخل فيه من يحاكي الناس بأقوالهم ، وأفعالهم ، وأصواتهم ليضحكوا منه ، وهما نعتان للفاعل على نحو سخره وضحكة للذي يسخر ويضحك من الناس ، واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية ، فقيل نزلت في الأخنس بن شريق بن وهب . كان يقع في الناس ويغتابهم وقال محمد بن إسحاق : ما زلنا نسمع أن سورة الهمزة نزلت في أمية بن خلف الجمحي ، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه ويطعن عليه في وجهه ، وقيل نزلت في العاص بن وائل السّهمي ، وقيل هي عامة في كل شخص هذه صفته كائناً من كان ، وذلك لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ والحكم ، ومن قال إنها في أناس معينين قال أن يكون اللّفظ عاماً لا ينافي أن يكون المراد منه شخصاً معيناً وهو تخصيص العام بقرينة العرف والأولى أن تحمل على العموم في كل من هذه صفته(6/304)
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
ثم وصفه فقال تعالى : { الذي جمع مالاً } وإنما وصفه بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز يعني وهو بإعجابه بما جمع من المال يستصغر الناس ويسخر منهم ، وإنما نكر مالاً لأنه بالنسبة إلى مال هو أكثر منه كالشّيء الحقير وإن كان عظيماً عند صاحبه فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر بالشيء الحقير { وعدده } أي أحصاه من العدد ، وقيل هو من العدة أي استعده وجعله ذخيرة وغنى له { يحسب أن ماله أخلده } أي يظن أنه يخلد في الدّنيا ولا يموت ليساره وغناه قال الحسن ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت ومعناه أن الناس لا يشكون في الموت مع أنهم يعملون عمل من يظن أنه يخلد في الدّنيا ولا يموت { كلا } رد عليه أي لا يخلده ماله بل يخلده ذكر العلم ، والعمل الصّالح ومنه قول علي : مات خزان المال ، وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر ، وقيل معناه حقاً { لينبذن } واللام في لينبذن جواب القسم فدل ذلك على حصول معنى القسم ، ومعنى لينبذن ليطرحن { في الحطمة } أي في النار ، وهو اسم من أسمائها مثل سقر ولظى ، وقيل هو اسم للدركة الثانية منها وسميت حطمة لأنها تحطم العظام وتكسرها ، والمعنى يا أيّها الهمزة اللمزة الذي يأكل لحوم الناس ، ويكسر من أعراضهم إن وراءك الحطمة التي تأكل اللحوم وتكسر العظام { وما أدراك ما الحطمة } أي نار لا كسائرالنيران { نار الله } إنما أضافها إليه على سبيل التفخيم والتعظيم لها { الموقدة } أي لا تخمد أبداً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أوقد على النّار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة » أخرجه التّرمذي قال ويروى عن أبي هريرة موقوفاً وهو أصح { التي تطلع على الأفئدة } أي يبلغ ألمها ووجعها إلى القلوب ، والمعنى أنها تأكل كل شيء حتى تنتهي إلى الفؤاد ، وإنما خص الفؤاد بالذكر لأنه ألطف شيء في بدن الإنسان ، وأنه يتألم بأدنى شيء ، فكيف إذا اطلعت عليه واستولت عليه ، ثم إنه مع لطافته لا يحترق إذ لو احترق لمات صاحبه ، وليس في النار موت ، وقيل إنما خصه بالذكر لأن القلب موطن الكفر ، والعقائد ، والنيات الفاسدة . { إنها عليهم مؤصدة } أي مطبقة مغلقة { في عمد ممدة } قال ابن عباس : أدخلهم في عمد فمدت عليهم بعماد وفي أعناقهم السلاسل سدت عليهم بها الأبواب ، وقال قتادة : بلغنا أنهم عمد يعذبون بها في النّار ، وقيل هي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار ، والمعنى أنها مطبقة عليهم بأوتاد ممدودة ، وقيل أطبقت الأبواب عليهم ثم سدت بأوتاد من حديد من نار حتى يرجع عليهم غمها وحرها ، فلا ينفتح عليهم باب ، ولا يدخل عليهم روح ، وممددة صفة العمد ، أي مطولة فتكون أرسخ من القصيرة نعوذ بالله من النار ، وحرها والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/305)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
قوله عزّ وجلّ : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } كانت قصة أصحاب الفيل على ما ذكره محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير ، وعكرمة عن ابن عباس ، وذكره الواقدي أن النجاشي ملك الحبشة كان بعث أرياط إلى اليمن ، فغلب عليها فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة بن الصّباح بن يكسوم ، فساخط أرياط في أمر الحبشة حتى انصدعوا صدعين ، فكان طائفة مع أرياط ، وطائفة مع أبرهة ، فتزاحفا فقتل أبرهة أرياط ، واجتمعت الحبشة لأبرهة ، وغلب على اليمن ، وأقره النّجاشي على عمله ، ثم إن أبرهة رأى النّاس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله عزّ وجلّ ، فبنى كنيسة بصنعاء ، وكتب إلى النّجاشي إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها ، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب فسمع بذلك مالك بن كنانة فخرج لها ليلاً ، فدخل وتغوط فيها ولطّخ بالعذرة قبلتها ، فبلغ ذلك أبرهة فقال : من اجترأ عليّ ، فقيل صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع بالذي قلت ، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها ، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ، وسأله أن يبعث إليه بفيله ، وكان له فيل يقال له محمود ، وكان فيلاً لم ير مثله عظماً ، وجسماً ، وقوة ، فبعث به إليه ، فخرج أبرهة في الحبشة سائراً إلى مكة ، وخرج معهم الفيل ، فسمعت العرب بذلك ، فعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم ، فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه ، فقاتلوه فهزمه أبرهة ، وأخذ ذا نفر فقال يا أيها الملك استبقني فإن بقائي خير لك من قتلي فاستحياه وأوثقه وكان أبرهة رجلاً حليماً ، ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم ، خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن ، فقاتلوه فهزمهم ، وأخذ نفيلاً فقال نفيل أيها الملك إني دليل بأرض العرب ، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطّاعة ، فاستبقاه وخرج معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال : أيّها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك ، إنما تريد البيت الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه ، فبعثوا معه أبا رغال مولى لهم ، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال وهو الذي يرجم قبره ، وبعث أبرهة رجلاً من الحبشة يقال له الأسود بن مسعود على مقدمة خيله ، وأمره بالغارة على نعم الناس ، فجمع الأسود أموال أصحاب الحرم ، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير ، ثم إن أبرهة أرسل بحناطة الحميري إلى أهل مكة ، وقال له : سل عن شريفها ، ثم أبلغه ما أرسلك به إليه أخبره أني لم آت لقتال ، إنما جئت لأهدم هذا البيت ، فانطلق حتى دخل مكة ، فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال له إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال ، إلا أن تقاتلوه ، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم ، فقال عبد المطلب : ما له عندنا قتال ولا لنا به يد إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له ، فإن هذا بيت الله الحرام ، وبيت إبراهيم خليله عليه الصّلاة والسّلام ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه وإن يخل بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به قوة قال فانطلق معي إلى الملك ، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها ، وركب معه بعض بنيه حتى قدم على العسكر ، وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب ، فأتاه فقال : يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ قال فما غناء رجل أسير لا يأمن من أن يقتل بكرة أو عشية ، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل ، فإنه لي صديق ، فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ، ويعظم خطرك ، ومنزلتك عنده قال فأرسل إلى أنيس ، فأتاه فقال ، له إن هذا سيد قريش ، وصاحب عير مكة يطعم النّاس في السّهل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، وقد أصاب الملك له مائتي بعير فإن استطعت أن تنفعه عنده ، فانفعه فإنه صديق لي أحب ما وصل إليه من الخير ، فدخل أنيس على أبرهة فقال : أيها الملك هذا سيد قريش ، وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السّهل ، والوحوش في رؤوس الجبال يستأذن عليك ، وأنا أحب أن تأذن له ، فيكلمك فقد جاء غير ناصب ، ولا مخالف عليك ، فأذن له وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً ، وسيماً فلما رآه أبرهة عظمه ، وأكرمه ، وكره أن يجلس معه على السرير وأن يجلس تحته ، فهبط إلى البساط فجلس عليه ، ثم دعاه ، فأجلسه معه ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك إلى الملك فقال الترجمان : ذلك له فقال له عبد المطلب حاجتي إلى الملك أن يرد عليّ مائتي بعير أصابها لي ، فقال أبرهة لترجمانه قل له كنت أعجبتني حين رأيتك ، ولقد زهدت الآن فيك قال لم قال جئت إلى بيت هو دينك ، ودين آبائك ، وهو شرفكم ، وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه ، وتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، قال عبد المطلب : أنا رب هذه الإبل ، ولهذا البيت رب سيمنعه منك ، قال ما كان ليمنعه مني قال فأنت وذاك فأمر بإبله فردت عليه ، فلما ردت الإبل على عبد المطلب خرج ، فأخبر قريشاً الخبر وأمرهم أن يتفرقوا في الشّعاب ويتحرزوا في رؤوس الجبال تخوفاً عليهم من معرة الحبش ، ففعلوا وأتى عبد المطلب الكعبة ، وأخذ حلقة الباب وجعل يقول :(6/306)
يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا
وقال أيضاً :
لا هم إن العبد يم ... نع رحله فامنع رحالك
وانصر على آل الصلي ... ب وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدواً محالك
جروا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم ... جهلاً وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمر ما بدا لك
ثم ترك عبد المطلب الحلقة ، وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه ، وأصبح أبرهة بالمغمس ، وقد تهيأ للدخول ، وهيأ جيشه ، وهيأ فيله ، وكان فيلاً لم ير مثله في العظم والقوة ، ويقال كان معه اثنا عشر فيلاً ، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ، ثم أخذ بإذنه ، وقال له أبرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت ، فإنك ببلد الله الحرام ، فبرك الفيل ، فبعثوه فأبى ، فضربوه بالمعول في رأسه ، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ، ومرافقه ، ففزعوه ليقوم فأبى فوجهوه راجعاً إلى اليمن ، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ، ففعل مثل ذلك ، ووجوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك فصرفوه إلى الحرم ، فبرك وأبى أن يقوم ، وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل ، وأرسل الله عزّ وجلّ طيراً من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره أمثال الحمص ، والعدس ، فلما غشين القوم أرسلنها عليهم ، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك ، وليس كل قوم أصابت وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاؤوا منه ويتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن ، ونفيل ينظر إليهم من بعض الجبال وفي ذلك يقول نفيل :
فإنك ما رأيت ولن تراه ... لدى حين المحصب ما رأينا
حمدت الله إذ أبصرت طيراً ... وحصب حجارة تلقى علينا
وكلهم يسائل عن نفيل ... كأن عليَّ للحبشان دينا
وخرج القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون في كل منهل ، وبعث الله على أبرهة داء في جسده ، فجعل تتساقط أنامله كلما سقطت أنملة تبعتها مدة من قيح ، ودم ، فانتهى إلى صنعاء ، وهو مثل فرخ الطّير ، فيمن بقي من أصحابه ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، ثم هلك قال الواقدي : وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم ، والفيل الآخر شجعوا ، فحصبوا أي رموا بالحصباء ، وقال بعضهم أنفلت أبو يكسوم وزير أبرهة ، وتبعه طير ، فحلّق فوق رأسه حتى بلغ النّجاشي فقص عليه القصة ، فلما أنهاها وقع عليه حجر من ذلك الطير ، فخر ميتاً بين يدي النجاشي قال أمية بن أبي الصلت :
إن آيات ربنا ساطعات ... ما يماري فيهن إلا الكفور
حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يعوي كأنه معقور
وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت : رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة يستطعمان الناس ، وزعم مقاتل بن سليمان أن السبب الذي جرأ أصحاب الفيل ، أن فئة من قريش أججوا ناراً حين خرجوا تجاراً إلى أرض النّجاشي ، فدنوا من ساحل البحر ، وثم بيعة للنَّصارى تسميها قريش الهيكل ، فنزلوا فأججوا النّار واشتووا ، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف ، فهاجت الريح ، فاضطرم الهيكل ناراً فانطلق الصّريخ إلى النّجاشي فأسف غضباً للبيعة ، فبعث أبرهة لهدم الكعبة ، وكان في مكة يومئذ أبو مسعود الثقفي وكان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتو بمكة ، وكان رجلاً نبيهاً نبيلاً تستقيم الأمور برأيه ، وكان خليلاً لعبد المطلب فقال له عبد المطلب : ماذا عندك فهذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك؟ فقال أبو مسعود اصعد بنا إلى حراء ، فصعد الجبل فقال أبو مسعود لعبد المطلب اعمد إليّ مائة من الإبل ، فاجعلها لله وقلدها نعلاً ، واجعلها لله ثم أبثثها في الحرم ، فلعل بعض السودان يعقر منها شيئاً ، فيغضب رب هذا البيت ، فيأخذهم ففعل ذلك عبد المطلب فعمد القوم إلى تلك الإبل ، فحملوا عليها ، وعقروا بعضها وجعل عبد المطلب يدعو فقال أبو مسعود إن لهذا البيت رباً يمنعه فقد نزل تبع ملك اليمن صحن هذا البيت ، وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه ، وأظلم عليه ثلاثة أيام ، فلما رأى تبع ذلك كساه القباطي البيض ، وعظمه ونحر له جزوراً ، فانظر نحو البحر ، فنظر عبد المطلب فقال : أرى طيراً بيضاء نشأت من شاطئ البحر فقال ارمقها ببصرك أين قرارها قال أراها قد دارت على رؤوسنا ، قال : هل تعرفها؟ قال والله ما أعرفها ما هي بنجدية ، ولا بتهامية ، ولا عربية ، ولا شامية ، قال : ما قدرها؟ قال : أشباه اليعاسيب في مناقيرها حصى ، كأنها حصى الخذف قد أقبلت كالليل يتبع بعضها بعضاً أمام كل رفقة طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق ، فجاءت حتى إذا حاذت عسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم ، فلما توافت الرجال كلهم أهالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها مكتوب على كل حجر اسم صاحبه ، ثم إنها رجعت من حيث جاءت فلما أصبحا انحطا من ذورة الجبل ، فمشيا حتى صعدا ربوة ، فلم يؤنسا أحداً ثم دنوا فلم يسمعا حساً فقال بات القوم سامرين ، فأصبحوا نياماً فلما دنوا من عسكر القوم فإذا هم خامدون وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى تقع في دماغه ، وتخرق الفيل والدّابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه ، فعمد عبد المطلب ، فأخذ فأساً من فؤوسهم ، فحفر حتى أعمق في الأرض ، فملأه من الذهب الأحمر ، والجواهر ، وحفر لصاحبه مثله فملاه ثم قال لأبي مسعود اختر إن شئت حفرتي وإن شئت حفرتك ، وإن شئت فهما لك معاً فقال أبو مسعود فاختر لي على نفسك ، فقال عبد المطلب إني أرى أجود المتاع في حفرتي فهي لك وجلس كل واحد منهما على حفرته ونادى عبد المطلب في الناس فتراجعوا ، وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ، وساد عبد المطلب بذلك قريشاً ، وأعطته القادة فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في أهليهما في غنى من ذلك المال ، ودفع الله عزّ وجلّ عن كعبته ، واختلفوا في تاريخ عام الفيل ، فقيل كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة وقيل بثلاث وعشرين سنة ، والأصح الذي عليه الأكثرون من علماء السير ، والتواريخ ، وأهل التفسير أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يقولون ولد عام الفيل ، وجعلوه تاريخاً لمولده صلى الله عليه وسلم وأما التّفسير فقوله عزّ وجلّ { ألم تر } أي ألم تعلم ، وذلك لأن هذه الواقعة ك انت قبل مبعثه بزمان طويل إلا أن العلم بها كان حاصلاً عنده لأن الخبر بها كان مستفيضاً معروفاً بمكة وإذا كان كذلك فكأنه صلى الله عليه وسلم علمه وشاهده يقيناً ، فلهذا قال تعالى { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } ، قيل كان معهم فيل واحد ، وقيل كانوا فيلة ثمانية ، وقيل اثني عشر وإنما وحده لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم الذي كان يقال له محمود ، وقيل وإنما وحده لو فاق الآي ، وفي قصة أصحاب الفيل دلالة عظيمة على قدرة الله تعالى وعلمه ، وحكمته إذ يستحيل في العقل أن طيراً تأتي من قبل البحر تحمل حجارة ترمي بها ناساً مخصوصين ، وفيها دلالة عظيمة على شرف محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزة ظاهرة له وذلك أن الله تعالى إنما فعل ذلك لنصر من ارتضاه ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الدّاعي إلى توحيده ، وإهلاك من سخط عليه ، وليس ذلك لنصرة قريش ، فإنهم كانوا كفاراً لا كتاب لهم ، والحبشة لهم كتاب فلا يخفى على عاقل ، أن المراد بذلك نصر محمد صلى الله عليه وسلم فكأنه تعالى قال أنا الذي فعلت ما فعلت بأصحاب الفيل تعظيماً لك ، وتشريفاً لقدومك ، وإذ قد نصرتك قبل قدومك فكيف أتركك قبل ظهورك .(6/307)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
{ ألم يجعل كيدهم } يعني مكرهم ، وسعيهم في تخريب الكعبة { في تضليل } أي تضييع وخسار ، وإبطال ما أرادوا أضل كيدهم ، فلم يصلوا إلى ما أرادوا من تخريب البيت ، بل رجع كيدهم عليهم ، فخربت كنيستهم ، واحترقت ، وهلكوا وهو قوله تعالى : { وأرسل عليهم طيراً أبابيل } يعني طيراً كثيرة متفرقة يتبع بعضها بعضاً ، وقيل أبابيل أقاطيع كالإبل المؤبلة ، وقيل أبابيل جماعات في تفرقة قيل لا واحد لها من لفظها ، وقيل واحدها أبالة ، وقيل أبيل ، وقيل أبول مثل عجول قال ابن عباس : كانت طيراً لها خراطيم ، كخراطيم الطير ، وأكف كأكف الكلاب ، وقيل رؤوس كرؤوس السباع ، وقيل لها أنياب كأنياب السباع ، وقيل طير خضر لها مناقير صفر ، وقيل طير سود جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً مع كل طائر ثلاثة أحجار ، حجران في رجليه ، وحجر في منقاره لا تصيب شيئاً إلا هشمته ، ووجه الجمع بين هذه الأقاويل في اختلاف أجناس هذه الطير أنه كانت فيها هذه الصفات كلها فبعضها على ما حكاه ابن عباس ، وبعضها على ما حكاه غيره ، فأخبر كل واحد بما بلغه من صفاتها ، والله أعلم .
قوله عزّ وجلّ : { ترميهم بحجارة } قال ابن مسعود : صاحت الطّير ، ورمتهم بالحجارة ، وبعث الله ريحاً ، فضربت بالحجارة ، فزادتها شدة ، فما وقع حجر منها على رجل إلا خرج من الجانب الآخر ، وإن وقع على رأسه خرج من دبره { من سجيل } قيل السّجيل اسم علم للدّيوان الذي كتب فيه عذاب الكفار ، واشتقاقه من الإسجال ، وهو الإرسال ، والمعنى ترميهم بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون بما كتب الله في ذلك الكتاب ، وقيل معناه من طين مطبوخ كما يطبخ الأجر ، وقيل سجيل حجر ، وطين مختلط ، وأصله سنك ، وكل فارسي معرب ، وقيل سجيل الشّديد . { فجعلهم كعصف مأكول } يعني كزرع وتبن أكلته الدّواب ، ثم راثته ، فيبس ، وتفرقت أجزاؤه شبه تقطع أوصالهم ، وتفرقها بتفرق أجزاء الرّوث ، وقيل العصف ورق الحنطة ، وهو التبن ، وقيل كالحب إذا أكل ، فصار أجوف وقال ابن عباس : هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف ، والله تعالى أعلم .(6/308)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
قوله عزّ وجلّ : { لإيلاف قريش } اختلفوا في هذه اللام ، فقيل هي متعلقة بما قبلها وذلك أن الله تعالى ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم بما صنع بالحبشة ، فقال فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، أي هلك أصحاب الفيل لتبقى قريش ، وما ألفوا من رحلة الشتاء والصيف ، ولهذا جعل أبي بن كعب هذه السّورة وسورة الفيل واحدة ولم يفصل بينهما في مصحفه ببسم الله الرحمن الرحيم والذي عليه الجمهور من الصحابة وغيرهم ، وهو المشهور أن هذه السّورة منفصلة عن سورة الفيل وأنه لا تعلق بينهما وأجيب عن مذهب أبي بن كعب في جعل هذه السّورة ، والسورة التي قبلها سورة واحدة بأن القرآن كالسورة الواحدة يصدق بعضه بعضاً ويبين بعضه معنى بعض وهو معارض أيضاً بإطباق الصّحابة ، وغيرهم على الفصل بينهما ، وأنهما سورتان فعلى هذا القول اختلفوا في العلة الجالبة للام في قوله { لإيلاف } ، فقيل هي لام التعجب ، أي اعجبوا الإيلاف قريش رحلة الشّتاء والصّيف ، وتركهم عبادة رب هذا البيت ، ثم أمرهم بعبادته ، فهو كقوله على وجه التعجب اعجبوا لذلك ، وقيل هي متعلقة بما بعدها تقديره ، فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، أي ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة والإيلاف من ألفت الشيء إلفاً وهو بمعنى الإئتلاف فيكون المعنى لإيلاف قريش هاتين الرحلتين فتتصلا ولا تتقطعا ، وقيل هو من ألفت كذا ، أي لزمته وألفنيه الله ألزمنيه الله ، وقريش هم ولد النضر بن كنانة ، فكل من ولده النضر ، فهو من قريش ، ومن لم يلده النضر ، فليس بقرشي ( م ) عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم » ( م ) عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « الناس تبع لقريش في الخير والشر » ( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إن الناس تبع لقريش في هذا الشّأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم » عن سعيد بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من أراد هوان قريش أهانه الله » أخرجه التّرمذي وقال حديث حسن غريب عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اللهم أذقت أول قريش نكالاً ، فأذق آخرهم نوالاً » أخرجه التّرمذي وقال حديث حسن صحيح غريب .
النكال : العذاب ، والمشقة ، والشّدة والنّوال : العطاء ، والخير ، وسموا قريشاً من القرش ، والتقريش وهو الجمع ، والتكسب ، يقال فلان يقرش لعياله ، ويقترش لهم ، أي يكتسب وذلك لأن قريشاً كانوا قوماً تجاراً وعلى جمع المال ، والأفضال حراصاً ، وقال أبو ريحانة سأل معاوية عبد الله بن عباس لم سميت قريش قريشاً قال لدابة تكون في البحر هي من أعظم دوابه يقال لها القرش لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته ، وهي تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى ، قال وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها قال نعم وأنشده شعر الجمحي .(6/309)
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
وقوله تعالى : { إيلافهم } هو بدل من الأول تفخيماً لأمر الإيلاف ، وتذكيراً لعظم المنة فيه . { رحلة الشتاء والصيف } قال ابن عباس كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف فأمرهم الله تعالى أن يقيموا بالحرم ، ويعبدوا رب هذا البيت ، وقال الأكثرون كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة : رحلة في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ ، ورحلة في الصيف إلى الشام ، وكان الحرم وادياً مجدباً لا زرع فيه ، ولا ضرع ، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ، وكانوا لا يتعرض لهم أحد بسوء ، وكانوا يقولون قريش سكان حرم الله وولاة بيته وكانت العرب تكرمهم وتعزهم ، وتعظمهم لذلك ، فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ، فشق عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام ، فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن ، فحملوا الطعام إلى مكة ، أهل الساحل حملوا طعامهم في البحر على السفن إلى مكة وأهل البر حملوا على الإبل والحمير فألقى أهل الساحل بجدة وأهل البر بالمحصب وأخصب الشام فحملوا الطعام إلى مكة وألفوا بالأبطح فامتار أهل مكة من قريب ، وكفاهم الله مؤنة الرحلتين جميعاً وقال ابن عباس : كانوا في ضر ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين ، فكانوا يقسمون ربحهم بين الغني ، والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم ، وقال الكلبي : كان أول من حمل السمراء يعني القمح إلى الشام ، ورحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف وفيه يقول الشاعر :
قل للّذي طلب السّماحة والنّدى ... هلاّ مررت بآل عبد مناف
هلا مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من ضر ومن إكفاف
الرّائشين وليس يوجد رائش ... والقائلين هلم للأضياف
والخالطين غنيهم بفقيرهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي
والقائمين بكل وعد صادق ... والرّاحلين برحلة الإيلاف
عمرو العلا هشيم الثّريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
سفرين سنهما له ولقومه ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف
قوله عزّ وجلّ : { فليعبدوا رب هذا البيت } يعني الكعبة ، وذلك أن الإنعام على قسمين أحدهما : دفع ضر ، وهو ما ذكره في سورة الفيل ، والثاني جلب نفع ، وهو ما ذكره في هذه السّورة ، ولما دفع الله عنهم الضّر ، وجلب لهم النفع ، وهما نعمتان عظيمتان أمرهم بالعبودية ، وأداء الشكر ، وقيل إنه تعالى لما كفاهم أمر الرّحلتين أمرهم أن يشتغلوا بعبادة رب هذا البيت . فإنه هو { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } ومعنى الذي أطعمهم من جوع ، أي من بعد جوع بحمل الميرة إليهم من البلاد في البر والبحر ، وقيل في معنى الآية أنهم لما كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم دعا عليهم ، فقال اللّهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف فاشتد عليهم القحط ، وأصابهم الجوع ، والجهد ، فقالوا : يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخصبت البلاد ، وأخصب أهل مكة بعد القحط ، والجهد ، فذلك قوله تعالى { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } ، أي بالحرم وكونهم من أهل مكة حتى لم يتعرض لهم أحد في رحلتهم ، وقيل آمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدهم الجذام ، وقيل آمنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالإسلام والله أعلم .(6/310)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
قوله عزّ وجلّ : { أرأيت الذي يكذب بالدين } قيل نزل في العاص بن وائل السّهمي ، وقيل في الوليد بن المغيرة ، وقيل في عمرو بن عائذ المخزومي ، وفي رواية عن ابن عباس أنها في رجل من المنافقين ، ومعنى الآية هل عرفت الذي يكذب بيوم الجزاء ، والحساب ، فإن لم تعرفه .(6/311)
فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
{ فذلك الذي يدع اليتيم } ولفظ أرأيت استفهام ، والمراد به المبالغة في التّعجب من حال هذا المكذب بالدّين وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل هو خطاب لكل واحد ، والمعنى أرأيت يا أيها الإنسان أو يا أيّها العاقل هذا الذي يكذب بالدين بعد ظهور دلائله ، ووضوح بيانه ، فكيف يليق به ذلك الذي يدع اليتيم ، أي يقهره ، ويدفعه عن حقه ، والدع الدفع بعنف ، وجفوة ، والمعنى أنه يدفعه عن حقه ، وماله بالظلم ، وقيل يترك المواساة له وإن لم تكن المواساة واجبة ، وقيل يزجره ، ويضربه ، ويستخف به ، وقرىء يدعو بالتخفيف ، أي يدعوه ليستخدمه قهراً واستطالة . { ولا يحض على طعام المسكين } أي لا يطعمه ولا يأمر بإطعامه لأنه يكذب بالجزاء ، وهذا غاية البخل ، لأنه يبخل بماله وبمال غيره بالإطعام .
قوله تعالى : { فويل للمصلين } يعني المنافقين ، ثم نعتهم فقال تعالى : { الذين هم عن صلاتهم ساهون } روى البغوي بسنده عن سعد قال « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون قال إضاعة الوقت » وقال ابن عباس : هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس . ويصلون في العلانية إذا حضروا معهم لقوله تعالى { الذين هم يراؤون } وقال تعالى في وصف المنافقين { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس } وقيل ساه عنها لا يبالي صلى أو لم يصل ، وقيل لا يرجون لها ثواباً إن صلوا ولا يخافون عليها عقاباً إن تركوا ، وقيل غافلون عنها ويتهاونون بها ، وقيل هم الذين إن صلوا صلوها رياء وإن فاتتهم لم يندموا عليها وقيل هم الذين لا يصلونها لمواقيتها ، ولا يتمون ركوعها ، ولا سجودها ، وقيل لما قال تعالى عن صلاتهم ساهون بلفظة عن علم أنها في المنافقين ، والمؤمن قد يسهو في صلاته والفرق بين السهوين أن سهو المنافق هو أن لا يتذكرها ، ويكون فارغاً عنها ، والمؤمن إذا سها في صلاته تداركه في الحال ، وجبره بسجود السهو فظهر الفرق بين السّهوين ، وقيل السّهو عن الصّلاة هو أن يبقى ناسياً لذكر الله في جميع أجزاء الصّلاة ، وهذا لا يصدر إلا من المنافق الذي يعتقد أنه لا فائدة في الصّلاة ، فأما المؤمن الذي يعتقد فائدة صلاته ، وأنها عليه واجبة ، ويرجو الثواب على فعلها ، ويخاف العقاب على تركها ، فقد يحصل له سهو في الصّلاة يعني أن يصير ساهياً في بعض أجزاء الصّلاة بسبب وارد يرد عليه بوسوسة الشّيطان أو حديث النّفس ، وذلك لا يكاد يخلو منه أحد ، ثم يذهب ذلك الوارد عنه ، فثبت بهذا الفرق أن السّهو عن الصّلاة من أفعال المنافق والسّهو في الصّلاة من أفعال المؤمن . { الذين هم يراؤون } يعني يتركون الصّلاة في السّر ويصلونها في العلانية ، والفرق بين المنافق ، والمرائي أن المنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان ، والمرائي يظهر الأعمال مع زيادة الخشوع ليعتقد فيه من يراه أنه من أهل الدّين والصّلاح أما من يظهر النّوافل ليقتدى به ويأمن على نفسه من الرّياء ، فلا بأس بذلك وليس بمراء ثم وصفهم بالبخل .(6/312)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قوله عزّ وجلّ : { إنا أعطيناك الكوثر } نهر في الجنة أعطاه الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقيل الكوثر القرآن العظيم ، وقيل هو النّبوة ، والكتاب ، والحكمة ، وقيل هو كثرة أتباعه ، وأمته ، وقيل الكوثر الخير الكثير كما فسره ابن عباس ( خ ) عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه ، قال أبو بشر قلت لسعيد بن جبير أن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة ، فقال سعيد النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه ، وأصل الكوثر فوعل من الكثرة ، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير القدر والخطر كوثراً ، وقيل الكوثر الفضائل الكثيرة التي فضل بها على جميع الخلق فجميع ما جاء في تفسير الكوثر فقد أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم أعطي النبوة ، والكتاب ، والحكمة ، والعلم ، والشفاعة ، والحوض المورود ، والمقام المحمود ، وكثرة الأتباع ، والإسلام ، وإظهاره على الأديان كلها ، والنّصر على الأعداء ، وكثرة الفتوح في زمنه وبعده إلى يوم القيامة .
وأولى الأقاويل في الكوثر الذي عليه جمهور العلماء ، أنه نهر في الجنة كما جاء مبيناً في الحديث ( ق ) عن أنس قال « بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءه ثم رفع رأسه متبسماً ، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله قال أنزلت عليَّ آنفاً سورة ، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر } ، ثم قال أتدرون ما الكوثر ، قلنا الله ورسوله أعلم قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عزّ وجلّ فيه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة . آنيته عدد نجوم السماء ، فيختلج العبد منهم ، فأقول رب إنه من أمتي . فيقول ما تدري ما أحدث بعدك » لفظ مسلم وللبخاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لما عرج بي إلى السّماء أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف ، فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فإذا طينه أو طينته مسك أذفر » شك الراوي عن أنس رضي الله عنه قال « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر قال ذلك نهر أعطانيه الله يعني في الجنة أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزور ، قال عمر إن هذه لناعمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلتها أنعم منها » أخرجه التّرمذي ، وقال حديث حسن صحيح .
عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر ، والياقوت تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج »(6/313)
أخرجه التّرمذي ، وقال حديث حسن صحيح ( خ ) « عن عامر بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال سألت عائشة عن قوله تعالى { إنا أعطيناك الكوثر } ، فقالت الكوثر نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم شاطئاه در مجوف آنيته كعدد نجوم السماء » ( ق ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها لا يظمأ أبداً » زاد في رواية « وزواياه سواء » ( ق ) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « أمامكم حوضي ما بين جنبيه كما بين جربا وأذرح » قال بعض الرواة هما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام ، وفي رواية « فيه أباريق كنجوم السّماء من ورده فشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً » ( ق ) عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ما بين ناحيتي وفي رواية لابتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة » وفي رواية « مثل ما بين المدينة وعمان » وفي رواية قال « إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن ، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء » ( م ) عن أبي ذر رضي الله عنه قال « قلت يا رسول الله ما آنية الحوض قال والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء ، وكواكبها ألا في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ عرضه ، مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل » ( م ) عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إني لبعقر حوضي أذود الناس لأهل اليمن أضرب بعصاي ، أي حتى يرفض عليهم ، فسئل عن عرضه فقال من مقامي إلى عمان وسئل عن شرابه فقال أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما : من ذهب ، والآخر من الورق » ( ق ) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنا فرطكم على الحوض وليرفعن إلى رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني ، فأقول أي ربي أصحابي ، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك » ( ق ) عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « قال ليردن عليَّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني ، فلأقولن أي رب أصحابي أصحابي فليقالن لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك »(6/314)
وفي رواية « يردن عليَّ ناس من أمتي الحديث » وفي آخره « فأقول سحقاً لمن بدل بعدي » ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « يرد عليَّ يوم القيامة رهطان من أصحابي أو قال من أمتي فيجلون عن الحوض ، فأقول رب أصحابي ، فيقول إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى » ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ترد عليَّ أمتي الحوض ، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله قالوا أيا نبي الله تعرفنا قال نعم لكم سيما ليست لأحد غيركم تردون على غرّاً محجلين من آثار الوضوء وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون إليّ فأقول يا رب هؤلاء من أصحابي فيجيبني ملك فيقول وهل تدري ما أحدثوا بعدك » ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « والذي نفسي بيده لأذودن رجالاً عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض » ( م ) عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إن حوضي لأبعد من أيلة إلى عدن ، والذي نفسي بيده لأذودن عنه الرجل كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن إبله قالوا يا رسول الله وتعرفنا؟ قال نعم تردون على غرّاً محجلين من آثار الوضوء ليس لأحد غيركم » عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلاً فقال ما أنتم إلا جزء من مائة ألف جزء ممن يرد على الحوض ، قيل كم كنتم يومئذ قال سبعمائة أو ثمانمائة » أخرجه أبو داود .
( فصل في شرح هذه الأحاديث وذكر ما يتعلق بالحوض )
قال الشّيخ محيي الدّين النّووي : قال القاضي عياض أحاديث الحوض صحيحة ، والإيمان به فرض ، والتصديق به من الإيمان ، وهو على ظاهره عند أهل السنة ، والجماعة لا يتأول ، ولا يختلف فيه ، وحديثه متواتر النقل رواه الخلائق من الصحابة ، فذكره مسلم من رواية ابن عمر وأبي سعيد ، وسهل بن سعد ، وجندب بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر وعائشة وأم سلمة ، وعقبة بن عامر ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وحارثة بن وهب ، والمستورد وأبي ذر وثوبان ، وأنس ، وجابر بن سمرة ، ورواه غير مسلم من رواية أبي بكر الصّديق وزيد بن أرقم وأبي أمامة وعبد الله بن زيد وأبي برزة وسويد بن حبلة وعبد الله بن الصنابحي والبراء بن عازب وأسماء بنت أبي بكر الصّديق وخولة بنت قيس وغيرهم ، قال الشيخ محيي الدّين ، ورواه البخاري ومسلم أيضاً من رواية أبي هريرة ورواه غيرهما في رواية عمر بن الخطاب وعائذ بن عمرو وآخرين ، وقد جمع ذلك كله الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه البعث والنشور بأسانيده وطرقه المتكاثرة قلت وقد اتفقا على إخراج حديث الحوض وعن جماعة ممن تقدم ذكرهم من الصّحابة على ما سبق ذكره في الأحاديث ، وفيه بيان ما اتفقا عليه ، وانفرد به كل واحد منهما ، وأخرجا أيضاً حديث الحوض عن أسماء بنت أبي بكر الصّديق وذكرها القاضي عياض ، فيمن خرج له في غير الصحيحين قال القاضي عياض وفي بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواتراً ، وأما صفة الحوض ومقداره فقد قال في رواية(6/315)
« حوضي مسيرة شهر وفي رواية ما بين جنبيه كما بين جرباء ، وأذرح ، وفي رواية كما بين أيلة ، وصنعاء اليمن ، وفي رواية عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة ، وفي رواية إن حوضي لأبعد من أيلة إلى عدن » فهذا الاختلاف في هذه الروايات في قدر الحوض ليس موجباً للاضطراب فيها لأنه لم يأت في حديث واحد بل في أحاديث مختلفة الرواة عن جماعات من الصّحابة سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن مختلفة ضربها النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لبعد أقطار الحوض وسعته وقرب ذلك على أفهام السامعين لبعد ما بين هذه البلاد المذكورة لأعلى التقدير الموضوع للتحديد بل لإعلام السامعين عظم بعد المسافة وسعة الحوض وليس في ذكر القليل من هذه المسافة منع من الكثير ، فإن الكثير ثابت على ظاهره ، وصحت الرواية به ، والقليل داخل فيه فلا معارضة ، ولا منافاة بينهما وكذلك القول في آنية الحوض من أن العدد المذكور في الأحاديث على ظاهره ، وأنها أكثر عدداً من نجوم السّماء ولا مانع يمنع من ذلك إذ قد وردت الأحاديث الصّحيحة الثّابتة بذلك وكذلك القول في الواردين إلى الحوض الشّاربين منه ، وكثرتهم وقوله صلى الله عليه وسلم « ما أنتم إلا جزء من مائة ألف جزء ممن يرد الحوض » لم يرد به الحصر بهذا العدد المذكور وإنما ضربه مثلاً لأكثر العدد المعروف للسّامعين ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم « من ورد شرب منه » فهذا صريح في أن جميع الواردين يشربون ، وإنما يمنع منه الذين يزدادون ، ويمنعون الورود لارتدادهم ، وتبديلهم وهو قوله صلى الله عليه وسلم « فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمتي ، فيقول ما تدري ما أحدث بعدك ، وفي رواية وليرفعن إلى رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني ، فأقول أي رب أصحابي ، فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك » ونحو هذا من الروايات المذكورة في الأحاديث السابقة ، وهذا مما اختلف العلماء في معناه ، وفي المراد به من هم ، فقيل المراد بهم المنافقون ، والمرتدون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنهم إذا حشروا عرفهم النبي صلى الله عليه وسلم للسيما التي عليهم فيناديهم ، فيقال له ليس هؤلاء ممن وعدت بهم إنهم قد بدلوا بعدك ، أي لم يكونوا على ما ظهر من إسلامهم ، وقيل المراد بهم من أسلموا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتدوا بعده في زمن أبي بكر الصّديق وهم الذين قاتلهم على الردة ، وهم أصحاب مسيلمة الكذاب ، فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يعرفه من إيمانهم في حياته فيقال له قد ارتدوا بعدك ، وقيل المراد بهم أصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام ، وأصحاب المعاصي ، والكبائر الذين ماتوا على التّوحيد ، ولم يتوبوا من بدعتهم ومعاصيهم فعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء المطرودين عن الحوض بالنّار بل يجوز أن يزادوا عنه عقوبة لهم ثم يرحمهم الله ، فيدخلهم الجنة من غير عذاب ، وقال ابن عبد البر كل من أحدث في الدين كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء فهو من المطرودين عن الحوض قال وكذلك الظلمة المسرفون في الجور ، وغمط الحق ، والمعلنون بالكبائر فكل هؤلاء يخاف أن يكونوا ممن عنى بهذا الحديث وقوله من شرب منه لم يظمأ أبداً قال القاضي عياض : ظاهر هذا الحديث أن الشرب منه يكون بعد الحساب ، والنجاة من النار ، ويحتمل أن من شرب منه من هذه الأمة وقدر عليه دخول النار لا يعذب فيها بالظمأ بل يكون عذابه بغير ذلك لأن ظاهر الحديث أن جميع الأمة تشرب منه إلا من ارتد ، وصار كافراً ، وقيل إن جميع المؤمنين يأخذون كتبهم بأيمانهم ، ثم يعذب الله من شاء من عصاتهم ، وقيل إنما يأخذ بيمينه الناجون منهم خاصة ، والشرب من الحوض مثله .(6/316)
( شرح غريب ألفاظ الأحاديث )
قوله فيختلج العبد منهم ، أي ينتزع ويجذب منهم ، قوله ما بين جنبيه كما بين جربا ، وأذرح أما جربا فبجيم ثم راء ساكنة ثم باء موحدة ثم ألف مقصورة ، ووقع عند بعض رواة البخاري فيها المد والقصر أولى ، وهي قرية من الشام ، وأما أذرح فبهمزة ثم ذال معجمة ثم راء ثم حاء مهملة ، وهي في طرف الشام قريب من الشّوبك ، وأما عمان فبفتح العين وتشديد الميم بليدة بالبلقاء من أرض الشّام ، وأما أيلياء فبفتح الهمزة وإسكان المثناة تحت وفتح اللام مدينة معروفة في طرف الشام على ساحل البحر متوسطة بين دمشق ومصر بينها وبين المدينة نحو خمس عشرة مرحلة وبينها وبين مصر ثمان مراحل وإلى دمشق اثنا عشر مرحلة وهي آخر الحجاز وأول الشّام ، وأما صنعاء فهي قاعدة اليمن ، وأكبر مدنه ، وإنما قيد باليمن في الحديث لأن بدمشق موضعاً يعرف بصنعاء دمشق وقد تقدم الكلام على اختلاف هذه المسافات والجمع بين رواتها قوله يشخب فيه ميزابان هو بفتح الياء المثناة تحت وبالشين والخاء المعجمتين ، أي يسيل فيه وفي الحديث الآخر يغت بفتح الياء وبالغين المعجمة وكسرها ، وتشديد التاء المثناة فوق ، أي يدفق منه ميزابان تدفقاً شديداً متتابعاً قوله إني لبعقر حوضي هو بضم العين المهملة ، وإسكان القاف وهو موقف الإبل من الحوض إذا وردته للشرب ، وقيل هو مؤخر الحوض قوله أذود الناس ، أي أضرب الناس لأهل اليمن بعصاي حتى يرفض عليهم ، معناه أطرد الناس عنه غير أهل اليمن ، ومعنى يرفض أي يسيل عليهم ، وفيه منقبة عظيمة لأهل اليمن قوله أنا فرطكم على الحوض الفرط بفتح الفاء والراء هو الذي يتقدم على الواردين ليصلح لهم الحياض ، والدّلاء ونحوها من آلات الاستقاء ، والمعنى أنا سابقكم على الحوض كالمهيىء له قوله سحقاً ، أي بعداً وفيه دليل لمن قال إنهم أهل الردة إذ لا يقال للمؤمن سحقاً بل يشفع قلت في حديث أنس الأول دليل لمن يقول أن سورة الكوثر مدنية وهو الأظهر لقوله بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذا أغفى إغفاءه يعني نام نومة ثم رفع رأسه متبسماً والله أعلم .(6/317)
قوله تعالى : { فصل لربك وانحر } معناه أن ناساً كانوا يصلون لغير الله تعالى وينحرون لغير الله فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي له وينحر له متقرباً إلى ربه بذلك ، وقيل معناه فصل لربك صلاة العيد يوم النحر ، وانحر نسكك ، وقيل معناه فصل الصّلاة المفروضة بجمع ، وانحر البدن بمنى وقال ابن عباس : { فصل لربك وانحر } أي ضع يدك اليمنى على اليسرى في الصّلاة عند النّحر ، وقيل هو رفع اليدين مع التكبير إلى النّحر حكاه ابن الجوزي ، ومعنى الآية قد أعطيتك ما لا نهاية لكثرته من خير الدّارين وخصصتك بما لم أخص به أحداً غيرك ، فاعبد ربك الذي أعطاك هذا العطاء الجزيل ، والخير الكثير ، وأعزك ، وشرفك على كافة الخلق ، ورفع منزلتك فوقهم فصل له واشكره على إنعامه عليك ، وانحر البدن متقرباً إليه { إن شانئك } يعني عدوك ومبغضك { هو الأبتر } يعني هو الأذل المنقطع دابره نزلت في العاص بن وائل السهمي وذلك أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً من المسجد وهو داخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد فلما دخل العاص قالوا له من الذي كنت تتحدث معه فقال ذلك الأبتر يعني به النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد توفي ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة ، وقيل إن العاص بن وائل كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له ، فإذا هلك انقطع ذكره ، فأنزل الله تعالى هذه السّورة وقال ابن عباس : نزلت في كعب بن الأشرف ، وجماعة من قريش ، وذلك أنه لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل المدينة فنحن خير أم هذا الصّنبور المنبتر من قومه ، فقال أنتم فنزلت فيه(6/318)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
قوله عزّ وجلّ : { قل يا أيها الكافرون } إلى آخر السّورة نزلت في رهط من قريش منهم الحارث بن قيس السّهمي ، والعاص بن وائل السهمي ، والوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن عبد المطلب بن أسد ، وأمية بن خلف قالوا يا محمد هلم اتبع ديننا ونتبع دينك ، ونشركك في ديننا كله تعبد آلهتنا سنة ، ونعبد إلهك سنة فإن كان الذي جئت به خيراً كنا قد شركناك فيه ، وأخذنا حظنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيراً كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت بحظك منه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « معاذ الله أن أشرك به غيره » قالوا فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ، ونعبد إلهك قال « حتى أنظر ما يأتي من ربي » فأنزل الله { قل يا أيها الكافرون } إلى آخر السورة فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه أولئك الملأ من قريش ، فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السّورة فأيسوا منه عند ذلك وآذوه وأصحابه ، وقيل إنهم لقوا العباس ، فقالوا يا أبا الفضل لو أن ابن أخيك استلم بعض آلهتنا لصدقناه فيما يقول ، ولآمنّا بإلهه ، فأتاه العباس ، فأخبره بقولهم ، فنزلت هذه السّورة وقيل نزلت في أبي جهل والمستهزئين ومن لم يؤمن منهم .
ومعنى ذلك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بتبليغ الرّسالة بجميع ما أوحي إليه فلما قال الله تعالى { قل يا أيها الكافرون } أداه النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه من جبريل عليه السّلام فكأنه صلى الله عليه وسلم قال أمرت بتبليغ جميع ما أنزل الله عليّ ، وكان فيما نزل عليه { قل يا أيها الكافرون } وقيل إن النّفوس تأبى سماع الكلام الغليظ الشّنيع من النّظير ، ولا أشنع ولا أغلظ من المخاطبة بالكفر فكأنه صلى الله عليه وسلم قال ليس هذا من عندي إنما هو من عند الله عزّ وجلّ وقد أنزل الله عليَّ قل يا أيها الكافرون والمخاطبون بقوله يا أيّها الكافرون كفرة مخصوصون قد سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون { لا أعبد ما تعبدون } في معنى الآية قولان : أحدهما أنه لا تكرار فيها ، فيكون المعنى لا أعبد ما تعبدون لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم { ولا أنتم عابدون ما أعبد } أي ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلبه منكم من عبادة إلهي ثم قال { ولا أنا عابد ما عبدتم } أي ولست في الحال بعابد معبودكم { ولا أنتم عابدون ما أعبد } أي ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي وقيل يحتمل أن يكون الأول للحال ، والثاني للاستقبال ، وقيل يصلح كل واحد منهما أن يكون للحال ، والاستقبال ، ولكن يختص أحدهما بالحال والثاني للاستقبال لأنه أخبر أولاً عن الحال ثم أخبر ثانياً عن الاستقبال ، فيكون المعنى لا أعبد ما تعبدون في الحال ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال وما بمعنى من أي من أعبد ويحتمل أن تكون بمعنى الذي أي الذي أعبد .(6/319)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
قوله عزّ وجلّ : { إذا جاء نصر الله والفتح } يعني فتح مكة وكانت قصة الفتح على ما ذكره محمد بن إسحاق ، وأصحاب الأخبار « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشاً عام الحديبية اصطلحوا على وضع الحرب بين الناس عشرين سنة ، وقيل عشر سنين يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش ، وعهدهم دخل فيه . فدخلت بنو بكر في عهد قريش ، ودخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان بينهما شر قديم ثم إن بني بكر عدت على خزاعة ، وهم على ماءلهم أسفل مكة يقال له الوتير ، فخرج نوفل بن معاوية الدؤلي في بني الدئل من بني بكر حين بقيت خزاعة على الوتير ، فأصابوا منهم رجلاً ، وتحاوروا واقتتلوا ، وردفت قريش بني بكر بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش من قاتل باللّيل مستخفياً حتى حازوا خزاعة إلى الحرم ، وكان ممن أعان بني بكر من قريش على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم بكر بن صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو مع عبيدهم ، فلما انتهوا إلى الحرم قالت بنو بكر يا نوفل إنا قد دخلنا إلى إلهك فقال كلمة عظيمة إنه لا إله اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم ، أفلا تصيبون ثأركم فيه قال : فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة ، وكانوا في عقده خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان ذلك مما أهاج فتح مكة فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس فقال :
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتمو ولداً وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سيم خسفاً وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا ... إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعاً وسجدا
فانصر هداك الله نصراً أيدا ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » قد نصرت يا عمرو بن سالم ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء ، فقال إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب «(6/320)
، وهم رهط عمرو بن سالم ، ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبروه بما أصيب منهم ، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس « كأنكم بأبي سفيان قد جاء يشدد في العقد ويزيد في المدة » ، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشدد في العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا من الذي صنعوا ، فلما لقي أبو سفيان بديلاً قال : من أين أقبلت يا بديل وظن أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سرت في خزاعة في هذا الساحل ، وفي بطن هذا الوادي قال : وهل أتيت محمداً قال : لا فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان لئن كان جاء المدينة لقد علف منها النوى فعمد إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فقال أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه فقال : أي بنية أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني فقالت بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت رجل مشرك نجس لم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر ، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ، فلم يرد عليه شيئاً ، ثم ذهب إلى أبي بكر ، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما أنا بفاعل ، ثم أتى عمر بن الخطاب ، فكلمه فقال انا لا أشفع لك إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ، ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب ، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها الحسن بن علي غلاماً يدب بين يديها فقال : يا علي إنك أمس القوم بي رحماً ، وأقربهم مني قرابة ، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً ، فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ويحك يا أبا سفيان لقد أرى عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه . فالتفت إلى فاطمة وقال : يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر .(6/321)
فقالت : والله ما بلغ بني أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ ، فانصحني قال والله لا أعلم شيئاً يغني عنك ، ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك قال : وترى ذلك مغنياً عني شيئاً قال لا والله ما أظن ذلك ولكن لا أجد لك غير ذلك . فقام أبو سفيان في المسجد ، فقال أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره ، فانطلق فلما قدم على قريش قالوا ما رواءك قال : جئت محمداً فكلمته فوالله ما رد علي شيئاً ثم جئت ابن أبي قحافة ، فلم أجد عنده خيراً ، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى القوم ، ثم أتيت علي بن أبي طالب فوجدته ألين القوم وقد أشار عليّ بشيء صنعته فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئاً أم لا قالوا : وما ذاك قال أمرني أن أجير بين الناس ، ففعلت قالوا فهل أجاز ذلك محمد قال لا قالوا ويلك والله ما زاد على أن لعب بك فما يغني عنك ما قلت قال لا والله ما وجدت غير ذلك قال : وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة ، وهي تصلح بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أي بنية أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه ، قالت نعم . قال فأين ترينه يريد قالت لا والله ما أدري ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ، فتجهز الناس وكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدمت قصته في تفسير سورة الممتحنة ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره ، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عامداً إلى مكة لعشر بقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة فصام النبي صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه حتى إذا كان بالكديد بين عسفان ، وأمج أفطر ثم مضى حتى نزل بمر الظّهران في عشرة آلاف من المسلمين . ولم يتخلف من الأنصار والمهاجرين عنه أحد فلما نزل بمر الظّهران ، وقد عميت الأخبار عن قريش ، ولا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يدرون ما هو فاعل خرج في تلك اللّيالي أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به وقد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق قال ابن عشام : لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله ، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظّهران قال العباس بن عبد المطلب ليلتئذ وا صباح قريش ، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه الهلاك لقريش إلى آخر الدهر .(6/322)
قال فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، فخرجت عليها حتى جئت الأراك لعلي أجد حاطباً ، أو صاحب لبن أو ذا حاجة يدخل مكة ، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة قال العباس : فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء ، وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول ما رأيت كالليلة نيراناً قط . فقال بديل هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب ، فقال أبو سفيان خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها ، فعرفت صوته فقلت يا أبا حنظلة فعرف صوتي ، فقال يا أبا الفضل فقلت نعم قال ما لك فداك أبي وأمي قلت : ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين قال : وما الحيلة قلت والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك ، فاركب عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك فردفني ، ورجع صاحباه فخرجت أركض به على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما مررت بنار من نيران المسلمين ينظرون إليّ ، ويقولون عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال من هذا فقام إليّ فلما رأى أبا سفيان على عجز البغلة ، قال أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ، ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وركضت البغلة فسبقته كما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء قال فاقتحمت عن البغلة سريعاً ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل عليه عمر فقال : يا رسول الله هذا عدو الله أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ، ولا عهد فدعني أضرب عنقه قال فقلت يا رسول الله إني قد أجرته ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه ، وقلت والله لا ينجيك الليلة أحد دوني فلما أكثر عمر في شأنه قلت مهلاً يا عمر .(6/323)
فوالله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف ، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا ، فقال مهلاً يا عباس ، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم ، وما ذاك إلا لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب به يا عباس إلى رحلك ، فإذا أصبحت فائتني به قال فذهبت به إلى رحلي فبات عندي ، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ، قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك ، وأوصلك أما هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً فقال العباس : ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك فتشهد شهادة الحق وأسلم قال العباس : فقلت يا رسول الله إن أبا سفيان هذا رجل يحب الفخر ، فاجعل له شيئاً قال « نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن » فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله » قال فخرجت به حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه قال ومرت به القبائل على راياتها كلما مرت به قبيلة قال من هؤلاء يا عباس ، فأقول سليم فيقول ما لي ولسليم ، ثم القبيلة فيقول من هؤلاء ، فأقول مزينة فيقول ما لي ولمزينة حتى نفدت القبائل . لا تمر قبيلة إلا سألني عنها ، فإذا أخبرته عنها . فيقول ما لي ، ولبني فلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء ، وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد ، وظهوره فيها وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال سبحان الله من هؤلاء يا عباس؟ قلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين ، والأنصار . قال ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة ، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً قلت ويحك إنها النبوة ، قال فنعم إذا فقلت الحق الآن بقومك فحذرهم ، فخرج سريعاً حتى أتى مكة ، فصرخ في المسجد بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به قالوا فمه قال : قال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن .(6/324)
قالوا ويحك ، وما تغني عنا دارك قال من دخل المسجد ، فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن فتفرق الناس إلى دورهم ، وإلى المسجد قال وجاء حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم م فأسلما وبايعاه ، فلما بايعاه بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام ، ولما خرج حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عامدين إلى مكة بعث في أثرهما الزبير وأعطاه رايته وأمره على خيل المهاجرين والأنصار وأمره أن يركز رايته بأعلى مكة بالحجون ، وقال لا تبرح حيث أمرتك أن تركز رايتي حتى آتيك ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجراً بشقه عليه برد حبرة ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله عز وجل حين رأى ما أكرمه به من الفتح حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وضرب قبته بأعلى مكة ، وأمر خالد بن الوليد ، فيمن أسلم من قضاعة ، وبني سليم أن يدخلوا من أسفل مكة وبها بنو بكر ، وقد استنفرتهم قريش ، وبنو الحارث بن عبد مناف ومن كان من الأحابيش أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة ، وأن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناساً بالخندمة ليقاتلوا وقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد والزبير حين بعثهما « لا تقاتلا إلا من قاتلكما » ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كدى فقال سعد : حين توجه داخلاً اليوم يوم الملحمة اليوم يوم تستحل الحرمة فسمعها رجل من المهاجرين قيل : هو عمر بن الخطاب فقال : لرسول الله صلى الله عليه وسلم اسمع ما قال سعد بن عبادة ، وما نأمن أن يكون له في قريش صولة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب أدركه بهذه الراية . فكن أنت الذي تدخن بها ، فلم يكن بأعلى مكة من قبل الزبير قتال ، وأما خالد بن الوليد ، فقدم على قريش وبني بكر ، والأحابيش بأسفل مكة ، فقاتلوه فهزمهم الله ، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك ، وقتل من المشركين اثنا عشر رجلاً أو ثلاثة عشر رجلاً ، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل من جهينة يقال له سلمة بن الميلاء من خيل خالد بن الوليد ورجلان يقال لهما كرز بن جابر ، وخنيس بن خالد بن الوليد شذا وسلكا طريقاً غير طريقه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم إلا نفراً منهم سماهم أمر بقتلهم ، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وإنما أمر بقتله لأنه كان قد أسلم فارتد مشركاً ففر إلى عثمان ، وكان أخاه من الرضاعة فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن أهل مكة فاستأمنه له وعبد الله بن خطل رجل من بني تميم بن غالب ، وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلماً فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً ، وكان له مولى يخدمه ، وكان مسلماً فنزل منزلاً وأمر المولى أن يذبح له تيساً ويصنع له طعاماً ونام فاستيقظ ، ولم يصنع له شيئاً فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركاً ، وكان له قينتان يغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقتلهما معه والحويرث بن نقيد بن وهب ، وكان ممن يؤذيه بمكة ومقيس صبابة ، وإنما أمر بقتله لقتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطأ ، ورجوعه إلى قريش مرتداً ، وسارة مولاة لبني عبد المطلب ، وكانت ممن يؤذيه بمكة ، وعكرمة بن أبي جهل فأما عكرمة فهرب إلى اليمن ، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، فاستأمنت له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه فخرجت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما عبد الله بن خطل فقتله سعيد بن الحارث المخزومي وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله رجل من قومه وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما ، وهربت الأخرى حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها وأما سارة فتغيبت حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاشت حتى أوطأها رجل من الناس فرساً له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها ، وأما الحويرث ابن نقيد فقتله علي بن أبي طالب قالت أم هانىء : لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر إليَّ رجلين من أحمائي من بني مخزوم ، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي قالت : فدخل عليّ علي بن أبي طالب أخي فقال : والله لأقتلنهما ، فأغلقت عليهما باب بيتي ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بأعلى مكة ، فوجدته يغتسل من جفنة وإن فيها لأثر العجين ، وفاطمة ابنته تستره بثوبه فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ، ثم صلى ثمان ركعات الضحى ، ثم انصرف إليّ فقال مرحباً وأهلاً بأم هانىء ما جاء بك؟ فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي بن أبي طالب فقال : قد أجرنا من أجرت وأمنّا من أمنت فلا نقتلهما ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لما اطمأن الناس حتى جاء البيت فطاف به سبعاً على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة ، وأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ، ثم وقف على باب الكعبة ، وقد استكف له الناس في المسجد فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهي تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت ، وسقاية الحاج ألا قتل الخطأ شبه العمد بالسوط ، والعصا ، ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها .(6/325)
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم من تراب ، ثم تلا هذه الآية : { يا أيّها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } الآية ثم قال يا معشر قريش ما ترون إني فاعل فيكم ، قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم قال فاذهبوا فأنتم الطلقاء ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وكان الله أمكنه منهم عنوة فبذلك سموا أهل مكة الطلقاء ، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة بيده فقال : يا رسول الله اجمع لنا بين الحجابة ، والسقاية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أين عثمان بن طلحة فدعي له فقال هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم وفاء وبر ، قال واجتمع الناس للبيعة فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، وعمر بن الخطاب أسفل منه يأخذ على الناس . فبايعونه على السمع والطاعة فيما استطاعوا ، فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء قال عروة بن الزبير : خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن فقال عمير بن وهب الجمحي يا رسول الله إن صفوان بن أمية سيد قومي قد خرج هارباً منك ليقذف بنفسه في البحر ، فأمنه يا رسول الله ، فقال هو آمن قال : يا رسول الله أعطني شيئاً يعرف به أمانك ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل بها مكة ، فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة ، وهو يريد أن يركب البحر فقال يا صفوان فداك أبي وأمي أذكرك الله في نفسك أن تهلكها ، فهذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جئتك به؟ فقال ويلك أغرب عني لا تكلمني قال : فداك أبي وأمي أفضل الناس ، وأبر النّاس وأحلم الناس ، وخير الناس ابن عمتك عزه عزك وشرفه شرفك ، وملكه ملكك ، قال إني أخافه على نفسي قال : هو أحلم من ذلك ، وأكرم فرجع به معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك آمنتني قال صدق ، قال فاجعلني في ذلك بالخيار شهرين قال : أنت بالخيار أربعة أشهر(6/326)
« قال ابن هشام وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة ، ودخلها قام على الصّفا يدعو ، وقد أحدقت به الأنصار فقالوا فيما بينهم أترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتح الله عليه مكة أرضه ، وبلاده يقيم بها فلما فرغ من دعائه قال ماذا قلتم قالوا لا شيء يا رسول الله فلم يزل بهم حتى أخبروه .
فقال النّبي صلى الله عليه وسلم معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم » قال ابن إسحاق : وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف ، وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من رمضان سنة ثمان ، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة ثم خرج إلى هوازن وثقيف ، وقد نزلوا حنيناً ( ق ) عن أبي هريرة « أن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام الفتح بقتيل لهم في الجاهلية فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله ، وأثنى عليه وقال : إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد من بعدي ، ألا وإنما أحلت لي ساعة من نهار إلا ، وإنها ساعتي هذه فلا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها ، ولا يقطع شوكها ، ولا تحل ساقطتها لا لمنشد ، ومن قتل له قتيل ، فهو بخير النظرين . إما أن يفتدي وإما أن يقيد فقال العباس : إلا الإذخر فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر ، فقام أبو شاه رجل من أهل اليمن فقال اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتبوا لأبي شاه قال الأوزاعي : يعني الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم » .
( وأما التفسير )
فقوله تعالى : { إذا جاء نصر الله } يعني إذا جاءك يا محمد نصر الله ، ومعونته على من عاداك وهم قريش .
ومعنى مجيء النصر أن جميع الأمور مرتبطة بأوقاتها يستحيل تقدمها عن وقتها أو تأخرها عنه فإذا جاء ذلك الوقت المعين حضر معه ذلك الأمر المقدر ، فلهذا المعنى قال { إذا جاء نصر الله والفتح } يعني فتح مكة في قول جمهور المفسرين ، وقيل هو جنس نصر الله المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم على الإطلاق ، والفرق بين النصر والفتح . أن النصر هو الإعانة والإظهار على الأعداء وهو تحصيل المطلوب ، وهو كالسبب للفتح .(6/327)
فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف عليه الفتح ، وقيل النصر هو إكمال الدين وإظهاره ، والفتح هو الإقبال الذي هو تمام النعمة . { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً } يعني زمراً وأرسالاً القبيلة بأسرها . والقوم بأجمعهم من غير قتال قال الحسن : لما فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قالت العرب بعضها لبعض إذا ظفر الله محمد بأهل الحرم ، وكان قد أجارهم من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان فكانوا يدخلون في دين الله أفواجاً . بعد أن كانوا يدخلون واحداً واحداً واثنين اثنين . وقيل أراد بالناس أهل اليمن ( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوباً ، وأرق أفئدة الإيمان يمان ، والحكمة يمانية ودين الله هو الإسلام » وأضافه إليه تشريفاً وتعظيماً ، كبيت الله وناقة الله قوله { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً } يعني فإنك حينئذ لاحق به ( ق ) عن ابن عباس : قال كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال : بعضهم لم يدخل هذا الفتى معنا ، ولنا أبناء مثله فقال إنه ممن قد علمتم قال فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم .
قال وما رأيت أنه كان دعاني يومئذ إلا ليريهم مني .
قال ما تقولون في قول الله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح } حى ختم السورة ، فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ، ونستغفره إذ نصرنا ، وفتح علينا ، وسكن بعضهم فلم يقل شيئاً فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس ، قال : قلت؛ لا قال فما هو قلت هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه ، فقال { إذا جاء نصر الله والفتح } ، فذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً ، قال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم ( ق ) عن عائشة قالت : « ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن أنزلت عليه إذا جاء نصر الله والفتح ، إلا يقول فيها سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ، وفي رواية قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن ، وفي رواية قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر القول من سبحان الله ، وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه ، وقال أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي . فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه قد رأيتها إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً » قال ابن عباس : لما نزلت هذه السورة علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه نعيت إليه نفسه .
وقال الحسن : أعلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والتوبة ، ليختم بالزيادة في العمل الصالح قيل عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين ، وقيل في معنى السورة إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فاشتغل أنت بالتسبيح والتحميد ، والاستغفار ، فالاشتغال بهذه الطاعة يصير سبباً لمزيد درجاتك في الدنيا والآخرة .(6/328)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
قوله عز وجل : { تبت يدا أبي لهب وتب } ( ق ) « عن ابن عباس قال : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا ، ونادى يا بني فهر يا بني عدي لبطون من قريش حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش ، فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ ، قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً قال فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب تبّاً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب } » وفي رواية « أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل ، فنادى يا صباحاه فاجتمعت عليه قريش » الحديث وذكر نحوه ومعنى تبت خابت وخسرت ، والتباب هو الخسار المفضي إلى الهلاك ، والمراد من اليد صاحبها وجملة بدنه ، وذلك على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله ، وجميعه ، وقيل إنه رمى النبي صلى الله عليه وسلم بحجر ، فأدمى عقبه فلهذا ذكرت اليد ، وإن كان المراد جملة البدن فهو كقولهم خسرت يده ، وكسبت يده فأضيفت الأفعال إلى اليد ، وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم عم النبي صلى الله عليه وسلم وكني بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه .
فإن قلت لم كناه وفي الكنية تشريف وتكرمة قلت فيه وجوه أحدها أنه كان مشتهراً بالكنية دون الاسم ، فلو ذكره باسمه لم يعرف الثاني أنه كان اسمه عبد العزى ، فعدل عنه إلى الكنية لما فيه من الشّرك الثالث . أنه لما كان من أهل النّار ومآله إلى النار ، والنار ذات لهب وافقت حاله كنيته ، وكان جديراً بأن يذكر بها . { وتب } قيل الأول أخرج مخرج الدعاء عليه ، والثاني أخرج مخرج الخبر كما يقال أهلكه الله ، وقد هلك وقيل تبت يدا أبي لهب ، يعني ماله وملكه ، كما يقال فلان قليل ذات اليد يعنون به المال ، وتب يعني نفسه أي وقد أهلكت نفسه { ما أغنى عنه ماله وما كسب } قال ابن مسعود : لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرباءه إلى الله تعالى قال أبو لهب : إن كان ما تقول يا ابن أخي حقاً ، فأنا أفتدي نفسي بمالي وولدي ، فأنزل الله تعالى : { ما أغنى عنه ماله } ، أي شيء يغني عنه ماله ، أي ما يدفع عنه عذاب الله ، وما كسب يعني من المال ، وكان صاحب مواشٍ ، أي ما جمع من المال أو ما كسب من المال ، أي الربح بعد رأس ماله ، وقيل وما كسب يعني ولده لأن ولد الإنسان من كسبه ، كما جاء في الحديث(6/329)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
قوله عز وجل : { قل هو الله أحد } عن أبي بن كعب « أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك ، فأنزل الله { قل هو الله أحد الله الصمد } والصّمد الذي لم يلد ، ولم يولد لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وإن الله لا يموت ولا يورث ، ولم يكن له كفواً أحد . قال لم يكن له شبيه ، ولا عديل ، وليس كمثله شيء » أخرجه التّرمذي وقال : وقد روي عن أبي العالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم ، فقالوا انسب لنا ربك ، فأتاه جبريل بهذه السّورة { قل هو الله أحد } وذكر نحوه ، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب ، وهذا أصح وقال ابن عباس أن عامر بن الطفيل ، وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر : إلام تدعونا يا محمد قال إلى الله قال صفه لنا أمن ذهب هو أم من فضة ، أم من حديد ، أم من خشب ، فنزلت هذه السّورة ، وأهلك الله أربد بالصاعقة وعامر بالطاعون ، وقد تقدم ذكرهما في سورة الرّعد ، وقيل جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك ، فإن الله تعالى أنزل نعته في التوراة ، فأخبرنا من أي شيء هو ، وهل يأكل ويشرب ، وممن ورث الربوبية ، ولمن يورثها ، فأنزل الله هذه السّورة { قل هو الله أحد } يعني الذي سألتموني عنه هو الله الواحد في الألوهية ، والرّبوبية الموصوف بصفات الكمال والعظمة المنفرد عن الشبه ، والمثل والنظير ، وقيل لا يوصف أحد بالأحدية غير الله تعالى فلا يقال رجل أحد ، ودرهم أحد بل أحد صفة من صفات الله تعالى . استأثر بها فلا يشركه فيها أحد ، والفرق بين الواحد ، والأحد أن الواحد يدخل في الأحد ، ولا ينعكس ، وقيل إن الواحد يستعمل في الإثبات والأحد في النفي تقول في الإثبات رأيت رجلاً واحداً ، وفي النفي ما رأيت أحداً ، فتفيد العموم ، وقيل الواحد هو المنفرد بالذات فلا يضاهيه أحد ، والأحد هو المنفرد بالمعنى فلا يشاركه فيه أحد { الله الصمد } قال ابن عباس : الصمد الذي لا جوف له وبه قال جماعة من المفسرين ، ووجه ذلك من حيث اللّغة أن الصّمد الشيء المصمد الصّلب الذي ليس فيه رطوبة ، ولا رخاوة ، ومنه يقال لسداد القارورة الصماد . فإن فسر الصمد بهذا كان من صفات الأجسام ، ويتعالى الله جلّ وعزّ عن صفات الجسمية ، وقيل وجه هذا القول إن الصمد الذي ليس بأجوف ، معناه هو الذي لا يأكل ، ولا يشرب ، وهو الغني عن كل شيء ، فعلى هذا الاعتبار هو صفة كمال ، والقصد بقوله الله الصّمد التّنبيه على أنه تعالى بخلاف من أثبتوا له الإلهية ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :(6/330)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
قوله عز وجل : { قل أعوذ برب الفلق } قال ابن عباس وعائشة : « كان غلام من اليهود يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فدبت إليه اليهود ، فلم يزالوا به حتى أخذ من مشاطة رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدة من أسنان مشطه ، فأعطاها اليهود ، فسحروه فيها ، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت السورتان فيه » . ( ق ) عن عائشة « أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل إليه أن يصنع الشيء ولم يصنعه » وفي رواية « أنه يخيل إليه فعل الشيء ، وما فعله حتى إذا كان يوم ، وهو عندي دعا الله ، ودعاه ثم قال أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه قلت : وما ذاك يا رسول الله قد جاءني رجلان ، فجلس أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، ثم قال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل قال مطبوب ، قال ومن طبه قال لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق قال : فيما ذا قال في مشط ومشاطة ، وجف طلعة ذكر قال فأين هو قال في بئر ذروان ، ومن الرواة من قال في بئر بني زريق فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل ثم رجع إلى عائشة فقال والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين قلت يا رسول الله فأخرجه . قال أما أنا فقد عافاني الله وشفاني ، وخفت أن أثيرعلى الناس منه شراً » وفي رواية للبخاري « أنه كان يرى أنه يأتي النساء ، ولا يأتيهن قال سفيان وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك » عن زيد بن أرقم قال « سحر رجل من اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى ذلك أياماً فأتاه جبريل فقال إن رجلاً من اليهود سحرك ، وعقد لك عقداً في بئر كذا فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فاستخرجها ، فجاء بها فحلها فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال ، فما ذكر ذلك لليهودي ، ولا رآه في وجهه قط » أخرجه النسائي وروي « أنه كان تحت صخرة في البئر فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة ، فإذا فيه مشاطة من رأسه صلى الله عليه وسلم وأسنان من مشطه » ، وقيل كان في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة وقيل كان مغروزاً بالإبر فأنزل الله هاتين السورتين ، وهما إحدى عشرة آية سورة الفلق خمس آيات ، وسورة الناس ست آيات ، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال وروي « أنه لبث ستة أشهر ، واشتد عليه ذلك ثلاث ليال فنزلت المعوذتان » ( م ) عن أبي سعيد الخدري(6/331)
« أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال يا محمد اشتكيت قال نعم قال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك » .
( فصل وقبل الشروع في التفسير نذكر معنى الحديث ، وما قيل فيه ،
وما قيل في السحر ، وما قيل في الرقى )
قولها في الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشيء ، ولم يصنعه .
قال الإمام المازري : مذهب أهل السّنة ، وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر ، وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثّابتة خلافاً لمن أنكر ذلك ، ونفى حقيقته ، وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها ، وقد ذكره الله في كتابه ، وذكر أنه مما يتعلم ، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به ، وأنه يفرق بين المرء ، وزوجه وهذا كله لا يمكن أن يكون مما لا حقيقة له وهذا الحديث الصحيح مصرح بإثباته ، ولا يستنكر في العقل أن الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوي لا يعرفها إلا الساحر ، وأنه لا فاعل إلا الله تعالى ، وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى على يد من يشاء من عباده .
فإن قلت المستعاذ منه هل هو بقضاء الله ، وقدره فذلك قدح في القدرة .
قلت كل ما وقع في الوجود هو بقضاء الله وقدره ، والاستشفاء بالتّعوذ ، والرّقى من قضاء الله ، وقدره يدل على صحة ذلك . ما روى التّرمذي عن ابن أبي خزامة عن أبيه قال : « سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقي بها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً ، قال : هي من قدر الله تعالي » قال التّرمذي : هذا حديث حسن وعن عمر نفر من قدر الله إلى قدر الله تعالى .
( فصل )
وقد أنكر بعض المبتدعة حديث عائشة المتفق عليه ، وزعم أنه يحط منصب النّبوة ويشكك فيها وأن تجويزه يمنع الثّقة بالشّرع .
ورد على هذا المبتدع بأن الذي ادعاه باطل لأن الدّلائل القطعية ، والنقلية قد قامت على صدقه صلى الله عليه وسلم ، وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ ، والمعجزة شاهدة بذلك ، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل .
وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا ، وهو ما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له .
وقد قيل إنه كان يخيل إليه أنه وطىء زوجاته ، وليس واطىء ، وهذا مثل ما يتخيله الإنسان في المنام .(6/332)
فلا يبعد أن يتخيله في اليقظة ، ولا حقيقة له ، وقيل إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله ، ولكن لا يعتقد ما تخيله فتكون اعتقاداته على السّداد قال القاضي : وقد جاءت في بعض روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما سلط على بدنه وظواهر جوارحه لا على قلبه وعقله واعتقاده وليس في ذلك ما يوجب لبساً على الرسالة ولا طعناً لأهل الزّيغ والضّلالة ، وقوله ما وجع الرجل قال مطبوب أي مسحور قوله ، وجف طلعة ذكر يروى بالباء ويروى بالفاء ، وهو وعاء طلع النخل .
وأما الرّقى والتّعاويذ فقد اتفق الاجماع على جواز ذلك إذا كان بآيات من القرآن ، أو إذ كانت وردت في الحديث ، ويدل على صحته الأحاديث الواردة في ذلك منها حديث أبي سعيد المتقدم أن جبريل رقي النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنها ما روي عن عبيد بن رفاعة الزرقي « أن أسماء بنت عميس قالت يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين . أفأسترقي لهم قال نعم فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين » أخرجه التّرمذي وقال : حديث صحيح وعن أبي سعيد الخدري « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ ويقول أعوذ بالله من الجان ، وعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما ، وترك ما سواهما » أخرجه التّرمذي وقال : حديث حسن غريب فهذه الأحاديث تدل على جواز الرّقية ، وإنما المنهي عنه منها ما كان فيه كفر أو شرك أو ما لا يعرف معناه مما ليس بعربي لجواز أن يكون فيه كفر والله أعلم .
( وأما التفسير )
فقوله عز وجل { قل أعوذ برب الفلق } ، أراد بالفلق الصبح ، وهو قول الأكثرين ، ورواية عن ابن عباس لأن الليل ينفلق عن الصبح وسبب تخصيصه في التعوذ أن القادر على إزالة هذه الظلمة عن العالم قادر على أن يدفع عن المستعيذ ما يخافه ، ويخشاه ، وقيل إن طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج ، كما أن الإنسان ينتظر طلوع الصّباح ، فكذلك الخائف يترقب مجيء النجاح ، وقيل إن تخصيص الصبح بالذكر في هذا الموضع لأنه وقت دعاء المضطرين ، وإجابة الملهوفين ، فكأنه يقول قل أعوذ برب الوقت ، الذي يفرج فيه هم المهمومين والمغمومين ، وروي عن ابن عباس أن الفلق سجن في جهنم ، وقيل هو واد في جهنم إذ فتح استعاذ أهل النار من حره ، ووجهه أن المستعيذ قال : أعوذ برب هذا العذاب ، القادر عليه من شر عذابه ، وغيره وروي عن ابن عباس أيضاً أن الفلق الخلق ، ووجه هذا التأويل ، أن الله تعالى فلق ظلمات بحر العدم بإيجاد الأنوار ، وخلق منه الخلق ، فكأنه قال قل أعوذ برب جميع الممكنات ، ومكون جميع المحدثات { من شر ما خلق } قيل يريد به إبليس خاصة لأنه لم يخلق الله خلقاً هو شر منه ، ولأن السحر لا يتم إلا به وبأعوانه وجنوده ، وقيل من شر كل ذي شر ، وقيل من شر ما خلق من الجن ، والإنس .(6/333)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
قوله عز وجل : { قل أعوذ برب الناس } إنما خصص الناس بالذّكر ، وإن كان رب جميع المحدثات لأنه لما أمر بالاستعاذة من شر الوسواس ، فكأنه قال أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم ، وهو إلههم ومعبودهم فإنه هو الذي يعيذهم من شرهم ، وقيل إن أشرف المخلوقات هم الناس ، فلهذا خصهم بالذكر . { ملك الناس إله النّاس } إنما وصف نفسه أولاً : بأنه رب الناس ، لأن الرب قد يكون ملكاً ، وقد لا يكون ملكاً فنبه بذلك على أنه ربهم ، وملكهم ثم إن الملك لا يكون إلهاً ، فنبه بقوله { إله الناس } على أن الإلهية خاصة بالله سبحانه ، وتعالى لا يشاركه فيها أحد ، والسبب في تكرير لفظ الناس يقتضي مزيد شرفهم على غيرهم { من شر الوسواس } يعني الشّيطان ذا الوسواس ، والوسوسة الهمز ، والصوت الخفي . { الخناس } يعني الرجاع من الذي عادته أن يخنس أي يتأخر . قيل إن الشيطان جاثم على قلب الإنسان ، فإذا غفل وسها وسوس ، وإذا ذكر الله تعالى خنس الشيطان عنه ، وتأخر وقال قتادة الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب وقيل كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان فإذا ذكر العبد ربه خنس ، ويقال رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه ويجذبه ، فإذا ذكر الله تعالى خنس وإذا لم يذكر الله تعالى رجع ، ووضع رأسه على القلب فذلك قوله تعالى : { الذي يوسوس في صدور الناس } يعني بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع ، والمراد بالصدر القلب { من الجنة } يعني الجن { والناس } وفي معنى الآية وجهان :
أحدهما : أن الناس لفظ مشترك بين الجن والإنس ، ويدل عليه قول بعض العرب جاء قوم من الجن ، فقيل من أنتم قالوا أناس من الجن ، وقد سماهم الله تعالى رجالاً في قوله { يعوذون برجال من الجن } فعلى هذا يكون معنى الآية؛ أن الوسواس الخناس يوسوس للجن كما يوسوس للإنس .
الوجه الثاني : أن الوسواس الخناس قد يكون من الجنة ، وهم الجن وقد يكون من الإنس ، فكما أن شيطان الجن قد يوسوس للإنسان تارة ، ويخنس أخرى ، فكذلك شيطان الإنس قد يوسوس للإنسان كالنّاصح له فإن قبل زاد في الوسوسة ، وإن كره السامع ذلك انخنس وانقبض فكأنه تعالى أمر أن يستعاذ به من شر الجن والإنس جميعاً ( ق ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم ينفث فيهما ، فيقرأ { قل هو الله أحد } ، و { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ، وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات »(6/334)