أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
{ أم اتخذوا من دون الله شفعاء } يعني الأصنام { قل } يا محمد { أولو كانوا } يعني الآلهة { لا يملكون شيئاً } أي من الشفاعة { ولا يعقلون } أي إنكم تعبدونهم وإن كانوا بهذه الصفة { قل لله الشفاعة جميعاً } أي لا يشفع أحد إلا بإذنه فكان الاشتغال بعبادته أولى لأنه هو الشفيع في الحقيقة وهو يأذن في الشفاعة لمن يشاء من عباده { له ملك السموات والأرض } أي لا ملك لأحد فيهما سواه { ثم إليه ترجعون } أي في الآخرة .
قوله تعالى : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت } أي نفرت وقال ابن عباس انقبضت عن التوحيد وقيل استكبرت { قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } قيل إذا اشمأز القلب من عظم غمه وغيظه انقبض الروح إلى داخله فيظهر على الوجه أثر ذلك مثل الغبرة والظلمة { وإذا ذكر الذين من دونه } يعني الأصنام { إذا هم يستبشرون } أي يفرحون والاستبشار أن يمتلئ القلب سروراً حتى يظهر على الوجه فيتهلل .(5/315)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
{ قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة } وصف نفسه بكمال القدرة وكمال العلم { أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون } أي من أمر الدنيا ( م ) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال « سألت عائشة رضي الله تعالى عنها بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قال اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » .
قوله عز وجل : { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } يعني ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا أنه نازل بهم في الآخرة ، وقيل ظنوا أن لهم حسنات فبدت لهم سيئات والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا ، وروي أن محمد بن المنكدر جزع عند الموت فقيل له في ذلك فقال أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب { وبدا لهم سيئات ما كسبوا } يعني مساوي أعمالهم من الشرك والظلم أولياء الله تعالى : { وحاق } يعني نزل { بهم ما كانوا به يستهزئون فإذا مس الإنسان ضر } يعني شدة { دعانا ثم إذا خولناه } يعني أعطيناه { نعمة منا قال إنما أوتيته على علم } يعني من الله تعالى علم أني له أهل وقيل على خير علمه الله عنده { بل هي فتنة } يعني تلك النعمة استدراج من الله تعالى وامتحان وبلية { ولكن أكثرهم لا يعلمون } يعني أنها استدراج من الله تعالى : { قد قالها الذين من قبلهم } يعني قارون فإنه قال إنما أوتيته على علم عندي { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } يعني فما أغنى الكفر من العذاب شيئاً .(5/316)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
{ فأصابهم سيئات ما كسبوا } أي جزاؤها وهو العذاب ثم أوعد كفار مكة فقال تعالى { والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين } أي بفائتين لأن مرجعهم إلى الله تعالى : { أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء } أي يوسع الرزق لمن يشاء { ويقدر } أي يقتر ويقبض على من يشاء { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } أي يصدقون .
قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية « أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا وانتهكوا الحرمات فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا بأن لما عملنا كفارة فنزلت والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر إلى قوله فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات قال يبدل شركهم إيماناً وزناهم إحصاناً ونزلت { قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } » أخرجه النسائي . وعن ابن عباس أيضاً قال « بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاماً يضاعف له العذاب وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله تعالى { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } فقال : وحشي هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فقال وحشي أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } فقال وحشي نعم هذا فجاء فأسلم » وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا به فأنزل الله تعالى هذه الآية فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيده ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا جميعاً وهاجروا . وعن ابن عمر أيضاً قال كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقلنا الكبائر والفواحش قال فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها قلنا هلك فنزلت هذه الآية فكففنا عن القول في ذلك وكنا إذا رأينا من أصحابنا من أصاب شيئاً من ذلك خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له وقوله { أسرفوا على أنفسهم } أي تجاوزوا الحد في كل فعل مذموم قيل هو ارتكاب الكبائر وغيرها من الفواحش { لا تقنطوا من رحمة الله } أي لا تيأسوا من رحمة الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله من الكبائر { إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } فإن قلت حمل هذه الآية على ظاهرها يكون إغراء بالمعاصي وإطلاقاً في الإقدام عليها وذلك لا يمكن .(5/317)
قلت المراد منها التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب ، فإن اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله إذ لا أحد من العصاة إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة فمعنى قوله { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } أي إذا تاب وصحت التوبة غفرت ذنوبه ومن مات قبل أن يتوب فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى فإن شاء غفر له وعفا عنه وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته فالتوبة واجبة على كل أحد وخوف العقاب مطلوب فلعل الله تعالى يغفر مطلقاً ولعله يعذب ثم يعفو بعد ذلك والله أعلم .
( فصل في ذكر أحاديث تتعلق بالآية )
روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل المسجد فإذا قاصّ يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال لم تقنط الناس ثم قرأ { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } ولا يبالي أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب ( ق ) . عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ثم خرج يسأل هل له توبة فأتى راهباً فسأله فقال هل لي من توبة قال لا فقتله وجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فضرب صدره تخوفاً فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينها فوجد أقرب إلى هذه بشبر فغفر له » لفظ البخاري ولمسلم قال « فدل على راهب فأتاه فقال له إن رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة فقال لا فقتله فكمل به مائة ، ثم سال عن أعلم أهل الأرض فدلَّ على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض الذي أراد فقبضته ملائكة الرحمة » ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :(5/318)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)
{ وأنيبوا إلى ربكم } أي ارجعوا إليه بالتوبة والطاعة { وأسلموا له } أي أخلصوا له التوحيد { من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } أي لا تمنعون منه { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } يعني القرآن لأنه كله حسن ومعنى الآية على ما قاله الحسن الزموا طاعة الله واجتنبوا معصيته فإنه أنزل في القرآن ذكر القبيح ليجتنب وذكر الأدون لئلا يرغب فيه وذكر الأحسن لتؤثره وتأخذ به وقيل الأحسن إتباع الناسخ وترك العمل بالمنسوخ { من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون } يعني غافلين عنه .(5/319)
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
{ أن تقول نفس } أي لئلا تقول وقيل معناه بادروا واحذروا أن تقول وقيل خوف أن تصيروا إلى حال أن تقول نفس { يا حسرتى } أي يا ندمي ويا حزني والتحسر الاغتمام والحزن على ما فات { على ما فرطت في جنب الله } أي على ما قصرت في طاعة الله ، وقيل في أمر الله وقيل في حق الله وقيل على ما ضيعت في ذات الله وقيل معناه على ما قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله تعالى : { وإن كنت لمن الساخرين } أي المستهزئين بدين الله وبكتابه وبرسوله وبالمؤمنين قيل لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر بأهلها { أو تقول لو أن الله هداني } أي أرشدني إلى دينه وطاعته { لكنت من المتقين } أي الشرك { أو تقول حين ترى العذاب } أي عياناً { لو أن لي كرة } أي رجعة إلى الدنيا { فأكون من المحسنين } أي الموحدين ثم أجاب الله تعالى هذا التأويل بأن الأعذار زائلة والتعليل باطل(5/320)
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
{ بلى قد جاءتك آياتي } يعني القرآن { فكذبت بها } أي قلت ليست من الله { واستكبرت } أي تكبرت عن الإيمان بها { وكنت من الكافرين ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله } أي زعموا أن له ولداً وشريكاً وقيل هم الذين يقولون الأشياء إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل { وجوههم مسودة } قيل هو سواد مخالف لسائر أنواع السواد { أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } أي عن الإيمان .
قوله تعالى : { وينجي الله الذين اتقوا } أي الشرك { بمفازتهم } أي الطرق التي تؤديهم إلى الفوز والنجاة وقرئ بمفازاتهم أن ينجيهم بفوزهم بالأعمال الحسنة من النار { لا يمسهم السوء } أي لا يصيبهم المكروه { ولا هم يحزنون الله خالق كل شيء } أي مما هو كائن أو يكون في الدنيا والآخرة { وهو على كل شيء وكيل } أي إن الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها { له مقاليد السموات والأرض } أي مفاتيح خزائن السموات والأرض واحدها مقلاد مثل مفتاح وقيل إقليد على غير قياس قيل هو فارسي معرب قال الراجز :
لم يؤذها الديك بصوت تغريد ... ولم يعالج غلقها بإقليد
والمعنى أن الله تعالى مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الله الذي يملك مقاليدها ، وقيل مقاليد السموات خزائن الرحمة والرزق والمطر ومقاليد الأرض النبات { والذين كفروا بآيات الله } أي جحدوا بآياته الظاهرة الباهرة { أولئك هم الخاسرون } قوله عز وجل : { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه فوصفهم بالجهل لأن الدليل القاطع قد قام بأنه هو المستحق للعبادة فمن عبد غيره فهو جاهل { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك } أي الذي عملته قبل الشرك ، وهذا خطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره لأن الله عز وجل عصم نبيه صلى الله عليه وسلم من الشرك وفيه تهديد لغيره { ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } أي لإنعامه عليك .(5/321)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
{ وما قدروا الله حق قدره } أي ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره ثم أخبر عن عظمته فقال { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } ( ق ) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال « جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا محمد إن الله يضع السماء على أصبع والأرض على أصبع والجبال على أصبع والشجر والأنهار على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال { وما قدروا الله حق قدره } وفي رواية » والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً له ثم قرأ { وما قدروا الله حق قدره } الآية ( ق ) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ، وفي رواية يقول : أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها ثم يقول أنا الملك الجبارون أين المتكبرون ، وفي رواية يقول : أنا الله ويقبض أصابعه أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى أني أقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم » لفظ مسلم وللبخاري « أن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ويقول أنا الملك » ( خ ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض » قال أبو سليمان الخطابي ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من صفة اليدين شمال لأن الشمال محمل النقص والضعف وقد روى كلتا يديه يمين وليس عندنا معنى اليد الجارحة إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وننتهي إلى حيث انتهى الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة وهذا مذهب أهل السنة والجماعة وقال سفيان بن عيينة كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه .
قوله عز وجل : { ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض } أي ماتوا من الفزع وهي النفخة الأولى { إلا من شاء الله } تقدم في سورة النمل تفسير هذا الاستثناء وقال الحسن إلا من يشاء الله يعني الله وحده { ثم نفخ فيه } أي في الصور { أخرى } مرة أخرى وهي النفخة الثانية { فإذا هم قيام } أي من قبورهم { ينظرون } أي ينتظرون أمر الله فيهم ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما بين النفختين أربعون قالوا أربعون يوماً ، قال أبو هريرة : أبيت ، قالوا : أربعون شهراً ، قال أبو هريرة : أبيت ، قالوا : أربعون سنة قال : أبيت ، ثم ينزل الله عز وجل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة »(5/322)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
{ وأشرقت الأرض بنور ربها } وذلك حين يتجلى الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء بين خلقه فما يضارون في نوره كما لا يضارون في الشمس في اليوم الصحو وقيل بعدل ربها وأراد بالأرض عرصات القيامة { ووضع الكتاب } أي كتاب الأعمال وقيل اللوح المحفوظ لأن فيه أعمال جميع الخلق من المبدأ إلى المنتهى { وجيء بالنبيين } يعني ليكونوا شهداء على أممهم { والشهداء } قال ابن عباس يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل يعني الحفظة { وقضي بينهم الحق } أي بالعدل { وهم لا يظلمون } أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم { ووفيت كل نفس ما عملت } أي ثواب ما عملت { وهو أعلم بما يفعلون } يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأفعالهم لا يحتاج إلى كاتب ولا إلى شاهد .
قوله تعالى : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم } يعني سوقاً عنيفاً { زمراً } أفواجاً بعضهم على أثر بعض كل أمة على حدة وقيل جماعات متفرقة واحدتها زمرة { حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها } يعني السبعة وكانت قبل ذلك مغلقة { وقال لهم خزنتها } يعني توبيخاً وتقريعاً { ألم يأتكم رسل منكم } أي من أنفسكم ومن جنسكم { يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب } أي وجبت { على الكافرين } وهي قوله { لأملأن جهنم من الجنة أجمعين } { قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين } قوله عز وجل : { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً } فإن قلت عبر عن الفريقين بلفظ السوق فما الفرق بينهما .
قلت المراد بسوق أهل النار طردهم إلى العذاب بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس أو القتل ، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنهم يذهبون إليها راكبين أو المراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان فشتان ما بين السوقين { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } فإن قلت قال في أهل النار فتحت بغير واو وهنا زاد حرف الواو فما الفرق .
قلت فيه وجوه أحدها أنها زائدة الثاني إنها واو الحال مجازه وقد فتحت أبوابها فأدخل الواو لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم إليها وحذف الواو في الآية الأولى لبيان أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل مجيئهم إليها ووجه الحكمة في ذلك أن أهل الجنة إذا جاؤوها ووجدوا أبوابها مفتحة حصل لهم السرور والفرح بذلك وأهل النار إذا رأوها مغلقة كان ذلك نوع ذل وهوان لهم . الثالث زيدت الواو هنا لبيان أن أبواب الجنة ثمانية ونقصت هناك لأن أبواب جهنم سبعة والعرب تعطف بالواو فيما فوق السبعة تقول سبعة وثمانية .
فإن قلت حتى إذا جاؤوها شرط فأين جوابه؟
قلت فيه وجوه أحدها أنه محذوف والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره الثاني أن الجواب هو قوله { وقال لهم خزنتها سلام عليكم } بغير واو الثالث تقديره فادخلوها خالدين دخلوها فحذف دخولها لدلالة الكلام عليه { وقال لهم خزنتها سلام عليكم } أي أبشروا بالسلامة من كل الآفات { طبتم } قال ابن عباس معناه طاب لكم المقام وقيل إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض حتى إذا هذبوا وطيبوا دخلوا الجنة فيقول لهم رضوان وأصحابه { سلام عليكم طبتم } { فادخلوها خالدين } وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحتها عينان فيغتسل المؤمن من أحداهما فيطهر ظاهره ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه وتتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } .(5/323)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
{ وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده } أي بالجنة { وأورثنا الأرض } أي أرض الجنة نتصرف فيها كما نشاء تشبيهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه وهو قوله تعالى : { نتبوأ } أي نزل { من الجنة } أي في الجنة { حيث نشاء } فإن قلت فما معنى قوله { حيث نشاء } وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره .
قلت يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وحسناً وزيادة على الحاجة فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج إلى غيره وقيل إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة قبل الأمم فينزلون فيها حيث شاؤوا ثم تنزل الأمم بعدهم فيما فضل منها قال الله عز وجل : { فنعم أجر العاملين } أي ثواب المطيعين في الدنيا الجنة في العقبى { وترى الملائكة حافين من حول العرش } أي محدقين محيطين بحافته وجوانبه { يسبحون بحمد ربهم } وقيل هذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد لأن التكليف يزول في ذلك اليوم { وقضي بينهم بالحق } بين أهل الجنة وأهل النار بالعدل { وقيل الحمد لله رب العالمين } أي يقول أهل الجنة شكراً حين تمَّ وعد الله لهم ، وقيل ابتدأ الله ذكر الخلق بالحمد في قوله { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } وختم بالحمد في آخر الأمر وهو استقرار الفريقين في منازلهم فنبه بذلك على تحميده في بداءة كل أمر وخاتمته والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه .(5/324)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
قوله عز وجل : { حم } قال ابن عباس رضي الله عنهما : { حم } اسم الله الأعظم وعنه قال الر وحم ون حروف اسمه الرحمن مقطعة وقيل حم اسم للسورة وقيل الحاء افتتاح أسمائه حليم وحميد وحي وحكيم وحنان ، والميم افتتاح أسمائه ملك ومجيد ومنان ، وقيل معناه حم بضم الحاء أي قضى ما هو كائن { تنزيل الكتاب من الله العزيز } أي الغالب القادر وقيل الذي لا مثل له { العليم } أي بكل المعلومات { غافر الذنب } يعني ساتر الذنب { وقابل التوب } يعني التوبة قال ابن عباس غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله وقابل التوب ممن قال لا إله إلا الله { شديد العقاب } لمن لا يقول لا إله إلا الله { ذي الطول } يعني السعة والغنى وقيل ذي الفضل والنعم وأصل الطول الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه { لا إله إلا هو } يعني هو الموقوف بصفات الوحدانية التي لا يوصف بها غيره { إليه المصير } أي مصير العباد إليه في الآخرة(5/325)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
{ ما يجادل } يعني ما يخاصم ويحاجج في آيات الله يعني في دفع آيات الله بالتكذيب والإنكار إلا الذين كفروا قال أبو العالية آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن .
قوله تعالى : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } وقوله { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إن جدالاً في القرآن كفر » أخرجه أبو داود وقال المراد في القرآن كفر وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال « سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتمارون فقال إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله عز وجل بعضه ببعض وإنما أنزل الكتاب يصدق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوه وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه » ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال « إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب » { فلا يغررك تقلبهم } يعني تصرفهم { في البلاد } للتجارات وسلامتهم فيها مع كفرهم فإن عاقبة أمرهم العذاب { كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم } يعني الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } قال ابن عباس ليقتلوه ويهلكوه وقيل ليأسروه { وجادلوا } يعني خاصموا { بالباطل ليدحضوا } يعني ليبطلوا { به الحق } الذي جاءت به الرسل { فأخذتهم فكيف كان عقاب } يعني أنزلت بهم من الهلاك ما هموا هم بإنزاله بالرسل وقيل معناه فكيف كان عقابي إياهم أليس كان مهلكاً مستأصلاً { وكذلك حقت } أي وجبت { كلمة ربك } يعني كما وجبت كلمة العذاب على الأمم المكذبة حقت { على الذين كفروا } يعني من قومك { إنهم } يعني بأنهم { أصحاب النار } قوله عز وجل : { الذين يحملون العرش } قيل حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أردفهم الله تعالى بأربعة أخر كما قال الله تعالى : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } وهم أشرف الملائكة وأفضلهم لقربهم من الله عز وجل وهم على صورة الأوعال وجاء في الحديث إن لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر ، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة جناحان منها على وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق وجناحان يهفو بهما في الهواء ليس لهم كلام غير التسبيح والتحميد والتمجيد ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء وقال ابن عباس : حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام ، ويروي أن أقدامهم في تخوم الأرضين والأرضون والسموات إلى حجزهم تسبيحهم سبحان ذي العزة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح وقيل إن أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من التي تليها والتي تليها أشد خوفاً من التي تليها .(5/326)
وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام » أخرجه أبو داود وأما صفة العرش فقيل إنه جوهرة خضراء وهو من أعظم المخلوقات خلقاً وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال : إن ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية كخفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام ويكسى العرش كل يوم ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله تعالى والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة وقال مجاهد بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة وقيل إن العرش قبلة لأهل السماء كما أن الكعبة قبلة لأهل الأرض قوله : { ومن حوله } يعني الطائفين به وهم الكروبيون وهم سادات الملائكة ، قال وهب بن منبه : إن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة صف خلف صف يطوفون بالعرش يقبل هؤلاء ويدبر هؤلاء فإذا استقبل بعضهم بعضاً هلل هؤلاء وكبر هؤلاء ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام أيديهم على أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلك أنت الله لا إله غيرك أنت الأكبر والخلق كلهم إليك راجعون ومن وراء هؤلاء وهؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلا يسبح بتحميد لا يسبحه الآخر ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربعمائة عام واحتجب الله عز وجل من الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجاباً من نار وسبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور وسبعين حجاباً من در أبيض وسبعين حجاباً من ياقوت أحمر وسبعين حجاباً من زبرجد أخضر وسبعين حجاباً من ثلج وسبعين حجاباً من ماء وسبعين حجاباً من برد وما لا يعلمه إلا الله عز وجل .
قوله تعالى : { يسبحون بحمد ربهم } أي ينزهون الله تعالى عما لا يليق بجلاله والتحميد هو الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق { ويؤمنون به } أي يصدقون بأنه واحد لا شريك له ولا مثل له ولا نظير له .(5/327)
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
{ ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم } قيل إذا دخل المؤمن الجنة قال : أين أبي وأين أمي وأين ولدي وأين زوجتي ، فيقال : إنهم لم يعملوا عملك ، فيقول : إني كنت أعمل لي ولهم فيقال أدخلوهم الجنة فإذا اجتمع بأهله في الجنة كان أكمل لسروره ولذته { وقهم السيئات } أي عقوبات السيئآت بأن تصونهم من الأعمال الفاسدة التي توجب العقاب { ومن تق السيئات يومئذ } يعني من تقه في الدنيا { فقد رحمته } يعني في القيامة { وذلك هو الفوز العظيم } يعني النعيم الذي لا ينقطع في جوار مليك لا تصل العقول إلى كنه عظمته وجلاله قوله تعالى : { إن الذين كفروا ينادون } يعني يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عرضت عليهم سيئاتهم وعاينوا العذاب فيقال لهم { لمقت الله } يعني إياكم في الدنيا { أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } أي اليوم عند حلول العذاب بكم .(5/328)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
{ قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله تعالى في الدنيا ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهذه موتتان وحياتان وقيل أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في القبر للسؤال ثم أميتوا في قبورهم ثم أحيوا للبعث في الآخرة وذلك أنهم عدوا أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة الموتة الأولى ثم الحياة في القبر ثم الموتة الثانية فيه ثم الحياة للبعث فأما الحياة الأولى التي هي من الدنيا فلم يعدوها لأنها ليست من أقسام البلاء وقيل ذكر حياتين وهي حياة الدنيا وحياة القيامة وموتتين وهي الموتة الأولى في الدنيا ثم الموتة الثانية في القبر بعد حياة السؤال ولم يعدوا حياة السؤال لقصر مدتها { فاعترفنا بذنوبنا } يعني إنكارهم البعث بعد الموت فلما شاهدوا البعث اعترفوا بذنوبهم ثم سألوا الرجعة بقولهم { فهل إلى خروج } يعني من النار { من سبيل } والمعنى فهلاّ إلى رجوع إلى الدنيا من سبيل لنصلح أعمالنا ونعمل بطاعتك وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط من الخروج وإنما قالوا ذلك تعللاً وتحيراً والمعنى فلا خروج ولا سبيل إليه ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك وهو قوله تعالى : { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم } معناه فأجيبوا أن لا سبيل إلى الخروج وهذا العذاب والخلود في النار بأنكم إذا دعى الله وحده كفرتم يعني إذا قيل لا إله إلا الله أنكرتم ذلك { وإن يشرك به } أي غيره { تؤمنوا } أي تصدقوا ذلك الشرك { فالحكم لله العلي } أي الذي لا أعلى منه { الكبير } أي الذي لا أكبر منه .(5/329)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
قوله عز وجل : { هو الذي يريكم آياته } أي عجائب مصنوعاته التي تدل على كمال قدرته { وينزل لكم من السماء رزقاً } يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق { وما يتذكر } أي يتعظ بهذه الآيات { إلا من ينيب } أي يرجع إلى الله تعالى في جميع أموره { فادعوا الله مخلصين له الدين } أي الطاعة والعبادة { ولو كره الكافرون } .
قوله تعالى : { رفيع الدرجات } أي رافع درجات الأنبياء والأولياء والعلماء في الجنة وقيل معناه المرتفع أي إنه سبحانه وتعالى هو المرتفع بعظمته في صفات جلاله وكماله ووحدانيته المستغني عن كل ما سواه وكل الخلق فقراء إليه { ذو العرش } أي خالقه ومالكه ، والفائدة في تخصيص العرش بالذكر لأنه أعظم الأجسام والمقصود بيان كمال التنبيه على كمال القدرة فكل ما كان أعظم كانت دلالته على كمال القدرة أقوى { يلقي الروح } يعني ينزل الوحي سماه روحاً لأن به تحيا الأرواح كما تحيا الأبدان بالأرواح { من أمره } قال ابن عباس : من قضائه وقيل بأمره وقيل من قوله { على من يشاء من عباده } يعني الأنبياء { لينذر يوم التلاق } يعني لينذر النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي يوم التلاق وهو يوم القيامة لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، وقيل يلتقي الخلق والخالق وقيل يلتقي العابدون والمعبودون وقيل يلتقي المرء مع عمله وقيل يلتقي الظالم والمظلوم { يوم هم بارزون } أي خارجون من قبورهم ظاهرون لا يسترهم شيء { لا يخفى على الله منهم شيء } أي من أعمالهم وأحوالهم ، فإن قلت إن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في سائر الأيام فما وجه تخصيص ذلك اليوم ، قلت كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله تعالى لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم وهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه في الدنيا { لمن الملك اليوم } أي يقول الله عز وجل في ذلك اليوم بعد فناء الخلق لمن الملك فلا أحد يجيبه فيجيب نفسه تعالى فيقول { لله الواحد القهار } أي الذي قهر الخلق بالموت وقيل إذا حضر الأولون والآخرون في يوم القيامة نادى مناد لمن الملك فيجيبه جميع الخلائق في يوم القيامة { لله الواحد القهار } فالمؤمنون يقولونه تلذذاً حيث كانوا يقولونه في الدنيا ونالوا به المنزلة الرفيعة في العقبى والكفار يقولونه على سبيل الذل والصغار والندامة حيث لم يقولوه في الدنيا { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } يعني يجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته { لا ظلم اليوم } أي إن الخلق آمنون في ذلك اليوم من الظلم لأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد { إن الله سريع الحساب } أي إنه تعالى لا يشغله حساب عن حساب بل يحاسب الخلق كلهم في وقت واحد .(5/330)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
{ والله يقضي بالحق } أي يحكم بالعدل { والذين يدعون من دونه } يعني الأصنام { لا يقضون بشيء } لأنها لا تعلم شيئاً ولا تقدر على شيء { إن الله هو السميع } أي لأقوال الخلق { البصير } بأفعالهم { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض } أي المعنى أن العاقل من اعتبر بغيره فإن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء فلم تنفعهم قوتهم { فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق } أي يدفع عنهم العذاب { ذلك } أي ذلك العذاب الذي نزل بهم { بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب } قوله عز وجل : { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا } يعني فرعون وقومه { اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه } قيل هذا القتل غير القتل الأول لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الوالدان فلما بعث موسى عليه الصلاة والسلام أعاد القتل عليهم فمعناه أعيدوا عليهم القتل { واستحيوا نساءهم } أي استحيوا النساء ليصدوهم بذلك عن متابعة موسى عليه الصلاة والسلام ومظاهرته { وما كيد الكافرين } أي وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم { إلا في ضلال } أي يذهب كيدهم باطلاً ويحيق بهم ما يريده الله تعالى { وقال فرعون } أي لملئه { ذروني أقتل موسى } وإنما قال فرعون هذا لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى وإنما منعوه عن قتله لأنه كان فيهم من يعتقد بقلبه أنه كان صادقاً ، وقيل قالوا لا تقتله فإنه هو ساحر ضعيف فلا يقدر أن يغلب سحرنا وإن قتلته قالت العامة كان محقاً صادقاً وعجزوا عن جوابه فقتلوه { وليدع ربه } أي وليدع موسى ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا { إني أخاف أن يبدل دينكم } يعني يقول فرعون أخاف أن يغير دينكم الذي أنتم عليه { أو أن يظهر في الأرض الفساد } يعني بذاك تغيير الدين وتبديله وعبادة غيره .(5/331)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
{ وقال موسى } يعني لما توعده فرعون بالقتل { إني عذت بربي وربكم } يعني أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يأت في دفع الشدة إلا بأن استعاذ بالله واعتمد عليه فلا جرم أن صانه الله عن كل بلية { من كل متكبر } أي متعظم عن الإيمان { لا يؤمن بيوم الحساب } قوله عز وجل : { وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه } قيل كان ابن عم فرعون وقيل كان من القبط وقيل كان من بني إسرائيل ، فعلى هذا يكون معنى الآية وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون وكان اسم هذا المؤمن حزبيل عند ابن عباس وأكثر العلماء وقال إسحاق كان اسمه جبريل وقيل حبيب { أتقتلون رجلاً أن يقول } أي لأن يقول { ربي الله } وهذا استفهام إنكار وهو إشارة إلى التوحيد وقوله { وقد جاءكم بالبينات من ربكم } فيه إشارة إلى تقرير نبوته بإظهار المعجزة والمعنى وقد جاءكم بما يدل على صدقه { وإن يك كاذباً فعليه كذبه } أي لا يضركم ذلك إنما يعود وبال كذبه عليه { وإن يك صادقاً } أي فكذبتموه { يصبكم بعض الذي يعدكم } قيل معناه يصبكم الذي يعدكم إن قتلتموه وهو صادق ، وقيل بعض على أصلها ومعناه كأنه قاله على طريق الاحتجاج أقل ما في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم وفيه هلاككم فذكر البعض ليوجب الكل { إن الله لا يهدي } يعني إلى دينه { من هو مسرف كذاب } أي على الله تعالى ( خ ) عن عروة بن الزبير قال : سالت عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه وخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم } .
قوله عز وجل : { يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض } يعني غالبين في الأرض أي أرض مصر { فمن ينصرنا } يعني يمنعنا { من بأس الله إن جاءنا } والمعنى لكم الملك فلا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب وقتل النبي فإنه لا مانع من عذاب الله تعالى إن حل بكم { قال فرعون ما أريكم } أي من الرأي والنصيحة { إلا ما أرى } يعني لنفسي { وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } أي ما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى ثم حكى الله تعالى أن مؤمن آل فرعون رد على فرعون هذا الكلام وخوفه أن يحل به ما حل بالأمم قبله(5/332)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
{ وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم } يعني مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب حتى أتاهم العذاب { وما الله يريد ظلماً للعباد } يعني لا يهلكهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم { ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد } يعني يوم القيامة سمي يوم القيامة يوم التناد لأنه يدعى فيه كل أناس بإمامهم وينادي بعضهم بعضاً فينادي أصحاب الجنة أصحاب النار وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة وينادى فيه بالسعادة والشقاوة ألا إن فلان بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً وفلان ابن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً وينادي حين يذبح الموت يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت وقيل ينادي المؤمن هاؤم اقرؤوا كتابيه وينادي الكافر يا ليتني لم أوت كتابيه وقيل يوم التناد يعني يوم التنافر من ند البعير إذا نفر وهرب وذلك أنهم إذا سمعوا زفير النار ندوا هرباً فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً عليه فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه { يوم تولون مدبرين } يعني منصرفين عن موقف الحساب إلى النار { ما لكم من الله من عاصم } يعني يعصمكم من عذابه { ومن يضلل الله فما له من هاد } يعني يهديه { ولقد جاءكم يوسف } يعني يوسف بن يعقوب { من قبل } يعني من قبل موسى { بالبينات } يعني قوله { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } قيل مكث فيهم يوسف عشرين سنة نبياً وقيل إن فرعون يوسف هو فرعون موسى وقيل هو فرعون آخر { فما زلتم في شك مما جاءكم به } قال ابن عباس من عبادة الله وحده لا شريك له والمعنى أنهم بقوا شاكين في نبوته لم ينتفعوا بتلك البينات التي جاءهم بها { حتى إذا هلك } يعني مات { قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً } يعني أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدد عليكم الحجة وإنما قالوا ذلك على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ولا برهان عليه بل قالوا ذلك ليكون لهم أساساً في تكذيب الأنبياء الذين يأتون بعده وليس قولهم لن يبعث الله من بعده رسولاً تصديقاً لرسالة يوسف كيف وقد شكوا فيها وإنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضمون إلى التكذيب لرسالته { كذلك يضل الله من هو مسرف } يعني في شركه وعصيانه { مرتاب } يعني في دينه .(5/333)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
{ الذين يجادلون في آيات الله } قيل هذا تفسير للمسرف المرتاب يعني الذين يجادلون في إبطال آيات الله بالتكذيب { بغير سلطان } أي بغير حجة وبرهان { أتاهم } من الله { كبر } أي ذلك الجدال { مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } قوله عز وجل : { وقال فرعون } يعني لوزيره { يا هامان ابن لي صرحاً } يعني بناء ظاهراً لا يخفى على الناظرين وإن بعد وقد تقدم ذكره في سورة القصص { لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات } يعني طرقها وأبوابها من سماء إلى سماء { فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه } يعني موسى { كاذباً } أي فيما يدعي ويقول إن له رباً غيري { وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل } قال ابن عباس رضي الله عنهما صده الله تعالى عن سبيل الهدى وقرىء وصد بالفتح أي وصد فرعون الناس عن السبيل { وما كيد فرعون إلا في تباب } أي وما كيده في إبطال آيات موسى إلا في خسار وهلاك .
قوله تعالى : { وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد } أي طريق الهدى { يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع } أي متعة ينتفعون بها مدة ثم تنقطع { وإن الآخرة هي دار القرار } يعني التي لا تزول والمعنى أن الدنيا فانية منقرضة لا منفعة فيها وأن الآخرة باقية دائمة والباقي خير من الفاني ، قال بعض العارفين : لو كانت الدنيا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً لكانت الآخرة خيراً من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان والآخرة ذهب باق { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها } قيل معناه من عمل الشرك فجزاؤه جهنم خالداً فيها ومن عمل بالمعاصي فجزاؤه العقوبة بقدرها { ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب } يعني لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير وقيل يصب عليهم الرزق صباً بغير تقتير .(5/334)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
{ ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار } معناه أنا أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة من النار وأنتم تدعونني إلى الشرك الذي يوجب النار ثم فسر ذلك فقال { تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم } أي لا أعلم أن الذي تدعونني إليه إله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكاً للإله الحق؛ ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر والشرك بين أنه يدعوهم إلى الإيمان بقوله { وأنا أدعوكم إلى العزيز } أي في انتقامه ممن كفر { الغفار } أي لذنوب أهل التوحيد { لا جرم } يعني حقاً { أنما تدعونني إليه } يعني الصنم { ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة } يعني ليست له استجابة دعوة لأحد في الدنيا ولا في الآخرة وقيل ليست له دعوة إلى عبادته في الدنيا ولا في الآخرة لأن الأصنام لا تدعي الربوبية ولا تدعو إلى عبادتها وفي الآخرة تتبرأ من عابديها { وأن مردنا إلى الله } يعني مرجعنا إلى الله فيجازي كلاًّ بما يستحقه { وأن المسرفين } يعني المشركين { هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم } أي إذا عاينتم العذاب حين لا ينفعكم الذكر { وأفوض أمري إلى الله } أي أرد أمري إلى الله وذلك أنهم توعدوه لمخالفته دينهم { إن الله بصير بالعباد } يعني يعلم المحق من المبطل ثم خرج المؤمن من بينهم فطلبوه فلم يقدروا عليه وذلك قوله تعالى : { فوقاه الله سيئات ما مكروا } يعني ما أرادوا به من الشر قيل إنه نجا مع موسى عليه الصلاة والسلام وكان قبطياً { وحاق } يعني نزل { بآل فرعون سوء العذاب } يعني الغرق في الدنيا والنار في الآخرة وذلك قوله تعالى : { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } يعني صباحاً ومساء قال ابن مسعود « أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدو وتروح إلى النار ويقال يا آل فرعون هذه منازلكم حتى تقوم الساعة » وقيل تعرض روح كل كافر على النار بكرة وعشياً ما دامت الدنيا .
ويستدل بهذه الآية على إثبات عذاب القبر أعاذنا الله تعالى منه بمنّه وكرمه ( ق ) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حين يبعثك الله تعالى إليه يوم القيامة » ثم أخبر الله تعالى عن مستقرهم يوم القيامة فقال تعالى : { ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون } أي يقال لهم ادخلوا يا آل فرعون { أشد العذاب } قال ابن عباس ألوان من العذاب غير الذي كانوا يعذبون بها منذ أغرقوا .(5/335)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
قوله تعالى : { وإذ يتحاجون } أي واذكر يا محمد لقومك إذ يختصمون يعني أهل النار { في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً } أي في الدنيا { فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار قال الذين استكبروا } يعني الرؤساء والقادة { إنا كل فيها } يعني نحن وأنتم { إن الله قد حكم بين العباد } أي قضى علينا وعليكم { وقال الذين في النار } يعني حين اشتد عليهم العذاب { لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب قالوا } يعني الخزنة { أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } يعني لا عذر لكم بعد مجيء الرسل { قالوا بلى } أي اعترفوا بذلك { قالوا فادعوا } يعني أنتم إنا لا نَّدعوا لكم لأنهم علموا أنه لا يخفف عنهم العذاب قال الله تعالى : { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } يعني يبطل ويضل ولا ينفعهم .
قوله عز وجل : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } قال ابن عباس بالغلبة والقهر ، وقيل بالحجة وقيل بالانتقام من الأعداء في الدنيا والآخرة وكل ذلك حاصل لهم فهم منصورون بالحجة على من خالفهم تارة وقد نصرهم الله بالقهر على من عاداهم وأهلك أعداءهم بالانتقام منهم كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل فإنه قتل به سبعين ألفاً { ويوم يقوم الأشهاد } يعني وننصرهم يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد وهم الحفظة من الملائكة يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم } أي إن اعتذروا عن كفرهم لم يقبل منهم { ولهم اللعنة } أي البعد من الرحمة { ولهم سوء الدار } يعني جهنم .(5/336)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{ ولقد آتينا موسى الهدى } يعني النبوة وقيل التوراة { وأورثنا بني إسرائيل الكتاب } يعني التوراة وقيل سائر الكتب المنزلة على أنبيائهم { هدى وذكرى لأولي الألباب } قوله تعالى : { فاصبر } أي يا محمد على أذاهم { إن وعد الله حق } أي في إظهار دينك وإهلاك أعدائك قال الكلبي نسخت آية القتال آية الصبر { واستغفر لذنبك } يعني الصغائر وهذا على قول من يجوزها على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل يعني على ترك الأولى والأفضل وقيل على ما صدر منه قبل النبوة وعند من لا يجوز الصغائر على الأنبياء يقول هذا تعبد من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليزيده درجة ولتصير سنة لغيره من بعده وذلك لأن مجامع الطاعات محصورة في قسمين التوبة عما لا ينبغي ، والاشتغال بما ينبغي والأول مقدم وهو التوبة من الذنوب والثاني الاشتغال بالطاعات وهو قوله تعالى : { وسبح بحمد ربك } أي نزه ربك عما لا يليق بجلاله وقيل صل شاكراً لربك { بالعشي والإبكار } يعني صلاة العصر وصلاة الفجر وقال ابن عباس الصلوات الخمس { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم } يعني كفار قريش { إن في صدورهم } يعني ما في قلوبهم { إلا كبر } قال ابن عباس ما حملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والعظمة { ما هم ببالغيه } يعني ببالغي مقتضى ذلك الكبر وقيل معناه إن في صدورهم إلا كبر على محمد صلى الله عليه وسلم وطمع أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك وقيل نزلت في اليهود وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن صاحبنا المسيح بن داود يعنون الدجال يخرج في آخر الزمان فيبلغ سطانه البر والبحر ويرد الملك إلينا قال الله تعالى : { فاستعذ بالله } أي من فتنة الدجال { إنه هو السميع } يعني لأقوالهم { البصير } يعني بأفعالهم .
قوله عز وجل : { لخلق السموات والأرض } يعني مع عظمهما { أكبر من خلق الناس } أي من إعادتهم بعد الموت والمعنى أنهم مقرون أن الله تعالى خلق السموات والأرض وذلك أعظم في الصدور من خلق الناس فكيف لا يقرون بالبعث بعد الموت { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يعني أن الكفار لا يعلمون حيث لا يستدلون بذلك على توحيد خالقها ، وقال قوم معنى أكبر من خلق الناس أي أعظم من خلق الدجال ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعني اليهود الذين يخاصمون في أمر الدجال .
( فصل في ذكر الدجال )
( م ) عن هشام بن عروة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول « ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال » معناه أكبر فتنة وأعظم شوكة من الدجال ( ق ) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما(5/337)
« أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال إنه أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافئة » ولأبي داود والترمذي عنه قال « قام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال إني أنذركموه وما من نبي إلا وقد أنذره قومه لقد أنذر نوح قومه ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور وأن الله ليس بأعور » ( ق ) عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما من نبي إلا وقد أنذر قومه الأعور الكذاب ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر » وفي رواية لمسلم « بين عينيه كافر ثم تهجى ك ف ر ويقرؤه كل مسلم » عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فذكر الدجال ، فقال إن بين يديه ثلاث سنين سنة تمسك السماء ثلث قطرها والأرض .
والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها . والثالثة تمسك السماء قطرها كله والأرض نباتها كله نباتها كله فلا تبقى ذات ظلف ولا ضرس من البهائم إلا هلكت ومن أشد فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول : أرأيت إن أحييت لك إبلك ألست تعلم أني ربك قال : فيقول : بلى ، فيتمثل الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعاً وأعظمه أسنمة ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه فيقول : أرأيت إن أحييت لك أخاك وأباك ألست تعلم أني ربك فيقول بلى فيتمثل له الشيطان نحو أخيه ونحو أبيه قالت : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغمّ مما حدثهم قالت وأخذ بلحمتي الباب فقال مهيم أسماء فقلت : يا رسول الله لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال قال : إن يخرج وأنا حي فأنا حجيجه وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن ، قالت أسماء : فقلت يا رسول الله والله إنا لنعجن عجيناً فما نخبزه حتى نجوع فكيف بالمؤمنين يومئذ ، قال : يجزيهم ما يجزىء أهل السماء من التسبيح والتقديس » وفي رواية عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم « يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كاضطرام السعفة في النار » هذا حديث أخرجه البغوي بسنده والذي جاء في صحيح مسلم قال « قلنا يا رسول الله ما لبثه في الأرض قال أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم هذه قلنا يا رسول الله فذاك اليوم الذي كسنة أتكفينا له صلاة يوم قال لا أقدروا له قدره قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض قال كالغيث استذرته الريح »(5/338)
وفي رواية أبي داود عنه « فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته وفيه ثم ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيدركه عند باب لد فيقتله » ( ق ) عن حذيفة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إن مع الدجال إذا خرج ماء وناراً ، فأما الذي يرى الناس أنه نار فماء بارد والذي يرى الناس أنه ماء فنار محرقة فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى أنه نار فإنه ماء عذب بارد » ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ألا أحدثكم حديثاً عن الدجال ما حدث به نبي قومه إنه أعور وإنه يجيء بمثال الجنة ولنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار وإني أنذركم كما أنذر نوح قومه » ( ق ) « عن المغيرة بن شعبة قال » ما سأل أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدجال ما سألته وإنه قال لي ما يضرك قلت إنهم يقولون إن معه جبل خبز ونهر ماء قال هو أهون على الله من ذلك « عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال » من سمع بالدجال فلينأ منه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به الشبهات أو قال لما يبعث به من الشبهات « أخرجه أبو داود ( ق ) عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال » ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس نقب من نقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها فينزل السبخة ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج إليه كل كافر ومنافق « ( م ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال » يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة حتى ينزل دبر أحد ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام وهناك يهلك « عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال » الدجال يخرج بأرض بالمشرق يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة « أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب ( م ) . عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة « عن مجمع بن جارية الأنصاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول » يقتل ابن مريم الدجال بباب لد « أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح . قال الشيخ محيي الدين النووي : قال القاضي عياض هذه الأحاديث التي وردت في قصة الدجال حجة للمذهب الحق في صحة وجوده وأنه شخص بعينه ابتلى الله تعالى به عباده فأقدره على أشياء من المقدورات من إحياء الميت الذي يقتله ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه وجنته وناره وإتباع كنوز الأرض له وأمره السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت ويقع كل ذلك بقدرة الله تعالى وفتنته ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره ويبطل أمره ويقتله عيسى ابن مريم عليه السلام ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ، هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء خلافاً لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة وخلافاً للجبائي المعتزلي وموافقيه من الجهمية وغيرهم في أنه صحيح الوجود ولكن الأشياء التي يأتي بها زعموا أنها مخاريق وخيالات لا حقائق لها وزعموا أنها لو كانت حقاً لضاهت معجزات الأنبياء وهذا غلط من جميعهم لأنه لم يدع النبوة فيكون ما معه كالتصديق له وإنما يدعي الربوبية وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله ووجود دلائل الحدوث فيه ونقص صورته وعجزه عن إزالة العور الذي في عينه وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه ولهذه الدلائل لا يغتر به إلا عوام من الناس لشدة الحاجة والفاقة رغبة في سد الرمق أو خوفاً من فتنته لأن فتنته عظيمة جداً تدهش العقول وتحير الألباب ولهذا حذرت الأنبياء من فتنته فأما أهل التوفيق فلا يغترون به ولا يخدعون بما معه لما سبق من العلم بحاله ولهذا يقول له الذي يقتله ثم يحييه ما ازددت فيك إلا بصيرة قوله(5/339)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
قوله عز وجل : { وما يستوي الأعمى والبصير } أي الجاهل والعالم { والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء } أي لا يستوون { قليلاً ما تتذكرون إن الساعة } يعني القيامة { لآتية لا ريب فيها } أي لا شك في قيامها ومجيئها { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } أي لا يصدقون بالبعث بعد الموت ، قوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } أي اعبدوني دون غيري أجبكم وأثبكم وأغفر لكم فلما عبر عن العبادة بالدعاء جعل الإثابة استجابة عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر « الدعاء هو العبادة ثم قرأ { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } » أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من لم يسأل الله يغضب عليه » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب عن أنس بن مالك قال « الدعاء مخ العبادة » أخرجه الترمذي وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « ليس شيء أكرم على الله من الدعاء » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب؛ فإن قلت كيف قال ادعوني أستجب لكم وقد يدعو الإنسان كثيراً فلا يستجاب له ، قلت الدعاء له شروط منها الإخلاص في الدعاء وأن لا يدعو وقلبه لاه مشغول بغير الدعاء وأن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة للإنسان وأن لا يكون فيه قطيعة رحم فإذا كان الدعاء بهذه الشروط كان حقيقاً بالإجابة فإما أن يعجلها له وإما أن يؤخرها له يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما من رجل يدعو الله تعالى بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له به في الدنيا وإما أن يدخر له في الآخرة وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل قالوا يا رسول الله وكيف يستعجل قال يقول دعوت ربي فما استجاب لي » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وقيل الدعاء هو الذكر والسؤال { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } أي عن توحيدي وقيل دعائي { سيدخلون جهنم داخرين } أي صاغرين ذليلين .(5/340)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)
قوله عز وجل : { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } أي لتحصل لكم الراحة فيه بسبب النوم والسكون { والنهار مبصراً } أي لتحصل لكم فيه مكنة التصرف في حوائجكم ومهماتكم { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ذلكم الله ربكم } أي ذلكم المميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم { خالق كل شيء لا إله إلا هو } أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق الأشياء كلها وأنه لا شريك له في ذلك { فأنى تؤفكون } أي فأنى تصرفون عن الحق { كذلك } أي كما أفكنتم عن الحق مع قيام الدلائل كذلك { يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون الله الذي جعل لكم الأرض قراراً } أي فراشاً لتستقروا عليها وقيل منزلاً في حال الحياة وبعد الموت { والسماء بناء } أي سقفاً مرفوعاً كالقبة { وصوركم فأحسن صوركم } أي خلقكم فأحسن خلقكم قال ابن عباس خلق ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده وغير ابن آدم يتناول بفيه { ورزقكم من الطيبات } قيل هو ما خلق الله تعالى لعباده من المأكل والمشرب من غير رزق الدواب { ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين هو الحي } وهذا يفيد الحصر أي لا حي إلا هو فوجب أن يحمل ذلك على الذي يمتنع أن يموت امتناعاً تاماً ثابتاً وهو الله تعالى الذي لا يوصف بالحياة الكاملة إلا هو ، والحي هو المدرك الفعال لما يريد وهذه إشارة إلى العلم التام والقدرة التامة ولما نبه على هذه الصفات نبه على كمال الوحدانية بقوله { لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين } أي فادعوه واحمدوه ، قال ابن عباس من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين } وذلك حين دعي إلى الكفر أمره الله تعالى أن يقول ذلك .
قوله تعالى : { هو الذي خلقكم من تراب } يعني أصلكم آدم وقيل يحتمل أن كل إنسان خلق من تراب لأنه خلق من النطفة وهي من الأغذية والأغذية من النبات والنبات من التراب { ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً } يعني أن مراتب الإنسان بعد خروجه من بطن أمه ثلاث الطفولية وهي حالة النمو والزيادة إلى أن يبلغ كمال الأشد من غير ضعف ثم يتناقص بعد ذلك وهي الشيوخة { ومنكم من يتوفى من قبل } أي من قبل أن يصير شيخاً { ولتبلغوا } أي جميعاً { أجلاً مسمى } أي وقتاً محدود لا تجاوزونه يعني أجل الحياة إلى الموت { ولعلكم تعقلون } أي ما في هذه الأحوال العجيبة من القدرة الباهرة الدالة على توحيده وقدرته { هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } أي يكونه من غير كلفة ولا معاناة ولا تعب وكل ذلك من كمال قدرته على الإحياء والإماتة وسائر ما ذكر من الأفعال الدالة على قدرته كأنه قال من الاقتدار إذا قضى أمراً كان أهون شيء وأسرعه .
قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله } يعني القرآن { أنى يصرفون } أي عن دين الحق وقيل نزلت في القدرية .(5/341)
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
{ الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون } فيه وعيد وتهديد ثم وصف ما أوعدهم به فقال تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون } يعني يجرون بتلك السلاسل { في الحميم ثم في النار يسجرون } يعني توقد بهم النار { ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله } يعني الأصنام { قالوا ضلوا عنا } أي فقدناهم فلم نرهم { بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً } قيل إنهم أنكروا عبادتها ، وقيل لم نكن ندعوا شيئاً ينفع ويضر ، وقيل ضاعت عبادتنا لها فكأنا لم نكن ندعو من قبل شيئاً { كذلك يضل الله الكافرين } أي كما أضل هؤلاء { ذلكم } أي العذاب الذي نزل بكم { بما كنتم تفرحون } أي تبطرون وتأشرون { في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون } أي تختالون وتفرحون به { ادخلوا أبواب جهنم } يعني السبعة { خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين } يعني عن الإيمان .
قوله تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي بنصرك على الأعداء { فإما نرينك بعض الذي نعدهم } أي من العذاب في حياتك { أو نتوفينك } أي قبل أن يحل ذلك بهم { فإلينا يرجعون ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك } أي خبره وحاله في القرآن { ومنهم من لم نقصص عليك } أي لم نذكر لك حال الباقين منهم وليس منهم أحد إلا أعطاه الله تعالى آيات ومعجزات ، وقد جادله قومه وكذبوه فيها وما جرى عليهم يقارب ما جرى عليك فصبروا وهذا تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } يعني بأمره وإرادته { فإذا جاء أمر الله } أي قضاؤه بين الأنبياء والأمم { قضي بالحق } يعني بالعدل { وخسر هنالك المبطلون } يعني الذين يجادلون في آيات الله بغير حق وفيه وعيد وتهديد لهم .(5/342)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
قوله تعالى : { الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع } أي في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } أي تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد في أسفاركم وحاجاتكم { وعليها وعلى الفلك تحملون } أي على الإبل في البر وعلى السفن في البحر { ويريكم آياته } أي دلائل قدرته { فأي آيات الله تنكرون } يعني أن هذه الآيات التي ذكرها ظاهرة باهرة فليس شيء منها يمكن إنكاره .
قوله تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً في الأرض } يعني مصانعهم وقصورهم والمعنى لو سار هؤلاء في أطراف الأرض لعرفوا أن عاقبة هؤلاء المنكرين المتمردين الهلاك والبوار مع أنهم كانوا أكثر عدداً وأموالاً من هؤلاء { فما أغنى عنهم } أي لم ينفعهم { ما كانوا يكسبون } أي أي شيء أغنى عنهم كسبهم { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا } أي رضوا { بما عندهم من العلم } قيل هو قولهم لن نبعث ولن نعذب وقيل هو علمهم بأحوال الدنيا سمي ذلك علماً على ما يدعونه ويزعمونه وهو في الحقيقة جهل { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا } أي عذابنا { قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين } أي تبرأنا مما كنا نعدل بالله { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده } يعني أن سنة الله قد جرت في الأمم الخالية بعدم قبول الإيمان عند معاينة البأس وهو العذاب يعني بتلك السنة أنهم إذا رأوا العذاب آمنوا ولا ينفعهم إيمانهم عند معاينة العذاب { وخسر هنالك الكافرون } يعني بذهاب الدارين قيل الكافر خاسر في كل وقت ولكنه يتبين خسرانه إذا رأى العذاب والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه .(5/343)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
قوله عز وجل : { حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته } أي بينت وميزت وجعلت معاني مختلفة من أحكام وأمثال ومواعظ ووعد ووعيد { قرآناً عربياً } أي باللسان العربي { لقوم يعلمون } أي إنما أنزلناه على العرب بلغتهم ليفهموا منه والمراد ولو كان بغير لسانهم ما فهموه { بشيراً ونذيراً } نعتان للقرآن أي بشيراً لأولياء الله بالثواب ونذيراً لأعدائه بالعقاب { فأعرض أكثرهم } أي عنه { فهم لا يسمعون } أي لا يصغون إليه تكبراً { وقالوا } يعني مشركي مكة { قلوبنا في أكنة } أي أغطية { مما تدعونا إليه } أي فلا نفقه ما تقول { وفي آذاننا وقر } أي صمم فلا نسمع ما تقول والمعنى أنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع { ومن بيننا وبينك حجاب } أي خلاف في الدين وحاجز في الملة فلا نوافقك على ما تقول { فاعمل } أي أنت على دينك { إننا عاملون } أي على ديننا { قل } يا محمد { إنما أنا بشر مثلكم } أي كواحد منكم { يوحى إليّ } أي لولا الوحي ما دعوتكم ، قال الحسن : علمه الله تعالى التواضع { إنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه } أي توجهوا إليه بطاعته ولا تميلوا عن سبيله { واستغفروه } أي من ذنوبكم وشرككم { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة } قال ابن عباس : لا يقولون لا إله إلا الله لأنها زكاة الأنفس ، والمعنى لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد . وقيل : لا يقرون بالزكاة المفروضة ولا يرون إتيانها واجباً يقال الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك ، وقيل : معناه لا ينفقون في طاعة الله ولا يتصدقون ، وقيل : لا يزكون أعمالهم { وهم بالآخرة هم كافرون } أي جاحدون بالبعث بعد الموت .(5/344)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } قال ابن عباس : غير مقطوع ، وقيل : غير منقوص ، وقيل : غير ممنون عليهم به ، وقيل : غير محسوب . قيل نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن العمل والطاعة يكتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه ( خ ) عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول « إذا كان العبد يعمل عملاً صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر كتب الله تعالى له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم » .
قوله عز وجل : { قل أئنكم } استفهام بمعنى الإنكار وذكر عنهم شيئين منكرين أحدهما الكفر بالله تعالى وهو قوله تعالى { لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } وثانيهما { وتجعلون له أنداداً } إثبات الشركاء والأنداد له والمعنى كيف يجوز جعل هذه الأصنام الخسيسة أنداداً لله تعالى مع أنه تعالى هو الذي خلق الأرض في يومين يعني الأحد والاثنين { ذلك رب العالمين } أي هو رب العالمين وخالقهم المستحق للعبادة لا الأصنام المنحوتة من الخشب والحجر { وجعل فيها رواسي } أي جبالاً ثوابت { من فوقها } أي من فوق الأرض { وبارك فيها } أي في الأرض بكثرة الخيرات الحاصلة فيها وهو ما خلق فيها من البحار والأنهار والأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه { وقدر فيها أقواتها } أي قسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم وقيل قدر في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة وقيل قدر البر لأهل قطر من الأرض والتمر لأهل قطر آخر والذرة لأهل قطر والسمك لأهل قطر وكذلك سائر الأقوات .
قيل إن الزراعة أكثر الحرف بركة لأن الله تعالى وضع الأقوات في الأرض قال الله تعالى : { وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام } أي مع اليومين الأولين فخلق الأرض في يومين وقدر الأقوات في يومين وهما يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فصارت أربعة أيام رد الآخر على الأول في الذكر { سواء للسائلين } معناه سواء لمن سأل عن ذلك أي فهكذا الأمر سواء لا زيادة فيه ولا نقصان جواباً لمن سأل في كم خلقت الأرض والأقوات { ثم استوى إلى السماء } أي عمد إلى خلق السماء { وهي دخان } ذلك الدخان كان بخار الماء ، قيل كان العرش قبل خلق السموات والأرض على الماء فلما أراد الله تعالى أن يخلق السموات والأرض أمر الريح فضربت الماء فارتفع منه بخار كالدخان فخلق منه السماء ثم أيبس الماء فخلقه أرضاً واحدة ثم فتقها فجعلها سبعاً .
فإن قلت هذه الآية مشعرة بأن خلق الأرض كان قبل خلق السماء وقوله { والأرض بعد ذلك دحاها } مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السماء فكيف الجمع بينهما .(5/345)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
وقوله تعالى : { فقضاهن سبع سموات } أي أتمهن وفرغ من خلقهن { في يومين } وهما الخميس والجمعة { وأوحى في كل سماء أمرها } قال ابن عباس خلق في كل سماء خلقاً من الملائكة وخلق ما فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلمه إلا الله تعالى وقيل أوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهي { وزينا السماء الدنيا } أي التي تلي الأرض { بمصابيح } أي بكواكب تشرق كالمصابيح { وحفظاً } أي وجعلناها يعني الكواكب حفظاً للسماء من الشياطين الذين يسترقون السمع { ذلك } أي الذي ذكر من صنعه وخلقه { تقدير العزيز } أي في ملكه { العليم } أي بخلقه وفيه إشارة إلى كمال القدرة والعلم .
قوله تعالى : { فإن أعرضوا } يعني هؤلاء المشركين عن الإيمان بعد هذا البيان { فقل أنذرتكم } أي خوفتكم { صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } أي هلاكاً مثل هلاكهم والصاعقة المهلكة من كل شيء { إذ جاءتهم الرسل } يعني إلى عاد وثمود { من بين أيديهم } يعني الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم { ومن خلفهم } يعني ومن بعد الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم وهم الرسل الذين أرسلوا إليهم وهما هود وصالح وإنما خص هاتين القبيلتين لأن قريشاً كانوا يمرون على بلادهم { أن لا } أي بأن لا { تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة } يعني لو شاء ربنا دعوة الخلق لأنزل ملائكة بدل هؤلاء الرسل { فإنا بما أرسلتم به كافرون } روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله قال : « قال الملأ من قريش وأبو جهل قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر فأتاه فكلمه ثم أتينا ببيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علماً وما يخفى عليّ إن كان كذلك ، فأتاه فلما خرج إليه قال : يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كان ما بك للرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رئيساً ما بقيت وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته } إلى قوله تعالى { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فانطلقوا إليه فقال أبو جهل : والله يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك طعامه فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ، فغضب عتبة وأقسم لا يكلم محمداً أبداً وقال : والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، وقرأ السورة إلى قوله تعالى { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب » وقال محمد بن كعب القرظي : حدثت أن عتبة بن ربيعة كان سيداً حليماً قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل منا بعضها فنعطيه ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون قالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه وكلمه فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكانة في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت جماعتهم وسفهت أحلامهم وعيبت آلهتهم وكفرت من مضى من آبائهم فاستمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها فقال صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد فقال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا مالاً وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا وإن كان هذا الذي بك رئياً تراه لا تستطيع رده طلبنا لك الطب أو لعل هذا شعر جاش به صدرك فنعذرك فإنكم لعمري بني عبد المطلب تقدرون من ذلك على ما لا يقدر عليه أحد حتى إذا فرغ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال : نعم ، قال : فاستمع مني ، قال : فافعل ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم(5/346)
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
قوله عز وجل : { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة } وذلك أن هوداً هددهم بالعذاب فقالوا نحن نقدر على دفع العذاب عنا بفضل قوتنا وكانوا ذوي أجسام طوال قال الله تعالى رداً عليهم { أولم يروا } أي أو لم يعلموا { أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } أي عاصفاً شديد الصوت وقيل هي الريح الباردة فقيل إن الريح ثمانية ، فأربع منها عذاب وهي الريح الصرصر والعاصف والقاصف والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات قيل أرسل عليهم من الريح على قدر خرق الخاتم فأهلكوا جميعاً { في أيام نحسات } أي نكدات مشؤومات ذات نحس وقيل ذات غبار وتراب ثائر لا يكاد يبصر فيه وقيل أمسك الله عز وجل عنهم المطر ثلاث سنين ودأبت عليهم الريح من غير مطر { لنذيقهم عذاب الخزي } أي عذاب الذل والهوان وذلك مقابل لقوله { فاستكبروا في الأرض بغير الحق } { في الحياة الدنيا } أي ذلك الذي نزل بهم من الخزي والهوان في الحياة الدنيا { ولعذاب الآخرة أخزى } أي أشد إهانة { وهم لا ينصرون } أي لا يمنعون من العذاب .(5/347)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)
{ وأما ثمود فهديناهم } قال ابن عباس بينا لهم سبيل الهدى وقيل دللناهم على الخير والشر { فاستحبوا العمى على الهدى } أي اختاروا الكفر على الإيمان { فأخذتهم صاعقة العذاب الهون } أي ذي الهوان { بما كانوا يكسبون } أي من الشرك .(5/348)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
{ ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون } أي يتقون الشرك والأعمال الخبيثة وهم صالح ومن آمن معه من قومه .
قوله تعالى : { ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون } أي يساقون ويدفعون وقيل يحبس أولهم حتى يلحق آخرهم { حتى إذا ما جاؤوها } يعني النار { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } أي بشراتهم وقيل فروجهم { بما كانوا يعملون } معناه أن الجوارح تنطق بما كتمت الألسن من عملهم ( م ) عن أنس رضي الله تعالى عنه قال « كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال : هل تدرون مم أضحك قلنا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه عز وجل يقول يا رب ألم تجرني من الظلم ، قال فيقول بلى فيقول فإني لا أجيز اليوم على نفسي إلا شاهداً مني قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً وبالكرام الكاتبين عليك شهوداً قال فيختم على فيه ويقال لأعضائه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعداً لكنَّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل » { وقالوا } يعني الكفار الذين يجرون إلى النار { لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } معناه أن القادر الذي خلقكم أول مرة في الدنيا وأنطقكم ثم أعادكم بعد الموت قادر على إنطاق الأعضاء والجوارح وهو قوله تعالى : { وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون } وقيل تم الكلام عند قوله { الذي أنطق كل شيء } ثم ابتدأ بقوله { وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون } وقيل إنه ليس من جواب الجلود { وما كنتم تستترون } أي تستخفون وقيل معناه تظنون { أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم } والمعنى أنكم لا تقدرون على الاستخفاء من جوارحكم ولا تظنون أنها تشهد عليكم { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان الكفار يقولون إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ولكنه يعلم ما يظهر ( ق ) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال « اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم أترون أن الله تعالى يسمع ما نقول قال الآخر يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إن أخفينا وقال الآخر إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا فأنزل الله تعالى : { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } قيل الثقفي هو عبد ياليل وختناه القرشيان ربيعة وصفوان بن أمية .
قوله تعالى : { وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم } أي ظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون { أرداكم } أي أهلككم قال ابن عباس طرحكم في النار { فأصبحتم من الخاسرين } ثم أخبر عن حالهم بقوله بقوله تعالى { فإن يصبروا فالنار مثوى لهم } أي مسكن { وإن يستعتبوا } أي يسترضوا ويطلبوا العتبى والمعتب هو الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل { فما هم من المعتبين } أي المرضيين .(5/349)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
{ وقيضنا لهم } أي بعثنا ووكلنا وقيل هيأنا لهم وسببنا لهم { قرناء } أي نظراء من الشياطين حتى أضلوهم { فزينوا لهم ما بين أيديهم } أي من أمر الدنيا حتى آثروهم على الآخرة { وما خلفهم } أي فدعوهم إلى التكذيب بالآخرة وإنكار البعث وقيل حسنوا لهم أعمالهم القبيحة الماضية والمستقبلة { وحق عليهم القول } أي وجب { في أمم } أي مع أمم { قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } قوله تعالى : { وقال الذين كفروا } يعني مشركي قريش { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } قال ابن عباس : والغطوا فيه من اللغط وهو كثرة الأصوات كان بعضهم يوصي إلى بعض إذا رأيتم محمداً يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر وقيل أكثروا الكلام حتى يتخلط عليه ما يقول وقيل والغوا فيه بالمكاء والصغير وقيل صيحوا في وجهه { لعلكم تغلبون } يعني محمداً على قراءته { فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً ولنجزينهم أسوأ } يعني بأسوأ { الذي كانوا يعملون } أي في الدنيا وهو الشرك { ذلك } أي الذي ذكر من العذاب { جزاء أعداء الله } ثم بين ذلك الجزاء فقال { النار لهم فيها دار الخلد } أي دار الإقامة لا انتقال لهم عنها { جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون وقال الذين كفروا } أي في النار { ربنا } أي يقولون يا ربنا { أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس } يعنون إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه لأنهما سنَّا المعصية { نجعلهما تحت أقدامنا } أي في النار { ليكونا من الأسفلين } أي في الدرك الأصفل من النار وقال ابن عباس : ليكونا أشد عذاب منا .(5/350)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
قوله عز وجل : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال أهل التحقيق كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته لأجل العمل به ، ورأس المعرفة اليقينية معرفة الله تعالى وإليه الإشارة بقوله { إن الذين قالوا ربنا الله } ورأس الأعمال الصالحة أن يكون الإنسان مستقيماً في الوسط غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط فتكون الاستقامة في أمر الدين والتوحيد فتكون في الأعمال الصالحة . سئل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عن الاستقامة فقال : أن لا تشرك بالله شيئاً وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب .
وقال عثمان رضي الله تعالى عنه : استقاموا أخلصوا في العمل ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أدوا الفرائض ، وهو قول ابن عباس . وقيل استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه ، وقيل : استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله وكان الحسن إذا تلا هذه الآية قال اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة { تتنزل عليهم الملائكة } قال ابن عباس عند الموت وقيل إذا قاموا من قبورهم وقيل البشرى تكون في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث { أن لا تخافوا } أي من الموت وقيل لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة { ولا تحزنوا } أي على ما خلفتم من أهل وولد فإنا نخلفكم في ذلك كله وقيل لا تخافوا من ذنوبكم ولا تحزنوا فأنا أغفرها لكم { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم } أي تقول الملائكة عند نزولهم بالبشرى نحن أولياؤكم أي أنصاركم وأحباؤكم وقيل تقول لهم الحفظة نحن كنا معكم { في الحياة الدنيا و } نحن أولياؤكم { في الآخرة } لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة { ولكم فيها } أي في الجنة { ما تشتهي أنفسكم } أي من الكرامات واللذات { ولكم فيها ما تدعون } أي تتمنون { نزلاً } أي رزقاً والنزل رزق النزيل والنزيل هو الضيف { من غفور رحيم } قال أهل المعاني كل هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية جارية مجرى النزل والكريم إذا أعطى هذا النزل فما ظنك بما بعده من الألطاف و الكرامة .
قوله تعالى : { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } أي إلى طاعة الله تعالى وقيل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وقيل : هو المؤمن أجاب الله تعالى فيما دعاه إليه ودعا الناس إلى ما أجاب إليه { وعمل صالحاً } في إجابته وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : أرى أن هذه الآية نزلت في المؤذنين وقيل إن كل من دعا إلى الله تعالى بطريق من الطرق فهو داخل في هذه الآية .(5/351)
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
قوله تعالى { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } يعني الصبر والغضب والحلم والجهل والعفو والإساءة { ادفع بالتي هي أحسن } قال ابن عباس أمره بالصبر عند الغضب وبالحلم عند الجهل وبالعفو عند الإساءة { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } أي صديق قريب ، قيل نزلت في أبي سفيان بن حرب وذلك حيث لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فصار ولياً بالإسلام حميماً بالقرابة { وما يلقاها } أي وما يلقى هذه الخصلة والفعلة وهي دفع السيئة بالحسنة { إلا الذين صبروا } أي على تحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام وما يلقاها { إلا ذو حظ عظيم } أي من الخير والثواب وقيل الحظ العظيم الجنة يعني ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } النزغ شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه أي يبعثه إلى ما لا ينبغي ومعنى الآية وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن { فاستعذ بالله } أي من شره { إنه هو السميع } أي لاستعاذتك { العليم } بأحوالك .
قوله تعالى : { ومن آياته } أي ومن دلائل قدرته وحكمته الدالة على وحدانيته { الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } أي إنهما مخلوقان مسخران فلا ينبغي السجود لهما لأن السجود عبارة عن نهاية التعظيم { واسجدوا لله الذي خلقهن } أي المستحق للسجود والتعظيم هو الله خالق الليل والنهار والشمس والقمر { إن كنتم إياه تعبدون } يعني أن ناساً كانوا يسجدون للشمس والقمر والكواكب ويزعمون أن سجودهم لهذه الكواكب هو سجود لله عز وجل فنهوا عن السجود لهذه الوسايط وأمروا بالسجود لله الذي خلق هذه الأشياء كلها { فإن استكبروا } أي عن السجود لله { فالذين عند ربك } يعني الملائكة { يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون } أي لا يفترون ولا يملون .
( فصل )
وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة وفي موضع السجود فيها قولان للعلماء وهما وجهان لأصحاب الشافعي أحدهما أنه عند قوله تعالى : { إن كنتم إياه تعبدون } وهو قول ابن مسعود والحسن وحكاه الرافعي عن أبي حنيفة وأحمد لأن ذكر السجدة قبله والثاني وهو الأصح عند أصحاب الشافعي وكذلك نقله الرافعي أنه عند قوله تعالى : { وهم لا يسأمون } وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة لأن عنده يتم الكلام .(5/352)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
{ ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير } قوله تعالى : { إن الذين يلحدون } أي يميلون عن الحق { في آياتنا } أي في أدلتنا قيل بالمكاء والتصدية واللغو واللغط وقيل يكذبون بآياتنا ويعاندون ويشاقون { لا يخفون علينا } تهديد ووعيد قيل نزلت في أبي جهل { أفمن يلقى في النار } هو أبو جهل { خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة } المعنى الذين يلحدون في آياتنا يلقون في النار والذين يؤمنون بآياتنا آمنون يوم القيامة قيل هو حمزة وقيل عثمان وقيل عمار بن ياسر { اعملوا ما شئتم } أمر تهديد ووعيد { إنه بما تعملون بصير } أي إنه عالم بأعمالكم فيجازيكم عليها { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } يعني القرآن وفي جواب إن وجهان أحدهما أنه محذوف تقديره إن الذين كفروا بالذكر يجازون بكفرهم ، والثاني جوابه أولئك ينادون من مكان بعيد ثم أخذ في وصف الذكر فقال تعالى : { وإنه لكتاب عزيز } قال ابن عباس : كريم على الله تعالى ، وقيل : العزيز العديم النظير وذلك أن الخلق عجزوا عن معارضته وقيل أعزه الله بمعنى منعه فلا يجد الباطل إليه سبيلاً وهو قوله تعالى { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } قيل الباطل هو الشيطان فلا يستطيع أن يغيره وقيل إنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيأتيه الباطل من خلفه فعلى هذا يكون معنى الباطل الزيادة والنقصان وقيل لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يجيء بعده كتاب فيبطله وقيل معناه أن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات حتى يصل إليه وقيل : لا يأتيه الباطل عما أخبر فيما تقدم من الزمان ولا فيما تأخر { تنزيل من حكيم } أي في جميع أفعاله { حميد } أي إلى جميع خلقه بسبب نعمه عليهم ثم عزى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم إياه فقال عز وجل : { ما يقال لك } أي من الأذى والتكذيب { إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } يعني أنه قد قيل للأنبياء قبلك ساحر كما يقال لك وكذبوا كما كذبت { إن ربك لذو مغفرة } أي لمن تاب وآمن بك { وذو عقاب أليم } أي لمن أصر على التكذيب .(5/353)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
قوله عز وجل : { ولو جعلناه } أي هذا الكتاب الذي تقرأه على الناس { قرآناً أعجمياً } يعني بغير لغة العرب { لقالوا لولا فصلت آياته } يعني هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها { أأعجمي وعربي } يعني أكتاب أعجمي ورسول عربي وهذا استفهام إنكار والمعنى لو نزل الكتاب بلغة العجم لقالوا كيف يكون المنزل عليه عربياً والمنزل أعجمياً ، وقيل في معنى الآية : أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا كيف أنزلنا الكلام العجمي إلى القوم العرب ولصح قولهم أن يقولوا قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه ، وأنا لما أنزلنا هذا القرآن بلغة العرب وهم يفهمونه فكيف يمكنهم أن يقولوا قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على يسار غلام عامر بن الحضرمي وكان يهودياً أعجمياً يكنى أبا فكيهة فقال المشركون إنما يعلمه يسار فضربه سيده وقال إنك تعلم محمداً فقال هو والله يعلمني فأنزل الله تعالى هذه الآية { قل } يا محمد { هو } يعني القرآن { للذين آمنوا هدى } يعني من الضلالة { وشفاء } يعني لما في القلوب من مرض الشرك والشك وقيل شفاء من الأوجاع والأسقام { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى } يعني صموا عن استماع القرآن وعموا عنه فلا ينتفعون به { أولئك ينادون من مكان بعيد } يعني كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم كذلك هؤلاء في قلة انتفاعهم بما يوعظون به كأنهم ينادون من حيث لا يسمعون { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } يعني فمصدق به ومكذب كما اختلف قومك في كتابك { ولولا كلمة سبقت من ربك } يعني في تأخير العذاب عن المكذبين بالقرآن { لقضي بينهم } يعني لفرغ من عذابهم وعجل إهلاكهم { وإنهم لفي شك منه مريب } يعني من كتابك وصدقك { من عمل صالحاً فلنفسه } يعني يعود نفع إيمانه وعمله لنفسه { ومن أساء فعليها } يعني ضرر إساءته أو كفره يعود على نفسه أيضاً { وما ربك بظلام للعبيد } يعني فيعذب غير المسيء .
قوله عز وجل : { إليه يرد علم الساعة } يعني إذا سأل عنها سائل قيل له لا يعلم وقت قيام الساعة إلا الله تعالى ولا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك { وما تخرج من ثمرات من أكمامها } أي من أوعيتها ، وقال ابن عباس : هو الكفرى قبل أن ينشق { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } أي يعلم قدر أيام الحمل وساعاته ومتى يكون الوضع وذكر الحمل هو أم أنثى ومعنى الآية كما يرد إليه علم الساعة فكذلك يرد إليه علم ما يحدث من كل شيء كالثمار والنتاج وغيره .(5/354)
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
{ وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل } أي يعبدون في الدنيا { وظنوا ما لهم من محيص } أي مهرب .
قوله تعالى : { لا يسأم الإنسان } أي لا يمل الكافر { من دعاء الخير } يعني لا يزال يسأل ربه الخير وهو المال والغنى والصحة { وإن مسه الشر } أي الشدة والفقر { فيؤوس } أي من روح الله تعالى { قنوط } أي من رحمته { ولئن أذقناه رحمة منا } أي آتيناه خيراً وعافية وغنى { من بعد ضراء مسته } أي من بعد شدة وبلاء أصابه { ليقولن هذا لي } أي أستحقه بعملي { وما أظن الساعة قائمة } أي ولست على يقين من البعث { ولئن رجعت إلى ربي } يقول هذا الكافر أي فإن كان الأمر على ذلك ورددت إلى ربي { إن لي عنده للحسنى } أي الجنة والمعنى كما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة { فلننبئن الذين كفروا بما عملوا } قال ابن عباس لنوقفنهم على مساوي أعمالهم { ولنذيقنهم من عذاب غليظ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه } أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم { وإذا مسه الشر } أي الشدة والفقر { فذو دعاء عريض } أي كثير { قل } أي قل يا محمد لكفار مكة { أرأيتم إن كان من عند الله } أي هذا القرآن { ثم كفرتم به } أي جحدتموه { من أضل ممن هو في شقاق بعيد } أي في خلاف للحق بعيد عنه والمعنى فلا أحد أضل منكم { سنريهم آياتنا في الآفاق } قال ابن عباس يعني منازل الأمم الخالية { وفي أنفسهم } أي البلاء والأمراض وقيل ما نزل بهم يوم بدر وقيل في الآفاق هو ما يفتح من القرى والبلاد على محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين وفي أنفسهم هو فتح مكة { حتى يتبين لهم أنه الحق } يعني دين الإسلام ، وقيل يتبين القرآن أنه من عند الله وقيل يتبين لهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم مؤيد من قبل الله تعالى وقيل في الآفاق يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والأنهار والنبات وفي أنفسهم يعني من لطيف الحكمة وبديع الصنعة حتى يتبين لهم أنه الحق يعني لا يقدر على هذه الأشياء إلا الله تعالى : { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } يعني يشهد أن القرآن من عند الله تعالى ، وقيل أولم يكفهم الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله لهم على التوحيد وأنه شاهد لا يغيب عنه شيء .(5/355)
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
{ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم } أي في شك عظيم من القيامة { ألا إنه بكل شيء محيط } أي عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ، أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .(5/356)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
قوله عز وجل : { حم عسق } سئل الحسين بن الفضل لم قطع حروف حم عسق ولم يقطع حروف المص والمر وكهيعص ، فقال : لأنها بين سور أوائلها حم فجرت مجرى نظائرها فكان حم مبتدأ وعسق خبره لأن حم عسق عدت آيتين وعدت أخواتها التي لم تقطع آية واحدة . وقيل لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها أنها حروف التهجي واختلفوا في حم فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلها فعلاً فقال معناها حم الأمر أي قضى وبقي عسق على أصله . وقال ابن عباس ح حلمه م مجده ع علمه س سناه ق قدرته أقسم الله عز وجل بها . وقيل إن العين من العزيز والسين من قدوس والقاف من قاهر وقيل ح حرب في قريش يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز م ملك يتحول من قوم إلى قوم ع عدو لقريش يقصدهم س سنون كسني يوسف ق قدرة الله في خلقه ، وقيل هذا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم فالحاء حوضه المورود و الميم ملكه الممدرد والعين عزه الموجود والسين سناؤه المشهود والقاف قيامه في المقام المحمود وقربه من الملك المعبود وقال ابن عباس ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق فلذلك قال الله تعالى : { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك } وقيل معناه كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى الذين من قبلك { الله العزيز } في ملكه { الحكيم } في صنعه ، والمعنى كأنه قيل من يوحي فقال الله العزيز الحكيم ثم وصف نفسه وسعة ملكه(5/357)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
{ له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم تكاد السموات يتفطرن من فوقهن } أي من فوق الأرضين وقيل تنفطر كل واحدة فوق التي تليها من عظمة الله تعالى وقيل من قول المشركين اتخذ الله ولداً { والملائكة يسبحون بحمد ربهم } أي ينزهونه عما لا يليق بجلاله وقيل يصلون بأمر ربهم { ويستغفرون لمن في الأرض } أي من المؤمنين دون الكفار ، لأن الكافر لا يستحق أن تستغفر له الملائكة ، وقيل يحتمل أن يكون لجميع من في الأرض أما في حق الكافرين فبواسطة طلب الإيمان لهم ويحتمل أن يكون المراد من الاستغفار لا يعاجلهم بالعقاب وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم ، وقيل استغفارهم لمن في الأرض هو سؤال الرزق لهم فيدخل فيه المؤمن والكافر { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } يعني أنه تعالى يعطي المغفرة التي سألوها ويضم إليها بمنه وكرمه الرحمة العامة الشاملة .
قوله تعالى : { والذين اتخذوا من دونه أولياء } أي جعلوا له شركاء وأنداداً { الله حفيظ عليهم } يعني رقيب على أحوالهم وأعمالهم { وما أنت عليهم بوكيل } يعني لم توكل بهم حتى تؤخذ بهم إنما أنت نذير { وكذلك } أي ومثل ما ذكرنا { أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى } يعني مكة والمراد أهلها { ومن حولها } يعني قرى الأرض كلها { وتنذر يوم الجمع } أي وتنذرهم بيوم الجمع وهو يوم القيامة يجمع الله سبحانه وتعالى فيه الأولين والآخرين وأهل السموات وأهل الأرضين { لا ريب فيه } أي لا شك في الجمع أنه كائن ثم بعد ذلك يتفرقون وهو قوله تعالى : { فريق في الجنة وفريق في السعير } عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال « خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قابضاً على كفه ومعه كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول الله فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة ، ثم قال للذي في يساره هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة فقال عبد الله بن عمرو ففيم العمل إذاً؟ قال اعملوا وسددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل ثم قال فريق في الجنة وفريق في السعير عدل من الله تعالى » أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده .(5/358)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
قوله تعالى : { ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة } قال ابن عباس : على دين واحد وقيل على ملة الإسلام { ولكن يدخل من يشاء في رحمته } أي في دين الإسلام { والظالمون } أي الكافرون { ما لهم من ولي } أي يدفع عنهم العذاب { ولا نصير } أي يمنعهم من العذاب { أم اتخذوا } يعني الكفار { من دونه أولياء فالله هو الولي } قال ابن عباس هو وليك يا محمد وولي من تبعك { وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير } يعني أن من يكون بهذه الصفة فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً ومن لا يكون بهذه الصفة فليس بولي { ما اختلفتم فيه من شيء } أي من أمر الدين { فحكمه إلى الله } أي يقضي فيه ويحكم يوم القيامة بالفصل الذي يزيل الريب وقيل علمه إلى الله وقيل تحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن حكمه من حكم الله تعالى ولا تؤثروا حكومة غيره على حكومته { ذلكم الله } يعني الذي يحكم بين المختلفين هو الله { ربي عليه توكلت } يعني في جميع أموري { وإليه أنيب } يعني وإليه أرجع في كل المهمات { فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم } يعني من جنسكم { أزواجاً } يعني حلائل ، وإنما قال من أنفسكم لأن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم { ومن الأنعام أزواجاً } يعني أصنافاً ذكراناً وإناثاً { يذرؤكم } يعني يخلقكم وقيل يكثركم { فيه } يعني في الرحم وقيل في البطن لأنه قد تقدم ذكر الأزواج وقيل نسلاً بعد نسل حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل وقيل الضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطب من الناس والأنعام إلا أنه غلب جانب الناس وهم العقلاء على غير العقلاء من الأنعام ، وقيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به أي يكثركم بالتزويج { ليس كمثله شيء } المثل صلة أي ليس كهو شيء وقيل الكاف صلة مجازه ليس مثله شيء ، قال ابن عباس : ليس له نظير .
فإن قلت هذه الآية دالة على نفي المثل وقوله تعالى : { وله المثل الأعلى في السموات والأرض } يقتضي إثبات المثل فما الفرق .
قلت المثل الذي يكون مساوياً في بعض الصفات الخارجية على الماهية فقوله ليس كمثله شيء معناه ليس له نظير ، كما قاله ابن عباس أو يكون معناه ليس لذاته سبحانه وتعالى مثل وقوله { وله المثل الأعلى } معناه وله الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله ولا يشاركه فيه أحد فقد ظهر بهذا التفسير معنى الآيتين وحصل الفرق بينهما { وهو السميع } يعني لسائر المسموعات { البصير } يعني المبصرات .(5/359)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
{ له مقاليد السموات والأرض } يعني مفاتيح الرزق في السموات يعني المطر وفي الأرض يعني النبات يدل عليه قوله تعالى : { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي أنه يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء لأن مفاتيح الرزق بيده { إنه بكل شيء عليم } أي من البسط والتضييق .
قوله عز وجل : { شرع لكم من الدين } أي ما بين وسن لكم طريقاً واضحاً من الدين ، أي ديناً تطابقت على صحته الأنبياء وهو قوله تعالى : { ما وصى به نوحاً } أي أنه أول الأنبياء أصحاب الشرائع والمعنى قد وصيناه وإياك يا محمد ديناً واحداً { والذي أوحينا إليك } أي من القرآن وشرائع الإسلام { وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } إنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع المعظمة والأتباع الكثيرة وأولو العزم .
ثم فسر المشروع الذي اشترك فيه هؤلاء الأعلام من رسله بقوله تعالى : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } والمراد بإقامة الدين هو توحيد الله والإيمان به وبكتبه ورسله واليوم الآخر وطاعة الله في أوامره ونواهيه وسائر ما يكون الرجل به مسلماً ، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها فإنها مختلفة متفاوتة قال الله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } وقيل أراد تحليل الحلال وتحريم الحرام ، وقيل تحريم الأمهات والبنات والأخوات فإنه مجمع على تحريمهن ، وقيل لم يبعث الله نبياً إلا وصاه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله تعالى بالوحدانية والطاعة وقيل بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } أي من التوحيد ورفض الأوثان { الله يجتبي إليه من يشاء } أي يصطفي لدينه من يشاء من عباده { ويهدي إليه من ينيب } أي يقبل على طاعته { وما تفرقوا } يعني أهل الأديان المختلفة ، وقال ابن عباس : يعني أهل الكتاب { إلا من بعد ما جاءهم العلم } أي بأن الفرقة ضلالة { بغياً بينهم } أي ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وقيل بغياً منهم على محمد صلى الله عليه وسلم { ولولا كلمة سبقت من ربك } أي في تأخير العذاب عنهم { إلى أجل مسمى } يعني إلى يوم القيامة { لقضي بينهم } أي بين من آمن وكفر يعني لأنزل العذاب بالمكذبين في الدنيا { وإن الذين أورثوا الكتاب } أي اليهود والنصارى { من بعدهم } أي من بعد أنبيائهم وقيل الأمم الخالية { لفي شك منه } أي من أمر محمد صلى الله عليه وسلم فلا يؤمنون به { مريب } يعني مرتابين شاكين فيه { فلذلك } أي إلى ذلك { فادع } أي إلى ما وصى الله تعالى به الأنبياء من التوحيد وقيل لأجل ما حدث به من الاختلاف في الدين الكثير فادع أنت إلى الاتفاق على الملة الحنيفية { واستقم كما أمرت } أي أثبت على الدين الذي أمرت به { ولا تتبع أهواءهم } أي المختلفة الباطلة { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } أي آمنت بكتب الله المنزلة كلها وذلك لأن المتفرقين آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعض { وأمرت لأعدل بينكم } قال ابن عباس أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم من الأحكام وقيل لأعدل بينكم في جميع الأحوال والأشياء وقيل لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم وتحاكمتم إلى { الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } يعني أن إله الكل واحد وكل أحد مخصوص بعمل نفسه وإن اختلفت أعمالنا فكل يجازي بعمله { لا حجة } أي لا خصومة { بيننا وبينكم } وهذه الآية منسوخة بآية القتال إذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة فلم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة { الله يجمع بيننا } أي في المعاد لفصل القضاء { وإليه المصير } .(5/360)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
قوله عز وجل : { والذين يحاجون في الله } أي يخاصمون في دين الله قيل هم اليهود قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن خير منكم فهذه خصومتهم { من بعد ما استجيب له } أي من بعد ما استجاب الناس لدين الله تعالى فأسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزة نبيه صلى الله عليه وسلم { حجتهم داحضة } أي خصومتهم باطلة { عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } أي في الآخرة { الله الذي أنزل الكتاب بالحق } أي الكتاب المشتمل على أنواع الدلائل والأحكام { والميزان } أي العدل سمي العدل ميزاناً لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أمر الله تعالى بالوفاء ونهى عن البخس { وما يدريك لعل الساعة قريب } أي وقت إتيانها قريب وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا تكذيباً له متى تكون الساعة فأنزل الله تعالى : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } أي ظناً منهم أنها غير آتية { والذين آمنوا مشفقون } أي خائفون { منها ويعلمون أنها الحق } أي أنها آتية لا شك فيها { ألا إن الذين يمارون } أي يخاصمون { في الساعة } وقيل يشكون فيها { لفي ضلال بعيد }(5/361)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
{ الله لطيف بعباده } أي كثير الإحسان إليهم ، قال ابن عباس : حفي بهم وقيل رفيق وقيل لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم يدل عليه قوله تعالى : { يرزق من يشاء } يعني أن الإحسان والبر إنعام في حق كل العباد وهو إعطاء ما لا بد منه فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن وكافر وذي روح فهو ممن يشاء الله أن يزرقه ، وقيل لطفه في الرزق من وجهين أحدهما أنه جعل رزقكم من الطيبات والثاني أنه لم يدفعه إليكم مرة واحدة { وهو القوي } أي القادر على كل ما يشاء { العزيز } أي الذي لا يغالب ولا يدافع { من كان يريد حرث الآخرة } أي كسب الآخرة والمعنى من كان يريد بعمله الآخرة { نزد له في حرثه } أي بالتضعيف الواحدة إلى عشرة إلى ما يشاء الله تعالى من الزيادة ، وقيل إنا نزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعة إليه { ومن كان يريد حرث الدنيا } يعني يريد بعمله الدنيا مؤثراً لها على الآخرة { نؤته منها } أي ما قدر وقسم له منها { وما له في الآخرة من نصيب } يعني لأنه لم يعمل لها ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم « بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب » ذكره في جامع الأصول ولم يعزه إلى أحد من الكتب الستة وأخرجه البغوي بإسناده .
قوله تعالى : { أم لهم } يعني كفار مكة { شركاء } يعني الأصنام وقيل الشياطين { شرعوا لهم من الدين } قال ابن عباس شرعوا لهم غير دين الإسلام { ما لم يأذن به الله } يعني أن تلك الشرائع بأسرها على خلاف دين الله تعالى الذي أمر به وذلك أنهم زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا لأنهم لا يعلمون غيرها { ولولا كلمة الفصل } يعني أن الله حكم بين الخلق بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة { لقضي بينهم } أي لفرغ من عذاب الذين يكذبونك في الدنيا { وإن الظالمين } يعني المشركين { لهم عذاب أليم } أي في الآخرة { ترى الظالمين } يعني يوم القيامة { مشفقين } أي وجلين خائفين { مما كسبوا } أي من الشرك والأعمال الخبيثة { وهو واقع بهم } أي جزاء كسبهم واقع بهم { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات } لأن هذه الروضات أطيب بقاع الجنة فلذلك خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بها وفيه تنبيه على أن الجنة منازل غير الروضات هي لمن هو دون الذين عملوا الصالحات من أهل القبلة { لهم ما يشاؤون عند ربهم } أي من الكرامة { ذلك هو الفضل الكبير ذلك } أي الذي ذكر من نعيم الجنة الذي يبشر الله به عباده { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قوله عز وجل : { قل لا أسألكم عليه } أي على تبليغ الرسالة { أجراً } أي جزاء { إلا المودة في القربى } ( خ ) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله { إلا المودة في القربى } فقال سعيد بن جبير قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس : عجبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن بطن من قريش إلا وله فيهم قرابة فقال ألا تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة ، وعن ابن عباس أيضاً في قوله { إلا المودة في القربى } : يعني أن تحفظوا قرابتي وتودوني وتصلوا رحمي ، وإليه ذهب مجاهد وقتادة وعكرمة ومقاتل والسدي والضحاك ( خ ) عن ابن عمر أن أبا بكر قال : ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته واختلفوا في قرابته ، فقيل علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم وقيل أهل بيته من تحرم عليه الصدقة من أقاربه وهم بنو هاشم وبنو المطلب الذين لم يفترقوا في جاهلية ولا في إسلام ( م ) .(5/362)
عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به » فحثَّ على كتاب الله ورغب فيه ثم قال « وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي فقال له حصين من أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته قال نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرمت عليهم الصدقة بعده قال ومن هم قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس » .
فإن قلت طلب الأجر على تبليغ الرسالة والوحي لا يجوز لقوله في قصة نوح عليه السلام وغيره من الأنبياء { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } قلت لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على تبليغ الرسالة .
بقي الجواب عن قوله { إلا المودة في القربى } .
فالجواب عنه من وجهين : الأول معناه لا أطلب منكم إلا هذه وهذا في الحقيقة ليس بأجر ومنه قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
معناه إذا كان هذا عيبهم فليس فيهم عيب بل هو مدح فيهم ولأن المودة بين المسلمين أمر واجب وإذا كان كذلك في حق جميع المسلمين كان في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أولى فقوله { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } المودة في القربى ليست أجراً في الحقيقة لأن قرابته قرابتهم فكانت مودتهم وصلتهم لازمة لهم فثبت أن لا أجر البتة ، والوجه الثاني أن هذا الاستثناء منقطع وتم الكلام عند قوله قل لا أسألكم عليه أجراً ثم ابتدأ فقال إلا المودة في القربى أي لكن أذكركم المودة في قرابتي الذين هم قرابتكم فلا تؤذوهم؛ وقيل : إن هذه الآية منسوخة وذلك لأنها نزلت بمكة وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرهم فيها بمودة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلة رحمه فلما هاجر إلى المدينة وآواه الأنصار ونصروه أحب الله تعالى أن يلحقه بإخوانه من النبيين فأنزل الله تعالى :(5/363)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
{ أم يقولون } أي بل يقول كفار مكة { افترى على الله كذباً } فيه توبيخ لهم معناه أيقع في قلوبهم ويجري على لسانهم أن ينسبوا مثله إلى الكذب وأنه افترى على الله كذباً وهو أقبح أنواع الكذب { فإن يشأ الله يختم على قلبك } أي يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم وقولهم إنه مفتر وقيل معناه يطبع على قلبك فينسيك القرآن وما أتاك فأخبرهم أنه لو افترى على الله بالفعل به ما أخبر به في هذه الآية { ويمح الله الباطل } أخبره الله تعالى أن ما يقولونه الباطل والله عز وجل يمحوه { ويحق الحق بكلماته } أي يحق الإسلام بما أنزل من كتابه وقد فعل الله تعالى ذلك فمحا باطلهم وأعلى كلمة الإسلام { إنه عليم بذات الصدور } قال ابن عباس : لما نزلت { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } وقع في قلوب قوم منها شيء وقالوا يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبره أنهم اتهموه وأنزل الله هذه الآية فقال القوم يا رسول الله فإنا نشهد أنك صادق فنزل قوله عز وجل : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أولياؤه وأهل طاعته .
( فصل في ذكر التوبة وحكمها )
قال العلماء التوبة واجبة من كل ذنب فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط :
أحدها : أن يقلع عن المعصية .
والثاني : أن يندم على فعلها .
والثالث : أن يعزم على أن لا يعود إليها أبداً .
فإذا حصلت هذه الشروط صحت التوبة وإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فشروطها أربعة هذه الثلاثة والشرط الرابع أن يبرأ من حق صاحبها فهذه شروط التوبة وقيل التوبة الانتقال عن المعاصي نية وفعلاً والإقبال على الطاعات نية وفعلاً ، وقال سهل بن عبد الله التستري : التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة ( خ ) . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة » ( م ) عن الأغر بن بشار المزني قال « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة » ( ق ) عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده الدوية الفلاة والمفازة »(5/364)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
{ ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني يجيب المؤمنون الله تعالى فيما دعاهم لطاعته وقيل معناه ويجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذا دعوه ، وقال ابن عباس : ويثبت الذين آمنوا { ويزيدهم من فضله } أي سوى ثواب أعمالهم تفضلاً منه ، وقال ابن عباس : يشفعهم في إخوانهم ويزيدهم من فضله ، قال في إخوان إخوانهم { والكافرون لهم عذاب شديد } قوله عز وجل : { ولو بسط الله الرزق لعباده } قال خباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها فأنزل الله تعالى : { ولو بسط الله الرزق لعباده } أي وسع الله الرزق لعباده { لبغوا } أي لطغوا وعتوا { في الأرض } قال ابن عباس : بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس ، وقيل : إن الإنسان متكبر بالطبع فإذا وجد الغنى والقدرة رجع إلى مقتضى طبعه وهو التكبر وإذا وقع في شدة ومكروه وفقر انكسر فرجع إلى الطاعة والتواضع ، وقيل : إن البغي مع القبض والفقر أقل ومع البسط والغنى أكثر لأن النفس مائلة إلى الشر لكنها إذا كانت فاقدة لآلاته كان الشر أقل وإذا كانت واجدة لها كان الشر أكثر فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان { ولكن ينزل بقدر ما يشاء } يعني الأرزاق نظراً لمصالح عباده وهو قوله تعالى : { إنه بعباده خبير بصير } والمعنى أنه تعالى عالم بأحوال عباده وبطبائعهم وبعواقب أمورهم فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم يدل على ذلك ما روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عز وجل قال « يقول الله عز وجل من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد ، وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى لو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير » أخرجه البغوي بإسناده .
قوله عز وجل : { وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا } أي يئس الناس منه وذلك أدعى لهم إلى الشكر قيل حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين حتى قنطوا ثم أنزل الله عز وجل المطر فذكرهم نعمته لأن الفرح بحصول النعمة بعد الشدة أتم { وينشر رحمته } أي يبسط بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب { وهو الولي } أي لأهل طاعته { الحميد } أي المحمود على ما يوصل إلى الخلق من أقسام رحمته .(5/365)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
{ ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث } أي أوجد { فيهما } أي في السموات والأرض { من دابة } . فإن قلت كيف يجوز إطلاق لفظ الدابة على الملائكة .
قلت الدبيب في اللغة المشي الخفيف على الأرض ، فيحتمل أن يكون للملائكة مشي مع الطيران فيوصفون بالدبيب كما يوصف به الإنسان ، وقيل : يحتمل أن الله تعالى خلق في السموات أنواعاً من الحيوانات يدبون دبيب الإنسان { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } يعني يوم القيامة .
قوله عز وجل : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } المراد بهذه المصائب الأحوال المكروهة نحو الأوجاع والأسقام والقحط والغلاء والغرق والصواعق وغير ذلك من المصائب فبما كسبت أيديكم من الذنوب والمعاصي { ويعفوا عن كثير } قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر » وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سخيلة قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه « ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير } وسأفسرها لكم يا علي { ما أصابكم من مصيبة } أي من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا { فبما كسبت أيديكم } والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه » وقال عكرمة : ما من نكبة أصابت عبداً فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بها أو درجة لم يكن الله ليرفعه لها إلا بها ( ق ) . عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة » { وما أنتم بمعجزين } أي بفائتين { في الأرض } هرباً يعني لا تعجزونني حيثما كنتم { وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } قوله عز وجل : { ومن آياته الجوار } يعني السفن وهي السيارة { في البحر كالأعلام } أي كالقصور وكل شيء مرتفع عند العرب فهو علم { إن يشأ يسكن الريح } أي التي تجري بها السفن { فيظللن } يعني السفن الجواري { رواكد } أي ثوابت { على ظهره } أي ظهر البحر لا تجري { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } وهذه صفة المؤمن لأنه يصبر في الشدة ويشكر في الرخاء .(5/366)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
{ أو يوبقهن } أي يغرقهن ويهلكهن { بما كسبوا } أي بما كسبت ركابها من الذنوب { ويعف عن كثير } أي من ذنوبهم فلا يعاقب عليها { ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } يعني يعلم الذين يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله تعالى ما لهم من مهرب من عذابه { فما أوتيتم من شيء } أي من زينة الدنيا { فمتاع الحياة الدنيا } أي ليس هو من زاد المعاد { وما عند الله } أي من الثواب { خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } والمعنى أن المؤمن والكافر يستويان في متاع الحياة الدنيا فإذا صارا إلى الله تعالى كان ما عند الله من الثواب خيراً وأبقى للمؤمن { والذين يجتنبون كبائر الإثم } يعني كل ذنب تعظم عقوبته كالقتل والزنا والسرقة وشبه ذلك { والفواحش } يعني ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } يعني يكظمون الغيظ ويجهلون { والذين استجابوا لربهم } يعني أجابوا إلى ما دعاهم إليه من طاعته { وأقاموا الصلاة } يعني المفروضة { وأمرهم شورى بينهم } يعني يتشاورون فيما يبدو لهم ولا يعجلون ولا ينفردون برأي ما لم يجتمعوا عليه قيل .
ما تشاور قوم إلا هدوا إلى أرشد أمرهم { ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي } يعني الظلم والعدوان { هم ينتصرون } يعني ينتقمون من ظالمهم من غير تعد قال ابن زيد جعل الله تعالى المؤمنين صنفين صنف يعفون عمن ظلمهم فبدأ بذكرهم وهو قوله تعالى : { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } وصنف ينتصرون من ظالمهم وهم الذين ذكروا في هذه الآية ، وقال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فإذا قدروا عفوا . وقيل : إن العفو إغراء للسفيه وقال عطاء : هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم ثم مكنهم الله عز وجل في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم ثم بين الله تعالى أن شرعة الانتصار مشروطة برعاية المماثلة(5/367)
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
{ وجزاء سيئة سيئة مثلها } سمي الجزاء سيئة وإن لم يكن سيئة لتشابههما في الصورة وقيل لأن الجزاء يسوء من ينزل به ، وقيل هو جزاء القبيح إذا قال أخزاك الله فقل له أخزاك الله ولا تزد وإذا شتمك فاشتمه بمثلها ولا تعتدوا وقيل هو في القصاص في الجراحات والدماء يقتص بمثل ما جنى عليه وقيل إن الله تعالى لم يرغب في الانتصار بل بين أنه مشروع ثم بين أن العفو أولى بقوله تعالى : { فمن عفا } أي عمن ظلمه { وأصلح } أي بالعفو بينه وبين الظالم { فأجره على الله } قال الحسن : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم فلا يقوم إلا من عفا ثم قرأ هذه الآية { إنه لا يحب الظالمين } قال ابن عباس : الذين يبدؤون بالظلم { ولمن انتصر بعد ظلمه } أي بعد ظلم الظالم إياه { فأولئك } يعني المنتصرين { ما عليهم من سبيل } أي بعقوبة ومؤاخذة { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس } أي يبدؤون بالظالم { ويبغون في الأرض بغير الحق } أي يعملون فيها بالمعاصي { أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر } أي لم ينتصر { وغفر } تجاوز عن ظالمه { إن ذلك } أي الصبر والتجاوز { لمن عزم الأمور } يعني تركه الانتصار لمن عزم الأمور الجيدة التي أمر الله عز وجل بها وقيل إن الصابر يؤتي بصبره الثواب فالرغبة في الثواب أتم عزماً { ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده } يعني ما له من أحد يلي هدايته بعد إضلال الله إياه أو يمنعه من عذابه { وترى الظالمين لما رأوا العذاب } يعني يوم القيامة { يقولون هل إلى مرد من سبيل } يعني أنهم يسألون الرجعة إلى الدنيا .(5/368)
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)
{ وتراهم يعرضون عليها } أي على النار { خاشعين من الذل } أي خاضعين متواضعين { ينظرون من طرف خفي } يعني يسارقون النظر إلى النار خوفاً منها وذلة في أنفسهم ، وقيل ينظرون بطرف خفي أي ضعيف من الذل ، وقيل ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عمياً والنظر بالقلب خفي { وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم } يعني بأن صاروا إلى النار . { وأهليهم يوم القيامة } يعني وخسروا أهليهم بأن صاروا لغيرهم في الجنة { ألا إن الظالمين في عذاب مقيم وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل } أي وصول إلى الحق في الدنيا والجنة في العقبى فقد استدت عليهم طرق الخير { استجيبوا لربكم } أي أجيبوا داعي الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { من قبل من أن يأتي يوم لا مرد له من الله } أي لا يقدر أحد على دفعه وهو يوم القيامة وقيل هو يوم الموت { ما لكم من ملجأ يومئذ } أي ما لكم من مخلص من العذاب وقيل من الموت { وما لكم من نكير } أي ينكر حالكم وقيل النكير الإنكار يعني لا تقدرون أن تنكروا من أعمالكم شيئاً { فإن أعرضوا } أي عن الإجابة { فما أرسلناك عليهم حفيظاً } أي تحفظ أعمالهم { إن عليك إلا البلاغ } أي ليس عليك إلا البلاغ وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم { وإنا أذا أذقنا الإنسان منا رحمة } قال ابن عباس : يعني الغنى والصحة { فرح بها وإن تصبهم سيئة } أي قحط { ما قدمت أيديهم } أي من الأعمال الخبيثة { فإن الإنسان كفور } أي لما تقدم من نعمة الله تعالى عليه .
قوله عز وجل : { لله ملك السموات والأرض } يعني له التصرف فيهما بما يريد { يخلق ما يشاء } أي لا يقدر أحد أن يعترض عليه في ملكه وإرادته { يهب لمن يشاء إناثاً } أي فلا يولد له ذكر { ويهب لمن يشاء الذكور } أي فلا يولد له أنثى .(5/369)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
{ أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } أي يجمع بينهما فيولد له الذكور والإناث { ويجعل من يشاء عقيماً } أي فلا يولد له ولد ، وقيل هذا في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . فقوله يهب لمن يشاء إناثاً يعني لوطاً لم يولد له ذكر إنما ولد له ابنتان ويهب لمن يشاء الذكور يعني إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يولد له أنثى { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ولد له أربع بنين وأربع بنات ويجعل من يشاء عقيماً يعني يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام لم يولد لهما وهذا على وجه التمثيل وإلا فالآية عامة في جميع الناس { إنه عليم } أي بما يخلق { قدير } أي على ما يريد أن يخلق .
قوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } قيل في سبب نزولها : إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى صلى الله عليه وسلم ونظر إليه فقال لم ينظر موسى إلى الله تعالى فأنزل الله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } أي يوحي إليه في المنام أو بالإلهام كما رأى إبراهيم في المنام أن يذبح ولده وهو وحي وكما ألهمت أم موسى أن تقذفه في البحر { أو من وراء حجاب } أي يسمعه كلامه من وراء حجاب ولا يراه كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام { أو يرسل رسولاً } يعني من الملائكة إما جبريل أو غيره { فيوحي بإذنه ما يشاء } يعني يوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله ما يشاء وهذه الآية محمولة على أنه لا يكلم بشراً إلا من وراء حجاب في الدنيا ويأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله تعالى في سورة النجم { إنه على } أي عن صفات المخلوقين { حكيم } أي في جميع أفعاله .
قوله عز وجل : { وكذلك } أي وكما أوحينا إلى سائر رسلنا { أوحينا إليك روحاً من أمرنا } قال ابن عباس : نبوة ، وقيل : قرآناً لأن به حياة الأرواح ، وقيل : رحمة وقيل جبريل { ما كنت تدري } أي قبل الوحي { ما الكتاب } يعني القرآن { ولا الإيمان } اختلف العلماء في هذه الآية مع اتفاقهم على أن الأنبياء قبل النبوة كانوا مؤمنين فقيل معناه ما كنت تدري قبل الوحي شرائع الإيمان ومعالمه .
وقال محمد بن إسحاق عن ابن خزيمة الإيمان في هذا الموضع الصلاة دليله { وما كان الله ليضيع إيمانكم } يعني صلاتكم ولم يرد به الإيمان الذي هو الإقرار بالله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة يوحد الله تعالى ويحج ويعتمر ويبغض اللات والعزى ولا يأكل ما ذبح على النصب وكان يتعبد على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولم تتبين له شرائع دينه إلا بعد الوحي إليه { ولكن جعلناه نوراً } قال ابن عباس يعني الإيمان وقيل القرآن لأنه يهتدي به من الضلالة وهو قوله تعالى : { نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي } أي لتدعو { إلى صراط مستقيم } يعني إلى دين الإسلام .(5/370)
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
{ صراط الله } يعني دين الله الذي شرعه لعباده { الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } يعني أمور الخلائق في الآخرة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه .(5/371)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
قوله عز وجل : { حم والكتاب المبين } أقسم بالكتاب وهو القرآن الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة وأبان ما تحتاج إليه الأمة من الشريعة وقيل المبين يعني الواضح للمتدبرين وجواب القسم { إنا جعلناه } أي صيرنا هذا الكتاب عربياً وقيل بيناه وقيل سميناه وقيل وصفناه وقيل أنزلناه { قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } يعني معانيه وأحكامه { وإنه } يعني القرآن { في أم الكتاب } أي في اللوح المحفوظ ، قال ابن عباس : أول ما خلق الله عز وجل القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق في الكتاب عنده ثم قرأ { وإنه في أم الكتاب لدينا } أي عندنا فالقرآن مثبت عند الله تعالى في اللوح المحفوظ { لعلي حكيم } أخبر عن شرفه وعلو منزلته ، والمعنى إن كذبتم يا أهل مكة بالقرآن فإنه عندنا لعليّ أي رفيع شريف ، وقيل على علي جميع الكتب حكيم أي محكم لا يتطرق إليه الفساد والبطلان .
قوله تعالى : { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً } معناه أفنترك عنكم الوحي ونمسك عن إنزال القرآن فلا نأمر ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان وهو قوله تعالى : { أن كنتم } أي لأن كنتم { قوماً مسرفين } والمعنى لا نفعل ذلك قال قتادة والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ولكن الله عز وجل عاد بعائدته وكرامته فكرره عليهم عشرين سنة أو ما شاء الله ، وقيل : معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين أي معرضين عنكم ، وقيل : معناه أفنطوي الذكر عنكم طياً فلا تدعون ولا توعظون وقيل أفتترككم فلا نعاقبكم على كفركم .(5/372)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
{ وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون } يعني كاستهزاء قومك بك وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم { فأهلكنا أشد منهم بطشاً } أي أقوى من قومك قوة { ومضى مثل الأولين } أي صفتهم والمعنى أن كفار قريش سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأولين من الخزي والعقوبة .
قوله عز وجل : { ولئن سألتهم } أي ولئن سألت يا محمد قومك { من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } يعني أنهم أقروا بأن الله تعالى خلقهما وأقروا بعزته وعلمه ومع إقرارهم بذلك عبدوا غيره وأنكروا قدرته على البعث لفرط جهلهم ثم ابتدأ تعالى دالاً على نفسه بذكر مصنوعاته فقال تعالى : { الذي جعل لكم الأرض مهداً } معناه واقفة ساكنة يمكن الانتفاع بها ولما كان المهد موضع راحة الصبي فلذلك سمى الأرض مهاداً لكثرة ما فيها من الراحة للخلق { وجعل لكم فيها سبلاً } أي طرقاً { لعلكم تهتدون } يعني إلى مقاصدكم في أسفاركم { والذي نزل من السماء ماء بقدر } أي بقدر حاجاتكم إليه لا كما أنزل على قوم نوح حتى أهلكهم { فأنشرنا به } أي بالمطر { بلدة ميتاً } أي كما أحيينا هذه البلدة الميتة بالمطر { كذلك تخرجون } أي من قبوركم أحياء { والذي خلق الأزواج كلها } أي الأصناف والأنواع كلها قيل إن كل ما سوى الله تعالى فهو زوج وهو الفرد المنزه عن الأضداد والأنداد والزوجية { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } يعني في البر والبحر .(5/373)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
{ لتستوا على ظهوره } أي على ظهور الفلك والأنعام { ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } يعني بتسخير المركب في البر والبحر { وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا } أي ذلل لنا هذا { وما كنا له مقرنين } أي مطيقين وقيل ضابطين { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } أي لمنصرفون في المعاد ( م ) عن ابن عمر رضي الله عنهما « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً للسفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثاً ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد وإذا رجع قالهن وزاد فيهم آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون » قوله وعثاء السفر : يعني تعبه وشدته ومشقته وكآبة المنظر وسوء المنقلب الكآبة الحزن والمنقلب المرجع وذلك أن يعود من سفره حزيناً كثيباً أو يصادف ما يحزنه في أهل أو مال .
عن علي بن أبي ربيعة قال « شهدت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقد أتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى على ظهرها قال الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم قال الحمد لله ثلاث مرات ثم قال الله أكبر ثلاث مرات ثم قال سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقلت يا أمير المؤمنين مم ضحكك قال رأيت رسول الله فعل كما فعلت فقلت يا رسول الله من أي شيء ضحكت قال إن ربك يعجب من عبده إذا قال رب اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب غيرك » أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب .
قوله تعالى : { وجعلوا له من عباده جزءاً } يعني ولداً وهو قولهم الملائكة بنات الله لأن الولد جزء من الأب ومعنى جعلوا هنا حكموا وأثبتوا { إن الإنسان لكفور مبين } أي لجحود نعم الله تعالى عليه { أم اتخذ مما يخلق بنات } هذا استفهام إنكار وتوبيخ يقول اتخذ ربكم لنفسه البنات { وأصفاكم } أي أخلصكم { بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً } أي بالجنس الذي جعله للرحمن شبهاً لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد والمعنى أنهم نسبوا إليه البنات ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له وقد ولد لك بنت اغتم وتربد وجهه غيظاً وأسفاً وهو قوله تعالى : { ظل وجهه } أي صار وجهه { مسوداً وهو كظيم } أي من الحزن والغيظ قيل إن بعض العرب ولد له أنثى فهجر بيت امرأته التي ولدت فيه الأنثى فقالت المرأة :(5/374)
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
{ وجعلوا } أي وحكموا وأثبتوا { الملائكة الذين هم عباد } وقرىء عند { الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم } أي حضروا خلقهم حين خلقوا وهذا استفهام إنكار أي لم يشهدوا ذلك { ستكتب شهادتهم } أي على الملائكة أنهم بنات الله { ويسألون } أي عنها ، قيل لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : وما يدريكم أنهم بنات الله ، قالوا : سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا ، فقال الله تعالى : { ستكتب شهادتهم } ويسألون عنها في الآخرة { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } يعني الملائكة وقيل الأصنام وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضاه منا بذلك قال الله تعالى رداً عليهم .
{ ما لهم بذلك من علم } أي فيما يقولون { إن هم إلا يخرصون } يعني ما هم إلا كاذبون في قولهم إن الله رضي منا بعبادتها ، وقيل يكذبون في قولهم إن الملائكة إناث وإنهم بنات الله { أم آتيناهم كتاباً من قبله } أي من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله { فهم به مستمسكون } أي يأخذون بما فيه { بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة } أي على دين وملة { وإنا على آثارهم مهتدون } يعني أنهم جعلوا أنفسهم مهتدين باتباع آبائهم وتقليدهم من غير حجة ثم أخبر أن غيرهم قد قال هذه المقالة بقوله تعالى : { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها } أغنياؤها ورؤساؤها { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } أي بهم .(5/375)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
{ قال أولو جئتكم بأهدى } أي بدين هو أصوب { مما وجدتم عليه آباءكم } فأبوا أن يقبلوا { قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين } قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء } أي بريء { مما تعبدون إلا الذي فطرني } معناه أنا أتبرأ مما تعبدون إلا من الله الذي خلقني { فإنه سيهدين } أي يرشدني إلى دينه { وجعلها } أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي لا إله إلا الله { كلمة باقية في عقبه } أي في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده { لعلهم يرجعون } أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم وقيل لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه من الشرك إلى دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام { بل متعت هؤلاء } يعني كفار مكة { وآباءهم } في الدنيا بالمد في العمر والنعمة ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم { حتى جاءهم الحق } يعني القرآن وقيل الإسلام { ورسول } هو محمد صلى الله عليه وسلم { مبين } أي يبين لهم الأحكام وقيل بين الرسالة وأوضحها بما معه من الآيات والمعجزات وكان من حق هذا الإنعام أن يطيعوه فلم يفعلوا بل كذبوا وعصوا وسموه ساحراً وهو قوله تعالى : { ولما جاءهم الحق } يعني القرآن { قالوا هذا سحر وإنا به كافرون } قوله عز وجل : { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } معناه أنهم قالوا منصب النبوة منصب عظيم شريف لا يليق إلا برجل شريف عظيم كثير المال والجاه من إحدى القريتين وهما مكة والطائف واختلفوا في هذا الرجل العظيم قيل الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف وقيل عتبة بن ربيعة من مكة وكنانة بن عبد ياليل الثقفي من الطائف ، وقال ابن عباس : الوليد بن المغيرة من مكة ومن الطائف حبيب بن عمير الثقفي قال الله تعالى رداً عليهم . { أهم يقسمون رحمة ربك }(5/376)
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
{ أهم يقسمون رحمة ربك } معناه أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعوها حيث شاؤوا وفيه الإنكار الدال على تجهيلهم والتعجب من اعتراضهم وتحكمهم وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوة ثم ضرب لهذا مثلاً فقال تعالى : { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا } أي نحن أوقعنا هذا التفاوت بين العباد فجعلنا هذا غنياً وهذا فقيراً وهذا مالكاً وهذا مملوكاً وهذا قوياً وهذا ضعيفاً ثم إن أحداً من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا ولا على الخروج عن قضائنا فإذا عجزوا عن الاعتراض في حكمنا في أحوال الدنيا مع قلتها وذلتها فكيف يقدرون على الاعتراض على حكمنا في تخصيص بعض عبادنا بمنصب النبوة والرسالة والمعنى كما فضلنا بعضهم على بعض كما شئنا كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا ثم قال تعالى : { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } يعني لو أننا سوينا بينهم في كل الأحوال لم يخدم أحد أحداً ولم يصر أحد منهم مسخراً لغيره ، وحينئذ يقضي ذلك إلى خراب العالم وفساد حال الدنيا ولكنا فعلنا ذلك ليستخدم بعضهم بعضاً فتسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش فهذا بماله وهذا بعمله فيلتئم قوام العالم وقيل يملك بعضهم بما له بعضاً بالملك { ورحمة ربك } يعني الجنة { خير } يعني للمؤمنين { مما يجمعون } أي يجمع الكفار من الأموال لأن الدنيا على شرف الزوال والانقراض وفضل الله ورحمته يبقى أبد الآبدين .
قوله عز وجل : { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } أي لولا أن يصيروا كلهم كفاراً فيجتمعون على الكفر ويرغبون فيه إذا رأوا الكفار في سعة من الخير والرزق لأعطيت الكفار أكثر الأسباب المفيدة للتنعم وهو قوله تعالى : { لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج } يعني مصاعد ودرجات من فضة { عليها يظهرون } يصعدون ويرتقون عليها { ولبيوتهم أبواباً } أي من فضة { وسرراً } أي ولجعلنا لهم سرراً من فضة { عليها يتكئون وزخرفاً } أي ولجعلنا من ذلك زخرفاً وهو الذهب وقيل الزخرف الزينة من كل شيء { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } يعني أن الإنسان يستمتع بذلك قليلاً ثم ينقضي لأن الدنيا سريعة الزوال والذهاب { والآخرة عند ربك للمتقين } يعني الجنة خاصة للمتقين الذين تركوا الدنيا .
عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو كانت الدنيا عند الله تزن جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب .
وعن المستورد بن شداد جد بني فهر قال « كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها قالوا من هوانها ألقوها يا رسول الله قال فإن الدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن . وعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إذا أحبَّ الله عبداً حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب ( م ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » .(5/377)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
قوله تعالى : { ومن يعش } أي يعرض { عن ذكر الرحمن } أي فلم يخف عقابه ولم يرد ثوابه وقيل يول ظهره عن القرآن { نقيض له شيطاناً } أي نسبب له شيطاناً ونضمه إليه ونسلطه عليه { فهو له قرين } يعني لا يفارقه يزين له العمى ويخيل إليه أنه على الهدى { وإنهم } يعني الشياطين { ليصدونهم عن السبيل } يعني يمنعونهم عن الهدى { ويحسبون أنهم مهتدون } يعني ويحسب كفار بني آدم أنهم على الهدى { حتى إذا جاءنا } يعني الكافر وحدة وقرئ جاءنا على التثنية يعني الكافر وقرينه وقد جعلا في سلسلة واحدة { قال } الكافر لقرينه الشيطان { يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين } أي بعد ما بين المشرق والمغرب ، فغلب اسم أحدهما على الآخر كما يقال للشمس والقمر القمران ولأبي بكر وعمر العمران ، وقيل : أراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء ، والقول الأول أصح { فبئس القرين } يعني الشيطان قال أبو سعيد الخدري : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير إلى النار { ولن ينفعكم اليوم إذا ظلمتم } يعني أشركتم { أنكم في العذاب مشتركون } يعني لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف عنكم شيئاً ، لأن كل واحد من الكفار والشياطين له الحظ الأوفر من العذاب وقيل لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب كما كنتم مشتركين في الكفر .(5/378)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
{ أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين } يعني الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب أنهم لا يؤمنون .
قوله عز وجل : { فإما نذهبن بك } أي بأن نميتك قبل أن نعذبهم { فإنا منهم منتقمون } أي بالقتل بعدك { أو نرينك } أي في حياتك { الذي وعدناهم } أي من العذاب { فإنا عليهم مقتدرون } أي قادرون على ذلك متى شئنا عذبناهم ، وأراد به مشركي مكة وقد انتقم منهم يوم بدر وهذا يفيد التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه وعده الانتقام له منهم إما حال حياته أو بعد وفاته ، وهذا قول أكثر المفسرين وقيل عني به ما يكون في أمته وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نقمة شديدة في أمته ولكن أكرم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وذهب به ولم يره في أمته إلا الذي تقربه عينه وأبقى النقمة بعده وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أري ما يصيب أمته بعده فما رئي ضاحكاً منبسطاً حتى قبضه الله تعالى : { فاستمسك بالذي أوحي إليك } يعني القرآن { إنك على صراط مستقيم } أي على دين مستقيم لا يميل عنه إلا الضال { وإنه } يعني القرآن { لذكر } أي لشرف عظيم { لك ولقومك وسوف تسألون } يعني عن حقه وأداء شكره وروى ابن عباس « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية فكان بعد ذلك إذا سئل قال لقريش » ( ق ) . عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان » ( خ ) عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين » وقيل القوم هم العرب والقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم ، وقيل ذكر لك أي ذلك شرف لك بما أعطاك الله من النبوة والحكمة ولقومك يعني المؤمنين بما هداهم الله تعالى به وسوف تسألون عن القرآن وعما يلزمكم من القيام بحقه .(5/379)
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
قوله تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } اختلف العلماء من هؤلاء والمسؤولون فروي عن ابن عباس في رواية عنه « لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم بعث الله عز وجل له آدم وولده من المرسلين فأذن جبريل ثم أقام وقال يا محمد تقدم فصل بهم فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من أرسلنا الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا أسأل قد اكتفيت . وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد قالوا جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسال فلم يشك ولم يسأل فعلى هذا القول قال بعضهم هذه الآية نزلت ببيت المقدس ليلة أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال أكثر المفسرين معناه سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد وهو قول ابن عباس في أكثر الروايات عنه ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والحسن ومقاتل ومعنى الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله عز وجل .
قوله تعالى : { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون } أي يسخرون { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها } أي قرينتها التي قبلها { وأخذناهم بالعذاب } أي بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس ، فكانت هذه آيات ودلالات لموسى عليه الصلاة والسلام وعذاباً لهم وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها { لعلهم يرجعون } أي عن كفرهم { وقالوا } يعني لموسى عليه الصلاة والسلام لما عاينوا العذاب { يا أيها الساحر } أي العالم الكامل الحاذق وإنما قالوا ذلك له تعظيماً وتوقيراً لأن السحر كان عندهم علماً عظيماً وصنعة ممدوحة وقيل معناه يا أيها الذي غلبنا بسحره { ادع لنا ربك بما عهد عندك } أي بما أخبرتنا عن عهده إليك أنا إن آمنا كشف عنا العذاب فاسأله أن يكشفه عنا { إننا لمهتدون } أي لمؤمنون فدعا موسى ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا فذلك قوله سبحانه وتعالى : { فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون } أي ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم .(5/380)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
{ ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي } يعني أنهار النيل الكبار وكانت تجري تحت قصره وقيل معناه تجري بين يدي جناني وبساتيني ، وقيل تجري بأمري { أفلا تبصرون } أي عظمتي وشدة ملكي { أما أنا } أي بل أنا { خير } وليس بحرف عطف على قول أكثر المفسرين وقيل فيه إضمار مجازه أفلا تبصرون أم تبصرون ثم ابتدأ فقال أنا خير { من هذا الذي هو مهين } أي ضعيف حقير يعني موسى { ولا يكاد يبين } أي يفصح بكلامه للثغته التي كانت في لسانه وإنما عابه بذلك لما كان عليه أولاً وقيل معناه ولا يكاد يبين حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي ولم يرد به أنه لا قدرة له على الكلام { فلولا ألقي عليه } أي إن كان صادقاً { أسورة من ذهب } قيل إنهم كانوا إذا سودوا رجلاً سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته ، فقال فرعون هلا ألقى رب موسى عليه أسورة من ذهب إن كان سيداً تجب طاعته { أو جاء معه الملائكة مقترنين } أي متتابعين يقارن بعضهم بعضاً يشهدون له بصدقه ويعينوه على أمره .
قال الله تعالى : { فاستخف } يعني فرعون { قومه } يعني القبط أي وجدهم جهالاً وقيل حملهم على الخفة والجهل { فأطاعوه } أي على تكذيب موسى { إنهم كانوا قوماً فاسقين } يعني حيث أطاعوا فرعون فيما استخفهم به { فلما آسفونا } أي أغضبونا وهو في حق الله وإرادته العقاب وهو قوله تعالى : { انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين } يعني جعلنا المتقدمين الماضين عبرة وموعظة لمن يجيء من بعدهم .
قوله تعالى : { ولما ضرب ابن مريم مثلاً } قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في مجادلة عبد الله بن الزبعرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وذلك لما نزل قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } وقد تقدم ذكره في سورة الأنبياء ومعنى الآية ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلاً وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه { إذا قومك } يعني قريشاً { منه } أي من المثل { يصدون } أي يرتفع لهم ضجيج وصياح وفرح وقيل يقولون إن محمداً ما يريد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلهاً كما عبدت النصارى عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .(5/381)
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
{ وقالوا أآلهتنا خير أم هو } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا وقيل معنى أم هو يعني عيسى والمعنى قالوا يزعم محمد أن كل ما عبد من دون الله في النار فنحن قد رضينا أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار قال الله تعالى : { ما ضربوه } يعني هذا المثل { لك إلا جدلاً } أي خصومة بالباطل وقد علموا أن المراد من قوله { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } هؤلاء الأصنام { بل هم قوم خصمون } أي بالباطل . عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب صحيح ثم ذكر عيسى فقال تعالى : { إن هو } أي ما عيسى { إلا عبد أنعمنا عليه } أي بالنبوة { وجعلناه مثلاً } أي آية وعبرة { لبني إسرائيل } يعرفون به قدرة الله على ما يشاء حيث خلقه من غير أب { ولو نشاء لجعلنا منكم } الخطاب لأهل مكة { ملائكة } معناه لو نشاء لأهلكناكم ولجعلنا بدلاً منكم ملائكة { في الأرض يخلفون } أي يكونون خلفاً منكم يعمرون الأرض ويعبدونني ويطيعونني ، وقيل يخلف بعضهم بعضاً { وإنه } يعني عيسى { لعلم للساعة } يعني نزوله من أشراط الساعة يعلم به قربها ( ق ) . عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عادلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد » وفي رواية أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ليس بيني وبين عيسى نبي وإنه نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله تعالى في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ويهلك الدجال ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون » ( ق ) عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كيف أنتم إذا نزل ابن مريم وإمامكم منكم » وفي رواية فأمكم منكم قال ابن أبي ذؤيب فأمكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ويروى أنه ينزل عيسى وبيده حربة وهي التي يقتل بها الدجال ، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر فيتأخر الإمام ليقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن وقيل في معنى الآية وإنه أي وإن القرآن لعلم للساعة أي يعلم قيامها ويخبركم بأحوالها وأهوالها { فلا تمترن بها } أي لا تشكن فيها ، وقال ابن عباس : لا تكذبوا بها { واتبعون } أي على التوحيد { هذا } أي الذي أنا عليه { صراط مستقيم } .(5/382)
وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
{ ولا يصدنكم } أي لا يصرفنكم { الشيطان } أي عن دين الله الذي أمر به { إنه } يعني الشيطان { لكم عدو مبين ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة } أي بالنبوة { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } أي من أحكام التوراة وقيل من اختلاف الفرق الذين تحزبوا في أمر عيسى وقيل الذي جاء به عيسى الإنجيل وهو بعض الذي اختلفوا فيه فبين لهم عيسى في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه { فاتقوا الله وأطيعون } أي فيما آمركم به { إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم } أي اختلف الفرق المتحزبة بعد عيسى { فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم هل ينظرون } أي ينتظرون { إلا الساعة أن تأتيهم بغتة } أي فجأة والمعنى أنها تأتيهم لا محالة { وهم لا يشعرون } .(5/383)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
{ الأخلاء } أي على الكفر والمعصية في الدنيا { يومئذ } يعني يوم القيامة { بعضهم لبعض عدو } أي إن الخلة إذا كانت كذلك صارت عداوة يوم القيامة { إلا المتقين } أي إلا الموحدين المتحابين في الله عز وجل المجتمعين على طاعته ، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الآية قال : « خليلان مؤمنان وخليلان كافران مات أحد المؤمنين فقال يا رب إن فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك صلى الله عليه وسلم ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول ليثن كل منكما على صاحبه فيقول نعم الأخ ونعم الخليل ونعم الصاحب ، قال ويموت أحد الكافرين فيقول رب إن فلاناً كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك فيقول ليثن كل منكما على صاحبه فيقول بئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب » .
قوله عز وجل : { يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } قيل إن الناس حين يبعثون ليس أحد منهم إلا فزع فينادي مناد يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون فيرجوها الناس كلهم فيتبعها { الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين } فييأس الناس كلهم غير المسلمين فيقال لهم { ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون } أي تسرون وتنعمون { يطاف عليهم بصحاف من ذهب } جمع صحفة وهي القصعة الواسعة { وأكواب } جمع كوب وهو إناء مستدير بلا عروة { وفيها } أي في الجنة { ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } عن عبد الرحمن بن سابط قال « قال رجل يا رسول الله هل في الجنة خيل فإني أحب الخيل قال إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت وسأله آخر فقال يا رسول الله هل في الجنة من إبل فإني أحب الإبل قال فلم يقل ما قال لصاحبه فقال إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك » أخرجه الترمذي { وأنتم فيها خالدون } .(5/384)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
{ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون } ورد في الحديث « أنه لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها » قوله تعالى : { إن المجرمين } يعني المشركين { في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم } أي لا يخفف عنهم { وهم فيه مبلسون } أي آيسون من رحمة الله تعالى : { وما ظلمناهم } أي وما عذبناهم بغير ذنب { ولكن كانوا هم الظالمين } أي لأنفسهم بما جنوا عليها { ونادوا يا مالك } يعني يدعون مالكاً خازن النار يستغيثون به فيقولون { ليقض علينا ربك } أي ليمتنا بل لنستريح والمعنى توسلوا به ليسأل الله تعالى لهم الموت فيجيبهم بعد ألف سنة قاله ابن عباس ، وقيل بعد مائة سنة ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال « إن أهل النار يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً ثم يرد عليهم » { قال إنكم ماكثون } قال هانت والله دعوتهم على مالك وعلى رب مالك ومعنى ماكثون مقيمون في العذاب { لقد جئناكم بالحق } يقول أرسلنا إليكم يا معشر قريش رسولنا بالحق { ولكن أكثركم للحق كارهون أم أبرموا أمراً } أي أحكموا أمراً في المكر بالرسول صلى الله عليه وسلم { فإنا مبرمون } أي محكمون أمراً في مجازاتهم إن كاد شراً كدتهم بمثله { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم } أي ما يسرونه من غيرهم ويتناجون به بينهم { بلى } نسمع ذلك كله ونعلمه { ورسلنا } يعني الحفظة من الملائكة { لديهم يكتبون } قوله عز وجل : { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } معناه إن كان للرحمن ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول من عبد الرحمن فإنه لا شريك له ولا ولد له ، وقال ابن عباس : إن كان أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الشاهدين له بذلك . وقيل : معناه لو كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده بذلك ولكن لا ولد له ، وقيل : العابدين بمعنى الآنفين أي أنا أول الجاحدين المنكرين لما قلتم وأنا أول من غضب للرحمن أن يقال له ولد . وقال الزمخشري في معنى الآية : إن كان للرحمن ولد وصح وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق عليها محالاً مثلها ثم نزه نفسه عن الولد(5/385)
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
{ سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون } أي عما يقولونه من الكذب { فذرهم يخوضوا } أي في باطلهم { ويلعبوا } أي في دنياهم { حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } يعني يوم القيامة { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } يعني هو الإله الذي يعبد في السماء وفي الأرض لا إله إلا هو { وهو الحكيم } يعني في تدبير خلقه { العليم } يعني بمصالحهم { وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } قيل سبب نزولها أن النضر بن الحارث ونفراً معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من محمد صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وأراد بالذين يدعون من دونه آلهتهم ثم استثنى عيسى وعزيراً والملائكة بقوله { إلا من شهد بالحق } لأنهم عبدوا من دون الله ولهم شفاعة وقيل المراد بالذين يدعون من دونه عيسى وعزير والملائكة فإن الله تعالى لا يملك لأحد من هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وهي كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله فمن شهدها بقلبه شفعوا له وهو قوله { وهم يعلمون } أي بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم وقيل يعلمون أن الله عز وجل خلق عيسى وعزيراً والملائكة ويعلمون أنهم عباده { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } يعني أنهم إذا أقروا بأن الله خالق العالم بأسره فكيف قدموا عبادة غيره { فأنى يؤفكون } يعني يصرفون عن عبادته إلى غيره { وقيله يا رب } يعني قوله محمد صلى الله عليه وسلم شاكياً الله ربه يا رب { إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } قال ابن عباس : شكا إلى الله تعالى تخلف قومه عن الإيمان ، وقال قتادة : هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه .(5/386)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
{ فاصفح عنهم } يعني أعرض عنهم وفي ضمنه منعه من أن يدعو عليهم بالعذاب { وقل سلام } معناه المتاركة ، وقيل معناه قل خيراً بدلاً من شرهم { فسوف يعلمون } يعني عاقبة كفرهم وفيه تهديد لهم وقيل معناه يعلمون أنك صادق ، قال مقاتل : نسختها آية السيف والله تعالى أعلم .(5/387)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)
قوله عز وجل : { حم والكتاب المبين } يعني المبين ما يحتاج الناس إليه من حلال وحرام وغير ذلك من الأحكام { وإنا أنزلناه في ليلة مباركة } قيل هي ليلة القدر أنزل الله تعالى فيها القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ثم نزل به جبريل نجوماً على حسب الوقائع في عشرين سنة ، وقيل هي ليلة النصف من شعبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب » أخرجه الترمذي . { إنا كنا منذرين } أي مخوفين عقابنا { فيها } أي في تلك الليلة المباركة { يفرق } أي يفصل { كل أمر حكيم } أي محكم ، قال ابن عباس : يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج يقال : يحج فلان ويحج فلان وقيل هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ، وروى البغوي بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى » وعن ابن عباس « إن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر » { أمراً } أي أنزلنا أمراً { من عندنا إنا كنا مرسلين } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء .(5/388)
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
{ رحمة من ربك } قال ابن عباس رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل وقيل أنزلناه في ليلة مباركة رحمة من ربك { إنه هو السميع } أي لأقوالهم { العليم } أي بأحوالهم { رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين } أي إن الله رب السموات والأرض وما بينهما { لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين } قوله تعالى : { بل هم في شك } أي من هذا القرآن { يلعبون } أي يهزؤون به لاهون عنه { فارتقب } أي يا محمد { يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } ( ق ) عن مسروق قال : كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود وهو مضطجع بيننا فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن إن قاصاً عند باب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين منها كهيئة الزكام فقام عبد الله وجلس وهو غضبان فقال يا أيها الناس اتقوا الله من علم منكم شيئاً فليقل به ومن لا يعلم شيئاً فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم « قل ما أسالكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين » « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدباراً قال اللهم سبعاً كسبع يوسف » وفي رواية « لما دعا قريشاً فكذبوه واستعصوا عليه قال : اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف » فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع وينظر أحدهم إلى السماء فيرى كهيئة الدخان فأتاه أبو سفيان فقال يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم قال الله عز وجل : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } إلى قوله { عائدون } قال عبد الله فيكشف عذاب الآخرة يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون فالبطشة يوم بدر(5/389)
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
{ ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } فقيل له إن كشفناه عنهم عادوا فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر فذلك قوله تعالى : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } إلى قوله { إنا منتقمون } قوله حصت كل شيء بالحاء والصاد المهملتين أي أهلكت واستأصلت كل شيء ( ق ) . عن عبد الله بن مسعود قال : « خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان قيل أصابهم من الجوع كالظلمة في أبصارهم وسبب ذلك أن في سنة القحط العظيم تيبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع الغبار ويظلم الهواء والجو وذلك يشبه الدخان وقيل هو دخان يجيء قبل قيام الساعة ولم يأت بعد فيدخل في أسماع الكفار والمنافقين حتى يكون الرجل رأسه كالرأس الحنيذ يعني المشوي ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ، وهو قول ابن عباس وابن عمر والحسن يدل عليه ما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا ، قال حذيفة : يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا هذه الآية { يوم تأتي السماء بدخان مبين } يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام وأما الكافر فكمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره « { أنى لهم الذكرى } أي كيف يتذكرون ويتعظون بهذه الحالة { وقد جاءهم رسول مبين } معناه وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة وهو ما ظهر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات الظاهرات والآيات البينات الباهرة { ثم تولوا عنه } أي أعرضوا عنه { وقالوا معلم } أي يعلمه بشر { مجنون } أي تلقي إليه الجن هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي { إنا كاشفوا العذاب } أي الجوع { قليلاً } أي زمناً يسيراً قيل إلى يوم بدر { إنكم عائدون } أي إلى كفركم { يوم نبطش البطشة الكبرى } هو يوم بدر { إنا منتقمون } أي منكم في ذلك اليوم ، وهو قول ابن مسعود وأكثر العلماء وفي رواية عن ابن عباس أنه يوم القيامة .(5/390)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)
قوله تعالى : { ولقد فتنا قبلهم } أي قبل هؤلاء { قوم فرعون وجاءهم رسول كريم } يعني على الله وهو موسى بن عمران عليه السلام { أن أدوا إليّ عباد الله } يعني أطلقوا إلي بني إسرائيل ولا تعذبوهم { إني لكم رسول أمين } يعني على الوحي { وأن لا تعلوا على الله } يعني لا تتجبروا عليه بترك طاعته { إني آتيكم بسلطان مبين } يعني ببرهان بيِّن على صدق قولي فلما قال ذلك توعده بالقتل فقال { وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون } أن تقتلون وقال ابن عباس : تشتمون وتقولوا هو ساحر وقيل ترجموني بالحجارة { وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } أي فاتركون لا معي ولا عليّ ، وقال ابن عباس : اعتزلوا أذاي باليد واللسان فلم يؤمنوا { فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون } أي مشركون { فأسر بعبادي ليلاً } أي أجاب الله دعاءه وأمره أن يسري ببني إسرائيل بالليل { إنكم متبعون } أي يتبعكم فرعون وقومه { واترك البحر } أي إذا قطعته أنت وأصحابك { رهواً } أي ساكناً والمعنى لا تأمره أن يرجع بل اتركه على حالته حتى يدخله فرعون وقومه ، وقيل اتركه طريقاً يابساً وذلك أنه لما قطع موسى البحر رجع ليضربه بعصاه ليلتئم وخاف أن يتبعه فرعون بجنوده فقيل لموسى اترك البحر كما هو { إنهم جند مغرقون } يعني أخبر موسى بإغراقهم ليطمئن قلبه في تركه البحر كما هو { كم تركوا } أي بعد الغرق { من جنات وعيون وزروع ومقام كريم } أي مجلس شريف حسن { ونعمة } أي وعيش لين رغد { كانوا فيها } أي في تلك النعمة { فاكهين } أي ناعمين وقرىء فكهين أي أشرين بطرين .(5/391)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
{ كذلك } أي أفعل بمن عصاني { وأورثناها قوماً آخرين } يعني بني إسرائيل { فما بكت عليهم السماء والأرض } وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحاً ، وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقده ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليه .
عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « ما من مؤمن إلا وله بابان باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه » فذلك قوله تعالى : { فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين } « أخرجه الترمذي وقال حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه ، قيل : بكاء السماء حمرة أطرافها ، وقال مجاهد : ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً فقيل : أوتبكي ، فقال : وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل وقيل المراد أهل السماء وأهل الأرض { وما كانوا منظرين } أي لم يمهلوا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها قوله عز وجل : { ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين } أي من قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل { من فرعون إنه كان عالياً } أي جباراً { من المسرفين ولقد اخترناهم على علم } أي علمه الله تعالى فيهم { على العالمين } أي عالمي زمانهم { وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين } أي نعمة بينة من فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى والنعم التي أنعمنا بها عليهم وقيل ابتلاؤهم بالرخاء والشدة { إن هؤلاء } يعني مشركي مكة { ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى } أي لا موتة لنا إلا هذه التي نموتها في الدنيا ولا بعث بعدها وهو قوله { وما نحن بمنشرين } أي بمبعوثين بعد موتتنا هذه { فأتوا بآبائنا } أي الذين ماتوا قبل { إن كنتم صادقين } أي إنا نبعث أحياء بعد الموت قيل طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحيي لهم قصي بن كلاب ثم خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية فقال تعالى : { أهم خير أم قوم تبع } أم ليسوا خيراً من قوم تبع يعني في الشدة والقوة والكثرة قيل هو تبع الحميري وكان من ملوك اليمن سمي تبعاً لكثرة أتباعه وقيل كل واحد من ملوك اليمن يسمى تبعاً لأنه يتبع صاحبه الذي قبله كما يسمى في الإسلام خليفة وكان تبع هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه وهم حمير إلى الإسلام فكذبوه .
عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول » لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم «(5/392)
أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما أدري أكان تبع نبياً أو غير نبي » وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت « لا تسبوا تبعاً فإنه كان رجلاً صالحاً » وكان من قصته على ما ذكر محمد بن إسحاق وغيره ، وذكر عكرمة عن ابن عباس قالوا : كان تبع الآخر وهو أبو كرب أسعد بن مليك وكان سار بالجيوش نحو المشرق حتى حير الحيرة وبنى سمرقند ورجع من قبل المشرق فجعل طريقه على المدينة وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابناً له فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع على خرابها واستئصال أهلها ، فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا بذلك من أمره فخرجوا لقتاله فكان الأنصار يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل ، فأعجبه ذلك وقال : إن هؤلاء لكرام فبينا هو كذلك إذ جاءه حبران عالمان من أحبار بني قريظة وكانا ابني عم اسم أحدهما كعب والآخر أسد حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالا له : أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينه ولم نأمن عليك عاجل العقوبة فإن هذه المدينة مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش اسمه محمد مولده بمكة وهذه دار هجرته ومنزلك الذي أنت فيه يكون به من القتل والجراح أمر كبير في أصحابه وفي عدوهم ، قال تبع ومن يقاتله وهو نبي قالا يسير إليه قومه فيقتتلون ها هنا فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة ثم إنهما دعواه إلى دينهما فأجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة ، وخرج بهما ونفر من اليهود عامدين إلى اليمن فأتاه في الطريق نفر من هذيل وقالوا له إنا ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة قال أي بيت هذا قالوا بيت بمكة وإنما أراد هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك فذكر الملك ذلك للأحبار ، فقالوا : ما نعلم لله في الأرض بيتاً غير هذا البيت الذي بمكة فاتخذه مسجداً وانسك عنده وانحر واحلق رأسك وما أراد القوم إلا هلاكك . وما ناوأه أحد قط إلا هلك فأكرمه واصنع عنده ما يصنعه أهله فلما قالوا له ذلك أخذ أولئك النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم صلبهم فلما قدم مكة شرفها الله تعالى نزل بالشعب شعب البطائح وكسا البيت الوصائل وهي برود تصنع باليمن وهو أول من كسا البيت ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق وانصرف ، فلما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا له لا تدخلها علينا وأنت قد فارقت ديننا فدعاهم إلى دينه وقال : إنه دين خير من دينكم قالوا فحاكمنا إلى النار .(5/393)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)
{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق } أي بالعدل وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية { ولكن أكثرهم لا يعلمون } قوله عز وجل : { إن يوم الفصل } أي الذي يفصل الله فيه بين العباد { ميقاتهم أجمعين } أي يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون { يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً } أي لا ينفع قريب قريبه ولا يدفع عنه شيئاً { ولا هم ينصرون } أي يمنعون من عذاب الله { إلا من رحم الله } يعني المؤمنين فإنه يشفع بعضهم لبعض { إنه هو العزيز } أي في انتقامه من أعدائه { الرحيم } أي بأوليائه المؤمنين ، قوله تعالى : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } أي ذي الإثم وهو أبو جهل { كالمهل } أي كدردي الزيت الأسود { يغلي في البطون } أي في بطون الكفار { كغلي الحميم } يعني كالماء الحار إذا اشتد غليانه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم « في قوله كالمهل؛ قال كعكر الزيت فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه » أخرجه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث رشدين سعد وقد تكلم فيه من قبل حفظه .
عن ابن عباس « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .(5/394)
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)
قوله تعالى : { خذوه } أي يقال للزبانية خذوه يعني الأثيم { فاعتلوه } أي دافعوه وسوقوه بالعنف { إلى سواء الجحيم } أي إلى وسط النار { ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم } قيل إن خازن النار يضرب على رأسه فينقب رأسه من دماغه ثم يصب فيه ماء حميماً قد انتهى حره ثم يقال له { ذق } أي هذا العذاب { إنك أنت العزيز الكريم } أي عند قومك بزعمك وذلك أن أبا جهل لعنه الله كان يقول أنا أعز أهل الوادي وأكرمهم فيقول له خزنة النار هذا على طريق الاستخفاف والتوبيخ { إن هذا ما كنتم به تمترون } أي تشكون فيه ولا تؤمنون به ثم ذكر مستقر المتقين { في مقام أمين } أي في مجلس أمنوا فيه من الغير { في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق } قيل السندس ما رق من الديباج والإستبرق ما غلظ منه وهو معرب إستبر .
فإن قلت كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمي .
قلت إذا عرب خرج من أن يكون أعجمياً لأن معنى التعريب أن يجعل عربياً بالتصرف فيه وتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب { متقابلين } أي يقابل بعضهم بعضاً { كذلك } أي كما أكرمناهم بما وصفنا من الجنات والعيون واللباس كذلك { و } أكرمناهم بأن { زوجناهم بحور عين } أي قرناهم بهن وليس هو من عقد التزويج وقيل جعلناهم أزواجاً لهن أي جعلناهم اثنين واثنين الحور من النساء النقيات البيض ، وقيل يحار الطرف من بياضهن وصفاء لونهن وقيل الحور الشديدات بياض العينين { يدعون فيها بكل فاكهة } يعني أرادوها واشتهوها { آمنين } أي من نفادها ومن مضرتها وقيل آمنين فيها من الموت والأوصاب والشيطان { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } أي لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا إلا وقيل إلا بمعنى لكن ، وتقديره ليذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها وقيل إنما استثنى الموتة من موت الجنة لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله إلى أسباب الجنة يلقون الروح والريحان ويرون منازلهم في الجنة فكان موتهم في الدنيا كأنه في الجنة لاتصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها { ووقاهم عذاب الجحيم } .(5/395)
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
{ فضلاً من ربك } يعني كل ما وصل إليه المتقون من الخلاص من عذاب النار والفوز بالجنة إنما حصل لهم ذلك بفضل الله تعالى وفعل ذلك بهم تفضلاً منه { ذلك هو الفوز العظيم فإنما يسرناه بلسانك } أي سهلنا القرآن على لسانك كناية عن غير مذكور { لعلهم يتذكرون } أي يتعظون { فارتقب } أي فانتظر النصر من ربك وقيل انتظر لهم العذاب { إنهم مرتقبون } أي منتظرون قهرك بزعمهم وقيل منتظرون موتك قيل هذه الآية منسوخة بآية السيف عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وعمر بن خثعم أحد رواته وهو ضعيف ، وقال البخاري : هو منكر الحديث وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة غفر له » أخرجه الترمذي وقال هشام أبو المقداد أحد رواته ضعيف والله أعلم .(5/396)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
قوله عز وجل : { حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السموات والأرض } أي إن في خلق السموات والأرض وهما خلقان عظيمان يدلان على قدرة القادر المختار وهو قوله { لآيات للمؤمنين وفي خلقكم } أي وخلق أنفسكم من تراب ثم من نطفة إلى أن يصير إنساناً ذا عقل وتمييز { وما يبث من دابة } أي وما يفرق في الأرض من جميع الحيوانات على اختلاف أجناسها في الخلق والشكل والصورة { آيات } دلالات تدل على وحدانية من خلقها وأنه الإله القادر المختار { لقوم يوقنون } يعني أنه لا إله غيره .(5/397)
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
{ واختلاف الليل والنهار } يعني بالظلام والضياء والطول والقصر { وما أنزل الله من السماء من رزق } يعني المطر الذي هو سبب أرزاق العباد { فأحيا به } أي بالمطر { الأرض بعد موتها } أي بعد يبسها { وتصريف الرياح } أي في مهابها فمنها الصبا والدبور والشمال والجنوب ومنها الحارة والباردة وغير ذلك { آيات لقوم يعقلون } .
فإن قلت ما وجه هذا الترتيب في قوله { لآيات للمؤمنين } و { لقوم يوقنون } { ويعقلون } .
قلت معناه إن المنصفين من العباد إذا نظروا في هذه الدلائل النظر الصحيح علموا أنها مصنوعة وأنه لا بد لها من صانع فآمنوا به وأقروا أنه الإله القادر على كل شيء ثم إذا أمعنوا النظر ازدادوا إيقاناً وزال عنهم اللبس فحينئذٍ استحكم علمهم وعدوا في زمرة العقلاء الذين عقلوا عن الله مراده في أسرار كتابه { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله } أي بعد كتاب الله { وآياته يؤمنون } قوله تعالى : { ويل لكل أفاك أثيم } أي كذاب صاحب إثم يعني النضر بن الحارث { يسمع آيات الله } يعني القرآن { تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئاً } يعني آيات القرآن { اتخذها هزوا } أي سخر منها { أولئك } إشارة إلى من هذه صفته { لهم عذاب مهين } ثم وصفهم فقال تعالى : { من ورائهم جهنم } يعني أمامهم جهنم وذلك جهنم وذلك خزيهم في الدنيا ولهم في الآخرة النار { ولا يغني عنهم ما كسبوا } أي من الأموال { شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء } أي ولا يغني عنهم ما عبدوا من دون الله من الآلهة { ولهم عذاب عظيم هذا } يعني القرآن { هدى } أي هو هدى من الضلالة { والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم } .(5/398)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
{ الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله } أي بسبب التجارة واستخراج منافعه { ولعلكم تشكرون } نعمته على ذلك { وسخر لكم ما في السموات والأرض } يعني أنه تعالى خلقها ومنافعها فهي مسخرة لنا من حيث إنا ننتفع بها { جميعاً منه } قال ابن عباس : كل ذلك رحمه منه وقيل كل ذلك تفضل منه وإحسان { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } .
قوله عز وجل : { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } أي لا يخافون وقائع الله ولا يبالون بمقته ، قال ابن عباس : نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أن رجلاً من بني غفار شتمه بمكة فهم عمر أن يبطش به فأنزل الله هذه الآية وأمره أن يعفو عنه وقيل نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذى شديد من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ثم نسخها بآية القتال { ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون } أي من الأعمال ثم فسر ذلك فقال تعالى : { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون } .
قوله تعالى : { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب } يعني التوراة { والحكم } يعني معرفة أحكام الله { والنبوة ورزقناهم من الطيبات } أي الحلالات وهو ما وسع عليهم في الدنيا وأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم وأنزل عليهم المن والسلوى { وفضلناهم على العالمين } أي على عالمي زمانهم ، قال ابن عباس : لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله ولا أحب إليه منهم { وآتيناهم بينات من الأمر } أي بيان الحلال والحرام وقيل العلم ببعث محمد صلى الله عليه وسلم وما بين لهم من أمره { فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } معناه التعجب من حالهم وذلك لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الاختلاف وهنا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف وذلك أنه لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم وإنما كان مقصودهم منه طلب الرياسة والتقدم ثم إنهم لما علموا عاندوا وأظهروا النزاع والحسد والاختلاف { إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } .(5/399)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
{ ثم جعلناك } يا محمد { على شريعة } أي على طريقة ومنهاج وسنة بعد موسى { من الأمر } أي من الدين { فاتبعها } أي اتبع شريعتك الثابتة { ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } يعني مراد الكافرين وذلك أنهم كانوا يقولون له أرجع إلى دين آبائك فإنهم كانوا أفضل منك قال الله تعالى : { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً } أي لن يدفعوا عنك من عذاب الله شيئاً إن اتبعت أهواءهم { وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض } يعني إن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا ولأولى لهم في الآخرة { والله ولي المتقين } أي هو ناصرهم في الدنيا ووليهم في الآخرة { هذا } يعني القرآن { بصائر للناس } أي معالم للناس في الحدود والأحكام يبصرون به { وهدى ورحمة لقوم يوقنون أم حسب الذين اجترحوا السيئات } أي اكتسبوا المعاصي والكفر { أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } نزلت في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين لئن كان ما تقولون حقاً لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا { سواء محياهم ومماتهم } معناه أحسبوا أن حياة الكافرين ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم سواء كلا والمعنى أن المؤمن مؤمن في محياه ومماته في الدنيا والآخرة والكافر كافر في محياه ومماته في الدنيا والآخرة وشتان ما بين الحالين في الحال والمآل { ساء ما يحكمون } أي بئس ما يقضون قال مسروق قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري ولقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد ويبكي { أم حسب الذين اجترحوا السيئات } الآية { وخلق } الله السموات والأرض بالحق أي بالعدل { ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون } ومعنى الآية أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة ذلك لا يتم إلا في القيامة ليحصل التفاوت بين المحقين والمبطلين في الدرجات والدركات .
قوله عز وجل : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } قال ابن عباس : اتخذ دينه ما يهواه فلا يهوى شيئاً إلا ركبه لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه ولا يحرم ما حرم الله وقيل معناه اتخذ معبوده ما تهواه نفسه وذلك أن العرب كانت تعبد الحجارة والذهب والفضة فإذا رأوا شيئاً أحسن من الأول رموا بالأول وكسروه وعبدوا الآخر وقيل إنما سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار { وأضله الله على علم } أي علماً منه بعاقبة أمره وقيل على ما سبق في علم الله أنه ضال قبل أن يخلقه { وختم على سمعه وقلبه } أي فلم يسمع الهدى ولم يعقله بقلبه { وجعل على بصره غشاوة } يعني ظلمة فهو لا يبصر الهدى { فمن يهديه من بعد الله } أي من بعد أن أضله الله { أفلا تذكرون } قال الواحدي ليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة لأن الله صرح بمنعه إياه عن الهدى حتى أخبر أنه ختم على سمعه وقلبه وبصره .(5/400)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
{ وقالوا } يعني منكري البعث . { ما هي إلا حياتنا الدنيا } يعني ما الحياة إلا حياتنا الدنيا { نموت ونحيا } يعني يموت الآباء ويحيا الأبناء وقيل تقديره نحيا ونموت { وما يهلكنا إلا الدهر } يعني وما يفنينا إلا ممر الزمان واختلاف الليل والنهار { وما لهم بذلك من علم } يعني لم يقولوه عن علم علموه { إن هم إلا يظنون } ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل : « يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار » وفي رواية « يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما » وفي رواية « يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار » ومعنى هذه الأحاديث أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل لأنهم كانوا ينسبون إلى الدهر ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر كما أخبر الله عز وجل عنهم بقوله { وما يهلكنا إلا الدهر } فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد وسبوا فاعلها كان مرجع سبهم إلى الله تعالى إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر فنهوا عن سب الدهر قيل لهم لا تسبوا فاعل ذلك فإنه هو الله عز وجل والدهر متصرف فيه يقع به التأثير كما يقع بكم والله أعلم .
قوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين } معناه أن منكري البعث احتجوا بأن قالوا إن صح ذلك فأتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحة البعث { قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولله ملك السموات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون } يعني في ذلك اليوم يظهر خسران أصحاب الأباطيل وهم الكافرون يصيرون إلى النار .(5/401)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
{ وترى كل أمة جاثية } أي باركة على الركب وهي جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء قال سلمان الفارسي إن في القيامة ساعة هي عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على الركب حتى إبراهيم ينادي ربه لا أسألك إلا نفسي { كل أمة تدعى إلى كتابها } أي الذي فيه أعمالها ويقال لهم { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } أي من خير وشر { هذا كتابنا } يعني ديوان الحفظة .
فإن قلت كيف أضاف الكتاب إليهم أولاً بقوله { تدعى إلى كتابها } وإليه ثانياً بقوله { هذا كتابنا } .
قلت لا منافاة بينهما فإضافته إليهم لأنه كتاب أعمالهم وإضافته إليه لأنه تعالى هو آمر الحفظة بكتبه { ينطق عليكم بالحق } أي يشهد عليكم ببيان شاف كأنه ينطق وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } أي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم وكتابتها وإثباتها عليكم وقيل نستنسخ أي نأخذ نسخته وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله منه ما كان له ثواب وعليه عقاب ويطرح منه اللغو نحو قولهم هلم واذهب ، وقيل الاستنساخ من اللوح المحفوظ تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم والاستنساخ لا يكون إلا من أصل فينسخ كتاب من كتاب { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته } أي جنته { ذلك هو الفوز المبين } أي الظفر الظاهر { وأما الذين كفروا } أي يقال لهم { أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } يعني آيات القرآن { فاستكبرتم } أي عن الإيمان بها { وكنتم قوماً مجرمين } يعني كافرين منكرين قوله عز وجل : { وإذا قيل إن وعد الله حق } أي البعث كائن { والساعة لا ريب فيها } أي لا شك في أنها كائنة { قلتم ما ندري ما الساعة } أي أنكرتموها وقلتم { إن نظن إلا ظناً } أي ما نعلم ذلك إلا حدساً وتوهماً { وما نحن بمستيقنين } أي إنها كائنة .(5/402)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
{ وبدا لهم } أي في الآخرة { سيئات ما عملوا } أي في الدنيا والمعنى بدا لهم جزاء سيئاتهم { وحاق بهم } أي نزل بهم { ما كانوا به يستهزئون وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا } أي تركتم الإيمان والعمل للقاء هذا اليوم { ومأواكم النار وما لكم من ناصرين } أي ما لكم من مانعين يمنعونكم من العذاب { ذلكم } أي هذا الجزاء { بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا } يعني حين قلتم لا بعث ولا حساب { فاليوم لا يخرجون منها } أي من النار { ولا هم يستعتبون } أي لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله والإيمان به لأنه لا يقبل ذلك اليوم عذر ولا توبة { فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين } معناه فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء من السموات والأرض والعالمين فإن مثل الربوبية والعامة توجب الحمد والثناء على كل حال { وله الكبرياء } أي وكبروه فإن له الكبرياء والعظمة { في السموات والأرض } وحق لمثله أن يكبر ويعظم { وهو العزيز الحكيم } ( م ) عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « العز إزاره والكبرياء رداؤه » قال الله تعالى : « فمن ينازعني عذبته » لفظ مسلم وأخرجه البرقاني وأبو مسعود رضي الله عنهما يقول الله عز وجل : « العز إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني شيئاً منهما عذبته » ولأبي داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : « الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار » .
( شرح غريب ألفاظ الحديث )
قيل هذا الكلام خرج على ما تعتاده العرب في بديع استعاراتهم وذلك أنهم يكنون عن الصفة اللازمة بالثياب يقولون شعار فلان الزهد ولباسه التقوى فضرب الله عز وجل الإزار والرداء مثلاً له في انفراده سبحانه وتعالى بصفة الكبرياء والعظمة ، والمعنى أنهما ليسا كسائر الصفات التي يتصف بها بعض المخلوقين مجازاً كالرحمة والكرم وغيرهما وشبههما بالإزار والرداء لأن المتصف بهما يشملانه كما يشمل الرداء الإنسان ولأنه لا يشاركه في إزاره وردائه أحد فكذلك الله تعالى لا ينبغي أن يشاركه فيهما أحد لأنهما من صفاته اللازمة له المختصة به التي لا تليق بغيره والله أعلم .(5/403)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
قوله عز وجل : { حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } أي بالعدل { وأجل مسمى } يعني يوم القيامة وهو الأجل الذي ينتهي إليه فناء السموات والأرض { والذين كفروا عما أنذروا } أي خوفوا به في القرآن من البعث والحساب { معرضون } أي لا يؤمنون به { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله } يعني الأصنام { أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ائتوني بكتاب من قبل هذا } أي بكتاب جاءكم من الله قبل القرآن فيه بيان ما تقولون { أو أثارة من علم } أي بقية من علم يؤثر عن الأولين ويسند إليهم وقيل برواية عن علم الأنبياء وقيل علامة من علم وقيل هو الخط وهو خط كانت العرب تخطه في الأرض { إن كنتم صادقين } أي في أن لله شريكاً { ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له } يعني الأصنام لا تجيب عابد بها إلى شيء يسألونها { إلى يوم القيامة } يعني لا تجيب أبداً ما دامت الدنيا { وهم من دعائهم غافلون } يعني لأنها جمادات لا تسمع ولا تفهم { وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } أي جاحدين { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين } سموا القرآن سحراً { أم يقولون افتراه } أي اختلق القرآن محمد من قبل نفسه قال الله عز وجل { قل } يا محمد { إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً } أي لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي فكيف أفتري على الله من أجلكم { هو أعلم } أي الله أعلم { بما تفيضون فيه } أي تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه أنه سحر { كفى به شهيداً بيني وبينكم } أي إن القرآن جاء من عنده { وهو الغفور الرحيم } أي في تأخير العذاب عنكم وقيل هو دعاء لهم إلى التوبة ومعناه أنه غفور لمن تاب منكم رحيم به .(5/404)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
قوله تعالى : { قل } يا محمد { ما كنت بدعاً } أي بديعاً { من الرسل } أي لست بأول مرسل قد بعث قبلي كثير من الأنبياء فكيف تنكرون نبوتي { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقيل معناه ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة ولما نزلت هذه الآية فرح المشركون وقالوا واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحد وما له علينا من مزية وفضل ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به فأنزل الله عز وجل : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } فقالت الصحابة هنيئاً لك يا نبي الله قد علمت ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل الله عز وجل : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } الآية وأنزل { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً } فبين الله ما يفعل به وبهم وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة قالوا : إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه وإنما أخبر بغفران ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك ( خ ) « عن خارجة بن زيد بن ثابت أن أم العلاء امرأة من الأنصار وكانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة قالت فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وما يدريك أن الله أكرمه ، فقلت : بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هو فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي قالت فوالله لا أزكي بعده أحد يا رسول قالت ورأيت لعثمان في النوم عيناً تجري فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال ذاك عمله » وفي رواية غير البخاري قالت « لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم قالت فطار لنا عثمان بن مظعون وفيه والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم وقيل في معنى قوله ما أدري ما يفعل بي ولا بكم هذا في الدنيا أما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة وأن من كذبه في النار » فعلى هذا الوجه فقد اختلفوا فيه فقال ابن عباس لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم « رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو بمكة أرض ذات سباخ ونخل رفعت له يهاجر إليها فقال له أصحابه متى تهاجر إلى الأرض التي أريت فسكت فأنزل الله هذه الآية وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأترك في مكاني أم أخرج وأنا وأنتم إلى الأرض التي رفعت لي وقيل » لا أرى إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدنيا أما أنا فلا أدري أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي أم أقتل كما قتل بعض الأنبياء من قبلي وأما أنتم أيها المصدقون فلا أدري أتخرجون معي أم تتركون أم ماذا يفعل بكم ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم أم أي شيء يفعل بكم مما فعل بالأمم المكذبة ثم أخبره الله عز وجل أن يظهر دينه على الأديان كلها فقال تعالى(5/405)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
{ قل أرأيتم } أي أخبروني ماذا تقولون { إن كان من عند الله } يعني القرآن { وكفرتم به } أيها المشركون { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } أي أنه من عند الله { فآمن } يعني الشاهد { واستكبرتم } أي عن الإيمان به والمعنى إذا كان الأمر كذلك أليس قد ظلمتم وتعديتم { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } واختلفوا في هذا الشاهد فقيل هو عبد الله بن سلام آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وشهد بصحة نبوته واستكبر اليهود فلم يؤمنو يدل عليه ما روى عن أنس بن مالك قال : « بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو في أرض يخترف النخل فأتاه وقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني بهن آنفاً جبريل قال فقال عبد الله ذاك عدو اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية { من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له وإذا سبقت كان الشبه لها قال أشهد أنك رسول الله ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رجل فيكم عبد الله بن سلام فقالوا أعلمنا وابن أعلمنا وخيرنا وابن خيرنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفرأيتم إن أسلم عبد الله قالوا أعاذه الله من ذلك زاد في رواية فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك فخرج عبد الله إليهم فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه » زاد في رواية « فقال يعني عبد الله بن سلام هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله » أخرجه البخاري في صحيحه ( ق ) . « عن سعد بن أبي وقاص قال ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لحي يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام قال وفيه نزلت وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله » قال الراوي لا أدري قال مالك الآية أو في الحديث وقيل الشاهد هو موسى بن عمران عليه السلام قال مسروق في هذه الآية والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأن آل حم نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة ونزلت الآية في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه ومثل القرآن التوراة فشهد موسى على التوراة ومحمد على القرآن وكل يصدق الآخر فيكون المعنى وشهد موسى على التوراة التي هي مثل القرآن إنها من عند الله كما شهد محمد صلى الله على القرآن أنه كلام الله فآمن من آمن بموسى والتوراة واستكبرتم أنتم يا معشر العرب أن تؤمنوا بمحمد والقرآن إن لا يهدي القوم الظالمين .(5/406)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
قوله تعالى : { وقال الذين كفروا } يعني من اليهود { للذين آمنوا لو كان خيراً } يعني دين محمد صلى الله عليه وسلم { ما سبقونا إليه } يعنون عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقيل نزلت في مشركي مكة قالوا لو كان ما يدعونا إليه محمد خيراً ما سبقنا إليه فلان وقيل الذين كفروا أسد وغطفان قالوا للذين آمنوا يعني جهينة ومزينة لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا إليه رعاء البهم قال الله تعالى { وإذ لم يهتدوا به } يعني بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان { فسيقولون هذا إفك قديم } يعني كذب متقدم { ومن قبله } يعني من قبل القرآن { كتاب موسى } يعني التوراة { إماماً } يعني جعلناه إماماً يقتدى به { ورحمة } يعني من الله لمن آمن به { وهذا كتاب } يعني القرآن { مصدق } يعني للكتب التي قبله { لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا } يعني مشركي مكة { وبشرى للمحسنين إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون } تقدم تفسيره .
قوله عز وجل : { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } أي يوصل إليهما إحساناً وهو ضد الإساءة { حملته أمه كرهاً } يعني حين أثقلت وثقل عليها الولد { ووضعته كرهاً } يريد شدة الطلق { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } يعني ومدة حمله إلى أن ينفصل من الرضاع وهو الفطام ثلاثون شهراً . فأقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهراً . قال ابن عباس : إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهراً وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً { حتى إذا بلغ أشده } أي نهاية قوته وغاية شبابه واستوائه وهو ما بين ثمان عشرة سنة إلى أربعين سنة وهو قوله تعالى : { وبلغ أربعين سنة } قيل : نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص وقد تقدمت القصة . وقيل إنها على العموم والأصح أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وذلك أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام فنزلوا منزلاً فيه سدرة فقعد النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين فقال له الراهب من الرجل الذي في ظل السدرة فقال هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال الراهب : هذا والله نبي وما استظل تحتها بعد عيسى أحد إلا هذا وهو نبي آخر الزمان ، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق ، فكان لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ولا حضر ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة أكرمه الله تعالى بنبوته واختصه برسالته فآمن به أبو بكر وصدقه وهو ابن ثمان وثلاثين سنة فلما بلغ أربعين سنة دعا ربه عز وجل : { قال رب أوزعني } أي ألهمني { أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي } أي بالإيمان والهداية .(5/407)
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
{ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا } يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن فالأحسن بمعنى الحسن فيثيبهم عليها ويتجاوز عن سيئاتهم فلا يؤاخذهم بها { في أصحاب الجنة } أي مع أصحاب الجنة { وعد الصدق } يعني الذي وعدهم بأن يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم ووعده صدق وقيل : وعدهم بأن يدخلهم الجنة { الذي كانوا يوعدون } يعني في الدنيا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم . قوله تعالى : { والذي قال لوالديه } يعني إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث بعد الموت { أفٍّ لكما } وهي كلمة كراهية { أتعدانني أن أخرج } يعني من قبري حياً { وقد خلت القرون من قبلي } يعني فلم يبعث منهم أحد { وهما يستغيثان الله } يعني يستصرخان بالله عليه ويقولان له { ويلك آمن إن وعد الله حق } يعني بالبعث { فيقول ما هذا } يعني الذي تدعونني إليه { إلا أساطير الأولين } قال ابن عباس نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه وكان أبواه يدعوانه إلى الإسلام وهو يأبى ويقول أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون . وأنكرت عائشة أن يكون قد نزل هذا في عبد الرحمن بن أبي بكر ( خ ) . عن يوسف بن ماهك قال : كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له ، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً ، فقال : خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه ، فقال له مروان : هذا الذي أنزل الله فيه والذي قال لوالديه أف لكما فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا ما أنزل الله في سورة النور من براءتي والقول الصحيح أنه ليس المراد من الآية شخص معين بل المراد كل شخص كان موصوفاً بهذه الصفة وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الصحيح والإيمان بالبعث فأبى وأنكر . وقيل نزلت في كل كافر عاقٍّ لوالديه قال الزجاج : قول من قال إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه(5/408)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
{ أولئك الذين حق عليهم القول } أعلم الله أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المؤمنين فلا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب أي وجب عليهم العذاب { في أمم } أي مع أمم { قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ولكل درجات مما عملوا } قال ابن عباس : يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو ساعة وقيل لكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين والبار والعاق درجات يعني منازل ومراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم فيجازيهم عليها قيل درجات الجنة تذهب إلى علو ودرجات النار تذهب إلى أسفل { وليوفيهم أعمالهم } يعني جزاء أعمالهم { وهم لا يظلمون } قوله عز وجل : { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } يعني يجاء بهم فيكشف لهم عنها ويقال لهم { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } يعني أن كل ما قدر لكم من الطيبات واللذات فقد أفنيتموه في الدنيا وتمتعتم به فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم منها شيء { فاليوم تجزون عذاب الهون } أي الذي فيه ذل وخزي { بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } علق هذا العذاب بأمرين ، أحدهما : الاستكبار وهو الترفع ، ويحتمل أن يكون عن الإيمان ، والثاني : الفسق وهو المعاصي ، والأول من عمل القلوب ، والثاني من عمل الجوارح .
( فصل )
لما وبخ الله تعالى الكافرين بالتمتع بالطيبات ، آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون بعدهم اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة ( ق ) « عن عمر بن الخطاب قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه ، فقلت : أستأنس يا رسول الله . قال : نعم فجلست ، فرفعت رأسي في البيت ، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر إلا أهبة ثلاثة ، فقلت : ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم ولا يعبدون الله فاستوى جالساً ثم قال : أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت استغفر لي يا رسول الله » ( ق ) . « عن عائشة قالت : ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم » ( ق ) « عنها قالت : كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً إنما هو الأسودان التمر والماء إلا أن نؤتى باللحيم » وفي رواية أخرى قالت : « إنا كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار . قال عروة : قلت : يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت : الأسودان التمر والماء إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقينا » عن ابن عباس قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير » أخرجه الترمذي وله عن أنس قال :(5/409)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
قوله تعالى : { واذكر أخا عاد } يعني هوداً عليه السلام { إذ أنذر قومه بالأحقاف } قال ابن عباس : الأحقاف وادٍ بين عمان ومهرة . وقيل : كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له مهرة . وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج العود ، رجعوا إلى منازلهم وكانوا من قبيلة إرم . وقيل : إن عاداً كانوا أحياء باليمن وكانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر . والأحقاف : جمع حقف وهو المستطيل من الرمل فيه اعوجاج كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلاً . وقيل : الأحقاف ما استدار من الرمل { وقد خلت النذر } أي مضت الرسل { من بين يديه } أي من قبل هود { ومن خلفه } أي من بعده { ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } والمعنى : أن هوداً قد أنذرهم بذلك وأعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره { قالوا أجئتنا لتأفكنا } أي لتصرفنا { عن آلهتنا } أي عبادتها { فأتنا بما تعدنا } أي من العذاب { إن كنت من الصادقين } يعني أن العذاب نازل بنا { قال } يعني هوداً { إنما العلم عند الله } يعني هو يعلم متى يأتيكم العذاب { وأبلغكم ما أرسلت به } يعني من الوحي الذي أنزله الله عليّ وأمرني بتبليغه إليكم { ولكني أراكم قوماً تجهلون } يعني قدر العذاب الذي ينزل بكم { فلما رأوه } يعني رأوا ما يوعدون به من العذاب ثم بينه فقال تعالى : { عارضاً } يعني رأوا سحاباً عارضاً وهو السحاب الذي يعرض في ناحية السماء ثم يطبق السماء { مستقبل أوديتهم } وذلك أنه خرجت عليهم سحابة سوداء من ناحية وادٍ يقال له المغيث وكان قد حبس عنهم المطر مدة طويلة فلما رأوا تلك السحابة استبشروا بها ثم { قالوا هذا عارض ممطرنا } قال الله رداً عليهم { بل هو ما استعجلتم به } يعني من العذاب ثم بين ماهية ذلك العذاب فقال تعالى : { ريح فيها عذاب أليم } ثم وصف تلك الريح فقال تعالى : { تدمر كل شيء بأمر ربها } يعني تهلك كل شيء مرت به من رجال عاد وأموالهم يقال : إن تلك الريح كانت تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة فلما رأوا ذلك ، دخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم ، فجاءت الريح فقلعت الأبواب وصرعتهم . وأمر الله الريح ، فأهالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين . ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل واحتملتهم فرمت بهم في البحر . وقيل : إن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح ، خط على نفسه وعلى من معه من المؤمنين خطاً فكانت الريح تمر بهم لينة باردة طيبة والريح التي تصيب قومه شديدة عاصفة مهلكة وهذه معجزة عظيمة لهود عليه السلام .(5/410)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
ولقد مكنّاهم فيما إن مكناكم فيه } الخطاب لأهل مكة يعني مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول الأعمار وكثرة الأموال { وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة } يعني إنا أعطيناهم هذه الحواس ليستعملوها فيما ينفعهم في أمر الدين فما استعملوها إلا في طلب الدنيا ولذاتها فلا جرم { فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء } يعني أنه لما أنزل بهم العذاب ما أغنى ذلك عنهم شيئاً { إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } يعني ونزل بهم العذاب الذي كانوا يطلبونه على سبيل الاستهزاء { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } الخطاب لأهل مكة يعني أهلكنا قرى ديار ثمود وهي الحجر وسدوم وهي قرى قوم لوط بالشام وقرى قوم عاد باليمن يخوف أهل مكة بذلك { وصرفنا الآيات } يعني وبينا لهم الحجج والدلائل الدالة على التوحيد { لعلهم يرجعون } يعني عن كفرهم فلم يرجعوا فأهلكناهم بسبب كفرهم وتماديهم في الكفر { فلولا } يعني فهلا { نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة } يعني أنهم اتخذوا الأغنام آلهة يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى والقربان كل ما يتقرب به إلى الله تعالى : { بل ضلوا عنهم } يعني بل ضلت الآلهة عنهم فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم { وذلك إفكهم } يعني كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى الله تعالى وتشفع لهم عنده { وما كانوا يفترون } يعني يكذبون بقولهم إنها آلهة وإنها تشفع لهم .(5/411)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
قوله عز وجل : { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن } الآية .
( ذكر القصة في ذلك )
قال المفسرون : لما مات أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في حياته يحوطه وينصره ويمنعه ممن يؤذيه ، فلما مات وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحشة من قومه ، فخرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة له والمنعة من قومه فروى محمد بن إسحاق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال : لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف ، وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب بنو عمير . وعندهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم ، فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاء له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك . وقال الآخر : ما وجد الله أحداً يرسله غيرك وقال الثالث : لا أكلمك كلمة أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام وإن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فيزيد ذلك في تجرئهم عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم فجعلوا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع إليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه ، فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه منهم ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة التي من بني جمح فقال لها : ماذا لقينا من أحمائك؟ فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين ، وأنت رب المستضعفين ، وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني ، أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك » فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له عداس فقالا له : خذ قطفاً من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل وقل له يأكل منه .(5/412)
ففعل عداس ذلك ثم أقبل بالطبق حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : كل . فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال : بسم الله ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه ثم قال والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك؟ فقال : أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال له عداس : وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي . فأكبَّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل رأسه ويديه وقدميه قال فقال أحد ابني ربيعة : أما غلامك ، فقد أفسده عليك . فلما جاءهم عداس قال له : ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال : يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل . لقد أخبرني بأمرٍ ما يعلمه إلا نبي . فقال له : ويحك يا عداس لا يصرفك عن دينك فإن دينك خير من دينه ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خير ثقيف حتى إذا كان ببطن نخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن نصيبين كانوا قاصدين اليمن وذلك حين منعوا من استراق السمع من السماء ورموا بالشهب فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين وقد آمنوا به وأجابوا لما سمعوا القرآن فقص الله خبرهم عليه فقال تعالى : { وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن } وفي الآية قول آخر وسيأتي في سورة الجن وهو حديث مخرج في الصحيحين من حديث ابن عباس . وروي أن الجن لما رجموا بالشهب بعث إبليس سراياه ليعرف الخبر فكان أول بعث بعث من أهل نصيبين وهم أشراف الجن وساداتهم فبعثهم إلى تهامة . وقال أبو حمزة : بلغنا أنهم من بني الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وهم عامة جنود إبليس فلما رجعوا إلى قومهم قالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً وقال جماعة : بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله عز وجل إليه نفراً من الجن وهم من أهل نينوى وجمعهم له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فأيكم يتبعني فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فتبعه عبد الله بن مسعود قال عبد الله بن مسعود لم يحضر معه أحد غيري قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون وخط لي خطاً ثم أمرني أن أجلس فيه وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك فانطلق حتى قام عليهم فافتتح القرآن فجعلت أرى مثال النسور تهوي وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى لا أسمع صوته ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مع الفجر فانطلق إليّ فقال لي نمت فقلت : لا والله يا رسول الله لقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول لهم اجلسوا فقال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ثم قال : هل رأيت شيئاً؟ قلت : نعم رأيت رجالاً سوداً عليهم ثياب بيض قال أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والمتاع الزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة فقالوا يا رسول الله يقذرها الناس علينا فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجي بالعظم والروث قال : فقلت يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم؟ فقال : إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت فقلت : يا رسول الله سمعت لغطاً شديداً فقال إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليّ فقضيت بينهم بالحق قال ثم تبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاني فقال لهم معك ماء؟ قلت : يا رسول الله معي أداوة فيها شيء من نبيذ التمر فاستدعاه فصببت على يديه فتوضأ وقال : تمرة طيبة وماء طهور .(5/413)
قال قتادة : ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخاً شمطاً من الزط فأفزعوه حين رآهم ثم قال اظهروا؟ فقيل له : إن هؤلاء قوم من الزط . فقال : ما أشبههم بالنفر . الذين صرفوا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن قلت حديث التوضؤ بنبيذ التمر ضعيف ذكره البيهقي في كتابه الخلافيات بأسانيده وأجاب عنها كلها .
والذي صح عن علقمة قال : قلت لابن مسعود : هل صحب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ قال : ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا ليلة بات قوم قال أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال : فانطلق بنا فأرنا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن .(5/414)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
{ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً } قال عطاء : كان دينهم اليهودية ولذلك { قالوا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه } يعني من الكتب الإلهية المنزلة من السماء وذلك أن كتب الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد وتصديق الأنبياء والإيمان بالمعاد والحشر والنشر وجاء هذا الكتاب وهو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم كذلك فذلك هو تصديقه لما بين يديه من الكتب { يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } يعني : يهدي إلى دين الحق وهو دين الإسلام ويهدي إلى طريق الجنة { يا قومنا أجيبوا داعي الله } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه لا يوصف بهذا غيره وفي الآية دليل على أنه مبعوث إلى الإنس والجن جميعاً قال مقاتل لم يبعث الله نبياً إلى الإنس والجن قبله { وآمنوا به } .
فإن قلت قوله تعالى { أجيبوا داعي الله } أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فلم أعاد ذكره بلفظ التعيين .
قلت : إنما أعاده لأن الإيمان أهم أقسام المأمور به وأشرفها فلذلك ذكره على التعيين فهو من باب ذكر العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه { يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم } قال بعضهم : لفظة من هنا زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم وقيل : هي على أصلها وذلك أن الله يغفر من الذنوب ما كان قبل الإسلام فإذا أسلموا جرت عليهم أحكام الإسلام فمن أتى بذنب أخذ به ما لم يتب منه أو يبقى تحت خطر المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء آخذه بذنبه واختلف العلماء في حكم مؤمني الجن ، فقال قوم : ليس لهم ثواب إلا نجاتهم من النار . وتأولوا قوله : { يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم } . وإليه ذهب أبو حنيفة . وحكي عن الليث قال : ثوابهم أن يجاروا من النار ثم يقال لهم : كونوا تراباً مثل البهائم . وعن أبي الزناد قال : إذا قضى بين الناس ، قيل لمؤمني الجن : عودوا تراباً ، فيعودون ، تراباً . فعند ذلك يقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً . وقال الآخرون : لهم الثواب في الإحسان كما يكون عليهم العقاب في الإساءة كالإنس وهذا هو الصحيح وهو قول ابن عباس وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى . قال الضحاك : الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون . وقال أرطأة بن المنذر : سألت ضمرة بن حبيب : هل للجن ثواب؟ قال : نعم وقرأ { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } قال : فالإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال عمر بن عبد العزيز : إن مؤمني الجن حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها يعني في الجنة .
وقوله تعالى : { ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض } يعني لا يعجز الله فيفوته { وليس له من دونه أولياء } يعني أنصاراً يمنعونه من الله { أولئك } يعني الذين لم يجيبوا داعي الله { في ضلال مبين } قوله تعالى : { أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن } يعني أنه تعالى خلق هذا الخلق العظيم ولم يعجز عن إبداعه واختراعه وتكوينه { بقادر على أن يحيي الموتى } يعني أن إعادة الخلق وإحياءه بعد الموت أهون عليه من إبداعه وخلقه فالكل عليه هين إبداع الخلق وإعادته بعد الموت وهو قوله { بلى إنه على كل شيء قدير } يعني من إماتة الخلق وإحيائهم لأنه قادر على كل شيء .(5/415)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
{ ويوم يعرض الذين كفروا على النار } فيه إضمار تقديره فيقال لهم { أليس هذا بالحق } يعني هذا العذاب هو الذي وعدكم به الرسل وهو الحق { قالوا بلى وربنا } هذا اعتراف منهم على أنفسهم بعد ما كانوا منكرين لذلك وفيه توبيخ وتقريع لهم فعند ذلك { قال } لهم { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } قوله عز وجل : { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمره الله تعالى بالاقتداء بأولي العزم من الرسل في الصبر على أذى قومه قال ابن عباس ذوو الحزم وقال الضحاك ذوو الجد والصبر .
واختلفوا في أولي العزم من الرسل من هم فقال ابن زيد : كل الرسل كانوا أولي عزم لم يبعث الله نبياً إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل . وهذا القول هو اختيار الإمام فخر الدين الرازي . قال : لأن لفظة من في قوله { من الرسل } للتبين لا للتبعيض كما تقول : ثوب من خز كأنه قيل له اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم وصفهم بالعزم لقوة صبرهم وثباتهم وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعجلة كانت فيه ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : { ولا تكن كصاحب الحوت } وقال قوم : أولي العزم هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر نبياً لقوله بعد ذكرهم { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وقال الكلبي : هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشرة لأعداء الله . وقيل : هم ستة : نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء . وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه ، وإبراهيم صبر على النار ، وإسحاق صبر على الذبح ، في قول ، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره ، ويوسف صبر على الجب والسجن ، وأيوب صبر على الضر . وقال ابن عباس وقتادة : هم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، أصحاب الشرائع فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وخمسة قد ذكرهم الله على التخصيص والتعيين في قوله { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } وفي قوله : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } الآية روى البغوي بسنده عن عائشة قالت : « قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم فقال : { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } وإني والله لا بد لي من طاعته والله لأصبرن كما صبروا ولأجهدن كما جهدوا ولا قوة إلا بالله » .(5/416)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
قوله عز وجل : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } يعني أبطلها ولم يتقبلها منهم . وأراد بالأعمال : ما كانوا يفعلون من أعمال البر في إطعام الطعام ، وصلة الأرحام وفك العاني وهو الأسير ، وإجارة المستجير ، ونحو ذلك . وقال بعضهم : أول هذه السورة متعلق بآخر سورة الأحقاف المتقدمة كأن قائلاً قال : كيف يهلك القوم الفاسقون ولهم أعمال صالحة كإطعام الطعام ونحوه من الأعمال والله لا يضيع لعامل عمله ولو كان مثقال ذرة من خير فأخبر بأن الفاسقين هم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم يعني أبطلها لأنها لم تكن لله ولا بأمره إنما فعلوها من عند أنفسهم ليقال عنهم ذلك فلهذا السبب أبطلها الله تعالى وقال الضحاك : أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعل الدائرة عليهم . قال بعضهم : المراد بقوله ، { الذين كفروا } هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر وهم رؤوس كفار قريش منهم أبو جهل ، والحارث بن هشام ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهم . وقيل : هم جميع كفار قريش وقيل هم كفار أهل الكتاب وقيل هو عام فيدخل فيه كل كافر { وصدوا عن سبيل الله } يعني ومنعوا غيرهم عن الدخول في دين الله وهو الإسلام أو منعوا أنفسهم من الدخول في الإسلام { أضل أعمالهم } يعني أبطلها لأنها كانت لغير الله ومنه قوله تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال ابن عباس الذين كفروا مشركو قريش ، والذين آمنوا هم الأنصار وقيل مؤمنو أهل الكتاب وقيل هو عام فيدخل فيه كل مؤمن آمن بالله ورسوله وهذا هو الأولى ليشمل جميع المؤمنين { وآمنوا بما نزل على محمد } يعني القرآن الذي أنزله الله على محمد وإنما ذكره بلفظ الاختصاص مع ما يجب من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعظيماً لشأن القرآن الكريم وتنبيهاً على أنه لا يتم الإيمان إلا به وأكد ذلك بقوله : { وهو الحق من ربهم } وقيل : معناه أن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق لأنه ناسخ للأديان كلها ولا يرد عليه نسخ وقال سفيان الثوري في قوله { وآمنوا بما نزل على محمد } يعني لم يخالفوه في شيء { كفر عنهم سيئاتهم } يعني ستر بأيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم وتوبتهم منها فغفر لهم بذلك ما كان منهم { وأصلح بالهم } يعني حالهم وشأنهم وأمرهم بالتوفيق في أمور الدين والتسليط على أمور الدنيا بما أعطاهم من النصر على أعدائهم . وقيل أصلح بالهم يعني قلوبهم لأن القلب إذا صلح صلح سائر الجسد وقال ابن عباس عصمهم أيام حياتهم يعني أن هذا الإصلاح يعود إلى إصلاح أعمالهم حتى لا يعصوا { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل } يعني الشيطان { وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم } يعني القرآن ومعنى الآية ذلك الأمر وهو إضلال أعمال الكفار وتكفير سيئات المؤمنين كائن بسبب إتباع الكفار الباطل وإتباع المؤمنين الحق من ربهم { كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } الضمير في أمثالهم راجع إلى الناس على أنه تعالى يضرب للناس أمثال أنفسهم أو أنه راجع إلى الفريقين على معنى أنه تعالى ضرب أمثال الفريقين للناس ليعتبروا بها قال الزجاج كذلك يضرب الله أمثال حسنات المؤمنين وأمثال أعمال الكافرين للناس .(5/417)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
قوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا } من اللقاء وهو الحرب { فضرب الرقاب } يعني : فاضربوا رقابهم ضرباً . وضرب الرقاب ، عبارة عن القتل ، إلا أن المراد ضرب الرقاب فقط دون سائر الأعضاء وإنما خص الرقاب بالضرب ، لأن قتل الإنسان أشنع ما يكون بضرب رقبته فلذلك خصت بالذكر في الأمر بالقتل ولأن الرأس من أشرف أعضاء البدن فإذا أبين عن بدنه كان أسرع إلى الموت والهلاك بخلاف غيره من الأعضاء { حتى إذا أثخنتموهم } يعني بالغنم في القتل وقهرتموهم مأخوذ من الشيء الثخين الغليظ . والمعنى : إذا اثقلتموهم بالقتل والجراح ومنعتموهم النهوض والحركة { فشدوا الوثاق } يعني في الاسرى والمعنى فأسروهم وشدوا وثاقهم حتى لا يفلتوا منكم والوثاق اسم لما يوثق به أي يشد به { فإما منّاً بعد وإما فداء } يعني بعد الأسر إما أن تمنوا عليهم منا بإطلاقهم من غير عوض وإما أن تفادوهم فداء .
( فصل : في حكم الآية )
اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هي منسوخة بقوله { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم } وبقوله { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وهذا قول قتادة والضحاك والسدي وابن جريج وإليه ذهب الأوزاعي وأصحاب الرأي قالوا لا يجوز لمن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء بل إما القتل أو الاسترقاق أيهما رأى الإمام . ونقل صاحب الكشاف عن مجاهد قال ليس اليوم من ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق ويجوز أن يكون المراد أن يمن عليهم بترك القتل ويسترقوا أو يمن عليهم فيخلوا لقبول الجزية إن كانوا من أهل الذمة ويراد بالفداء أن يفادى بأسراهم أسرى المسلمين فقد رواه الطحاوي مذهباً عن أبي حنيفة والمشهور عنه أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره خيفة أن يعودوا حرباً للمسلمين وذهب أكثر العلماء إلى أن الآية محكمة والإمام بالخيار في الرجال البالغين من الكفار إذا أسروا بين أن يقتلهم أو يسترقهم أو يمن عليهم فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال أو بأسارى المسلمين وإليه ذهب ابن عمر وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق . قال ابن عباس : لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل في الأسارى { فإما منا بعد وإما فداء } وهذا القول هو الصحيح ولأنه به عمل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده ( ق ) عن أبي هريرة قال : « بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه في سارية من سواري المسجد فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندك يا ثمامة؟ فقال : عندي خير يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد قال : ما عندك يا ثمامة؟ قال : ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد قال : ما عندك يا ثمامة قال : عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أطلقوا ثمامة . فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله والله ما كان على الأرض أبغض إليّ من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي . والله ما كان من دين أبغض من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى فبشره النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل : أصبوت؟ قال : لا ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم »(5/418)
لفظ مسلم بطوله واختصره البخاري عن عمران بن حصين قال « أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل فأوثقوه وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين الذين أسرتهما ثقيف » أخرجه الشافعي في مسنده وأخرده مسلم وأبو داود بلفظ أطول من هذا .
وقوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } يعني أثقالها وأحمالها والمراد أهل الحرب يعني حتى يضعوا أسلحتهم ويمسكوا عن القتال وأصل الوزر : ما يحمله الإنسان فسمى الأسلحة وزراً لأنها تحمل . وقيل : الحرب هم المحاربون مثل الشرب والركب . وقيل : الأوزار الآثام . ومعناه : حتى يضع المحاربون أوزارهم بأن يتوبوا من كفرهم فيؤمنوا بالله ورسوله . وقيل : معناه حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا . ومعنى الآية : أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام ويكون الدين كله لله فلا يكون بعده جهاد ولا قتال وذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم « الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر متى الدجال »(5/419)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
{ سيهديهم } يعني أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور في الآخرة إلى الدرجات العلي { ويصلح بالهم } ويرضي أعمالهم ويقبلها { ويدخلهم الجنة عرفها لهم } يبين لهم منازلهم في الجنة حتى اهتدوا إلى مساكنهم لا يخطئونها ولا يستدلون عليها كأنهم ساكنوها منذ خلقوا فيكون المؤمن أهدى إلى درجته ومنزله وزوجته وخدمه منه إلى منزله وأهله في الدنيا هذا قول أكثر المفسرين . ونقل عن ابن عباس عرفها لهم طيبها لهم من العرف وهو الريح الطيبة وطعام معرف أي مطيب .
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله } يعني تنصروا دين الله ورسوله وقيل : تنصروا أولياء الله وحزبه { ينصركم } يعني على عدوكم { ويثبت أقدامكم } يعني عند القتال وعلى الصراط .(5/420)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
{ والذين كفروا فتعساً لهم } قال ابن عباس : يعني بعداً لهم . وقال أبو العالية : سقوطاً لهم وقال الضحاك : خيبة لهم . وقال ابن زيد : شقاء لهم . وقيل : التعس في الدنيا العثرة وفي الآخرة التردي في النار . يقال للعاثر : تعساً إذا دعوا عليه ولم يريدوا قيامه وضده لعا إذا دعوا له وأرادوا قيامه وفي هذا إشارة جليلة وهي أنه تعالى لما قال في حق المؤمنين { ويثبت أقدامكم } ، يعني في الحرب والقتال ، كان من الجائز أن يتوهم متوهم أن الكافر أيضاً يصبر ويثبت قدمه في الحرب والقتال فأخبر الله تعالى أن لكم الثبات أيها المؤمنون ولهم العثار والزوال والهلاك وقال في حق المؤمنين بصيغة الوعد لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء وقال في حق الكفار بصيغة الدعاء عليهم { وأضل أعمالهم } يعني أبطل أعمالهم لأنها كانت في طاعة الشيطان { ذلك } يعني التعس والإضلال { بأنهم كرهوا ما أنزل الله } يعني القرآن الذي فيه النور والهدى وإنما كرهوه لأن فيه الأحكام والتكاليف الشاقة على النفس لأنهم كانوا قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذ فشق عليهم ذلك والأخذ بالجد والاجتهاد في طاعة الله فلهذا السبب كرهوا ما أنزل الله { فأحبط أعمالهم } يعني فأبطل أعمالهم التي عملوها في غير طاعة الله ولأن الشرك محبط للعمل .
ثم خوف الكفار فقال تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } يعني من الأمم الماضية والقرون الخالية الكافرة { دمر الله عليهم } يقال : دمره الله . يعني أهلكه ، ودمر عليه إذا أهلك ما يختص به والمعنى أهلك الله عليهم ما يختص بهم من أنفسهم وأموالهم وأولادهم { وللكافرين } يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم { أمثالها } يعني إن لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاءهم به من عند الله وهذا التضعيف إنما يكون في الآخرة { ذلك } يعني الإهلاك والهوان { بأن } أي بسبب أن { الله مولى الذين آمنوا } يعني هو ناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم { وأن الكافرين لا مولى لهم } يعني لا ناصر لهم وسبب ذلك أن الكفار لما عبدوا الأصنام وهي جماد لا تضر ولا تنفع ولا تنصر من عبدها فلا جرم ولا ناصر لهم والفرق بين قوله : { وأن الكافرين لا مولى لهم } وبين قوله { ثم ردوا إلى الله مولاهم } الحق أن المولى هنا بمعنى الناصر والمولى هناك بمعنى الرب والمالك والله تعالى رب كل أحد من الناس ومالكهم فبان الفرق بين الآيتين ولما ذكر الله تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا ذكر حالهم في الآخرة فقال تعالى : { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } يعني هذا لهم في الآخرة { والذين كفروا يتمتعون } يعني في الدنيا بشهواتها ولذاتها { ويأكلون كما تأكل الأنعام } يعني ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم وهم مع ذلك لاهون ساهون عما يراد بهم في غد ولهذا شبههم بالأنعام لأن الأنعام لا عقل لها ولا تمييز وكذلك الكافر لا عقل له ولا تمييز لأنه لو كان له عقل ما عبد ما يضره ولا ينفعه .(5/421)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
قوله عز وجل : { مثل الجنة التي وعد المتقون } لما بين الله عز وجل حال الفريقين في الاهتداء والضلال بيَّن في هذه الآية ما أعد لكل واحد من الفريقين فبين أولاً ما أعد للمؤمنين المتقين فقال تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون } يعني صفة الجنة . قال سيبويه : المثل هو الوصف فمعناه وصف الجن وذلك لا يقتضي مشبهاً به . وقيل : الممثل به محذوف غير مذكور والمعنى مثل الجنة التي وعد المتقون مثل عجيب وشيء عظيم وقيل : الممثل به مذكور وهو قوله : { كمن هو خالد في النار } { فيها } يعني الجنة التي وعد المتقون { إنها من ماء غير آسن } يعني غير متغير ولا منتن . يقال : أسن الماء وأجن إذا تغير طعمه وريحه { وأنهار من لبن لم يتغير طعمه } يعني كما تتغير ألبان الدنيا فلا يعود حامضاً ولا قارصاً ولا ما يكره من الطعوم { وأنهار من خمر لذة للشاربين } يعني ليس فيها حموضة ولا عفوصة ولا مرارة ولم تدنسها الأرجل بالدوس ولا الأيدي بالعصر وليس من شرابها ذهاب عقل ولا صداع ولا خمار بل هي لمجرد الالتذاذ فقط { وأنهار من عسل مصفى } يعني ليس فيه شمع كعسل الدنيا ولم يخرج من بطون النحل حتى يموت فيه بعض نحله بل هو خالص صاف من جميع شوائب عسل الدنيا .
عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ( م ) عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة » قال الشيح محيي الدين النووي في شرح مسلم : سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون فأما سيحان جيحان المذكوران في الحديث اللذان هما من أنهار الجنة فهما في بلاد الأرمن فسيحان نهر أردنة وجيحان نهر المصيصة وهما نهران عظيمان جداً أكبرهما جيحان هذا هو الصواب في موضعهما ثم ذكر كلاماً بعد هذا طويلاً . ثم قال : فأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ، ففيه تأويلان الثاني ، وهو الصحيح ، أنها على ظاهرها وأن لها مادة من الجنة . فالجنة مخلوقة موجودة اليوم هذا مذهب أهل السنة . وقال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم ، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر هكذا نقله البغوي عنه .
وقوله تعالى : { ولهم فيها من كل الثمرات } في ذكر الثمرات بعد المشروب إشارة إلى أن مأكول أهل الجنة للذة لا الحاجة فلهذا ذكر الثمار بعد المشروب لأنها للتفكه واللذة { ومغفرة من ربهم } فإن قلت : المؤمن المتقي لا يدخل الجنة إلا بعد المغفرة ، فكيف يكون له فيها المغفرة .(5/422)
قلت ليس بلازم أن يكون المعنى ولهم مغفرة فيها لأن الواو لا تقتضي الترتيب فيكون المعنى ولهم فيها من كل الثمرات ولهم مغفرة قبل دخولهم إليها ، وجواب آخر وهو أن المعنى ولهم مغفرة فيها برفع التكاليف عنهم فيما يأكلون ويشربون بخلاف الدنيا فإن مأكولها يترتب عليه حساب وعقاب ونعيم الجنة لا حساب عليه ولا عقاب فيه قوله تعالى : { كمن هو خالد في النار } يعني من هو في هذا النعيم المقيم الدائم كمن هو خالد في النار يتجرع من حميمها وهو قوله { وسقوا ماء حميماً } يعني شديد الحر قد استعرت عليه جهنم منذ خلقت ، إذا دنا منهم شوى وجوههم ، ووقعت فروة رؤوسهم { ف } إذا شربوه ( قطع أمعاءهم ) يعني فخرجت من أدبارهم والأمعاء جمع معي وهو جميع ما في البطن من الحوايا .
وقال الزجاج : قوله كمن هو خالد في النار راجع إلى ما تقدم كأنه تعالى قال : أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم .
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد » كما كان أخرجه الترمذي وقال : حديث غريب حسن صحيح .
عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم « في قوله يسقى من ماء صديد يتجرعه قال : يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا دنا منه وجهه ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره . قال الله تعالى : { ماء حميماً فقطع أمعاءهم } ويقول : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب .
قوله تعالى : { ومنهم } يعني ومن هؤلاء الكفار { من يستمع إليك } وهم المنافقون يستمعون قولك فلا يعونه ولا يفهمونه تهاوناً به وتغافلاً عنه { حتى إذا خرجوا من عندك } يعني أن هؤلاء المنافقين الذين كانوا عندك يا محمد يستمعون كلامك فإذا خرجوا من عندك { قالوا } يعني المنافقين { للذين أوتوا العلم } يعني من الصحابة { ماذا قال آنفاً } يعني ما الذي قال محمد الآن وهو من الائتناف . يقال : ائتنفت الأمر أي ابتدأته قال مقاتل : وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين ، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاء ماذا قال محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس وقد سئلت فيمن سئل { أولئك } يعني المنافقين { الذين طبع الله على قلوبهم } يعني فلم يؤمنوا ولم ينتفعوا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم { واتبعوا أهواءهم } يعني في الكفر والنفاق والمعنى أنهم لما تركوا إتباع الحق أماتَ الله قلوبهم فلم تفهم ولم تعقل فعند ذلك اتبعوا أهواءهم في الباطل { والذين اهتدوا } يعني المؤمنين لما بين الله أن المنافق يسمع ولا ينتفع بل هو مصر على متابعة الهوى بين حال المؤمن المهتدي الذي ينتفع بما يستمع فقال تعالى : { والذين اهتدوا } يعني بهداية الله إياهم إلى الإيمان { زادهم هدى } يعني أنهم كلما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما جاء به عن الله عز وجل آمنوا بما سمعوا منه وصدقوه فيزيدهم ذلك هدى مع هدايتهم وإيماناً مع إيمانهم { وآتاهم تقواهم } يعني وفقهم للعمل بما أمرهم به وهو التقوى .(5/423)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
قوله عز وجل : { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة } يعني الكافرين والمنافقين الذين قعدوا عن الإيمان فلم يؤمنوا فالساعة بغتة تفجؤهم وهم على كفرهم ونفاقهم ففيه وعيد وتهديد والمعنى لا ينظرون إلى الساعة والساعة آتية لا محالة وسميت القيامة ساعة لسرعة قيامها .
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « بادروا بالأعمال سبعاً فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مقيداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر » أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن . وقوله تعالى : { فقد جاء أشراطها } أي أماراتها وعلاماتها واحدها شرط .
ولما كان قيام الساعة أمراً مستبطأ في النفوس وقد قال الله تعالى : فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فكأن قائلاً قال متى يكون قيام الساعة فقال تعالى : { فقد جاء أشراطها } قال المفسرون : من أشراط الساعة انشقاق القمر وبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ق ) . عن سهل بن سعد قال : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بأصبعه هكذا الوسطى والتي تلي الإبهام وقال : بعثت أنا والساعة كهاتين وفي رواية قال بعثت أنا والساعة كهاتين ويشير بأصبعيه يمدهما » ( ق ) عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بعثت أنا والساعة كهاتين كفضل أحدهما على الأخرى وضم السبابة والوسطى وفي رواية قال بعثت في نفس الساعة فسبقتها كفضل هذه على الأخرى » قيل معنى الحديث أن المراد أن ما بين مبعثه صلى الله عليه وسلم وقيام الساعة شيء يسير كما بين الإصبعين في الطول وقيل هو إشارة إلى قرب المجاورة ( ق ) عن أنس قال عند قرب وفاته ألا أحدثكم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحدثكم به أحد غيري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « لا تقوم الساعة أو قال من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويفشو الزنى ويذهب الرجال ويبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم . وفي رواية ويظهر الزنى ويقل الرجال ويكثر النساء » ( ق ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويبقى الشح ويكثر الهرج قالوا وما الهرج قال القتل وفي رواية : يرفع العلم ويثبت الجهل أو قال ويظهر الجهل » ( خ ) عن أبي هريرة قال : « بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال متى الساعة فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم : بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال أين السائل عن الساعة قال : ها أنا ذا يا رسول الله قال : إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال وكيف إضاعتها؟ قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة » .(5/424)
وقوله تعالى : { فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } يعني فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة بغتة . وقيل : معناه كيف يكون حالهم إذا جاءتهم الساعة فلا تنفعهم الذكرى ولا تقبل منهم التوبة ولا يحتسب بالإيمان في ذلك الوقت { فاعلم أنه لا إله إلا الله } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .
وأورد على هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان عالماً بالله وأنه لا إله إلا هو فما فائدة هذا الأمر .
وأجيب عنه بأن معناه : دُمْ على ما أنت عليه من العلم . فهو كقول القائل للجالس : اجلس أي دم على ما أنت عليه من الجلوس أو يكون معناه ازدد علماً إلى علمك . وقيل : إن هذا الخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم ، فالمراد به غيره من أمته . قال أبو العالية وسفيان بن عيينة : هذا متصل بما قبله . معناه : إذا جاءتهم فاعلم أنه لا ملجأ ولا منجى ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله الذي لا إله إلا هو . وقيل : معناه فاعلم أنه لا إله إلا الله وأن جميع الممالك تبطل عند قيامها فلا ملك ولا حكم لأحد إلا الله الذي لا إله إلا هو { واستغفر لذنبك } أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار مع أنه مغفور له ليستنَّ به أمته وليقتدوا به في ذلك ( م ) عن الأغر المزني أغر مزينة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر في اليوم مائة مرة وفي رواية قال : توبوا إلى ربكم فوالله إني لأتوب إلى ربي عز وجل مائة مرة في اليوم » ( خ ) عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة وفي رواية أكثر من سبعين مرة » قوله : إنه ليغان على قلبي الغين التغطية والستر أي يلبس على قلبي ويغطي وسبب ذلك ما أطلعه عليه من أحوال أمته بعده فأحزنه ذلك حتى كان يستغفر لهم . وقيل : إنه لما كان يشغله النظر في أمور المسلمين ومصالحهم حتى يرد أنه قد شغل بذلك وإن كان من أعظم طاعة وأشرف عبادة عن أرفع مقام مما هو فيه وهو التفرد بربه عز وجل وصفاء وقته معه وخلوص همه من كل شيء سواه فلهذا السبب كان صلى الله عليه وسلم يستغفر الله فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين .(5/425)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
قوله تعالى : { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } وذلك أن المؤمنين كانوا حراصاً على الجهاد في سبيل الله فقالوا : فهلا أنزلت سورة تأمرنا بالجهاد؟ لكي نجاهد { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال } قال مجاهد : كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين { رأيت الذين في قلوبهم مرض } يعني نفاقاً وهم المنافقون { ينظرون إليك } يعني شزراً وكراهية منهم للجهاد وجبنا عن لقاء العدو { نظر المغشي عليه من الموت } يعني كما ينظر الشاخص بصره عند معاينة الموت { فأولى لهم } فيه وعيد وتهديد وهو معنى قولهم في التهديد وليك وقاربك ما تكره وتم الكلام عند هذا .
ثم ابتدأ بقوله { طاعة وقول معروف } فعلى هذا هو مبتدأ محذوف الخبر تقديره طاعة وقول معروف أمثل لهم وأولى بهم .
والمعنى : لو أطاعوا وقالوا قولاً معروفاً كان أمثل وأحسن . وقيل : هو متصل بما قبله واللام في لهم بمعنى الباء مجازة فأولى بهم طاعة الله وطاعة رسوله وقول معروف بالإجابة والمعنى لو أطاعوا وأجابوا لكانت الطاعة والإجابة أولى بهم وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء عنه { فإذا عزم الأمر } فيه حذف تقديره فإذا عزم صاحب الأمر وقيل : هو على أصله ومجازه كقولنا : جاء الأمر ودنا الوقت وهذا أمر متوقع . ومعنى الآية : فإذا عزم الأمر خالف المنافقون وكذبوا فيما وعدوا به { فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم } يعني الصدق وقيل : معناه لو صدقوا الله في إظهار الإيمان والطاعة لكان ذلك خيراً لهم { فهل عسيتم } أي فلعلكم { إن توليتم } يعني أعرضتم عن سماع القرآن وفارقتم أحكامه { أن تفسدوا في الأرض } يعني تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الفساد في الأرض بالمعصية والبغي وسفك الدم وترجعوا إلى الفرقة بعد ما جمعكم الله بالإسلام { وتقطعوا أرحامكم } قال قتادة كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن؟ ( ق ) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إن الرحم شجنة من الرحمن فقال الله تعالى من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته » وفي رواية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن فقال : مَهْ فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال : نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذلك لك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرؤوا إن شئتم : { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } »(5/426)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
{ أولئك } إشارة إلى من إذا تولى أفسد في الأرض وقطع الأرحام { الذين لعنهم الله } يعني أبعدهم من رحمته وطردهم عن جنته { فأصمهم } يعني عن سماع الحق { وأعمى أبصارهم } يعني عن طريق الهدى وذلك أنهم لما سمعوا القرآن فلم يفهموه ولم يؤمنوا به وأبصروا طريق الحق فلم يسلكوه ولم يتبعوه ، فكانوا بمنزلة الصم العمى ، وإن كان لهم أسماع وأبصار في الظاهر { أفلا يتدبرون القرآن } يعني يتكفرون فيه وفي مواعظه وزواجره وأصل التدبر التفكر في عاقبة الشيء وما يؤول إليه أمره . وتدبر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب وجمع الهم وقت تلاوته ويشترط فيه تقليل الغذاء من الحلال الصرف وخلوص النية { أم على قلوب اقفالها } يعني بل على قلوب أقفالها وجعل القفل مثلاً لكل مانع للإنسان من تعاطي فعل الطاعة . يقال : فلان مقفل عن كذا ، بمعنى ممنوع منه .
فإن قلت : إذا كان الله تعالى قد أصمهم وأعمى أبصارهم وأقفل على قلوبهم وهو بمعنى الختم فكيف يمكنهم تدبر القرآن مع هذه الموانع الشديدة .
قلت : تكليف ما لا يطاق جائز عندنا ، لأن الله أمر بالإيمان لمن سبق في علمه أنه لا يؤمن فكذلك هنا والله يفعل ما يريد لا اعتراض لأحد عليه . وقيل : إن قوله { أفلا يتدبرون القرآن } المراد به التأسي . وقيل : إن هذه الآية محققة للآية المتقدمة وذلك أن الله تعالى لما قال : { أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } فكان قوله أفلا يتدبرون القرآن كالتهييج لهم على ترك ما هم فيه من الكفر الذي استحقوا بسببه اللعنة أو كالتبكيت لهم على إصرارهم على الكفر والله أعلم بمراده .
وروى البغوي بإسناد الثعلبي ، عن عروة بن الزبير قالا : « تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها فقال شاب من أهل اليمن : بل على قلوب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به » هذا حديث مرسل وعروة بن الزبير تابعي من كبار التابعين وأجلهم لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ولد سنة اثنتين وعشرين وقيل غير ذلك .
قوله عز وجل : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } يعني رجعوا القهقرى كفاراً { من بعد ما تبين لهم الهدى } يعني من بعد ما وضح لهم طريق الهداية . قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم . وقال ابن عباس والضحاك والسدي : هم المنافقون آمنوا أولاً ثم كفروا ثانياً { الشيطان سول لهم } يعني زين لهم القبيح حتى رأوه حسناً { وأملى لهم } قرىء بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله يعني أمهلوا ومد لهم في العمر وقرىء وأملى لهم بفتح الألف واللام بمعنى وأملى لهم الشيطان بأن مد لهم في الأمل .(5/427)
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
{ فكيف إذا توفتهم الملائكة } يعني فكيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة { يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك } يعني ذلك الضرب { بأنهم } يعني بسبب أنهم { اتبعوا ما أسخط الله } يعني ترك الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس : بما كتموا من التوراة وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم { وكرهوا رضوانه } يعني كرهوا ما فيه رضوان الله عز وجل وهو الإيمان والطاعة والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { فأحبط أعمالهم } التي عملوها من أعمال البر لأنها لم تكن لله ولا بأمره { أم حسب الذين في قلوبهم مرض } أي شك ونفاق وهم المنافقون { أن لن يخرج الله أضغانهم } يعني يظهر أحقادهم على المؤمنين فيبديها حتى يعرف المؤمنون نفاقهم واحدها ضغن وهو الحقد الشديد . وقال ابن عباس : حسدهم { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم } لما قال تعالى : { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم } فكأن قائلاً قال لمَ لمْ يخرج أضغانهم ويظهرها فأخبر تعالى أنه إنما أخر ذلك لمحض المشيئة لا لخوف منهم فقال تعالى : { ولو نشاء لأريناكهم } لا مانع لنا من ذلك . والإراءة بمعنى التعريف والعمل . وقوله : { فلعرفتهم } لزيادة فائدة وهي أن التعريف قد يطلق ولا يلزم منه المعرفة الحقيقية كما يقال : عرفته فلم يعرف فكان المعنى هنا عرفناكهم تعريفاً تعرفهم به ففيه إشارة إلى قوة ذلك التعريف الذي لا يقع معه اشتباه وقوله { بسيماهم } يعني بعلامتهم أي نجعل لك علامة تعرفهم بها . قال أنس : ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين وكان يعرفهم بسيماهم { ولتعرفنهم في لحن القول } يعني في معنى القول وفحواه ومقصده وللحن معنيان صواب وخطأ صرف الكلام وإزالته عن التصريح إلى المعنى والتعريض وهذا محمود من حيث البلاغة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « فلعل بعضكم ألحن بحجته من بعض » وإليه قصد بقوله { ولتعرفنهم في لحن القول } وأما اللحن المذموم فظاهر وهو صرف الكلام عن الصواب إلى الخطأ بإزالة الإعراب أو التصحيف . ومعنى الآية : وإنك يا محمد لتعرفن المنافقين فيما يعرضون به من القول من تهجين أمرك وأمر المسلمين وتقبيحه والاستهزاء به فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه بقوله ويستدل بفحوى كلامه على فساد باطنه ونفاقه ثم قال الله تعالى { والله يعلم أعمالكم } يعني أعمال جميع عباده فيجازي كلاًّ على قدر عمله .
قوله تعالى { ولنبلونكم } يعني ولنعاملنكم معاملة المختبر فإن الله تعالى عالم بجميع الأشياء قبل كونها ووجودها { حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } يعني إنا نأمركم بالجهاد حتى يظهر المجاهد ويتبين من يبادر منكم ويصبر عليه من غيره لأن المراد من قوله : حتى نعلم ، أي علم الوجود والظهور { ونبلوا أخباركم } يعني نظهرها ونكشفها ليتبين من يأتي القتال ولا يصبر على الجهاد { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول } يعني خالفوه فيما أمرهم به من الجهاد وغيره { من بعد ما تبين لهم الهدى } يعني من بعد ما ظهر لهم أدلة على الهدى وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم { لن يضروا الله شيئاً } يعني إنما يضرون أنفسهم بذلك والله تعالى منزه عن ذلك { وسيحبط أعمالهم } يعني وسيبطل أعمالهم فلا يرون لها ثواباً في الآخرة لأنها لم تكن لله تعالى قال ابن عباس : هم المطعمون يوم بدر .(5/428)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } لما ذكر الله عز وجل الكفار بسبب مشاقتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم قال تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } قال عطاء : يعني بالشرك والنفاق والمنى . داوموا على ما أنتم عليه من الإيمان والطاعة ولا تشركوا فتبطل أعمالكم . وقيل : لا تبطلوا أعمالكم بترك طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أبطل أهل الكتاب أعمالهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصيانه . وقال الكلبي : لا تبطلوا أعمالكم بالرياء والسمعة لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم . وقال الحسن : لا تبطلوا أعمالكم بالمعاصي والكبائر . قال أبو العالية : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضرهم مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل فنزلت هذه الآية فخافوا من الكبائر بعد أن نحبط أعمالهم واستدل بهذه الآية من يرى إحباط الطاعات بالمعاصي ولا حجة لهم فيها وذلك لأن الله تعالى يقول : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } وقال تعالى : { وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً } فالله تعالى أعدل وأكرم من أن يبطل طاعات سنين كثيرة بمعصية واحدة وروى ابن عمر أنه قال : كنا نرى أنه لا شيء من حسناتنا إلا مقبولاً حتى نزل { ولا تبطلوا أعمالكم } فقلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا . فقلنا : الكبائر والفواحش حتى نزل { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فكففنا عن ذلك القول وكنا نخاف على من أصاب الكبيرة ونرجو لمن لم يصبها واستدل بهذه الآية من لا يرى أبطال النوافل حتى لو دخل في صلاة تطوع أو صوم تطوع لا يجوز له إبطال ذلك العمل والخروج منه ولا دليل لهم في الآية ولا حجة لأن السنة مبينة للكتاب « وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح صائماً فلما رجع إلى البيت وجد حيساً فقال لعائشة قربيه فلقد أصبحت صائماً فأكل » وهذا معنى الحديث وليس بلفظه وفي الصحيحين أيضاً أن سلمان زار أبا الدرداء فصنع له طعاماً فلما قربه إليه قال . كل فإني صائم قال لست بآكل حتى تأكل فأكل معه وقال مقاتل في معنى الآية لا تمنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبطل أعمالكم نزلت في بني أسد وسنذكر القصة في تفسير سورة الحجرات إن شاء الله تعالى : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم } قيل نزلت في أهل القليب وهم أبو جهل وأصحابه الذين قتلوا ببدر وألقوا في قليب بدر وحكمها عام في كل كافر مات على كفره فالله لا يغفر له لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } { فلا تهنوا } الخطاب فيه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم هو عام لجميع المسلمين يعني فلا تضعفوا أيها المؤمنون { وتدعوا إلى السلم } يعني ولا تدعوا الكفار إلى الصلح أبداً منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا { وأنتم الأعلون } يعني وأنتم الغالبون لهم والعالون عليهم .(5/429)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
{ ها أنتم هؤلاء } يعني أنتم يا هؤلاء المخاطبون الموصفون ثم استأنف وصفهم فقال تعالى : { تدعون لتنفقوا في سبيل الله } قيل أراد به النفقة في الجهاد والغزو وقيل المراد به إخراج الزكاة وجميع وجوه البر والكل في سبيل الله { فمنكم من يبخل } يعني بما فرض عليه إخراجه من الزكاة أو ندب إلى أنفاقه في وجوه البر { ومن يبخل } يعني بالصدقة وأداء الفريضة فلا يتعداه ضر بخله وهو قوله تعالى : { فإنما يبخل عن نفسه } أي على نفسه { والله الغني } يعني عن صدقاتكم وطاعتكم لأنه الغني المطلق الذي له ملك السموات والأرض { وأنتم الفقراء } يعني إليه وإلى ما عنده من الخيرات والثواب في الدنيا والآخرة { وإن تتولوا } يعني عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وعن القيام بما أمركم به وألزمكم إياه { يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } يعني يكونون أطوع لله ورسوله صلى الله عليه وسلم منكم . قال الكلبي : هم كندة والنخع من عرب اليمن . وقال الحسن : هم العجم . وقال عكرمة : هم فارس والروم .
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : « تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } قالوا ومن يستبدل بنا قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال هذا وأصحابه » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وفي إسناده مقال وله رواية أخرى عن أبي هريرة قال : « قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله عز وجل إن تولينا استبدلوا منا ثم لا يكونوا أمثالنا قال وكان سلمان بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان فقال هذا وأصحابه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس » ولهذا الحديث طرق في الصحيح ترد في سورة الجمعة إن شاء الله تعالى والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده .(5/430)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
قوله عز وجل : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده والمعنى إنا قضينا وحكمنا لك فتحاً مبيناً ظاهراً بغير قتال ولا تعب . واختلفوا في هذا الفتح فروى قتادة عن أنس أنه فتح مكة وقال مجاهد : إنه فتح خيبر . وقيل : هو فتح فارس والروم وسائر بلاد الإسلام التي يفتحها الله عز وجل له .
فإن قلت على هذه الأقوال هذه البلاد مكة وغيرها لم تكن قد فتحت بعد فكيف قال تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } بلفظ الماضي .
قلت : وعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالفتح وجيء به بلفظ الماضي جرياً على عادة الله تعالى في أخباره ، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة كأنه تعالى قال : إنا فتحنا لك في حكمنا وتقديرنا وما قدره وحكم به فهو كائن لا محالة . وقال أكثر المفسرين : إن المراد بهذا الفتح صلح الحديبية وهو الأصح ، وهو رواية عن أنس . ومعنى الفتح : فتح المغلق المستصعب وكان الصلح مع المشركين يوم الحديبية مستصعباً متعذراً حتى فتحه الله عز وجل ويسره وسهله بقدرته ولطفه . عن البراء قال : تغدون أنتم الفتح فتح مكة ولقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها ولم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا وماشيتنا وركابنا . وقال الشعبي في قوله { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } قال : فتح الحديبية وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأطعموا نخل خيبر وبلغ الهدي محله وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس وقال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم فأسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، فعز الإسلام بذلك وأكرم الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقوله عز وجل : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } قيل اللام في قوله ليغفر لك الله لام كي والمعنى فتحنا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة بالفتح ، وقال الحسن بن الفضل : هو مردود إلى قوله تعالى : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات « وقال ابن جريج : هو راجع إلى قوله في سورة النصر { واستغفره إنه كان تواباً } ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك .(5/431)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
قوله تعالى : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } يعني الطمأنينة والوقار في قلوبهم لئلا تنزعج نفوسهم . قال ابن عباس : كل سكينة في القرآن طمأنينة إلا التي في سورة البقرة وقد تقدم تفسيرها في موضعها . ولما قال الله تعالى : { وينصرك الله نصراً عزيزاً } ، بيّن وجه هذا النصر كيف هو ، وذلك أنه تعالى جعل السكينة التي هي الطمأنينة والثبات في قلوب المؤمنين ويلزم من ذلك ثبات الأقدام عند اللقاء في الحروب وغيرها فكان ذلك من أسباب النصر الذي وعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال تعالى : { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } وذلك أنه تعالى جعل السكينة والطمأنينة في قلوب المؤمنين سبباً لزيادة الإيمان في قلوبهم ، وذلك أنه كلما ورد عليهم أمر أو نهي ، آمنوا به وعملوا بمقتضاه ، فكان ذلك زيادة في إيمانهم . وقال ابن عباس : بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله فلما آمنوا به وصدقوه زادهم الصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج ثم الجهاد حتى أكمل دينهم ، فكلما أمروا بشيء وصدقوه ، ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم ، وقال الضحاك : يقيناً مع يقينهم . وقال الكلبي : هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحق . وقيل : لما آمنوا بالأصول وهو التوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الله عز وجل وآمنوا بالبعث بعد الموت والجنة والنار وآمنوا بالفروع وهي جميع التكاليف البدنية والمالية كان ذلك زيادة في إيمانهم { ولله جنود السموات والأرض } لما قال الله عز وجل : وينصرك الله نصراً عزيزاً ، وكان المؤمنون في قلة من العدد والعدد ، فكأن قائلاً قال : كيف ينصره؟ فأخبره الله عز وجل أن له جنود السموات والأرض وهو قادر على نصر رسوله صلى الله عليه وسلم ببعض جنوده بل هو قادر على أن يهلك عدوه بصيحة ورجفة وصاعقة ونحو ذلك فلم يفعل بل أنزل سكينة في قلوبكم أيها المؤمنون ليكون نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإهلاك أعدائه على أيديكم فيكون لكم الثواب ولهم العقاب وفي جنود السموات والأرض وجوه : الأول : إنهم ملائكة السموات والأرض . الثاني : أن جنود السموات الملائكة وجنود الأرض جميع الحيوانات الثالث أن جنود السموات مثل الصاعقة والصيحة والحجارة وجنود الأرض مثل الزلال والخسف والغرق ونحو ذلك { وكان الله عليماً } يعني بجميع جنوده الذين في السموات والأرض { حكيماً } يعني في تدبيره وقيل : عليماً بما في قلوبكم أيها المؤمنون حكيماً حيث جعل النصر لكم على أعدائكم .
قوله عز وجل : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } يستدعي سابقاً تقديره هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليدخلهم جنات .(5/432)
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
{ ولله جنود السموات والأرض } تقدم تفسيره بقي ما فائدة التكرير ولم قدم ذكر جنود السموات والأرض على إدخال المؤمنين الجنة ولم أخر ذكر جنود السموات والأرض هنا بعد تعذيب المنافقين والكافرين ، فنقول : فائدة التكرار للتأكيد وجنود السموات والأرض منهم من هو للرحمة ومنهم من هو للعذاب فقدم ذكر جنود السموات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة ليكون مع المؤمنين جنود الرحمة فيثبتوهم على الصراط وعند الميزان فإذا دخلوا الجنة أفضوا إلى جوار الله تعالى ورحمته والقرب منه ، فلا حاجة لهم بعد ذلك إلى شيء ، وأخر ذكر جنود السموات والأرض بعد تعذيب الكافرين والمنافقين ليكون معهم جنود السخط فلا يفارقوهم أبداً .
فإن قلت : قال في الآية الأولى : { وكان الله عليماً حكيماً } ، وقال في هذه الآية { وكان الله عزيزاً حكيماً } فما معناه؟ قلت : لما كان في جنود السموات والأرض من هو للرحمة ومن هو للعذاب وعلم الله ضعف المؤمنين ، ناسب أن تكون خاتمة الآية الأولى { وكان الله عليماً حكيماً } ، ولما بالغ في وصف تعذيب الكافر والمنافق وشدته ، ناسب أن تكون خاتمة الآية الثانية { وكان الله عزيزاً حكيماً } فهو كقوله : { أليس الله بعزيز ذي انتقام } وقوله { أخذناهم أخذ عزيز مقتدر } قوله تعالى : { إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ذكره في معرض الامتنان عليه حيث شرفه بالرسالة وبعثه إلى الكافة شاهداً على أعمال أمته ومبشراً يعني لمن آمن به وأطاعه بالثواب ونذيراً يعني لمن خالفه وعصى أمره بالعقاب ثم بين فائدة الإرسال فقال تعالى : { لتؤمنوا بالله ورسوله } فالضمير فيه للناس المرسل إليهم { وتعزروه } يعني ويقووه وينصروه . والتعزير : نصر مع تعظيم { وتوقروه } يعني وتعظموه والتوقير : التعظيم والتبجيل { وتسبحوه } من التسبيح الذي هو التنزيه من جميع النقائص أو من السبحة وهي الصلاة .
قال الزمخشري : والضمائر لله تعالى والمراد بتعزير الله تعالى . تعزير دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم . ومن فرق الضمائر فقد أبعد وقال غيره : الكنايات في قوله ويعزروه ويوقروه راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعندها تم الكلام فالوقف عليّ ويوقروه وقف تام ثم يبتدئ بقوله ويسبحوه { بكرة وأصيلاً } على أن الكناية في ويسبحوه راجعة إلى الله تعالى يعني ويصلوا الله أو يسبحوا بالغداة والعشي .
قوله عز وجل : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } يعني إن الذين يبايعونك يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا إنما يبايعون الله لأنهم باعوا أنفسهم من الله عز وجل بالجنة وأصل البيعة : العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للإمام ، والوفاء بالعهد الذي التزمه له ، والمراد بهذه البيعة بيعة الرضوان بالحديبية ، وهي قرية ليست بكبيرة بينها وبين مكة أقل من مرحلة أو مرحلتين سميت ببئر هناك .(5/433)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
قوله تعالى : { سيقول لك المخلفون من الأعراب } قال ابن عباس ومجاهد يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع والنخع وأسلم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً ، استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فأحرم بالعمرة وساق الهدى ليعلم الناس أنه لا يريد حرباً ، فتثاقل عنه كثير من الأعراب ، وتخلفوا ، واعتلّوا بالشغل ، فأنزل الله تعالى فيهم سيقول لك يا محمد المخلفون من الأعراب الذين خلفهم الله عز وجل عن صحبتك ، إذا رجعت إليهم من عمرتك هذه وعاتبتهم على التخلف عنك { شغلتنا أموالنا وأهلونا } يعني النساء والذراري . يعني : لم يكن لنا من يخلفنا فيهم : فلذا تخلفنا عنك { فاستغفر لنا } أي إنا مع عذرنا معترفون بالإساءة فاستغفر لنا بسبب تخلفنا عنك فأكذبهم الله تعالى فقال الله تعالى : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } يعني أنهم في طلب الاستغفار كاذبون لأنهم لا يبالون استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا { قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً } يعني سوءاً { أو أراد بكم نفعاً } وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضر أو يجعل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم فأخبرهم الله عز وجل أنه إن أراد شيئاً من ذلك لم يقدر أحد على دفعه { بل كان الله بما تعملون خبيراً } يعني من إظهاركم الاعتذار وطلب الاستغفار وإخفائكم النفاق { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً } يعني ظننتم أن العدو يستأصلهم فلا يرجعون إلى أهليهم { وزين ذلك في قلوبكم } يعني زيَّن الشيطان ذلك الظن عندكم حتى قطعتم به ، حتى صار الظن يقيناً عندكم ، وذلك أن الشيطان قد يوسوس في قلب الإنسان بالشيء ويزينه له حتى يقطع به { وظننتم ظن السوء } يعني وظننتم أن الله يخلف وعده وذلك أنهم قالوا : إن محمداً وأصحابه أكلة رأس ، يريدون بذلك قتلهم فلا يرجعون فأين تذهبون معهم انظروا ما يكون من أمرهم { وكنتم قوماً بوراً } يعني وصرتم بسبب ذلك الظن الفاسد قوماً بائرين هالكين { ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا اعتدنا للكافرين سعيراً } . لما بين الله تعالى حال المخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين حال ظنهم الفاسد وإن ذلك يفضي بصاحبه إلى الكفر حرضهم على الإيمان والتوبة من ذلك الظن الفاسد فقال تعالى : { ومن لم يؤمن بالله ورسوله } وظن أن الله يخلف وعده فإنه كافر وإنا أعتدنا للكافرين سعيراً { ولله ملك السموات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } لما ذكر الله تعالى حال المؤمنين المبايعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحال الظانين ظن السوء أخبر أن له ملك السموات والأرض ومن كان كذلك فهو يغفر لمن يشاء بمشيئته ويعذب من يشاء ولكن غفرانه ورحمته أعم وأشمل وأتم وأكمل وإليه الإشارة بقوله تعالى : { وكان الله غفوراً رحيماً } قوله عز وجل : { سيقول المخلفون } يعني الذين تخلفوا عن الحديبية { إذا انطلقتم } يعني إذا سرتم وذهبتم أيها المؤمنون { إلى مغانم لتأخذوها } يعني غنائم خيبر وذلك أن المؤمنين لما انصرفوا من الحديبية على صلح من غير قتال ولم يصيبوا من الغنائم شيئاً وعدهم الله عز وجل فتح خيبر وجعل غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضاً عن غنائم أهل مكة حيث انصرفوا عنهم ولم يصيبوا منهم شيئاً { ذرونا نتبعكم } يعني إلى خيبر فنشهد معكم قتال أهلها وفي هذا بيان كذب المتخلفين عن الحديبية حيث قالوا : شغلتنا أموالنا وأهلونا إذ لم يكن لهم هناك طمع في غنيمة وهنا قالوا : ذرونا نتبعكم حيث كان لهم طمع في الغنيمة { يريدون أن يبدلوا كلام الله } يعني يريدون أن يغيروا ويبدلوا مواعيد الله لأهل الحديبية حيث وعدهم غنيمة خيبر لهم خاصة وهذا قول جمهور المفسرين .(5/434)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
قوله عز وجل : { قل للمخلفين من الأعراب } لما قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم : قل لن تتبعونا ، وكان المخلفون جمعاً كثيراً من قبائل متشعبة ، وكان فيهم من ترجى توبته وخيره بخلاف الذين مردوا على النفاق واستمروا عليه ، فجعل الله عز وجل لقبول توبتهم علامة ، وهي أنهم يدعون إلى قوم أولى بأس شديد ، فإن أطاعوا ، كانوا من المؤمنين ويؤتيهم الله أجراً حسناً وهو الجنة ، وإن تولوا وأعرضوا عما دعوا إليه ، كانوا من المنافقين ويعذبهم عذاباً أليماً . واختلفوا في المشار إليهم بقوله { ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد } من هم فقال ابن عباس ومجاهد : هم أهل فارس . وقال كعب : هم الروم . وقال الحسن : هم فارس والروم . وقال سعيد بن جبير : هوازن وثقيف . وقال قتادة : هوازن وغطفان يوم حنين . وقال الزهري وجماعة : هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب . وقال رافع بن خديج : كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم . وقال ابن جريج : دعاهم عمر رضي الله عنه إلى قتال فارس . وقال أبو هريرة : لم يأت تأويل هذه الآية بعد ، وأقوى هذه الأقوال ، قول من قال إنهم هوازن وثقيف ، لأن الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأبعدها قول من قال إنهم بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب أما الدليل على صحة القول الأول فهو أن العرب كان قد ظهر أمرهم في آخر الأمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا مؤمن تقي طاهر أو كافر مجاهر . وأما المنافقون ، فكان قد علم حالهم لامتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم ، وكان الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرب من خالفه من الكفار . وكانت هوازن وثقيف من أشد العرب بأساً وكذلك غطفان فاستنفر النبي صلى الله عليه وسلم العرب لغزوة حنين وبني المصطلق ، فصح بهذا البيان أن الداعي هو النبي صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : هذا ممتنع لوجهين : أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لن تتبعونا ، وقال : لن تخرجوا معي أبداً ، فكيف كانوا يتبعونه مع هذا النهي؟ الوجه الثاني : قوله { أولي بأس شديد } ، ولم يبق للنبي صلى الله عليه وسلم حرب مع قوم أولي بأس شديد ، لأن الرعب كان قد دخل قلوب العرب كافة فنقول : الجواب عن الوجه الأول من وجهين : أحدهما : أن يكون قوله : قل لن تتبعونا ولن تخرجوا معي أبداً مقيد بقيد وهو أن يكون تقديره : قل لن تتبعونا ولن تخرجوا معي أبداً ما دمتم على ما أنتم عليه من النفاق والمخالفة وهذا القيد لا بد منه لأن من أسلم وحسن إسلامه وجب عليه الجهاد ولا يجوز منعه من الخروج إلى الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم .(5/435)
الوجه الثاني : في الجواب عن الوجه الأول أن المراد من قوله لن تتبعونا ولن تخرجوا معي أبداً يعني في غزوة خيبر لأنها كانت مخصوصة بمن شهد بيعة الرضوان بالحديبية دون غيرهم . ثم نقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يدعهم إلى الجهاد معه أو منعهم من الخروج إلى الجهاد معهما لامتنع أبو بكر وعمر من الإذن لهم في الخروج إلى الجهاد معهما كما امتنعا من أخذ الزكاة من ثعلبة لامتناع النبي صلى الله عليه وسلم من أخذها وأما الجواب عن الوجه الثاني وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبق له حرب مع قوم أولي بأس شديد فغير مسلم لأن الحرب كانت باقية مع قريش وغيرهم من العرب وهم أولو بأس شديد فثبت بهذا البيان أن الداعي للمخلفين هو النبي صلى الله عليه وسلم وأما قول من قال إن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب وإن عمر دعاهم إلى قتال فارس والروم فظاهر في الدلالة وفيه دليل على صحة خلافتهما لأن الله تعالى وعد على طاعتهما الجنة وعلى مخالفتهما النار .
وقوله تعالى : { تقاتلونهم أو يسلمون } فيه إشارة إلى وقوع أحد الأمرين إما الإسلام أو القتل { فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً } يعني الجنة { وإن تتولوا } يعني تعرضوا عن الجهاد { كما توليتم من قبل } يعني عام الحديبية { يعذبكم عذاباً اليماً } يعني النار ولما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة والأعذار كيف حالنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } يعني في التخلف عن الجهاد وهذه أعذر ماهرة في جواز ترك الجهاد ، لأن أصحابها لا يقدرون على الكر والفر ، لأن الأعمى لا يمكنه الإقدام على العدو والطلب ، ولا يمكنه الاحتراز منه والهرب ، وكذلك الأعرج ، والمريض . وفي معنى الأعرج : الزمن المقعد والأقطع . وفي معنى المريض : صاحب السعال الشديد والطحال الكبير . والذين لا يقدرون على الكر والفر : فهذه أعذار مانعة من الجهاد ظاهرة ومن وراء ذلك أعذار أخر دون ما ذكر وهي : الفقر الذي لا يمكن صاحبه أن يستصحب معه ما يحتاج إليه من مصالح الجهاد والاشغال التي تعوق عن الجهاد كتمريض المريض الذي ليس له من قوم مقامه عليه ونحو ذلك وإنما قدم الأعمى على الأعرج ، لأن عذر الأعمى مستمر لا يمكن الانتفاع به في حرس ولا غيره بخلاف الأعرج لأنه يمكن الانتفاع به في الحراسة ونحوها وقدم الأعرج على المريض لأن عذره أشد من عذر المريض لإمكان زوال المرض عن قريب { ومن يطع الله ورسوله } يعني في أمر الجهاد وغيره { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول } يعني يعرض عن الساعة ويستمر على الكفر والنفاق { يعذبه عذاباً أليماً } يعني في الآخرة .(5/436)
قوله عز وجل : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك } يعني بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً ولا يفروا { تحت الشجرة } وكانت هذه الشجرة سمرة ( ق ) عن طارق بن عبد الرحمن قال انطلقت حاجاً ، فمررت بقوم يصلون ، فقلت : ما هذا المسجد؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان فأتيت ابن المسيب فأخبرته فقال سعيد : كان أبي ممن بايع تحت الشجرة قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فعميت علينا فلم نقدر عليها . قال سعيد : فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها فأنتم أعلم فضحك . وفي رواية ، عن سعيد بن المسيب عن أبيه ، قال : لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد عام فلم أعرفها ، وروي أن عمر مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة ، فقال : أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول هاهنا وبغضهم يقول هاهنا فلما كثر اختلافهم قال : سيروا . ذهبت الشجرة . { خ } عن ابن عمر قال رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها وكانت رحمة من الله تعالى ( م ) عن أبي الزبير ، أنه سمع جابراً يسأل : كم كانوا يوم الحديبية؟ قال : كنا أربع عشرة مائة فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة فبايعناه جميعاً غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعيره . زاد في رواية قال : بايعناه على أن لا نفر . ولم نبايعه على الموت . وأخرجه الترمذي عن جابر في قوله تعالى : { لقد رضي الله تعالى عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } . قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت . ( ق ) عن عمرو بن دينار قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية . « أنتم اليوم خير أهل الأرض » وكنا ألفاً وأربعمائة قال : ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة . وروى سالم عن جابر قال : كنا خمس عشرة مائة ( ق ) عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان أصحاب الشجرة ألفاً وثلثمائة وكانت أسلم ثمن المهاجرين وهذه البيعة تسمى بيعة الرضوان لهذه الآية وكان سبب هذه البيعة على ما ذكر محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي حين نزل الحديبية فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على جمل يقال له « الثعلب » ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فمنعتهم الأحابيش ، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فقال : يا رسول الله إني أخاف على نفسي قريشاً وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل هو أعزبها مني عثمان بن عفان فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب إنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فنزل عن دابته وحمله بين يديه ثم أردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عظماء قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن تطوف بالبيت ، فطف به .(5/437)
فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتبسته قريش عندها فبلغ ، رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا نبرح حتى نناجز القوم » ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة وكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت قال بكير بن الأشج : بايعوه على الموت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بل على ما استطعتم » وقد تقدم عن جابر ومعقل بن يسار أنهما قالا : لم نبايعه على الموت ، ولكن بايعناه على أن لا نفر . وقد تقدم أيضاً الجمع بين هذا وبين قول سلمة بن الأكوع بايعناه على الموت وكان أول من بايع بيعة الرضوان رجلاً من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب ، ولم يتخلف عن بيعة الرضوان أحد من المسلمين حضرها إلا جد بن قيس أخو بني سلمة قال جابر : فكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته يستتر بها من الناس ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل ( م ) عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة » عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ليدخلن الجنة من بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب .
وقوله تعالى : { فعلم ما في قلوبهم } يعني من الصدق والإخلاص والوفاء كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض والنفاق { فأنزل السكينة } يعني الطمأنينة { عليهم } يعني على المؤمنين المخلصين حتى ثبتوا وبايعوك على الموت وعلى أن لا يفروا وفي هذه الآية لطيفة ، وهي أن هذه البيعة كانت فيها طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك موجب لرضوان الله عز وجل وهو موجب لدخول الجنة ويدل عليه قوله تعالى في الآية المتقدمة { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } فثبت بهذا البيان أن أهل بيعة الرضوان من أهل الجنة ، ويشهد لصحة ما قلناه الحديث المتقدم .(5/438)
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
{ ومغانم كثيرة يأخذونها } يعني من أموال أهل خيبر وكانت خيبر ذات نخيل وعقار وأموال فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم { وكان الله عزيزاً } يعني منيعاً كامل العزة غنياً عن إعانتكم { حكيماً } حيث حكم لكم بالغنائم ولأعدائكم بالهلاك على أيديكم .
قوله تعالى : { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } يعني المغانم التي تغنمونها من الفتوحات التي تفتح لكم إلى يوم القيامة { فعجل لكم هذه } يعني مغانم خيبر وفيه إشارة إلى كثرة الفتوحات والغنائم التي يعطيهم الله عز وجل في المستقبل وإنما عجل لهم هذه كعجالة الراكب أعجلها الله لكم وهي في جنب ما وعدكم الله به من الغنائم كالقليل من الكثير { وكف أيدي الناس عنكم } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد خيبر وحاصر أهلها ، همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة ، فكف الله عز وجل أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم . وقيل : المعنى إن الله عز وجل كف أيدي أهل مكة بالصلح عنكم لتمام المنّة عليكم { ولتكون آية للمؤمنين } هو عطف على ما تقدم تقديره ، فعجل لكم الغنائم لتنتفعوا بها ، ولتكون آية للمؤمنين . يعني : ولتحصل من بعدكم آية تدلهم على أن ما وهبكم الله يحصل مثله لهم . وقيل : لتكون آية للمؤمنين دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الغيوب ، فيزدادوا يقيناً إلى يقينهم ويعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم { ويهديكم صراطاً مستقيماً } يعني ويهديكم إلى دين الإسلام ويثبتكم عليه ويزيدكم بصيرة ويقيناً بصلح الحديبية وفتح خيبر .
( ذكر غزوة خيبر )
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع ( ق ) . عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذاناً كف عنهم . وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم . قال : فخرجنا إلى خيبر فلما انتهينا إليهم ليلاً فلما أصبح ولم يسمع أذاناً ركب وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبي صلى الله عليه وسلم قال فخرجوا علينا بمكاتلهم ومساحيهم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا محمد والخميس فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال « الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين » ( م ) عن سلمة بن الأركع قال : خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم :
تالله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبت الأقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينة علينا ...(5/439)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من هذا؟ » قال : أنا عامر . قال : « غفر لك ربك » قال : وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد . قال : فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له : يا نبي الله لولا متعتنا بعامر . قال : فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول :
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلتهب ... قال : وبرز له عمي عامر فقال :
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر
قال : فاختلفا بضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر ، وذهب عامر يسفل له ، فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله ، فكانت فيها نفسه . قال سلمة : فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : بطل عمل عامر قتل نفسه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت : يا رسول الله بطل عمل عمي عامر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال ذلك؟ فقت : ناس من أصحابك . قال : كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين . ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد فقال : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . قال : فأتيت علياً فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبصق في عينيه فبرأ ، وأعطاه الراية فخرج مرحب فقال :
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلتهب ... فقال علي رضي الله عنه :
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره ... قال فضرب مرحباً فقتله ثم كان الفتح على يده . أخرجه مسلم بهذا اللفظ وقد أخرج البخاري طرفاً منه قال البغوي وقد روى حديث فتح خيبر جماعة منهم سهل بن سعد وأنس بن مالك وأبو هريرة يزيدون وينقصون فيه « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس ، فأخذ أبو بكر راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً ، ثم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من القتال الأول ، ثم رجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ويفتح الله على يديه ، فدعا علياً فأعطاه الراية وقال له : امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فأتى خيبر فخرج مرحب صاحب الحصن وعلى رأسه مغفر من حجر قد نقبه مثل البيضة وهو يرتجز ، فخرج إليه علي بن أبي طالب ، فضربه فقد الحجر والمغفر وفلق رأسه حتى أخذ السيف في الأضراس ، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يرتجز ، فخرج إليه الزبير بن العوام فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب : يقتل ابني يا رسول الله؟ قال : ابنك يقتله إن شاء الله . ثم التقيا ، فقتله الزبير . ثم كان الفتح ثم لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح الحصون ويقتل المقاتلة ويسبي الذرية ويحوز الأموال »(5/440)
قال محمد بن إسحاق : فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقت اليهود عليه حجراً فقتله ثم فتح حصن ابن أبي الحقيق فأصاب سبايا منهم صفية بنت حيي بن أخطب جاء بها بلال وبأخرى معها فمر بها على قتلى من قتلى يهود ، فلما رأتهم التي مع صفية ، صاحت وصكت وجهها وحشت التراب على رأسها ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اعزبوا عني هذه الشيطانة » وأمر بصفية فجهزت خلفه وألقى عليها رداءه ، فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفاها لنفسه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال لما رأى من تلك اليهودية ما رأى أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمراً وقع في حجرها ، فعرضت رؤياها على زوجها فقال : ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمداً ثم لطم وجهها لطمة اخضرت منها عينها ، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منها فسألها عن ذلك ما هو ، فأخبرته الخبر ، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجها كنانة بن الربيع وكان عنده كنز بني النضير فسأله ، فجحد أن يكون يعلم مكانه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من اليهود فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني رأيت كنانة يطوف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة : أرأيت إن وجدناه عندك أنقتلك قال : نعم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقي ، فأبى أن يؤديه إليه فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير بن العوام أن يعذبه حتى يستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزنده على صدره حتى أشرف على نفسه ثم دفعه إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة « ( ق ) عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر بياض فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما دخل القرية قال : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاثاً .(5/441)
قال : وخرج القوم إلى أعمالهم فقالوا محمد والخميس يعني الجيش . قال : فأصبناها عنوة فجمع السبي فجاء دحية فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطني جارية من السبي . قال : اذهب فخذ جارية ، فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير لا تصلح إلا لك قال : ادعوها فجاء بها ، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال : خذ جارية من السبي غيرها ، فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها . فقال له ثابت : يا أبا حمزة ما أصدقها قال نفسها أعتقها وتزوجها ، حتى إذا كان بالطريق ، جهزتها له أم سليم ، فأهدتها له من الليل وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروساً فقال : من كان عنده شيء فليجئ به . وبسط نطعاً فجعل الرجل يجيء بالتمر وجعل الآخر يجيء بالسمن قال : وأحسبه ذكر السويق . قال : فحاسوا حيساً فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم « ( ق ) . عن عبد الله بن أبي أوفى قال : » أصابتنا مجاعة ليالي خيبر ، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكفئوا القدور ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئاً « . فقال أناس : نهى عنها لأنها لم تخمس وقال آخرون : إنما نهى عنها البتة ( ق ) عن أنس : » أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت : أردت لأقتلك فقال : ما كان الله ليسلطك على ذلك . أو قال علي قالوا أنقلتها قال لا فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم « .
قال محمد بن إسماعيل قال يونس عن الزهري قال عروة قالت عائشة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه : » يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم « ( خ ) . عن عائشة قالت : » لما فتحت خيبر قلنا الآن نشبع من التمر « ( ق ) عن ابن عمر » أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها وكانت الأرض لما ظهر عليها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين فأراد إخراج اليهود منها فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بها على أن يكفوا العمل ولهم نصف التمر ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : نقركم بها على ذلك ما شئنا فقروا بها .(5/442)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
قوله تعالى : { وأخرى لم تقدروا عليها } يعني وعدكم الله فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها { قد أحاط الله بها } يعني حفظها لكم حتى تفتحوها ومنعها من غيركم حتى تأخذوها ، وقال ابن عباس : علم الله أن يفتحها لكم واختلفوا فيها فقال ابن عباس : هي فارس والروم وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم بل كانوا خولاً لهم حتى أقدرهم الله عليها بشرف الإسلام وعزه . وقيل : هي خيبر وعدها الله نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصيبها ولم يكونوا يرجونها ففتحها الله لهم . وقيل : هي مكة . وقيل : هو كل فتح فتحه المسلمون أو يفتحونه إلى آخر الزمان { وكان الله على كل شيء قديراً } أي : من فتح القرى والبلدان لكم وغير ذلك { ولو قاتلكم الذين كفروا } أي أسد وغطفان وأهل خيبر { لَولّوا الأدبار } أي لانهزموا عنكم { ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً } يعني من تولى الله خلذلانه فلا ناصر له ولا مساعد { سنة الله التي قد خلت من قبل } يعني هذه سنة الله في نصر أوليائه وقهر أعدائه { ولن تجد لسنة الله تبديلاً } قوله عز وجل : { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم } سبب نزول هذه الآية ما روي عن أنس بن مالك : « أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غدر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فأخذهم سبايا فاستحياهم فأنزل الله تعالى وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أطفركم عليهم » انفرد بإخراجه مسلم وقال عبد الله بن مغفل المزني : « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : جئتم في عهد أو هل جعل لكم أحد أماناً قالوا اللهم لا فخلى سبيلهم » .
ومعنى الآية ، أن الله تعالى ذكر منته بحجزه بين الفريقين حتى لم يقتلوا وحتى اتفق بينهم الصلح الذي كان أعظم من الفتح وهو قوله تعالى : { وهو الذي كف أيديهم عنكم } يعني أيدي أهل مكة { وأيديكم عنهم } أي قضى بينهم وبينكم بالمكافة والمحاجرة { ببطن مكة } قيل : أراد به الحديبية . وقيل : التنعيم وقيل : وادي مكة { من بعد أن أظفركم عليهم } أي مكنكم منهم حتى ظفرتم بهم { وكان الله بما تعملون بصيراً } قوله عز وجل :(5/443)
{ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام } ( ذكر صلح الحديبية )
روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا : « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً وساق معه سبعين بدنة والناس سبعمائة رجل وكانت كل بدنة عن عشرة نفر فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش . وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتى عتبة الخزاعي . وقال : إن قريشاً قد جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أشيروا عليّ أيها الناس أترون أن أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن نجوا تكن عنقاً قطعها الله أو ترون أن نؤم البيت لا نريد قتال أحد ولا حرباً فمن صدنا عنه قاتلناه . فقال أبو بكر : يا رسول الله إنما جئت عامداً لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حرباً فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال : امضوا على اسم الله فنفذوا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش فانطلق يركض نذيراً لقريش . وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته فقال الناس : حل حل . فألحت فقالوا خلأت القصواء فقال النبي صلى الله عليه وسلم من خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال : والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت . قال : فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتربضه الناس تربضاً فلم يلبث الناس أن نزحوه . وشكا الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم العطش ، فنزع سهماً من كنانته وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له ناجية بن عمير وهو سائق بدن النبي صلى الله عليه وسلم فنزل في البئر فغرزه في جوفه . فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا على أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » إنا لم نجىء لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر .(5/444)
فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل الناس فيه فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره . فقال بديل : سأبلغهم ما تقول . فانطلق حتى أتى قريشاً ، فقال إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء . وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته . قال : سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود الثقفي ، فقال : أي قوم ، ألستم بالولد؟ قالوا : بلى . قال : أولست بالوالد؟ قالوا : بلى . قال : فهل تتهموني؟ قالوا : لا قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ؟ فلما ألحّوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا : بلى . قال : فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها ودعوني آتية قالوا ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل ، فقال عروة عند ذلك : يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوهاً وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر رضي الله عنه : امصص بظر اللات أنحن نفرُّ عنه وندعه؟ فقال : من ذا؟ قالوا : أبو بكر . قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد لك عندي ولم أجزك بها لأجبتك . قال وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنصل السيف . وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم . فرفع عروة رأسه ، فقال : من هذا قالوا المغيرة بن شعبة فقال : أي غدر ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة قد صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء .
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه قال : فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمر ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون في وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيماً له فرجع عروة إلى أصحابه وقال : أي قوم .(5/445)
والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي . والله إن رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره .
وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه . وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيماً له وقد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها فقال رجل من كنانة : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم : وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فلان من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعث له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت . فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت . ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه ، فلما رأى الهدي يسيل إليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فقال : يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صد الهدى في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله قالوا له : اجلس فإنما أنت رجل أعرابي لا علم لك . فغضب الحليس عند ذلك وقال : يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أيصد عن بيت الله من جاءه معظماً له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحبيش نفرة رجل واحد . فقالوا : مه كفَّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال : دعوني آته . فقال : ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو قال معمر فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم : قد سهل لكم من أمركم قال معمر قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال هات أكتب بيننا وبينكم كتاباً فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون والله ما نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : اكتب باسمك اللهم .(5/446)
ثم قال له : اكتب هذا ما قضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال سهيل لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن هذا البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله . قال الزهري وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وعلي أن يخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل : والله لأتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب فقال سهيل وعلي أن لا يأتيك منا رجلاً وإن كان على دينك إلا رددته إلينا . فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين من جاء مسلماً .
وروي عن البراء قصة الصلح وفيها قالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد الله قال : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ثم قال لعلي : امحِ رسول الله . قال : لا والله لا أمحوك أبداً قال : فأرنيه ، فأراه إياه فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده . وفي رواية ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن أن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله قال البراء : على ثلاثة أشياء على أن من أتاه من المشركين رده إليهم ومن أتاه من المسلمين لم يردوه وعلى أن يدخلها من قابل ويقيم ثلاثة أيام ولا يدخلها بجلباب السلاح السيف والقوس ونحوه .
وروى ثابت عن أنس أن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم ومن جاءكم منا رددتموه علينا فقالوا يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال : نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً .
( رجعنا إلى حديث الزهري )
قال بينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد انفلت وخرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا : يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد قال فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبداً .(5/447)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : فأجره لي . قال : ما أنا بمجيره لك . قال : بلى فافعل . قال : ما أنا بفاعل . ثم جعل سهيل يجره ليرده إلى قريش . فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً ألا ترون ما لقيت ، وكان قد عذب في الله عذاباً شديداً ، وفي الحديث ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا أبا جندل احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك في المستضعفين فرجاً ومخرجاً إنَّا قد قعدنا بيننا وبين القوم عقداً وصلحاً وإنا لا نغدر ، فوثب عمر إلى جنب أبي جندل وجعل يقول : اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون ودم أحدهم دم كلب ويدني السيف منه .
قال عمر : ورجوت أن يأخذ السيف فيضربه به فضن الرجل بأبيه وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوا ذلك ، دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون وزادهم أمر أبي جندل شرّاً إلى ما بهم .
قال عمر : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ قال الزهري في حديثه عن مروان والمسور وروى أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطاب فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقلت : ألست نبي الله حقاً؟ قال : بلى . قلنا : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل . قال : بلى . قلت : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار . قال : بلى . قلت : فلم نعط الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت أولست كنت تحدثنا إنّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال : بلى . أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت : لا . قال : فإنك آتيه وتطوف به . قال : فأتيت أبا بكر فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال : بلى قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال : بلى . قلت : فلم نعطى الدنية في ديننا؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه ، فوالله إنه على الحق . قلت : أليس كان يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به؟ قال : بلى . أفأخبرك أنه آتيه العام؟ قلت : لا . قال : فإنك تأتيه وتطوف به . قال عمر : فعملت لذلك أعمالاً ، فلما فرغ من قضية الكتاب . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا فوالله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد منهم قام النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس . قالت أم سلمة : يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم منهم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ونحر بدنة ودعا حالقاً فحلقه ، فلما رأوا ذلك ، قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً قال ابن عمر وابن عباس : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحم الله المحلقين .(5/448)
قالوا : يا رسول الله والمقصرين؟ قال : يرحم المحلقين . قالوا : يا رسول الله والمقصرين؟ قال : يرحم الله المحلقين والمقصرين قالوا : يا رسول الله فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين . قال : لأنهم لم يشكوا .
قال ابن عمر : وذلك أنه تربص قوم وقالوا : لعلنا نطوف بالبيت .
قال ابن عباس : وأهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ المشركين بذلك . قال الزهري في حديثه : ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } حتى بلغ { بعصم الكوافر } فطلق عمر امرأتين يومئذ كانتا في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية قال : فنهاهم أن يردوا النساء وأمرهم أن يردوا الصداق . قال : ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير عتبة بن أسيد رجل من قريش وهو مسلم؛ وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثا في طلبه رجلاً من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالا : العهد الذي جعلت لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح في ديننا الغدر وإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ثم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة نزلوا يأكلون من تمر لهم . فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيد ، فاستله الآخر ، فقال : أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت به . فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه فأخذه ، منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه : لقد رأى هذا ذعراً . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ويلك ما لك؟ قال : قتل والله صاحبي وإني لمقتول فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشح السيف حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم فأنجاني الله تعالى منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد « .(5/449)
فلما سمع ذلك ، عرف أن يرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر وبلغ المسلمين الذين كانوا حبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد فخرج عصابة منهم إليه فانفلت أبو جندل فلحق بأبي بصير حتى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسلت إليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقدموا إليه المدينة وأنزل الله عز وجل : { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم } حتى بلغ { حمية الجاهلية } وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينه وبين هذا البيت أخرجه البخاري بطوله سوى ألفاظ منه وهي مستثناة في الحديث . منها قوله : فنزع سهماً من كنانته ، وأعطاه رجلاً من أصحابه ، إلى قوله : فوالله ما زال يجيش لهم بالري ومنها قوله ثم بعثوا الحليس بن علقمة إلى قوله فقالوا كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به ومنها قوله هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، إلى قوله : وعليّ أن يخلوا بيننا وبين البيت . ومنها قوله : وروي عن البراء قصة الصلح ، إلى قوله : رجعنا إلى حديث الزهري . ومنها قوله : وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا أبا جندل ، إلى قوله : قال عمر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبي الله حقاً؟ ومنها قوله : قال ابن عمر وابن عباس ، إلى قوله : وقال الزهري في حديثه ثم جاء نسوة مؤمنات فهذه الألفاظ لم يخرجها البخاري في صحيحه .
( شرح غريب ألفاظ الحديث )
قوله : بضع عشرة ، البضع : في العدد بالكسر وقد يفتح هو ما بين الثلاثة إلى التسعة . وقيل : ما بين الواحد إلى العشرة . قوله : وبعث عيناً له أي جاسوساً . قوله : وقد جمعوا لك الأحابيش : هم أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشاً . وقيل : هم حلفاء قريش وهم بنو الهون بن خزيمة وبنو الحارث بن عبد مناة وبنو المصطلق من خزاعة تحالفوا تحت جبل يقال له : حبش فسموا بذلك . وقيل : هو اسم واد بأسفل مكة . وقيل : سموا بذلك لتجمعهم . والتحبيش : التجمع . قوله : فإن قعدوا قعدوا موتورين ، أي منقوصين . قوله : فنفذوا : أي مضوا وتخلصوا . قوله : إن خالد بن الوليد بالغميم ، اسم موضع ومنه كراع الغميم . وقوله : طليعة الطليعة ، الجماعة يبعثون بين يدي الجيش ليطلعوا على أخبار العدو . قوله : وقترة الجيش : هو الغبار الساطع معه سواد .(5/450)
قوله : يركض نذير ، النذير : الذي يعلم القوم بالأمر الحادث . قوله : حلَ حل : هو زجر للناقة . قوله خلأت القصوا : يعني أنها لما توقفت عن المشي وتقهقرت ظنوا ذلك خللاً في خلقها وهو كالحران للفرس فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما خلأت أي ليس ذلك من خلقها ولكن حبسها حابس الفيل ، أي منعها عن المسير . والذي منع الفيل عن مكة هو الله تعالى والقصوا اسم ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن قصوا وهو شق الأذن . قوله : خطة ، أي حالة وقضية يعظمون فيها حرمات الله جمع حرمة وهي فروضه وما يجب القيام به يريد بذلك حرمة الحرم ونحوه . قوله : حتى نزل بأقصى الحديبية بتخفيف الياء وتشديدها ، وهي قرية ليست بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة وبين الحديبية ومكة مرحلة وبينها وبين المدينة تسع مراحل . وقال ما لك : هي من الحرم . وقال ابن القصار : بعضها من الحل حكاه في المطالع . والثمد : الماء القليل الذي لا مادة له . والتربض : أخذ الشيء قليلاً قليلاً . وقوله : فما زال يجيش بالري ، يقال : جاشت البئر بالماء إذا ارتفعت وفاضت . والري ضد العطش ، والصد الرجوع بعد الورود . وقوله : وكانت خزاعة عيبة ، نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال فلان عيبة نصح فلان إذا كان موضع سره وثقته في ذلك . قوله : نزلوا على أعداد مياه الحديبية ، الماء العد : الكثير الذي لا انقطاع له كالعيون وجمعه أعداد . قوله : ومعهم العوذ المطافيل ، العوذ : جمع عائذ وهي الناقة إذا وضعت إلى أن يقوى ولدها ، وقيل : هي كل أنثى لها سبع ليال منذ وضعت . والمطافيل : جمع مطفل وهي الناقة معها فصيلها وهذه استعارة استعار ذلك للناس وأراد بهم أن معهم النساء والصبيان . قوله : وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب أي ، أضرت بهم وأثَّرت فيهم . وقوله : ماددتهم أي جعلت بيني وبينهم مدة . قوله : وإلا فقد جموا ، أي : استراحوا . والجمام : بالجيم الراحة بعد التعب . قوله : تنفرد سالفتي السالفة الصفحة والسالفتان صفحتا العنق . وقيل : السالفة حبل العنق وهو ما بينه وبين الكتف وهو كناية عن الموت لأنها لا تنفرد عنه إلا بالموت . قوله : إني استنفرت ، يقال : استنفر القوم إذا دعاهم إلى قتال العدو ، وعكاظ : اسم سوق كانت في الجاهلية معروفة . وقوله : بلحوا على فيه لغتان التخفيف والتشديد وأصل التبليح : الإعياء والفتور . والمراد : امتناعهم من إجابته وتقاعدهم عنه . قوله : استأصلت قومك . واجتاح : أصله من الاجتياح إيقاع المكروه بالإنسان ومنه الجائحة والاستئصال والاجتياح متقاربان في مبالغة الأذى . قوله : إني لأرى وجوهاً وأشواباً : الأشواب ، مثل الأوباش وهم الأخلاط من الناس والرعاع . يقال : فلان خليق بذلك أي جدير لا يبعد ذلك من خلقه قوله امصص بظر اللات وهي اسم صنم لهم كانوا يعبدونه والبظر ما تقطعه الخافضة وهي الخاتنة من الهنة التي تكون في فرج المرأة وكان هذا اللفظ شتماً لهم يدور في ألسنتهم .(5/451)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
{ هم الذين كفروا } ، يعني كفار مكة ، { وصدوكم } أي منعوكم { عن المسجد الحرام } أن تطوفوا به { والهدي } أي وصدوا الهدي وهو البدن التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعين بدنة { معكوفاً } أي محبوساً { أن يبلغ محله } أي منحره وحيث يحل نحره وهو الحرم { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } يعني المستضعفين بمكة { لم تعلموهم } أي لم تعرفوهم { أن تطؤوهم } أي بالقتل وتوقعوا بهم { فتصيبكم منهم معرة بغير علم } أي إثم وقيل : غرم الدية ، وقيل : كفارة قتل الخطأ ، لأن الله أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدية . وقيل : هو أن المشركين يعتبونكم ويقولون : قتلوا أهل دينهم .
والمعرة : المشقة يقول : لولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم فيلزمكم به كفارة أو سيئة وجواب لولا محذوف تقديره لأذن لكم في دخول مكة ولكنه حال بينكم وبين ذلك لهذا السبب { ليدخل الله في رحمته من يشاء } أي في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح وقيل دخولها { لو تزيلوا } أي لو تميزوا المؤمنين من الكفار { لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً } أي بالسبي والقتل بأيديكم وقيل : لعذبنا جواب لكلامين أحدهما لولا رجال . والثاني : لو تزيلوا . ثم قال : ليدخل الله في رحمته من يشاء يعني المؤمنين والمؤمنات في رحمته أي في جنته . قال قتادة : في الآية إن الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة .(5/452)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
قوله تعالى : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية } أي الأنفة والغضب وذلك حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت ومنعوا الهدي محله ولم يقروا بسم الله الرحمن الرحيم وأنكروا أن يكون محمد رسول الله . وقيل : قال أهل مكة قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا ، فتحدث العرب أنهم دخلوا علينا رغماً منا واللات والعزى لا يدخلونها علينا فكانت هذه { حمية الجاهلية } التي دخلت قلوبهم { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } أي : حتى لا يدخلهم ما دخلهم في الحمية فيعصون الله في قتالهم { وألزمهم كلمة التقوى } .
قال ابن عباس : « كلمة التقوى لا إله إلا الله » وأخرجه الترمذي . وقال : حديث غريب . وقال علي وابن عمر : كلمة التقوى لا إله إلا الله وحده لا شريك له . له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . وقال عطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الزهري : هي بسم الله الرحمن الرحيم { وكانوا أحق بها } أي من كفار مكة { وأهلها } أي كانوا أهلها في علم الله ، لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أهل الخير والصلاح { وكان الله بكل شيء عليماً } يعني من أمر الكفار وما كانوا يستحقونه من العقوبة وأمر المؤمنين وما كانوا يستحقونه من الخير .
قوله تعالى : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل المسجد الحرام هو وأصحابه آمنين ويحلقوا رؤوسهم فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك ، فلما انصرفوا ولم يدخلوا ، شق عليهم ذلك وقال المنافقون : أين رؤياه التي رآها؟ فأنزل الله هذه الآية ودخلوا في العام المقبل .
وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري قال : « شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم : ما بال الناس؟ قال : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فخرجنا نرجف فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته عند كراع الغميم فلما اجتمع الناس قرأ { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } فقال عمر : أهو فتح يا رسول الله؟ قال : نعم والذي نفسي بيده » ففيه دليل على أن المراد من الفتح هو صلح الحديبية ، وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل . وقوله : لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق ، أخبر أن الرؤيا التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد حق وصدق بالحق أي الذي رآه حق وصدق وقيل : يجوز أن يكون بالحق قسماً لأن الحق من أسماء الله تعالى أو قسماً بالحق الذي هو ضد الباطل وجوابه { لتدخلن المسجد الحرام } وقيل : لتدخلن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه فأخبر الله عز وجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك { إن شاء الله آمنين } قيل : إنما استثني مع علمه بدخوله تعليماً لعباده الأدب وتأكيداً لقوله :(5/453)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } هذا البيان صدق الرؤيا وذلك أن الله تعالى لا يرى رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا يكون فيحدث الناس فيقع خلافه فيكون سبباً للضلال فحقق الله أمر الرؤيا بقوله : { لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق } وبقوله { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } وفيه بيان وقوع الفتح ودخول مكة وهو قوله تعالى : { ليظهره على الدين كله } أي يعليه ويقويه على الأديان كلها فتصير الأديان كلها دونه { وكفى بالله شهيداً } أي في أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه تسلية لقلوب المؤمنين وذلك أنهم تأذوا من قول الكفار لو نعلم أنه رسول الله ما صددناه عن البيت فقال الله تعالى : وكفى بالله شهيداً . أي : في أنه رسول الله ، ثم قال تعالى : { محمد رسول الله } أي هو محمد رسول الله الذي سبق ذكره في قوله أرسل رسوله . قال ابن عباس : شهد له بالرسالة ثم ابتدأ فقال { والذين معه } يعني أصحابه المؤمنين { أشداء على الكفار } أي غلاظ أقوياء كالأَسَد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة { رحماء بينهم } أي : متعاطفون متوادّون بعضهم لبعض كالولد مع الوالد . كما قال في حقهم : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } { تراهم ركّعاً سجداً } أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها { يبتغون } أي يطلبون { فضلاً من الله } يعني الجنة { ورضواناً } أي أن يرضى عنهم . وفيه لطيفة وهو أن المخلص بعمله لله يطلب أجره من الله تعالى والمرائي بعمله لا يبتغي له أجراً وذكر بعضهم في قوله : والذين معه يعني أبا بكر الصديق أشداء على الكفار عمر بن الخطاب رحماء بينهم عثمان بن عفان تراهما ركعاً سجداً علي بن أبي طالب يبتغون فضلاً من الله ورضواناً بقية الصحابة { سيماهم } أي علامتهم { في وجوههم من أثر السجود } واختلفوا في هذه السيما على قولين : أحدهما : أن المراد في يوم القيامة قيل : هي نور وبياض في وجوههم يعرفون به يوم القيامة أنهم سجدوا لله في الدنيا وهي رواية عن ابن عباس . وقيل : تكون مواضع السجود في وجوههم كالقمر ليلة البدر . وقيل : يبعثون غراً محجلين يوم القيامة يعرفون بذلك . والقول الثاني : إن ذلك في الدنيا وذلك أنهم استنارت وجوههم بالنهار من كثرة صلاتهم بالليل . وقيل : هو السمت الحسن والخشوع والتواضع .
قال ابن عباس : ليس بالذي ترون ولكنه سيما الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه . والمعنى : أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن يعرفون به وقيل هو صفوة الوجه من سهر الليل ويعرف ذلك في رجلين أحدهما سهر الليل في الصلاة والعبادة والآخر في اللهو واللعب فإذا أصبحا ظهر الفرق بينهما فيظهر في وجه المصلي نور وضياء وعلى وجه اللاعب ظلمة .(5/454)
وقيل : هو أثر التراب على الجباه لأنهم كانوا يصلّون على التراب لا على الأثواب . قال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس { ذلك مثلهم في التوراة } يعني ذلك الذي ذكر صفتهم في التوراة وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ بذكر نعتهم وصفتهم في الإنجيل فقال تعالى : { ومثلهم } أي صفتهم { في الإنجيل كزرع أخرج شطأه } أي إفراطه قبل فراخه . قيل : هو نبت فما خرج بعده شطؤه { فآزره } أي : قوّاه وأعانه وشد أزره { فاستغلظ } أي غلظ ذلك الزرع وقوي { فاستوى } أي تم وتلاحق نباته وقام { على سوقه } جمع ساق أي على أصوله { يعجب الزراع } أي يعجب ذلك الزرع زراعه وهو مثل ضربه الله عز وجل لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل أنهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون قال قتادة : مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قيل الزرع محمد صلى الله عليه وسلم والشطء أصحابه والمؤمنون وقيل : الزرع هو محمد صلى الله عليه وسلم شطأه أبو بكر فآزره عمر فاستغلظ عثمان فاستوى على سوقه علي بن أبي طالب يعجب الزراع يعني جميع المؤمنين { ليغيظ بهم الكفار } قيل : هو قول عمر بن الخطاب لأهل مكة بعد ما أسلم لا يبعد الله سراً بعد اليوم . وقيل : قوتهم وكثرتهم ليغيظ بهم الكفار . قال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية .
( فصل في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم )
( ق ) عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم » ( م ) .
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال : القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث » قوله : خير الناس قرني ثم الذين يلونهم يعني الصحابة ثم التابعين وتابعيهم والقرن كل أهل زمان قيل هو أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة سنة عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أبو بكر في الجنة وعمر بن الخطاب في الجنة وعثمان بن عفان في الجنة وعلي بن أبي طالب في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة » أخرجه الترمذي .
وأخرج عن سعيد بن زيد نحوه وقال : هذا أصح من الحديث الأول عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(5/455)
« أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبي بن كعب ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى في ورعه قال عمر فنعرف له ذلك يا رسول الله؟ قال نعم » أخرجه الترمذي مفرقاً في موضعين ، أحدهما : إلى قوله أبو عبيدة بن الجراح ، والآخر إلى أبي ذر ( خ ) .
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد أحداً أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال : « اثبت أحد أراه ضربه برجله فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان » .
عن ابن مسعود : « عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اقتدوا بالذين بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدى عثمان وتمسكوا بعهد عبد الله بن مسعود » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب . ( ق ) عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في جيش ذات السلاسل قال : فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك؟ قال « عائشة فقلت من الرجال قال أبوها قلت ثم من؟ قال ثم عمر بن الخطاب فعد رجالاً » عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وصحبني في الغار وأعتق بلالاً من ماله رحم الله عمراً ليقولن الحق وإن كان مراً تركه الحق وما له من صديق . رحم الله عثمان تستحي منه الملائكة ، رحم الله علياً اللهم أدر الحق معه حيث دار » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب . ( م ) عن زر بن حبيش قال : سمعت علياً يقول : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق . عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما من أحد يموت من أصحابي بأرض إلا بعثه الله قائداً ونوراً لهم يوم القيامة » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وقد روي عن أبي بريدة مرسلاً وهو أصح . ( ق ) عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه » وعن أبي هريرة نحوه أخرجه مسلم عن عبد الله بن مغفل المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فبغضبي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله فيوشك أن يأخذه »(5/456)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } من التقديم أي لا ينبغي لكم أن يصدر منكم تقديم أصلاً . وقيل : لا تقدموا فعلاً بين يدي الله ورسوله . والمعنى : لا تقدموا بين يدي أمر الله ورسوله ولا نهيهما . وقيل : لا تجعلوا لأنفسكم تقدماً عند النبي صلى الله عليه وسلم وفيه إشارة إلى احترام رسول الله صلى الله عليه وسلم والانقياد لأوامره ونواهيه والمعنى : لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قبل أن يفعله . وقيل : لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة واختلفوا في معنى الآية فروي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى أي : لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن أناساً ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم فأمروا أن يعيدوا الذبح . ( ق ) عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء » زاد الترمذي في أوله : قال خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وذكر الحديث .
وروي عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك أي لا تصوموا قبل نبيكم عن عمار بن ياسر قال : « من صام في اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم » أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح . وقيل في سبب نزول هذه الآية : ما روي عن عبد الله بن الزبير أنه قدم وفد من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد بن زرارة . وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس . قال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي . وقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } حتى انقضت زاد في رواية فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه حتى يستفهمه أخرجه البخاري . وقيل : نزلت الآية في ناس كانوا يقولون : لو نزل في كذا أو صنع كذا وكذا ، فكره الله ذلك وقيل في معنى الآية لا تفتئتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه . وقيل في القتال وشرائع الدين : لا تقضوا أمراً من دون الله ورسوله { واتقوا الله } أي في تضييع حقه بمخالفة أمره { إن الله سميع } أي لأقوالكم { عليم } أي بأفعالكم .(5/457)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } أي لا تجعلوا كلامكم مرتفعاً على كلام النبي صلى الله عليه وسلم في الخطاب وذلك ، لأن رفع الصوت دليل على قلة الاحتشام وترك الاحترام . وقوله : لا تقدموا نهي عن فعل وقوله لا ترفعوا أصواتكم نهي عن قول { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ويعظموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ولا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضاً فيقول يا محمد بل يقولون يا رسول الله يا نبي الله { أن تحبط أعمالكم } أي لئلا تحبط . وقيل : مخافة أن تحبط حسناتكم { وأنتم لا تشعرون } أي بذلك . ( ق ) عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار . واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال : « يا أبا عمرو ما شأن ثابت أيشتكي » ؟ فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى . قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت : أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « بل هو من أهل الجنة » .
زاد في رواية : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة مسلم وللبخاري نحوه . وروي لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي فمر به عاصم بن عدي فقال : ما يبكيك يا ثابت؟ قال : هذه الآية أتخوف أن تكون أنزلت فيّ وأنا رفيع الصوت على النبي صلى الله عليه وسلم أخاف أن يحبط عملي وأن أكون من أهل النار . فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتاً البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول فقال لها : إذا دخلت بيت فرسي فشدي على الضبة بمسمار فضربتها بمسمار . وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره قال اذهب فادعه فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس . فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقال اكسر الضبة فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما يبكيك يا ثابت » ؟ فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة » ؟ فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً(5/458)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } الآية . قال أنس : فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض انكسار وانهزمت طائفة منهم فقال : أف لهؤلاء . ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له : اعلم أن فلاناً رجلاً من المسلمين نزع درعي فذهب به وهو في ناحية من المعسكر عند فرس يستن في طيله وقد وضع على درعي برمته فأت خالد بن الوليد فأخبره حتى يسترد درعي وأتِ أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له : إن علي ديناً حتى يقضيه عني وفلان من رقيقي عتيق فأخبر الرجل خالداً فوجد الدرع والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس : لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه . قال أبو هريرة وابن عباس : لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار . وقال ابن الزبير : لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته فأنزل الله تعالى : { إن الذين يغضون } أي يخفضون أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أي إجلالاً له وتعظيماً { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } أي اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار ليخرج خالصه { لهم مغفرة وأجر عظيم } قوله عز وجل : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } . قال ابن عباس : « بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري فلما علموا أنه توجه نحوهم ، هربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فجاءه بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً في أهله ، فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة فعجلوا قبل أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادون : يا محمد اخرج إلينا . حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم ، فقالوا : يا محمد فادنا عيالنا فنزل جبريل عليه السلام فقال : إن الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلاً . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أترضوا أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم؟ قالوا : نعم . قال سبرة : أنا لا أحكم إلا وعمي شاهد وهو الأعور بن بشامة ، فرضوا به ، فقال الأعور : أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد رضيت »(5/459)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{ ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم } فيه بيان لحسن الأدب وهو خلاف ما جاؤوا به من سوء الأدب وطلب العجلة في الخروج { لكان خيراً لهم } أي الصبر لأنك كنت تعتقهم جميعاً وتطلقهم بلا فداء . وقيل : لكان حسن الأدب في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم خيراً لهم : وقيل : نزلت الآية في ناس من أعراب تميم وكأن فيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والزبرقان بن بدر فنادوا على الباب . ويروى ذلك عن جابر قال : جاءت بنو تميم فنادوا على الباب فقالوا : يا محمد اخرج علينا فإن مدحنا زين وذمنا شين فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : « إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين » قالوا نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا جئنا نشاعرك ونفاخرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما بالشعر بعثت ولا بالفخر أمرت ، ولكن هاتوا » فقام منهم شاب فذكر فضله وفضل قومه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قم فأجبه » فقام فأجابه وقام شاعرهم فذكر أبياتاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : « أجبه » فأجابه فقام الأقرع بن حابس فقال : إن محمد المؤتى له تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولاً وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أحسن شعراً وقولاً ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما يضرك ما كان قبل هذا » ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم وقد كان تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل فيهم : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } الآيات إلى قوله { والله غفور رحيم } أي لمن تاب منهم . وقال زيد بن أرقم : جاء ناس من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكاً نعش في جنابه فجاؤوا فجعلوا ينادونه : يا محمد يا محمد .(5/460)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقاً وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوع الوليد فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي له ما قبلناه من حق الله فبدا له الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه ، وقال : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك ، فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد . فوافاهم فسمع منهم أذان المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق } يعني الوليد بن عقبة .
وقيل : هو عام نزلت لبيان التثبت وترك الاعتماد على قول الفاسق وهو أولى من حكم الآية على رجل بعينه ، لأن الفسوق خروج عن الحق ولا يظن بالوليد ذلك إلا أنه ظن وتوهم فأخطأ ، فعلى هذا يكون معنى الآية : إن جاءكم فاسق بنبأ ، أي بخبر ، فتبينوا . وقرىء : فتثبتوا ، أي : فتوقفوا واطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا على قول الفاسق { أن تصيبوا } أي كيلا تصيبوا بالقتل والسبي { قوماً بجهالة } أي جاهلين حاله وحقيقة أمرهم { فتصبحوا على ما فعلتم } أي من إصابتكم بالخطأ { نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله } أي : قاتقوا الله أن تقولوا باطلاً أو تكذبوه فإن الله يخبره ويعرفه حالكم فتفتضحوا { لو يطيعكم } أي الرسول { في كثير من الأمر } أي مما تخبرونه به فيحكم برأيكم { لعنتم } أي لأثمتم وهلكتم عن أبي سعيد الخدري « أنه قرأ { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } قال : هذا نبيكم يوحى إليه وخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا فكيف بكم اليوم » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } أي جعله أحب الأديان إليكم { وزينة } أي حسنة وقربه منكم وأدخله { في قلوبكم } حتى اخترتموه لأن من أحب شيئاً إذا طال عليه قد يسأم منه والإيمان في كل يوم يزداد في القلب حسناً وثباتاً وبذلك تطيعون رسول الله صلى الله عليه وسلم { وكره إليكم الكفر والفسوق } قال ابن عباس : يريد الكذب { والعصيان } جميع معاصي الله تعالى وفي هذه لطيفة ، وهو أن الله تعالى ذكر هذه الثلاثة الأشياء في مقابلة الإيمان الكامل المزين في القلب المحبب إليه .(5/461)
والإيمان الكامل : ما اجتمع فيه ثلاثة أمور : تصديق بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان . فقوله : وكره إليكم الكفر في مقابله .
قوله : حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وهو التصديق بالجنان والفسوق وهو الكذب في مقابلة الإقرار باللسان فكره إلى عبده المؤمن الكذب وهو الجحود وحبب إليه الإقرار بشهادة الحق والصدق وهو : لا إله إلا الله . والعصيان في مقابلة العمل بالأركان فكره إليه العصيان وحبب إليه العمل الصالح بالأركان ثم قال تعالى : { أولئك هم الراشدون } إشارة إلى المؤمنين المحبب إليهم الإيمان المزين في قلوبهم أي : أولئك هم المهتدون إلى محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق { فضلاً من الله } أي فعل ذلك بكم فضلاً منه { ونعمة } عليكم { والله عليم } أي بكم وبما في قلوبكم { حكيم } في أمره بما تقتضيه الحكمة وقيل عليم بما في خزائنه من الخير والرحمة والفضل والنعمة حكيم بما ينزل من الخير بقدر الحاجة إليه على وفق الحكم .
قوله عز وجل : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } . ( ق ) عن أنس قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبيّ . فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم فركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة ، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال : إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك . فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك . فغضب لعبد الله رجل من قومه ، فتشاتما ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها نزلت فيهم : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما .
ويروى أنها لما نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فأصلحوا وكف بعضهم عن بعض . ( ق ) عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه إكاف تحته قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر قال : فسار حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبيّ . وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأصنام واليهود وفي المسلمين عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال : لا تغيروا علينا .(5/462)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
{ إنما المؤمنون إخوة } أي في الدين والولاية ذلك أن الإيمان وقد عقد بين أهله من السبب والقرابة كعقد النسب الملاصق وإن بينهم ما بين الإخوة من النسب والإسلام لهم كالأب قال بعضهم :
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
{ فأصلحوا بين أخويكم } أي إذا اختلفا واقتتلا { واتقوا الله } أي فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره { لعلكم ترحمون } ( ق ) .
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه . ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته . ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله تعالى يوم القيامة » والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده .
( فصل في حكم قتال البغاة )
قال العلماء : في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان ، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين ويدل عليه ما روي عن علي بن أبي طالب ، وهو القدوة في قتال أهل البغي ، وقد سئل عن أهل الجمل وصفين أمشركون هم؟ فقال : لا إنهم من الشرك فروا . فقيل : أمنافقون هم؟ فقال : لا إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً . قيل : فما حالهم؟ قال : إخواننا بغوا علينا . والباغي في الشرع : هو الخارج على الإمام العدل فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإمام العدل بتأويل محتمل ونصبوا لهم إماماً فالحكم فيهم أن يبعث إليهم الإمام ويدعوهم إلى طاعته ، فإن أظهروا مظلمة أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمة وأصروا على البغي قاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته . ثم الحكم في قتالهم أن لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ولا يذفف على جريحهم نادى منادي على يوم الجمل : ألا لا يتبع مدبر ولا يقتل أسير ولا يذفف على جريح ، وهو بذال معجمة ، وهو الإجهاز على الجريح وتحرير قتله وتتميمه . وأتي علي يوم صفين بأسير فقال : لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين . وما أتلفت إحدى الطائفتين على الأخرى في حال القتال من نفس ومال فلا ضمان عليها قال ابن شهاب كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول وأتلف فيها أموال ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم وجرى الحكم عليهم فما رأيته اقتص من أحد ولا أغرم مالاً . أما من لم تجتمع فيه هذه الشروط الثلاثة : بأن كانوا جماعة قليلين لا منعة لهم ، أو لم يكن لهم تأويل ، أو لم ينصبوا إماماً ، فلا يتعرض لهم إذا لم ينصبوا قتالاً ولم يتعرضوا للمسلمين فإن فعلوا ذلك فهم كقطاع الطريق في الحكم .
وروي أن علياً سمع رجلاً يقول في ناحية المسجد : لا حكم إلا الله . فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل . لكم علينا ثلاثة : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ، ولا نبدؤكم بقتال .(5/463)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم } الآية نزلت في ثلاثة أسباب : السبب الأول : من أولها إلى قوله خيراً منهم . قال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه كان في أذنه وقر ، فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول ، فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة ، أخذ أصحابه مجالسهم فظل كل رجل بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد وكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلساً قام قائماً كما هو فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخطى رقاب الناس ثم يقول : تفسحوا تفسحوا . فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال : تفسح . فقال له الرجل : أصبت مجلساً فاجلس . فجلس ثابت خلفه مغضباً ، فلما اأنجلت الظلمة غمز ثابت الرجل فقال : من هذا؟ قال أنا فلان . قال له ثابت : ابن فلانة وذكر أماً له كان يعيَّر بها في الجاهلية . فنكس الرجل رأسه واستحيا فأنزل الله هذه الآية .
وقال الضحاك : نزلت في وفد بني تميم الذين ذكرناهم وكانوا يستهزئون بفقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوه من رثاثة حالهم فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم . أي : لا يستهزىء غني بفقير ولا مستور عليه ذنبه بمن لم يستر ولا ذو حسب بلئيم وأشباه ذلك مما ينتقصه به ولعله عند الله خير منه وهو قوله تعالى : { عسى أن يكونوا خيراً منهم } السبب الثاني قوله : { ولا نساء من نساء } أي لا يستهزىء نساء من نساء { عسى أن يكنَّ خيراً منهن } روي عن أنس أنها نزلت في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عيرن أم سلمة بالقصر . وعن ابن عباس : « أنها نزلت في صفية بنت حيي قال لها بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم : يهودية بنت يهوديين . عن أنس : بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال : ما يبكيك؟ قالت : قالت لي حفصة إني بنت يهودي فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنك لابنة نبي وعمك لنبي وإنك لتحت نبي ففيم تفتخر عليك ثم قال : اتقي الله يا حفصة » أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح غريب .
والسبب الثالث قوله تعالى : { ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب } عن أبي جبيرة بن الضحاك وهو أخو ثابت بن الضحاك الأنصاري قال : فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة(5/464)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } قيل : نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدمهما إلى المنزل فيهىء لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره ، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيىء شيئاً لهما فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئاً . قال : لا غلبتني عيناي فنمت قالا له : انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاماً فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له : إن كان عنده فضل طعام وأدم فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رحله فأتاه فقال ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا كان عند أسامة طعام ولكن بخل فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئاً فلما رجع قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ قالا : والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحماً . قال : ظللتما تأكلان لحم سلمان وأسامة فأنزل الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن يعني أن يظن بأهل الخير سوءاً فنهى الله المؤمن أن يظن بأخيه المؤمن شراً وقيل هو أن يسمع من أخيه المسلم كلاماً لا يريد به سوءاً أو يدخل مدخلاً لا يريد به سوءاً فيراه أخوه المسلم فيظن شراً لأن بعض الفعل قد يكون في الصورة قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك لجواز أن يكون فاعله ساهياً أو يكون الرائي مخطئاً فأما أهل السوء والفسق المجاهرون بذلك فلنا أن نظن فيهم مثل الذي يظهر منهم { إن بعض الظن إثم } . قال سفيان الثوري : الظن ظنان : أحدهما : إثم ، وهو أن يظن ويتكلم به والآخر ليس بإثم وهو أن يظن ولا يتكلم به . وقيل : الظن أنواع فمنه واجب ومأمور به وهو الظن الحسن بالله عز وجل ومنه مندوب إليه وهو الظن الحسن بالأخ المسلم الظاهر العدالة ومنه حرام محظور وهو سوء الظن بالله عز وجل وسوء الظن بالأخ المسلم { ولا تجسسوا } أي لا تبحثوا عن عيوب الناس نهى الله عن البحث عن المستور من أمور الناس وتتبع عوراتهم حتى يظهر على ما ستره الله منها ( ق ) .(5/465)
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا التقوى هاهنا ويشير إلى صدره التقوى هاهنا .
التقوى هاهنا بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم » التجسس بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر ومنه الجاسوس وبالحاء هو الاستماع إلى حديث الغير . وقيل : معناهما واحد وهو طلب الأخبار . وقوله : ولا تنافسوا أي لا ترغبوا فيما يرغب فيه الغير من أسباب الدنيا وحظوظها والحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها . قوله : ولا تدابروا أي لا يعطي كل واحد منكم أخاه دبره وقفاه فيعرض عنه ويهجره .
عن ابن عمر قال : « صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عن عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله » قال نافع : ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك . والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك أخرجه الترمذي . وقال : حديث حسن غريب عن زيد بن وهب . قال : أتى ابن مسعود فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمراً . فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر إلينا شيء نأخذ به أخرجه أبو داود وله عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة » ( م ) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة » .
قوله تعالى : { ولا يغتب بعضكم بعضاً } أي لا يتناول بعضكم بظهر الغيب بما يسوءه مما هو فيه . عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « أتدرون ما الغيبة؟ قلت الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قلت وإن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه قد بهته » أخرجه مسلم عن عائشة قالت : « قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا قال بعض الرواة تعني قصيرة فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته قالت وحكيت له إنساناً فقال ما أحب أني حكيت إنساناً وإن لي كذا وكذا »(5/466)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } قال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس . وقوله في الرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من الذاكر فلانة؟ قال ثابت : أنا رسول الله قال انظر في وجوه القوم فنظر فقال ما رأيت يا ثابت؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود قال فإنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى فنزلت في ثابت هذه الآية ونزل في الذي لم يفسح له { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا } الآية . وقيل : لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى علا على ظهر الكعبة وأذن فقال عتاب بن أسيد الحمد لله الذي قبض أبي ولم ير هذا اليوم وقال الحارث بن هشام أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً وقال سهيل بن عمرو إن يكره الله شيئاً يغيره .
وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبره رب السماء فنزل جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء فقال { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } يعني آدم وحواء . والمعنى : إنكم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونكم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة . وقيل : يحتمل أن يكون المعنى إنا خلقنا كل واحد منكم أيها الموجودون من أب وأم فإن كل واحد منكم خلق كما خلق الآخر سواء فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب { وجعلناكم شعوباً } جمع شعب بفتح الشين وهي رؤوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج سموا شعوباً لتشعب القبائل منهم وقيل لتجمعهم { وقبائل } جمع قبيلة وهي دون الشعوب كبكر من ربيعة وتميم من مضر ودون القبائل العمائر واحدتها عمارة بفتح العين وهم كشيبان من بكر ودارم من تميم ودون العمائر البطون واحدتها بطن وهم كبني غالب ولؤي من قريش ودون البطون الأفخاذ واحدتها فخذ وهم كبني هاشم وبني أمية من لؤي ودون الأفخاذ الفصائل واحدتها فصيلة بالصاد المهملة كبني العباس من بني هاشم ثم بعد ذلك العشائر واحدتها عشيرة وليس بعد العشيرة شيء يوصف . وقيل : الشعوب للعجم ، والقبائل : للعرب ، والأسباط : من بني إسرائيل . وقيل : الشعوب الذين لا ينسبون إلى أحد بل ينسبون إلى المدائن والقرى والقبائل الذين ينتسبون إلى آبائهم .
{ لتعارفوا } أي ليعرف بعضكم بعضاً في قرب النسب وبعده لا للتفاخر بالأنساب ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان على غيره ويكتسب بها الشرف عند الله تعالى فقال : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } قيل : أكرم الكرم التقوى ، وألأم اللؤم الفجور .(5/467)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قوله تعالى : { قالت الأعراب آمنا } الآية نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة مجدبة فأظهروا الإسلام ، ولم يكونوا مؤمنين في السر ، فأفسدوا طرق المدينة بالقذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويقولون : أتتك العرب أنفسهم على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ويريدون الصدقة ، ويقولون : أعطنا فأنزل الله فيهم هذه الآية .
وقيل : نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح وهم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا يقولون آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا للحديبية تخلفوا عنها فأنزل الله عز وجل قالت الأعراب آمنا أي صدقنا { قل لم تؤمنوا } أي لم تصدقوا بقلوبكم { ولكن قولوا أسلمنا } أي استسلمنا وانقدنا مخافة القتل والسبي { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } أخبر أن حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب وأن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص . ( ق ) عن سعد بن أبي وقاص قال : « أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً منهم هو أعجبهم إليّ فقلت ما لك عن فلان والله إني لأراه مؤمناً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسلماً ذكر ذلك سعد ثلاثاً وأجابه بمثل ذلك ثم قال إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه » زاد في رواية قال الزهري : « فترى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل الصالح » لفظ الحميدي اعلم أن الإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان لقوله لإبراهيم عليه السلام : { أسلم قال أسلمت لرب العالمين } ومنه ما هو انقياد باللسان والقلب وذلك قوله : ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . « وقيل : الإيمان هو التصديق بالقلب مع الثقة وطمأنينة النفس عليه والإسلام هو الدخول في السلم والخروج من أن يكون حرباً للمسلمين مع إظهار الشهادتين .
فإن قلت : المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة فكيف يفهم ذلك مع هذا القول .
قلت بين العام والخاص فرق فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان فالإسلام أعم والإيمان أخص لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمراً غيره فالعام والخاص مختلفان في العموم والخصوص متحدان في الوجود فذلك المؤمن والمسلم .
وقوله تعالى : { وإن تطيعوا الله ورسوله } أي ظاهراً وباطناً سراً وعلانية وقال ابن عباس تخلصوا له الإيمان { لا يلتكم } أي لا ينقصكم { من أعمالكم شيئاً } أي من ثواب أعمالكم { إن الله غفور رحيم } ثم بين حقيقة الإيمان(5/468)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } أي لم يشكوا في دينهم { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } أي في إيمانهم ولما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون بالله إنهم مؤمنون صادقون وعرف الله منهم غير ذلك فأنزل الله عز وجل : { قل أتعلمون الله بدينكم } أي تخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه { والله يعلم ما في السموات وما في الأرض } أي لا تخفى عليه خافية { والله بكل شيء عليم } أي لا يحتاج إلى إخباركم { يمنون عليك أن أسلموا } هو قولهم أسلمنا ولم نحاربك يمنون بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين بذلك أن إسلامهم لم يكن خالصاً { قل لا تمنوا على إسلامكم } أي لا تعتدوا عليّ بإسلامكم { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } أي لله المنة عليكم أن أرشدكم وأمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم وهو قوله تعالى : { إن كنتم صادقين } أي إنكم مؤمنون { إن الله يعلم غيب السموات والأرض } أي إنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض فكيف يخفى عليه حالكم بل يعلم سركم وعلانيتكم { والله بصير بما تعملون } أي بجوارحكم الظاهرة والباطنة والله سبحانه وتعالى أعلم .(5/469)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
قوله عز وجل : { ق } قال ابن عباس : هو قسم وقيل : هو اسم للسورة وقيل اسم من أسماء الله وقيل اسم من أسماء القرآن وقيل هو مفتاح اسمه القدير والقادر والقاهر والقريب والقابض والقدوس والقيوم . وقيل : معناه قضى الأمر أو قضى ما هو كائن . وقيل : هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء متصلة عروقه بالصخرة التي عليها الأرض والسماء كهيئة القبة وعليه كتفاها وخضرة السماء منه والعالم داخله ولا يعلم ما وراءه إلا الله تعالى ويقال هو من وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة { والقرآن المجيد } أي الشريف الكريم على الله الكثير الخير والبركة واختلفوا في وجواب القسم قيل جوابه محذوف تقديره لتبعثن وقيل جوابه بل عجبوا وقيل ما يلفظ من قول وقيل قد علمنا ومعنى { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن يخوفهم رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالته وأمانته وصدقه { فقال الكافرون هذا شيء عجيب } أي معجب غريب { أئذا متنا وكنا تراباً } أي حين نموت ونبلى نبعث وترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه { ذلك رجع بعيد } أي يبعد أن نبعث بعد الموت قال الله تعالى : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } أي ما تأكل الأرض من لحومهم ودمائهم وعظامهم لا يعزب عن علمنا شيء { وعندنا } أي مع علمنا بذلك { كتاب حفيظ } بمعنى محفوظ أي من التبديل والتغيير وقيل حفيظ بمعنى حافظ أي حافظ لعددهم وأسمائهم ولما تنقص الأرض منهم وهو اللوح المحفوظ وقد أثبت فيه ما يكون .(5/470)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
{ بل كذبوا بالحق } أي بالقرآن { لما جاءهم } قيل : معناه كذبوا به لما جاءهم . وقيل : كذبوا المنذر لما جاءهم { فهم في أمر مريج } أي مختلط ملتبس قيل معنى اختلاط أمرهم قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم مرة شاعر ومرة ساحر ومرة معلم مجنون ويقولون في القرآن مرة سحر ومرة رجز ومرة مفتري فكان أمرهم مختلطاً ملتبساً عليهم وقيل في هذه الآية من ترك الحق مرج عليه أمره والتبس عليه دينه وقيل ما ترك قوم الحق إلا مرج عليهم أمرهم؛ ثم دلهم على عظيم قدرته فقال تعالى : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها } أي : بغير عمد { وزيناها } أي بالكواكب { وما لها من فروج } أي : شقوق وصدوع { والأرض مددناها } أي بسطناها على وجه الماء { وألقينا فيها رواسي } أي : جبالاً ثوابت { وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } أي : من كل صنف حسن كريم يبتهج به أي : يسر به { تبصرة } أي جعلنا ذلك تبصرة { وذكرى } أي تذكرة { لكل عبد منيب } أي : راجع إلى الله تعالى والمعنى ليتبصر ويتذكر به من أناب { ونزلنا من السماء ماء مباركاً } أي كثير الخير والبركة فيه حياة كل شيء وهو المطر { فأنبتنا به } أي : بذلك الماء { جنات } أي بساتين { وحب الحصيد } يعني البر والشعير وسائر الحبوب التي تحصد { والنخل باسقات } أي : طوالاً وقيل مستويات { لها طلع } أي : ثمر يطلع ويظهر ويسمى طلعاً قبل أن يتشقق { نضيد } أي : متراكب بعضه على بعض في أكمامه فإذا تشقق وخرج من أكمامه فليس بنضيد { رزقاً } أي : جعلنا ذلك رزقاً { للعباد وأحيينا به } أي : بالمطر { بلدة ميتاً } فأنبتنا فيها الكلأ والعشب { كذلك الخروج } أي : من القبور أحياء بعد الموت .(5/471)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
{ كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة } قيل : كان لوط مرسلاً إلى طائفة من قوم إبراهيم ولذلك قال إخوان لوط { وقوم تبع } هو أبو كرب أسعد تبع الحميري وقد تقدم قصص جمعهم قيل ذم الله عز وجل قوم تبع ولم يذمه وذم فرعون لأنه هو المكذب المستخف لقومه فلهذا خص بالذكر دونهم { كل كذب الرسل فحق وعبد } أي : كل هؤلاء المذكورين كذبوا رسلهم فحق وعيدي أي وجب لهم عذابي وقيل فحق وعيدي للرسل بالنصر { أفعيينا بالخلق الأول } هذا جواب لقولهم ذلك رجع بعيد والمعنى أعجزنا حين خلقناهم أولاً فنعيا بالإعادة ثانياً وذلك لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث { بل هم في لبس } أي شك { من خلق جديد } وهو البعث .
قوله عز وجل : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } أي ما يحدث به قلبه فلا تخفى علينا سرائره وضمائره { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } بيان لكمال علمه أي نحن أعلم به منه والوليد العرق الذي يجري فيه الدم ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن وهو بين الحلقوم والعلباوين ومعنى الآية أن أجزاء الإنسان وأبعاضه يحجب بعضها بعضاً ولا يحجب عن علم الله شيء . وقيل : يحتمل أن يكون المعنى ونحن أقرب إليه بنفوذ قدرتنا فيه ويجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه { إذ يتلقى المتلقيان } أي يتلقن الملكان الموكلان به وبعمله ومنطقه فيكتبانه ويحفظانه عليه { عن اليمين وعن الشمال } يعني أن أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فصاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات { قعيد } أي قاعد وكل واحد منهما قعيد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر . وقيل : أراد بالقعيد الملازم الذي لا يبرح { ما يلفظ من قول } أي ما يتكلم من كلام يخرج من فيه { إلا لديه رقيب } أي حافظ { عتيد } أي حاضر أينما كان سوى وقت الغائط وعند جماعة فإنهما يتأخران عنه فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في هاتين الحالتين حتى لا يؤذي الملائكة بدنوهما منه وهو على تلك الحالة حتى يكتبا ما يتكلم به أنهما يكتبان عليه كل شيء يتكلم به حتى أتيته في مرضه وقيل لا يكتبان إلا ما له أجر وثواب أو عليه وزر وعقاب . وقيل : إن مجلسهما تحت الشعر على الحنك وكان الحسن البصري يعجبه أن ينظف عنفقته روى البغوي بإسناد الثعلبي . عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر .(5/472)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
{ وجاءت سكرة الموت } أي غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله { بالحق } أي بحقيقة الموت وقيل بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعيان وقيل بما يؤول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة { ذلك ما كنت منه تحيد } أي يقال لمن جاءته سكرة الموت : ذلك الذي كنت عنه تميل . وقيل : تهرب وقال ابن عباس : تكره { ونفخ في الصور } يعني نفخة البعث { ذلك يوم الوعيد } أي ذلك اليوم الذي وعد الله الكفار أن يعذبهم فيه { وجاءت } أي في ذلك اليوم { كل نفس معها سائق } أي يسوقها إلى المحشر { وشهيد } أي يشهد عليها بما عملت . قال ابن عباس : السائق من الملائكة والشاهد من أنفسهم الأيدي والأرجل فيقول الله تعالى لصاحب تلك النفس { لقد كنت في غفلة من هذا } أي من هذا اليوم في الدنيا { فكشفنا عنك غطاءك } أي الذي كان على قلبك وسمعك وبصرك في الدنيا { فبصرك اليوم حديد } أي قوي ثابت نافذ تبصر ما كنت تتكلم به في الدنيا . وقيل : ترى ما كان محجوباً عنك وقيل نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك { وقال قرينه } يعني الملك الموكل به { هذا ما لدي } أي عندي { عنيد } أي معد محضر . وقيل : يقول الملك هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله { ألقيا في جهنم } أي يقول الله تعالى لقرينه وقيل هذا أمر للسائق والشهيد { كل كفار } أي شديد الكفر { عنيد } أي عاص معرض عن الحق معاند لله فيما أمره به .(5/473)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
{ منّاع للخير } أي للزكاة المفروضة وكل حق وجب عليه في ماله { معتد } أي ظالم لا يقر بتوحيد الله { مريب } أي : شاكّ في التوحيد { الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد } يعني النار { قال قرينه } يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر { ربنا ما أطغيته } قيل : هذا جواب لكلام مقدر وهو أن الكافر حين يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شيطاني فيقول الشيطان ربنا ما أطغيته أي ما أضللته وما أغويته { ولكن كان في ضلال بعيد } أي عن الحق فيتبرأ منه شيطانه وقال ابن عباس : قرينه يعني الملك يقول الكافر الكافر ربِّ إن الملك زاد عليّ في الكتابة فيقول الملك ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل ولكن كان في ضلال بعيد أي طويل لا يرجع عنه إلى الحق { قال } الله تعالى : { لا تختصموا لدي } أي لا تعتذروا عندي بغير عذر وقيل هو خصامهم مع قرنائهم { وقد قدمت إليكم بالوعيد } أي بالقرآن وأنذرتكم على ألسن الرسل وحذرتكم عذابي في الآخرة لمن كفر { ما يبدل القول لدي } أي لا تبديل لقولي وهو قوله عز وجل : { لأملأن جهنم } وقضيت عليكم ما أنا قاضٍ فلا يغير قولي ولا يبدل وقيل معناه ولا يكذب عندي ولا يغير القول عن وجهه ، لأني علام الغيوب وأعلم كيف ضلوا وهذا القول هو الأولى يدل عليه أنه قال ما يبدل القول لدي ولم يقل ما يبدل قولي { وما أنا بظلام للعبيد } أي : فأعاقبهم بغير جرم . وقيل : معناه فأزيد على إساءة المسيء أو أنقص من إحسان المحسن .
قوله عز وجل : { يوم نقول لجهنم هل امتلأت } بيان لما سبق لها من وعد الله تعالى إياها أنه يملؤها من الجنة والناس وهذا السؤال من الله تعالى لتصديق خبره وتحقيق وعده { وتقول } يعني جهنم { هل من مزيد } يعني تقول قد امتلأت ولم يبق في موضع لم يمتلئ فهو استفهام إنكاري . وقيل : هو بمعنى الاستزادة . وهو رواية عن ابن عباس . فعلى هذا يكون السؤال وهو قوله : هل امتلأت؟ قبل دخول جميع أهلها فيها .
وروي عن ابن عباس : « إن الله تعالى سبقت كلمته لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها شيء فتقول ألست قد أقسمت لتملأني فيضع قدمه عليها فيقول هل امتلأت؟ فتقول قط قط قد امتلأت وليس من مزيد » ( ق ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العرش - وفي رواية رب العزة - فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فضول الجنة »(5/474)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
{ وأزلفت الجنة } أي قربت وأدنيت { للمتقين } أي الذين اتقوا الشرك { غير بعيد } يعني أنها جعلت عن يمين العرش بحيث يراها أهل الموقف قبل أن يدخلوها { هذا ما توعدون } أي يقال لهم الذي وعدتم به في الدنيا على ألسنة الأنبياء { لكل أواب } أي رجاع عن المعصية إلى الطاعة . قال سعيد بن المسيب : هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب . وقيل : هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها . وقيل : هو التواب ، وقال ابن عباس : هو المسيح . وقيل : هو المصلي { حفيظ } قال ابن عباس الحافظ لأمر الله وعنه هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها وقيل : حفيظ لما استودعه الله من حقه . وقيل : هو المحافظ على نفسه المتعهد لها المراقب لها . وقيل : هو المحافظ على الطاعات والأوامر { ومن خشي الرحمن بالغيب } أي خاف الرحمن فأطاعه وإن لم يره وقيل : خافه في الخلوة بحيث لا يراه أحد إذا ألقى الستر أغلق الباب { وجاء بقلب منيب } أي مخلص مقبل على طاعة الله { ادخلوها } أي يقال لأهل هذه الصفة : ادخلوا الجنة { بسلام } أي بسلامة من العذاب والهموم . وقيل : بسلام من الله وملائكته عليهم وقيل : بسلامة من زوال النعم { ذلك يوم الخلود } أي في الجنة لأنه لا موت فيها .(5/475)
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)
{ لهم ما يشاؤون فيها } وذلك أنهم يسألون الله حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما سألوا ثم يزيد الله عبيده ما لم يسألوا مما لم يخطر بقلب بشر وهو قوله تعالى : { ولدينا مزيد } وقيل : المزيد ، هو النظر إلى وجهه الكريم قيل : يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل جمعة في دار كرامته فلهذا هو المزيد .
قوله تعالى : { وكم أهلكنا قبلهم } أي قبل كفار مكة { من قرن هم أشد منهم بطشاً } يعني سطوة والبطش الأخذ بصولة وعنف { فنقبوا في البلاد } أي ساروا وتقلبوا في البلاد وسلكوا كل طريق { هل من محيص } أي فلم يجدوا لهم محيصاً أي مهرباً من أمر الله وقيل : لا يجدون لهم مفراً من الموت بل يموتون فيصيرون إلى عذاب الله وفيه تخويف لأهل مكة لأنهم على مثل سبيلهم { إن في ذلك لذكرى } أي إن فيما ذكر من إهلاك القرى تذكرة وموعظة { لمن كان له قلب } . قال ابن عباس : أي عقل . وقيل : له قلب حاضر مع الله واعٍ عن الله { أو ألقى السمع } أي استمع القرآن واستمع ما يقال له لا يحدث نفسه بغيره { وهو شهيد } أي حاضر القلب ليس بغافل ولا ساه .
قوله تعالى : { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } أي إعياء وتعب قال المفسرون نزلت في اليهود حيث قالوا : خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش فلذلك تركوا العمل فيه فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليهم وتكذيباً لهم في قولهم استراح يوم السبت بقوله تعالى : { وما مسنا من لغوب } .
قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره : والظاهر أن المراد الرد على المشركين والاستدلال بخلق السموات والأرض وما بينهما فقوله { وما مسنا من لغوب } أي ما تعبنا بالخلق الأول حتى لا نقدر على الإعادة ثانياً كما قال الله تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول } الآية وأما ما قاله اليهود ونقلوه من التوراة فهو إما تحريف منهم أو لم يعلموا تأويله وذلك أن الأحد والاثنين أزمنة مستمرة بعضها بعد بعض فلو كان خلق السموات والأرض ابتدىء يوم الأحد لكان الزمان قبل الأجساد والزمان لا ينفك عن الأجساد فيكون قبل خلق الأجسام أجسام لأن اليوم عبارة عن زمان سير الشمس من الطلوع إلى الغروب وقبل السموات والأرض لم يكن شمس ولا قمر لكن اليوم قد يطلق ويراد به الوقت والحين وقد يعبر به عن مدة الزمان أي مدة كانت قوله عز وجل : { فاصبر على ما يقولون } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي : اصبر يا محمد على ما يقولون أي من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد وهذا قبل الأمر بقتالهم { وسبح بحمد ربك } أي صلِّ حامداً لله { قبل طلوع الشمس } أي صلاة الصبح { وقبل الغروب } يعني صلاة المغرب . قال ابن عباس : صلاة الظهر والعصر .(5/476)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)
{ ومن الليل فسبحه } يعني صلاة المغرب والعشاء . وقيل : يعني صلاة الليل أي وقت صلى { وأدبار السجود } قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما : أدبار السجود الركعتان بعد المغرب ، وأدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر . وهي رواية عن ابن عباس .
ويروى مرفوعاً عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت « لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر » ( م ) عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها » يعني بذلك سنة الفجر ، عن ابن مسعود ، قال : « ما أحصى ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل صلاة الفجر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب .
وقيل : في قوله وأدبار السجود : التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات ( خ ) عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسبح في أدبار الصلوات كلها يعني قوله وأدبار السجود ( م ) . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاً وثلاثين فذلك تسعة وتسعون ثم قال : تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر » ( خ ) عنه « أن فقراء المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم فقال وما ذاك؟ قالوا صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال قال أفلا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله تسبحون في دبر كل صلاة عشراً وتحمدون عشراً وتكبرون عشراً » .
قوله تعالى : { واستمع يوم يناد المناد } يعني استمع يا محمد حديث يوم ينادي المنادي . وقيل : معناه انتظر صيحة القيامة والنشور . قال المفسرون : المنادي هو إسرافيل يقف على صخرة بيت المقدس فينادي بالحشر فيقول : يا أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء ، وهو قوله تعالى : { من مكان قريب } قيل : إن صخرة بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً وقيل : هي في وسط الأرض .(5/477)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
{ يوم يسمعون الصيحة بالحق } أي الصيحة الأخيرة { ذلك يوم الخروج } أي من القبور { إنا نحن نحيي } أي في الدنيا { ونميت } يعني عند انقضاء الأجل { وإلينا المصير } أي في الآخرة وقيل : تقديره نميت في الدنيا ونحيي للبعث وإلينا المصير بعد البعث { يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً } أي يخرجون سراعاً إلى المحشر وهو قوله تعالى : { ذلك حشر علينا يسير } أي هين { نحن أعلم بما يقولون } يعني كفار مكة في تكذيبك { وما أنت عليهم بجبار } أي بمسلط تجبرهم على الإسلام إنما بعثت مذكراً وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } أي ما أوعدت به من عصاني من العذاب قال ابن عباس : « قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد » أي عظ بالقرآن من يخاف وعيدي والله أعلم بمراده .(5/478)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)
قوله عز وجل : { والذاريات ذرواً } يعني الرياح التي تذر التراب { فالحاملات وقراً } يعني السحاب يحمل ثقلاً من الماء { فالجاريات يسراً } يعني السفن تجري في الماء جرياً سهلاً { فالمقسمات أمراً } يعني الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به وقيل : هم أربعة : جبريل صاحب الوحي إلى الأنبياء الأمين عليه وصاحب الغلظة ، وميكائيل صاحب الرزق والرحمة ، وإسرافيل صاحب الصور واللوح ، وعزرائيل صاحب قبض الأرواح . وقيل : هذه الأوصاف الأربعة في الرياح لأنها تنشئ السحاب وتسيره ثم تحمله وتقله ثم تجري به جرياً سهلاً ثم تقسم الأمطار بتصريف السحاب أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لشرف ذواتها ولما فيها من الدلالة على عجيب صنعته وقدرته . والمعنى : اقسم بالذاريات بهذه الأشياء ، وقيل : فيه مضمر تقديره ورب الذاريات ثم ذكر جواب القسم(5/479)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
{ إن ما توعدون } أي من الثواب والعقاب يوم القيامة { لصادق } أي الحق { وإن الدين } أي الحساب والجزاء { لواقع } أي لكائن ثم ابتدأ قسماً آخر فقال تعالى : { والسماء ذات الحبك } قال ابن عباس : ذات الخلق الحسن المستوي ، وقيل : ذات الزينة حبكت بالنجوم وقيل : ذات البنيان المتقن وقيل : ذات الطرائق كحبك الماء إذا ضربته الريح وحبك الرمل ولكنها لا ترى لبعدها من الناس وجواب القسم قوله { إنكم } يعني يا أهل مكة { لفي قول مختلف } يعني في القرآن وفي محمد صلى الله عليه وسلم يقولون في القرآن سحر وكهانة وأساطير الأولين وفي محمد صلى الله عليه وسلم ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وقيل : لفي قول مختلف أي مصدق ومكذب { يؤفك عنه من أفك } أي يصرف عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه وهو من حرمه الله الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وقيل : معناه أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فيقولون إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون فيصرفونه عن الإيمان به { قتل الخراصون } أي : الكذابون هم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب مكة واقتسموا القول في النبي صلى الله عليه وسلم ليصرفوا الناس عن الإسلام . وقيل : هم الكهنة { الذين هم في غمرة } أي في غفلة وعمى وجهالة { ساهون } أي لاهون غافلون عن أمر الآخرة والسهو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه { يسألون أيان يوم الدين } أي يقولون يا محمد متى يوم الجزاء يعني يوم القيامة تكذيباً واستهزاء قال الله تعالى : { يوم هم } أي يكون هذا الجزاء في يوم هم { على النار يفتنون } أي يدخلون ويعذبون بها وتقول لهم خزنة النار : { ذوقوا فتنتكم } أي عذابكم { هذا الذي كنتم به تستعجلون } أي في الدنيا تكذيباً به .(5/480)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
قوله تعالى : { إن المتقين في جنات وعيون } يعني في خلال الجنات عيون جارية { آخذين ما آتاهم } أي ما أعطاهم { ربهم } أي من الخير والكرامة { إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } أي قبل دخولهم الجنة محسنين في الدنيا ثم وصف إحسانهم فقال تعالى : { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } أي كانوا ينامون قليلاً من الليل ويصلون أكثره . وقال ابن عباس : كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئاً إما من أولها أو من أوسطها عن أنس بن مالك في قوله : { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } قال : كانوا بين المغرب والعشاء أخرجه أبو داود .
وقيل : كانوا لا ينامون حتى يصلون العتمة وقيل : قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها ، ووقف بعضهم على قوله : كانوا قليلاً ، أي من الناس ثم ابتدأ من الليل ما يهجعون أي لا ينامون بالليل البتة بل يقومون الليل كله في الصلاة والعبادة { وبالأسحار هم يستغفرون } أي ربما مدوا عبادتهم إلى وقت السحر ثم أخذوا في الاستغفار وقيل : معناه يستغفرون من تقصيرهم في العبادة وقيل : يستغفرون من ذلك القدر القليل الذي كانوا ينامونه من الليل وقيل : معناه يصلون بالأسحار لطلب المغفرة ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له » ولمسلم قال : « فيقول أنا الملك أنا الملك » وذكر الحديث وفيه « حتى يضيء الفجر » وزاد في رواية « من يقرض غير عديم ولا ظلوم » .
( فصل )
هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان معروفان :
أحدهما : وهو مذهب السلف وغيرهم أنه يمر كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل ويترك الكلام فيه وفي أمثاله مع الإيمان به وتنزيه الرب تبارك وتعالى عن صفات الأجسام .
المذهب الثاني : وهو قول جماعة من المتكلمين وغيرهم أن الصعود والنزول من صفات الأجسام والله تعالى يتقدس عن ذلك . فعلى هذا يكون معناه نزول الرحمة والألطاف الإلهية وقربها من عباده والإقبال على الداعين بالإجابة واللطف . وتخصيصه بالثلث الأخير من الليلا لأن ذلك وقت التهجد والدعاء وغفلة أكثر الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله تعالى وفي ذلك الوقت تكون النية خالصة والرغبة إلى الله تعالى متوفرة فهو مظنة لقبول الإجابة والله تعالى أعلم ( ق ) .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال : اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك الحق وقولك الحق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت » .(5/481)
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
{ وفي أموالهم حق } أي نصيب قيل إنه ما يصلون به رحماً أو يقرون به ضيفاً أو يحملون به كلاًّ أو يعينون به محروماً وليس بالزكاة قاله ابن عباس . وقيل : إنه الزكاة المفروضة { للسائل } أي الذي يسأل الناس ويطلب منهم { والمحروم } قيل هو الذي ليس له في الغنائم سهم ولا يجري عليه من الفيء شيء قال ابن عباس رضي الله عنهما : المحروم الذي ليس له في فيء الإسلام سهم . وقيل : معناه الذي حرم الخير والعطاء ، وقيل : المحروم ، المتعفف الذي لا يسأل . وقيل : هو صاحب الجائحة الذي أصيب زرعه وثمره أو نسل ماشيته وقيل : هو المحارف المحروم في الرزق والتجارة وقيل : هو المملوك وقيل : هو المكاتب ، وأظهر الأقوال ، أنه المتعفف لأنه قرنه بالسائل والمتعفف لا يسأل ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل إنما يفطن له متيقظ { وفي الأرض آيات } أي عبر من البحار والجبال والأشجار والثماؤ وأنواع النبات { للموقنين } أي بالله الذي يعرفونه ويستدلون عليه بصنائعه { وفي أنفسكم } أي آيات إذ كنتم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً إلى أن تنفخ الروح .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع وقيل : يريد سبيل الغائط والبول يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من سبيلين وقيل : يعني تقويم الأدوات السمع والبصر والنطق والعقل إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم { أفلا تبصرون } يعني كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث { وفي السماء رزقكم } قال ابن عباس هو المطر وهو سبب الأرزاق { وما توعدون } يعني من الثواب والعقاب . وقيل : من الخير والشر . وقيل : الجنة والنار ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه فقال { فورب السماء والأرض إنه لحق } أي ما ذكر من الرزق وغيره { مثل ما أنكم تنطقون } أي بلا إله إلا الله .
وقيل : شبه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نطق الآدمي ومعناه إنه لحق كما أنك تتكلم . وقيل : إن معناه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة وقال بعض الحكماء معناه كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره كذلك كل إنسان يأكل من رزق نفسه الذي قسم له لا يقدر أن يأكل رزق غيره .
قوله تعالى : { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم } يعني هل أتاك يا محمد حديث الذين جاؤوا إبراهيم بالبشرى فاستمع نقصصه عليك وقد تقدم ذكر عددهم وقصتهم في سورة هود { المكرمين } قيل : سماهم مكرمين لأنهم كانوا ملائكة كراماً عند الله . وقيل : لأنهم كانوا ضيف إبراهيم وهو أكرم الخلق على الله يومئذ وضيف الكريم مكرمون .
وقيل : لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أكرمهم بتعجيل قراهم وخدمته إياهم بنفسه وطلاقة وجهه لهم .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : سماهم مكرمين لأنهم كانوا غير مدعوين ( ق ) عن أبي شريح العدوي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه » .(5/482)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)
{ إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون } أي غرباء لا نعرفكم .
قال ابن عباس : قال في نفسه هؤلاء قوم لا نعرفهم وقيل : إنما أنكر أمرهم ، لأنهم دخلوا بغير استئذان وقيل : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض { فراغ } أي عدل ومال { إلى أهله فجاء بعجل سمين } أي جيد وكان مشوياً . قيل : كان عامة مال إبراهيم البقر فجاء بعجل { فقربه إليهم } هذا من آداب المضيف أن يقدم الطعام إلى الضيف ولا يحوجهم السعي إليه فلما لم يأكلوا { قال ألا تأكلون } يعني أنه حثهم على الأكل . وقيل : عرض عليهم الأكل من غير أن يأمرهم { فأوجس } أي فأضمر { منهم خيفة } لأنهم لم يتحرموا بطعامه { قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم } أي يبلغ ويعلم وقيل : عليم أي نبي { فأقبلت امرأته } قيل لم يكن ذلك إقبالاً من مكان إلى مكان بل كانت في البيت فهو كقول القائل أقبل يفعل كذا إذا أخذ فيه { في صرة } أي في صيحة والمعنى أنها أخذت تولول وذلك من عاد النساء إن سمعن شيئاً { فصكت وجهها } قال ابن عباس : لطمت وجهها . وقيل : جمعت أصابعها وضربت جبينها تعجباً وذلك من عادة النساء أيضاً إذا أنكرن شيئاً { وقالت عجوز عقيم } معناه : أتلد عجوز عقيم وذلك لأن سارة لم تلد قبل ذلك { قالوا كذلك قال ربك } أي كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلاماً { إنه هو الحكيم العليم } ثم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما علم حالهم وأنهم من الملائكة { قال فما خطبكم } أي فما شأنكم وما طلبكم { أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } يعني قوم لوط { لنرسل عليهم حجارة من طين } قيل هو الآجر { مسومة } أي معلمة قيل على كل حجر اسم من يهلك به .
وقيل : معلمه بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا { عند ربك للمسرفين } قال ابن عباس يعني المشركين لأن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها .(5/483)
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
{ فأخرجنا من كان فيها } أي في قرى قوم لوط { من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت } أي أهل بيت { من المسلمين } يعني لوطاً وابنتيه وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعاً لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم . لأن الإسلام أعم من الإيمان . وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه فإذا سمي المؤمن مسلماً ، لا يدل على اتحاد مفهوميهما { وتركنا فيها } أي في مدينة قوم لوط { آية } أي عبرة { للذين يخافون العذاب الأليم } والمعنى تركنا فيها علامة للخائفين تدلهم على أن الله مهلكهم فيخافون مثل عذابهم قوله عز وجل : { وفي موسى } أي وتركنا في إرسال موسى آية وعبرة { إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين } أي حجة ظاهرة { فتولى } أي أعرض عن الإيمان { بركنه } أي بجمعه وجنوده الذين كان يتقوى بهم { وقال ساحر أو مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم } أي فأغرقناهم في البحر { وهو مليم } أي آت بما يلام عليه من دعوى الربوبية وتكذيب الرسل { وفي عاد } أي وفي إهلاك عاد أيضاً آية وعبرة { إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } يعني التي لا خير فيها ولا بركة فلا تلقح شجراً ولا تحمل مطراً { ما تذر من شيء أتت عليه } أي من أنفسهم وأموالهم وأنعامهم { إلا جعلته كالرميم } أي كالشيء الهالك البالي وهو ما يبس وديس من نبات الأرض كالشجر والتبن ونحوه وأصله من رم العظم إذا بلي { وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين } يعني إلى وقت انقضاء آجالهم وذلك أنهم لما عقروا الناقة قيل لهم : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام .(5/484)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
{ فعتوا عن أمر ربهم } أي تكبروا عن طاعة ربهم { فأخذتهم الصاعقة } أي بعد مضي ثلاثة أيام من بعد عقر الناقة وهي الموت في قول ابن عباس . وقيل : أخذهم العذاب والصاعقة كل عذاب مهلك { وهم ينظرون } أي يرون ذلك العذاب عياناً { فما استطاعوا من قيام } أي فما قاموا بعد نزول العذاب بهم ولا قدروا على نهوض من تلك الصرعة { وما كانوا منتصرين } أي ممتنعين منا وقيل : ما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من أمر الله { وقوم نوح } قرىء بكسر الميم ومعناه وفي يوم نوح وقرىء بنصبها ومعناه : وأغرقنا قوم نوح { من قبل } أي من قبل هؤلاء وهم عاد وثمود وقوم فرعون { إنهم كانوا قوماً فاسقين } أي خارجين عن الطاعة .
قوله تعالى : { والسماء بنيناها بأيد } أي بقوة وقدرة { وإنا لموسعون } قيل : هو من السعة : أي أوسعنا السماء بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من السماء والفضاء وبالنسبة إلى سعة السماء كالحلقة الملقاة في الفلاة وقال ابن عباس : معناه قادرون على بنائها كذلك وعنه لموسعون أي الرزق على خلقنا وقيل : معناه وإنا ذوو السعة والغنى { والأرض فرشناها } أي بسطناها ومهدناها لكم { فنعم الماهدون } أي نحن { ومن كل شيء خلقنا زوجين } أي صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والبر والبحر والسهل والجبل والصيف والشتاء والجن والإنس والذكر والأنثى والنور والظلمة والإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحق والباطل والحلو والمر والحامض { لعلكم تذكرون } أي فتعلمون أن خالق الأزواج فرد لا نظير له ولا شريك معه { ففروا إلى الله } أي : قل يا محمد ففروا إلى الله أي فاهربوا من عذابه إلى ثوابه بالإيمان والطاعة وقال ابن عباس ففروا منه إليه واعملوا بطاعته وقال سهل بن عبد الله ففروا مما سوى الله إلى الله { إني لكم منه نذير } أي مخوف { مبين } أي بين الرسالة بالحجة الظاهرة والمعجزة الباهرة والبرهان القاطع { ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر } أي وحدوه ولا تشركوا به شيئاً { إني لكم منه نذير مبين } قيل : إنما كرر قوله إني لكم منه نذير مبين عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما .(5/485)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
{ كذلك } أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون كذلك { ما أتى الذين من قبلهم } أي من قبل كفار مكة والأمم الخالية { من رسول } يعني يدعوهم إلى الإيمان والطاعة { إلا قالوا ساحر أو مجنون } قال الله تعالى { أتواصوا به } أي أوصى أولهم آخرهم وبعضهم بعضاً بالتكذيب وتواطؤوا عليه وفيه توبيخ لهم { بل هم قوم طاغون } أي لم يتواصلوا بهذا القول لأنهم لم يتلاقوا على زمان واحد بل جمعتهم على ذلك علة واحدة وهي الطغيان وهو الحامل لهم على ذلك القول { فتولَّ عنهم } أي أعرض عنهم { فما أنت بملوم } أي لا لوم عليك فقد أديت الرسالة وبذلت المجهود وما قصرت فيما أمرت به .
قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنهم فأنزل الله عز وجل : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } فطابت نفوسهم بذلك والمعنى عظ بالقرآن كفار مكة فإن الذكرى تنفع من علم الله أنه يؤمن منهم وقيل : معناه عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم .
قوله عز وجل : { وما خلقت الجن والإنس } أي من المؤمنين { إلا ليعبدون } قيل هذا خاص بأهل طاعته من الفريقين يدل عليه قراءة ابن عباس « وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون » وقيل : معناه وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي والأشقياء منهم إلا لمعصيتي وهو ما جبلوا عليه من الشقاوة والسعادة . وقال علي بن أبي طالب إلا ليعبدون أي إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي . وقيل : معناه إلا ليعرفوني وهذا حسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده . وقيل : معناه إلا ليخضعوا لي ويتذللوا لأن معنى العبادة في اللغة التذلل والانقياد وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله متذلل للمشيئة لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق له . وقيل : معناه إلا ليوحدوني فأما المؤمن فيوحده اختياراً في الشدة والرخاء وأما الكافر فيوحده اضطراراً في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء { ما أريد منهم من رزق } أي ما أريد أن يرزقوا أحداً من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم لأني أنا الرزاق المتكفل لعبادي بالرزق القائم لكل نفس بما يقيمها من قوتها { وما أريد أن يطعمون } أي أن يطعموا أحداً من خلقي وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق كلهم عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه لما صح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال : يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي »(5/486)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
{ إن الله هو الرزاق } أي لجميع خلقه { ذو القوة المتين } يعني هو القوي الشديد المقتدر البليغ القوة والقدرة الذي لا يلحقه في أفعاله مشقة { فإن للذين ظلموا } أي من أهل مكة { ذنوباً } أي نصيباً من العذاب { مثل ذنوب أصحابهم } أي مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا من قوم نوح وعاد وثمود { فلا يستعجلون } أي بالعذاب لأنهم أخروا إلى يوم القيامة يدل عليه قوله عز وجل { فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون } يعني يوم القيامة وقيل : يوم بدر والله تعالى أعلم بمراده .(5/487)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
قوله عز وجل : { والطور } أراد به الجبل الذي كلم الله موسى عليه الصلاة والسلام بالأرض المقدسة وقيل : بمدين { وكتاب مسطور } أي مكتوب { في رق } يعني الأديم الذي يكتب فيه المصحق { منشور } أي مبسوط .
واختلفوا في الكتاب ، فقيل : هو ما كتب الله بيده لموسى من التوراة وموسى يسمع صرير الأقلام . وقيل : هو اللوح المحفوظ . وقيل : هو دواوين الحفظة يخرج إليهم يوم القيامة منشوراً فآخذ بيمينه وآخذ بشماله . وقيل : هو القرآن .(5/488)
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)
{ والبيت المعمور } يعني بكثرة الغاشية والأهل وهو بيت في السماء السابعة قدام العرش بحيال الكعبة يقال له الصراع حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض وصح في حديث المعراج من أفراد مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى البيت المعمور في السماء السابعة قال : فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه وفي رواية أخرى قال فانتهيت إلى بناء فقلت للملك ما هذا؟ قال بناء بناه الله للملائكة يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون يسبحون الله ويقدسونه .
وفي أفراد البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : « أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك » { والسقف المرفوع } يعني السماء { والبحر المسجور } يعني الموقد المحمى بمنزلة التنور المسجور وهو قول ابن عباس . وذلك ما روي أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة ناراً فيزاد بها في نار جهنم وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يركبن رجل البحر إلا غازياً أو معتمراً أو حاجاً فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً » وقيل : المسجور المملوء وقيل : هو اليابس الذي ذهب ماؤه ونضب . وقيل : هو المختلط العذب بالملح .
وروي عن علي أنه قال البحر المسجور هو بحر تحت العرش غمره كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان يمطر العباد بعد النفخة الأولى منه أربعين صباحاً فينبتون من قبورهم أقسم الله بهذه الأشياء لما فيها من عظيم قدرته وجواب القسم قوله تعالى : { إن عذاب ربك لواقع } يعني إنه لحق وكائن ونازل بالمشركين في الآخرة { ما له من دافع } أي مانع .
قال جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فدفعت له وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ والطور إلى قوله إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع فكأنما صدع قلبي حين سمعت ولم يكن أسلم يومئذ فأسلمت خوفاً من نزول العذاب وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب ثم بين أنه متى يقع فقال تعالى : { يوم تمور السماء موراً } أي تدور كدوران الرحى وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة وقيل : تتحرك وتختلف أجزاؤها بعضها من بعض وتضطرب { وتسير الجبال سيراً } أي تزول عن أماكنها وتصير هباء منثوراً والحكمة في مور السماء وسير الجبال الإنذار والأعلام بأن لا رجوع ولا عود إلى الدنيا وذلك لأن الأرض والسماء وما بينهما من الجبال والبحار وغير ذلك إنما خلقت لعمارة الدنيا وانتفاع بني آدم بذلك فلما لم يبق لهم عود إليها أزالها الله تعالى وذلك لخراب الدنيا وعمارة الآخرة .(5/489)
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
{ فويل } أي شدة عذاب { يومئذ للمكذبين } أي يوم القيامة { الذين هم في خوض } أي يخوضون في الباطل { يلعبون } أي غافلون لأهون عما يراد بهم { يوم يدعون } أي يدفعون { إلى نار جهنم دعاً } يعني دفعاً بعنف وجفوة ، وذلك أن خزنة جهنم يغلّون أيدي الكفار إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعون بها دفعاً إلى النار على وجوههم وزجّاً في أقفيتهم حتى يردوا إلى النار ، فإذا دنوا منها ، قال لهم خزنتها : { هذه النار التي كنتم بها تكذبون } أي في الدنيا { أفسحر هذا } ذلك أنهم كانوا ينسبون محمداً صلى الله عليه وسلم إلى السحر وأنه يغطي على الأبصار فوبخوا بذلك وقيل لهم : أفسحر هذا { أم أنتم لا تبصرون اصلوها } أي قاسوا شدتها { فاصبروا } أي على العذاب { أو لا تصبروا } أي عليه { سواء عليكم } أي الصبر والجزع { إنما تجزون ما كنتم تعملون } أي من الكفر والتكذيب في الدنيا .
قوله تعالى : { إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين } أي معجبين بذلك ناعمين { بما آتاهم ربهم } أي من الخير والكرامة { ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا } أي يقال لهم كلوا { واشربوا هنيئاً } أي مأمون العاقبة من التخمة والسقم { بما كنتم تعملون } أي في الدنيا من الإيمان ولطاعة { متكئين على سرر مصفوفة } أي موضوعة بعضها إلى بعض { وزوجناهم بحور عين والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان } يعني ألحقنا أولادهم الصغار والكبار بإيمانهم فالكبار بإيمانهم بأنفسهم والصغار بإيمان آبائهم فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعاً لأحد أبويه { ألحقنا بهم ذريتهم } يعني المؤمنين في الجنة بدرجات آبائهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تكرمة لآبائهم لتقر بذلك أعينهم هذه رواية عن ابن عباس . وفي رواية أخرى عنه ، أن معنى الآية والذين آمنوا واتبعناهم ذرياتهم يعني البالغين بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم أخبر الله تعالى أنه يجمع لعبده المؤمن من ذريته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه فيدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمله من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئاً وذلك قوله تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } يعني : وما نقصنا الآباء من أعمالهم شيئاً عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم إلى آخر الآية .
عن علي قال : « سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هما في النار فلما رأى الكراهية في وجهها قال : لو رأيت مكانهما لأبغضتهما قالت يا رسول الله فولدي منك قال : في الجنة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم » أخرج هذين الحديثين البغوي بإسناد الثعلبي .
{ كل امرىء } أي كافر { بما كسب } أي عمل من الشرك { رهين } أي مرتهن بعمله في النار والمؤمن لا يكون مرتهناً بعمله لقوله { كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين } ثم ذكر ما وعدهم به من الخير والنعمة(5/490)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)
{ وأمددناهم بفاكهة } يعني زيادة عما كان لهم { ولحم مما يشتهون } أي من أنواع اللحوم { يتنازعون } أي يتعاطون ويتناولون { فيها } أي في الجنة { كأساً لا لغو فيها } أي لا باطل فيها ولا رفث ولا تخاصم ولا تذهب عقولهم فيلغوا ويرفثوا { ولا تأثيم } أي لا يكون فيها ما يؤثمهم ولا يجري بينهم ما فيه لغو وإثم كما يجري بين شربة الخمر في الدنيا . وقيل : لا يأثمون في شربها .(5/491)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)
{ ويطوف عليهم } أي للخدمة { غلمان لهم كأنهم } أي في الحسن والبياض والصفاء { لؤلؤ مكنون } أي مخزون مصون لم تمسه الأيدي وقال عبد الله بن عمرو ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام كل واحد منهم على عمل غير عمل صاحبه وعن قتادة قال : « ذكر لنا أن رجلاً قال يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم؟ قال : » فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب « .
قوله تعالى : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } يعني يسأل بعضهم بعضاً في الجنة قال ابن عباس : يتذاكرون ما كانوا فيه من الخوف والتعب في الدنيا { قالوا إنا كنا قبل في أهلنا } أي في الدنيا { مشفقين } أي خائفين من العذاب { فمن الله علينا } أي بالمغفرة { ووقانا عذاب السموم } يعني عذاب النار وقيل : هو اسم من أسماء جهنم { إنا كنا من قبل } أي في الدنيا { ندعوه } أي نخلص الدعاء والعبادة له { إنه هو البر } قال ابن عباس : اللطيف وقيل : يعني الصادق فيما وعد . وقيل : البر العطوف على عباده المحسن إليهم الذي عم بره جميع خلقه { الرحيم } بعبيده .
قوله عز وجل : { فذكر } يعني فعظ يا محمد بالقرآن كفار مكة { فما أنت بنعمة ربك } أي برحمته وعصمته وقيل : بإنعامه عليك بالنبوة { بكاهن ولا مجنون } الكاهن هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويخبر بما في غد من غير وحي والمعنى أنك لست كما يقول كفار مكة أنه كاهن أو مجنون إنما تنطلق بالوحي نزلت في الذين اقتسموا أعقاب مكة يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكهانة والسحر والشعر والجنون { أم يقولون } يعني هؤلاء المقتسمين { شاعر } أي هو شاعر { نتربص به } أي ننتظر به { ريب المنون } يعني حوادث الدهر وصروفه فيموت ويهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء أو يتفرق عنه أصحابه وإن أباه مات وهو شاب ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه والمنون اسم للموت وللدهر وأصله القطع سميا بذلك لأنهما يقطعان الأجل .(5/492)
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)
{ قل تربصوا } أي انتظروا بي الموت { فإني معكم من المتربصين } أي من المنتظرين حتى يأتي أمر الله فبكم فعذبوا يوم بدر بالقتل والسبي { أم تأمرهم أحلامم } أي عقولهم { بهذا } وذلك أن عظماء قريش كانوا يوصفون بالأحلام والعقول فأزرى الله بعقولهم حين لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل { أم هم قوم طاغون } أي يتجاوزون الحد في الطغيان والكفر { أم يقولون تقوله } أي اختلق القرآن من تلقاء نفسه والتقول التكلف ولا يستعمل إلا في الكذب والمعنى ليس الأمر كما زعموا { بل لا يؤمنون } أي بالقرآن استكباراً ثم ألزمهم الحجة فقال تعالى : { فليأتوا بحديث مثله } أي مثل القرآن في نظمه وحسنه وبيانه { إن كانوا صادقين } يعني إن محمد تقوله من قبل نفسه { أم خلقوا من غير شيء } .
قال ابن عباس : من غير رب خالق . والمعنى : أم خلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق { أم هم الخالقون } أي لأنفسهم وذلك في البطلان أشد لأن ما لا وجود له كيف يخلق فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به وليوحدوه وليعبدوه وقيل : في معنى الآية : أخلقوا باطلاً فلا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون أم هم الخالقون أي لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر { أم خلقوا السموات والأرض } يعني ليس الأمر كذلك { بل لا يوقنون } أي بالحق وهو توحيد الله تعالى وقدرته على البعث وأن الله تعالى هو خالقهم وخالق السموات والأرض فليؤمنوا به وليوقنوا أنه ربهم وخالقهم { أم عندهم خزائن ربك } يعني النبوة ومفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا وقيل : خزائن المطر والرزق { أم هم المسيطرون } أي المسلطون الجبارون . وقيل : الأرباب القاهرون فلا يكونون نتحت أمر ولا نهي ويفعلون ما يشاؤون .(5/493)
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)
{ أم لهم سلم } يعني مرقى ومصعد إلى السماء { يستمعون فيه } أي يستمعون عليه الوحي من السماء فيعلمون أن ما هم عليه حق فهم به مستمسكون { فليأت مستمعهم } أي إن ادعوا ذلك { بسلطان مبين } أي بحجة بينة { أم له البنات ولكم البنون } هذا إنكار عليهم حيث جعلوا لله ما يكرهون لأنفسهم { أم تسألهم أجراً } أي جعلاً على ما جئتهم به من النبوة ودعوتهم إليه من الدين { فهم من مغرم مثقلون } يعني أثقلهم ذلك المغرم الذي سألتهم فمنعهم عن الإسلام { أم عندهم الغيب } أي علم الغيب وهو ما غاب عنهم حتى علموا أن ما يخبرهم به الرسول من أمر القيامة والبعث باطل . وقيل : هو جواب لقولهم نتربص به ريب المنون ، والمعنى : اعلموا أن محمداً يموت قبلهم { فهم يكتبون } أي يحكمون قال ابن عباس : معناه أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس به { أم يريدون كيداً } أي مكراً بك ليهلكوك { فالذين كفروا هم المكيدون } أي المجزيون بكيدهم والمعنى أن ضرر كيدهم يعود عليهم ويحيق مكرهم بهم وهو أنهم مكروا به في دار الندوة ليقتلوه فقتلوا ببدر { أم لهم إله غير الله } يعني يرزقهم وينصرهم { سبحان الله عما يشركون } المعنى : أنه نزه نفسه عما يقولون .
قوله تعالى : { وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً } هذا جواب لقولهم فأسقط علينا كسفاً من السماء يقول لو عذبناهم بسقوط قطعة من السماء عليهم لم ينتهوا عن كفرهم { يقولوا } لمعاندتهم هذا { سحاب مركوم } أي بعضه على بعض يسقينا { فذرهم حتى يلاقوا } أي يعاينوا { يومهم الذي فيه يصعقون } أي يموتون ويهلكون .(5/494)
يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
{ يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً ولا هم ينصرون } أي لا ينفعهم كيدهم يوم الموت ولا يمنعهم من العذاب مانع { وإن للذين ظلموا } أي كفروا { عذاباً دون ذلك } أي عذاباً في الدنيا قبل عذاب الآخرة قال ابن عباس يعني القتل يوم بدر وقيل : هو الجوع والقحط سبع سنين وقيل : هو عذاب القبر { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أي أن العذاب نازل بهم .
قوله عز وجل : { واصبر لحكم ربك } أي إلى أن يقع بهم العذاب الذي حكمنا عليهم به { فإنك بأعيننا } . أي بمرأى منا .
قال ابن عباس : نرى ما يعمل بك . وقيل : معناه إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إليك بمكروه { وسبح بحمد ربك حين تقوم } أي : وقل حين تقوم من مجلسك : سبحانك اللهم وبحمدك فإن كان المجلس خيراً ازددت بذلك إحساناً وإن كان غير ذلك كان كفارة لك .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا كان كفارة لما بينهما » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .
وقال ابن عباس : معناه حين تقوم من منامك . وقيل : هو ذكر الله بالليل من حين تقوم من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة وعن عاصم بن حميد قال : « سألت عائشة بأي شيء كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل فقالت سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك كان إذا قام كبر عشراً وحمد الله عشراً وسبح عشراً وهلل عشراً واستغفر عشراً وقال اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني وكان يتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة » أخرجه أبو داود والنسائي وقيل : إذا قمت إلى الصلاة فقل سبحانك اللهم وبحمدك يدل عليه ما روي عن عائشة قالت « كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك وجل ثناؤك ولا إله غيرك » أخرجه الترمذي وأبو داود وقد تكلم في أحد رواته .
وقوله تعالى : { ومن الليل فسبحه } أي فصِّل له يعني صلاة المغرب والعشاء { وإدبار النجوم } يعني الركعتين قبل صلاة الفجر ذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح هذا قول أكثر المفسرين يدل عليه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر وإدبار السجود الركعتان بعد المغرب » أخرجه الترمذي وقال : حديث غريب . وقيل : إدبار النجوم هي فريضة صلاة الصبح ( ق ) عن جبير بن مطعم قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور » والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه .(5/495)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
قوله عز وجل : { والنجم إذا هوى } قال ابن عباس يعني الثريا إذا سقطت وغابت والعرب تسمي الثريا نجماً ومنه قولهم إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً : « ما طلع النجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا رفع » أراد بالنجم الثريا ، وقيل : هي نجوم السماء كلها وهويها غروبها فعلى هذا لفظه واحد ومعناه الجمع . وروي عن ابن عباس أنه الرجوم من النجوم وهي ما ترمى به الشياطين عند استراق السمع . وقيل : هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة . وقيل : أراد بالنجم القرآن سمي نجماً لأنه نزل نجوماً متفرقة في عشرين سنة وهو قول ابن عباس أيضاً . وقيل : النجم هو النبت الذي لا ساق له وهويه سقوطه إذا يبس على الأرض . وقيل : النجم هو محمد صلى الله عليه وسلم وهويه نزوله ليلة المعراج من السماء وجواب القسم قوله تعالى : { ما ضل صاحبكم } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ما ضل عن طريق الهدى { وما غوى } أي ما جهل . وقيل : الفرق بين الضلال والغي أن الضلال هو أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً والغواية أن لا يكون له طريق إلى مقصده مستقيم وقيل : إن الضلال أكثر استعمالاً من الغواية { وما ينطق عن الهوى } أي بالهوى والمعنى لا يتكلم بالباطل وذلك أنهم قالوا : إن محمداً يقول القرآن من تلقاء نفسه { إن هو } أي ما هو يعني القرآن وقيل : نطقه في الدين { إلا وحي } من الله { يوحى } إليه .(5/496)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
{ علمه شديد القوى } يعني جبريل علم محمداً صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله إليه عز وجل وكونه شديد القوى أنه اقتلع قرى قوم لوط وحملها على جناحه حتى بلغ بها السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه بالوحي على الأنبياء أسرع من رجعة الطرف { ذو مرة } أي ذو قوة وشدة . وقال ابن عباس : ذو منظر حسن وقيل : ذو خلق طويل حسن .
{ فاستوى } يعني جبريل عليه الصلاة والسلام { وهو } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم والمعنى استوى جبريل ومحمد ليلة المعراج { بالأفق الأعلى } عند مطلع الشمس وقيل : فاستوى يعني جبريل وهو كناية عن جبريل أيضاً أي قام في صورته التي خلقه الله فيها وهو بالأفق الأعلى وذلك أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء قبله فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على صورته التي جبل عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء فأما التي في الأرض فبالأفق الأعلى والمراد بالأفق الأعلى جانب المشرق وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بحراء ، فطلع له جبريل عليه الصلاة والسلام من ناحية المشرق ، فسد الأفق إلى المغرب فخرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مغشياً عليه فنزل جبريل عليه ، الصلاة والسلام في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه وهو قوله تعالى : { ثم دنا فتدلى } وأما التي في السماء فعند سدرة المنتهى ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة التي خلق عليها إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } .
اختلف العلماء في معنى هذه لآية فروي عن مسروق بن الأجدع قال « قلت لعائشة فأين قوله ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى؟ قالت ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الأفق » أخرجاه في الصحيحين .
وعن زر بن حبيش في قوله تعالى : { فكان قاب قوسين أو أدنى } وفي قوله { ما كذب الفؤاد ما رأى } وفي قوله { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } قال : فيها كلها أن ابن مسعود قال « رأى جبريل عليه الصلاة والسلام له ستمائة جناح » زاد في رواية أخرى « رأى جبريل في صورته » أخرجه مسلم والبخاري في قوله تعالى : { فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى } فعلى هذا يكون معنى الآية ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فتدلى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكان منه قاب قوسين أو أدنى أي : بل أدنى وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة .(5/497)
وقيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره ثم تدلى فدنا لأن التدلي سبب الدنو . وقال آخرون : ثم دنا الرب عز وجل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى أي فقرب منه حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وقد ورد في الصحيحين في حديث المعراج من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى . وهذه رواية أبي سلمة عن ابن عباس والتدلي هو النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قال الحافظ عبد الحق في كتابه . الجمع بين الصحيحين ، بعد ذكر حديث أنس من رواية شريك ، وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة .
وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى به وفي رواية شريك قدم وآخر وزاد ونقص فيحتمل أن هذا اللفظ من زيادة شريك في الحديث وقال الضحاك دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجل فتدلى أي فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى والقاب القدر والقوس الذي يرمي به وهو رواية عن ابن عباس . وقيل : معناه حيث الوتر من القوس فأخبر أنه كان بين جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم مقدار قوسين وهذا إشارة إلى تأكيد القرب وأصله أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد بينهما خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما يريد أن بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه . وقال عبد الله بن مسعود : قاب قوسين قدر ذراعين والقوس الذراع التي يقاس بها من قاس يقيس أو أدنى بل أقرب { فأوحى } أي فأوحى الله { إلى عبده } محمد صلى الله عليه وسلم { ما أوحى } وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال أوحى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه عز وجل وقال سعيد بن جبير : أوحى إليه { ألم يجدك يتيماً فآوى } إلى قوله { ورفعنا لك ذكرك } وقيل : أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك قوله عز وجل : { ما كذب الفؤاد } قرىء بالتشديد أي ما كذب محمد صلى الله عليه وسلم { ما رأى } أي بعينه تلك الليلة بل صدقه وحققه وقرىء بالتخفيف أي ما كذب فؤاد محمد الذي رآه بل صدقه والمعنى : ما كذب الفؤاد فيما رأى . واختلفوا في الذي رآه ، فقيل : رأى جبريل وهو قول ابن عباس وابن مسعود وعائشة وقيل : هو الله عز وجل ثم اختلفوا في معنى الرؤية فقيل جعل بصره في فؤاده وهو قول ابن عباس ( م ) .(5/498)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)
{ أفتمارونه على ما يرى } يعني أفتجادلونه على ما يرى وذلك أنهم جادلوه حين أسري به وقالوا له صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به . والمعنى : أفتجادلونه جدالاً ترومون به دفعه عما رآه وعلمه { ولقد رآه نزلة أخرى } يعني رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلاً من السماء نزلة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرة عند سدرة المنتهى ( م ) عن أبي هريرة ولقد رآه نزلة أخرى قال : رأى جبريل . وعلى قول ابن عباس : يعني نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة عرجات لمسألة التخفيف من أعداد الصلوات فيكون لكل عرجة نزلة فرأى ربه عز وجل في بعضها .
وروي عن ابن عباس أنه رأى ربه بفؤاده مرتين وعنه أنه رآه بعينه { عند سدرة المنتهى } ( م ) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها وقال إذ يغشى السدرة ما يغشى قال فراش من ذهب » .
وفي رواية الترمذي إليها ينتهي علم الخلائق لا علم لهم فوق ذلك وفي حديث المعراج المخرج في الصحيحين « ثم صعد بي إلى السماء السابعة ثم قال ثم رفعت إلى سدرة المنتهى » فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها كآذان الفيلة قال : هذه سدرة المنتهى . وفي أفراد مسلم من حديث أنس قال : « ثم عرج بنا إلى السماء السابعة وذكره إلى أن قال فيه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال قال فلما غشيها من نور الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها » وقال هلال بن يساف سأل ابن عباس كعباً عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل وعن أسماء بنت أبي بكر قالت : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر سدرة المنتهى فقال : يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة أو قال يستظل بظلها مائة ألف راكب فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال » أخرجه الترمذي . وقال : مقاتل هي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان ولو أن ورقة وضعت منها في الأرض لأضاءت لأهل الأرض وهي شجرة طوبى التي ذكرها الله في سورة الرعد { عندها جنة المأوى } قال ابن عباس : جنة المأوى يأوي إليها جبريل والملائكة وقيل : يأوي إليها أرواح الشهداء { إذ يغشى السدرة ما يغشى } قال ابن مسعود : فراش من ذهب وقيل : يغشاها ملائكة أمثال الغربان . وقيل : أمثال الطيور حتى يقعن عليها . وقيل : غشيها نور الخلاق وغشيتها الملائكة من حب الله تعالى أمثال الغربان حتى يقعن عليها وقيل : هو نور رب العزة ويروى في الحديث قال : رأيت على كل ورقة منها ملكاً قائماً يسبح الله عز وجل .(5/499)
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)
{ ما زاغ البصر وما طغى } يعني ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام وفي تلك الحضرة المقدسة الشريفة يميناً وشمالاً ولا جاوز ما رأى وقيل : ما أمر به وهذا وصف أدبه صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام الشريف إذ لم يلتفت إلى شيء سوى ما أمر به .
وفي معنى الآية إن قلنا إن الذي يغشى السدرة فراش من ذهب أي لم يلتفت إليه ولم يشتغل به وفيه بيان أدبه صلى الله عليه وسلم إذ لم يقطع بصره عن المقصود وإن قلنا الذي يغشى السدرة هو نور رب العزة ففيه وجهان :
أحدهما : أنه صلى الله عليه وسلم لم يلتفت عنه يمنة ولا يسرة ولا يشتغل بغير مطالعة ذلك النور .
الوجه الثاني : ما زاغ البصر بصعقة ولا غشية كما أخبر عن موسى بقوله { وخر موسى صعقاً } وذلك أنه لما تجلى رب العزة وظهر نوره على الجبل قطع نظره وغشي عليه ونبينا صلى الله عليه وسلم ثبت في ذلك المقام العظيم الذي تحار فيه العقول وتزل فيه الأقدام وتميل فيه الأبصار فوصف الله عز وجل قوة نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام العظيم بقوله تعالى ما زاغ البصر وما طغى .
وقوله تعالى : { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } يعني رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات العظام وقيل : أراد ما رأى تلك الليلة في مسيره ورجوعه وقيل : معناه لقد رأى من آيات ربه الآيات الكبرى ( م ) عن عبد الله بن مسعود قال : لقد رأى من آيات ربه الكبرى . قال : رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح ( خ ) عنه قال لقد رأى من آيات ربه الكبرى قال رأى رفرفاً أخضر سد أفق السماء .
( فصل من كلام الشيخ محيي الدين النووي في معنى قوله تعالى { ولقد رآه نزلة أخرى } وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل ليلة الإسراء )
قال القاضي عياض اختلف السلف والخلف هل رأى نبينا صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء فأنكرته عائشة كما وقع في صحيح مسلم . وجاء مثله عن أبي هريرة وجماعة وهو المشهور عن ابن مسعود وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين .
وروي عن ابن عباس أنه رآه بعينه ومثله عن أبي ذر وكعب والحسن وكان يحلف على ذلك وحكي مثله عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أنه رآه ووقف بعض مشايخنا في هذا وقال : ليس عليه دليل واضح ولكنه جائز ورؤية الله عز وجل في الدنيا جائزة وسؤال موسى إياها دليل على جوازها إذ لا يجهل نبي ما يجوز أن يمتنع على ربه .(5/500)
واختلفوا في أن نبينا صلى الله عليه وسلم هل كلم ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا ، فحكي عن الأشعري وقوم من المتكلمين أنه كلمه . وعزا بعضهم هذا القول إلى جعفر بن محمد وابن مسعود وابن عباس وكذلك اختلفوا في قوله : ثم دنا فتدلى فالأكثر على أن هذا الدنو والتدلي منقسم بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم أو مختص بأحدهما من الآخر أو من سدرة المنتهى .
وذكر ابن عباس والحسن ومحمد بن كعب وجعفر بن محمد وغيرهم أنه دنو من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه أو من الله فعلى هذا القول يكون الدنو والتدلي متأولاً ليس على وجهه بل كما قال جعفر بن محمد الدنو من الله لا حد له ومن العباد بالحدود فيكون معنى دنو النبي صلى الله عليه وسلم وقربه منه ظهور عظيم منزلته لديه وإشراق أنوار معرفته عليه واطلاعه من غيبه وأسرار ملكوته على ما لم يطلع سواه عليه . والدنو من الله تعالى له إظهار ذلك وعظيم بره وفضله العظيم لديه ويكون قوله تعالى : قاب قوسين أو أدنى ، هنا عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من نبينا صلى الله عليه وسلم ومن الله تعالى إجابة الرغبة وإبانة المنزلة هذا آخر كلام القاضي عياض .
قال الشيخ محيي الدين : وأما صاحب التحرير فإنه اختار إثبات الرؤية . قال : والحجج في المسألة وإن كانت كثيرة ولكن لا تتمسك إلا بالأقوى منها وهو حديث ابن عباس : « أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين » وعن عكرمة قال : سئل ابن عباس هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ قال : نعم . وقد روي بإسناد لا بأس به عن شعبة عن قتادة عن أنس قال : رأى محمد ربه عز وجل وكان الحسن يحلف لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل .
والأصل في المسألة حديث ابن عباس حبر هذه الأمة وعالمها والمرجوع إليه في المعضلات وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة وراسله هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل فأخبره أنه رآه ولا يقدح في هذا حديث عائشة لأن عائشة لم تخبر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لم أر ربي وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقول الله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً } ولقوله { لا تدركه الأبصار } والصحابي إذا قال قولاً وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة وإذا قد صحت الروايات عن ابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بإثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها لأنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن وإنما يتلقى بالسمع ولا يتسجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس ثم إن ابن عباس أثبت ما نفاه غيره والمثبت مقدم على النفي هذا كلام صاحب التحرير في إثبات الرؤية .(6/1)
قال الشيخ محيي الدين فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل بعيني رأسه ليلة الإسراء لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه ثم إن عائشة لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان معها حديث لذكرته وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات وسنوضح الجواب عنها فنقول : أما احتجاج عائشة رضي الله تعالى عنها بقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } فجوابه ظاهر ، فإن الإدراك هو الإحاطة والله تعالى لا يحاط به وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة وهذا الجواب في نهاية الحسن مع اختصاره . وأما احتجاجها بقوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } الآية ، فالجواب عنه من أوجه : أحدها أنه لا يلزم مع الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام ، الوجه الثاني : أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة .
الوجه الثالث : ما قاله بعض العلماء إن المراد بالوحي الكلام من غير واسطة وهذا القول وإن كان محتملاً لكن الجمهور .
على أن المراد بالوحي هنا إلهام والرؤية في المنام وكلاهما يسمى وحياً وأما قوله تعالى : { أو من وراء حجاب } فقال الواحدي وغيره معناه غير مجاهر لهم بالكلام بل يسمعون كلامه سبحانه من حديث لا يرونه وليس المراد أن هناك حجاباً يفصل موضعاً عن موضع ويدل على تحديد المحجوب فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب حيث لم ير المتكلم وقول عائشة في أول الحديث « لقد قف شعري » فمعناه قام شعري من الفزع لكوني سمعت ما لا ينبغي أن يقال تقول العرب عند إنكار الشيء : قف شعري واقشعر جلدي واشمأزت نفسي وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر « نور أني أراه » فهو بتنوين نور وبفتح الهمزة في أني وتشديد النون المفتوحة ومعناه : حجابه نور فكيف أراه قال الماوردي الضمير في أراه عائد على الله تعالى والمعنى أن النور يمنعني من الرؤية كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ومنعها من إدراك ما حال بين الرائي وبينه وفي رواية رأيت نوراً معناه : رأيت النور فحسب ولم أر غيره وفي رواية ذاته نور أني أراه ومعناه هو خالق النور المانع من رؤيته فيكون من صفات الأفعال ومن المستحيل أن تكون ذات الله نوراً إذ النور من جملة الأجسام والله يتعالى عن ذلك هذا مذهب جميع أئمة المسلمين والله أعلم .(6/2)
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)
{ ومناة } قيل : هي لخزاعة كانت بقديد وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت حذو قديد وقيل : هي بيت بالمشلل كانت تعبده بنو كعب . وقيل : مناة ، صنم لهذيل وخزاعة وكانت تعبدها أهل مكة وقيل : اللات والعزى ومناة أصنام من الحجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها { الثالثة الأخرى } الثالثة نعت لمناة إذ هي الثالثة في الذكر وأما الأخرى فإن العرب لا تقول الثالثة الأخرى وإنما الأخرى هنا نعت للثلاثة قال الخليل : قالها لوفاق رؤوس الآي كقوله { مآرب أخرى } ولم يقل أخر .
وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديره أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة .
وقيل : هي صفة ذم كأنه تعالى قال ومناة الثالثة المتأخرة الذليلة . فعلى هذا فالأصنام ترتب مراتب ، وذلك لأن اللات كان صنماً على صورة آدمي والعزّى شجرة فهي نبات ومناة صخرة فهي جماد وهي في أخريات المراتب . ومعنى الآية : هل رأيتم هذه الأصنام حق الرؤية ، وإذا رأيتموها علمتم أنها لا تصلح للعبادة لأنها لا تضر ولا تنفع وقيل : أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله ألكم الذكر وله الأنثى . وقيل : كان المشركون بمكة يقولون : الأصنام والملائكة بنات الله وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره ذلك فقال الله عز وجل منكراً عليهم { ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى } قال ابن عباس : أي قسمة جائرة حيث جعلتم لربكم ما تكرهون لأنفسكم وقيل : قسمة عوجاء غير معتدلة { إن هي } أي ما هذه الأصنام { إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } والمعنى : أنكم سميتموها آلهة وليست حقيقة ولا بمعبودة حقيقة وقيل : معناه قلتم لبعضها عزى ولا عزة لها فلا يكون لها مسمى حقيقة .
{ ما أنزل الله بها من سلطان } أي حجة بما تقولون إنها آلهة { إن يتبعون إلا الظن } أي في قولهن إنها آلهة { وما تهوى الأنفس } يعني هو ما زين لهم الشيطان من عبادة الأصنام وقيل : وضعوا عبادتهم بمقتضى شهواتهم والذي ينبغي أن تكون العبادة بمقتضى الشرع لا بمتابعة هوى النفس { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } أي البيان بالكتاب المنزل والنبي المرسل أن الأصنام ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار .(6/3)
أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
{ أم للإنسان ما تمنى } معناه أيظن الكافر أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام أي ليس الأمر كما يظن ويتمنى { فلله الآخرة والأولى } أي لا يملك أحد فيها شيئاً أبداً إلا بإذنه وقيل : معناه أن الإنسان إذا اختار معبوداً على ما تمناه واشتهاه فلله الآخرة والأولى يعاقبه على فعله ذلك إن شاء في الدنيا والآخرة وإن شاء أمهله إلى الآخرة { وكم من ملك في السموات } أي ممن يعبدهم هؤلاء ويرجون شفاعتهم عند الله { لا تغني شفاعتهم شيئاً } يعني أن الملائكة ، مع علو منزلتهم ، لا تغني شفاعتهم ، شيئاً فكيف تشفع الأصنام مع حقارتها ثم أخبر أن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه فقال تعالى : { إلا من بعد أن يأذن الله } أي في الشفاعة { لمن يشاء ويرضى } أي من أهل التوحيد قال ابن عباس يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه وقيل : إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة في الشفاعة لمن شاء الشفاعة له { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة } يعني الكفار الذين أنكروا البعث { ليسمون الملائكة تسمية الأنثى } أي بتسمية الأنثى حيث قالوا إنهم بنات الله . فإن قلت كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث .
قلت المراد منه بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمناسبته رؤوس الآي وقيل : إن كل واحد من الملائكة يسمونه تسمية الأنثى وذلك لأنهم إذا قالوا الملائكة بنات الله فقد سموا كل واحد منهم بنتاً وهي تسمية الأنثى { وما لهم به من علم } يعني بالله فيشركون به ويجعلون له ولداً وقيل : ما يستيقنون أن الملائكة أناث { إن يتبعون إلا الظن } يعني في تسمية الملائكة بالإناث { وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً } يعني لا يقوم الظن مقام العلم الذي هو الحق وقيل معناه إنما يدرك الحق الذي هو حقيقة الشيء بالعلم واليقين لا بالظن والتوهم وقيل : الحق هو الله تعالى والمعنى أن الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون { فأعرض عمن تولى عن ذكرنا } يعني القرآن .
وقيل : عن الإيمان { ولم يرد إلا الحياة الدنيا } يعني أنهم لا يؤمنون بالآخرة حتى يردوها ويعملوا لها وفيه إشارة إلى إنكارهم الحشر ثم صغر رأيهم فقال تعالى : { ذلك مبلغهم من العلم } أي ذلك نهاية علمهم وقلة عقولهم أن آثروا الدنيا على الآخرة وقيل : معناه أنهم لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله وأنهم يشفعون لهم فاعتمدوا على ذلك وأعرضوا عن القرآن والإيمان { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } أي هو عالم بالفريقين ويجازيهم بأعمالهم .(6/4)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
{ ولله ما في السموات وما في الأرض } وهذه إشارة إلى كمال قدرته وغناه وهو معترض بين الآية الأولى وبين قوله { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا } . والمعنى :
إذا كان أعلم بهم جازى كل أحد بما يستحقه فيجزي الذين أساؤوا أي أشركوا بما عملوا من الشرك { ويجزي الذين أحسنوا } أي وحدوا ربهم { بالحسنى } يعني الجنة وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك كامل القدرة فلذلك قال ولله ما في السموات وما في الأرض ثم وصف المحسنين فقال عز وجل : { الذين يجتنبون كبائر الإثم } قيل : الإثم ، الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب وقيل : هو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب ، وقيل : هو فعل ما لا يحل وقيل : الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر وجمعه آثام والكبيرة متعارفة في كل ذنب تعظم عقوبته وجمعه كبائر { والفواحش } جمع فاحشة ، وهي ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال وقيل : هي ما فحش من الكبائر { إلا اللمم } أي إلا ما قل وصغر من الذنوب وقيل : هي مقاربة المعصية من قولك ألممت بكذا إذا قاربته من غير مواقعة واختلفوا في معنى الآية فقيل هذا استثناء صحيح واللمم من الكبائر والفواحش ومعنى الآية : إلا إن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب أو يقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواية عن ابن عباس . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك . وقال أبو صالح : سئلت عن قول الله عز وجل إلا اللمم فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أعانك عليها ملك كريم . عن ابن عباس في قوله عز وجل : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن تغفر اللهم تغفر جماً وأي عبد لك لا ألما » أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح غريب وقيل : أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ولا يكون له إعادة ولا إقامة وقيل : هو استثناء منقطع مجازه لكن اللمم ولم يجعل اللمم من الكبائر والفواحش ثم اختلفوا في معناه فقيل هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به في الإسلام وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا فأنزل الله عز وجل هذه الآية وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن سلم . وقيل : اللمم هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة ونحو ذلك مما هو دون الزنى وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروق والشعبي والرواية الأخرى عن ابن عباس ( ق ) عن ابن عباس قال « ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه » .(6/5)
ولمسلم قال : « كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه » وقيل : اللمم على وجهين ، أحدهما أنه كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس وصوم رمضان ما لم يبلغ الكبائر والفواحش .
والوجه الثاني : هو الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه وقيل : هو ما لم على القلب أي خطر وقيل : اللمم النظرة من غير عمد فهو مغفور فإن أعاد النظر فليس بلمم فهو ذنب والله سبحانه وتعالى أعلم .
( فصل : في بيان الكبيرة وحدها وتمييزها عن الصغيرة )
قال العلماء : أكبر الكبائر الشرك بالله وهو ظاهر لا خفاء به لقوله تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } ويليه القتل بغير حق فأما ما سواهما من الزنا واللواط وشرب الخمر وشهادة الزور وأكل مال اليتيم بغير حق والسحر وقذف المحصنات وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وأكل الربا وغير ذلك من الكبائر التي ورد بها النص فلها تفاصيل وأحكام تعرف بها مراتبها ويختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المرتبة عليها . فعلى هذا يقال في كل واحدة منها ، هي من أكبر الكبائر بالنسبة إلى ما دونها .
وقد جاء عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعين أقرب .
وفي وراية إلى سبعمائة أقرب وقد اختلف العلماء في حد الكبيرة وتمييزها عن الصغيرة فجاء عن ابن عباس : كل شيء نهى الله عنه فهو كبيرة . وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني وحكاه القاضي عياض عن المحققين واحتج القائلون بهذا بأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال الله كبيرة وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر وقد تظاهرت على ذلك دلائل الكتاب والسنة واستعمال سلف الأئمة . وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر ، فقد اختلف في ضبطها ، فروي عن ابن عباس أنه قال : الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب وعن الحسن نحو هذا وقيل : هي ما وعد الله عليه بنار في الآخرة وأحد في الدنيا . وقال الغزالي : في البسيط الضابط الشامل في ضبط الكبيرة أن كل معصية يقدم عليها المرء من غير استشعار خوف أو استحداث ندم كالمتهاون في ارتكابها والمستجرىء عليها اعتياداً فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة وما تحمل عليه فلتات النفس وفترة مراقبة التقوى ولا ينفك عن ندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس بكبيرة .(6/6)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36)
{ أفرأيت الذي تولى } نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه فغيره بعض المشركين وقالوا : أتركت دين الأشياخ وضللت . قال : إني خشيت عذاب الله فضمن له الذي عاتبه إن أعطاه كذا من ماله ورجع إلى الشرك أن يتحمل عنه عذاب الله فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى للذي عيره بعض الذي ضمن له من المال ومنعه تمامه فأنزل الله أفرأيت الذي تولى يعني أدبر وأعرض عن الإيمان { وأعطى } يعني لصاحبه الذي عيره { قليلاً وأكدى } أي بخل بالباقي . وقيل : أعطى قليلاً يعني من الخير بلسانه وأكدى يعني قطعه وأمسك ولم يعم بالعطية .
وقيل : نزلت في العاص بن وائل السهمي وذلك أنه كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور .
وقيل : نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله : وأعطى قليلاً وأكدى يعني لم يؤمن به ومعنى الآية أكدى يعني قطع وأصله من الكدية وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر { أعنده علم الغيب فهو يرى } أي ما غاب عنه يعني أن صاحبه يتحمل عنه عذابه { أم لم ينبأ } يعني يخبر { بما في صحف موسى } يعني أسفار التوراة .(6/7)
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
{ وإبراهيم } يعني ويخبر بما في صحف إبراهيم { الذي وفى } يعني كمل وتمم مما أمر به وقيل : عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه إلى خلقه وقيل وفى فرض عليه وقيل قام بذبح ولده وقيل استكمل الطاعة . وقيل : وفى بما فرض عليه في سهام الإسلام وهو قوله { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن } والتوفية الإتمام . وقيل : وفي شأن المناسك . وروى البغوي بسنده عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم الذي وفى عمله كل يوم بأربع ركعات أول النهار .
عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى أنه قال « ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره » أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب ثم بين ما في صحفهما فقال تعالى : { ألا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى . والمعنى : لا تؤخذ نفس بإثم غيرها . وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإثم . وقال ابن عباس : كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره كان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وامرأته وعبده حتى كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله تعالى : { ألا تزر وازرة وزر أخرى } { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي عمل وهذا في صحف إبراهيم وموسى أيضاً قال ابن عباس هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله تعالى : { ألحقنا بهم ذريتهم } فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء وقيل كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى فأما هذه الأمة فلها ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لما روي عن ابن عباس « أن امرأة رفعت صبياً لها فقالت يا رسول الله ألهذا حج؟ قال نعم ولك أجراً » أخرجه مسلم وعنه « أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال نعم » .
وفي رواية أن سعد بن عبادة أخا بني سعد وذكر نحوه وأخرجه البخاري وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « إن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال نعم . » أخرجاه في الصحيحين . وفي حديث ابن عباس دليل لمذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام بل يقع تطوعاً . وقال أبو حنيفة : لا يصح حجه وإنما يكون ذلك تمريناً للعبادة . وفي الحديثين الآخرين دليل على أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصله ثوابها .(6/8)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)
{ وأن إلى ربك المنتهى } أي إليه منتهى الخلق ومصيرهم إليه في الآخرة وهو مجازيهم بأعمالهم وفي المخاطب بهذا وجهان أحدهما أنه عام تقديره وأن إلى ربك أيها السامع أو العاقل كائناً من كان المنتهى فهو تهديد بليغ للمسيء وحث شديد للمحسن ليقلع المسيء عن إساءته ويزداد المحسن في إحسانه الوجه الثاني أن المخاطب بهذا النبي صلى الله عليه وسلم فعلى هذا ، ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم . والمعنى : لا تحزن فإن إلى ربك المنتهى . وقيل . في معنى الآية : منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال . وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { وأن إلى ربك المنتهى } قال لا فكرة في الرب .
وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعاً : « تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنه لا تحيط به الفكرة » ومعناه : لا فكرة في الرب أي انتهى الأمر إليه لأنك إذا نظرت إلى سائر الموجودات الممكنة علمت أن لا بد لها من موجد وإذا علمت أن موجدها هو الله تعالى فقد انتهى الأمر إليه فهو إشارة إلى وجوده ووحدانيته سبحانه وتعالى : { وأنه هو أضحك وأبكى } أي هو القادر على إيجاد الضدين في محل واحد الضحك والبكاء ففيه دليل على أن جميع ما يعمله الإنسان فبقضاء الله وقدره وخلقه حتى الضحك والبكاء وقيل أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار قيل أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر وقيل : أفرح وأحزن ، لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء عن جابر بن سمرة قال « جلست مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت وربما تبسم معهم إذا ضحكوا » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .
وفي رواية سماك بن حرب : فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا يعني النبي صلى الله عليه وسلم . وسئل ابن عمر : هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال : نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل ( ق ) .
عن أنس قال : « خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين » وهو بالخاء المعجمة أي بكاء مع صوت يخرج من الأنف { وأنه هو أمات وأحيا } أي أمات في الدنيا وأحيا للبعث . وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء . وقيل : أمات الكافر بالنكرة وأحيا المؤمن بالمعرفة { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى } أي من كل حيوان وهو أيضاً من جملة المتضادات التي تتوارد على النطفة فيخلق بعضها ذكراً وبعضها أنثى وهذا شيء لا يصل إليه فهم العقلاء ولا يعلمونه وإنما هو بقدرة الله تعالى وخلقه لا بفعل الطبيعة { من نطفة إذا تمنى } أي تصب في الرحم .(6/9)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)
{ وأنه هو أغنى وأقنى } أي أغنى الناس بالأموال وأعطى القنية وهي أصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية . وقيل : أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية . وأقنى : بالإبل والبقر والغنم . وقيل : أقنى أي أخدم .
وقال ابن عباس : أغنى وأقنى ، أي أعطى فأرضى . وقيل : أغنى يعني رفع حاجته ولم يتركه محتاجاً إلى شيء لأن الغنى ضد الفقر ، وأقنى : أي زاد فوق الغنى { وأنه هو رب الشعرى } أي أنه رب معبودهم وكانت خزاعة تعبد الشعرى وأول من سن لهم ذلك الرجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها وقال : لأن النجوم تقطع السماء عرضاً والشعرى تقطعها طولاً فهي مخالفة لها فعبدها وعبدتها خزاعة فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلاف العرب في الدين سموه ابن أبي كبشة تشبيهاً له في خلافه إياهم كما خالفهم أبو كبشة وعبد الشعرى وهو كوكب يضيء خلف الجوازء ويسمى كلب الجبار أيضاً وهما اثنتان : يمانية وشامية يقال لإحداهما العبور والأخرى الغميصاء . سميت بذلك لأنها أخفى من العبور والمجرة بينهما . وأراد بالشعرى هنا العبور { وأنه أهلك عاداً الأولى } وهم قوم هود أهلكوا بريح صرصر وكان لهم عقب فكانوا عاداً أخرى وقيل : الأخرى إرم . وقيل : الأولى يعني أول الخلق هلاكاً بعد قوم نوح { وثمود } وهم قوم صالح أهلكهم الله بالصيحة { فما أبقى } يعني منهم أحداً { وقوم نوح من قبل } يعني أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود بالغرق { إنهم كانوا هم أظلم وأطغى } يعني لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم على الله بالمعصية والتكذيب { والمؤتفكة } يعني قرى قوم لوط { أهوى } أي أسقط وذلك أن جبريل رفعها إلى السماء ثم أهوى بها { فغشاها } أي ألبسها الله { ما غشى } يعني الحجارة المنضودة المسومة { فبأي آلاء ربك تتمارى } أي تشكُّ أيها الإنسان . وقيل : أراد الوليد بن المغيرة . قال ابن عباس : تتمارى أي تكذب { هذا نذير } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { من النذر الأولى } أي رسول من الرسل المتقدمة أرسل إليكم كما أرسلت الرسل إلى قومهم وقيل : أنذر محمد كما أنذرت الرسل من قبله .(6/10)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
{ أزفت الآزفة } أي قربت القيامة واقتربت الساعة { ليس لها من دون الله كاشفة } أي مظهرة ومبينة متى تقوم . وقيل : معناه ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله غير أنه لا يكشفها . وقيل : الكاشفة مصدر بمعنى الكشف كالعافية . والمعنى : لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره . وقيل : معناه ليس لها رد يعني : إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد .
قوله تعالى : { أفمن هذا الحديث } يعني القرآن { تعجبون } تنكرون { وتضحكون } أي استهزاء { ولا تبكون } أي مما فيه من الوعيد { وأنتم سامدون } أي لاهون غافلون قاله ابن عباس . وعنه ، أن السمود هو الغناء بلغة أهل اليمن وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا . ولعبوا وأصل السمود في اللغة ، رفع الرأس ، مأخوذ ، من سمد البعير إذا رفع رأسه وجد في سيره والسامد اللاهي والمعنى . وقيل : معناه أشرون بطرون . وقال مجاهد : غضاب مبرطمون قيل له : وما البرطمة؟ قال : الإعراض { فاسجدوا لله } يعني أيها المؤمنون شكراً على الهداية . وقيل : هذا محمول على سجود التلاوة . وقيل : على سجود الفرض في الصلاة { واعبدوا } أي اعبدوا الله وإنما قال : واعبدوا ، إما لكونه معلوماً ، وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلا لله تعالى ( ق ) عن عبد الله بن مسعود : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصباء أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال : يكفيني هذا قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافر » زاد البخاري في رواية له قال : « أول سورة نزلت فيها سجدة النجم وذكره » وقال في آخره وهو « أمية بن خلف » ( خ ) .
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ( ق ) عن زيد بن ثابت قال : « قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد فيها » ففي هذا الحديث دليل على أن سجود التلاوة غير واجب وهو قول الشافعي وأحمد وقال عمر بن الخطاب : إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء وذهب قوم إلى وجوبها على القارىء والمستمع وهو قول سفيان وأصحاب الرأي والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/11)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
قوله عز وجل : { اقتربت الساعة } أي دنت القيامة { وانشق القمر } قيل : فيه تقديم وتأخير تقديره انشق القمر واقتربت الساعة وانشقاق القمر من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهرة ومعجزاته يدل عليه ما روي عن أنس : « أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين » .
أخرجه البخاري ومسلم . وزاد الترمذي فنزلت { اقتربت الساعة وانشق القمر } إلى قوله { سحر مستمر } ولهما عن ابن مسعود . قال : « انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا » وفي رواية أخرى قال : « بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى إذ انفلق القمر فلقتين ، فلقة فوق الجبل ، وفلقة دونه . فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشهدوا » ولهما عن ابن عباس قال : « إن القمر انشق في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم » ( م ) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقتين فستر الجبل فلقة وكانت فلقة فوق الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشهدوا » وعن جبير بن مطعم قال : « انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين فقالت قريش سحر محمد أعيننا ، فقال بعضهم لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم » أخرجه الترمذي وزاد غيره فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم .
قال مقاتل : انشق القمر ثم التأم بعد ذلك . وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش : سحركم ابن أبي كبشة فسألوا السفارة فقالوا : نعم . قد رأيناه فأنزل الله تعالى : { اقتربت الساعة وانشق القمر } . فهذه الأحاديث الصحيحة قد وردت بهذه المعجزة العظيمة ، مع شهادة القرآن المجيد بذلك فإنه أدل دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشك فيه مؤمن وقد أخبر عنه الصادق فيجب الإيمان به واعتقاد وقوعه .
وقال الشيخ محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم ، قال الزجاج : وقد أنكرها بعض المبتدعة المضاهين المخالفي الملة وذلك لما أعمى الله قلبه ولا إنكار للعقل فيها لأن القمر مخلوق لله تعالى يفعل فيه ما يشاء كما يفنيه ويكوره في آخر أمره . فأما قول بعض الملاحدة لو وقع هذا النقل متواتراً واشترك أهل الأرض كلهم في رؤيتهم له ومعرفته ولم يختص بها أهل مكة فأجاب العلماء عن هذا بأن هذا الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون والأبواب مغلقة وهم مغطون بثيابهم فقل من يتفكر في السماء أو ينظر إليها إلا الشاذ النادر .(6/12)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
{ ولقد جاءهم } يعني أهل مكة { من الأنباء } أي من أخبار الأمم الماضية المكذبة في القرآن { ما فيه مزدجر } أي منتهى وموعظة { حكمة بالغة } يعني القرآن حكمة تامة قد بلغت الغاية { فما تغني النذر } يعني أي غنى تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم { فتول عنهم } أي أعرض عنهم نسختها آية القتال { يوم يدع الداع } أي اذكر يا محمد يوم يدع الداعي وهو إسرافيل ينفخ في الصور قائماً على صخرة بيت المقدس { إلى شيء نكر } أي منكر فظيع لم يروا مثله ، فينكرونه استعظاماً له { خشعاً } وقرىء خاشعاً { أبصارهم } أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب { يخرجون من الأجداث } يعني من القبور { كأنهم جراد منتشر } مثل في كثرتهم وتموج بعضهم في بعض حيارى فزعين .(6/13)
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)
{ مهطعين } مسرعين مادي أعناقهم مقبلين { إلى الداع } يعني إلى صوت الداعي وهو إسرافيل وقيل ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم { يقول الكافرون هذا يوم عسر } أي صعب شديد وفيه إشارة إلى أن ذلك اليوم يوم شديد على الكافرين لا على المؤمنين .
قوله تعالى : { كذبت قبلهم } أي قبل أهل مكة { قوم نوح فكذبوا عبدنا } يعني نوحاً { وقالوا مجنون وازدجر } أي زجروه على دعوته ومقالته بالشم والوعيد بقولهم { لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين } { فدعا } يعني نوحاً { ربه } وقال { إني مغلوب } أي مقهور { فانتصر } أي فانتقم لي منهم { ففتحنا أبواب السماء } قيل هو على ظاهره وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا يستبعد ذلك لأنه قد صح في الحديث أن للسماء أبواباً . وقيل : هو على الاستعارة ، فإن الظاهر أن يكون المطر من السحاب { بماء منهمر } أي منصب انصباباً شديداً لم ينقطع أربعين يوماً { وفجرنا الأرض عيوناً } أي وجعلنا الأرض كلها عيوناً تسيل بالماء { فالتقى الماء } يعني ماء السماء وماء الأرض { على أمر قد قدر } أي قضى عليهم في أم الكتاب .
وقيل قدر الله أن يكون الماءان سواء فكانا على ما قدر { وحملناه } يعني نوحاً { على ذات ألواح } يعني سفينة ذات ألواح . وأراد بالألواح ، خشب السفينة العريضة . { ودسر } هي المسامير التي تشد بها الألواح وقيل الدسر صدر السفينة . وقيل : هي عوارض السفينة وأضلاعها .
وقيل : الألواح : جانبا السفينة ، والدسر : أصلها وطرفاها . { تجري } يعني السفينة { بأعيننا } يعني بمرأى منا . وقيل : بحفظنا . وقيل : بأمرنا { جزاء لمن كان كفر } يعني فعلنا ذلك به وبهم من إنجاء نوح وإغراق قومه ثواباً لنوح لأنه كان كفر به وجحد أمره . وقيل لمن بمعنى لما أي جزاء لما كان كفر من أيادي الله ونعمه عند الذين أغرقهم . وقيل : جزاء لما صنع بنوح وأصحابه .(6/14)
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)
{ ولقد تركناها آية } يعني الفعلة التي فعلنا بهم آية يعتبر بها . وقيل : أراد السفينة . قال قتادة : أبقاها الله تعالى بأرض الجزيرة عبرة حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة { فهل من مدكر } يعني متذكر معتبر متعظ خائف مثل عقوبتهم ( ق ) عن ابن مسعود قال « قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكر فردها عليّ » وفي رواية أخرى « سمعته يقرؤها فهل من مدكر دالاً » { فكيف كان عذابي ونذر } يعني إنذاري { ولقد يسرنا القرآن } يعني سهلنا القرآن { للذكر } يعني ليتذكر ويعتبر به قال سعيد بن جبير يسرناه للحفظ والقراءة وليس شيء من كتب الله تعالى يقرأ كله ظاهراً إلا القرآن { فهل من مدكر } يعني متعظ بمواعظه وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير والعربي والعجمي وغيرهم .
قوله تعالى : { كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر } أي إنذاري لهم بالعذاب { إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } أي شديدة الهبوب { في يوم نحس } أي يوم شؤم { مستمر } أي دائم الشؤم استمر على جميعهم بنحو سنة فلم يبق منهم أحد إلا هلك فيه .
وقيل : كان ذلك اليوم يوم الأربعاء في آخر الشهر { تنزع الناس } أي الريح تقلعهم ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم . قيل : كانت تنزعهم من حفرهم { كأنهم أعجاز نخل } قال ابن عباس : أصول نخل { منقعر } أي منقطع من مكانه ساقط على الأرض . قيل : كانت الريح تبين رؤوسهم من أجسامهم فتبقي أجسامهم بلا رؤوس كعجز النخلة الملقاة { فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت ثمود بالنذر } أي بالإنذار الذي جاء به صالح { فقالوا أبشراً منا واحداً } يعني آدمياً واحداً منا { نتبعه } أي ونحن جماعة كثيرون { إنا إذاً لفي ضلال } أي خطأ وذهاب عن الصواب { وسعر } قال ابن عباس : عذاب . وقيل : شدة عذاب وقيل إنا لفي عناء وعذاب مما يلزمنا من طاعته . وقيل : لفي جنون . وقيل : لفي بعد عن الحق .(6/15)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
{ أألقي الذكر عليه } يعني أأنزل الوحي عليه { من بيننا بل هو كذاب أشر } أي بطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بادعائه النبوة { سيعلمون غداً } أي حين ينزل بهم العذاب . وقيل : يعني يوم القيامة وإنما ذكر الغد للتقريب { من الكذاب الأشر } أي صالح أم من كذبه { إنا مرسلوا الناقة } أي باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا ، وذلك أنهم تعنتوا على صالح فسألوه أن يخرج لهم من صخرة حمراء ناقة عشراء فقال الله تعالى إنا مرسلو الناقة { فتنة } أي محنة واختباراً { لهم فارتقبهم } أي فانتظر ما هم صانعون { واصطبر } أي على أذاهم { ونبئهم } أي أخبرهم { أن الماء قسمة بينهم } أي بين الناقة وبينهم لها يوم ولهم يوم وإنما قال تعالى بينهم تغليباً للعقلاء { كل شرب } أي نصيب من الماء { محتضر } أي يحضره من كانت نوبته فإذا كان يوم الناقة حضرت شربها وإذا كان يومهم حضروا شربهم . وقيل : يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة فإذا جاءت حضروا اللبن { فنادوا صاحبهم } يعني قدار بن سالف { فتعاطى } أي فتناول الناقة بسيفه { فعقر } يعني الناقة { فكيف كان عذابي ونذر } ثم بين عذابهم فقال تعالى : { إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة } يعني صيحة جبريل { فكانوا كهشيم المحتظر } قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الرجل يحظر لغنمه حظيرة من الشجر والشوك دون السباع فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم . وقيل : هو الشجر البالي الذي يهشم حين تذروه الرياح .
والمعنى : أنهم صاروا كيبيس الشجر إذا بلي وتحطم وقيل كالعظام النخرة المحترقة وقيل هو التراب يتناثر من الحائط .(6/16)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } .
قوله تعالى : { كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصباً } يعني الحصباء وهي الحجارة التي دون ملء الكف وقد يكون الحاصب الرامي ، فعلى هذا ، يكون المعنى إنا أرسلنا عليهم عذاباً يحصبهم أي يرميهم بالحجارة ثم استثنى .
فقال تعالى : { إلا آل لوط } يعني لوطاً وابنتيه { نجيناهم } يعني من العذاب { بسحر نعمة من عندنا } أي جعلناه نعمة منا عليهم حيث نجيناهم { كذلك نجزي } أي كما أنعمنا على آل لوط كذلك نجزي { من شكر } يعني أن من وحد الله لم يعذبه مع المشركين { ولقد أنذرهم } أي لوط { بطشتنا } يعني أخذنا إياهم بالعقوبة { فتماروا بالنذر } أي شكوا بالإنذار ولم يصدقوا وكذبوا { ولقد راودوه عن ضيفه } أي طلبوا منه أن يسلم إليهم أضيافه { فطمسنا أعينهم } وذلك أنهم لما قصدوا دار لوط عالجوا الباب ليدخلوا عليهم فقالت الرسل للوط خل بينهم وبين الدخول فإنا رسل ربك لن يصلوا إليك فدخلوا الدار فصفقهم جبريل بجناحه فتركهم عمياً بإذن الله يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب وأخرجهم لوط عمياً لا يبصرون .
ومعنى : فطمسنا أعينهم ، يعني صيرناها كسائر الوجه لا يرى لها شق . وقيل : طمس الله أبصارهم فلم يروا الرسل فقالوا لقد رأيناهم حين دخلوا فأين ذهبوا؟ فلم يروهم { فذوقوا عذابي ونذر } يعني ما أنذركم به لوط من العذاب { ولقد صبحهم بكرة } أي جاءهم وقت الصبح { عذاب مستقر } يعني دائم استقر فيهم حتى أفضى بهم إلى عذاب الآخرة { فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }
قوله عز وجل : { ولقد جاء آل فرعون النذر } يعني موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام . وقيل : النذر ، الآيات التي أنذرهم بها موسى { كذبوا بآياتنا كلها } يعني الآيات التسع { فأخذناهم } يعني بالعذاب { أخذ عزيز مقتدر } يعني غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه عما أراد ثم خوف كفار مكة .(6/17)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
{ أكفاركم خير من أولئكم } يعني أقوى وأشد من الذين أحللت بهم نقمتي مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون وهذا استفهام إنكار ، أي ، ليسوا بأقوى منهم { أم لكم براءة } يعني من العذاب { في الزبر } أي في الكتب أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية { أم يقولون } يعني كفار مكة { نحن جميع } يعني أمرنا { منتصر } يعني من أعدائنا والمعنى : نحن يد واحدة على من خالفنا منصرون ممن عادانا . ولم يقل منصرون لموافقة رؤوس الآي . وقيل : معناه نحن كل واحد منا منتصر كما يقال : كلهم عالم ، يعني : كل واحد منهم عالم . قال الله تعالى : { سيهزم الجمع } يعني كفار مكة { ويولون الدبر } يعني الأدبار فوحد لأجل رؤوس الآي . وقيل في الإفراد ، إشارة إلى أنهم في التولية والهزيمة كنفس واحدة ، فلا يتخلف أحد عن الهزيمة ولا يثبت أحد للزحف فَهُمْ في ذلك كرجل واحد ( خ ) .
عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة يوم بدر « اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد هذا اليوم أبداً فأخذ ابو بكر بيده فقال : حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك فخرج وهو في الدرع وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر » { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } فصدق الله وعده وهزمهم يوم بدر .
وقال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما نزلت سيهزم الجمع ويولون الدبر : كنت لا أدري أي جمع يهزم ، فلما كان يوم بدر ، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في درعه ويقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر فعلمت تأويلها { بل الساعة موعدهم } يعني جميعاً والساعة أدهى وأمر ، أي أعظم داهية وأشد مرارة من الأسر والقتل يوم بدر .
قوله عز وجل : { إن المجرمين } يعني المشركين { في ضلال وسعر } قيل في بعد عن الحق وسعر أي نار تسعر عليهم .
وقيل : في ضلال في الدنيا ونار مسعرة في الآخرة . وقيل : في ضلال ، أي عن طريق الجنة وسعر أي عذاب الآخرة ثم بين عذابهم فقال تعالى : { يوم يسحبون } أي يجرون { في النار على وجوههم } ويقال لهم { ذوقوا مس سقر } أي ذوقوا أيها المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم مس سقر .(6/18)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } أي مقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ . وقيل : معناه قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له . وقال ابن عباس : كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك .
( فصل في سبب نزول الآية وما ورد في القدر وما قيل فيه )
( م ) « عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض وخمسين ألف سنة » قال وعرشه على الماء ( م ) .
عن أبي هريرة قال : « جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية { إن المجرمين في ضلال وسعر } إلى قوله { إنا كل شيء خلقناه بقدر } ( م ) عن طاوس قال : أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : كل شيء بقدر الله تعالى قال : وسمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز » .
عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، وبالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر » أخرجه الترمذي . وله عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه » وقال : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن ميمون وهو منكر الحديث . وفي حديث جبريل المتفق عليه : وتؤمن بالقدر خيره وشره . قال : صدقت ففيه ذم القدرية .
عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه وهم من شيعة الدجال وحق على الله أن يلحقهم بالدجال » .
أخرجه أبو داود وله عن أبي هريرة مثله « وزاد فلا تجالسوهم ولا تفاتحوهم في الكلام » .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية » أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب .
وروى ابن الجوزي في تفسيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أمر منادياً فينادي نداء يسمعه الأولون والآخرون أي خصماء الله فتقوم القدرية فيأمر بهم إلى النار يقول الله ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر » .(6/19)
قال ابن الجوزي : وإنما قيل : خصماء الله ، لأنهم يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها . وروي عن الحسن قال : والله لو أن قدرياً صام حتى يصير كالحبل ، وصلّى حتى يصير كالوتر ، ثم أخذ ظلماً حتى يذبح بين الركن والمقام لكبه الله على وجهه في سقر ثم قيل له ذق مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر . قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله اعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر ومعناه أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسن ما قدرها الله تعالى وأنكرت القدرية هذا وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه بها وإنها مستأنفة العلم أي إنما يعلمها سبحانه وتعالى بعد وقوعها وكذبوا على الله سبحانه وتعالى عن أقوالهم الباطلة علواً كبيراً . وسميت هذه الفرقة قدرية ، لإنكارهم القدر . قال أصحاب المقالات من المتكلمين : وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه . وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر ولكن تقول الخير من الله والشر من غيره تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً .
وحكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث ، وأبو المعالي إمام الحرمين في كتابه الإرشاد في أصول الدين ، أن بعض القدرية قالوا : لسنا بقدرية بل أنتم القدرية لاعتقادكم إثبات القدر . قال ابن قتبية وإمام الحرمين : هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهته وتواقح ، فإن أهل الحق يفرضون أمورهم إلى الله تعالى . ويضيفون القدر والأفعال إلى الله تعالى وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره وينفيه عن نفسه .
قال إمام الحرمين : وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « القدرية مجوس هذه الأمة » شبههم بهم لتقسيمهم الخير والشر في حكم الإرادة كما قسمت المجوس فصرفت الخير إلى يزدان والشر إلى أهرمن . ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدرية . وحديث : القدرية مجوس هذه الأمة ، رواه أبو حازم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين . وقال : صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم عن ابن عمر وقال الخطابي : إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس لقولهم بالأصلين : النور والظلمة يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره والله سبحانه وتعالى خالق كل شيء الخير والشر جميعاً لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقاً وإيجاداً وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتساباً .(6/20)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
{ وكل شيء فعلوه } يعني الأشياع من خير وشر { في الزبر } أي في كتب الحفظة وقيل في اللوح المحفوظ { وكل صغير وكبير } أي من الخلق وأعمالهم وآجالهم { مستطر } أي مكتوب .
قوله عز وجل : { إن المتقين في جنات } أي بساتين { ونهر } أي أنهار وإنما وحَّده لموافقة رؤوس الآي وأراد أنها الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل .
وقيل : معناه في ضياء وسعة ومنه النهار والمعنى لا ليل عندهم { في مقعد صدق } أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وقيل في مجلس حسن وقيل في مقعد لا كذب فيه لأن الله صادق فمن وصل إليه امتنع عليه الكذب فهو في مقعد صدق { عند مليك } قيل معناه قرب المنزلة والتشريف لا معنى المكان { مقتدر } أي قادر لا يعجزه شيء وقيل مقربين عند مليك أمره في الملك والاقتدار أعظم شيء ، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته فأي منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها . قال جعفر الصادق : وصف الله تعالى المكان بالصدق ، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق ، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .(6/21)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
قوله عز وجل : { الرحمن علم القرآن } قيل لما نزلت اسجدوا للرحمن قال كفار مكة وما الرحمن فأنكروه وقالوا لا نعرف الرحمن فأنزل الله الرحمن يعني الذي أنكرتموه هو الذي علم القرآن ، وقيل هذا جواب لأهل مكة حين قالوا إنما يعلمه بشر فقال تعالى الرحمن علم القرآن يعني علَّم محمداً القرآن وقيل علَّم القرآن يسره للذكر ليحفظ ويتلى وذلك أن الله عز وجل عد نعمه على عباده فقدم أعظمها نعمة وأعلاها رتبة وهو القرآن العزيز لأنه أعظم وحي الله إلى أنبيائه وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه وأكثره ذكراً وأحسنه في أبواب الدين أثراً وهو سنام الكتب السماوية المنزلة على أفضل البرية { خلق الإنسان } يعني آدم عليه الصلاة والسلام قاله ابن عباس { علمه البيان } يعني أسماء كل شيء وقيل علَّمه اللغات كلها فكان آدم يتكلم بسبعمائة لغة أفضلها العربية وقيل الإنسان اسم جنس وأراد به جميع الناس ، فعلى هذا يكون معنى علمه البيان أي النطق الذي يتميز به عن سائر الحيوانات ، وقيل علمه الكتابة والفهم والإفهام حتى عرف ما يقول وما يقال له وقيل علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به وقيل أراد بالإنسان محمداً صلى الله عليه وسلم علَّمه البيان يعني بيان ما يكون وما كان لأنه صلى الله عليه وسلم ينبىء عن خبر الأولين والآخرين وعن يوم الدين ، وقيل علمه بيان الأحكام من الحلال والحرام والحدود والأحكام .(6/22)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)
{ الشمس والقمر بحسبان } قال ابن عباس يجريان بحساب ومنازل لا يتعديانها وقيل يعني بهما حساب الأوقات والآجال ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب ما يريد ، وقيل الحساب هو الفلك تشبيهاً بحسبان الرحى وهو ما يدور الحجر بدورانه { والنجم والشجر يسجدان } قيل النجم ما ليس له ساق من النبات كالبقول والشجر ما له ساق يبقى في الشتاء وسجودها سجود ظلها وقيل النجم هو الكوكب ، وسجوده طلوعه والقول الأول أظهر لأنه ذكره مع الشجر في مقابلة الشمس والقمر ولأنهما أرضيان في مقابلة سماءين { والسماء رفعها } أي فوق الأرض { ووضع الميزان } قيل أراد بالميزان العدل لأنه آلة العدل والمعنى أنه أمر بالعدل يدل عليه قوله { ألا تطغوا في الميزان } أي لا تجاوزوا العدل وقيل أراد به الآلة التي يوزن بها للتوصل إلى الإنصاف والانتصاف وأصل الوزن التقدير أن لا تطغوا في الميزان أي لئلا تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق في الميزان { وأقيموا الوزن بالقسط } يعني بالعدل وقيل أقيموا لسان الميزان بالعدل وقيل الإقامة باليد والقسط بالقلب { ولا تخسروا } أي لا تنقصوا { الميزان } أي لا تطففوا في الكيل والوزن أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان وكرر لفظ الميزان تشديداً للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه { والأرض وضعها } أي خفضها مدحوة على الماء { للأنام } يعني للخلق الذين بثهم فيها وهو كل ما ظهر عليها من دابة وقيل للإنس والجن فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها { فيها } يعني في الأرض { فاكهة } يعني من أنواع الفاكهة وقيل ما يتفكهون به من النعم التي لا تحصى { والنخل ذات الأكمام } يعني الأوعية التي يكون فيها الثمر لأن ثمر النخل يكون في غلاف وهو الطلع ما لم ينشق وكل شيء ستر شيئاً فهو كم وقيل أكمامها ليفها واقتصر على ذكر النخل من بين سائر الشجر لأنه أعظمها وأكثرها بركة .(6/23)
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)
{ والحب } يعني جميع الحبوب التي يقتات بها كالحنطة والشعير ونحوهما وإنما أخَّر ذكر الحب على سبيل الارتقاء إلى الأعلى لأن الحب أنفع من النخل وأعم وجوداً في الأماكن { ذو العصف } قال ابن عباس يعني التبن وعنه أنه ورق الزرع الأخضر إذ قطع رؤوسه ويبس وقيل هو ورق كل شيء يخرج منه الحب يبدو صلاحه ولا ورق وهو العصف ثم يكون سوقاً ثم يحدث الله فيه أكماماً ثم يحدث في الأكمام الحب { والريحان } يعني الرزق قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل ريحان في القرآن فهو رزق وقيل هو الريحان الذي يشم ، وقيل : العصف التبن والريحان ثمرته فذكر قوت الناس والأنعام ثم خاطب الجن والإنس فقال تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } يعني أيها الثقلان يريد هذه الأشياء المذكورة وكرر هذه الآية في هذه الصورة في أحد وثلاثين موضعاً تقريراً للنعمة وتأكيداً في التذكير بها ، ثم عدد على الخلق آلاءه وفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ليفهمهم النعم ويقررهم بها كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع إليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها ألم تكن فقيراً فأغنيتك أفتنكر هذا؟ الم تكن عرياناً فكسوتك أفتنكر هذا؟ ألم تكن حاملاً فعززتك أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب حسن تقريراً وذلك لأن الله تعالى ذكر في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان وتعليمه البيان وخلق الشمس والقمر والسماء والأرض إلى غير ذلك مما أنعم به على خلقه وخاطب الجن والإنس فقال فبأي آلاء ربكما تكذبان من الأشياء المذكورة لأنها كلها منعم بها عليكم . عن جابر رضي الله تعالى عنه قال « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم كنت كلما أتيت على قوله فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وفي رواية غيره « كانوا أحسن منكم رداً وفيه ولا بشيء » قوله تعالى : { خلق الإنسان من صلصال } يعني من طين يابس له صلصلة وهو الصوت منه إذا نقر { كالفخار } يعني الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف .
فإن قلت قد اختلفت العبارات في صفة خلق الإنسان الذي هو آدم فقال تعالى من تراب وقال من حمإ مسنون وقال من طين لازب وقال من ماء مهين وقال هنا من صلصال كالفخار قلت ليس في هذه العبارات اختلاف بل المعنى متفق وذلك أن الله تعالى خلقه أولاً من تراب ثم جعله طيناً لازباً لما اختلط بالماء ثم حمأ مسنوناً وهو الطين الأسود المنتن فلما يبس صار صلصالاً كالفخار { وخلق الجان } وهو أبو الجن . وقيل هو إبليس { من مارج من نار } يعني الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه ، وقيل هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر الذي يعلو النار إذا أوقدت .(6/24)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان رب المشرقين } يعني مشرق الصيف وهو غاية ارتفاع الشمس ومشرق الشتاء وهو غاية انحطاط الشمس . { ورب المغربين } يعني مغرب الصيف ومغرب الشتاء ، وقيل يعني مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرب الشمس ومغرب القمر { فبأي آلاء ربكما تكذبان مرج البحرين } يعني أرسل البحرين العذب والملح متجاورين متلاقين لا فصل بين الماءين لأن من شأنهما الاختلاط وهو قوله : { يلتقيان } لكن الله تعالى منعهما عما في طبعهما بالبرزخ وهو قوله : { بينهما برزخ } أي حاجز من قدرة الله { لا يبغيان } أي لا يبغي أحدهما على صاحبه وقيل لا يختلطان ولا يتغيران وقيل لا يطغيان على الناس بالغرق وقيل مرج البحرين بحر الروم وبحر الهند وأنتم الحاجز بينهما وقيل بحر فارس والروم بينهما برزخ يعني الجزائر وقيل بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان في كل عام { فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما } قيل إنما يخرج من البحر الملح دون العذب فهو كقوله { وجعل القمر فيهن نوراً } وقيل أراد يخرج من أحدهما فحذف المضاف وقيل لما التقى البحران فصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرج منهما كما يقال يخرج من البحر ولا يخرج من جميع البحر ولكن من بعضه وقيل يخرج من السماء وماء البحر قيل إذا أمطرت السماء تفتح الأصداف أفواهها فحيثما وقعت قطرة صارت لؤلؤة على قدر القطرة ، وقوله تعالى : { اللؤلؤ } قيل هو ما عظم من الدر { والمرجان } صغاره وقيل بعكس ذلك وقيل المرجان هو الخرز الأحمر { فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار } يعني السفن الكبار { المنشآت } أي المرفوعات التي يرفع خشبها بعضه على بعض وقيل هي ما رفع قلعها من السفن أما ما لم يرفع قلعها فليست من المنشآت وقيل معنى المنشآت المحدثات المخلوقات المسخرات { في البحر كالأعلام } أي كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل شبه السفن في البحر بالجبل في البر { فبأي آلاء ربكما تكذبان } .(6/25)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)
{ كل من عليها } أي على الأرض من حيوان وإنما ذكره بلفظة من تغليباً للعقلاء { فان } أي هالك لأن وجود الإنسان في الدنيا عرض فهو غير باق وما ليس بباق فهو فان ففيه الحث على العبادة وصرف الزمن اليسير إلى الطاعة { ويبقى وجه ربك } يعني ذاته والوجه يعبر به عن الجملة .
وفي المخاطب وجهان أحدهما أنه كل واحد والمعنى ويبقى وجه ربك أيها الإنسان السامع .
والوجه الثاني : أنه يحتمل أن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم { ذو الجلال } أي ذو العظمة والكبرياء ومعناه الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه { والإكرام } أي المكرم لأنبيائه وأوليائه وجميع خلقه بلطفه وإحسانه إليهم مع جلاله وعظمته { فبأي ألاء ربكما تكذبان } عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام » أخرجه الترمذي وقال الحاكم حديث صحيح الإسناد ومعنى ألظوا الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها .
قوله تعالى : { يسأله من في السموات والأرض } يعني من ملك وإنس وجن فلا يستغني عن فضله أهل السموات والأرض قال ابن عباس فأهل السموات يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة وقيل كل أحد يسأل الرحمة وما يحتاج إليه في دينه أو دنياه وفيه إشارة إلى كمال قدرة الله تعالى وأن كل مخلوق وإن جل وعظم فهو عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه مفتقر إلى الله تعالى : { كل يوم هو في شأن } قيل نزلت رداً على اليهود حيث قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً قال المفسرون من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق ويعز قوماً ويذل قوماً ويشفي مريضاً ويمرض صحيحاً ويفك عانياً ويفرج عن مكروب ويجيب داعياً ويعطي سائلاً ويغفر ذنباً إلا ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء سبحانه وتعالى وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال « إن مما خلق الله عز وجل لوحاً من درة بيضاء دفتاه من ياقوته حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى : { كل يوم هو في شأن } قال ابن عيينة الدهر كله عند الله يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة والشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة أيام الدنيا الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب ، وقال الحسين بن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت ومعناه إن الله عز وجل كتب ما يكون في كل يوم وقدر ما هو كائن فإذا جاء ذلك الوقت تعلقت إرادته بالفعل فيوجده في ذلك الوقت وقال أبو سليمان الداراني في هذه الآية له في كل يوم إلى العبيد بر جديد وقيل شأنه تعالى أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكراً من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وعسكراً من الأرحام إلى الدنيا وعسكراً من الدنيا إلى القبور ثم يرتحلون جميعاً إلى الله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان سنفرغ لكم أيه الثقلان } قيل هو وعيد من الله تعالى للخلق بالمحاسبة وليس هو فراغ عن شغل لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن فهو كقول القائل لمن يريد تهديده لأتفرغن لك وما به شغل وهذا قول ابن عباس وإنما حسن ذكر هذا الفراغ لسبق ذكر الشأن وقيل معناه سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم فهو كقول للقائل الذي لا شغل له قد فرغت لك وقيل معناه أن الله وعد أهل التقوى وأوعد أهل الفجور فقال سنفرغ لكم مما وعدناكم وأخبرناكم فنحاسبكم ونجازيكم فننجز لكم ما وعدناكم فنتم ذلك ونفرغ منه فهو على طريق المثل وأراد بالثقلين الإنس والجن سميا ثقلين لأنهما ثقلا على الأرض أحياء وأمواتاً ، وقيل كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم(6/26)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا } أي تخرجوا { من أقطار السموات والأرض } أي جوانبهما وأطرافهما { فانفذوا } أي فاخرجوا والمعنى إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهربوا واخرجوا منها فحيثما كنتم يدرككم الموت وقيل يقال لهم هذا يوم القيامة والمعنى إن استطعتم أن تخرجوا من أقطار السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فاخرجوا وقيل معناه إن استطعتم أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكي ومن سمائي وأرضي فافعلوا وقدم الجن على الإنس في هذه الآية لأنهم أقدر على النفوذ والهرب من الإنس وأقوى على ذلك ثم قال تعالى : { لا تنفذون إلا بسلطان } يعني لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة وقهر وغلبة وأني لكم ذلك لأنكم حيثما توجهتم كنتم في ملكي وسلطاني وقال ابن عباس معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ولن تعلموه إلا بسلطان أي بينة من الله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } وفي الخبر « يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادي » { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض } الآية فذلك قوله تعالى : { يرسل عليكما شواظ من نار } قال أكثر المفسرين هو اللهب الذي لا دخان فيه وقيل هو اللهب الأخضر المنقطع من النار { ونحاس } وقيل هو الدخان وهو رواية عن ابن عباس وقيل هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم وهو الرواية الثانية عن ابن عباس وقال ابن مسعود النحاس المهل وقيل يرسل عليهما هذا مرة وهذا مرة وقيل يجوز أن يرسلا معاً من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر { فلا تنتصران } أي فلا تمتنعان من الله ولا يكون لكم ناصر منه .(6/27)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان فإذا انشقت السماء } أي انفرجت فصارت أبواباً لنزول الملائكة وقيل المراد منه خراب السماء وذلك لما قال كل من عليها فان إشارة إلى أهل الأرض ذكر في هذه الآية بيان حال سكان السماء وقيل فيه تهويل وتعظيم للأمر لأن فيه إشارة إلى ما هو أعظم من إرسال الشواظ على الإنس والجن وهو تشقق السماء وذوبانها وهو قوله تعالى : { فكانت وردة كالدهان } جمع دهن شبه تلون السماء عند انشقاقها بتلون الفرس الورد وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة وقيل إن السماء تتلون يومئذ ألواناً كألوان الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي أول الشتاء أحمر فإذا اشتد البرد صار أغبر فشبه السماء في تلونها عند انشقاقها بهذا الفرس في تلونه وقيل كالدهان أي كعصير الزيت لأنه يتلون في الساعة ألواناً وقيل تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصلها حر جهنم وقيل كالدهان أي كالأديم الأحمر { فبأي آلاء ربكما تكذبان فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } قيل لا يسألون عن ذنوبهم لتعلم من جهتهم لأن الله تعالى علمها منهم وكتبتها الحفظة عليهم وهذه رواية عن ابن بعاس وعنه لا تسأل الملائكة المجرمين لأنهم يعرفون بسيماهم دليله ما بعده وعن ابن عباس أيضاً في الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } قال لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم ولكنه يسألهم لم عملتم كذا وكذا وقيل إنها مواطن فيسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها وعن ابن عباس أيضاً قال لا يسألون سؤال شفقة ورحمة إنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ وقيل لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم { فبأي آلاء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم } ، يعني بسواد وجوههم وزرقة عيونهم { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } قيل تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف ظهره وقيل تجعل رؤوسهم على ركبهم ونواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة وقيل يسحب بعضهم بالنواصي وبعضهم بالأقدام ثم يلقون في النار .(6/28)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان هذه جهنم } أي يقال لهم هذه جهنم ثم يلقون فيها { التي يكذب بها المجرمون } يعني المشركين { يطوفون بينها وبين حميم آن } يعني قد انتهى حره ى أنهم يسعون بين الحميم وبين الجحيم فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الأنى الذي قد صار كالمهل وقال كعب الأحبار آن واد من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً فيلقون في النار فذلك قوله تعالى : { يطوفون بينها وبين حميم آن } { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإن قلت هذه الأمور المذكورة في هذه الآيات من قوله : { كل من عليها فان } إلى هنا ليست نعماً فكيف عقبها بقوله { فبأي آلاء ربكما تكذبان } .
قلت المذكور في هذه الآيات مواعظ وزواجر وتخويف وكل ذلك نعمة من الله تعالى لأنها تزجر العبد عن المعاصي فصارت نعماً فحسن ختم كل آية منها بقوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ثم ذكر ما أعده لمن اتقاه وخافه من عباده المؤمنين فقال تعالى : { ولمن خاف مقام ربه } يعني مقامه بين يدي ربه للحساب فترك الشهوة والمعصية وقيل قيام ربه عليه يعني اطلاعه عليه وهو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله واطلاعه عليه فيدعها من مخافة الله وقيل لمن راقب الله في السر والعلانية بعمله فما عرض له من محرم تركه من خشيته وما عمل من خير أخلصه لله ولا يحب أن يطلع عليه أحد قيل إن المؤمنين خافوا ذلك المقام فعملوا لله مع الإخلاص ودأبوا الليل والنهار { جنتان } يعني جنة عدن وجنة نعيم وقيل جنة بخوفه ربه وجنة بتركه شهوته .
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة » أخرجه الترمذي قوله أدلج الإدلاج محففاً سير أول الليل ومثقلاً سير آخر الليل والمراد من الإدلاج التشمير والجد والاجتهاد في أول الأمر فإن من سار أول الليل كان جديراً ببلوغ المنزل وروى البغوي بسنده عن أبي ذر « أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت وإن زنى وإن سرق؟ فقال وإن زنى وإن سرق ثم قال ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت الثانية وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال وإن زنى وإن سرق ثم قال ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت الثالثة وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر » .(6/29)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } ثم وصف الجنتين فقال تعالى : { ذواتا أفنان } أي أغصان واحدها فنن وهو الغصن المستقيم طولاً وقيل ذواتا ظلال وهو ظل الأغصان على الحيطان ، وقال ابن عباس ذواتا ألوان يعني ألوان الفواكه وجمع عطاء بين القولين فقال في كل غصن فنون من الفاكهة وقيل ذواتا فضل وسعة على ما سواهما ، { فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان } قال ابن عباس بالكرامة والزيادة لأهل الجنة وقيل تجريان بالماء الزلال إحداهما التسليم والأخرى السلسبيل وقيل إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين { فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان } أي صنفان ونوعان وقيل معناه إن فيهما من كل ما يتفكه به ضربين رطباً ويابساً قال ابن عباس ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو { فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على فرش } جمع فراش { بطائنها } جمع بطانة والتي تلي الأرض من تحت الظهارة { من استبرق } وهو ما غلظ من الديباج قال ابن مسعود وأبو هريرة هذه البطائن فما ظنكم بالظهائر وقيل لسعيد بن جبير البطائن من استبرق فما الظهائر؟ قال هي مما قال الله تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } وعنه أيضاً قال بطائنها من استبرق وظواهرها من نور جامد وقال ابن عباس وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظواهر وقيل ظواهرها من سندس وهو الديباج الرقيق الناعم وهذا يدل على نهاية شرف هذه الفرش لأنه ذكر أن بطائنها من الإستبرق ولا بد أن تكون الظهائر خيراً من البطائن فهو مما لا يعلمه البشر ، { وجنى الجنتين دان } يعني أن ثمرهما قريب يناله القائم والقاعد والنائم وهذا بخلاف ثمر الدنيا فإنها لا تنال إلا بكدٍّ وتعب قال ابن عباس تدنو الشجرة حتى يجنيها ولي الله إن شاء قائماً وإن شاء قاعداً وقيل لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك .(6/30)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن } فإن قلت الضمير إلى ماذا يعود؟
قلت إلى الجنتين وإنما جمع بقوله فيهن لاشتمال الجنتين على مساكن وقصور ومجالس { قاصرات الطرف } أي غاضات الأعين قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم ولا يردن سواهم قيل تقول الزوجة لزوجها وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجتك { لم يطمثهن } أي لم يجامعهن ولم يفرعهن والمعنى لم يدمهن بالجماع وقيل معناه لم يمسهن ومنه قول الفرزدق :
خرجن إلي لم يطمثن قبل ... وهن أصح من بيض النعام
أي لم يمسسني والمعنى لم يطأهن ولم يغشهن { إنس قبلهم } أي قبل أزواجهن من أهل الجنة ، { ولا جان } قيل إنما نفي الجن لأن لهم أزواجاً في الجنة منهم وفي الآية دليل على أن الجني يغشى كما يغشى الإنسي وسئل ضمرة بن حبيب هل للجن ثواب؟ فقال نعم وقرأ هذه الآية ثم قال الإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال مجاهد في هذه الآية إذا جامع ولم يسم انطوى الجني على إحليله فجامع معه واختلف في هؤلاء اللواتي لم يطمثن فقيل هن الحور العين لأنهن خلقن في الجنة فلم يمسهن أحد قبل أزواجهن وقيل إنهن من نساء الدنيا أنشئن خلقاً آخر أبكاراً كما وصفهن .
لم يمسهن منذ أنشئن خلقاً آخر أحد وقيل هن الآدميات اللاتي متن أبكاراً ومعنى الآية المبالغة في نفي الطمث نهن لأن ذلك أقر لأعين أزواجهن إذا لم يغشهن أحد غيرهم { فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان } أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان وهو صغار اللؤلؤ وأشده بياضاً وقيل شبه لونهن ببياض اللؤلؤ مع حمرة الياقوت لأن أحسن الألوان البياض المشوب بحمرة والأصح أنه شبههن بالياقوت لصفائه لأنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصفيته لرأيت السلك من ظاهره لصفائه وقال عمرو بن ميمون إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء الحلل كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء يدل على صحة ذلك ما روي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها وذلك لأن الله تعالى يقول كأنهن الياقوت والمرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصفيته لرأيته من ورائه » أخرجه الترمذي قال وقد روي عن ابن مسعود بمعناه ولم يرفعه وهو أصح ( ق ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر » زاد في رواية « ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبصقون فيها ولا يتمخطون ولا يتغوطون آنيتهم الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشياً » ، وللبخاري « قلوبهم على قلب رجل واحد » وزاد فيه « ولا يسقمون » قوله مجامرهم الألوة يعني بخورهم العود .(6/31)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة وقال ابن عباس هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة . روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ثم قال « هل تدرون ما قال ربكم » ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال « يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة » ، وروى الواحدي بغير سند عن ابن عمر وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية « يقول الله عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي » ، وقيل في معنى الآية هل جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يؤتى في مقابلته بفعل حسن وفي الآية إشارة إلى رفع التكليف في الآخرة لأن الله وعد المؤمنين بالإحسان وهو الجنة فلو بقي التكليف في الآخرة وتركه العبد لاستحق العقاب على ترك العمل والعقاب ترك الإحسان إليه فلا تكليف { فبأي آلاء ربكما تكذبان ومن دونهما جنتان } أي ومن دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان وقال ابن عباس من دونهما في الدرج وقيل في الفضل وقال أبو موسى الأشعري جنتان من ذهب للسابقين وجنتان من فضة للنابعين وقال ابن جريج هن أربع جنان : جنتان للمقربين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان وجنتان لأصحاب اليمين والتابعين فيهما فاكهة ونخل ورمان ، ( ق ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن » وقال الكناني ومن دونهما جنتان يعني أمامهما وقبلهما يدل عليه قول الضحاك الجنتان الأوليان من ذهب وفضة والجنتان الأخريان من ياقوت وزبرجد وهما أفضل من الأوليين { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ثم وصف الجنتين فقال تعالى : { مدهامتان } أي سوداوان من ريهما وشدة خضرتهما لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد ، { فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان } أي فوارتان بالماء لا ينقطعان وقال ابن عباس والضحاك ينضخان بالخير والبركة على أهل الجنة وقال ابن مسعود ينضخان بالمسك والكافور على أولياء الله وقال أنس بن مالك ينضخان بالمسك والعنبر في دور أهل الجنة كطش المطر .(6/32)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان } يعني فيهما من أنواع الفواكه كلها وإنما عطف النخل والرمان بالواو وإن كانا من جملة الفواكه تنبيهاً على فضلهما وشرفهما على سائر الفواكه وعلى هذا القول عامة المفسرين وأهل اللغة قالوا إنما فضلهما بالذكر للتخصيص والتفضيل فهو كقوله من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال خصهما بالذكر وإن كان من جملة الملائكة لشرفهما وفضلهما وقيل بعضهم ليس النخل والرمان من الفواكه لأن ثمرة النخل فاكهة وطعام وثمرة الرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه ولهذا قال أبو حنيفة إذا حلف لا يأكل الفاكهة فأكل رطباً أو رماناً لم يحنث وخالفه صاحباه وهذا القول خلاف قول أهل اللغة ولا حجة له في الآية وروى البغوي بسنده عن ابن عباس موقوفاً قال نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرمها ذهب أحمر وسعفها كسوة لأهل الجنة منها حللهم وثمرها مثل القلال أو الدلاء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس له عجم وروي أن الرمانة من رمان الجنة مثل البعير المقتب وقيل إن نخل أهل الجنة نضيد وثمرها كالقلال كلما نزعت منها واحدة عادت مكانها أخرى العنقود منها اثني عشر ذراعاً ، { فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن } أي في الجنان الأربع { خيرات حسان } روي عن أم سلمة قالت قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني عن قوله خيرات حسان قال « خيرات الأخلاق حسان الوجوه » ، { فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات } أي مخدرات مستورات لا يخرجن لكوامتهن وشرفهن روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض ولملأت ما بينهما ريحاً ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها » وقيل قصرن أطرافهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلاً { في الخيام } قيل هي البيوت . قال ابن الأعرابي الخيمة لا تكون إلا من أربعة أعواد ثم تسقف بالثمام ويقال خيم فلان خيمة إذا بناها من جريد النخل وخيم بها إذا قام بها وتظلل فيها وقيل كل خيامها من در ولؤلؤ وزبرجد مجوف تضاف إلى القصور في الجنة . ( ق ) عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء وفي رواية عرضها ستون ميلاً للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً » { فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } تقدم تفسيره ، { فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر } قيل الرفرف رياض الجنة خضر مخصبة ويروى هذا عن ابن عباس وقيل إن الرفرف البسط ، وعن ابن عباس الرفرف فضول المجالس والبسط منه وقيل هي مجالس خضر فوق الفرش وقيل هي المرافق وقيل الزرابي وقيل كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف { وعبقري حسان } قيل هي الزرابي والطنافس الثخان وقيل هي الطنافس الرقاق وقيل كل ثوب موشى عند العرب فهو عبقري وقال الخليل كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم فهو عبقري عند العرب ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر(6/33)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } قيل لما ختم نعم الدنيا بقوله { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وفيه إشارة إلى أن الباقي هو الله تعالى وأن الدنيا فانية ختم نعمة الآخرة بهذه الآية وهو إشارة إلى تمجيده وتحميده ( م ) عن ثوبان قال « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام » وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام » أخرجه أبو داود والنسائي غير قولها لم يقعد إلا مقدار ما يقول والله أعلم بمراده .(6/34)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)
قوله عز وجل : { إذا وقعت الواقعة } يعني إذا قامت القيامة وقيل إذا نزلت صيحة القيامة وهي النفخة الأخيرة وقيل الواقعة اسم للقيامة كالآزفة ، { ليس لوقعتها } يعني لمجيئها { كاذبة } يعني ليس لها كذب والمعنى أنها تقع حقاً وصدقاً وقيل معناه ليس لوقعتها قصة كاذبة أي كل ما أخبر الله عنها وقص من خبرها قصة صادقة غير كاذبة وقيل معناه ليس لوقعتها نفس كاذبة أي إن كل من يخبر عن وقوعها صادق غير كاذب لم تكذب نفس أخبرت عن وقوعها ، { خافضة رافعة } أي تخفض أقواماً إلى النار وترفع أقواماً إلى الجنة وقال ابن عباس تخفض أقواماً كانوا في الدنيا مرتفعين وترفع أقواماً كانوا في الدنيا مستضعفين وقيل تخفض أقواماً بالمعصية وترفع أقواماً بالطاعة ، { إذا رجت الأرض رجاً } أي إذا حركت وزلزلت زلزالاً وذلك أن الله عز وجل إذا أوحى إليها اضطربت فرقاً وخوفاً قال المفسرون ترج كما يرج الصبي في المهد حتى ينهدم كل بناء عليها وينكسر كل ما فيها من جبال وغيرها وهو قوله تعالى : { وبست الجبال بسا } أي فتتت حتى صارت كالدقيق المبسوس وهو المبلول وقيل صارت كثيباً مهبلاً بعد أن كانت شامخة وقيل معناه قلعت من أصلها وسيرت على وجه الأرض حتى ذهب بها { فكانت هباء منبثاً } أي غباراً متفرقاً كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل الكوة وهو الهباء ، { وكنتم أزواجاً } أي أصنافاً { ثلاثة } ثم فسر الأزواج فقال تعالى : { فأصحاب الميمنة } يعني أصحاب اليمين .
والميمنة ناحية اليمين وهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة وقال ابن عباس هم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه وقال الله تعالى : « هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي » وقيل هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وقيل هم الذين كانوا ميامين أي مباركين على أنفسهم وكانت أعمالهم صالحة في طاعة الله وهم التابعون بإحسان { ما أصحاب الميمنة } تعجيب من حالهم في السعادة . والمعنى أي شيء هم .(6/35)
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
{ وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة } يعني أصحاب الشمال وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار وقال ابن عباس هم الذين كانوا على شمال آدم عند إخراج الذرية وقال الله تعالى لهم : « هؤلاء إلى النار ولا أبالي » وقيل هم الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم وقيل هم المشائيم على أنفسهم وكانت أعمالهم في المعاصي لأن العرب تسمي اليد اليسرى الشؤمى ، { والسابقون السابقون } قال ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة السابقون في الآخرة إلى الجنة وقيل هم السابقون إلى الإسلام وقيل هم الذين صلوا إلى القبلتين من المهاجرين والأنصار وقيل هم السابقون إلى الصلوات الخمس وقيل إلى الجهاد وقيل هم المسارعون إلى التوبة وإلى ما دعا الله إليه من أعمال البر والخير وقيل هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة .
فإن قلت لمَ أخر ذكر السابقين وكانوا أولى بالتقديم عن أصحاب اليمين .
قلت فيه لطيفة وذلك أن الله تعالى ذكر في أول السورة من الأمور الهائلة عند قيام الساعة تخويفاً لعباده فإما محسن فيزداد رغبة في الثواب وإما مسيء فيرجع عن إساءته خوفاً من العقاب فلذلك قدم أصحاب اليمين ليسمعوا ويرغبوا ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا ثم ذكر السابقين وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ليجتهد أصحاب اليمين في القرب من جهنم ثم أثنى على السابقين فقال تعالى : { أولئك المقربون } يعني من الله في جواره وفي ظل عرشه ودار كرامته وهو قوله : { في جنات النعيم } قوله تعالى : { ثلة } أي جماعة غير محصورة العدد ، { من الأولين } يعني من الأمم الماضية من لدن آدم إلى زمن نبينا { وقليل من الآخرين } يعني من هذه الأمة وذلك لأن الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدقوهم من الأمم الماضية أكثر ممن عاين النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به وقيل إن الأولين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل من الآخرين أي ممن جاء بعدهم من الصحابة ، { على سرر موضونة } أي منسوجة من الذهب والجوهر وقيل موضونة يعني مصفوفة { متكئين عليها } أي على السرر { متقابلين } يعني لا ينظر بعضهم في قفا بعض وصفوا بحسن العشرة في المجالسة وقيل لأنهم صاروا أرواحاً نورانية صافية ليس لهم أدبار وظهور .(6/36)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
{ يطوف عليهم } أي للخدمة { ولدان } أي غلمان { مخلدون } لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون ولا ينتقلون من حالة إلى حالة وقيل مخلدون مفرطون والخلد القرط وهو الحلقة تعلق في الأذن واختلفوا في هؤلاء الولدان فقيل هم أولاد المؤمنين الذين ماتوا أطفالاً وفيه ضعف لأن الله أخبر أنه يلحقهم بآبائهم ولأن من المؤمنين من لا ولد له فلو خدمه ولد غيره كان منقصة بأبي الخادم وقيل هم صغار الكفار الذين ماتوا قبل التكليف وهذا القول أقرب من الأول لأنه قد اختلف في أولاد المشركين على ثلاثة مذاهب فقال الأكثرون هم في النار تبعاً لآبائهم وتوقف فيهم طائفة والمذهب الثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ولكل مذهب دليل ليس هذا موضعه ، وقيل هم أطفال ماتوا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها ومن قال بهذه الأقوال يعلل بأن الجنة ليس فيها ولادة والقول الصحيح الذي لا معدل عنه إن شاء الله إنهم ولدان خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة كالحور وإن لم يولدوا ولم يحصلوا عن ولادة أطلق عليهم اسم الولدان لأن العرب تسمي الغلام وليداً ما لم يحتلم والأمة وليدة وإن أسنت ، { بأكواب } جمع كوب وهي الأقداح المستديرة الأفواه لا آذان لها ولا عرا { وأباريق } جمع إبريق وهي ذوات الخراطيم والعرا سميت أباريق لبريق لونها من الصفاء وقيل لأنها يرى باطنها كما يرى ظاهرها ، { وكأس من معين } أي من خمرة جارية { لا يصدعون عنها } أي لا تصدع رؤوسهم من شربها وعنها كناية عن الكأس وقيل لا يتفرقون عنها { ولا ينزفون } أي لا يغلب على عقولهم ولا يسكرون منها وقرىء بكسر الزاي ومعناه لا ينفد شرابهم ، { وفاكهة مما يتخيرون } أي يأخذون خيارها { ولحم طير مما يشتهون } قال ابن عباس يخطر على قلبه لحم الطير فيطير ممثلاً بين يديه على ما اشتهى وقيل إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير .
فإن قلت هل في تخصيص الفاكهة بالتخير واللحم بالاشتهاء بلاغة؟ .
قلت نعم وكيف لا وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة وفصاحة والذي يظهر فيه أن اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم وإذا حضرا عند الشبعان تميل نفسه إلى الفاكهة فالجائع مشته والشبعان غير مشته بل هو مختار وأهل الجنة إنما يأكلون لا من جوع بل للتفكه فميلهم إلى الفاكهة أكثر فيتخيرنها ولهذا ذكرت في مواضع كثيرة من القرآن بخلاف اللحم وإذا اشتهاه حضر بين يديه على ما يشتهيه فتميل نفسه إليه أدنى ميل ولهذا قدم الفاكهة على اللحم والله أعلم ، { وحور عين } أي ويطوف عليهم حور عين وقيل لهم حور عين وجاء في تفسير حور أي بيض عين أي ضخام العيون { كأمثال اللؤلؤ المكنون } أي المخزون في الصدف المصون الذي لم تمسه الأيدي ولم تقع عليه الشمس والهواء فيكون في نهاية الصفاء روي « أنه سطع نور في الجنة فقيل ما هذا؟ قيل ضوء ثغر حوراء ضحكت » وروي « أن الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقيها وتمجيد الأسورة من ساعديها وإن عقد الياقوت يضحك من نحرها وفي رجليها نعلان من ذهب شراكها من لؤلؤ يصران بالتسبيح » .(6/37)
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31)
{ جزاء بما كانوا يعملون } أي فعلنا ذلك بهم جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا بطاعتنا { لا يسمعون فيها } أي في الجنة ، { لغواً } قيل اللغو ما يرغب عنه من الكلام ويستحق أن يلغى وقيل هو القبيح من القول والمعنى ليس فيها لغو فيسمع { ولا تأثيماً } قيل معناه أن بعضهم لا يقول لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم كما يتكلم به أهل الدنيا وقيل معناه لا يأتون تأثيماً أي ما هو سبب التأثيم من قول أو فعل قبيح { إلا قيلاً } معناه لكن يقولون قيلاً أو يسمعون قيلاً { سلاماً سلاماً } يعني يسلم بعضهم على بعض وقيل تسلم الملائكة عليهم أو يرسل الرب بالسلام إليهم وقيل معناه أن قولهم يسلم في اللغو .
ثم ذكر أصحاب اليمين وعجب من شأنهم فقال تعالى : { وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين } لما بين حال السابقين شرع في بيان حال أصحاب اليمين فقال تعالى : { في سدر مخضود } أي لا شوك فيه كأنه خضد شوكه أي قطع ونزع منه وهذا قول ابن عباس وقيل هو الموقر حملاً قيل ثمرها أعظم من القلال وهو النبق قيل لما نظر المسلمون إلى وج وهو واد مخصب بالطائف فأعجبهم سدره فقالوا ليت لنا مثل هذا فأنزل الله هذه الآية { وطلح } قيل هو الموز عند أكثر المفسرين وقيل هو شجر له ظل بارد طيب وقيل هو شجر أم غيلان له شوك ونور طيب الرائحة فخوطبوا ووعدوا بمثل ما يحبون ويعرفون إلا أن فضله على شجر الدنيا كفضل الجنة على الدنيا { منضود } أي متراكم قد نضد بالحمل من أوله إلى آخره ليست له سوق بارزة بل من عروقه إلى أغصانه ثمر وليس شيء من ثمر الجنة في غلاف كثمر الدنيا مثل الباقلاء والجوز ونحوهما بل كلها مأكول ومشروب ومشموم ومنظور إليه ، { وظل ممدود } أي دائم لا تنسخه كظل أهل الدنيا وذلك لأن الجنة ظل كلها لا شمس فيها . ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة واقرؤوا إن شئتم وظل ممدود » وعن ابن عباس في قوله وظل ممدود قال شجرة في الجنة على ساق يخرج إليها أهل الجنة فيتحدثون في أصلها فيشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله عز وجل ريحاً من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا { وماء مسكوب } أي مصبوب يجري دائماً في غير أخدود ولا ينقطع .(6/38)
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)
{ وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة } قال ابن عباس لا تنقطع إذا جنيت ولا تمتنع من أحد إذا أراد أخذها وقيل لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان كما تنقطع ثمار الدنيا في الشتاء ولا يوصل إليها إلا بالثمن وقيل لا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا وجاء في الحديث « ما قطعت ثمرة من ثمار الجنة إلا أبدل الله عز وجل مكانها ضعفين » { وفرش مرفوعة } قال علي مرفوعة على الأسرة وقيل بعضها فوق بعض فهي مرفوعة عالية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم « في قوله : وفرش مرفوعة قال ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قال الترمذي قال بعض أهل العلم معنى هذا الحديث ارتفاعها كما بين السماء والأرض يقول ارتفاع الفرش المرفوعة في الدرجات والدرجات ما بين كل درجتين بين السماء والأرض وقيل أراد بالفرش النساء والعرب تسمي المرأة فراشاً ولباساً على الاستعارة فعلى هذا القول يكون معنى مرفوعة أي رفعن بالفضل والجمال على نساء الدنيا ويدل على هذا التأويل قوله في عقبه ، { إنا أنشأناهن إنشاء } أي خلقناهن خلقاً جديداً قال ابن عباس يعني الآدميات العجائز الشمط يقول خلقناهن بعد الكبر والهرم خلقاً آخر ، { فجعلناهن أبكاراً } يعني عذارى . عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن أنشأناهن إنشاء قال إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشاً رمصاً » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وضعف بعض رواته وروى البغوي بسنده عن الحسن قال « أتت عجوز النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز قال فولت تبكي قال أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى قال { إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً } » هذا حديث مرسل وروي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { إنا أنشأناهن إنشاء } قال « عجائزكن في الدنيا عمشاً رمصاً » { فجعلناهن أبكاراً } وقال المسيب بن شريك هن عجائز الدنيا أنشأهن الله بقدرته خلقاً جديداً كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً وقيل إنهن فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا وقيل هن الحور العين أنشأهن الله لم تقع عليهن ولادة فجعلناهن أبكاراً عذارى وليس هناك وجع .(6/39)
عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
{ عرباً } جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها قاله ابن عباس في رواية عنه وعنه أنها الملقة وقيل الغنجة وعن أسامة بن زيد عن أبيه عرباً قال حسان الكلام { أتراباً } يعني أمثالاً في الخلق وقيل مستويات في السن على سن واحد بنات ثلاث وثلاثين ، عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً مكحلين أبناء ثلاثين أو قال ثلاث وثلاثين سنة » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب { لأصحاب اليمين } يعني أنشأهن لأصحاب اليمين وقيل هذا الذي ذكرنا لأصحاب اليمين { ثلة من الأولين } يعني من المؤمنين الذين هم قبل هذه الأمة { وثلة من الآخرين } يعني من مؤمني هذه الأمة يدل عليه ما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عروة بن رويم قال « لما أنزل الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين بكى عمر فقال يا نبي الله آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منا قليل فأنزل الله عز وجل وثلة من الأولين وثلة من الآخرين فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر فقال قد أنزل الله تعالى فيما قلت فقال رضينا عن ربنا وتصديق نبينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من آدم إلينا ثلة ومنا إلى يوم القيامة ثلة ولا يستتمها الأسودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله » ، ( ق ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد إذ رفع إلى سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ثم نهض فدخل منزله فخاض القوم في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما الذي تخوضون فيه فأخبروه فقال هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ، فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم فقام رجل آخر فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة » الرهيط تصغير رهط وهم دون العشرة وقيل إلى الأربعين .(6/40)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
{ وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال } قد تقدم أنه بمعنى التعجب من حالتهم وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم ثم بين منقلبهم وما أعد لهم من العذاب فقال تعالى : { في سموم } أي في حر النار وقيل في ريح شديد الحرارة { وحميم } أي ماء حار يغلي ، { وظل من يحموم } يعني في ظل من دخان شديد السواد قيل إن النار سواد وأهلها سود وكل شيء فيها أسود وقيل اليحموم اسم من أسماء النار { لا بارد ولا كريم } يعني لا بارد المنزل ولا كريم المنظر وذلك لأن فائدة الظل ترجع إلى أمرين أحدهما دفع الحر والثاني حسن المنظر وكون الإنسان فيه مكرماً وظل أهل النار بخلاف هذا لأنهم في ظل من دخان أسود حار ، ثم بين بما استحقوا ذلك فقال تعالى : { إنهم كانوا قبل ذلك } يعني في الدنيا ، { مترفين } يعني منعمين { وكانوا يصرون على الحنث العظيم } يعني على الذنب الكبير وهو الشرك وقيل الحنث العظيم اليمين الغموس وذلك أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون وكذبوا في ذلك يدل عليه سياق الآية وهو قوله تعالى : { وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون } فرد الله تعالى عليهم بقوله { قل إن الأولين والآخرين } يعني الآباء والأبناء ، { لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } يعني أنهم يجمعون ويحشرون ليوم الحساب { ثم إنكم أيها الضالون } يعني عن الهدى { المكذبون } أي بالبعث والخطاب لكفار مكة وقيل إنه عام مع كل ضال مكذب ، { لآكلون من شجر من زقوم } تقدم تفسيره { فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم } يعني الإبل العطاش قيل إن الهيام داء يصيب الإبل فلا تروى معه ولا تزال تشرب حتى تهلك وقيل الهيم الأرض ذات الرمل التي لا تروى بالماء قيل يلقى على أهل النار العطش فيشربون من الحميم شرب الهيم فلا يروون { هذا نزلهم } يعني ما ذكر من الزقوم والحميم أي رزقهم وغذاؤهم وما أعد لهم { يوم الدين } يعني يوم يجازون بأعمالهم ثم احتج عليهم في البعث(6/41)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
{ نحن خلقناكم } يعني ولم تكونوا شيئاً وأنتم تعلمون ذلك { فلولا } أي فهلا { تصدقون } يعني بالبعث بعد الموت .
قوله عز وجل : { أفرأيتم ما تمنون } يعني ما تصبون في الأرحام من النطف { أأنتم تخلقونه } أي أنتم تخلقون ما تمنون بشراً { أم نحن الخالقون } أي إنه خلق النطفة وصورها وأحياها فلم لا تصدقون بأنه واحد قادر على أن يعيدكم كما أنشأكم احتج عليهم في البعث بالقدرة على ابتداء الخلق ، { نحن قدرنا بينكم الموت } يعني الآجال فمنكم من يبلغ الكبر والهرم ومنكم من يموت صبياً وشاباً وغير ذلك من الآجال القريبة والبعيدة وقيل معناه إنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء شريفهم ووضيعهم فعلى هذا القول يكون معنى قدرنا قضينا ، { وما نحن بمسبوقين } يعني لا يفوتني شيء أريده ولا يمتنع مني أحد وقيل معناه وما نحن بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بأمثالكم وهو قوله تعالى : { على أن نبدل أمثالكم } أي نأتي بخلق مثلكم بدلاً منكم في أسرع حين { وننشئكم } أي نخلقكم { فيما لا تعلمون } أي من الصور والمعنى نغير حليتكم إلى ما هو أسمح منها من أي خلق شئنا وقيل نبدل صفاتكم فنجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم أي إن أردنا أن نفعل ذلك بكم ما فاتنا ، وقال سعيد بن المسيب فيما لا تعلمون في حواصل طيور سود كأنها الخطاطيف تكون ببرهوت وهو واد باليمن وهذه الأقوال كلها تدل على المسخ وعلى أنه لو شاء أن يبدلهم بأمثالهم من بني آدم قدر ولو شاء أن يمسخهم في غير صورهم قدر ، وقال بعض أهل المعاني هذا يدل على النشأة الثانية يكونها الله تعالى في وقت لا يعلمه العباد ولا يعلمون كيفيته كما علموا الإنشاء الأول من جهة التناسل ويكون التقدير على هذا وما نحن بمسبوقين على أن ننشئكم في وقت لا تعلمونه يعني وقت البعث والقيامة ، وفيه فائدة وهو التحريض على العمل الصالح لأن التبديل والإنشاء هو الموت والبعث وإذا كان ذلك واقعاً في الأزمان ولا يعلمه أحد فينبغي أن لا يتكل الإنسان على طول المدة ولا يغفل عن إعداد العدة { ولقد علمتم النشأة الأولى } أي الخلقة الأولى ولم تكونوا شيئاً وفيه تقرير للنشاة الثانية يوم القيامة { فلولا تذكرون } أي بأني قادر على إعادتكم كما قدرت على إبدائكم أول مرة .
قوله تعالى : { أفرأيتم ما تحرثون } لما ذكر الله تعالى ابتداء الخلق وما فيه من دلائل الوحدانية ذكر بعده الرزق لأن به البقاء وذكر أموراً ثلاثة المأكول والمشروب وما به إصلاح المأكول والمشروب ورتبه ترتيباً حسناً فذكر المأكول أولاً لأنه هو الغذاء وأتبعه المشروب لأن به الاستمراء ثم النار التي بها الإصلاح وذكر من أنواع المأكول الحب لأنه هو الأصل ومن المشروب الماء لأنه أيضاً هو الأصل وذكر من المصلحات النار لأن بها إصلاح أكثر الأغذية ، فقوله أفرأيتم ما تحرثون أي ما تثيرون من الأرض وتلقون فيه البذر { أأنتم تزرعونه } أي تنبتونه وتنشئونه حتى يشتد ويقوم على سوقه { أم نحن الزارعون } معناه أأنتم فعلتم ذلك أم الله ولا شك في أن إيجاد احب في السنبل ليس بفعل أحد غير الله تعالى وإن كان إلقاء البذر من فعل الناس ، { لو نشاء لجعلناه } يعني ما تحرثونه وتلقون فيه من البذر ، { حطاماً } أي تبناً لا قمح فيه وقيل هشيماً لا ينتفع به في مطعم ولا غيره وقيل هو جواب لمعاند يقول نحن نحرثه وهو بنفسه يصير زرعاً لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا فرد الله عليّ هذا المعاند بقوله لو نشاء لجعلناه حطاماً فهل تقدرون أنتم على حفظه أو هو يدفع عن نفسه بنفسه تلك الآفات التي تصيبه ولا يشك أحد في أن دفع الآفات ليس إلا بإذن الله وحفظه ، { فظلتم تفكهون } أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم وقيل تندمون على نفقاتكم وقيل تندمون على ما سلف منكم من المعاصي التي أوجبت تلك العقوبة وقيل تتلاومون وقيل تحزنون وقيل هو تلهف على ما فات .(6/42)
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
{ إنا لمغرمون } أي وتقولون فحذف القول ومعنى الغرم ذهاب المال بغير عوض وقيل معناه لموقع بنا وقال ابن عباس رضي الله عنهما لمعذبون يعني أنهم عذبوا بذهاب أموالهم بغير فائدة والمعنى إنا غرمنا الحب الذي بذرناه فذهب بغير عوض ، { بل نحن محرومون } أي ممنوعون والمعنى حرمنا الذي كنا نطلبه من الريع في الزرع ، { أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون } ذكرهم الله تعالى نعمه عليهم بإنزال المطر الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل : { لو نشاء جعلناه أجاجاً } قال ابن عباس شديد الملوحة وقيل مراً لا يمكن شربه { فلولا } أي فلا { تشكرون } يعني نعمة الله عليكم { أفرأيتم النار التي تورون } يعني تقدحون من الزند { أأنتم أنشأتم شجرتها } يعني التي تقدح منها النار وهي المرخ والعفار وهما شجرتان تقدح منهما النار وهما رطبتان وقيل أراد جميع الشجر الذي توقد منه النار { أم نحن المنشئون نحن جعلناها } يعني نار الدنيا { تذكرة } أي للنار الكبرى إذا رأى الرائي هذه النار ذكر بها نار جهنم فيخشى الله ويخاف عقابه وقيل موعظة يتعظ بها المؤمن . ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها » { ومتاعاً } أي بلغة ومنفعة { للمقوين } يعني للمسافرين والمقوي النازل في الأرض القواء وهي القفر الخالية البعيدة من العمران والمعنى أنه ينتفع بها أهل البوادي والسفار فإن منفعتهم أكثر من المقيم فإنهم يوقدونها بالليل لتهرب الشماع ويهتدي بها الضال إلى غير ذلك من المنافع هذا قول أكثر المفسرين وقيل المقوين الذين يستمتعون بها في الظلمة ويصطلون بها من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز إلى غير ذلك من المنافع وقيل المقوي من الأضداد يقال للفقير مقو لخلوه من المال ويقال للغني مقو لقوته على ما يريد والمعنى أن فيها متاعاً ومنفعة للفقراء والأغنياء جميعاً لا غنى لأحد عنها .(6/43)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
{ فسبح باسم ربك العظيم } لما ذكر الله ما يدل على وحدانيته وقدرته وإنعامه على سائر الخلق خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون خطاباً لكل فرد من الناس فقال تعالى فسبح باسم ربك أي برِّىء الله ونزهه عما يقول المشركون في صفته والاسم يكون بمعنى الذات والمعنى فسبح بذات ربك العظيم .
قوله عز وجل : { فلا أقسم } قال أكثر المفسرين معناه فأقسم ولا صلة مؤكدة وقيل لا على أصلها وفي معناها وجهان أحدهما أنها ترجع إلى ما تقدم ومعناها النهي وتقديره فلا تكذبوا ولا تجحدوا ما ذكرته من النعم والحجج .
الوجه الثاني : أن لا رد لما قاله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة والمعنى ليس الأمر كما تقولون ثم استأنف القسم فقال أقسم والمعنى لا والله لا صحة لقول الكفار وقيل إن لا هنا معناها النفي فهو كقول القائل لا تسأل عما جرى وهو يريد تعظيم الأمر لا النهي عن السؤال ، { بمواقع النجوم } قال ابن عباس أراد نجوم القرآن فإنه كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرقاً وقيل أراد مغارب النجوم ومساقطها وقيل أراد منازلها وقيل انكدارها وانتثارها يوم القيامة وقيل مواقعها في اتباع الشياطين عند الرجم { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } قيل هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن والمعنى إن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لانتفعتم بذلك وقيل معنى لو تعلمون أي فاعلموا عظمته وقيل إنه اعتراض بين القسم والمقسم عليه والمعنى فأقسم بمواقع النجوم ، { إنه لقرآن كريم } أي إن الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لقرآن كريم أي عزيز مكرم لأنه كلام الله تعالى ووحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم وقيل الكريم الذي من شأنه أن يعطي الكثير وسمي القرآن كريماً لأنه يفيد الدلائل التي تؤدي إلى الحق في الدين وقيل الكريم اسم جامع لما يحمد والقرآن الكريم لما يحمد فيه من الهدى والنور والبيان والعلم والحكم فالفقيه يستدل به ويأخذ منه والحكيم يستمد منه ويحتج به والأديب يستفيد منه ويتقوى به فكل عالم يطلب أصل علمه منه وقيل سمي كريماً لأن كل أحد يناله ويحفظه من كبير وصغير وذكي وبليد بخلاف غيره من الكتب ، وقيل إن الكلام إذا كرر مراراً يسأمه السامعون ويهون في الأعين وتمله الآذان والقرآن عزيز كريم لا يهون بكثرة التلاوة ولا يخلق بكثرة الترداد ولا يمله السامعون ولا يثقل على الألسنة بل هو غض طري يبقى أبد الدهر كذلك { في كتاب مكنون } أي مصون مستور عند الله تعالى في اللوح المحفوظ من الشياطين من أن يناله بسوء وقيل المراد بالكتاب المصحف ومعنى مكنون مصون محفوظ من التبديل والتحريف والقول الأول أصح ، { لا يمسه } أي ذلك الكتاب المكنون { إلا المطهرون } وهم الملائكة الموصوفون بالطهارة من الشرك والذنوب والأحداث يروى هذا القول عن ابن عباس وأنس وهو قول سعيد بن جبير وأبي العالية وقتادة وابن زيد وقيل هم السفرة الكرام البررة وعلى القول الثاني من أن المراد بالكتاب المصحف فقيل معنى لا يمسه إلا المطهرون أي من الشرك وكان ابن عباس ينهى أن تمكن اليهود والنصارى من قراءة القرآن قال الفراء لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به وقيل معناه لا يقرأه إلا الموحدون وقال قوم معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والجنابات وظاهر الآية نفي ومعناها نهي قالوا لا يجوز للجنب ولا للحائض ولا للمحدث حمل المصحف ولا مسه وهو قول عطاء وطاوس وسالم والقاسم وأكثر أهل العلم وبه قال مالك والشافعي وأكثر الفقهاء يدل عليه ما روى مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم(6/44)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)
{ تنزيل من رب العالمين } صفة للقرآن أي القرآن منزل من عند رب العالمين سمي المنزل تنزيلاً على اتساع اللغة يقال للمقدور قدر وللمخلوق خلق وفيه رد على من قال إن القرآن شعر أو سحر أو كهانة فقال الله تعالى بل القرآن تنزيل من رب العالمين .
قوله عز وجل : { أفبهذا الحديث } يعني القرآن { أنتم } أي يا أهل مكة { مدهنون } قال ابن عباس مكذبون وقيل كافرون والمدهن والمداهن الكذاب والمنافق والإدهان الجري في الباطل على خلاف الظاهر هذا أصله ثم قيل للمكذب والكافر مدهن وإن صرح بالتكذيب والكفر ، { وتجعلون رزقكم } أي حظكم ونصيبكم من القرآن { أنكم تكذبون } قال الحسن في هذه الآية خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب وقال جماعة من المفسرين معناه وتجعلون شكركم أنكم تكذبون أي بنعمة الله عليكم وهذا في الاستسقاء بالأنواء وذلك أنهم كانوا إذا مطروا يقولون مطرنا بنوء كذا ولا يرون ذلك المطر من فضل الله عليهم فقيل لهم أتجعلون رزقكم أي شكركم بما رزقكم التكذيب فمن نسب الإنزال إلى النجم فقد كذب برزق الله تعالى ونعمه وكذب بما جاء به القرآن والمعنى أتجعلون بدل الشكر التكذيب ، ( ق ) عن يزيد بن خالد الجهني قال « صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب » رواه مسلم وفيه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعناه وزاد فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم إلى قوله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ، وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزل الله الغيث فيقولون الكوكب كذا وكذا وفي رواية بكوكب كذا وكذا » عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قال شكركم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا » وفي رواية « بكوكب كذا وكذا » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب .
قوله في أثر سماء أي أثر مطر والنوء الكوكب يقال ناء النجم ينوء إذا سقط وغاب وقيل ناء إذا نهض وطلع واختلف العلماء في معنى الحديث وكفر من قال مطرنا بنوء كذا على قولين أحدهما أنه كفر بالله تعالى سالب لأصل الإيمان مخرج عن ملة الإسلام وذلك فيمن قال ذلك معتقداً أن الكوكب فاعل مدبر منشىء للمطر كما كان بعض الجاهلية يزعم فمن اعتقد هذا فلا شك في كفره ، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء منهم الشافعي وهو ظاهر الحديث وعلى هذا لو قال مطرنا بنوء كذا وكذا وهو معتقد أن إيجاد المطر من الله ورحمته وأن النوء ميقات له ومراده إنا مطرنا في وقت طلوع نجم كذا ولم يقصد إلى فعل النجم كما جاء عن عمر أنه استسقى بالمصلى ثم نادى العباس كم بقي من نوء الثريا؟ فقال إن العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعاً بعد وقوعها فوالله ما مضت تلك السبع حتى غيث الناس وإنما أراد عمركم بقي من الوقت الذي جرت العادة أنه إذا تم أتى الله بالمطر فهذا جائز لا كفر فيه واختلفوا في كراهية هذا والأظهر أنها كراهية تنزيه لا إثم فيها ولا تحريم وسبب هذه الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظن بقائلها ولأنها من شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم ، والقول الثاني في تأويل أصل الحديث أن المراد بالكفر كفر النعمة لله تعالى لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكواكب وهذا جار فيمن لا يعتقد تدبير الكواكب ويؤيد هذا التأويل حديث أبي هريرة(6/45)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
{ ونحن أقرب إليه منكم } أي بالعلم والقدرة والرؤية وقيل ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إلى الميت منكم { ولكن لا تبصرون } أي الذين حضروه من الملائكة لقبض روحه وقيل لا تبصرون أي لا تعلمون ذلك { فلولا إن كنتم غير مدينين } أي مملوكين وقيل محاسبين ومجزيين { ترجعونها إن كنتم صادقين } أي تردون نفس هذا الميت إلى جسده بعد ما بلغت الحلقوم فأجاب عن قوله فلولا إذا بلغت الحلقوم وعن قوله فلولا إن كنتم غير مدينين بجواب واحد وهو قوله ترجعونها والمعنى إن كان الأمر كما تقولون إنه لا بعث ولا حساب ولا إله يجازي فهلا تردون نفس من يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم وإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إلى غيركم وهو الله تعالى فآمنوا به ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم فقال تعالى : { فأما إن كان من المقربين } يعني السابقين . { فروح } أي فله روح وهو الراحة وقيل فله فرح وقيل رحمة { وريحان } أي وله استراحة وقيل رزق وقيل هو الريحان الذي يشم قال أبو العالية لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه فتقبض روحه { وجنة نعيم } أي وله جنة النعيم يفضي إليها في الآخرة قال أبو بكر الوراق الروح النجاة من النار والريحان رضوان دار القرار { وأما إن كان } يعني المتوفى { من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين } أي فسلامة لك يا محمد منهم والمعنى فلا تهتم لهم فإنهم سلموا من عذاب الله أو إنك ترى فيهم ما تحب من السلامة وقيل هو أن الله يتجاوز عن سيئاتهم ويقبل حسناتهم وقيل معناه مسلم لك أنهم من أصحاب اليمين أو يقال لصاحب اليمين مسلم لك أنك من أصحاب اليمين وقيل فسلام عليك من أصحاب اليمين ، { وأما إن كان من المكذبين } أي بالبعث { الضالين } أي عن الهدى وهم أصحاب الشمال .(6/46)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
{ فنزل من حميم } أي الذي يعد لهم حميم جهنم { وتصلية جحيم } أي وإدخال نار عظيمة { إن هذا } يعني ما ذكر من قصة المحتضرين { لهو حق اليقين } أي لا شك فيه وقيل إن هذا الذي قصصناه عليك في هذه السورة من الأقاصيص وما أعد الله لأوليائه من النعم وما أعد لأعدائه من العذاب الأليم وما ذكر مما يدل على وحدانيته يقين لا شك فيه ، { فسبح باسم ربك العظيم } أي فنزه ربك العظيم عن كل سوء وقيل معناه فصل بذكر ربك العظيم وبأمره .
عن عقبة بن عامر الجهني قال « لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال اجعلوها في سجودكم » أخرجه أبو داود عن حذيفة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه « سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى وما أتى على آية رحمة إلا وقف وسأل وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوذ » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وله عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة » ( م ) عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى قال سبحان الله وبحمده » ( ق ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم » هذا الحديث آخر حديث في صحيح البخاري والله أعلم .(6/47)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)
قوله عز وجل : { سبح لله ما في السموات والأرض } يعني كل ذي روح وغيره يسبح الله تعالى فتسبيح العقلاء تنزيه الله عز وجل عن كل سوء وعما لا يليق بجلاله وتسبيح غير العقلاء من ناطق وجماد اختلفوا فيه فقيل تسبيحه دلالته على صانعه فكأنه ناطق بتسبيحه وقيل تسبيحه بالقول يدل عليه قوله { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } أي قولهم والحق أن التسبيح هو القول الذي لا يصدر إلا من العاقل العارف بالله تعالى وما سوى العاقل ففي تسبيحه وجهان أحدهما أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني أن جميع الموجودات بأسرها منقادة له يتصرف فيها كيف يشاء فإن حملنا التسبيح المذكور في الآية على القول كان المراد بقوله ما في السموات والأرض من في السموات وهم الملائكة ومسبحي الأرض وهم المؤمنون العارفون بالله وإن حملنا التسبيح على التسبيح المعنوي فجميع أجزاء السموات وما فيها من شمس وقمر ونجوم وغير ذلك وجميع ذرات الأرضين وما فيها من جبال وبحار وشجر ودواب وغيره ذلك كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال عظمة الله جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته منقادة له يتصرف فيها كيف يشاء .
فإن قلت قد جاء في بعض فواتح السور سبح بلفظ الماضي وفي بعضها يسبح بلفظ المضارع فما معناه .
قلت فيه إشارة إلى كون جميع الأشياء مسبحاً لله أبداً غير مختص بوقت دون وقت بل هي كانت مسبحة أبداً في الماضي وستكون مسبحة أبداً في المستقبل { وهو العزيز } أي الغالب الكامل القدرة الذي لا ينازعه شيء ، { الحكيم } أي الذي جميع أفعاله على وفق الحكمة والصواب { له ملك السموات والأرض } أي أنه الغني عن جميع خلقه وكلهم محتاجون إليه ، { يحيي ويميت } أي يحيي الأموات للبعث ويميت الأحياء في الدنيا { وهو على كل شيء قدير } قوله عز وجل : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن } يعني هو الأول قبل كل شيء بلا ابتداء كان هو ولم يكن شيء موجوداً والآخر بعد فناء كل أحد بلا انتهاء يفني الأشياء ويبقى هو والظاهر الغالب العالي على كل شيء والباطن العالم بكل شيء هذا معنى قول ابن عباس وقيل هو الأول بوجوده ليس قبله شيء والآخر ليس بعده شيء وقيل هو الأول بوجوده في الأزل وقيل الابتداء والآخر بوجوده في الأبد وبعد الانتهاء والظاهر بالدلائل الدالة على وحدانيته والباطن الذي احتجب عن العقول أن تكيفه ، وقيل هو الأول الذي سبق وجوده كل موجود والآخر الذي يبقى بعد كل مفقود وقال الإمام أبو بكر بن الباقلاني معناه أنه تعالى الباقي بصفاته من العلم والقدرة وغيرهما التي كان عليها في الأزل ، ويكون كذلك بعد موت الخلائق وذهاب علومهم وقدرهم وحواسهم وتفرق أجسامهم قال وتعلقت المعتزلة بهذا الاسم فاحتجوا لمذهبهم في فناء الأجسام وذهابها بالكلية قالوا معناه أنه الباقي بعد فناء خلقه ومذهب أهل الحق يعني أهل السنة بخلاف ذلك وأن المراد الآخر بصفاته بعد ذهاب صفاتهم كما يقال آخر من بقي من بني فلان فلان يراد حياته ولا يراد فناء أجسام موتاه وذهابها بالكلية هذا آخر كلام ابن الباقلاني ، وقيل هو الأول السابق للأشياء والآخر الباقي بعد فناء الأحياء والظاهر بحججه الباهرة وبراهينه النيرة الزاهرة وشواهده الدالة على وحدانيته والباطن الذي احتجب عن أبصار الخلق فلا تستوي عليه الكيفية وقيل هو الأول القديم والآخر الرحيم والظاهر الحكيم والباطن العليم ، وقيل هو الأول ببره إذ عرفك توحيده والآخر بجوده إذ عرفك طريق التوبة عما جنيت والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له والباطن بستره إذا عصيت يستر عليك ، وقال الجنيد هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب وسأل عمر كعباً عن هذه الآية فقال معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه الظاهر كعلمه بالباطن { وهو بكل شيء عليم } ( م ) عن سهيل بن أبي صالح قال كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول « اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته » وفي رواية « من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر » وكان يروى ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي هريرة أيضاً قال(6/48)
« بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون ما هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال هذه العنان هذه روايا الأرض يسوقها الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ثم قال هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف ثم قال هل بينكم وبينها؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال بينكم وبينها خمسمائة سنة ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال سماءان بعد ما بينهما خمسمائة سنة حتى عد سبع سموات ما بين كل سماء كما بين السماء والأرض ، ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين ثم قال هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فإنها الأرض ثم قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن تحتها أرضاً أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السابعة السفلى لهبط على الله ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم »(6/49)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
{ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور } تقدم تفسيره .
قوله تعالى : { آمنوا بالله ورسوله } لما ذكر أنواعاً من الدلائل الدالة على التوحيد والعلم والقدرة شرع يخاطب كفار قريش ويأمرهم بالإيمان بالله ورسوله ويأمرهم بترك الدنيا والإعراض عنها والنفقة في جميع وجوه البر وهو قوله تعالى : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } يعني المال الذي كان بيد غيركم فأهلكهم وأعطاكم إياه فكنتم في ذلك المال خلفاء عمن مضى { فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم } يعني وأي عذر لكم في ترك الإيمان بالله والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبرهان والحجج ، { وقد أخذ ميثاقكم } أي أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام بأن الله ربكم لا إله لكم سواه وقيل أخذ ميثاقكم حيث ركب فيكم العقول ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول ، { إن كنتم مؤمنين } أي يوماً ما فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والإعلام ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى : { هو الذي ينزل على عبده } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { آيات بينات } يعني القرآن { ليخرجكم } يعني الله بالقرآن وقيل الرسول بالدعوة { من الظلمات إلى النور } أي من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان { وإن الله بكم لرؤوف رحيم } قوله تعالى : { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض } يقول أي شيء لكم في ترك الإنفاق فيما يقربكم من الله تعالى وأنتم ميتون تاركون أموالكم لغيركم فالأولى أن تنفقوها أنتم فيما يقربكم إلى الله تعالى وتستحقون به الثواب ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله وبالجهاد فقال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } يعني فتح مكة في قول أكثر المفسرين وقيل هو صلح الحديبية ، والمعنى لا يستوي في الفضل من أنفق ماله وقاتل العدو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة مع من أنفق ماله وقاتل بعد الفتح { أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } قال الكلبي إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأنه أول من أسلم وأول من أنفق ماله في سبيل الله وذهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عبد الله بن مسعود أول من أظهر إسلامه سبع منهم النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال « كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فقال أنفق ماله على قبل الفتح قال فإن الله عز وجل يقول اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن الله يقرئك السلام ويقول لك أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط فقال أبو بكر أأسخط على ربي إني على ربي راض إني على ربي راض »(6/50)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
{ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } أي صادقاً محتسباً بالصدقة طيبة بها نفسه وسمي هذا الإنفاق قرضاً من حيث إنه وعد به الجنة تشبيهاً بالقرض قال بعض العلماء القرض لا يكون حسناً حتى تجمع فيه أوصاف عشرة وهي أن يكون المال من الحلال وأن يكون من أجود المال وأن تتصدق به وأنت محتاج إليه وأن تصرف صدقتك إلى الأحوج إليها وأن تكتم الصدقة ما أمكنك وأن لا تتبعها بالمن والأذى وأن تقصد بها وجه الله ولا ترائي بها الناس وأن تستحقر ما تعطي وتتصدق به وإن كان كثيراً وأن يكون من أحب أموالك إليك وأن لا ترى عز نفسك وذل الفقير فهذه عشرة أوصاف إذا اجتمعت في الصدقة كانت قرضاً حسناً ، { فيضاعفه له } يعني يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفاً ، { وله أجر كريم } يعني وذلك الأجر كريم في نفسه .
قوله عز وجل : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات } يعني على الصراط { يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } أي عن أيمانهم وقيل أراد جميع الجوانب فعبر بالبعض عن الكل وذلك دليلهم إلى الجنة ، وقال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه » وقال عبد الله بن مسعود يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتي نوره كالنخلة ومنهم من يؤتي نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويوقد مرة وقيل في معنى الآية يسعى نورهم بين أيديهم أي يعطون كتبهم بأيمانهم وتقول لهم الملائكة { بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا } أي انتظرونا { نقتبس من نوركم } أي نستضيء من نوركم قيل تغشى الناس ظلمة شديدة يوم القيامة فيعطي الله المؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ويعطي المنافقين أيضاً نوراً خديعة لهم فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحاً وظلمة فأطفأت نور المنافقين فذلك قوله تعالى { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين وقيل بل يستضيئون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون بقوا في الظلمة وقالوا للمؤمنين انظرونا نقتبس من نوركم ، { قيل ارجعوا وراءكم } قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون وقيل يقول لهم الملائكة ارجعوا وراءكم من حيث جئتم وقيل ارجعوا إلى الدنيا فاعملوا فيها أعمالاً يجعلها الله لكم نوراً وقيل معناه لا نور لكم عندنا فارجعوا وراءكم { فالتمسوا } أي اطلبوا لأنفسكم هناك { نوراً } أي لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا فيرجعون في طلب النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم ليلقوهم فيميز بينهم وبين المؤمنين فذلك قوله تعالى : { فضرب بينهم } أي المؤمنين والمنافقين { بسور } وهو حائط بين الجنة والنار { له } أي لذلك السور { باب باطنه فيه الرحمة } أي في باطن ذلك السور الرحمة وهي الجنة { وظاهره من قبله العذاب } أي من قبل ذلك الظاهر العذاب وهو النار وروي عن عبد الله بن عمر قال إن السور الذي ذكر في القرآن هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم وقال ابن شريح كان كعب يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس إنه الباب الذي قال الله تعالى : { فضرب بينهم بسور له باب } الآية .(6/51)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
{ ينادونهم } يعني ينادي المنافقون المؤمنين من وراء ذلك السور حين حجز بينهم وبقوا في الظلمة { ألم نكن معكم } أي في الدنيا نصلي ونصوم { قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم } أي أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلها فتنة { وتربصتم } أي بالإيمان والتوبة وقيل تربصتم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقلتم يوشك أن يموت فنستريح منه { وارتبتم } أي شككتم في نبوته وفيما أوعدكم به { وغرتكم الأماني } أي الأباطيل وذلك ما كنتم تتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين { حتى جاء أمر الله } يعني الموت وقيل هو إلقاؤهم في النار وهو قوله تعالى : { وغركم بالله الغرور } يعني الشيطان قال قتادة ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } أي عوض وبدل بأن تفدوا أنفسكم من العذاب وقيل معناه لا يقبل منكم إيمان ولا توبة { ولا من الذين كفروا } يعني المشركين وإنما عطف الكفار على المنافقين وإن كان المنافق كافراً في الحقيقة لأن المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق فحسن عطفه على المنافق { مأواكم النار } أي مصيركم ، { هي مولاكم } أي وليكم وقيل هي أولى بكم لما أسلفتم من الذنوب والمعنى هي التي تلي عليكم لأنها ملكت أمركم وأسلمتم إليها فهي أولى بكم من كل شيء وقيل معنى الآية لا مولى لكم ولا ناصر لأن من كانت النار مولاه فلا مولى له { وبئس المصير } .(6/52)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
قوله تعالى : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } قيل نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة وذلك أنهم قالوا لسلمان الفارسي ذات يوم حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزل { نحن نقص عليك أحسن القصص } فأخبرهم أن القرآن أحسن من غيره فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم عادوا فسألوه مثل ذلك فنزل { الله نزل أحسن الحديث } الآية فكفوا عن سؤاله ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فنزلت هذه الآية فعلى هذا القول يكون تأويل قوله : { ألم يأن للذين آمنوا } يعني في العلانية باللسان ولم يؤمنوا بالقلب ، وقيل نزلت في المؤمنين وذلك أنهم لما قدموا المدينة أصابوا من لين العيش ورفاهيته ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا ونزل في ذلك ألم يأن للذين آمنوا الآية قال ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين أخرجه مسلم وقال ابن عباس إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال ألم يأن يعني أما حان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم أي ترق وتلين وتخضع قلوبهم لذكر الله أي لمواعظ الله { وما نزل من الحق } يعني القرآن { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل } يعني اليهود والنصارى ، { فطال عليهم الأمد } أي الزمان الذي بينهم وبين أنبيائهم { فقست قلوبهم } قال ابن عباس مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ القرآن والمعنى أن الله نهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر روي عن أبي موسى الأشعري أنه بعث إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن فقال أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم قاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم { وكثير منهم فاسقون } يعني الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قوله عز وجل : { اعلموا أن الله يحيي الأرض } أي بالمطر { بعد موتها } أي يخرج منها النبات بعد يبسها فكذلك يقدر على إحياء الموتى وقال ابن عباس يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها مخبتة منيبة وكذلك يحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة وإلا فقد علم إحياء الأرض بالمطر مشاهدة { قد بينا لكم الآيات } أي الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا { لعلكم تعقلون إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً } أي بالنفقة والصدقة في سبيل الله { يضاعف لهم } أي ذلك القرض { ولهم أجر كريم } أي ثواب حسن وهو الجنة .(6/53)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
{ والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون } أي الكثير والصدق قال مجاهد كل من آمن بالله ورسوله فهو صديق وتلا هذه الآية فعلى هذا الآية عامة في كل من آمن بالله ورسوله وقيل إن الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته ، { والشهداء عند ربهم } قيل أراد بالشهداء المؤمنين المخلصين قال مجاهد كل مؤمن صديق شهيد وتلا هذه الآية وقيل هم التسعة الذين تقدم ذكرهم وقيل تم الكلام عند قوله هم الصديقون ثم ابتدأ والشهداء عند ربهم وهم الأنبياء الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس وقيل هم الذين استشهدوا في سبيل الله ، { لهم أجرهم } أي بما عملوا من العمل الصالح { ونورهم } يعني على الصراط { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } لما ذكر حال المؤمنين أتبعه بحال الكافرين .
قوله عز وجل : { اعلموا أنما الحياة الدنيا } أي مدة الحياة في هذه الدار الدنيا وإنما أراد من صرف حياته في غير طاعة الله فحياته مذمومة ومن صرف حياته في طاعة الله فحياته خير كلها ثم وصفها بقوله { لعب } أي باطل لا حاصل له كلعب الصبيان { ولهو } أي فرح ساعة ثم ينقضي عن قريب { وزينة } أي منظر يتزينون به { وتفاخر بينكم } يعني إنكم تشتغلون في حياتكم بما يفتخر به بعضكم على بعض { وتكاثر في الأموال والأولاد } أي مباهاة بكثرة الأموال والأولاد وقيل بجمع ما لا يحل له فيتطاول بماله وخدمه وولده على أولياء الله تعالى وأهل طاعته ثم ضرب لهذه الحياة مثلاً فقال تعالى : { كمثل غيث أعجب الكفار } أي الزراع إنما سمي الزراع كفاراً لسترهم الأرض بالبذر { نباته } أي ما نبت بذلك الغيث { ثم يهيج } أي ييبس { فتراه مصفرّاً } أي بعد خضرته { ثم يكون حطاماً } أي يتحطم ويتكسر بعد يبسه ويفنى { وفي الآخرة عذاب شديد } أي لمن كانت حياته بهذه الصفة قال أهل المعاني زهد الله بهذه الآية في العمل للدنيا وهذه صفة حياة الكافرين وحياة من يشتغل باللعب واللهو ورغب في العمل للآخرة بقوله : { ومغفرة من الله ورضوان } أي لأوليائه وأهل طاعته وقيل عذاب شديد لأعدائه ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه لأن الآخرة إما عذاب وإما جنة { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } أي لمن عمل لها ولم يعمل للآخرة فمن اشتغل في الدنيا بطلب الآخرة في له بلاغ إلى ما هو خير منه وقيل متاع الغرور لمن لم يشتغل فيها بطلب الآخرة .(6/54)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
قوله عز وجل : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } معناه لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة والمعنى سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار إلى مغفرة أي إلى ما يوجب المغفرة وهي التوبة من الذنوب وقيل سابقوا إلى ما كلفتم به من الأعمال فتدخل فيه التوبة وغيرها ، { وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } قيل إن السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكان عرض الجنة في قدرها جميعاً وقال ابن عباس إن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة وقيل إن الله تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات والأرضين ولا شك أن الطول يكون أزيد من العرض فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك وقيل إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في نفوسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض فشبه عرض الجنة بعرض السموات والأرض على ما يعرفه الناس ، { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } فيه أعظم رجاء وأقوى أمل لأنه ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر يدل عليه قوله في سياق الآية { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله تعالى لا بعمله ، { والله ذو الفضل العظيم } ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته » وقد تقدم الكلام على معنى هذا الحديث والجمع بينه وبين قوله ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون في تفسير سورة النحل .
قوله تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض } يعني عدم المطر وقلة النبات ونقص الثمار ، { ولا في أنفسكم } يعني الأمراض وفقد الأولاد { إلا في كتاب } يعني في اللوح المحفوظ { من قبل أن نبرأها } أي من قبل أن نخلق الأرض والأنفس وقال ابن عباس من قبل أن نبرأ المصيبة { إن ذلك على الله يسير } أي إثبات ذلك على كثرته هين على الله عز وجل : { لكيلا تأسوا } أي تحزنوا { على ما فاتكم } من الدنيا { ولا تفرحوا } أي لا تبطروا { بما آتاكم } أي أعطاكم قال عكرمة ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً قال صاحب الكشاف : إن قلت ما من أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح قلت المراد الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين والفرح المطغي الملهي عن الشكر فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما والله أعلم وقال جعفر بن محمد الصادق يا ابن آدم ما لك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت ، { والله لا يحب كل مختال } أي متكبر بما أوتي من الدنيا { فخور } أي بذلك الذي أوتي على الناس { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } قيل هذه الآية متعلقة بما قبلها والمعنى والله لا يحب الذين يبخلون يريد إذا رزقوا مالاً وحظاً من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم يبخلون به ولا ينفقونه في سبيل الله ووجوه الخير ولا يكفيهم أنهم بخلوا به حتى يأمروا الناس بالبخل وقيل إن الآية كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله وإنها في صفة اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وبخلوا ببيان نعته { ومن يتول } قال ابن عباس عن الإيمان { فإن الله هو الغني } أي عن عباده { الحميد } أي إلى أوليائه .(6/55)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
{ ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } معناه أنه تعالى شرف نوحاً وإبراهيم بالرسالة وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب فلا يوجد نبي إلا من نسلهما { فمنهم } أي من الذرية { مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا } أي اتبعنا { على آثارهم برسلنا } والمعنى بعثنا رسولاً بعد رسول إلى أن انتهت الرسالة إلى عيسى ابن مريم وهو قوله تعالى : { وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه } أي على دينه ، { رأفة ورحمة } يعني أنهم كانوا متوادين بعضهم لبعض ، { ورهبانية ابتدعوها } ليس هذا عطفاً على ما قبله والمعنى أنهم جاؤوا بها من قبل أنفسهم وهي ترهبهم في الجبال والكهوف والغيران والديرة فروا من الفتنة وحملوا أنفسهم المشاق في العبادة الزائدة وترك النكاح واستعمال الخشن في المطعم والمشرب والملبس مع التقلل من ذلك { ما كتبناها عليهم } أي ما فرضناها نحن عليهم { إلا ابتغاء رضوان الله } أي لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله { فما رعوها حق رعايتها } يعني أنهم يرعوا تلك الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وضموا إليها التثليث والاتحاد وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملوكهم وأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به فذلك قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم الذين ثبتوا على الدين الصحيح ، { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى صلى الله عليه وسلم وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن مسعود قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن مسعود « اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرهن : فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى فأخذوهم وقتلوهم ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله عز وجل فيهم ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم » قال صلى الله عليه وسلم « من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون » وعنه قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي « يا ابن أم عبد هل تدري من أين أخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟ قلت الله ورسوله أعلم قال ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن ظهرنا لهؤلاء فتنونا ولم يبق أحد يدعو إليه تعالى فتعالوا لنتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى به - يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا الرهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية { ورهبانية ابتدعوها } إلى { فآتينا الذين آمنوا منهم } »(6/56)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } أجرين بإيمانهم بعيسى وبالتوراة والإنجيل وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم له وقال { ويجعل لكم نوراً تمشون به } القرآن واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال { لئلا يعلم أهل الكتاب } الذين يتشبهون بكم { ألا يقدرون على شيء من فضل الله } الآية أخرجه النسائي موقوفاً على ابن عباس وقال قوم انقطع الكلام عند قوله ورحمة ثم قال ورهبانية ابتدعوها وذلك أنهم تركوا الحق فأكلوا الخنزير وشربوا الخمر وتركوا الوضوء والغسل من الجنابة والختان ، { فما رعوها } يعني الملة والطاعة حق رعايتها كناية عن غير مذكور { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم أهل الرأفة والرحمة { وكثير منهم فاسقون } هم الذين غيروا وبدلوا وابتدعوا الرهبانية ويكون معنى قوله : { ابتغاء رضوان الله } على هذا التأويل : { ما كتبناها عليهم } ولكن ابتغاء رضوان الله وابتغاء رضوان الله اتباع ما أمر به دون الترهب لأنه لم يأمر به .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى يعني يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد وآمنوا به وهو قوله تعالى : { وآمنوا برسوله } يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم { يؤتكم كفلين } أي نصيبين { من رحمته } يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ( ق ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والعبد المملوك الذي أدى حق مواليه وحق الله ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران » ، { ويجعل لكم نوراً تمشون به } يعني على الصراط وقال ابن عباس : النور هو القرآن وقيل هو الهدى والبيان أي يجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به { ويغفر لكم } أي ما سلف من ذنوبكم قبل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، { والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب } قيل لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } ، قالوا للمسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وكتابنا ومن لم يؤمن فله أجر كأجركم فما فضلكم علينا فنزل { لئلا يعلم } أي ليعلم ولا صلة أهل الكتاب يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وحسدوا المؤمنين { ألا يقدرون } يعني أنهم لا يقدرون { على شيء من فضل الله } والمعنى جعلنا الأجرين لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ليعلم الذين لم يؤمنوا به أنهم لا أجر لهم ولا نصيب من فضل الله وقيل لما نزل في مسلمي أهل الكتاب { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر فشق ذلك على المسلمين فنزل لئلا يعلم أهل الكتاب يعني المؤمنين منهم أن لا يقدرون على شيء من فضل الله ، { وأن الفضل بيد الله } يعني الذي خصكم به فإنه فضلكم على جميع الخلائق وقيل يحتمل أن يكون الأجر الواحد أكثر من الأجرين وقيل قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل فلما خرج من العرب كفروا به فأنزل هذه الآية فعلى هذا يكون فضل الله النبوة { يؤتيه من يشاء } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وهو قوله { وأن الفضل بيد الله } أي في ملكه وتصرفه يؤتيه من يشاء لأنه قادر مختار ، { والله ذو الفضل العظيم } ( خ ) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول(6/57)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
قوله عز وجل : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } « نزلت في خولة بنت ثعلبة وقيل اسمها جميلة وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وكان به لمم وكانت هي حسنة الجسم فأرادها فأبت عليه فقال لها أنت عليّ كظهر أمي ثم ندم على ما قال وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية فقال ما أظنك إلا قد حرمت عليّ فقالت والله ما ذاك طلاق فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة تغسل شق رأسه فقالت يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات أهل ومال حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني وقد ندم فهل من شيء يجمعني وإياه وتنعشني به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي قد طالت له صحبتي ونثرت له بطني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراك إلا قد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه هتفت وقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وشدة حالي وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليّ جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول اللهم أشكو إليك اللهم فأنزل على لسان نبيك فرجي وهذا كان أول ظهار في الإسلام ، فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر فقالت انظر في أمري جعلني الله فداءك يا نبي الله فقالت عائشة أقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات فلما قضي الوحي قال ادعي لي زوجك فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها الآية » ( ق ) عن عائشة قالت الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمته في جانب البيت وما أسمع ما تقول فأنزل الله { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } الآية وأما تفسير الآية فقوله تعالى قد سمع الله قول التي تجادلك أي تحاورك وتخاصمك وتراجعك في زوجها أي في أمر زوجها { وتشتكي إلى الله } أي شدة حالها وفاقتها ووحدتها ، { والله يسمع تحاوركما } أي مراجعتكما الكلام { إن الله سميع } أي لمن يناجيه ويتضرع إليه { بصير } أي بمن يشكو إليه ثم ذم الظهار .(6/58)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
{ الذين يظاهرون منكم من نسائهم } يعني يقولون لهن أنتن كظهور أمهاتنا { ما هن أمهاتهم } أي ما اللواتي يجعلونهن من زوجاتهن كالأمهات بأمهات والمعنى ليس هن بأمهاتهم { إن أمهاتهم } أي ما أمهاتهم { إلا اللائي ولدنهم وإنهم } يعني المظاهرين { ليقولون منكراً من القول } يعني لا يعرف في الشرع { وزوراً } يعني كذباً وقيل إنما وصفه بكونه منكراً من القول وزوراً لأن الأم محرمة تحريماً مؤبداً والزوجة لا تحرم عليه بهذا القول تحريماً مؤبداً فلا جرم صار ذلك منكراً من القول وزوراً { وإن الله لعفو غفور } عفا الله عنهم وغفر لهم بإيجاب الكفارة عليهم .
( فصل في أحكام الظهار : وفيه مسائل )
المسألة الأولى : في معناه لغة قيل إن مشتق من الظهر وهو العلو وليس هو من ظهر الإنسان إذ ليس الظهر بأولى من سائر الأعضاء التي هي مواضع التلذذ والمباضعة فثبت بهذا أنه مأخوذ من الظهر الذي هو العلو لأن امرأة الرجل مركب له وظهر يدل عليه قول العرب في الطلاق نزلت عن امرأتي أي طلقتها وفي قولهم أنت علي كظهر أمي حذف وإظمار لأن تأويله ظهرك علي أي ملكي إياك وعلوي عليك حرام كعلوي أمي وعلوه عليها حرام .
المسألة الثانية : كان الظهار من أشد طلاق أهل الجاهلية لأنه في التحريم آكد ما يمكن فإن كان ذلك الحكم صار مقرراً بالشرع كانت الآية ناسخة له وإلا لم يعد نسخاً لأن النسخ إنما يدخل في الشرائع لا في أحكام الجاهلية وعادتهم .
المسألة الثالثة : في الألفاظ المستعملة لهذا المعنى في الشريعة وعرف الفقهاء الأصل في هذا قوله أنت عليّ كظهر أمي وأنت مني أو معي أو عندي كظهر أمي وكذا لو قال أنت عليّ كبطن أمي أو كرأس أمي أو كيد أمي أو قال بطنك أو رأسك أو يدك عليّ كظهر أمي أو شبه عضواً منها بعضو من أعضاء أمه يكون ذلك ظهاراً وقال أبو حنيفة إن شبهها ببطن أمه أو بفرجها أو بفخذها يكون ظهاراً وإن بشبهها بعضو غير هذه الأعضاء لا يكون ظهاراً ولو قال أنت عليّ كأمي أو كروح أمي وأراد به الإعزاز والإكرام لا يكون ظهاراً حتى ينويه ويريده ولو شبهها بجدته فقال أنت عليّ كظهر جدتي يكون ظهاراً وكذلك لو شبهها بامرأة محرمة عليه بالقرابة بأن قال أنت علي كظهر أختي أو عمتي أو خالتي أو شبهها بامرأة محرمة عليه بالرضاع يكون ظهاراً على الأصح .
المسألة الرابعة : فيمن يصح ظهاره قال الشافعي الضابط في هذا أن كل من صح طلاقه صح ظهاره فعلى هذا يصح ظهار الذمي وقال أبو حنيفة لا يصح احتج الشافعي بعموم قوله { والذين يظاهرون من نسائهم } واحتج أبو حنيفة بأن هذا خطاب للمؤمنين فيدل على أن الظهار مخصوص بالمؤمنين وأجيب عنه بأن هذا خطاب يتناول جميع الحاضرين فلم قلتم إنه مختص بالمؤمنين .(6/59)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
قوله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم } يعني يمتنعون بهذا اللفظ من جماعهن { ثم يعودون لما قالوا } اختلف العلماء في معنى العود في قوله { ثم يعودون لما قالوا } ولا بد أولاً من بيان أقوال أهل العربية ثم بيان أقوال الفقهاء فنقول قال الفراء لا فرق في اللغة بين أن يقال يعودون لما قالوا وفيما قالوا وقال أبو علي الفارسي كلمة إلى اللام تتعاقبان كقوله { وأوحى إلى نوح } و { بأن ربك أوحى لها } وأما لفظة « ما » في قوله لما فهي بمعنى الذي والمعنى يعودون إلى الذي قالوا وفي الذي قالوا . وفيه وجهان :
أحدهما : إنه لفظ الظهار والمعنى أنهم يعودون إلى ذلك اللفظ .
الوجه الثاني : أن المراد لما قالوا أي القول فيه وهو الذي حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه وعلى هذا المعنى قوله ثم يعودون لما قالوا أي يعودون إلى شيء وذلك الشيء هو الذي قالوا فيه ذلك القول ثم إذا فسر هذا اللفظ بالوجه الأول يجوز أن يكون المعنى عاد لما فعل أي فعله مرة أخرى وعلى الوجه الثاني يجوز أن يقال عاد لما فعل أي نقض ما فعل وذلك أن من فعل شيئاً ثم أراد أن يفعله ثانياً فقد عاد إليه وكذا من فعل شيئاً ثم أراد إبطاله فقد عاد إليه بالتصرف فيه فقد ظهر بما تقدم أن قوله ثم يعودون لما قالوا يحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بأن يفعلوا مثله مرة أخرى ويحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بالنقض والرفع والإزالة وإلى هذا الاحتمال ذهب أكثر المجتهدين ثم اختلفوا فيه على وجوه :
الأول : وهو قول الشافعي إن معنى العود لما قالوا هو السكوت عن الطلاق بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه وذلك لأنه لما ظاهر فقد قصد التحريم فإن وصله بالطلاق فقد تمم ما شرع فيه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه فإذا سكت عن الطلاق فذلك يدل على أنه ندم على ما ابتدأ به من التحريم فحينئذ تجب عليه الكفارة وفسر ابن عباس العود بالندم فقال يندمون فيرجعون إلى الألفة .
الوجه الثاني : في تفسير العود وهو قول أبي حنيفة إنه عبارة عن استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة وذلك أنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء ثم قصد استباحة ذلك كان مناقضاً لقوله أنت علي كظهر أمي .
الوجه الثالث : وهو قول مالك إن العود إليها عبارة عن العزم على وطئها وهو قريب من قول أبي حنيفة .
الوجه الرابع : وهو قول الحسن وقتادة وطاوس والزهري إن العود إليها عبارة عن جماعها وقالوا لا كفارة عليه ما لم يطأها قال العلماء والعود المذكور هنا هب أنه صالح للجماع أو للعزم عليه أو لاستباحته إلا أن الذي قاله الشافعي هو أقل ما ينطلق عليه الاسم فيجب تعليق الحكم عليه لأنه هو الذي به يتحقق مسمى العود وأما الباقي فزيادة لا دليل عليه وأما الاحتمال الأول في قوله ثم يعودون أي يفعلون مثل ما فعلوه فعلى هذا الاحتمال في الآية وجوه أيضاً الأول قال مجاهد والثوري العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام وتجب الكفارة به والمراد من العود هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار فجعل الله حكم الظهار في الإسلام على خلاف حكمه عندهم فمعنى ثم يعودون لما قالوا أي في الإسلام فيقولون في الإسلام مثل ما كانوا يقولون في الجاهلية فكفارته كذا وكذا على الوجه الثاني قال أبو العالية إذا كرر لفظ الظهار فقد عاد وإلا لم يكن عود وهذا قول أهل الظاهر واحتجوا عليه بأن ظاهر قوله ثم يعودون لما قالوا يدل على إعادة ما فعلوه وهذا لا يكون إلا بالتكرير وإن لم يكرر اللفظ فلا كفارة عليه .(6/60)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
{ فمن لم يجد } أي الرقبة { فصيام شهرين } أي فكفارته وقيل فعليه صيام شهرين { متتابعين من قبل أن يتماسّا فمن لم يستطع } أي الصيام ( ف ) كفارته { إطعام ستين مسكيناً ذلك } أي الفرض الذي وصفناه ، { لتؤمنوا بالله ورسوله } أي لتصدقوا الله فيما أمر به وتصدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الله تعالى : { وتلك حدود الله } يعني ما وصف من الكفارة في الظهار { وللكافرين } أي لمن جحد هذا وكذب به { عذاب أليم } أي في نار جهنم يوم القيامة .
( فصل : في أحكام الكفارة ، وما يتعلق بالظهار )
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا فيما يحرمه الظهار فللشافعي قولان : أحدهما أنه يحرم الجماع فقط . والقول الثاني وهو الأظهر أنه يحرم جميع جهات الاستمتاع وهو قول أبي حنيفة .
المسألة الثانية : اختلفوا فيمن ظاهر مراراً فقال الشافعي وأبو حنيفة لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار للتأكيد فإن عليه كفارة واحدة وقال مالك من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفارة واحدة .
المسألة الثالثة : الآية تدل على إيجاب الكفارة قبل المماسّة سواء أراد التكفير بالإعتاق أو بالصيام أو بالإطعام وعند مالك إن أراد التكفير بالإطعام يجوز له الوطء قبله لأن الله تعالى قيد العتق والصوم بما قبل المسيس ولم يقل في الإطعام { من قبل أن يتماسا } فدل على ذلك . وعند الآخرين الإطلاق في الطعام محمول على المقيد في العتق والصيام فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسفيان وقال بعضهم وإن واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان وهو قول عبد الرحمن بن مهدي .
المسألة الرابعة : كفارة الظهار مرتبة فيجب عليه عتق رقبة مؤمنة وقال أبو حنيفة هذه الرقبة تجزي سواء كانت مؤمنة أو كافرة لقوله تعالى : { فتحرير رقبة } فهذا اللفظ يفيد العموم في جميع الرقاب .
دليلنا أنا أجمعنا على أن الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالايمان فكذا هنا وحمل المطلق على المقيد أولى .
المسألة الخامسة : الصوم فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين فإن أفطر يوماً متعمداً أو نسي النية يجب عليه استئناف الشهرين ولو شرع في الصوم ثم جامع في خلال الشهرين بالليل عصى الله تعالى بتقديم الجماع على الكفارة لكن لا يجب عليه استئناف الشهرين وعند أبي حنيفة يجب عليه استئناف الشهرين .
المسألة السادسة : إن عجز عن الصوم لمرض أو كبر أو فرط شهوة بحيث لا يصبر عن الجماع يجب عليه إطعام ستين مسكيناً كل مسكين مد من الطعام الذي يقتات به أهل البلد من حنطة أو شعير أو أرز أو ذرة أو تمر أو نحو ذلك وقال أبو حنيفة يعطي لكل مسكين نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ولو أطعم مسكيناً واحداً ستين جزءاً لا يجزيه عند الشافعي وقال أبو حنيفة يجزيه .(6/61)
حجة الشافعي ظاهر الآية وهو أن الله تعالى أوجب إطعام ستين مسكيناً فوجب رعاية ظاهر الآية وحجة أبي حنيفة أن المقصود دفع الحاجة وهو حاصل .
وأجيب عنه بأن إدخال السرور على قلب ستين مسكيناً أولى من إدخال السرور على قلب مسكين واحد .
المسألة الرابعة : إذا كانت له رقبة إلا أنه محتاج إلى الخدمة أو له ثمن الرقبة لكنه محتاج إليه لنفقته ونفقة عياله فله أن ينتقل إلى الصوم وقال مالك والأوزاعي يلزمه الإعتاق إذا كان واجداً للرقبة أو ثمنها وإن كان محتاجاً إليه وقال أبو حنيفة إن كان واجداً لعين الرقبة يجب عليه إعتاقها وإن كان محتاجاً إليه ، وإن كان واجداً لثمن الرقبة لكنه محتاج إليه فله أن يصوم .
المسألة الثامنة : قال أصحاب الشافعي الشبق المفرط والغلمة الهائجة عذر في الانتقال من الصيام إلى الإطعام والدليل عليه ما روي عن سلمة بن صخر البياضي قال « كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً تتايع بي حتى أصبحت فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء فما لبثت أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر قال فقلت امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لا والله فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال أنت بذاك يا سلمة قلت أنا بذاك يا رسول الله مرتين وأنا صابر لأمر الله فاحكم بما أمرك الله به . قال حرر رقبة قلت والذي بعثك بالحق نبياً ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال فصم شهرين متتابعين قال وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام قال فأطعم وسقاً من تمر ستين مسكيناً قلت والذي بعثك بالحق نبياً لقد بتنا وحشين لا نملك لنا طعاماً قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر وكُل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم وبنو بياضة بطن من بني زريق » أخرجه أبو داود .
قوله نزوت عليها أي وثبت عليها وأراد به الجماع وقوله تتايع به التتايع الوقوع في الشر واللجاج فيه والوسق ستون صاعاً ، وقوله وحشين يقال رجل وحش إذا لم يكن له طعام وأوحش الرجل إذا جاع .(6/62)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
قوله عز وجل : { إن الذين يحادون الله ورسوله } أي يعادون الله ورسوله ويشاقون ويخالفون أمرهما ، { كبتوا } أي ذلوا وأخزوا وأهلكوا { كما كبت الذين من قبلهم } أي كما أخزي من كان قبلهم من أهل الشرك ، { وقد أنزلنا آيات بينات } يعني فرائض وأحكاماً . { وللكافرين } أي الذين لم يعملوا بها وجحدوها { عذاب مهين يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله } أي حفظ الله أعمالهم { ونسوه } أي نسوا ما كانوا يعملون في الدنيا ، { والله على كل شيء شهيد } قوله تعالى : { ألم تر } أي ألم تعلم { أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض } يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماوات ثم أكد ذلك بقوله تعالى : { ما يكون من نجوى ثلاثة } أي من أسرار ثلاثة وهي المسارة والمشاورة والمعني ما من شيء يناجي به الرجل صاحبه وقيل ما يكون من متناجين ثلاثة يسارر بعضهم بعضاً { إلا هو رابعهم } أي بالعلم يعني يعلم نجواهم كأنه حاضر معهم ومشاهدهم كما تكون نجواهم معلومة عند الرابع الذي يكون معهم { ولا خمسة إلا هو سادسهم } فإن قلت لما خص الثلاثة والخمسة .
قلت : أقل ما يكفي في المشاورة ثلاثة حتى يتم الغرض فيكون اثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات والثالث كالمتوسط الحاكم بينهما فحينئذ تحمد تلك المشاورة ويتم ذلك الغرض وهكذا كل جمع يجتمع للمشاورة لا بد من واحد يكون حكماً بينهم مقبول القول وقيل إن العدد الفرد أشرف من الزوج فلهذا خص الله تعالى الثلاثة والخمسة ثم قال تعالى : { ولا أدنى من ذلك ولا أكثر } يعني ولا أقل من ثلاثة وخمسة ولا أكثر من ذلك العدد { إلا هو معهم أينما كانوا } أي بالعلم والقدرة ، { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم } قوله عز وجل : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون بما يسوءهم فيحزن المؤمنين لذلك ويقولون ما نراهم إلا قد بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو هزيمة فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم فلما طال على المؤمنين وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين فلم ينتهوا فأنزل الله ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى أي المناجاة فيما بينهم ، { ثم يعودون لما نهوا عنه } أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها { ويتناجون بالإثم والعدوان } يعني ذلك السر الذي كان بينهم لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين أي شيء يسوءهم وكلاهما إثم وعدوان ، { ومعصية الرسول } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد نهاهم عن النجوى فعصوه وعادوا إليها وقيل معناه يوصي بعضهم بعضاً بمعصية الرسول { وإذا جاؤوك } يعني اليهود { حيوك بما لم يحيك به الله } وذلك أن اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون السام عليك والسام الموت وهم يوهمونه بأنهم يسلمون عليه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد فيقول عليكم { ويقولون في أنفسهم } يعني إذا خرجوا من عنده قالوا { لولا يعذبنا الله بما نقول } يريدون لو كان نبياً لعذبنا الله بما نقول من الاستخفاف به قال الله تعالى : { حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } المعنى أن تقديم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة والمصلحة وإذا لم تقتض المشيئة والمصلحة تقديم العذاب فعذاب جهنم يوم القيامة كافيهم ( ق ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت(6/63)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } في المخاطبين بهذه الآية قولان أحدهما أنه خطاب للمؤمنين وذلك أنه لما ذم اليهود والمنافقين على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول أتبعه بأن نهى المؤمنين أن يسلكوا مثل طريقهم وأن يفعلوا كفعلهم فقال لا تتناجوا بالإثم وهو ما يقبح من القول والعدوان وهو ما يؤدي إلى الظلم ومعصية الرسول وهو ما يكون خلافاً عليه .
والقول الثاني : وهو الأصح أنه خطاب للمنافقين والمعنى . يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم وقيل آمنوا بزعمهم كأنه قال لهم لا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول { وتناجوا بالبر والتقوى } أي بالطاعة وترك المعصية { واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان } أي من تزيين الشيطان وهو ما يأمرهم به . من الإثم والعدوان ومعصية الرسول { ليحزن الذين آمنوا } إنما يزين ذلك ليحزن المؤمنين ( ق ) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث » زاد ابن مسعود في رواية « فإن ذلك يحزنه » وهذه الزيادة لأبي داود { وليس بضارهم شيئاً } يعني ذلك التناجي وقيل الشيطان ليس بضارهم شيئاً { إلا بإن الله } أي إلا ما أراد الله تعالى وقيل إلا بإذن الله في الضر { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أي فليكل المؤمنون أمرهم إلى الله تعالى ويستعيذوا به من الشيطان فإن من توكل على الله لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه .(6/64)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا } الآية قيل في سبب نزولها « إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس منهم يوماً وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه فرد عليهم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم ثم قاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله قم يا فلان وأنت يا فلان فأقام من المجلس بقدر أولئك النفر الذين كانوا بين يديه من أهل بدر فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم فأنزل الله هذه الآية » وقيل نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وقد تقدمت القصة في سورة الحجرات ، وقيل كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبون القرب منه فكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلاً تضاموا في مجلسهم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض وقيل كان ذلك يوم الجمعة في الصفة والمكان ضيق والأقرب أن المراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يتضامون فيه تنافساً على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصاً على استماع كلامه فأمر الله المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم ليتساوى الناس في الأخذ بالحظ منه وقرىء في المجلس لأن لكل واحد مجلساً ومعناه ليفسح كل رجل في مجلسه فافسحوا أي فأوسعوا في المجلس أمروا بأن يوسعوا في المجالس لغيرهم ، { يفسح الله لكم } أي يوسع الله لكم في الجنة والمجالس فيها ( ق ) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا يفسح الله لكم » ( م ) عن جابر بن عبد الله قال « لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا » ذكره الحميدي في أفراد مسلم موقوفاً على جابر ورفعه غير الحميدي وقيل في معنى الآية إن هذا في مجالس العرب ومقاعد القتال كان الرجل يأتي القوم وهم في الصف فيقول توسعوا فيأبون عليه لحرصهم على القتال ورغبتهم في الشهادة فأمروا بأن يوسعوا لإخوانهم لأن الرجل الشديد البأس قد يكون متأخراً عن الصف الأول والحاجة داعية إلى تقدمه فلا بد من التفسح له ثم يقاس على ذلك سائر المجالس كمجالس العلم والقرآن والحديث والذكر ونحو ذلك لأن كل من وسع على عباد الله أنواع الخير والراحة وسع الله عليه خيري الدنيا والآخرة .(6/65)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } يعني إذا أردتم مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدموا أمام ذلك صدقة وفائدة ذلك إعظام مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الإنسان إذا وجد الشيء بمشقة استعظمه وإن وجده بسهولة استحقره ونفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة قبل المناجاة قال ابن عباس إن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثروا حتى شق عليه فأراد الله تعالى أن يخفف على نبيه صلى الله عليه وسلم ويثبطهم على ذلك فأمرهم أن يقدموا صدقة على مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل نزلت في الأغنياء وذلك أنهم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره رسول الله صلى الله عليه وسلم طول جلوسهم ومناجاتهم فلما أمروا بالصدقة كفوا عن مناجاته فأما الفقراء وأهل العسرة فلم يجدوا شيئاً وأما الأغنياء وأهل الميسرة فضنوا واشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الرخصة وقال مجاهد نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب تصدق بدينار وناجاه ثم نزلت الرخصة فكان علي يقول آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي وهي آية المناجاة . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما نزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ما ترى ديناراً قلت لا يطيقونه قال فنصف دينار قلت لا يطيقونه قال فكم قلت شعيرة قال إنك لزهيد قال فنزلت .(6/66)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
{ أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } الآية قال فبي خفف الله عن هذه الأمة أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قوله قلت شعيره أي وزن شعيرة من ذهب وقوله إنك لزهيد يعني قليل المال قدرت على قدر حالك .
فإن قلت في هذه الآية منقبة عظيمة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ لم يعمل بها أحد غيره .
قلت هو كما قلت وليس فيها طعن على غيره من الصحابة ووجه ذلك أن الوقت لم يتسع ليعملوا بهذه الآية ولو اتسع الوقت لم يتخلفوا عن العمل بها وعلى تقدير اتساع الوقت ولم يفعلوا ذلك إنما هو مراعاة لقلوب الفقراء الذين لم يجدوا ما يتصدقون به لو احتاجوا إلى المناجاة فيكون ذلك سبباً لحزن الفقراء إذ لم يجدوا ما يتصدقون به عند مناجاته ووجه آخر وهو أن هذه المناجاة لم تكن من المفروضات ولا من الواجبات ولا من الطاعات المندوب إليها بلى إنما كلفوا هذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة ولما كانت هذه المناجاة أولى بأن تترك لم يعملوا بها وليس فيها طعن على أحد منهم ، وقوله : { ذلك خير لكم } يعني تقديم الصدقة على المناجاة لما فيه من طاعة الله وطاعة رسوله { وأطهر } أي لذنوبكم { فإن لم تجدوا } يعني الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به { فإن الله غفور رحيم } يعني أنه تعالى رفع عنهم ذلك { أأشفقتم } قال ابن عباس أبخلتم والمعنى أخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم وهو قوله { أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا } أي ما أمرتم به ، { وتاب الله عليكم } أي تجاوز عنكم ونسخ الصدقة قال مقاتل بن حيان كان ذلك عشر ليال ثم نسخ ، وقال الكلبي ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ { فأقيموا الصلاة } أي المفروضة { وآتوا الزكاة } أي الواجبة { وأطيعوا الله ورسوله } أي فيما أمر ونهى { والله خبير بما تعملون } أي إنه محيط بأعمالكم ونيتكم .
قوله عز وجل : { ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم } نزلت في المنافقين وذلك أنهم تولوا اليهود ونصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم فأراد بقوله قوماً غضب الله عليهم اليهود { ما هم } يعني المنافقين { منكم } أي من المؤمنين في الدين والولاء { ولا منهم } يعني ولا من اليهود { ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } أي أنهم كذبة « نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق وكان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجره إذ قال يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار ينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل وجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فأنزل الله هذه الآية » { أعد الله لهم عذاباً شديداً إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم } يعني الكاذبة { جنة } أي يستجنون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم { فصدوا عن سبيل الله } يعني أنهم صدوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ أموالهم بسبب أيمانهم ، وقيل معناه صدوا الناس عن دين الله الذي هو الإسلام { فلهم عذاب مهين } يعني في الآخرة .(6/67)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
{ لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } يوم القيامة { من الله شيئاً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له } يعني كاذبين أنهم ما كانوا مشركين { كما يحلفون لكم } أي في الدنيا وقيل كان الحلف جنة لهم في الدنيا فظنوا أنه ينفع في الآخرة أيضاً { ويحسبون أنهم على شيء } يعني من أيمانهم الكاذبة { ألا إنهم هم الكاذبون } يعني في أقوالهم وأيمانهم ، { استحوذ عليهم الشيطان } أي غلب واستولى عليهم وملكهم { فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين } يعني في جملة من يلحقهم الذل في الدنيا والآخرة لأن ذل أحد الخصمين على حسب عز الخصم الثاني .
ولما كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } أي قضى ذلك قضاء ثابتاً قيل غلبة الرسل على نوعين فمنهم من يؤمر بالحرب فهو غالب بالحرب ومن لم يؤمر بالحرب فهو غالب بالحجة ، { إن الله قوي } أي على نصر رسله وأوليائه { عزيز } أي غالب على أعدائه .
قوله تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } أخبر الله تعالى أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين وأن من كان مؤمناً لا يوالي من كفر لأن من أحب أحداً امتنع أن يحب عدوه فإن قلت قد أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالفتهم ومعاشرتهم فما هذه المودة المحظورة قلت المودة المحظورة هي مناصحتهم وإرادة الخير لهم ديناً ودنيا مع كفرهم ، فأما ما سوى ذلك فلا حظر فيه ثم إنه تعالى بالغ في الذكر عن مودتهم بقوله { ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } يعني أن الميل إلى هؤلاء من أعظم أنواع الميل ومع هذا فيجب أن يطرح الميل إلى هؤلاء والمودة لهم بسبب مخالفة الدين قيل نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة وستأتي قصته في سورة الممتحنة وروي عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال ولو كانوا آباءهم يعني أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه الجراح يوم أحد أو أبناءهم يعني أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه دعا ابنه يوم بدر إلى البراز وقال يا رسول الله دعني أكن في الرعلة الأولى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « متعنا بنفسك يا أبا بكر » أو إخوانهم يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبد الله بن عمير أو عشيرتهم يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر وعلي بن أبي طالب وحمزة وأبا عبيدة قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر ، { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } أي أثبت التصديق في قلوبهم فهي مؤمنة موقنة مخلصة وقيل حكم لهم بالإيمان وإنما ذكر القلوب لأنها موضعه { وأيدهم بروح منه } أي قواهم بنصر منه وإنما سمى نصره إياهم روحاً لأن به حيي أمرهم .(6/68)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
قوله عز وجل : { سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم } قال المفسرون : نزلت هذه السورة في بني النضير وهم طائفة من اليهود وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وظهر على المشركين قال بنو النضير والله إنه النبي الأمي الذي نجد نعته في التوراة لا ترد له راية فلما غزا أحداً وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكباً من اليهود إلى مكة فأتوا قريشاً فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد صلى الله عليه وسلم ودخل أبو سفيان في أربعين من قريش وكعب بن الأشرف في أربعين من اليهود المسجد الحرام وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان وأمره بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة غيلة « وقد تقدمت القصة في سورة آل عمران وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية الرجلين المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح حجر على النبي صلى الله عليه وسلم من الحصن فعصمه الله منهم و أخبره بذلك وقد تقدمت القصة في سورة المائدة .
فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير وكانوا بقرية يقال لها زهرة فلما سار إليها النبي صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف فقالوا يا محمد واعية على أثر واعية وباكية على أثر باكية قال نعم فقالوا ذرنا نبك شجونا ثم ائتمر أمرك فقال النبي صلى الله عليه وسلم اخرجوا من المدينة فقالوا الموت أقرب إلينا من ذلك ثم تنادوا بالحرب وأذنوا بالقتال ودس المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصين فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه أن اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك فيسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبراً من اليهود حتى كانوا في براز من الأرض فقال بعض اليهود لبعض كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلاً من أصحابه كلهم يحب الموت قبله ولكن أرسلوا إليه كيف نفهم ونحن ستون اخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرج إليك كثلاثة من علمائنا فيسمعون منك فإن آمنوا بك آمنا بك وصدقناك ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه وخرج ثلاثة من اليهود معهم الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فساره بخبرهم قبل أن يصل إليهم فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان من الغد صبحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم .(6/69)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني بني النضير { من ديارهم } يعني التي كانت بالمدينة .
قال ابن إسحاق كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد ، وفتح قريظة مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان { لأول الحشر } قال الزهري كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى وكان الله قد كتب عليهم الجلاء ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا قال ابن عباس من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية فكان هذا أول حشر إلى الشام قال النبي صلى الله عليه وسلم أخرجوا قالوا إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام وقيل إنما قال لأول الحشر لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ثم أجلي آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل كان هذا أول الحشر من المدينة والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام في أيام عمر ، وقيل كان هذا أول الحشر والحشر الثاني نار نحشرهم يوم القيامة من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا { ما ظننتم } يعني أيها المؤمنين { أن يخرجوا } أي من المدينة لعزتهم ومنعتهم وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخل كثير { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } أي وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله { فأتاهم الله } أي أتاهم أمر الله وعذابه { من حيث لم يحتسبوا } وهو أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك ، { وقذف في قلوبهم الرعب } أي الخوف الشديد بقتل سيدهم كعب بن الأشرف { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } قال الزهري وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون ما استحسنوه منها فيحملونه على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها وقيل كانوا يقلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدران لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضاً وقيل كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها وقال ابن عباس كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { فاعتبروا } يعني فاتعظوا وانظروا ما نزل بهم { يا أولي الأبصار } يعني يا ذوي العقول والبصائر .(6/70)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
{ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء } يعني الخروج من الوطن { لعذبهم في الدنيا } يعني بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة { ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك } أي الذي لحقهم ونزل بهم { بأنهم شاقوا الله ورسوله } أي خالفوا الله ورسوله { ومن يشاقِّ الله فإن الله شديد العقاب } قوله تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } الآية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وأحرقها فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فساداً .
واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا وقال بعضهم بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم وأن ذلك كان بإذن الله تعالى ( ق ) عن ابن عمر قال : حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فنزل { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين } البويرة اسم موضع لبني النضير وفي ذلك يقول حسان بن ثابت :
وهان على سراة بني لؤيّ ... حريق بالبويرة مستطير
قال ابن عباس النخل كلها لينة ما خلا العجوة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع نخلهم إلا العجوة ، وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمر الألوان وقيل النخل كلها لينة إلا العجوة والبرنية وقيل اللينة النخل كلها من غير استئناف وقال ابن عباس في رواية أخرى عنه هي لون من النخل وقيل كرام النخل وقيل هي ضرب من النخل يقال لتمرها اللون وهو شديد الصفرة ويرى نواه من خارج يغيب فيه الضرس وكان من أجود تمرهم وأعجبه إليهم وكانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن وصيف وأحب إليهم من وصيف فلما رأوهم يقطعونها شق عليهم ذلك وقالوا للمؤمنين إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون دعوا هذا النخل قائماً هو لمن غلب عليه فأخبر الله أن قطعها كان بإذنه ، { وليخزي الفاسقين } يعني اليهود والمعنى ولأجل إخزاء اليهود أذن الله في قطعها احتج العلماء بهذه الآية على أن حصون الكفار وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق وترمى بالمجانيق وكذلك قطع أشجارهم ونحوها .(6/71)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
قوله عز وجل : { وما أفاء الله على رسوله } أي ما رد الله على رسوله { منهم } أي من يهود بني النضير { فما أوجفتم عليه } يعني أوضعتم وهو سرعة السير { من خيل ولا ركاب } يعني الإبل التي تحمل القوم وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسمها بينهم كما فعل بغنائم خيبر فبين الله تعالى في هذه الآية أنها لم يوجف المسلمون عليها خيلاً ولا ركاباً ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة وإنما كانوا يعني بني النضير على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشياً ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جمل ، { ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } من أعدائه { والله على كل شيء قدير } أي فهي له خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة ( ق ) عن مالك بن أوس النضري أن عمر دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد يستأذنون؟ قال نعم فأدخلهم فلبث قليلاً ثم جاء يرفأ فقال هل لك في عباس وعلي يستأذنان؟ قال نعم فأذن لهما فلما دخلا قال العباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا فقال القوم أجل يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر قال مالك بن أوس يخيل إليّ أنهم قد كانوا قدموهم لذلك فقال عمر اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لا نورث ما تركنا صدقة » يريد بذلك نفسه قالوا نعم ثم أقبل عمر على العباس وعلي وقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لا نورث ما تركنا صدقة » قالا نعم قال عمر إن الله خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخصص بها أحداً غيره فقال { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } الآية قال فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير فوالله ما استأثرها عليكم ولا أخذها دونكم فقد أعطاكموها وقسمها فيكم حتى بقي هذا المال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة ثم ما بقي يجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ثم أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟ قالوا نعم قال ثم نشد عباساً وعلياً بمثل ما نشد القوم أتعلمان ذلك؟ قالا نعم قال فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضه أبو بكر فعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم حينئذ وأقبل على علي وعباس وقال تذاكران أن أبا بكر عمل فيه كما تقولان والله يعلم إنه لصادق راشد تابع للحق ثم توفى الله أبا بكر فقلت أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فقبضته سنتين من إمارتي أعمل فيهما بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر والله يعلم إني فيه لصادق بار راشد تابع للحق ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع فقلت لكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(6/72)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
قوله تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } يعني من أموال كفار أهل القرى قال ابن عباس هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة { فلله وللرسول ولذي القربى } يعني بني هاشم وبني المطلب { واليتامى والمساكين وابن السبيل } قد تقدم تفسيره في سورة الأنفال في حكم الغنيمة وقسمتها وأما حكم الفيء فإنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة حياته يضعه حيث يشاء فكان ينفق على أهله منه نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل مال الله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله .
واختلف العلماء في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قوم هو للأئمة بعده وللشافعي فيه قولان أحدهما أنه للمقاتلة والثاني هو لمصالح المسلمين ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم فالأهم من المصالح .
واختلفوا في تخميس مال الفيء فذهب قوم إلى أنه يخمس فخمس لأهل خمس الغنيمة وأربعة للمقاتلة أو للمصالح وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد ولجميع المسلمين فيه حق قرأ عمر بن الخطاب « ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى حتى بلغ للفقراء المهاجرين إلى قوله والذين جاؤوا من بعدهم » ثم قال هذه استوعبت المسلمين عامة قال وما على وجه الأرض مسلم إلا وله في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم { كيلا يكون } الفيء { دولة } والدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم { بين الأغنياء منكم } يعني بين الرؤساء والأقوياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرباع ثم يصطفي بعده ما شاء فجعله الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمه فيما أمره به { وما آتاكم الرسول فخذوه } أي من مال الفيء والغنيمة { وما نهاكم عنه } أي من الغلول وغيره { فانتهوا } وهذا نازل في أموال الفيء وهو عام في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهي عنه من قول أو عمل من واجب أو مندوب أو مستحب أو نهى عن محرم فيدخل فيه الفيء وغيره ( ق ) عن عبد الله بن مسعود أنه قال « لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا وذكرته فقال عبد الله وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت المرأة لقد قرأت لوحي المصحف فما وجدته فقال إن كنت قرأته لقد وجدته قال الله عز وجل : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } الوشم هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة ثم يحشى بكحل والمستوشمة هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك والنامصة هي التي تنتف الشعر من الوجه والمتفلجة هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة وقيل هي التي تتفلج في مشيتها فكل ذلك منهي عنه ( ق ) عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(6/73)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
{ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } يعني ألجأهم كفار مكة إلى الخروج { يبتغون فضلاً من الله } أي رزقاً وقيل ثواباً من الله { ورضواناً } أي أخرجوا من ديارهم طلباً لرضا الله عز وجل : { وينصرون الله ورسوله } أي بأنفسهم وأموالهم والمراد بنصر الله نصر دينه وإعلاء كلمته { أولئك هم الصادقون } أي في إيمانهم قال قتادة المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حباً لله ولرسوله واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً » وعن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أبشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة » أخرجه أبو داود .(6/74)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
قوله عز وجل : { والذين تبوءو الدار والإيمان } يعني الأنصار توطنوا الدار وهي المدينة واتخذوها سكناً { من قبلهم } يعني أنهم أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين والمعنى والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ { يحبون من هاجر إليهم } وذلك أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم وأشركوهم في أموالهم { ولا يجدون في صدورهم حاجة } أي حزازة وغيظاً وحسداً { مما أوتوا } أي أعطي المهاجرين من الفيء دونهم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة فطابت أنفس الأنصار بذلك ك { ويؤثرون على أنفسهم } أي ويؤثر الأنصار المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم { ولو كان بهم خصاصة } أي فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء ثم أرسل به إلى أخرى فقالت مثل ذلك وقلن كلهن مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضيفه يرحمه الله فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فقال أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء؟ قالت لا إلا قوت صبياني قال فعلليهم بشيء ونوميهم فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل فإذا هوى بيده ليأكل فقومي إلى السراج كي تصلحيه فأطفئيه ففعلت فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد عجب الله أو ضحك الله من فلان وفلانة » زاد في رواية « فأنزل الله { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } » . ( ق ) عن أبي هريرة قال « قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال لا فقالوا تكفونا ونشرككم في الثمر قالوا سمعنا وأطعنا » ( خ ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال « دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها فقال أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإنه سيصيبكم أثرة بعدي » وفي رواية « ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض » الأثرة بفتح الهمزة والثاء والراء وضبطه بعضهم بضم الهمزة وإسكان الثاء والأول أشهر ومعناه الاستئثار وهو أن يستأثر عليكم بأمور الدنيا ويفضل غيركم عليكم ولا يجعل لكم في الأمر نصيب وقيل هو من آثر إذا أعطى أراد يستأثر عليكم بأمور الدنيا ويفضل غيركم عليكم ولا يجعل لكم في الأمر نصيب وقيل هو من آثر إذا أعطى أراد يستأثر عليكم غيركم فيفضل في نصيبه من الفيء والاستئثار الانفراد بالشيء وقيل الأثرة الشدة والأول أظهر وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار(6/75)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } يعني من بعد المهاجرين والأنصار وهم التابعون لهم إلى يوم القيامة { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } أخبر أنهم يدعون لأنفسهم بالمغفرة ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان { ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ } أي غشاً وحسداً وبغضاً { للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } فكل من كان في قلبه غل أو بغض لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاث منازل المهاجرين ثم من بعدهم التابعون الموصوفون بما ذكر فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجاً من أقسام المؤمنين وليس له في المسلمين نصيب وقال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل الفقراء المهاجرون والذين تبوءوا الدار والإيمان والذين جاؤوا من بعدهم فاجتهد أن لا تكون خارجاً من هذه الثلاث منازل ( ق ) عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه » ( م ) عن عروة بن الزبير قال قالت عائشة « يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوهم » عن عبد الله بن مغفل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فبغضبي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه » أخرجه الترمذي وقال مالك بن أنس : من انتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه غل عليهم فليس له حق في فيء المسلمين ثم تلا هذه الآية { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } - إلى - { والذين جاؤوا من بعدهم } - إلى - { رؤوف رحيم } وقال مالك بن مغول قال الشعبي يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا أصحاب موسى وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ قال حواري عيسى وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم والسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ولا تجمع لهم كلمة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة .
وروي عن جابر قال قيل لعائشة إن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر فقالت وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر .
وروي أن ابن عباس سمع رجلاً ينال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : من أمن المهاجرين الأولين أنت؟ قال لا قال أفمن الأنصار أنت؟ قال لا قال فأنا أشهد بأنك لست من التابعين لهم بإحسان .(6/76)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
{ ألم تر إلى الذين نافقوا } يعني أظهروا خلاف ما أضمروا وهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه { يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني اليهود من بني قريظة وبني النضير وإنما جعل المنافقين إخوانهم لأنهم كفار مثلهم { لئن أخرجتم } أي من المدينة { لنخرجن معكم } أي منها { ولا نطيع فيكم أحداً أبداً } يعني إن سألنا أحد خلافكم وخذلانكم فلا نطيعه فيكم { وإن قوتلتم لننصرنكم } أي لنعيننكم ولنقاتلن معكم } { والله يشهد إنهم } يعني المنافقين { لكاذبون } أي فيما قالوا ووعدوا ثم أخبر الله عن حال المنافقين فقال تعالى : { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } وكان الأمر كذلك فإنهم أخرجوا ولم يخرج المنافقون معهم وقوتلوا فلم ينصروهم { ولئن نصروهم ليولن الأدبار } يعني لو قدروا نصرهم أو لو قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار منهزمين { ثم لا ينصرون } يعني بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصروهم .(6/77)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
{ لأنتم } يعني يا معشر المسلمين { أشد رهبة في صدورهم من الله } أصل الرهبة والرهب الخوف الشديد مع حزن واضطراب والمعنى أنهم يرهبون ويخافون منكم أشد من رهبتهم من الله { ذلك } أي الخوف منكم { بأنهم قوم لا يفقهون } يعني عظمة الله تعالى : { لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة } أي لا يبرزون لقتالكم إنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى والجدران وهو قوله تعالى : { أو من وراء جدار } وقرىء جدر { بأسهم بينهم شديد } أي بعضهم فظ على بعض أو عداوة بعضهم بعضاً شديدة وقيل بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد فإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } أي متفرقة مختلفة قال قتادة أهل الباطل مختلفة أهواؤهم مختلفة أعمالهم مختلفة شهاداتهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق وقيل أراد أن دين المنافقين وآراءهم يخالف دين اليهود وآراءهم { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } ثم ضرب لليهود مثلاً فقال تعالى : { كمثل الذين من قبلهم قريباً } يعني مشركي مكة { ذاقوا وبال أمرهم } يعني القتل ببدر وكان ذلك قبل غزوة بني النضير وقال ابن عباس « كمثل الذين من قبلهم » يعني بني قينقاع وقيل مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان { ولهم عذاب أليم } أي في الآخرة ثم ضرب مثلاً آخر للمنافقين واليهود جميعاً في تخاذلهم وتخلى بعضهم عن بعض فقال تعالى { كمثل الشيطان } أي مثل المنافقين مع بني النضير وخذلانهم إياهم كمثل الشيطان { إذ قال للإنسان اكفر } وذلك ما روي عن عطاء وغيره عن ابن عباس قال كان راهب في الفترة يقال له برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين وقال ألا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وجاء في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي فلحقه جبريل عليه السلام فدفعه إلى أقصى أرض الهند لإبليس أنا أكفيك أمره فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه وكان لا يفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام مرة فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل الصومعة فلما انفتل برصيصا من صلاته اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائماً يصلي في هيئة حسنة على هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه أي لام نفسه حين لم يجبه فقال له إنك ناديتني وكنت مشتغلاً عنك فما حاجتك قال الأبيض حاجتي أني جئت لأكون معك فأتأدب بأدبك وأقتبس من عملك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال برصيصا إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمناً فإن الله سيجعل لك فيما للمؤمنين نصيباً إن استجاب لي ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوماً فلما انفتل بعدها رآه قائماً يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض قال له ما حاجتك؟ قال حاجتي أن تأذن لي فأرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام حولاً يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوماً مرة ولا ينفتل عن صلاته إلا كذلك وربما مد إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا إني منطلق فإن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما رأيت وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته لما رأى من كثرة اجتهاد ولما ودعه الأبيض قال له إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهو خير لك مما أنت فيه يشفي الله بها السقم ويعافي بها المبتلى والمجنون قال برصيصا أنا أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلاً وإني أخاف إن علم الناس شغلوني عن العبادة فلم يزل به الأبيض حتى علمه ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال قد والله أهلكت الرجل فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنوناً أفأعالجه؟ قالوا نعم فعالجه فلم يفد فقال لهم إني لا أقوى على جنته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب قال انطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل ولها ثلاثة إخوة وكان أبوهم هو الملك فلما مات استخلف أخاه فكان عم تلك الجارية ملك بني إسرائيل فخنقها وعذبها ، ثم جاء إليهم كما كان يأتي الناس في صورة متطبب فقال لهم أعالجها؟ قالوا نعم فقال إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سارشدكم إلى من تثقون به تدعونها عنده فإذا جاء شيطانها دعا لها فإذا علمتم أنها قد عوفيت تردونها صحيحة قالوا ومن هو؟ قال برصيصا قالوا وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأناً من ذلك قال فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جنب صومعته حتى تشرف عليه فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعتها وقولوا له هذه أمانة عندك فاحتسب أمانتك قال فانطلقوا فسألوه ذلك فأبى عليهم فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ثم انطلقوا فوضعوا الجارية في صومعتها وقالوا يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك فاحتسب فيها ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته حتى عاين الجارية وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب الشيطان عنها ثم أقبل برصيصا على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا فجاءه الشيطان وقال له ويحك واقعها فلم تجد مثلها وستتوب بعد ذلك فتدرك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل كذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها فقال له الشيطان ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب؟ فإن سألوك فقل ذهب بها شيطانها فلم أقف عليه فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل فجاء الشيطان وهو يدفنها بالليل فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجاً من التراب ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها ويوصونه بها فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا قال قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه فصدقوه وانصرفوا فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال ويحك إن برصيصا فعل فعل بأختك كذا وكذا وإنه دفنها في موضع كذا وكذا فقال هذا حلم وهو من الشيطان إن برصيصا خير من ذلك فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث به فانطلق الشيطان إلى أوسطهم فقال الأوسط مثل ما قال الأكبر ولم يخبر به أحداً فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك قال الأصغر لأخويه والله لقد رأيت كذا وكذا فقال الأوسط أنا والله قد رأيت مثله فقال الأكبر أنا والله قد رأيت مثله فانطلقوا إلى برصيصا فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا فقال أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني فقالوا لا والله لا نتهمك واستحيوا منه وانصرفوا فجاءهم الشيطان فقال ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا وإن طرف إزارها خرج من التراب فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوه في النوم فمشوا في مواليهم وغلمانهم معهم الفؤوس والمساحي فهدموا صومعة برصيصا وأنزلوه منها وكتفوه ثم انطلقوا به للملك فأقر على نفسه وذلك أن الشيطان أتاه فوسوس له فقال له تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران قتل ومكابرة اعترف فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة فلما صلب أتاه الأبيض فقال يا برصيصا أتعرفني؟ قال لا فقال أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات وكنت إذا دعوت بهن يستجاب لك ويحك ما اتقيت الله في أمانتك خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل أما استحيت فلم يزل يعيره ويعنفه حتى قال في آخر ذلك ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت أشباهك من الناس وفضحت نفسك فإن مت على هذه الحالة لن تفلح أبداً ولن يفلح أحد من نظرائك قال فكيف أصنع؟ قال تطيعني في خصلة واحدة حتى أخلصك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك قال وما هي؟ قال تسجد لي قال ما أستطيع أفعل قال بطرفك افعل فسجد له برصيصا فقال يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك ، { فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين }(6/78)
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
{ فكان عاقبتهما } يعني الشيطان وذلك الإنسان { أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين } قال ابن عباس ضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير فدس المنافقون إلى اليهود وقالوا لا تجيبوا محمداً إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم فأجابوهم ودربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله فكان عاقبة الفريقين النار قال ابن عباس فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون في بني إسرائيل إلا بالتقية والكتمان وطمع أهل الفسق والفجور في الأحبار ورموهم بالبهتان والقبيح حتى كان من أمر جريج الراهب ما كان فلما برأه الله مما رموه به من الزنا انبسطت الرهبان بعده وظهروا للناس وكانت قصة جريج على ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب يوسف وكان جريج رجلاً صالحاً عابداً فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فيها فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها معهم ، فقالت إن شئتم لأفتننه لكم قال فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت هو من جريج فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال ما شأنكم فقالوا زنيت بهذه البغيّ فولدت منك فقال أين الصبي فجاؤوا فقال دعوني حتى أصلي فصلى؟ فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال يا غلام من أبوك قال فلان الراعي قال فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا له نبني لك صومعتك من ذهب قال أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا . وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة ذو شارة حسنة فقالت أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي وأقبل عليه فنظر إليه فقال اللهم لا تجعلني مثل هذا ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع قال فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فيه فجعل يمصها قال ومر بجارية وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت وهي تقول حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع ونظر إليها فقالت اللهم اجعلني مثلها فهنالك تراجعا الحديث ، فقالت مر رجل حسن الهيئة فقالت اللهم اجعل إبني مثله فقلت اللهم لا تجعلني مثله ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت فقلت اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت اللهم اجعلني مثلها فقال إن ذلك الرجل كان جباراً فقلت اللهم لا تجعلني مثله وإن هذه يقولون لها زنيت ولم تزن وسرقت ولم تسرق فقلت اللهم اجعلني مثلها »(6/79)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد } أي لينظر أحدكم إلى شيء قدم لنفسه من الأعمال عملاً صالحاً ينجيه أم سيئاً يوبقه والمراد بالغد يوم القيامة وقربه على الناس كان يوم القيامة يأتي غداً وكل ما هو آت فهو قريب ، { واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } قيل كرر الأمر بالتقوى تأكيداً وقيل معنى الأول اتقوا الله في أداء الواجبات ومعنى الثاني واتقوا الله فلا تأتوا المنهيات { ولا تكونوا كالذين نسوا الله } أي تركوا أمر الله { فأنساهم أنفسهم } أي أنساهم حظوظ أنفسهم حتى لم يقدموا لها خيراً ينفعها وعنده { أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } لما أرشد المؤمنين إلى ما يصلحهم بقوله « ولتنظر نفس ما قدمت لغد هدد الكافرين بقوله نسوا الله فأنساهم أنفسهم بين الفرق بين الفريقين بقوله لا يستوي أصحاب النار يعني الذين هم في العذاب الدائم وأصحاب الجنة يعني الذين هم في النعيم المقيم ثم أتبعه بقوله أصحاب الجنة هم الفائزون ومعلوم أن من جعل له النعيم المقيم فقد فاز فوزاً عظيماً .
قوله تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } قيل معناه أنه لو جعل في الجبل تمييزاً وعقلاً كما جعل فيكم وأنزل عليه القرآن لخشع أي تطأطأ وخضع وتشقق وتصدع من خشية الله والمعنى أن الجبل مع صلابته ورزانته مشقق من خشية الله ، وحذر من أن لا يؤدي حق الله تعالى في تعظيم القرآن والكافر مستخف بحقه معرض عما فيه من العبر والأحكام كأنه لم يسمعها .
وصفه بقساوة القلب فهو غافل عما يتضمنه القرآن من المواعظ والأمثال والوعيد وتمييز الحق من الباطل والواجب مما لا يجب بأحسن بيان وأوضح برهان ومن وقف على هذا وفهمه أوجب له الخشوع والخشية وهذا تمثيل لأن الجبل لا يتصور منه الخشوع والخشية إلا أن يخلق الله تعالى له تمييزاً وعقلاً يدل على أنه تمثيل .
قوله تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } أي الغرض من هذا التمثيل التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار وقساوتها وغلظ طباعهم .
ولما وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمته فقال تعالى : { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة } يعني أنه تعالى أعلم بما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه وعلم ما شاهدوه وما علموه وقيل استوى في علمه تعالى السر والعلانية والموجود والمعدوم وقيل علم حال الدنيا والآخرة { هو الرحمن الرحيم } اسمان مشتقان اشتقاقهما من الرحمة وهما صفتان لله تعالى ومعناهما ذو الرحة ورحمة الله إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه وقيل إن الرحمن أشد مبالغة من الرحيم ولهذا قيل هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأن إحسانه تعالى في الدنيا يعم المؤمن والكافر وفي الآخرة يختص إحسانه وإنعامه بالمؤمنين { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك } أي المتصرف بالأمر والنهي في جميع خلقه المالك لهم فهم تحت ملكه وقهره وإرادته { القدوس } أي الطاهر عن كل عيب المنزه عما لا يليق به وقيل هو الذي كثرت بركته { السلام } أي الذي سلم من النقائص وكل آفة تلحق الخلق .(6/80)
فإن قلت على هذا التفسير لا يبقى بين القدوس والسلام فرق فيكون كالتكرار وذلك لا يليق بفصاحة القرآن .
قلت الفرق بينهما أن القدوس إشارة إلى براءته عن جميع العيوب والنقائص في الماضي والحاضر والسلام إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب والنقائص في المستقبل فإن الذي يطرأ عليه شيء من ذلك تزول سلامته ولا يبقى سليماً وقيل السلام أي سلم خلقه ممن ظلمه ، { المؤمن } قال ابن عباس هو الذي أمن الناس من ظلمه وأمن من آمن به من عذابه وقيل هو المصدق لرسله بإظهار المعجزات لهم والمصدق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وبما أوعد الكافرين من العذاب { المهيمن } قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء وقيل هو القائم على خلقه برزقه وأنشد في معناه :
ألا إن خير الناس بعد نبيه ... مهيمنه التاليه في العرب والنكر
أي القائم على الناس بعده وقيل هو الرقيب الحافظ ، وقيل هو المصدق وقيل هو القاضي وقيل هو بمعنى الأمين والمؤتمن وقيل بمعنى العلي ومنه قول العباس يمدح النبي صلى الله عليه وسلم في أبيات منها :
حتى احتوى بينك المهيمن من ... خندف علياً زانها النطق
وقيل : المهيمن اسم من أسماء الله تعالى هو أعلم بتأويله وأنشدوا في معناه :
جل المهيمن عن صفات عبيده ... ولقد تعالى عن عقول أولي النهى
راموا بزعمهم صفات مليكهم ... والوصف يعجز عن مليك لا يرى
{ العزيز } أي الذي لا يوجد له نظير وقيل الغالب القاهر { الجبار } قال ابن عباس الجبار هو العظيم وجبروت الله عظمته فعلى هذا هو صفة ذات وقيل هو من الجبر يعني الذي يغني الفقير ويجبر الكسير فعلى هذا هو صفة فعل وهو سبحانه وتعالى كذلك يجبر كل كسير ويغني كل فقير وقيل هو الذي يجبر الخلق ويقهرهم على ما أراد : وسئل بعضهم عن معنى الجبار فقال هو القهار الذي إذا أراد أمراً فعله لا يحجزه عنه حاجز وقيل الجبار هو الذي لا ينال ولا يداني والجبار في صفة الله تعالى صفة مدح وفي صفة الناس ذم وكذلك { المتكبر } في صفة الناس صفة ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علو بل له الحقارة والذلة فإذا أظهر الكبر كان كذاباً في فعله فكان مذموماً في حق الناس وأما المتكبر في صفة الله تعالى فهو صفة مدح لأن له جميع صفات العلو والعظمة ولهذا قال في آخر الآية { سبحان الله عما يشركون } كأنه قيل إن بعض الخلق يتكبر فيكون ذلك نقصاً في حقه أما الله تعالى فله العلو والعظمة والعزة والكبرياء فإن أظهر ذلك كان ضم كمال إلى كمال قال ابن عباس المتكبر هو الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله وقيل هو الذي تكبر عن كل سوء وقيل هو المتعظم عما لا يليق بجماله وجلاله وقيل هو المتكبر عن ظلم عباده وقيل الكبر والكبرياء الامتناع ، وقيل هو ذو الكبرياء وهو الملك سبحان الله عما يشركون أي من ادعاء الكبر لأنفسهم .(6/81)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
{ هو الله الخالق } أي المقدر لما يوجده فهو سبحانه وتعالى قدر أفعاله على وجوه مخصوصة فهو راجع إلى الإرادة ، وقيل المقدر لقلب الشيء بالتدبير إلى غيره { البارئ } أي المخترع المنشىء للأعيان من العدم إلى الوجود { المصور } أي الذي يخلق صورة الخلق على ما يريده وقيل معناه الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض وقيل الخالق المبدىء للخلق المخترع له على غير مثال سبق البارىء المنشىء لما يريد بخلقه فيظهره من العدم إلى الوجود المصور لما خلقه وأنشأه على صور مختلفة وأشكال متباينة وقيل معنى التصوير التخطيط والتشكيل فأولاً يكون خلقاً ثم برءاً ثم تصويراً وإنما قدم الخالق على البارىء لأن تأثير الإرادة مقدم على تأثير القدرة وقدم البارىء على المصور لأن إيجاد الذات مقدم على إيجاد الصفات { له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم } عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر وكل به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي فإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً ومن قالها حين يمسي كان كذلك » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب والله أعلم .(6/82)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } الآية ( ق ) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال « بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، قال فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب فقالت ما معي من كتاب فقلنا لتخرجي الكتاب أو لنلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حاطب ما هذا فقال يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امراً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي وما فعلته كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قد صدقكم فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقالوا اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » فأنزل الله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إلى قوله سواء السبيل } روضة خاخ موضع بقرب حمراء الأسد من المدينة وقيل إنه موضع قريب من مكة والأول أصح والظعينة المرأة المسافرة سميت بذلك لملازمتها الهودج والعقاص الشعر المضفور قال المفسرون نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة كما جاء في الحديث « وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة من مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسلمة جئت؟ قالت لا قال أمهاجرة جئت؟ قالت لا قال فما جاء بك؟ قالت كنتم الأهل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني فقال لها وأين أنت من شباب مكة وكانت مغنية نائحة قالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر فحث عليها بني عبد المطلب فأعطوها نفقة وكسوها وحملوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى فكتب معها إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم فخرجت سارة ونزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد فرساناً فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها وإن لم تدفعه لكم فاضربوا عنقها فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لها أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب فبحثوا وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً فهموا بالرجوع ، فقال علي والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسل السيف وقال أخرجي الكتاب وإلا لأجردنك ولأضربن عنقك فلما رأت الجد أخرجته من ذوائبها وكانت قد خبأته في شعرها فخلوا سبيلها ولم يتعرضوا لها ولا لما معها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب فأتاه فقال له هل تعرف الكتاب قال نعم قال فما حملك على ما صنعت؟ فقال والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت غريباً منهم وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ لي عندهم يداً وقد علمت أن الله تعالى ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريك يا عمل لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم »(6/83)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
{ إن يثقفوكم } أي يظفروا بكم ويروكم { يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } أي بالضرب والقتل والشم والسب { وودوا } أي تمنوا { لو تكفرون } أي ترجعون إلى دينهم كما كفروا والمعنى أن أعداء الله لا يخلصون المودة لأولياء الله ولا يناصحونهم لما بينهم من الخلاف فلا تناصحوهم أنتم ولا توادوهم { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } أي لا يدعونكم ولا يحملنكم ذوو أرحامكم وقراباتكم وأولادكم الذين بمكة إلى خيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وترك مناصحتهم ونقل أخبارهم وموالاة أعدائهم فإنه لا تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم الذين عصيتم الله لأجلهم { يوم القيامة يفصل بينكم } أي يدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار { والله بما تعملون بصير } قوله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } يخاطب حاطباً ولامؤمنين ويأمرهم بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، { والذين معه } أي من أهل الإيمان { إذ قالوا لقومهم } يعني المشركين { إنا برآء منكم } جمع بريء { ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم } أي جحدناكم وأنكرنا دينكم { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } والمعنى أن إبراهيم عليه السلام وأصحابه تبرؤوا من قومهم وعادوهم لكفرهم فأمر حاطباً والمؤمنين أن يتأسوا بهم { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } يعني لكم أن تتأسوا بإبراهيم في جميع أموره إلا في الاستغفار لأبيه المشرك فلا تتأسوا به فإن إبراهيم كان قد قال لأبيه لأستغفرن لك فلما تبين له إقامته على الكفر تبرأ منه { وما أملك لك من الله من شيء } هذا من قول إبراهيم لأبيه يعني ما أغني عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيته وأشركت به وإنما وعده بالاستغفار رجاء إسلامه وكان من دعاء إبراهيم ومن معه من المؤمنين { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } أي لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق ، وقيل معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك { واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم } .(6/84)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
{ لقد كان لكم فيهم } يعني في إبراهيم ومن معه { أسوة حسنة } أي اقتداء حسن { لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر } أي إن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة { ومن يتول } أي يعرض عن الإيمان ويوالي الكفار { فإن الله هو الغني } أي عن خلقه { الحميد } أي إلى أهل طاعته وأوليائه فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة وعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله تعالى { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم } أي من كفار مكة { مودة } ففعل الله تعالى ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخواناً وخالطوهم وناكحوهم وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ولان لهم أبو سفيان { والله قدير } أي علي جعل المودة بينكم { والله غفور رحيم } أي لمن تاب منهم وأسلم ثم رخص في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم } أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم { وتقسطوا إليهم } أي وتعدلوا فيهم بالإحسان إليهم والبر { إن الله يحب المقسطين } أي العادلين قال ابن عباس نزلت في خزاعة وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً فرخص الله في برهم وقال عبد الله بن الزبير نزلت في أمه وهي أسماء بنت أبي بكر وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها المدينة بهدايا ضباباً وأقطاً وسمناً وهي مشركة فقالت أسماء لا أقبل منك هدية ولا تدخلي عليّ بيتاً حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها وأن تقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها « ، ( ق ) عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما قالت » قدمت على أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدتهم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة أفأصلها قال نعم صليها « ، زاد في رواية قال ابن عيينة فأنزل الله فيها { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } ثم ذكر الله الذي نهى عن صلتهم وبرهم(6/85)
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
{ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم } وهم مشركو مكة { أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } الآية ( خ ) عن عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه وكره المؤمنون ذلك وأبي سهيل إلا ذلك فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون عنها النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها حتى أنزل الله فيهن { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن - إلى - ولا هم يحلون لهن } قال عروة فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن بهذه الآية { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات } - إلى قوله { غفور رحيم } قال عروة قالت عائشة فمن أقرت بهذا الشرط منهن؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم « قد بايعتك » كلاماً يكلمها والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ولا بايعهن إلا بقوله وقال ابن عباس « أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً حتى إذا كان بالحديبية صالحة مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى مكة من أصحابه لم يردوه إليه وكتبوا بذلك كتاباً وختموا عليه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد فراغ الكتاب وأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم وقيل هو صيفي بن الراهب في طلبها وهو كافر فقال يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات أي من دار الكفر إلى دار الإسلام فامتحنوهن قال ابن عباس امتحانها أن تستحلف ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا لحدث أحدثته ولا التماس دنيا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فإذا حلفت على ذلك لم يردها فاستحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيعة فحلفت فلم يردها وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها فتزوجها عمر بن الخطاب قال المفسرون المراد بقوله يا أيها الذين آمنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه هو الذي تولى امتحانهن بنفسه فكان يمسك من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن ويرد من جاء من الرجال .(6/86)
واختلف العلماء هل دخل رد النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً فقيل قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظاً صريحاً فنسخ الله تعالى ردهن من العقد ومنع منه وأبقاه في الرجال على ما كان في العقد وقيل لم يشترط ردهن في العقد لفظاً صريحاً وإنما أطلق العهد فكان ظاهره العموم لاشتماله على النساء وعلى الرجال فبين الله تعالى خروجهن من عموم العقد وفرق بينهن وبين الرجال في الحكم ، { الله أعلم بإيمانهن } أي هذا الامتحان لكم والله أعلم بإيمانهن { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } إي إذا أقررن بالإيمان فلا تردوهن إلى الكفار لأن الله لم يبح مؤمنة لكفار { وآتوهم } يعني أزواجهن { ما أنفقوا } أي عليهن من المهر الذي دفعوه إليهن ، { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن أباح الله للمسلمين نكاح المهاجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام وإن كان لهن أزواج كفار في دار الحرب لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار ووقفت الفرقة بانقضاء عدتها فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي زوجته وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد ومالك والشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة تقع الفرقة باختلاف الدارين ، { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } جمع عصمة وهي ما اعتصم به من العقد : والسبب نهى الله تعالى المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات يقول الله تعالى وإن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما .
قال الزهري لما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية وهي أم ابنه عبيد الله فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غنم وهما على شركهما .
وكانت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد الله فهاجر طلحة وبقيت هي على دين قومها ففرق الإسلام بينهما فتزوجها بعده في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية قال الشعبي وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت وهاجرت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأقام أبو العاص بمكة مشركاً ثم أتى المدينة فأسلم فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم { واسألوا } أي أيها المؤمنون { ما أنفقتم } يعني إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاطلبوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم { وليسألوا } يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم { ما أنفقوا } من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم { وليسألوا } يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم { ما أنفقوا } من المهر ممن تزوجها منكم { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم } قال الزهري ولولا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش لأمسك النساء ولم يرد الصداق وكذلك صنع بمن جاء من المسلمات قبل العهد فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله تعالى وأدوا ما أمروا به من أداء نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمر من أداء نفقات المسلمين .(6/87)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
{ وإن فاتكم } أيها المؤمنون { شيء من أزواجكم إلى الكفار } أي فلحقن بهم مرتدات { فعاقبتم } معناه غزوتم فغنمتم وأصبتم من الكفار عقبي وهي الغنيمة وقيل معناه ظهرتم وكانت العاقبة لكم { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم } أي إلى الكفار { مثل ما أنفقوا } معناه أعطوا الذين ذهبت أزواجهم منكم إلى الكفار مرتدات مثل ما أنفقوا عليها من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار قال ابن عباس لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان وكان تحت عياض بن شداد الفهري وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة وكانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر بها أبت وارتدت وبروع بنت عقبة وكانت تحت شماس بن عثمان وعزة بنت عبد العزيز بن نضلة وتزوجها عمرو بن عبد ود وهند بنت أبي جهل بن هشام وكانت تحت هشام بن العاص بن وائل وأم كلثوم وكانت تحت عمر بن الخطاب فكلهن رجعن عن الإسلام فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة واختلف القول في رد مهر من أسلمت من النساء إلى زوجها هل كان واجباً أو مندوباً وأصل هذه المسألة أن الصلح هل كان وقع على رد النساء أم لا فيه قولان أحدهما أنه وقع على رد الرجال والنساء جميعاً لما روي أنه لا يأتيك منا أحد إلا رددته ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله تعالى { فلا ترجعوهن إلى الكفار } فعلى هذا كان رد المهر واجباً . والقول الثاني أن الصلح لم يقع على رد النساء لأنه روي عن علي أنه قال لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة هدايتها إلى المخرج من الكفر بإظهار كلمة الكفر مع التورية وإضمار كلمة الإيمان وطمأنينة القلب عليه ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته وهدايته إلى التقية فعلى هذا كان المهر مندوباً .
واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار فقال قوم لا يجب وزعموا أن الآية منسوخة وهم عطاء ومجاهد وقتادة قال قوم الآية غير منسوخة ويرد عليهم ما أنفقوا قوله تعالى : { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } .(6/88)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
{ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } الآية قال المفسرون لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وفرغ من بيعة الرجال وهو على الصفا أتته النساء يبلغنه وعمر بن الخطاب أسفل منه يبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبايعهن { على أن لا يشركن بالله شيئاً } فرفعت هند رأسها وقالت والله إنك لتأخذ علينا أمراً وما رأيناك أخذته على الرجال وكان قد بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط فقال النبي صلى الله عليه وسلم { ولا يسرقن } فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات فلا أدري يحل لي أم لا فقال أبو سفيان ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو حلال فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها وإنك لهند بنت عتبة قالت نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك فقال { ولا يزنين } فقالت هند أو تزني الحرة؟ فقال { ولا يقتلن أولادهن } فقالت هند ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم { ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } فقالت هند والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، { ولا يعصينك في معروف } فقالت هند ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء فأقر النسوة بما أخذ عليهم من البيعة قال ابن الجوزي وجملة من أحصى من المبايعات أربعمائة وسبعة وخمسون امرأة ولم يصافح في البيعة امرأة وإنما بايعهن بالكلام ، ( ق ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية على أن لا يشركن بالله شيئاً وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا يملكها » وأما تفسير الآية فقوله تعالى : { ولا يقتلن أولادهن } أراد به وأد البنات الذي كان يفعله أهل الجاهلية ثم هو عام في كل نوع من قتل الولد ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن يعني لا تلحق المرأة بزوجها غير ولده وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود فتقول لزوجها هذا ولدي منك فهذا هو البهتان المفتري وليس المراد منه نهيهن عن الزنا لأن النهي عنه قد تقدم ذكره ومعنى بين أيديهن وأرجلهن أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها ولا يعصينك في معروف أي في كل ما تأمرهن به أو تنهاهن عنه وقيل في كل أمر وافق طاعة الله وكل أمر فيه رشد وقيل هو النهي عن النوح والدعاء بالويل وتمزيق الثياب وحلق الشعر ونتفه وخمش الوجه وأن لا تحدث المرأة الرجال الأجانب ولا تخلو برجل غير ذي محرم ولا تسافر مع غير ذي محرم ، قال ابن عباس في قوله { ولا يعصينك في معروف } إنما هو شرط شرطه الله على النساء أخرجه البخاري ( ق ) عن أم عطية قالت « بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا أن لا يشركن بالله شيئاً ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها فقالت فلانة أسعدتني فأنا أريد أن أجزيها فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فانطلقت ثم رجعت فبايعها » .(6/89)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم } يعني من اليهود وذلك أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين يتوصلون إليهم بذلك فيصيبون من ثمارهم فنهاهم الله عن ذلك « { قد يئسوا من الآخرة } يعني اليهود وذلك أنهم عرفوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوا به فيئسوا من أن يكون لهم ثواب أو خير في الآخرة { كما يئس الكفار من أصحاب القبور } يعني كما يئس الذين ماتوا على الكفر وصاروا في القبور من أن يكون لهم ثواب في الآخرة وذلك أن الكفار إذا دخلوا قبورهم أيسوا من رحمة الله تعالى وقيل معناه كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم والمعنى : أن اليهود الذين عاينوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به قد يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/90)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)
قوله عز وجل : { سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } قيل سبب نزولها ما روي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال « قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا فأنزل الله تعالى سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم » أخرجه الترمذي وقال المفسرون إن المؤمنين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعلمناه ولبذلنا فيها أموالنا وأنفسنا فأنزل الله عز وجل : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } وأنزل الله { هل أدلكم على تجارة } الآية فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين وكرهوا الموت وأحبوا الحياة فأنزل الله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون وقيل لما أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بثواب أهل بدر قالت الصحابة لئن لقينا قتالاً لنفرغن فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيرهم الله بهذه الآية وقيل نزلت في شأن القتال كان الرجل يقول قاتلت ولم يقاتل وأطعمت ولم يطعم وضربت ولم يضرب فنزلت هذه الآية وقيل نزلت في المنافقين وذلك أنهم كانوا يعدون النصر للمؤمنين وهم كاذبون .(6/91)
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
{ كبر مقتاً عند الله } أي عظم بغضاً عند الله { أن تقولوا ما لا تفعلون } معناه أن يعدوا من أنفسهم شيئاً ولم يفوا به { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } أي يصفون أنفسهم عند القتال صفاً ولا يزولون عن أماكنهم { كأنهم بنيان مرصوص } أي قد رص بعضه ببعض وألزق بعضه إلى بعض وأحكم فليس فيه فرجة ولا خلل ومنه الحديث « تراصوا في الصف » ومعنى الآية إن الله يحب أن يثبت في الجهاد في سبيله ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص .
قوله تعالى : { وإذ قال موسى لقومه } أي واذكر يا محمد لقومك إذ قال موسى لقومه بني إسرائيل { يا قوم لم تؤذونني } قيل : إنهم كانوا يؤذونه بأنواع من الأذى التعنت منها قولهم أرنا الله جهرة وقولهم لن نصبر على طعام واحد ومنها أنهم رموه بالأدرة { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } يعني تؤذونني وأنتم عالمون علماً قطعياً أني رسول الله إليكم والرسول يعظم ويوقر ويحترم ولا يؤذي { فلما زاغوا } أي عدلوا ومالوا عن الحق { أزاغ الله قلوبهم } أي أمالها عن الحق إلى غيره { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق خارج عن طاعته وهدايته وهذا تنبيه على عظم إيذاء الرسل حتى إن أذاهم يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم } أي إني رسول أرسلت إليكم بالوصف الذي وصفت به في التوراة { مصدقاً لما بين يدي من التوراة } أي مقر معترف بأحكام التوراة وكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن قد تقدم { ومبشراً برسول يأتي من بعدي } أي يصدق بالتوراة على مثل تصديقي فكأنه قيل ما اسمه فقال { اسمه أحمد } عن أبي موسى قال « أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يأتوا النجاشي » وذكر الحديث ، وفيه قال « سمعت النجاشي يقول أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر الناس لأتيته حتى أحمل نعليه » أخرجه أبو داود وعن عبد الله بن سلام قال مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه فقال أبو داود المدني قد بقي في البيت موضع قبر أخرجه الترمذي عن كعب الأحبار أن الحواريين قالوا لعيسى صلى الله عليه وسلم يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال نعم يأتي بعدكم أمة حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم في الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل ( ق ) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(6/92)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
{ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب } أي ومن أقبح ظلماً ممن بلغ افتراؤه أن يكذب على الله وذلك أنهم علموا أن ما نالوه من نعمة فمن الله ثم كفروا به { وهو يدعى إلى الإسلام } معنى الآية أي الناس أشد ظلماً ممن يدعوه ربه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله بقوله هذا سحر مبين { والله لا يهدي القوم الظالمين } أي لا يوفقهم للهداية علم من حالهم عقوبة لهم { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } يعني إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن هذا سحر { والله متم نوره } يعني متم للحق ومظهره ومبلغه غايته وقال ابن عباس مظهر دينه { ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } أي ليعليه على الأديان المخالفة له ولقد فعل ذلك فلم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب ومقهور بدين الإسلام { ولو كره المشركون } ، قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } نزلت هذه الآية حين قالوا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه وإنما سماه تجارة لأنهم يربحون فيه رضا الله عز وجل ونيل جنته والنجاة من النار ثم بين تلك التجارة فقال تعالى : { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم } أي الذي آمركم به من الإيمان والجهاد في سبيله { إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم } هذا جواب قوله تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون لأن معناه معنى الأمر والمعنى آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله أي إذا فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم { ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم } يعني هذا الجزاء الذي ذكر هو الفوز العظيم ، { وأخرى تحبونها } أي ولكم تجارة أخرى وقيل لكم خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة وتلك الحصلة { نصر من الله وفتح قريب } ، قيل هو النصر على قريش وفتح مكة وقيل فتح مدائن فارس والروم { وبشر المؤمنين } أي يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة ثم حضهم على نصر الدين وجهاد المخالفين فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله } أي مع الله والمعنى انصروا دين الله كما نصر الحواريون دين الله لما قال لهم عيسى من أنصاري إلى الله { قال الحواريون نحن أنصار الله } وكانوا اثني عشر رجلاً أول من آمن بعيسى عليه الصلاة والسلام وحواري الرجل صفيه وخلاصته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « حواري » الزبير { فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة } قال ابن عباس في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق فرقة قالوا كان الله فارتفع وفرقة قالوا كان ابن الله فرفعه وفرقة قالوا كان عبد الله ورسوله فرفعه وهم المؤمنون واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى : { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } أي غالبين وقيل معناه فأصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى روح الله وكلمته والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .(6/93)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
قوله عز وجل : { يسبح له ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين } يعني العرب وكانت العرب أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ حتى بعث فيهم نبي الله وقيل الأمي هو الذي على ما خلق عليه كأنه منسوب إلى أمه { رسولاً منهم } يعني محمد صلى الله عليه وسلم يعلمون نسبه وهو من جنسهم وقيل أمياً مثلهم وإنما كان أمياً لأن نعته في كتب الأنبياء النبي الأمي وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة بالكتابة على ما أتى به من الوحي والحكمة ولتكون حاله مشاكلة لحال أمته الذين بعث فيهم وذلك أقرب إلى صدقه { يتلوا عليهم آياته } أي التي يبين رسالته وقيل آياته التي يتميز بها الحلال من الحرام والحق من الباطل { ويزكيهم } أي يطهرهم من دنس الشرك { ويعلمهم الكتاب } أي القرآن وقيل الفرائض { والحكمة } قيل هي السنة { وإن كانوا من قبل } أي من قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم { لفي ضلال مبين وآخرين منهم } أي من المؤمنين الذين ظهروا يدينون بدينهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم فإن المسلمين كلهم أمة واحدة ، وقيل أراد بالآخرين العجم وهو قول ابن عمر وسعيد بن جبير ورواية عن مجاهد يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال « كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال له رجل يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا فلم يكلمه حتى ساله ثلاثاً قال وسلمان الفارسي فينا فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان وقال والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء » أخرجاه في الصحيحين ، وقيل هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة { لما يلحقوا بهم } لم يدركوهم ولكنهم جاؤوا بعدهم وقيل لم يلحقوا بهم في الفضل والسابقة لأن التابعين لا يدركون شأو الصحابة { وهو العزيز } أي الغالب الذي قهر الجبابرة { الحكيم } أي الذي جعل كل مخلوق يشهد بوحدانيته .(6/94)
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } يعني الإسلام وقيل النبوة خص بها محمداً صلى الله عليه وسلم { والله ذو الفضل العظيم } أي على خلقه حيث أرسل فيهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة } يعني اليهود حيث كلفوا القيامة بها والعمل بما فيها وليس هو من الحمل على الظهر وإنما هو من الحمالة والحميل والكفيل { ثم لم يحملوها } أي لم يعملوا بما فيها ولم يؤدوا حقها ، { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } جمع سفر الكتب العظام من العلم سمى سفراً لأنه سفر عما فيه من المعنى وهذا مثل ضربه الله تعالى لليهود الذين أعرضوا عن العمل بالتوراة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم شبهوا إذا لم ينتفعوا بما في التوراة الدال على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بالحمار الذي يحمل الكتب ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود الذين يقرؤون التوراة ولا ينتفعوا بها لأنهم خالفوا ما فيها وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن ولم يعمل بما فيه وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ولهذا قال ميمون بن مهران يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم ثم تلا هذه الآية ثم ذم هذا المثل والمراد منهم ذمهم فقال تعالى : { بئس مثل القوم } يعني بئس مثلاً مثل القوم { الذين كذبوا بآيات الله } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وما أتي من آيات القرآن وقيل المراد من الآيات آيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { والله لا يهدي القوم الظالمين } أي لا يهدي من سبق في علمه أن يكون ظالماً وقيل يعني الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب آيات الله وأنبيائه { قل } أي قل يا محمد { يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس } أي من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه { فتمنوا الموت } ادعوا على أنفسكم { بالموت إن كنتم صادقين } يعني فيما زعمتم أنكم أبناء الله وأحياؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه لأن الآخرة خير لأولياء الله من الدنيا { ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم } أي بسبب ما قدموا من الكفر والتكذيب { والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } أي لا ينفعكم الفرار منه { ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } فيه وعيد وتهديد .(6/95)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة } أي لوقت الصلاة { من يوم الجمعة } أي في يوم الجمعة وأراد بهذا النداء الإذن عند قعود الإمام على المنبر للخطبة لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه « كان إذا جلس صلى الله عليه وسلم على المنبر أذن بلال » ( خ ) عن السائب بن يزيد قال « كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء » زاد في رواية « فثبت الأمر على ذلك » ، ولأبي داود قال « كان يؤذن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد وذكر نحوه » الزوراء موضع عند سوق المدينة قريب من المسجد وقيل كان مرتفعاً كالمنارة .
واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة فقيل لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم وقيل لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه فاجتمعت فيه المخلوقات وقيل لاجتماع الجماعات فيه للصلاة وقيل أول من سمى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤي قال أبو سلمة أول من قال أما بعد كعب بن لؤي وكان أول من سمى الجمعة جمعة وكان يقال لها يوم العروبة ، عن ابن سيرين قال جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموا الجمعة وقالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى يوم فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه فنذكر اسم الله تعالى ونصلي فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة ثم أنزل الله تعالى في ذلك اليوم { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة } الآية عن كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة فقال له ابنه عبد الرحمن يا أبت إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات قلت له كم كنتم يومئذ؟ قال أربعون « أخرجه أبو داود وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أصحاب السير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول حين امتد الضحى فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامداً إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واديهم وقد اتخذوا في ذلك الموضع مسجداً فجمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب .(6/96)
وقوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } أي فامضوا إليه واعملوا له وليس المراد من السعي الإسراع في المشي وإنما المراد منه العمل وكان عمر بن الخطاب يقرأ فامضوا إلى ذكر الله وقال الحسن أما والله ما هو بالسعي على الاقدام ولقد نهوا أن يأتوا إلى الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع .
وعن قتادة في هذه الآية فاسعوا إلى ذكر الله قال السعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها وكان يتأول قوله : { فلما بلغ معه السعي } بقوله فلما مشى معه ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا » وفي رواية « فإذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة » وذكره زاد مسلم « فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في الصلاة » والمراد بقوله فاسعوا إلى ذكر الله الصلاة وقال سعيد بن المسيب هو موعظة الإمام { وذروا البيع } يعني البيع والشراء لأن البيع اسم يتناولهما جميعاً وهو من لوازمه وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني وقال الزهري عند خروج الإمام وقال الضحاك إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء { ذلكم } أي الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع والشراء { خير لكم } أي من المبايعة في ذلك الوقت { إن كنتم تعلمون } أي من مصالح أنفسكم والله تعالى أعلم .
( فصل في فضل الجمعة وأحكامها وإثم تاركها )
وفيه مسائل :
( المسألة الأولى ) : في فضلها ( م ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج لما منها » ، زاد في رواية « ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة » ( ق ) عنه « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال : فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل فيها شيئاً إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها » ( ق ) عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا أحرم الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر »(6/97)
، وفي رواية « إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المساجد ملائكة يكتبون الأول فالأول فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر » قوله من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة معناه غسلاً كغسل الجنابة ( م ) عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا » قوله ومن مس الحصى فقد لغا معناه أنه يشغله عن سماع الخطبة كما يشغله الكلام فجعله كاللغو ( خ ) عن عبادة قال أدركني أبو عيسى وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول « من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرجت إلى الطور فرأيت كعب الأحبار فجلست معه فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيما حدثته أن قلت له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه مات وفيه تيب عليه وفيه تقوم الساعة وما دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا الجن والإنس وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه » قال كعب ذاك في كل سنة يوماً فقلت بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة فقال عبد الله بن سلام قد علمت أي ساعة هي قال أبو هريرة فقلت أخبرني بها ولا تكن عني ، وفي رواية تضن عليّ قال هي آخر ساعة في يوم الجمعة قال أبو هريرة قلت وكيف تقول آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلي فيها قال عبد الله بن سلام ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم « من جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها » قال أبو هريرة فقلت بلى قال فهو ذلك أخرجه مالك في الموطأ والنسائي ( خ ) عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلم يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة »(6/98)
الأخرى عن أوس بن أوس الثقفي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ واستمع كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها » أخرجه أبو داود والنسائي قال أبو داود سئل مكحول عن غسل واغتسل قال غسل رأسه وجسده .
( المسألة الثانية ) : في إثم تاركها ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على منبره « لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين » عن أبي الجعد الضمري وكان له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه » أخرجه أو داود والنسائي وللترمذي نحوه ( م ) عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة « هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم » .
( المسألة الثالثة ) : في تأكيد وجوبها قال العلماء صلاة الجمعة هي من فروض الأعيان فتجب على كل مسلم حر بالغ عاقل ذكر مقيم إذا لم يكن له عذر في تركها ومن تركها من غير عذر استحق الوعيد أما الصبي والمجنون فلا جمعة عليهما لأنهما ليسا من أهل الفرض ولا جمعة على النساء بالاتفاق يدل عليه ما روي عن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا على أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض » ، أخرجه أبو داود وقال طارق « رأى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال » الجمعة على من سمع النداء « أخرجه أبو داود وقال رواه جماعة ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال » الجمعة على من آواه الليل إلى أهله « ، أخرجه الترمذي ولا تجب الجمعة على العبيد وقال الحسن وقتادة والأوزاعي تجب على العبد المكاتب وعن أحمد في العبيد روايتان وتجب الجمعة على أهل القرى والبوادي إذا سمعوا النداء من موضع تقام فيه الجمعة يلزمهم الحضور وإن لم يسمعوا فلا جمعة عليهم وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق والشرط أن يبلغهم نداء مؤذن جهوري الصوت يؤذن في وقت تكون الأصوات فيه هادئة والرياح ساكنة فكل قرية تكون من موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة وقال سعيد بن المسيب تجب الجمعة على من آواه المبيت وقال الزهري تجب على كل من كان على ستة أميال وقال ربيعة على أربعة أميال ، وقال مالك والليث على ثلاثة أميال وقال أبو حنيفة لا جمعة على أهل السواد سواء كانت القرية قريبة أو بعيدة دليل الشافعي ومن وافقه ما روي البخاري عن ابن عباس قال » إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجؤاثى من البحرين « ولأبي داود نحوه فيه بجؤائى قرية من قرى البحرين .(6/99)
( المسألة الرابعة ) : في تركها لعذر كل من له عذر من مرض أو تعهد مريض أو خوف جاز له ترك الجمعة وكذا له تركها بعذر المطر والوحل يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس « أنه خطب في يوم ذي ردغ فأمر المؤذن فلما بلغ حي على الصلاة قال قل الصلاة في الرحال فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم أنكروا ذلك فقال كأنكم أنكرتم هذا إن هذا فعله من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه وسلم وإنها عزمة وإني كرهت أن أخرجكم » زاد في رواية « فتمشون في الطين و الدحض والزلق » ، أخرجه البخاري ومسلم وكل من لا تجب عليه الجمعة فإذا حضر وصلى مع الإمام الجمعة سقط عنه فرض الظهر ولكن لا يكمل به عدد الذين تنعقد بهم الجمعة إلا صاحب العذر فإنه إذا حضر كمل به العدد .
( المسالة الخامسة ) : في العدد الذي تنعقد به الجمعة اختلف أهل العلم في العدد الذي تنعقد به الجمعة فقيل لا تنعقد بأقل من أربعين رجلاً وهو قول عبيد الله بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق قالوا لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلاً من أهل الكمال وذلك بأن يكونوا أحراراً بالغين عاقلين مقيمين في موضع لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفاً إلا ظعن حاجة ، وشرط عمر بن عبد العزيز أن يكون فيهم وال والوالي غير شرط عند الشافعي وقال علي بن أبي طالب : لا جمعة إلا في مصر جامع وهو قول أصحاب الرأي ثم عند أبي حنيفة تنعقد بأربعة والوالي شرط عنده وقال الأوزاعي وأبو يوسف تنعقد بثلاثة إذا كان فيهم وال وقال الحسن تنعقد باثنين وكسائر الصلوات وقال ربيعة تنعقد باثني عشر رجلاً ولا يكمل العدد بمن لا تجب عليه الجمعة كالعبد والمرأة والمسافر والصبي ولا تنعقد إلا في موضع واحد من البلد وبه قال الشافعي ومالك وأبو يوسف وقال أحمد تصح بموضعين إذا كثر الناس وضاق الجامع .(6/100)
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
قوله عز وجل : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } أي إذا فرغ من صلاة الجمعة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم { وابتغوا من فضل الله } يعني الرزق وهذا أمر إباحة قال ابن عباس إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد وإن شئت فصل إلى العصر وقيل قوله فانتشروا في الأرض ليس لطلب دنيا ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله وقيل وابتغوا من فضل الله هو طلب العلم وعن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال اللهم أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين { واذكروا الله كثيراً } أي إذا فرغتم من الصلاة ورجعتم إلى التجارة والبيع والشراء فاذكروا الله كثيراً قيل باللسان وقيل بالطاعة قيل لا تكون من الذاكرين الله كثيراً حتى تذكره قائماً وقاعداً ومضطجعاً { لعلكم تفلحون } قوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً } ( ق ) عن جابر قال « بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً فانفتلوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا إثنا عشر رجلاً فنزلت هذه الآية وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً » وفي رواية « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً فجاءت عير من الشام وذكر نحوه » وفيه « إلا اثنا عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر » ولمسلم « كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقدمت سويقة قال فخرج الناس إليها فلم يبق إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم » وذكر الحديث وهو حجة من يرى صحة الجمعة باثني عشر رجلاً .
وأجيب عنه بأنه ليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة حتى يكون الحديث حجة لاشتراط هذا العدد وقال ابن عباس في رواية عنه لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط قال الحسن وأبو مالك « أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة زيت وطعام من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فلما رأوه بالبقيع قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط فيهم أبو بكر وعمر ، فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً » وقال مقاتل « بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة وكان إذا قدم لم تبق عاتق بالمدينة إلا أتته وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبر وزيت وغيره وينزل عند أحجار الزيت وهو مكان في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه فقدم ذات جمعة وذلك قبل أن يسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم كم بقي في المسجد؟ فقالوا اثني عشر رجلاً وامرأة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء فأنزل الله هذه الآية »(6/101)
وأراد باللهو الطبل وكانت العير إذا قدمت استقبلوها بالطبل والتصفيق ، وقوله تعالى انفضوا أي تفرقوا وذهبوا نحوها والضمير في إليها راجع إلى التجارة لأنها أهم إليهم وتركوك قائماً اتفقوا على أن القيام كان في الخطبة للجمعة قال علقمة « سئل ابن مسعود أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً؟ قال أما تقرؤون وتركوك قائماً » قال العلماء الخطبة فريضة في صلاة الجمعة وقال داود الظاهري هي مستحبة ويجب أن يخطب الإمام قائماً خطبتين يفصل بينهما بجلوس وقال أبو حنيفة وأحمد لا يشترط القيام ولا القعود وتشترط الطهارة في الخطبة عند الشافعي في أحد القولين وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة أن يحمد الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله هذه الثلاث شروط في الخطبتين جميعاً ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن ويدعو للمؤمنين في الثانية ولو ترك واحدة من هذه الخمسة لم تصح خطبته ولا جمعته عند الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه وهذا القدر لا يقع عليه اسم الخطبة وهو مأمور بالخطبة والسنة للإمام إذا صعد المنبر أن يستقبل الناس وأن يسلم عليهم خلافاً لأبي حنيفة ومالك وهل يحرم الكلام في حال الخطبة فيه خلاف بين العلماء والأصح أنه يحرم على المستمع دون الخاطب ويستحب أن يصلي تحية المسجد إذا دخل والإمام يخطب خلافاً لأبي حنيفة ومالك .
( ذكر الأحاديث الواردة الدالة على هذه الأحكام )
( ق ) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال « كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يعقد بينهما » وفي رواية أخرى « كان يخطب يوم الجمعة وهو قائم ثم يقوم فيتم كما يفعلون الآن » ( م ) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال « كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس » زاد في رواية « فمن حدثك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب » ، ( م ) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن الحكم يخطب جالساً فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً وقد قال الله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً } ، ( م ) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال « كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً » زاد أبو داود ويقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(6/102)
« كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء » أخرجه أبو داود والترمذي ولأبي داود عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم » عن ابن مسعود رضي الله عنه « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصيهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً » وفي رواية أن يونس سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فذكر نحوه وقال فيه « ومن يعصيهما فقد غوى ونسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه إنما نحن به وله » أخرجه أبو داود ( م ) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال « كانت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول » بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ « عن ابن مسعود رضي الله عنه قال » كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا أخرجه الترمذي ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة انصت والإمام يخطب فقد لغوت » عن نافع أن ابن عمر رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبهما أن اصمتا أخرجه مالك في الموطأ قال ابن شهاب خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام « فأما صفة صلاة الجمعة » فركعتان يجهر فيهما بالقراءة ولجواز الجمعة خمس شروط الوقت وهو وقت الظهر ما بين زوال الشمس إلى دخول وقت العصر والعدد والإمام والخطبة ودار الإقامة فإن فقد شرط من هذه الشروط لخمس يجب أن يصلي ظهراً ولا يجوز للإمام أن يبتدىء الخطبة قبل تمام العدد وهو أربعون عند الشافعي فلو اجتمعوا وخطب بهم ثم انفضوا قبل افتتاح الصلاة أو انفض واحد من العدد لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة بل يصلي الظهر ولو افتتح بهم الصلاة ثم انفضوا فأصح أقوال الشافعي أن بقاء الأربعين شرط إلى آخر الصلاة كما أن بقاء الوقت شرط إلى آخر الصلاة فلو نقص واحد قبل أن يسلم الإمام يجب على الباقين أن يصلوها ظهراً ، وفيه قول آخر وهو أنه إن بقي معه اثنان أتمها جمعة وقيل إن بقي معه واحد أتمها جمعة وعند المزني إن انفضوا بعد ما صلى بهم الإمام ركعة أتمها جمعة وإن بقي وحده وإن كان في الركعة الأولى يتمها أربعاً وإن انفض من العدد واحداً ، وبه قال أبو حنيفة لكن في العدد الذي يشترط كالمسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فإذا سلم الإمام أتمها جمعة وإن أدرك أقل من ركعة أتمها أربعاً ( خ ) عن أنس رضي الله عنه(6/103)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)
قوله عز وجل : { إذا جاءك المنافقون } يعني عبد الله بن أبي سلول وأصحابه قالوا { نشهد إنك لرسول الله } وتم الخبر عنهم ثم ابتدأ فقال تعالى : { والله يعلم إنك لرسوله } أي هو الذي أرسلك فهو عالم بك { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } يعني في قولهم نشهد إنك لرسول الله لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا وذلك لأن حقيقة الإيمان أن يواطىء اللسان القلب وكذلك الكلام فمن أخبر عن شيء واعتقد خلافه أو أضمر خلاف ما أظهر فهو كاذب ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم نشهد إنك لرسول الله وسماه كذباً لأن قولهم خالف اعتقادهم { اتخذوا أيمانهم جنة } أي سترة يسترون بها من القتل ومعنى أيمانهم ما أخبر الله عنهم من حلفهم إنهم لمنكم وقولهم نشهد إنك لرسول الله { فصدوا عن سبيل الله } أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله وطاعة رسوله وقيل منعوا الناس عن الجهاد وعن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { إنهم ساء ما كانوا يعملون } يعني حيث آثروا الكفر على الإيمان { ذلك بأنهم آمنوا } أي في الظاهر وذلك إذا رأوا المؤمنين أقروا بالإيمان { ثم كفروا } أي في السر وذلك إذا خلوا مع المشركين وفيه تأكيد لقوله والله يشهد إنهم لكاذبون { فطبع على قلوبهم } أي بالكفر { فهم لا يفقهون } أي الإيمان وقيل لا يتدبرون القرآن .(6/104)
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
{ وإذا رأيتهم } يعني المنافقين مثل عبد الله بن أبي ابن سلول { تعجبك أجسامهم } يعني أن لهم أجساماً ومناظر حسنة { وإن يقولوا تسمع لقولهم } أي فتحسب أنه صدق قال ابن عباس كان عبد الله بن أبي ابن سلول جسيماً فصيحاً ذلق اللسان فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله { كأنهم خشب مسندة } أي أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام شبههم بالخشب المسندة إلى جدر وليست بأشجار مثمرة ينتفع بها { يحسبون كل صيحة عليهم } يعني أنهم لا يسمعون صوتاً في العسكر بأن ينادي مناد أو تنفلت دابة أو تنشد ضالة إلا ظنوا من خبثهم وسوء ظنهم أنهم يرادون بذلك وظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب وقيل إنهم على خوف ووجل من أن ينزل فيهم أمر يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وتم الكلام عند قوله عليهم ثم ابتدأ فقال تعالى : { هم العدو فاحذرهم } أي لا تأمنهم فإنهم وإن كانوا معك ويظهرون تصديقك أعداء لك فاحذرهم ولا تأمنهم على سرك لأنهم عيون لأعدائك من الكفار ينقلون إليهم أسرارك { قاتلهم الله } أي لعنهم الله { أنى يؤفكون } أي يصرفون عن الحق .
قوله تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم } أي أمالوها وأعرضوا بوجوههم رغبة عن الاستغفار { ورأيتهم يصدون } أي يعرضون عما دعوا إليه { وهم مستكبرون } أي عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم { سواء عليهم أستغفرت لهم } أي يا محمد { أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين } .
( ذكر القصة : في سبب نزول هذه الآية )
قال محمد بن إسحاق وغيره من أصحاب السير إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحم الناس واقتتلوا فهزم الله تعالى بني المصطلق وأمكن منهم وقيل من قتل منهم ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليهم فبينما الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد الغفاري يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار وصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين وأعان جهجاهاً رجل من المهاجرين يقال له جعال وكان فقيراً فقال عبد الله بن أبي الجعال وإنك لهناك فقال جعال وما يمنعني أن أفعل ذلك فغضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم وهو غلام حديث السن فقال عبد الله بن أبي افعلوها قد نافرونا وكاثرنا في بلادنا والله ما مثلنا زائدة ومثلهم إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ثم أقبل على من حضر من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولتحولوا إلى غير بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن أرقم أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن ومودة من المسلمين فقال عبد الله بن أبي اسكت لقد كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال دعني أضرب عنقه يا رسول الله قال كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ولكن أذن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها فارتحل الناس وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني فقال عبد الله بن أبي والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك وإن زيداً لكاذب وكان عبد الله في قومه شريفاً عظيماً فقال من حضر من الأنصار من أصحابه يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد وهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله فعذره النبي صلى الله عليه وسلم وفشت الملامة لزيد في الأنصار وكذبوه وقال له عمه وكان زيد معه ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ومقتوك وكان زيد يساير النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيا بعد ذلك أن يدنو من النبي صلى الله عليه وسلم فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما بلغك ما قال صاحبك عبد الله بن أبي فقال أسيد وما قال؟ قال يزعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل فقال أسيد أنت والله يا رسول الله تخرجه هو والله الذليل وأنت والله العزيز ثم قال يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد سلبته ملكاً وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلاً فمرني فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي على الأرض فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(6/105)
« بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا » قالوا وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك حتى أمسى وليلته حتى أصبح وصدر يومه حتى آذتهم الشمس فنزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً وإنما فعل ذلك ليشتغل الناس عن حديث عبد الله بن أبي الذي كان منه بالأمس ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع يقال لها نقعاء فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها وضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بالليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا تخافوا فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار توفي بالمدينة » فقيل من هو؟ قال « رفاعة بن زيد بن التابوت » فقال رجل من المنافقين كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم بمكان ناقته ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبره بقول المنافق وبمكان ناقته فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال « ما أزعم أني أعلم الغيب ولا أعلمه ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي هي في الشعب وقد تعلق زمامها بشجرة » فخرجوا يسعون قبل الشعب فإذا هي كما قال فجاؤوا بها فآمن ذلك المنافق وحسن إيمانه فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات في ذلك اليوم وكان من عظماء اليهود وكهفاً للمنافقين فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال زيد بن أرقم جلست في البيت لما بي من الهم والحياء فأنزل الله عز وجل سورة المنافقين في تصديق زيد بن أرقم وتكذيب عبد الله بن أبي فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن زيد وقال « يا زيد إن الله قد صدقك وأوفى بإذنك » ( ق ) عن زيد بن أرقم قال « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لا تنفقوا عليّ من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا من حوله وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله بتصديقي إذا جاءك المنافقون قال ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لم قال فلووا رؤوسهم وقوله كأنهم خشب مسندة قال كانوا رجالاً أجمل شيء » ( ق ) عن جابر قال(6/106)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
{ هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا } أي يتفرقوا عنه { ولله خزائن السموات والأرض } يعني بيده مفاتيح الرزق فلا يعطي أحد أحداً شيئاً إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته { ولكن المنافقين لا يفقهون } يعني أن أمر الله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة } يعني من غزوة بني المصطلق { ليخرجن الأعز منها الأذل } فرد الله عليهم بقوله { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } فعزة الله تعالى قهره وغلبته على من دونه وعزة رسوله صلى الله عليه وسلم إظهار دينه على الأديان كلها وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم { ولكن المنافقين لا يعلمون } أي ذلك لو علموا ما قالوا هذه المقالة قال أصحاب السير فلما نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول لم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات على نفاقه .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم } أي لا تشغلكم { أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } يعني عن الصلوات الخمس والمعنى لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم كما شغلت المنافقين عن ذكر الله { ومن يفعل ذلك } أي ومن شغله ماله وولده عن ذكر الله { فأولئك هم الخاسرون } أي في تجارتهم حيث آثروا الفاني على الباقي .(6/107)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{ وأنفقوا مما رزقناكم } قال ابن عباس يريد زكاة الأموال { من قبل أن يأتي أحدكم الموت } أي دلائل الموت ومقدماته وعلاماته فيسأل الرجعة { فيقول رب لولا أخرتني } أي هلا أمهلتني وقيل لو أخرت أجلي { إلى أجل قريب فأصدق } أي فأزكي مالي { وأكن } وقرىء وأكون { من الصالحين } أي المؤمنين وقيل نزلت هذه الآية في المنافقين ويدل على هذا أن المؤمن لا يسأل الرجعة وقيل نزلت في المؤمنين والمراد بالصلاح هنا الحج قال ابن عباس : ما من أحد يموت وكان له مال ولم يؤد زكاته أو أطاق الحج ولم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت وقرأ هذه الآية { وأن من الصالحين } أي أحج وأزكي { ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها } يعني أنه تعالى لا يؤخر من حضر أجله وانقضت مدته { والله خبير بما تعملون } يعني أنه لو رد إلى الدنيا وأجيب إلى ما سأل ما حج وما زكى وقيل هو خطاب شائع لكل عامل عملاً من خير أو شر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/108)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
قوله عز وجل : { يسبح له ما في السموات والأرض وما في الأرض له الملك وله الحمد } يعني أنه تعالى متصرف في ملكه كيف يشاء تصرف اختصاص لا شريك له فيه وله الحمد لأن أصول النعم كلها منه وهو الذي يحمد على كل حال فلا محمود في جميع الأحوال إلا هو { وهو على كل شيء قدير } يعني أنه سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء كما يشاء بلا مانع ولا مدافع { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } قال ابن عباس : إن الله تعالى خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمناً وكافراً ( م ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لهم وهم في أصلاب آبائهم » ( ق ) عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « وكل الله بالرحم ملكاً فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال يا رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد فما الزرق فما الأجل فيكتب ذلك وهو في بطن أمه » وقال جماعة في معنى الآية إن الله تعالى خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا لأن الله ذكر الخلق ثم وصفهم بفعلهم فقال فمنكم كافر ومنكم مؤمن ثم اختلفوا في تأويلها فروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة وقال عطاء بن أبي رباح فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب وقيل فمنكم كافر أي بأن الله خلقه وهم الدهرية وأصحاب الطبائع ومنكم مؤمن أي بأن الله خلقه وجملة القول فيه أن الله تعالى خلق الكافر وكفره فعلاً له وكسباً وخلق المؤمن وإيمانه فعلاً له وكسباً فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله وبمشيئته فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختال الإيمان لأن الله تعالى أراد ذلك منه وقدره عليه وعلمه منه والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه هذا طريق أهل السنة فمن سلك هذا أصاب الحق وسلم من مذهب الجبرية والقدرية { والله بما تعملون بصير } أي أنه عالم بكفر الكافر وإيمان المؤمن .(6/109)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
{ خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم } أي إنه أتقن وأحكم صوركم على وجه لا يوجد مثله في الحسن والمنظر من حسن القامة والمناسبة في الأعضاء وقد علم بهذا أن صورة الإنسان أحسن صورة وأكملها { وإليه المصير } أي المرجع في القيامة { يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور } معناه أنه لا تخفى عليه خافية فاستوى في علمه الظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم قوله تعالى : { ألم يأتكم } يخاطب كفار مكة { نبأ الذين كفروا من قبل } يعني خبر الأمم الخالية { فذاقوا وبال أمرهم } أي جزاء أعمالهم وهو ما لحقهم من العذاب في الدنيا { ولهم عذاب أليم } أي في الآخرة { ذلك } أي الذي نزل بهم من العذاب { بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا } معناه أنهم أنكروا أن يكون الرسول بشراً وذلك لقلة عقولهم وسخافة أحلامهم ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً { فكفروا } أي جحدوا وأنكروا { وتولوا } أي أعرضوا { واستغنى الله } أي عن إيمانهم وعبادتهم { والله غني } أي عن خلقه { حميد } أي في أفعاله ثم أخبر الله تعالى عن إنكارهم البعث(6/110)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
{ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل } أي قل لهم يا محمد { بلى وربي لتبعثن } أي يوم القيامة { ثم لتنبؤن } أي لتخبرن { بما عملتم وذلك على الله يسير } أي أمر البعث والحساب يوم القيامة { فآمنوا بالله ورسوله } لما ذكر حال الأمم الماضية المكذبة وما نزل بهم من العذاب قال فآمنوا أنتم بالله ورسوله لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة { والنور الذي أنزلنا } يعني القرآن سماه نوراً لأنه يهتدى به في ظلمات الضلال كما يهتدى بالنور في الظلمة { والله بما تعملون خبير } يعني أنه مطلع عليكم عالم بأحوالكم جميعاً فراقبوه وخافوه .
قوله عز وجل : { يوم يجمعكم ليوم الجمع } يعني يوم القيامة يجمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السموات وأهل الأرضين { ذلك يوم التغابن } من الغبن وهو فوت الحظ والمراد في المجازاة والتجارة وذلك أنه إذا أخذ الشيء بدون قيمته فقد غبن والمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة وذلك لأن كل كافر له أهل ومنزل في الجنة لو أسلم فيظهر يومئذ غبن كل كافر يتركه الإيمان ويظهر غبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وقيل إن قوماً في النار يعذبون وقوماً في الجنة ينعمون فلا غبن أعظم من هذا وقل هو غبن المظلوم للظالم لأن المظلوم مغبون في الدنيا فصار في الآخرة غابناً لظالمة وأصل الغبن في البيع والشراء وقد ذكر الله في حق الكافرين « انهم خسروا وغبنوا في شرائهم فقال تعالى : { اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة } وقال في حق المؤمنين { هل أدلكم على تجارة } وقال { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } فخسرت صفقة الكافرين وربحت صفقة المؤمنين { ومن يؤمن بالله } على ما جاءت به الرسل من الإيمان بالبعث والجنة والنار { ويعمل صالحاً } أي في إيمانه إلى أن يموت على ذلك { يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم والذين كفروا } أي بوحدانية الله وقدرته { وكذبوا بآياتنا } أي الدالة على البعث { أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } أي بقضاء الله وقدره وإرادته { ومن يؤمن بالله } أي يصدق أنه لا يصيبه مصيبة من موت أو مرض أو ذهاب مال ونحو ذلك إلا بقضاء الله وقدره وإذنه { يهد قلبه } أي يوفقه لليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيسلم لقضاء الله تعالى وقدره وقيل يهد قلبه للشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء { والله بكل شيء عليم وأطيعوا الله } أي فيما أمر { وأطيعوا الرسول } أي فيما جاء به عن الله وما أمركم به { فإن توليتم } أي عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه { فإنما على رسولنا البلاغ المبين الله لا إله إلا هو } أي لا معبود ولا مقصود إلا هو { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } .(6/111)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم فاحذروهم } عن ابن عباس قال هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم فاحذروهم } الآية أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعنه قالوا لهم صبرنا على إسلامكم فلا صبر لنا على فراقكم فأطاعوهم وتركوا الهجرة فقال تعالى فاحذروهم أي أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا } هذا فيمن أقام على الأهل والولد ولم يهاجر ثم هاجر فرأى الذين قد سبقوه بالهجرة فقد فقهوا في الدين فهم أن يعاقب زوجته وولده الذين ثبطوه ومنعوه عن الهجرة لما لحقوا به ولا ينفق عليهم ولا يصيبهم بخير فأمره الله بالعفو والصفح عنهم وقال عطاء بن يسار نزلت في عوف بن مالك الأشجعي وكان ذا أهل وولد فإذا أراد أن يغزو بكوا عليه ورققوه وقالوا إلى من تدعنا فيرق عليهم فيقيم فأنزل الله تعالى إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم بحملهم إياكم على ترك طاعة الله فاحذروهم أي أن تقبلوا منهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا أي فلا تعاقبوهم على خلافكم { فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة } أي بلاء واختبار وشغل عن الآخرة وقد يقع الإنسان بسببهم في العظائم ومنع الحق وتناول الحرام وغصب مال الغير ونحو ذلك { والله عنده أجر عظيم } يعني الجنة والمعنى لا تباشروا المعاصي بسبب أولادكم ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم قال بعضهم لما ذكر الله العداوة أدخل من للتبعيض فقال إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم لأنهم كلهم ليسوا بأعداء ولم يذكر من في قوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة لأنهم لم يخلوا من الفتنة واشتغال القلب بهم وكان عبد الله بن مسعود يقول لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى أهل ومال وولد إلا يشتمل على فتنة ولكن ليقل اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن .
عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب .
وقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } أي ما أطقتم وهذه الآية ناسخة لقوله { اتقوا الله حق تقاته } { واسمعوا وأطيعوا } أي لله ولرسوله فيما يأمركم به وينهاكم عنه { وأنفقوا } أي من أموالكم حق الله الذي أمركم به { خيراً لأنفسكم } أي ما أنفقتم في طاعة الله { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } تقدم تفسيره .(6/112)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{ إن تقرضوا الله قرضاً حسناً } القرض الحسن هو التصدق من الحلال مع طيبة نفس يعني إن تقرضوا أي تنفقوا في طاعة الله متقربين إليه بالإنفاق { يضاعفه لكم } أي يجزكم بالضعف إلى سبعمائة إلى ما يشاء من الزيادة { ويغفر لكم والله شكور } يعني يحب المتقربين إليه { حليم } أي لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة ذنوبهم { عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم } والله أعلم .(6/113)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
قوله عز وجل : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } نادى النبي صلى الله عليه وسلم ثم خاطب أمته لأنه المقدم عليهم فإذا خوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب وقيل معناه يا أيها النبي قل لأمتك فأضمر القول إذا طلقتم النساء أي إذا أردتم تطليقهن { فطلقوهن لعدتهن } أي لزمان عدتهن وهو الطهر لأنها تعتد بذلك الطهر من عدتها وتحصل في العدة عقيب الطلاق فلا يطول عليها زمان العدة وكان ابن عباس وابن عمر يقرآن فطلقوهن في قبل عدتهن وهذا في المدخول بها لأن غير المدخول بها لا عدة عليها نزلت هذه الآية في عبد الله بن عمر كان قد طلق امرأته في حال الحيض ( ق ) عن ابن عمر رضي الله عنهما « أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء » زاد في رواية « كان عبد الله طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم » وفي رواية لمسلم « إنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً » ولمسلم من حديث أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل عمر وأبو الزبير يسمع كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضاً فقال « طلق ابن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعها فردها وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن » .
( فصل )
اعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم وإن شاء طلق قبل أن يمس ، والطلاق السني أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه وهذا في حق امرأة تلزمها العدة بالأقراء فأما إذا طلق غير المدخول بها في حال الحيض أو طلق الصغيرة التي لم تحض أو الآيسة بعد ما جامعها أو طلق الحامل بعد ما جامعها أو طلق التي لم تر الدم لا يكون بدعياً ولا سنة ، ولا بدعة في طلاق هؤلاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً »(6/114)
والخلع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه لا يكون بدعياً لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته قبل أن يعرف حالها ولولا جوازه في جميع الأحوال لأمره أن يتعرف الحال؛ ولو طلق امرأته في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه قصداً عصى الله تعالى ووقع الطلاق لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بالمراجعة فلولا وقوع الطلاق لم يأمره بالمراجعة ، وإذا راجعها في حال الحيض يجوز أن يطلقها في حال الطهر الذي يعقب تلك الحيضة قبل المسيس كما رواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين عن ابن عمر ولم يقولا ثم تحيض ثم تطهر وما رواه نافع عن ابن عمر ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فأمر استحباب استحب تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني حتى لا تكون مراجعته إياها للطلاق كما أنه يكره النكاح للطلاق ، ولا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث عند بعض أهل العلم فلو طلق امرأته في حال الطهر ثلاثاً لا يكون بدعياً وهو قول الشافعي وأحمد وذهب بعضهم إلى أنه بدعة وهو قول مالك وأصحاب الرأي .
قوله تعالى : { وأحصوا العدة } أي عدة أقرائها فاحفظوها؛ قيل أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً ، وقيل للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكنى { واتقوا الله ربكم } أي واخشوا الله ولا تعصوه فيما أمركم به { لا تخرجوهن من بيوتهن } يعني إذا كان المسكن الذي طلقها فيه الزوج له بملك أو إكراء وإن كان عارية فارتجعت كان على الزوج أن يكري لها منزلاً غيره ولا يجوز للزوج أن يخرج المرأة من المسكن الذي طلقها فيه { ولا يخرجن } يعني ولا يجوز للمرأة أن تخرج ما لم تنقض عدتها لحق الله تعالى فإن خرجت لغير ضرورة أثمت فإن وقعت ضرورة بأن خافت هدماً أو غرقاً جاز لها أن تخرج إلى منزل آخر وكذلك إذا كان لها حاجة ضرورية من بيع غزل أو شراء قطن جاز لها الخروج نهاراً ولا يجوز ليلاً ، يدل على ذلك أن رجالاً استشهدوا بأحد فقالت نساؤهم نستوحش في بيوتنا فأذن لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحدثن عند إحداهن فإذا كان وقت النوم تأوي كل امرأة إلى بيتها وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالة جابر وقد كان طلقها زوجها أن تخرج لجذاذ نخلها فإذا لزمتها العدة في السفر تعتد في أهلها ذاهبة وراجعة والبدوية تتبوأ حيث يتبوأ أهلها في العدة لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم .
وقوله تعالى : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قال ابن عباس : الفاحشة المبينة بذاءتها على أهل زوجها فيحل إخراجها لسوء خلقها وقيل أراد بالفاحشة أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها ثم ترد إلى منزلها يروى ذلك عن ابن مسعود وقيل معناه إلا أن يطلقها على نشوزها فلها أن تتحول من بيت زوجها والفاحشة النشوز وقيل خروجها قبل انقضاء عدتها فاحشة { وتلك حدود الله } يعني ما ذكر من سنة الطلاق وما بعده من الأحكام { ومن يتعد حدود الله } أي فيطلق لغير السنة أو تجاوز هذه الأحكام { فقد ظلم نفسه } أي ضر نفسه { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } أي يوقع في قلب الزوج مراجعتها بعد الطلقة والطلقتين وهذا يدل على أن المستحب أن يفرق الطلقات ولا يوقع الثلاث دفعة واحدة حتى إذا ندم أمكنه المراجعة .(6/115)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن } أي إذا قربن من انقضاء عدتهن { فأمسكوهن } أي راجعوهن { بمعروف أو فارقوهن بمعروف } أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهم فيبن منكم { وأشهدوا ذوي عدل منكم } أي على الرجعة وعلى الفراق أمر بالإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق .
عن عمران بن حصين أنه سئل عن رجل يطلق امرأته ثم يقع عليها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد . أخرجه أبو داود وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كما في قوله وأشهدوا إذا تبايعتم وعند الشافعي هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة وفائدة هذا الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد وأن لا يتهم في إمساكها وأن لا يموت أحد الزوجين فيدعي الآخر ثبوت الزوجية ليرث؛ وقيل أمر بالإشهاد للاحتياط مخافة أن تنكر الزوجة المراجعة فتنقضي العدة فتنكح زوجاً غيره { وأقيموا الشهادة } يعني أيها الشهود { لله } أي طلباً لمرضاة الله وقياماً بوصيته والمعنى اشهدوا بالحق وأدوها على الصحة { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } قيل معناه ومن يتق الله فيطلق للسنة يجعل له مخرجاً إلى الرجعة .
وقال أكثر المفسرين : نزلت في عوف بن مالك أسر ابن له يسمى مالكاً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أسر العدو ابني وشكا إليه أيضاً فاقة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم « اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله » ففعل الرجل ذلك فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب منهم إبلاً وجاء بها إلى أبيه .
وعن ابن عباس قال : غفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة فنزلت { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } أي في ابنه .(6/116)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
{ ويرزقه من حيث لا يحتسب } يعني ما ساق من الغنم وقيل أصاب غنماً ومتاعاً ثم رجع إلى أبيه فانطلق أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر وسأله أيحل له أن يأكل ما أتى به ابنه؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نعم ونزلت الآية وقال ابن مسعود ومن يتق الله يجعل له مخرجاً من كل شيء ويرزقه من حيث لا يحتسب هو أن يعلم أنه من قبل الله وأن الله رازقه وقال الربيع بن خثيم يجعل له محرجاً من كل شيء ضاق على الناس وقيل محرجاً من كل شدة وقيل مخرجاً عما نهاه الله عه { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } يعني من يتق الله فيما نابه كفاه ما أهمه وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً » { إن الله بالغ أمره } أي منفذ أمره وممض في خلقه ما قضاه { قد جعل الله لكل شيء قدراً } أي جعل لكل شيء من شدة أو رخاء أجلاً ينتهى إليه وقال مسروق في هذه الآية إن الله بالغ أمره توكل عليه أم لم يتوكل عليه غير أن المتوكل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً .(6/117)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
قوله عز وجل : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } قيل لما نزلت { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } قال خلاد بن النعمان بن قيس الأنصاري يا رسول الله فما عدة من تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى فأنزل الله عز وجل : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } يني القواعد اللاتي قعدن عن الحيض فلا يرجى أن يحضن وهن العجائز الآيسات من الحيض { إن ارتبتم } أي شككتم في حكمهن ولم تدروا ما عدتهن { فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } يعني الصغائر اللاتي لم يحضن بعد فعدتهن أيضاً ثلاثة أشهر أما الشابة التي كانت تحيض فارتفع حيضها قبل بلوغ سن الآيسات فذهب أكثر أهل العلم إلى أن عدتها لا تنقضي حتى يعاودها الدم فتعتد بثلاثة أقراء وتبلغ سن الآيسات فتعتد بثلاثة أشهر وهذا قول عثمان وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن عمر أنها تتربص تسعة أشهر فإن لم تحض فتعتد بثلاثة أشهر وهو قول مالك وقال الحسن تتربص سنة فإن لم تحض فتعتد بثلاثة أشهر وهذا كله في عدة الطلاق وأما المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشر سواء كانت ممن تحيض أو لا تحيض وأما الحامل فعدتها بوضع الحمل سواء طلقها زوجها أو مات عنها وهو قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ( ق ) « عن سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وكان ممن شهد بدراً فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال لها ما لي أراك تجملت للخطاب ترجين النكاح وأنت والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حتى أمسيت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي » لفظ البخاري ولمسلم نحوه وزاد قال ابن شهاب ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنها لا يقربها زوجها حتى تطهر { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً } أي يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة { ذلك } أي ذلك ذكر من الأحكام { أمر الله أنزله إليكم } أي لتعلموا به { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً }(6/118)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
قوله تعالى : { أسكنوهن } يعني مطلقات نسائكم { من حيث سكنتم من وجدكم } أي من سعتكم وطاقتكم فإن كان موسراً يوسع عليها في المسكن والنفقة وإن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة { ولا تضاروهن } أي لا تؤذوهن { لتضيقوا عليهن } يعني في مساكنهن فيخرجن { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } أي فيخرجن من عدتهن .
( فصل : في حكم الآية )
اعلم أن المعتدة الرجعية تستحق على الزوج النفقة والسكنى ما دامت في العدة ونعني بالسكنى مؤنة السكنى فإن كانت الدار التي طلقها الزوج فيها ملك الزوج يجب عليه أن يخرج منها ويترك الدار لها مدة عدتها وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة وإن كانت عارية فرجع المعير فعليه أن يكتري لها داراً تسكنها وأما المعتدة البائنة بالخلع أو بالطلاق الثلاث أو باللعان فلها السكنى حاملاً كانت أو غير حامل عند أكثر أهل العلم وروي عن ابن عباس أنه قال لا سكنى لها إلا أن تكون حاملاً وهو قول الحسن والشعبي .
واختلفوا في نفقتها فذهب قوم إلى أنه لا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً ، يروى ذلك ، عن ابن عباس وهو قول الحسن والشعبي وبه قال الشافعي وأحمد ومنهم من أوجبها بكل حال يروى ذلك عن ابن مسعود وهو قول إبراهيم النخعي ، وبه قال الثوري وأصحاب الرأي وظاهر القرآن يدل على أنها لا تستحق النفقة إلا أن تكون حاملاً لقوله تعالى : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } وأما الدليل على ذلك من السنة فما روي عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال لها « ليس لك عليه نفقة وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال تلك امرأة يغشاها أصحابي فاعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده فإذا حللت فآذنيني » قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد فكرهته ثم قال انكحي أسامة بن زيد فنكحته فجعل الله فيه خيراً واغتبطت به » أخرجه مسلم واحتج بهذا الحديث من لم يجعل لها سكنى وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيت عبد الله بن أم مكتوم ولا حجة له فيه لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانت فاطمة في مكان وحش فخيف على ناحيتها وقال سعيد بن المسيب إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها وكان في لسانها ذرابة : وأما المعتدة عن وطء الشهبة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملاً وأما المعتدة عن وفاة الزوج فلا نفقة لها عند أكثر أهل العلم وروي عن علي أن لها النفقة إن كانت حاملاً من التركة حتى تضع وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري .(6/119)
واختلفوا في سكناها وللشافعي فيه قولان :
أحدهما : أنه لا سكنى لها بل تعتد حيث تشاء وهو قول علي وابن عباس وعائشة وبه قال عطاء والحسن وهو قول أبي حنيفة .
والثاني : أن لها السكنى وهو قول عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وبه قال مالك والثوري وأحمد وإسحاق .
واحتج من أوجب لها السكنى بما روي عن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري « أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم قالت فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر بي فنوديت فقال كيف قلت فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً قالت فلما كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به » أخرجه أبو داود والترمذي ، فمن قال بهذا القول قال إذنه لفريعة أولاً بالرجوع صار منسوخاً بقوله آخراً « امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله » ومن لم يوجب السكنى قال أمرها بالمكث في بيتها آخراً استحباباً لا وجوباً .
قوله عز وجل : { فإن أرضعن لكم } يعني أولادكم { فآتوهن أجورهن } يعني على إرضاعهن ، وفيه دليل على أن اللبن وإن كان قد خلق لمكان الولد فهو ملك للأم وإلا لم يكن لها أن تأخذ عليه أجراً وفيه دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد { وأتمروا بينكم بمعروف } أي ليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف وقيل يتراضى الأب والأم على أجر مسمى والخطاب للزوجين جميعاً أمرهم أن يأتوا بالمعروف وما هو الأحسن ولا يقصدوا الضرار ، وقيل المعروف هاهنا لا أن يقصر الرجل في حق المرأة ونفقتها ولا المرأة في حق الولد ورضاعه { وإن تعاسرتم } أي في حق الولد وأجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي المرأة أجرة رضاعها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه بل يستأجر للصبي مرضعاً غير أمه وذلك قوله : { فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته } أي على قدر غناه { ومن قدر } أي ضيق { عليه رزقه } فكان بمقدار القوت { فلينفق مما آتاه الله } أي على قدر ما آتاه الله من المال { لا يكلف الله نفساً } أي في النفقة { إلا ما آتاها } يعني من المال والمعنى لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني في النفقة { سيجعل الله بعد عسر يسراً } أي بعد ضيق وشدة غنى وسعة .(6/120)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
{ وكأين من قرية عتت } أي عصت وطغت والمراد أهل القرية { عن أمر ربها ورسله } أي وأمر رسله { فحاسبناها حساباً شديداً } أي بالمناقشة والاستقصاء وقيل حاسبها بعملها في الكفر فجزاها النار وهو قوله { وعذبناها عذاباً نكراً } أي منكراً فظيعاً وقيل في الآية تقديم وتأخير مجازها فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر أنواع البلاء وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً { فذاقت وبال أمرها } أي شدة أمرها وجزاء كفرها { وكان عاقبة أمرها خسراً } أي خسراناً في الدنيا والآخرة { أعد الله لهم عذاباً شديداً } يخوف كفار مكة أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية { فاتقوا الله يا أولي الألباب } أي يا ذوي العقول ثم نعتهم فقال تعالى : { الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكراً } يعني القرآن { رسولاً } أي وأرسل إليكم رسولاً { يتلوا عليكم آيات الله مبينات } قرىء مبينات بالخفض أي تبين الحلال من الحرام والأمر والنهي وقرىء بالنصب ومعناه أنها واضحات { ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور } أي من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتا الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزقاً } يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها وقيل يرزقون طاعة في الدنيا وثواباً في الآخرة { الله الذي خلق سبع سموات } يعني بعضها فوق بعض { ومن الأرض مثلهن } أي في العدد { يتنزل الأمر بينهن } أي الوحي إلى خلقه من السماء العليا إلى الأرض السفلى وقيل هو ما يدبر فيهن من عجائب تدبيره ينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار وبالصيف والشتاء ويخلق الحيوان على اختلاف هيئاته وينقله من حال إلى حال فيحكم بحياة بعض وموت بعض وسلامة هذا وهلاك هذا ، وقيل في كل سماء من سمواته وأرض من أرضيه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً } يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بكل شيء لا تخفى عليه خافية وأنه قادر على الإنشاء بعد الإفناء وكل الكائنات جارية تحت قدرته داخلة في علمه والله تعالى أعلم .(6/121)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
قوله عز وجل : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } ذكر سبب نزولها ، ( ق ) عن عائشة رضي الله عنها قالت « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فغرت فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة فقلت أما أما والله لنحتالن له فذكرت ذلك لسودة وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له يا رسول الله أكلت مغافير فإنه سيقول لا فقولي ما هذه الريح التي أجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل فقولي له جرست نحله العرفط وسأقول ذلك وقولي أنت يا صفية ذلك فلما دخل على سودة قالت تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أبادئه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب فرقاً منك فلما دنا منها قالت له سودة يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال لا قالت فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال سقتني حفصة شربة عسل قال جرست نحله العرفط فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك ثم دخل على صفية فقالت له مثل ذلك فلما دخل على حفصة قالت له يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال لا حاجة لي فيه قالت تقول سودة سبحان الله لقد حرمناه قلت لها اسكتي » ( ق ) عن عائشة رضي الله عنها « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً فتواطيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير فدخل على إحداهما فقالت ذلك له فقال بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له » فنزلت { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله { إن تتوبا إلى الله } لعائشة وحفصة { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً } لقوله « بل شربت عسلاً ولن أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً » زاد في رواية « يبتغي بذلك مرضاة أزواجه » .
( شرح غريب ألفاظ الحديثين وما يتعلق بهما )
قولها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل الحلواء بالمد وهو كل شيء حلو وذكر العسل بعدها وإن كان داخلاً في جملة الحلواء تنبيهاً على شرفه ومزيته وهو من باب ذكر الخاص بعد العام قولها في الحديث الثاني فتواطيت أنا وحفصة هكذا ذكر في الرواية وأصله فتواطأت أي اتفقت أنا وحفصة قولها إني لأجد منك ريح مغافير هو بغين معجمة وفاء بعدها ياء وراء وهو صمغ حلو كالناطف وله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط بضم العين المهملة وبالفاء يكون بالحجاز وقيل العرفط نبات له ورق عريض يفرش على الأرض له شوكة وثمره خبيث الرائحة ، وقال أهل اللغة العرفط من شجر العضاه وهو كل شجر له شوك ، وقيل رائحته كرائحة النبيذ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يوجد منه رائحة كريهة قولها جرست نحله العفرط هو بالجيم والراء وبالسين المهملتين ومعناه أكلت نحله العرفط فصار منه العسل قولها في الحديث الثاني فقال شربت عسلاً عند زينب بنت جحش وفي الحديث الأول أن الشرب كان عند حفصة بنت عمر بن الخطاب وأن عائشة وسودة وصفية هن اللواتي تظاهرن عليه قال القاضي عياض والصحيح الأول قال النسائي إسناد حديث حجاج بن محمد عن ابن جريج صحيح حيد غاية وقال الأصيلي حديث حجاج أصح وهو أولى بظاهر كتاب الله وأكمل فائدة يريد قوله تعالى : { وإن تظاهرا عليه } وهما ثنتان لا ثلاثة وأنهما عائشة وحفصة كما اعترف به عمر في حديث ابن عباس وسيأتي الحديث قال وقد انقلبت الأسماء على الراوي في الرواية الأخرى يعني الحديث الأول الذي فيه أن الشرب كان عند حفصة قال القاضي عياض : والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش ذكره الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم وكذا ذكره القرطبي أيضاً وقال المفسرون في سبب النزول(6/122)
« إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها فلما خرجت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة وخلا بها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقاً فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً وحفصة تبكي فقال ما يبكيك؟ قالت إنما أذنت لي من أجل هذا أدخلت أمتك بيتي ووقعت عليها في يومي وعلى فراشي أما رأيت لي حرمة وحقاً ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي اسكتي فهي علي حرام ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية وقد أراحنا الله منها وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي بها صلى الله عليه وسلم فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها »(6/123)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
{ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } أي بين وأوجب لكم تحليل أيمانكم بالكفارة وهو ما ذكر في سورة المائدة فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويراجع أمته فأعتق رقبة { والله مولاكم } أي وليكم وناصركم { وهو العليم } أي بخلقه { الحكيم } أي فيما فرض من حكمه .
( فصل )
اختلف العلماء في لفظ التحريم فقيل ليس هو بيمين فإن قال لزوجته أنت علي حرام أو قال حرمتك فإن نوى طلاقاً فهو طلاق وإن نوى ظهاراً فظهار وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ وإن قال ذلك لجاريته فإن نوى عتقاً عتقت وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين وإن قال لطعام حرمته على نفسي فلا شيء عليه وهذا قول أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة والتابعين وإليه ذهب الشافعي وإن لم ينو شيئاً ففيه قولان للشافعي أحدهما أنه يلزمه كفارة اليمين ، والثاني لا شيء عليه وأنه لغو فلا يترتب عليه شيء من الأحكام وذهب جماعة إلى أنه يمين فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب عليه الكفارة ما لم يقربها كما لو حلف أن لا يطؤها وإن حرم طعاماً فهو كما لو حلف أن لا يأكله فلا كفارة عليه ما لم يأكله وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه ( ق ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال « إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة » وفي رواية « إذا حرم امرأته ليس بشيء وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة » لفظ الحميدي .
قوله تعالى : { وإذ أسرَّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً } يعني ما أسر إلى حفصة من تحريم مارية على نفسه واستكتمها ذلك وهو قوله لا تخبري بذلك أحداً وقال ابن عباس أسر أمر الخلافة بعده فحدثت به حفصة قال الكلبي أسر إليها إن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي ، وقيل لما رأى الغيرة في وجه حفصة أراد أن يراضيها فسرها بشيئين بتحريم مارية على نفسه وأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر { فلما نبأت به } أي أخبرت بذلك حفصة عائشة { وأظهره الله عليه } أي أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على قول حفصة لعائشة { عرف بعضه } قرىء بتخفيف الراء أي عرف بعض الذي فعلته حفصة فغضب من إفشاء سره وجازاها عليه بأن طلقها فلما بلغ عمر قال لها لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه جبريل عليه السلام وأمره بمراجعتها وقيل لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وإنما هم بطلاقها فأتاه جبريل فقال لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة وقرىء عرف بالتشديد ، ومعناه عرف حفصة بعض الحديث وأخبرها ببعض ما كان منها { وأعرض عن بعض } أي لم يعرفها إياه ولم يخبرها به قال الحسن ما استقصى كريم قط قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم الأمة وأعرض عن ذكر الخلافة لأنه صلى الله عليه وسلم كره أن ينتشر ذلك في الناس { فلما نبأها به } أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه { قالت } يعني حفصة { من أنبأك هذا } أي من أخبرك بأني أفشيت السر { قال نبأني العليم } أي بما تكنه الضمائر { الخبير } أي بخفيات الأمور .(6/124)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
قوله عز وجل : { إن تتوبا إلى الله } يخاطب عائشة وحفصة أي من التعاون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإيذاء له { فقد صغت قلوبكما } أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما أن تتوبا وذلك بأن سرهما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو اجتناب مارية ، ( ق ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال « لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله عز وجل إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما حتى حج عمر وحججت معه فلما كان عمر ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإرادة فتبرز ثم أتاني فصببت على يديه فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صبلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما قال عمر واعجباً لك يا ابن العباس قال الزهري كره منه ما سأله عنه ولم يكتمه قال هما عائشة وحفصة ثم أخذ يسوق الحديث قال كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم قال وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي فغضبت يوماً على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت أتراجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت نعم فقلت أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت نعم قلت لقد خابت من فعلت ذلك منكن وخسرت أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي قد هلكت لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئاً وسليني ما بدا لك ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك يريد عائشة وكان لي جار من الأنصار فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً ويأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك وكنا نتحدث أن غسان تبعث الخيل لتغزونا فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته ثم أتاني عشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه فقال حدث أمر عظيم قلت ماذا أجاءت غسان؟ قال لا بل أعظم من ذلك وأهول طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه قلت قد خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت لا أدري ها هو ذا معتزل في هذه المشربة فأتيت غلاماً له أسود فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليّ فقال قد ذكرتك له فصمت فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم فجلست قليلاً ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال قد ذكرتك له فصمت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال قد ذكرتك له فصمت فوليت مدبراً فإذا الغلام يدعوني فقال ادخل فقد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكىء على رمال حصير قد أثر في جنبه فقلت أطلقت يا رسول الله نساءك فرفع رأسه إليّ وقال لا فقلت الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله قد كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت على امرأتي يوماً فإذا هي تراجعني فأنكرت إذ راجعتني فقالت ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فقلت قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي قد هلكت فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله قد دخلت علي حفصة فقلت لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فتبسم أخرى فقلت استأنس يا رسول الله قال نعم قال فجلست فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت فيه ما يرد البصر إلا أهبة ثلاثة فقلت يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله فاستوى جالساً ثم قال أفي اشك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت استغفر لي يا رسول الله وكان قد أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة لعائشة من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله تعالى » قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت(6/125)
« لما مضت تسع وعشرون دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بي فقلت يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت في ليلة تسع وعشرين أعدهن فقال إن الشهر يكون تسعاً وعشرين زاد في رواية وكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين ليلة ثم قال يا عائشة إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ثم قال يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها حتى بلغ إلى قوله عظيماً قالت عائشة قد علم رسول الله والله أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه فقلت أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله و الدار الآخرة »(6/126)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
{ عسى ربه } أي واجب من الله { إن طلقكن } يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم { أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } ثم وصف الأزواج اللواتي كان يزوجه بهن فقال { مسلمات } أي خاضعات لله بالطاعة { مؤمنات } أي مصدقات بتوحيد الله تعالى : { قانتات } أي طائعات وقيل داعيات وقيل مصليات بالليل { تائبات } أي تاركات للذنوب ، لقبحها أو كثيرات التوبة { عابدات } وكثيرات العبادة { سائحات } أي صائمات وقيل مهاجرات وقيل يسحن معه حيث ساح { ثيبات } جمع ثيب وهي التي تزوجت ثم بانت بوجه من الوجوه { وأبكاراً } أي عذارى جمع بكر وهذا من باب الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال إن طلقكن وقد علم أنه لا يطلقهن فأخبر عن قدرته أنه إن طلقهن أبدله أزواجاً خيراً منهن تخويفاً لهن .(6/127)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم } قال ابن عباس بالانتهاء عما نهاكم الله عنه والعمل بطاعته { وأهليكم } يعني مروهم بالخير وانهوهم عن الشر وعلموهم وأدبوهم تقوهم بذلك ، { ناراً وقودها الناس والحجارة } يعني الكبريت ، لأنه أشد الأشياء حراً وأسرع إيقاداً { عليها ملائكة } يعني خزنة النار وهم الزبانية { غلاظ } أي فظاظ على أهل النار { شداد } يعني أقوياء يدفع الواحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفاً في النار لم يخلق الله الرحمة فيهم { لا يعصون الله ما أمرهم } أي لا يخالفون الله فيما أمرهم به ونهاهم عنه { ويفعلون ما يؤمرون } أي لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامره والانتقام من أعدائه { يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم } أي يقال لهم لا تعتذروا اليوم وذلك حين يعاينون النار وشدتها لأنه قد قدم إليهم الإنذار والإعذار فلا ينفعهم الاعتذار لأنه غير مقبول بعد دخول النار { إنما تجزون ما كنتم تعملون } يعني أن أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً } أي ذات نصح تنصح صاحبها بترك العود إلى الذنب الذي تاب منه قال عمر بن الخطاب وأبي بن كعب ومعاذ التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع وقال السن هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على أن لا يعود إليه وقال الكلبي أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن وقال سعيد بن المسيب معناه توبة تنصحون بها أنفسكم وقال محمد بن كعب القرظي التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيىء الإخوان .
( فصل )
وقال العلماء التوبة واجبة من كل ذنب على الفور ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاث شروط :
أحدها : أن يقلع عن المعصية؛ والثاني أن يندم على فعلها ، والثالث أن يعزم على أن لا يعود إليها أبداً فإذا اجتمعت هذه الشروط في التوبة كانت نصوحاً وإن فقد شرط منها لم تصح توبته فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فشروطها أربعة هذه الثلاثة المتقدمة والرابع أن يبرأ من حق صاحبها فإن كانت المعصية مالاً ونحوه رده إلى صاحبه وإن كان حد قذف أو نحوه مكنه من نفسه أو طلب عفوه وإن كانت غيبة استحله منها ويجب أن يتوب العبد من جميع الذنوب فإن تاب من بعضها صحت توبته من ذلك الذنب وبقي عليه ما لم يتب منه هذا مذهب أهل السنة ، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة ( م ) عن الأغر بن يسار المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(6/128)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً } أي بين شبهاً وحالاً { للذين كفروا امرأة نوح } واسمها واعلة { وامرأة لوط } واسمها واهلة وقيل اسمهما والعة ووالهة { كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين } وهما نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام وقوله من عبادنا إضافة تشريف وتعظيم { فخانتاهما } قال ابن عباس رضي الله عنهما ما بغت امرأة نبي قط وإنما كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما وكانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون وإذا آمن أحد أخبرت به الجبابرة من قومها وأما امرأة لوط فإنها كانت تدل قومها على أضيافه إذا نزل به ضيف بالليل أوقدت النار وإذا نزل به ضيف بالنهار دخنت لتعلم قومها بذلك وقيل أسرتا النفاق وأظهرتا الإيمان { فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً } أي لم يدفعا عن امرأتيهما مع نبوتهما عذاب الله { وقيل ادخلا النار مع الداخلين } وهذا مثل ضربه الله تعالى للصالحين والصالحات من النساء وأنه لا ينفع العاصي طاعة غيره ولا يضر المطيع معصية غيره وإن كانت القرابة متصلة بينهم وأن القريب كالأجانب بل أبعد وإن كان القريب الذي يتصل به الكافر نبياً كامرأة نوح وامرأة لوط لما خانتاهما لم يغن هذان الرسولان عن امرأتيهما شيئاً فقطع بهذه الآية طمع من يرتكب المعصية ويتكل على صلاح غيره وفي هذا المثل تعريض بأمي المؤمنين عائشة وحفصة وما فرط منهما وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده ثم ضرب مثلاً آخر يتضمن أن معصية الغير لا تضره إذا كان مطيعاً وأن وصلة المسلم بالكافر لا تضر المؤمن فقال تعالى : { وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون } يعني آسية بنت مزاحم قال المفسرون لما غلب موسى السحرة آمنت به امرأة فرعون فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس فكانت تعذب في الشمس فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة { إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة } فكشف الله لها عن بيتها في الجنة وقيل إن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها فلما أتوها بالصخرة قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة فأبصرت بيتها في الجنة ، من درة بيضاء وانتزعت روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألماً وقيل رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة فهي تأكل وتشرب فيها { ونجني من فرعون عمله } يعني وشركه وقال ابن عباس عمله يعني جماعه { ونجني من القوم الظالمين } يعني الكافرين { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها } أي عن الفواحش والمحصنة العفيفة { فنفخنا فيه } أي في جيب درعها ولذلك ذكر الكناية { من روحنا } إضافة تمليك وتشريف كبيت الله وناقة الله { وصدقت بكلمات ربها } يعني الشرائع التي شرعها الله لعباده بكلماته المنزلة على أنبيائه { وكتبه } يعني الكتب المنزلة على إبراهيم وموسى وداود وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، { وكانت من القانتين } يعني كانت من القوم القانتين أي المطيعين وهم رهطها وعشيرتها لأنهم كانوا أهل بيت صلاح وطاعة الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « حسبك من نساء العالمين مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون » أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح . والله أعلم بمراده .(6/129)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
قوله عز وجل : { تبارك الذي بيده الملك } أي له الأمر والنهي والسلطان فيعز من يشاء ويذل من يشاء { وهو على كل شيء قدير } أي من الممكنات { الذي خلق الموت والحياة } قيل أراد موت الإنسان وحياته في الدنيا جعل الله الدنيا دار حياة وفناء وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء وإنما قدم الموت لأنه أقرب إلى قهر الإنسان ، وقيل قدمه لأنه أقدم وذلك لأن الأشياء كانت في الابتداء في حكم الموتى كالتراب والنطفة والعلقة ونحو ذلك ثم طرأ عليها الحياة وقال ابن عباس خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات وخلقت الحياة على صورة فرس بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي وهي التي أخذ السامري قبضة من أثرها فألقاها في العجل فخار وحيي وقيل إن الموت صفة وجودية مضادة للحياة ، وقيل الموت عبارة عن زوال القوة الحيوانية وإبانة الروح عن الجسد وضده الحياة وهي القوة الحساسة مع وجود الروح في الجسد وبه سمي الحيوان حيواناً وقيل إن الموت نعمة لأن الفاصل بين حال التكليف في هذه الدار وحال المجازاة في دار القرار والحياة أيضاً نعمة إذ لولاها لم يتنعم أحد في الدنيا ولم يصل إليه الثواب في الآخرة { ليبلوكم } أي ليختبركم فيما بين الحياة إلى الموت { أيكم أحسن عملاً } روي عن ابن عمر مرفوعاً أحسن عملاً أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعته وقال الفضيل بن عياض أحسن عملاً أخلصه وأصوبه ، وقال أيضاً العمل لا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً فالخالص إذا كان لله والصواب إذا كان على السنة وقيل أيكم أزهد في الدنيا { وهو العزيز } أي الغالب المنتقم ممن عصاه { الغفور } أي لمن تاب إليه ورجع عن إساءته .(6/130)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
قوله تعالى : { الذي خلق سبع سموات طباقاً } يعني طبقاً على طبق بعضها فوق بعض كل سماء مقبية على الأخرى وسماء الدنيا كالقبة على الأرض قال كعب الأحبار سماء الدنيا موج مكفوف والثانية مرمرة بيضاء والثالثة حديد والرابعة صفر أو قال نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء وما بين السماء إلى الحجب السبعة صحار من نور ، { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } أي ما ترى يا ابن آدم في شيء مما خلق الرحمن اعوجاجاً ولا اختلافاً ولا تناقضاً بل خلقهن مستقيمة مستوية { فارجع البصر } أي كرر النظر { هل ترى من فطور } أي من شقوق وصدوع { ثم ارجع البصر كرتين } قال ابن عباس مرة بعد مرة { ينقلب } أي ينصرف { إليك } فيرجع { البصر خاسئاً } أي صاغراً ذليلاً مبعداً لم ير ما يهوي { وهو حسير } أي كليل منقطع لم يدرك ما طلب { ولقد زينا السماء الدنيا } أي القربى من الأرض وهي التي يراها الناس { بمصابيح } أي بكواكب كالمصابيح في الإضاءة وهي أعلام الكواكب ، وقال ابن عباس بنجوم لها نور وقيل خلق الله النجوم لثلاث زينة للسماء وعلامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ورجوماً للشياطين وهو قوله تعالى : { وجعلناها رجوماً للشياطين } قال ابن عباس : يرجم بها الشياطين الذين يسترقون السمع .
فإن قلت جعل الكواكب زينة للسماء يقتضي بقاءها وجعلها رجوماً للشياطين يقتضي زوالها فكيف الجمع بين هاتين الحالتين .
قلت قالوا إنه ليس المراد أنهم يرمون بأجرام الكواكب بل يجوز أن تنفصل من الكواكب شعلة وترمي الشياطين بتلك الشعلة وهي الشهب ومثلها كمثل قبس يؤخذ من النار وهي على حالها { وأعتدنا لهم } أي وأعتدنا للشياطين بعد الاحتراق في الدنيا { عذاب السعير } أي في الآخرة وهي النار الموقدة { وللذين كفروا بربهم } أي ليس العذاب مختصاً بالشياطين بل لكل من كفر بالله من إنس وجن { عذاب جهنم وبئس المصير } ثم وصف جهنم فقال تعالى : { إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً } هو أول صوت نهيق الحمار وذلك أقبح الأصوات { وهي تفور } أي تغلي بهم كغلي المرجل وقيل تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل ، { تكاد تميز } أي تتقطع { من الغيظ } من تغيظها عليهم { كلما ألقي فيها فوج } أي جماعة { سألهم خزنتها } يعني سؤال توبيخ وتقريع { ألم يأتكم نذير } أي رسول ينذركم .(6/131)
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
{ قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا } يعني للرسول { ما نزل الله من شيء } وهذا اعتراف منهم بأنه أزاح عللهم ببعثة الرسل ولكنهم كذبوا وقالوا ما نزل الله من شيء { إن أنتم إلا في ضلال كبير } فيه وجهان أحدهما وهو الأظهر أنه من جملة قول الكفار للرسل والثاني يحتمل أن يكون من كلام الخزنة للكفار والمعنى لقد كنتم في الدنيا في ضلال كبير { وقالوا لو كنا نسمع } أي من الرسل ما جاؤوا به { أو نعقل } أي نفهم منهم ، قال ابن عباس لو كنا نسمع الهدى أو نعقله فنعمل به { ما كنا في أصحاب السعير } وقيل معناه لو كنا نسمع سمع من يعي ونعقل عقل من يميز وننظر ونتفكر ما كنا في أصحاب السعير { فاعترفوا بذنبهم } هو في معنى الجمع أي بتكذيبهم الرسل وقولهم « ما نزل الله من شيء » { فسحقاً } أي بعداً { لأصحاب السعير } قوله عز وجل : { إن الذين يخشون ربهم بالغيب } أي يخافون ربهم ولم يروه فيؤمنوا به خوفاً من عذابه { لهم مغفرة } أي لذنوبهم { وأجر كبير } يعني جزاء أعمالهم الصالحة { وأسروا قولكم أو اجهروا به } قال ابن عباس نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل بما قالوا فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كي لا يسمع إله محمد فأخبره الله أنه لا يخفى عليه خافية فقال تعالى : { إنه عليم بذات الصدور } ثم أكد ذلك بقوله تعالى : { ألا يعلم من خلق } يعني ألا يعلم من خلق مخلوقه ، وقيل ألا يعلم الله من خلق والمعنى ألا يعلم الله ما في صدور من خلق { وهو اللطيف } أي باستخراج ما في الصدور { الخبير } بما فيها من السر والوسوسة .
قوله تعالى : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً } الذلول المنقاد من كل شيء والمعنى جعلها لكم سهلة لا يمتنع المشي فيها لحزونتها وغلظها { فامشوا في مناكبها } أمر إباحة وكذا قوله { وكلوا من رزقه } ومناكبها جوانبها وأطرافها ونواحيها وقيل طرقها وفجاجها وقال ابن عباس جبالها والمعنى هو الذي سهل لكم السلوك في جبالها وهو أبلغ التذلل وكلوا من رزقه أي مما خلقه الله لكم في الأرض { وإليه النشور } أي وإليه تبعثون من قبوركم ثم خوف كفار مكة فقال تعالى : { أأمنتم من في السماء } قال ابن عباس يعني عقاب من في السماء إن عصيتموه { أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } أي تتحرك بأهلها وقيل تهوي بهم والمعنى أن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى يقلبهم إلى أسفل وتعلو الأرض عليهم وتمور فوقهم أي تجيء وتذهب .(6/132)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
{ أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً } يعني ريحاً ذات حجارة كما فعل بقوم لوط { فستعلمون } أي عند الموت في الآخرة { كيف نذير } أي إنذاري إذا عاينتم العذاب { ولقد كذب الذين من قبلهم } أي من قبل كفار مكة وهم الأمم الخالية { فكيف كان نكير } أي إنكاري عليهم أليس وجدوا العذاب حقاً .
قوله عز وجل : { أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات } أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها { ويقبضن } أي يضممن أجنحتهن إذا ضربن بهن جنوبهن بعد البسط { ما يمسكهن } أي حال القبض والبسط { إلا الرحمن } والمعنى : أن الطير مع ثقلها وضخامة جسمها لم يكن بقاؤها وثبوتها في الجو إلا بإمساك الله عز وجل إياها وحفظه لها { إنه بكل شيء بصير } يعني أنه تعالى لا تخفى عليه خافية { أمن هذا الذي هو جند لكم } استفهام إنكار أي لا جند لكم { ينصركم } أي يمنعكم { من دون الرحمن } أي من عذاب الله قال ابن عباس أي من ينصركم مني إن أردت عذابكم { إن الكافرون إلا في غرور } أي من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه } يعني من ذا الذي يرزقكم المطر إن أمسكه الله عنكم { بل لجوا } أي تمادوا { في عتو } أي نبو وتكبر { ونفور } أي تباعد عن الحق ثم ضرب مثلاً للكافر والمؤمن فقال تعالى : { أفمن يمشي مكباً على وجهه } أي كاباً رأسه في الضلالة والجهالة أعمى القلب والعين لا يبصر يميناً ولا شمالاً وهو الكافر أكب على الكفر والمعاصي في الدنيا فحشره الله على وجهه يوم القيامة { أهدى } أي هو أهدى ، { أمن يمشي سوياً } أي قائماً معتدلاً لا يبصر الطريق { على صراط مستقيم } يعني المؤمن يمشي يوم القيامة سوياً { قل هو الذي أنشأكم } أي خلقكم { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } يعني أنه تعالى ركب فيكم هذه القوى لكنكم ضيعتموها فلم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم ما عقلتموه فكأنكم ضيعتم هذه النعم فاستعملتموها في غير ما خلقت له فلهذا قال { قليلاً ما تشكرون } وذلك لأن شكر نعم الله صرفها في وجه مرضاته فلما صرفتموها في غير مرضاته فكأنكم ما شكرتم رب هذه النعم الواهب لها { قل هو الذي ذرأكم } أي خلقكم وبثكم { في الأرض وإليه تحشرون } أي يوم القيامة والمعنى أن القادر على الإبداء قادر على الإعادة { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } هذا سؤال يحتمل وجهين : أحدهما أنه سؤال عن نزول العذاب بهم والثاني أنه سؤال عن يوم القيامة فأجاب الله عن ذلك بقوله { قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين } أمره بإضافة العلم إلى الله تعالى وتبليغ ما أوحي إليه { فلما رأوه } يعني العذاب في الآخرة على قول أكثر المفسرين ، وقيل يعني العذاب ببدر { زلفة } أي قريباً { سيئت وجوه الذين كفروا } أي اسودت وعلتها الكآبة والمعنى قبحت وجوههم بالسواد { وقيل } لهم أي وقالت لهم الخزنة { هذا الذي كنتم به تدعون } من الدعاء أي تتمنون وتطلبون أن يعجله لكم وقيل من الدعوى أي تدعون أنه باطل .(6/133)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{ قل } يا محمد لمشركي مكة الذين يتمنون هلاكك { أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي } أي من المؤمنين { أو رحمنا } أي فأبقانا وأخر في آجالنا { فمن يجير الكافرين من عذاب أليم } أي إنه واقع بهم لا محالة وقيل في معنى الآية قل أرأيتم إن أهلكني الله أي فعذبني ومن معي أو رحمنا أي فغفر لنا فنحن مع إيماننا خائفون أن يهلكنا بذنوبنا لأن حكمه نافذ فينا فمن يجيركم أو يمنعكم من عذاب أليم وأنتم كافرون وهذا قول ابن عباس ، { قل } أي قل لهم في إنكارك عليهم وتوبيخك لهم { هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا } أي نحن آمنا به وعبدناه وأنتم كفرتم به { فستعلمون } أي عند معاينة العذاب { من هو في ضلال مبين } أي نحن أم أنتم وهذا تهديد لهم ثم ذكرهم ببعض نعمه عليهم على طريق الاحتجاج فقال تعالى : { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم } قيل يريد ماء زمزم وقيل غيرها من المياه { غوراً } أي غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الأيدي ولا الدلاء { فمن يأتيكم بماء معين } أي ظاهر تراه العيون وتناله الأيدي والدلاء ، وقال ابن عباس معين أي جار والمقصود من الآية أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه عليهم ويريهم قبح ما هم عليه من الكفر والمعنى أخبروني إن صار ماؤكم ذاهباً في الأرض فمن يأتيكم بماء معين فلا بد أن يقولوا هو الله تعالى فيقال لهم حينئذ فلم تجعلون معه من لا يقدر على شيء أصلاً شريكاً له في العبودية فهذا محال ، والله أعلم .(6/134)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
قوله عز وجل : { ن } قال ابن عباس هو الحوت الذي على ظهره الأرض وعنه « إن أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض فأثبتت الجبال فإن الجبال لتفخر على الأرض ثم قرأ ن والقلم وما يسطرون » قيل اسم النون بهموت وقيل لوثيا وعن علي بلهوث .
قال أصحاب السير والأخبار : لما خلق الله الأرض وفتقها سبع أرضين بعث من تحت العرش ملكاً فهبط إلى الأرض حتى دخلت تحت الأرضين السبع وضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله تعالى من الفردوس ثوراً له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدمه فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة سنة فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقر عليها قدما الملك وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفساً فإذا تنفس مد البحر وإذا رد نفسه جزر البحر فلم يكن لقوائم الثور قرار فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه فتكن في صخرة فلم يكن للصخرة مستقر فخلق الله تعالى نوناً وهو الحوت العظيم فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة قيل فكل الدنيا بما عليها حر فان قال لها الجبار سبحانه وتعالى وتنزه وتقدس كوني فكانت .
قال كعب الأحبار : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهر الأرض فوسوس إليه فقال له أتدري ما على ظهرك يا ليوثا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم لألقيتهم على ظهرك فهم ليوثا أن يفعل ذلك فبعث له دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله تعالى منها فأذن لها فخرجت قال كعب الأحبار فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت وعن ابن عباس أيضاً أن النون هو الدواة ومنه قول الشاعر :
إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجام
أراد بالنون الدواة وعن ابن عباس أيضاً أن نوناً حرف من حروف الرحمن إذا جمعت الرحمن وقيل هو مفتاح اسمه ناصر ونصير وقيل اسم للسورة { والقلم } هو القلم الذي كتب الله به الذكر وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض ويقال أول ما خلق الله القلم فنظر إليه فانشق نصفين ثم قال اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه { وما يسطرون } أي وما يكتب الحفظة من أعمال بني آدم وقيل إن حملنا القلم على ذلك القلم المعين فيحتمل أن يكون المراد وما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ ويكون الجمع في وما يسطرون للتعظيم لا للجمع .(6/135)
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
{ ما أنت } يا محمد { بنعمة ربك بمجنون } هذا جواب القسم أقسم الله بنون والقلم وما يسطرون وما أنت بنعمة ربك بمجنون وهو رد لقولهم { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } والمعنى إنك لا تكون مجنوناً وقد أنعم الله عليك بالنبوة والحكمة فنفى عنه الجنون وقيل معناه ما أنت بمجنون والنعمة لله وهو كما يقال ما أنت بمجنون والحمد لله وقيل إن نعمة الله كانت ظاهرة عليه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية والأخلاق الحميدة والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينفي حصول الجنون فنبه الله تعالى بهذه الآية على كونهم كاذبين في قولهم إنك لمجنون { وإن لك لأجراً غير ممنون } أي غير منقوص ولا مقطوع ومنه قول لبيد :
عبس كواسب ما يمن طعامها ... أي ما يقطع يصف بذلك كلاباً ضارية ، وقيل في معنى الآية إنه غير مكدر عليك بسبب المنة والقول هو الأول ومعناه إن لك على احتمالك الطعن وصبرك على هذا القول القبيح وافترائهم عليك أجراً عظيماً دائماً لا ينقطع ، وقيل إن لك على إظهار النبوة وتبليغ الرسالة ودعاء الخلق إلى الله تعالى والصبر على ذلك وبيان الشرائع لهم أجراً عظيماً فلا تمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا الأمر العظيم الذي قد حملته ثم وصفه بما يخالف حال المجنون فقال تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم } وهذا كالتفسير لقوله { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة عليه ومن كان كذلك لم تجز إضافة الجنون إليه ولما كانت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملة حميدة وأفعاله المرضية الجميلة وافرة وصفها الله تعالى بأنها عظيمة وحقيقة الخلق قوى نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الحميدة والآداب المرضية فيصير ذلك كالخلقة في صاحبه ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح والبخل والتشديد في المعاملات ويستعمل في حسن الخلق التحبب إلى الناس بالقول والفعل والبذل وحسن الأدب والمعاشرة بالمعروف مع الأقارب والأجانب والتساهل في جميع الأمور والتسامح بما يلزم من الحقوق وترك التقاطع والتهاجر واحتمال الأذى من الأعلى والأدنى مع طلاقة الوجه وإدامة البشر فهذه الخصال تجمع جميع محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال ولقد كان جميع ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا وصفه الله تعالى بقوله { وإنك لعلى خلق عظيم } ، وقال ابن عباس معناه على دين عظيم لا دين أحب إليّ ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام وقال الحسن هو آداب القرآن سئلت عائشة رضي الله عها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن وقال قتادة هو ما كان يأتمر من أوامر الله وينتهي عنه من مناهي الله تعالى والمعنى وإنك لعلى الخلق الذي أمرك الله به في القرآن وقيل سمى الله خلقه عظيماً لأنه امتثل تأديب الله إياه بقوله(6/136)
{ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } والله سبحانه وتعالى أعلم .
( فصل : في فضل حسن الخلق وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم )
من ذلك ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال » ( م ) عن النواس بن سمعان قال « سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس » ، عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم » أخرجه أبو داود وعنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن من أكمل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن .
عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، وله عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إن من أحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً » ، ( ق ) عن البراء رضي الله عنه قال « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً ليس بالطويل ولا بالقصير » ( ق ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً » وكان يقول « خياركم أحاسنكم أخلاقاً » ( ق ) عن أنس رضي الله عنه قال « خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أف قط ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا » زاد الترمذي « وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً وما مسست خزاً قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم » ، ( خ ) عنه قال « إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت » زاد في رواية(6/137)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)
{ فستبصر } أي يا محمد { ويبصرون } يعني أهل مكة إذا نزل بهم العذاب { بأيكم المفتون } قال ابن عباس معناه بأيكم المجنون وقيل الباء بمعنى « في » معناه فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون في فريقك أو فريقهم وقيل المفتون هو الشيطان الذي فتن بالجنون { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } معناه إنهم رموه بالجنون والضلال ووصفوا أنفسهم بالعقل والهداية فأعلم الله تعالى أنه هو العالم بالفريقين الضال والمهتدي والمجنون والعاقل { فلا تطع المكذبين } يعني مشركي مكة وذلك أنهم دعوه إلى دين آبائه فنهاه الله أن يطيعهم .(6/138)
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)
{ ودوا لو تدهن فيدهنون } أصل الإدهان اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام وقيل أدهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما أبطن ومعنى الآية أنهم تمنوا أن تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك ويتركوا بعض ما لا ترضى به فتلين لهم ويلينون لك وقيل معناه ودوا لو تكفر فيكفرون وهو أن تعبد آلهتهم مدة ويعبدون الله مدة { ولا تطع كل حلاف } أي كثير الحلف بالباطل { مهين } أي ضعيف حقير ذليل وقيل هو من المهانة وهي قلة الرأي والتمييز وقال ابن عباس كذاب وهو قريب من الأول لأن الإنسان إنما يكذب لمهانة نفسه عليه قيل هو الوليد بن المغيرة وقيل هو الأسود بن عبد يغوث وقيل هو الأخنس بن شريق .(6/139)
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
{ هماز } أي مغتاب يأكل لحوم الناس بالطعن والعيب وقيل هو الذي يغمز بأخيه في المجلس { مشاء بنميم } أي فتان يسعى بالنميمة ليفسد بين الناس { مناع للخير } أي بخيل بالمال وقال ابن عباس مناع للخير أي يمنع ولده وعشيرته عن الإسلام يقول لئن دخل واحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً ، { معتد } أي ظلوم يتعدى الحق { أثيم } أي فاجر يتعاطى الإثم { عتل } أي غليظ جاف وقيل هو الفاحش السيىء الخلق وقيل هو الشديد في الخصومة بالباطل وقيل هو الشديد في كفره وقيل العتل الأكول الشروب القوي الشديد ولا يزن في الميزان شعيرة يدفع الملك من أولئك سبعين ألفاً في النار دفعة واحدة { بعد ذلك زنيم } أي مع ما وصفناه به من الصفات المذمومة زنيم وهو الدعي الملصق في القوم وليس منهم قال ابن عباس يريد مع هذا هو دعي في قريش وليس منهم قيل إنما ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة وقيل الزنيم هو الذي له زنمة كزنمة الشاة وقال ابن عباس في هذه الآية نعت من لا يعرف حتى قيل زنيم فعرف وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها وعنه أيضاً قال يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها قال ابن قتيبة لا نعلم أن الله وصف أحداً ولا ذكر من عيوبه مثل ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة { أن كان ذا مال وبنين } قرىء على الخبر ومعناه فلا تطع كل حلاف مهين لأن كان ذا مال وبنين أي لا تطعه لماله وبنيه وقرىء أأن كان ذا مال وبنين بالاستفهام ومعناه ألأن كان ذا مال وبنين { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } أي جعل مجازاة النعم التي خولها من المال والبنين الكفر بآياتنا وقيل لأن كان ذا مال وبنين تطيعه ثم أوعده .(6/140)
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
{ سنسمه على الخرطوم } أي على الأنف والمعنى نسود وجهه فنجعل له علماً يعرف به في الآخرة وهو سواد الوجه فعبر بالأنف عن الوجه وقال ابن عباس سنسمه بالسيف وفعل به ذلك يوم بدر ، وقيل معناه سنلحق به شيئاً لا يفارقه أي سنسمه ميسم سوء يريد نلحق به عاراً لا يفارقه كما أن السمة لا تمحى ولا يعفى أثرها .
وقد ألحق الله به بما ذكر من عيوبه عاراً لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة كالوسم على الخرطوم الذي لا يخفى قط وقيل معناه سنكويه على وجهه .
وقوله تعالى : { إنا بلوناهم } أي اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع { كما بلونا أصحاب الجنة } روي عن ابن عباس في قوله تعالى : { إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة } قال بستان باليمن يقال له الضروان دون صنعاء بفرسخين يطؤه أهل الطريق وكان غرسه قوم من أهل الصلاة وكان لرجل فمات فورثه ثلاث بنين له وكان يترك للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل إذا طرح من فوق النخل إلى البساط وكل شيء يخرج من المنجل إلى البساط فهو أيضاً للمساكين وإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين وإذا داسوه كان لهم كل شيء ينتثر أيضاً فلما مات الأب وورثه بنوه هؤلاء الإخوة الثلاثة قالوا والله إن المال قليل وإن العيال كثير وإنما كان هذا الأمر يفعل لما كان المال كثيراً والعيال قليلاً فأما إذا قل المال وكثر العيال فإنا لا نستطيع أن نفعل فتحالفوا بينهم يوماً أن يغدوا غدوة قبل خروج الناس فليصر من نخلهم فذلك قوله تعالى : { إذ أقسموا } أي تحالفوا { ليصرمنها } أي ليقطعن ثمرها { مصبحين } أي إذا أصبحوا قبل أن يخرج إليهم المساكين وقبل أن يعلم بها المساكين ، { ولا يستثنون } أي ولم يقولوا إن شاء الله وقيل لا يستثنون شيئاً للمساكين من ثمر جنتهم { فطاف عليها طائف من ربك } أي عذاب من ربك ولا يكون الطائف إلا بالليل وهو قوله تعالى : { وهم نائمون } وكان ذلك الطائف ناراً أنزلت من السماء فأحرقتها وهو قوله تعالى : { فأصبحت } أي الجنة { كالصريم } أي كالليل الأسود المظلم وقيل تصرم منها الخير فليس فيها شيء ينتفع به وقال ابن عباس كالرماد الأسود وهو بلغة خزيمة .(6/141)
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31)
{ فتنادوا } أي فنادى بعضهم بعضاً { مصبحين } يعني لما أصبحوا { أن اغدوا على حرثكم } يعني الثمار والزرع والأعناب { إن كنتم صارمين } أي قاطعين ثماركم { فانطلقوا } أي مشوا إليها { وهم يتخافتون } أي يتسارون يقول بعضهم لبعض سراً { أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد } أي على قصد ومنع وقيل معناه على جد وجهد وقيل على أمر مجتمع قد أسسوه بينهم وقيل على حنق وغضب من المساكين وقال ابن عباس على قدرة { قادرين } أي عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينهم وبينها أحد { فلما رأوها } أي رأوا الجنة محترقة { قالوا إنا لضالون } أي لمخطئون الطريق أضللنا عن مكان جنتنا وليست هذه جنتنا { بل نحن محرومون } أي قال بعضهم قد حرمنا خيرها ونفعها بمنعنا المساكين وتركنا الاستثناء { قال أوسطهم } أي أعدلهم وأعقلهم وأفضلهم { ألم أقل لكم لولا تسبحون } أي هلا تستثنون أنكر عليهم ترك الاستثناء في قولهم ليصرمنها مصبحين سماه تسبيحاً لأنه تعظيم لله وإقرار بأنه لا يقدر أحد على شيء إلا بمشيئته ، وعلى التفسير الثاني أن الاستثناء بمعنى لا يتركون شيئاً للمساكين من ثمر جنتهم يكون معنى لولا تسبحون أي تتوبون وتستغفرون الله من ذنوبكم وتفريطكم ومنعكم حق المساكين وقيل كان استثناؤهم سبحان الله وقيل هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم من نعمه { قالوا سبحان ربنا } معناه أنهم نزهوه عن الظلم فيما فعل وأقروا على أنفسهم بالظلم فقالوا { إنا كنا ظالمين } أي بمنعنا المساكين حقوقهم { فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } أي يلوم بعضهم بعضاً { قالوا يا ويلنا } دعوا على أنفسهم بالويل { إنا كنا طاغين } أي في منعنا حق الفقراء والمساكين وقيل معناه طغينا في نعم الله فلم نشكرها ولم نصنع ما كان يصنع آباؤنا من قبل ثم رجعوا إلى أنفسهم .(6/142)
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
{ عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون } قال ابن مسعود بلغني أن القوم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً قال الله تعالى : { كذلك العذاب } أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا وخالف أمرنا يخوف بذلك كفار مكة ثم قال تعالى : { ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } ثم أخبر بما أعد الله للمتقين فقال تعالى : { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } أي عند ربهم في الآخرة ولما نزلت هذه الآية قال المشركون إنا نعطي في الآخرة أفضل مما تعطون فقال الله تعالى تكذيباً للمشركين { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } يعني أن التسوية بين المسلم والمجرم غير جائزة فكيف يكون أفضل أو يعطى أفضل منه ولما قال تعالى ذلك على سبيل الاستبعاد والإنكار قال لهم على طريق الالتفات { ما لكم كيف تحكمون } يعني هذا الحكم المعوج { أم لكم كتاب } أي نزل من عند الله { فيه } أي في ذلك الكتاب { تدرسون } أي تقرؤون { إن لكم فيه } أي في ذلك الكتاب { لما تخيرون } أي تختارون وتشتهون { أم لكم أيمان علينا بالغة } معناه ألكم عهود ومواثيق مؤكدة عاهدناكم عليها فاستوثقتم بها منا { إلى يوم القيامة } أي لا تنقطع تلك الأيمان والعهود إلى يوم القيامة { إن لكم } أي في ذلك العهد { لما تحكمون } أي لأنفسكم من الخير والكرامة عند الله تعالى ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { سلهم أيهم بذلك زعيم } أي أيهم كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين { أم لهم شركاء } أي بل لهم شركاء يعني ما كانوا يجعلونه لله شريكاً وإنما أضاف الشركاء إليهم لأنهم هم جعلوها شركاء لله ، وقيل معنى شركاء شهداء يشهدون بصدق ما ادعوه { فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين } أي في دعواهم { يوم يكشف } أي فليأتوا بشركائهم في ذلك اليوم لتنفعهم وتشفع لهم { عن ساق } أي عن أمر فظيع شديد قال ابن عباس هو أشد ساعة في القيامة تقول العرب للرجل إذا وقع في أمر عظيم فظيع يحتاج فيه إلى الجد ومقاساة الشدة شمر عن ساقك إذا قام في ذلك الأمر ويقال إذا اشتد الأمر في الحرب كشفت الحرب عن ساق وسئل ابن عباس عن هذه الآية فقال إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر :
سن لنا قومك ضرب الأعناق ... وقامت الحرب بنا على ساق
ثم قال ابن عباس هو يوم كرب وشدة وأنشد أهل اللغة أبياتاً في هذا المعنى فمنها ما أنشده أبو عبيدة لقيس بن زهير :
فإن شمرت لك عن ساقها ... فدنها ربيع ولا تسأم(6/143)
ومنها قول جرير :
ألا رب ساهي الطرف من آل مازن ... إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقد كثر مثل هذا في كلام العرب حتى صار كالمثل للأمر العظيم الشديد ( ق ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه « أن ناساً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا يا محمد هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب فيدعى اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد عزيراً ابن الله قال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار ثم تدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا قيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال فماذا تنتظرون لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيقولون يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً مرتين أو ثلاثاً حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية لتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد نفاقاً ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم ، قيل يا رسول الله وما الجسر قال دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيام لإخوانهم الذين في النار فيقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقاً كثيراً وقد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ، ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيراً ، وكان أبو سعيد يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصفر أو أخضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم تعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول رضائي فلا أسخط عليكم أبداً »(6/144)
لفظ مسلم والبخاري نحوه بمعناه .
( فصل في شرح ألفاظ الحديث وما يتعلق به )
أما الرؤية وما يتعلق بها فسيأتي الكلام عليها في موضعها إن شاء الله تعالى .
قوله « حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها وفي رواية أبي هريرة فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه »(6/145)
قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله وغيره اعلم أن هذا الحديث من أكبر أحاديث الصفات وأعظمها وللعلماء فيه وفي أمثاله قولان :
أحدهما : وهو قول معظم السلف أو كلهم أنه لا يتكلم في معناها بل يقولون يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد أن لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء وأنه منزه عن التجسيم والانتقال والتحيز في جهة وعن سائر صفات المخلوقين وهذا القول هو مذهب جماعة من المتكلمين واختاره جماعة من محققيهم وهو أسلم وقال الخطابي هذا الحديث تهيب القول فيه شيوخنا فأجروه على ظاهر لفظه ولم يكشفوا عن باطن معناه على نحو مذهبهم في التوقف عن تفسير كل ما لا يحيط العلم بكنهه من هذا الباب .
والقول الثاني : وهو مذهب معظم المتكلمين أنها تتأول على ما يليق بها على حسب مواقعها وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله فعلى هذا المذهب يقال في قوله صلى الله عليه وسلم فيأتيهم الله أن الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته بالإتيان فعبر بالإتيان والمجيء هنا عن الرؤية مجازاً وقيل الإتيان فعل من أفعال الله تعالى سماه إتياناً وقيل المراد بيأتيهم الله يأتيهم بعض ملائكته قال القاضي عياض وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث قال ويكون هذا الملك هو الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدوث الظاهرة على الملك والمخلوق قال أو يكون معناه يأتيهم الله في صورة أي يصور ويظهر لهم من صور ملائكته ومخلوقاته التي لا تشبه صفات الإله ليختبرهم وهذا آخر امتحان المؤمنين فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة أنا ربكم رأوا عليه علامة من علامات المخلوقات مما ينكرونه ويعلمون بذلك أنه ليس ربهم فيستعيذون بالله منه .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فالمراد بالصورة هنا الصفة ومعناه فيتجلى الله تعالى لهم في الصفة التي يعلمونها ويعرفونه بها وإنما عرفوه بصفته وإن لم تكن تقدمت لهم رؤية له سبحانه وتعالى لأنهم على هذه الصفة يرونه شيئاً من مخلوقاته وقد علموا أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته فيعلمون بذلك أنه ربهم فيقولون أنت ربنا وإنما عبر عن الصفة بالصورة لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام فإنه تقدم ذكر الصورة .
وقوله في حديث أبي سعيد « أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها » معنى رأوه فيها أي علموها وهي صفته المعلومة للمؤمنين وهي أنه لا يشبهه شيء وقولهم « نعوذ بالله منك لا نشرك بالله » إنما استعاذوا منه لما قدمناه من كونهم رأوا عليه سمات المخلوق .
قوله « فيكشف عن ساق وفي رواية للبخاري يكشف ربنا عن ساقه » ذكر هذه الرواية البيهقي في كتاب الأسماء والصفات ، قال أبو سليمان الخطابي فيحتمل أن يكون معنى قوله فيكشف عن ساقه أي عن قدرته التي تكشف عن الشدة وضبط يكشف بفتح الياء وضمها وقد تقدم تفسير كشف الساق وقيل المراد بالساق في هذا الحديث نور عظيم .(6/146)
وورد ذلك في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله يوم يكشف عن ساق قال نور عظيم يخرون له سجداً تفرد به روح بن حبان مولى عمر بن عبد العزيز وهو شامي يأتي بأحاديث منكرة لا يتابع عليها وموالي عمر بن عبد العزيز كثيرون ففي إسناده مجهول أيضاً وقال ابن فورك ومعنى ذلك ما يتجدد للمؤمن عند رؤية الله تعالى من الفوائد والألطاف قال القاضي عياض وقيل قد يكون الساق علامة بينه وبين المؤمنين من ظهور جماعة من الملائكة على خلقة عظيمة وقد تكون ساقاً مخلوقة جعلها الله تعالى علامة للمؤمنين خارجة عن السوق المعتادة ، قيل معناه كشف الحزن وإزالة للرعب عنهم وما كان غلب على عقولهم من الأهوال فتطمئن حينئذ نفوسهم عند ذلك ويتجلى الله لهم فيخرون سجداً قال الخطابي وهذه الرؤية في هذا المقام يوم القيامة غير الرؤية التي هي في الجنة لكرامة أولياء الله وإنما هذه الرؤية امتحان الله لعباده وقوله فلا يبقى من كان يسجد لله تعالى من تلقاء نفسه إلا أذن الله له في السجود ولا يبقى من كان يسجد نفاقاً ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة هذا السجود امتحان من الله تعالى لعباده ومعنى طبقة واحدة أي فقارة واحدة كالصحيفة فلا يقدر على السجود وقوله ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة معناه ثم يرفعون رؤوسهم وقد أزال المانع لهم من رؤيته وتجلى لهم فيقولون أنت ربنا وقوله ثم يضرب الجسر على جهنم الجسر بفتح الجيم وكسرها لغتان وهو الصراط وتحل للشفاعة بكسر الحاء وقيل بضمها من حل ومعناه وتقع الشفاعة ويؤذن فيها قوله دحض مزلة أي تزلق فيه الأقدام ولا تثبت قوله فيه خطاطيف جمع خطاف وهو الذي يخطف الشيء وكلاليب جمع كلوب وهو الحديدة التي يعلق بها اللحم والحسك الذي يقال له السعدان نبت له شوك عظيم من كل جانب قوله فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس في نار جهنم معناه أنهم ثلاثة أقسام قسم يسلم فلا يناله شيء أصلاً وقسم يخدش ثم يرسل فيخلص وقسم يكردس أي يلقى ويسقط في جهنم وفي هذا إثبات الصراط وهو مذهب أهل السنة وأهل الحق وهو جسر يجعل على متن جهنم وهو أرق من الشعر وأحد من السيف فيمر عليه الناس كلهم فالمؤمنون ينجون على حسب منازلهم وأعمالهم والآخرون يسقطون في جهنم أعاذنا الله منها ، ومعنى مناشدة المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار شفاعتهم لهم وقوله فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير ومثقال نصف دينار من خير ومثقال ذرة قال القاضي عياض قيل معنى الخير اليقين قال والصحيح أن معناه شيء زائد على مجرد الإيمان لأن الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزأ وإنما يكون هذا الخير زائداً عليه من عمل صالح وذكر خفي وعمل من أعمال القلب من شفقة على مسكين أو خوف من الله تعالى أو نية صادقة ومثقال الذرة مثل لأقل الخير لأن ذلك أقل المقادير وقول المؤمنين لم نذر فيها خيراً أي صاحب خير وقوله تعالى :(6/147)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
{ خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة } وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم من السجود ووجوههم أشد بياضاً من الثلج وقد علاها النور والبهاء وتسود وجوه الكفار والمنافقين ويغشاهم ذل وخسران وندامة { وقد كانوا يدعون إلى السجود } يعني في دار الدنيا كانوا يدعون إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة وذلك أنهم كانوا يسمعون حي على الصلاة حي على الفلاح فلا يجيبون { وهم سالمون } يعني أنهم كانوا يدعون إلى الصلاة وهم أصحاء فلا يأتونها قال كعب الأحبار والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعة .(6/148)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
قوله عز وجل : { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } أي دعني والمكذبين بالقرآن وخل بيني وبينهم ولا تشغل قلبك بهم وكلهم إليّ فإني أكفيك إياهم { سنستدرجهم } أي سنأخذهم بالعذاب { من حيث لا يعلمون } فعذبوا يوم بدر بالقتل والأسر ، وقيل في معنى الآية كلما أذنبوا ذنباً جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار والتوبة . وهذا هو الاستدراج لأنهم يحسبونه تفضيلاً لهم على المؤمنين وهو في الحقيقة سبب إهلاكهم فعلى العبد المسلم إذا تجددت عنده نعمة أن يقابلها بالشكر وإذا أذنب ذنباً أن يعاجله بالاستغفار والتوبة . { وأملي لهم } أي أمهلهم وأطيل لهم المدة . وقيل معناه أمهلهم إلى الموت فلا أعاجلهم بالعقوبة { إن كيدي متين } أي عذابي شديد وقيل الكيد ضرب من الاحتيال فيكون بمعنى الاستدراج المؤدي إلى العذاب { أم تسألهم أجراً } أي على تبليغ الرسالة { فهم من مغرم مثقلون } المغرم الغرامة والمعنى أتطلب منهم أجراً فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم ذلك عن الإيمان { أم عندهم الغيب فهم يكتبون } أي عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ما يحكمون به وهو استفهام على سبيل الإنكار { فاصبر لحكم ربك } أي اصبر على أذاهم لقضاء ربك قيل إنه منسوخ بآية السيف { ولا تكن } في الضجر والعجلة { كصاحب الحوت } يعني يونس بن متى { إذ نادى } ربه أي في بطن الحوت { وهو مكظوم } أي مملوء غماً { لولا أن تداركه نعمة من ربه } أي حين رحمه وتاب عليه ، { لنبذ بالعراء } أي لطرح بالفضاء من بطن الحوت على الأرض { وهو مذموم } أي يذم ويلام بالذنب . وقيل في معنى الآية لولا أن تداركته نعمة من ربه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ثم ينبذ بعراء القيامة أي بأرضها وفضائها فإن قلت هل يدل قوله وهو مذموم على كونه كان فاعلاً للذنب .
قلت الجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها : أن كلمة لولا دلت على أنه لم يحصل منه ما يوجب الذم الثاني لعل المراد منه ترك الأفضل فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين الثالث لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة يدل عليه قوله تعالى : { فاجتباه ربه } والفاء للتعقيب أي اصطفاه ورد عليه الوحي وشفعه في قومه { فجعله من الصالحين } أي النبيين .
قوله تعالى : { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم } وذلك أن الكفار أرادوا أن يصيبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعين فنظرت قريش إليه وقالوا ما رأينا مثله ولا مثل حججه ، وقيل كانت العين في بني أسد حتى أن كانت الناقة أو البقرة لتمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول لجاريته خذي المكتل والدراهم فائتينا بلحم من لحم هذه فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر . وقيل كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط ما عناه فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به مثل ذلك فعصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم قال ابن عباس : معناه ينفذونك وقيل يصيبونك بعيونهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه .(6/149)
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
{ وما هو } يعني القرآن { إلا ذكر للعالمين } قال ابن عباس موعظة للمؤمنين قال الحسن : دواء من أصابته العين أن تقرأ عليه هذه الآية ( ق ) ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « العين حق » زاد البخاري « ونهى عن الوشم » ( م ) عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا » وعن عبيد الله بن رفاعة الزرقي « أن أسماء بنت عميس كانت تقول يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين أفأسترقي لهم؟ قال : نعم ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين » أخرجه الترمذي قوله العين حق أخذ بظاهر هذا الحديث جماهير العلماء وقالوا العين حق وأنكره طوائف من المبتدعة والدليل على فساد قولهم « أن كل معنى ليس مخالفاً في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فإنه من مجوزات العقول فإذا أخبر الشارع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه ومذهب أهل السنة أن العين إنما تفسد وتهلك عند مقابلة هذا الشخص الذي هو العائن لشخص آخر فتؤثر فيه بقدرة الله تعالى وفعله وقوله ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ، فيه إثبات القدر وأنه حق والمعنى أن الأشياء كلها بقدر الله ولا يقع شيء إلا على حسب ما قدر الله وسبق به علمه ولا يقع شرر العين وغيره من الخير والشر إلا بقدرة الله وفيه صحة إثبات العين وأنها قوية الضرر إذا وافقها القدر ، والله أعلم .(6/150)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
قوله عز وجل : { الحاقة } يعني القيامة سميت حاقة من الحق الثابت يعني أنها ثابتة الوقوع لا ريب فيها . وقيل لأن فيها تحقيق الأمور فتعرف على الحقيقة وفيها يحق الجزاء على الأعمال أي يجب . وقيل الحاقة النازلة التي حقت فلا كاذبة لها . وقيل الحاقة هي التي تحق على القوم أي تقع بهم ، { ما الحاقة } استفهام ومعناه التفخيم لشأنها والتهويل لها والمعنى أي شيء هي الحاقة { وما أدراك ما الحاقة } أي إنك لا تعلمها إذ لم تعاينها ولم تر ما فيها من الأهوال على أنه من العظم والشدة أمر لا تبلغه دراية أحد ولا فكره وكيف قدرت حالها فهي أعظم من ذلك .(6/151)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)
{ كذبت ثمود وعاد بالقارعة } قال ابن عباس بالقيامة سميت قارعة لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة . وقيل كذبت بالعذاب أي الذي أوعدهم نبيهم حتى نزل بهم فقرع قلوبهم { فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية } أي طغيانهم وكفرهم . وقيل الطاغية الصيحة الشديدة المجاوزة الحد في القوة . وقيل الطاغية الفرقة التي عقروا الناقة فأهلك قوم ثمود بسببهم { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر } أي شديدة الصوت في الهبوب لها صرصرة . وقيل هي الباردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها { عاتية } أي عتت على خزنتها فلم تطعهم ولم يكن لهم عليهم سبيل وجاوزت الحد والمقدار فلم يعرفوا مقدار ما خرج منها . وقيل عتت على عاد فلم يقدروا على دفعها عنهم بقوة ولا حيلة { سخرها عليهم } أي أرسلها وسلطها عليهم وفيه رد على من قال إن سبب ذلك كان باتصال الكواكب فنفى هذا المذهب بقوله سخرها عليهم وبين الله تعالى أن ذلك بقضائه وقدره وبمشيئته لا باتصال الكواكب ، { سبع ليال وثمانية أيام } ذات برد ورياح شديدة . قال وهب هي الأيام التي سماها العرب العجوز لأنها أيام ذات برد ورياح شديدة . وسميت عجوزاً لأنها تأتي في عجز الشتاء وقيل لأن عجوزاً من قوم عاد دخلت سربها فاتبعتها الريح حتى قتلتها { حسوماً } أي متتابعة دائمة ليس فيها فتور ، وذلك أن الريح المهلكة تتابعت عليهم في هذه الأيام فلم يكن لها فتور ولا انقطاع حتى أهلكتهم ، وقيل حسوماً شؤماً وقيل لهذه الأيام حسوماً لأنها تحسم الخير عن أهلها والحسم القطع . والمعنى أنها حسمتهم بعذاب الاستئصال فلم تبق منهم أحداً { فترى القوم فيها } أي في تلك الليالي والأيام { صرعى } أي هلكى جمع صريع قد صرعهم الموت { كأنهم أعجاز نخل خاوية } أي ساقطة وقيل خالية الأجواف شبههم بجذوع نخل ساقطة ليس لها رؤوس { فهل ترى لهم من باقية } أي من نفس باقية ، قيل إنهم لما أصبحوا موتى في اليوم الثامن كما وصفهم الله تعالى بقوله { أعجاز نخل خاوية } حملتهم الريح فألقتهم في البحر فلم يبق منهم أحد .
قوله تعالى : { وجاء فرعون ومن قبله } قرىء بكسر القاف وفتح الباء أي ومن معه من جنوده وأتباعه وقرىء بفتح القاف وسكون الباء أي ومن قبله من الأمم الكافرة { المؤتفكات } يعني قرى قوم لوط يريد أهل المؤتفكات ، وقيل يريد الأمم الذين ائتفكوا بخطيئتهم وهو قوله { بالخاطئة } أي بالخطيئة والمعصية وهو الشرك { فعصوا رسول ربهم } ، قيل يعني موسى بن عمران وقيل لوطاً والأولى أن يقال المراد بالرسول كلاهما لتقدم ذكر الأمتين جميعاً { فأخذهم أخذة رابية } يعني نامية وقال ابن عباس شديدة وقيل زائدة على عذاب الأمم .(6/152)
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
{ إنا لما طغى الماء } أي عتا وجاوز حده حتى علا على كل شيء وارتفع فوقه وذلك في زمن نوح عليه الصلاة والسلام وهو الطوفان { حملناكم في الجارية } يعني حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم فصح خطاب الحاضرين في الجارية أي السفينة التي تجري في الماء { لنجعلها } أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلناها من إغراق قوم نوح ونجاة من حملنا معه ، { لكم تذكرة } أي عبرة وموعظة { وتعيها } أي تحفظها { أذن واعية } أي حافظة لما جاء من عند الله . وقيل أذن سمعت وعقلت ما سمعت وقيل لتحفظها كل أذن فتكون عظة وعبرة لمن يأتي بعد والمراد صاحب الإذن والمعنى ليعتبر ويعمل بالموعظة .
قوله عز وجل : { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } يعني النفخة الأولى { وحملت الأرض والجبال } أي رفعت من أماكنها { فدكتا دكة واحدة } أي كسرتا وفتتتا حتى صارتا هباء منبثاً والضمير عائد إلى الأرض والجبال فعبر عنهما بلفظ الاثنين { فيومئذ وقعت الواقعة } أي قامت القيامة { وانشقت السماء فهي يومئذ واهية } أي ضعيفة لتشققها { والملك } يعني الملائكة { على أرجائها } يعني نواحيها وأقطارها وهو الذي لم ينشق منها قال الضحاك تكون الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الرب فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها { ويحمل عرش ربك فوقهم } أي فوق رؤوسهم يعني الحملة { يومئذ } أي يوم القيامة { ثمانية } يعني ثمانية أملاك ، وجاء في الحديث أنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فكانوا ثمانية على صورة الأوعال بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء . الأوعال تيوس الجبل وروى السدي عن أبي مالك قال إن الصخرة التي تحت الأرض السابعة ومنتهى علم الخلائق على أرجائها يحملها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر فهم قيام عليها قد أحاطوا بالسموات والأرض ورؤوسهم تحت العرش ، وعن عروة بن الزبير قال حملة العرش منهم من صورته على صورة الإنسان ومنهم من صورته على صورة النسر ومنهم من صورته على صورة الثور ومنهم من صورته على صورة الأسد . وعن ابن عباس قال صدق النبي صلى الله عليه وسلم أمية بن أبي الصلت في شيء من الشعر فقال :
رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث يرصد
عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام » أخرجه أبو داود بإسناد صحيح غريب عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم قال(6/153)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
{ يومئذ تعرضون } أي على الله تعالى للحساب { لا تخفى منكم خافية } أي فعلة خافية . والمعنى أنه تعالى عالم بأحوالكم لا يخفى عليه شيء منها وأن عرضكم يوم القيامة عليه ففيه المبالغة والتهديد ، وقيل معناه لا يخفى منكم يوم القيامة ما كان مخفياً في الدنيا فإنه يظهر أحوال الخلائق فالمحسنون يسرون بإحسانهم والمسيئون يحزنون بإساءتهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله » أخرجه الترمذي وقال ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { فأما من أوتي } أي أعطي { كتابه بيمينه فيقول هاؤم } أي تعالوا { اقرؤوا كتابيه } والمعنى له لما بلغ الغاية في السرور وعلم أنه من الناجين بإعطاء كتابه بيمينه أحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا له ، وقيل يقول ذلك لأهله وأقربائه { إني ظننت } أي عملت وأيقنت وإنما أجرى الظن مجرى العلم لأن الظن في الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام { أني ملاق حسابيه } أي في الآخرة والمعنى أني كنت في الدنيا أستيقن أني أحاسب في الآخرة { فهو في عيشة راضية } أي في حالة من لعيش مرضية وذلك بأنه لقي الثواب وأمن من العقاب { في جنة عالية } رفيعة { قطوفها دانية } أي ثمارها قريبة لمن يتناولها ينالها قائماً وقاعداً ومضطجعاً يقطفونها كيف شاؤوا { كلوا } أي يقال لهم كلوا { واشربوا هنيئاً بما أسلفتم } أي بما قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة { في الأيام الخالية } أي الماضية يريد أيام الدنيا .(6/154)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
{ وأما من أوتي كتابه بشماله } ، قيل تلوى يده اليسرى خلف ظهره ثم يعطى كتابه بها . وقيل تنزع يده اليسرى من صدره إلى خلف ظهره ثم يعطى كتابه بها { فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه } وذلك لما نظر في كتابه ورأى قبائح أعماله مثبتة عليه تمنى أنه لم يؤت كتابه لما حصل له من الخجل والافتضاح { ولم أدر ما حسابيه } أي لم أدر أي شيء حسابي لأنه لا طائل ولا حاصل له وإنما كله عليه لا له { يا ليتها كانت القاضية } تمنى أنه لم يبيعث للحساب والمعنى يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاضية عن كل ما بعدها والقاطعة للحياة أي ما أحيا بعدها قال قتادة تمنى الموت ولم يكن شيء عنده أكره منه إليه أي من الموت في الدنيا لأنه رأى تلك الحالة أشنع وأمر مما ذاقه من الموت { ما أغنى عني ماليه } أي لم يدفع عني يساري ومالي من العذاب شيئاً { هلك عني سلطانيه } أي ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا وقيل ضلت عنه حجته حين شهدت عليه الجوارح بالشرك وقيل معناه زال عني ملكي وقوتى وتسلطي على الناس وبقيت ذليلاً حقيراً فقيراً { خذوه } أي يقول الله تعالى لخزنة جهنم خذوه { فغلوه } أي أجمعوا يديه إلى عنقه { ثم الجحيم صلوه } أي أدخلوه معظم النار لأنه كان يتعاظم في الدنيا { ثم في سلسلة } وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة { ذرعها } أي مقدارها والذرع التقدير بالذراع من اليد أو غيرها { سبعون ذراعاً } قال ابن عباس بذرع الملك . وقال نوفر البكالي سبعون ذراعاً كل ذراع سبعون باعاً كل باع أبعد مما بينك وبين مكة وكان في رحبة الكوفة . وقال سفيان كل ذراع سبعون ذراعاً ، وقال الحسن الله أعلم أي ذراع هو عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو أن رضاضة مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت في رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن .
الرضاض : الحصباء الصغار ، وقوله مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة .
الجمجمة قدح من خشب وجمعه جماجم والجمجمة الرأس وهو أشرف الأعضاء وقال وهب لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها وقوله تعالى : { فاسلكوه } أي أدخلوه فيها قال ابن عباس تدخل في دبره وتخرج من منخره . وقيل تدخل في فيه وتخرج من دبره { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم } أي لا يصدق بوحدانية الله وعظمته ، { ولا يحض على طعام المسكين } أي ولا يحث نفسه على إطعام المسكين ولا يأمر أهله بذلك وفيه دليل على تعظيم الجرم في حرمان المساكين لأن الله تعالى عطفه على الكفر وجعله قرينه . قال الحسن في هذه الآية أدركت أقواماً يعزمون على أهليهم أن لا يردوا سائلاً وعن بعضهم أنه كان يأمر أهله بكثير المرقة لأجل المساكين ويقول خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الثاني بالإطعام .(6/155)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
{ فليس له اليوم هاهنا حميم } أي ليس له في الآخرة قريب ينفعه أو يشفع له { ولا طعام إلا من غسلين } يعني صديد أهل النار مأخوذ من الغسل كأنه غسالة جروحهم وقروحهم وقيل هو شجر يأكله أهل النار { لا يأكله إلا الخاطئون } أي الكافرون .
قوله عز وجل : { فلا أقسم } قيل إن لا صلة والمعنى أقسم . وقيل لا رد لكلام المشركين كأنه قال ليس الأمر كما يقول المشركون ثم قال تعالى أقسم وقيل لا هنا نافية للقسم على معنى أنه لا يحتاج إليه لوضوح الحق فيه كأنه قال لا أقسم على أن القرآن قول رسول كريم فكأنه لوضوحه استغنى عن القسم .
وقوله { بما تبصرون وما لا تبصرون } يعني بما ترون وتشاهدون وبما لا ترون وما لا تشاهدون أقسم بالأشياء كلها فيدخل فيه جميع المكونات والموجودات ، وقيل أقسم بالدنيا والآخرة . وقيل بما تبصرون يعني على ظهر الأرض وما لا تبصرون أي ما في بطنها . وقيل بما تبصرون يعني الأجسام وما لا تبصرون يعني الأرواح . وقيل بما تبصرون يعني الإنس وما لا تبصرون يعني الملائكة والجن . وقيل بما تبصرون من النعم الظاهرة وما لا تبصرون من النعم الباطنة . وقيل بما تبصرون هو ما أظهره الله من مكنون غيبه لملائكته واللوح والقلم وجميع خلقه وما لا تبصرون هو ما استأثر الله بنعمه فلم يطلع عليه أحداً من خلقه ، ثم ذكر المقسم عليه فقال تعالى { إنه } يعني للقرآن { لقول رسول كريم } يعني تلاوة رسول كريم وهو محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : الرسول هو جبريل عليه السلام فعلى هذا يكون المعنى إنه لرسالة رسول كريم والقول الأول أصح لأنهم لم يصفوا جبريل بالشعر والكهانة وإنما وصفوا بهما محمداً صلى الله عليه وسلم .
فإن قلت قد توجه هنا سؤال وهو أن جمهور الأمة وهم أهل السنة مجمعون على أن القرآن كلام الله فكيف يصح إضافته إلى الرسول .
قلت أما إضافته إلى الله تعالى فلأنه هو المتكلم به وأما إضافته إلى الرسول فلأنه هو المبلغ عن الله تعالى ما أوحي إليه ولهذا أكده بقوله { تنزيل من رب العالمين } ليزول هذا الإشكال . قال ابن قتيبة لم يرد أنه قول الرسول وإنما أراد أنه قول الرسول المبلغ عن الله تعالى . وفي الرسول ما يدل على ذلك فاكتفى به عن أن يقول عن الله تعالى وقوله تعالى : { وما هو بقول شاعر } يعني أن هذا القرآن ليس بقول رجل شاعر ولا هو من ضروب الشعر ولا تركيبه { قليلاً ما تؤمنون } أراد بالقليل عدم إيمانهم أصلاً . والمعنى أنكم لا تصدقون بأن القرآن من عند الله تعالى : { ولا بقول كاهن } أي وليس هو بقول رجل كاهن ولا هو من جنس الكهانة { قليلاً ما تذكرون } يعني لا تتذكرون البتة { تنزيل } أي هو تنزيل يعني القرآن ، { من رب العالمين } وذلك أنه لما قال إنه لقول رسول كريم أتبعه بقوله تنزيل من رب العالمين ليزول هذا الإشكال .(6/156)
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
{ ثم لقطعنا منه الوتين } قال ابن عباس يعني نياط القلب ، وقيل هو حبل الظهر . وقيل هو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه . وقيل هو عرق يتصل من القلب بالرأس ، قال ابن قتيبة لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد منه أنه لو كذب علينا لأمتناه فكان كمن قطع وتينه والمعنى أنه لو كذب علينا وتقول علينا قولاً لم نقله لمنعناه من ذلك إما بواسطة إقامة الحجة عليه بأن نقيض له من يعارضه ويظهر للناس كذبه فيكون ذلك إبطالاً لدعواه ، وإما أن نسلب عنه قوة التكلم بذلك القول الكذب حتى لا يشتبه الصادق بالكاذب ، وإما أن نميته ، { فما منكم من أحد عنه حاجزين } أي مانعين يحجزوننا عن عقوبته والمعنى أن محمداً لا يتكلم الكذب علينا لأجلكم مع علمه أنه لو تكلمه لعاقبناه ولا يقدر أحد على دفع عقوبتنا عنه وإنما قال حاجزين بلفظ الجمع وهو وصف أحد رداً على معناه { وإنه } يعني القرآن وذلك أنه لما وصفه بأنه تنزيل من رب العالمين بواسطة جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بين ما هو فقال تعالى : { لتذكرة } أي لعظة { للمتقين } أي لمن اتقى عقاب الله { وإنا لنعلم أن منكم مكذبين } فيه وعيد لمن كذب بالقرآن { وإنه } يعني القرآن { لحسرة على الكافرين } يعني يوم القيامة والمعنى أنهم يندمون على ترك الإيمان به لما يرون من ثواب من آمن به { وإنه لحق اليقين } معناه أنه حق معين لا بطلان فيه ويقين لا شك ولا ريب فيه { فسبح باسم ربك العظيم } أي نزه ربك العظيم واشكره على أن جعلك أهلاً لإيحائه إليك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/157)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)
قوله عز وجل : { سأل سائل } قرىء بغير همزة وفيه وجهان الأول أنه لغة في السؤال والثاني أنه من السيل . ومعناه اندفع عليهم واد بعذاب وقيل سال واد من أودية جهنم . وقرىء سأل سائل بالهمز من السؤال { بعذاب } قيل الباء بمعنى عن أي عذاب { واقع } أي نازل وكائن وعلى من ينزل ولمن ينزل ولمن ذلك العذاب فقال الله تعالى مجيباً لذلك السؤال .(6/158)
لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
{ للكافرين } وذلك أن أهل مكة لما خوفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال بعضهم لبعض : من أهل هذا العذاب ولمن هو سلوا عنه محمداً فسألوه فأنزل الله تعالى سأل سائل بعذاب واقع للكافرين أي هو للكافرين . والباء صلة ومعنى الآية دعا داع وطلب طالب عذاباً واقعاً للكافرين . وهذا السائل هو النضر بن الحارث حيث دعا على نفسه وسأل العذاب فقال { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية فنزل به ما سأل فقتل يوم بدر صبراً وهذا قول ابن عباس ، { ليس له دافع } أي أن العذاب واقع بهم لا محالة سواء طلبوه أو لم يطلبوه إما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة ، لأن العذاب واقع بهم في الآخرة لا يدفعه دافع { من الله } أي بعذاب من الله ، والمعنى ليس لذلك العذاب الصادر من الله للكافرين دافع يدفعه عنهم { ذي المعارج } قال ابن عباس ذي السموات سماها معارج لأن الملائكة تعرج فيها . وقيل ذي الدرجات وهي المصاعد التي تعرج الملائكة فيها . وقيل ذي الفواضل والنعم وذلك لأن أفضاله وأنعامه مراتب وهي تصل إلى الخلق على مراتب مختلفة ، { تعرج الملائكة والروح } يعني جبريل عليه الصلاة والسلام وإنما أفرده بالذكر وإن كان من جملة الملائكة لشرفه وفضل منزلته . وقيل إن الله تعالى إذا ذكر الملائكة في معرض التخويف والتهويل أفرد الروح بالذكر وهذا يقتضي أن الروح أعظم الملائكة { إليه } أي إلى الله عز وجل { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } أي من سني الدنيا . والمعنى أنه لو صعد غير الملك من بني آدم من منتهى أمر الله تعالى من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمر الله تعالى من فوق السماء السابعة لما صعد في أقل من خمسين ألف سنة والملك يقطع ذلك كله في ساعة واحدة وأقل من ذلك وذكر أن مقدار ما بين الأرض السابعة السفلى إلى منتهى العرش مسافة خمسين ألف سنة . وقيل إن ذلك اليوم هو يوم القيامة قال الحسن هو يوم القيامة وأراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس في مقدار خمسين ألف سنة من سني الدنيا وليس يعني أن مقدار طول ذلك اليوم خمسون ألف سنة دون غيره من الأيام لأن يوم القيامة له أول وليس له آخر لأنه يوم ممدود لا آخر له . ولو كان له آخر لكان منقطعاً وهذا الطول في حق الكفار دون المؤمنين . قال ابن عباس يوم القيامة يكون على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة . وروى البغوي بسنده عن أبي سعيد الخدري قال « قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فما أطول هذا اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(6/159)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
{ فاصبر } أي يا محمد على تكذيبهم إياك { صبراً جميلاً } أي لا جزع فيه وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ثم نسخ بآية السيف ، { إنهم يرونه } أي العذاب { بعيداً } أي غير كائن { ونراه قريباً } أي كائناً لا محالة لأن كل ما هو آت قريب ، وقيل الضمير في يرونه بعيداً يعود إلى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة والمعنى أنهم يستبعدونه على جهة الانكسار والإحالة ونحن نراه قريباً في قدرتنا غير بعيد علينا فلا يتعذر علينا إمكانه { يوم تكون السماء كالمهل } أي كعكر الزيت وقال الحسن كالفضة المذابة { وتكون الجبال كالعهن } أي الصوف المصبوغ . وإنما شبه الجبال بالمصبوغ من الصوف لأنها ذات ألوان أحمر وأبيض وغرابيب سود ونحو ذلك فإذا بست الجبال وسيرت أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح . وقيل العهن الصوف الأحمر وهو أضعف الصوف وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً ثم عهناً منفوشاً ثم تصير هباء منثوراً { ولا يسأل حميم حميماً } أي لا يسأل قريب قريبه لشغله بشأن نفسه والمعنى لا يسأل الحميم حميمه كيف حالك ولا يكلمه لهول ذلك اليوم وشدته . وقيل لا يسأله الشفاعة ولا يسأله الإحسان إليه ولا الرفق به كما كان يسأله في الدنيا وذلك لشدة الأمر وهول يوم القيامة { يبصرونهم } أي يرونهم وليس في القيامة مخلوق من جن أو إنس إلا وهو نصف عين صاحبه فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته فلا يسألهم ويبصر حميمه فلا يكلمه لاشتغاله بنفسه . وقال ابن عباس يتعارفون ساعة من النهار ثم لا يتعارفون بعد ذلك ، وقيل يعرف الحميم حميمه ومع ذلك لا يسأله عن حاله لشغله بنفسه . وقيل يبصرونهم أي يعرفونهم أما المؤمن فيعرف ببياض وجهه وأما الكافر فيعرف بسواد وجهه { يود المجرم } أي يتمنى المشرك { لو يفتدي من عذاب يومئذ } أي عذاب يوم القيامة { ببنيه وصاحبته } أي زوجته { وأخيه وفصيلته } أي عشيرته وقيل قبيلته وقيل أقربائه الأقربين { التي تؤويه } أي تضمه ويأوي إليها { ومن في الأرض جميعاً } يعني أنه يتمنى لو ملك هؤلاء وكانوا تحت يده ثم إنه يفتدي بهم جميعاً { ثم ينجيه } أي ذلك الفداء من عذاب الله .(6/160)
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
{ كلا } أي لا ينجيه من عذاب الله شيء ثم ابتدأ فقال تعالى { إنها لظى } يعني النار ولظى اسم من أسمائها وقيل : الدركة الثانية من النار سميت لظى لأنها تتلظى أي تلتهب ، { نزاعة للشوى } يعني الأطراف كاليدين والرجلين مما ليس بمقتل . والمعنى أن النار تنزع الأطراف فلا تترك عليها لحماً ولا جلداً . وقال ابن عباس : تنزع العصب والعقب وقيل تنزع اللحم دون العظام وقيل تأكل الدماغ كله ثم يعود كما كان ثم تأكله فذلك دأبها . وقيل لمكارم خلقه ومحاسن وجهه وأطرافه ، { تدعوا } يعني النار إلى نفسها { من أدبر } أي عن الإيمان { وتولى } أي عن الحق فتقول له إليّ يا مشرك إليّ يا منافق إليّ إليّ . قال ابن عباس تدعو الكافر والمنافق بأسمائهم بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب . وقيل تدعو أي تعذب قال أعرابي لآخر دعاك الله أي عذبك الله { وجمع فأوعى } يعني وتدعو من جمع المال في الوعاء ولم يؤد حق الله منه ، { إن الإنسان خلق هلوعاً } قال ابن عباس الهلوع الحريص على ما لا يحل . وقيل شحيحاً بخيلاً . وقيل ضجوراً وقيل جزوعاً ، وقيل ضيق القلب والهلع شدة الحرص وقلة الصبر وقال ابن عباس تفسيره ما بعده وهو قوله تعالى : { إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً } يعني إذا أصابه الفقر لم يصبر وإذا أصابه المال لم ينفق . وقال ابن كيسان خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويهرب مما يكره ثم تعبده بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره . قيل أراد بالإنسان هنا الكافر وقيل هو على عمومه ثم استثنى الله عز وجل فقال تعالى : { إلا المصلين } وهذا استثناء الجمع من الواحد لأن الإنسان واحد وفيه معنى الجمع { الذين هم على صلاتهم دائمون } يعني يقيموها في أوقاتها وهي الفرائض .
فإن قلت كيف قال على صلاتهم دائمون ثم قال بعده على صلاتهم يحافظون؟
قلت معنى إدامتهم عليها أن يواظبوا على أدائها ، وأن لا يتركوها في شيء من الأوقات وأن لا يشتغلوا عنها بغيرها إذا دخل وقتها ، والمحافظة عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها وهو أن يأتي بها العبد على أكمل الوجوه . وهذا إنما يحصل بأمور ثلاثة منها ما هو سابق للصلاة كاشتغاله بالوضوء وستر العورة وإرصاد المكان الطاهر للصلاة ، وقصد الجماعة وتعلق القلب بدخول وقتها وتفريغه عن الوسواس والالتفات إلى ما سوى الله عز وجل . وأما الأمور المقارنة للصلاة فهي أن لا يلتفت في الصلاة يميناً ولا شمالاً وأن يكون حاضر القلب في جميعها بالخشوع والخوف وإتمام ركوعها وسجودها . وأما الأمور الخارجة عن الصلاة فهو أن يحترز عن الرياء والسمعة خوف أن لا تقبل منه مع الابتهال والتضرع إلى الله تعالى في سؤال قبولها وطلب الثواب فالمداومة على الصلاة ترجع إلى نفسها والمحافظة عليها ترجع إلى أحوالها وهيئاتها . وروى البغوي بسنده عن أبي الخير قال سألنا عقبة بن عامر عن قوله عز وجل الذين هم على صلاتهم دائمون أهم الذين يصلون أبداً؟ قال لا ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه .(6/161)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
{ والذين في أموالهم حق معلوم } يعني الزكاة المفروضة لأنها مقدرة معلومة . وقيل هي صدقة التطوع وذلك بأن يوظف الرجل على نفسه شيئاً من الصدقة يخرجه على سبيل الندب في أوقات معلومة { للسائل } يعني الذي يسأل { والمحروم } يعني الفقير المتعفف عن السؤال فيحسب غنياً فيحرم { والذين يصدقون بيوم الدين } أي يؤمنون بالبعث بعد الموت والحشر والنشر والجزاء يوم القيامة { والذين هم من عذاب ربهم مشفقون } أي خائفون ثم أكد ذلك الخوف فقال تعالى : { إن عذاب ربهم غير مأمون } يعني أن الإنسان لا يمكنه القطع بأنه أدى الواجبات كما ينبغي ولا اجتنب المحظورات بالكلية كما ينبغي بل قد يكون وقع منه تقصير من الجانبين فلا جرم ينبغي أن يكون بين الخوف والرجاء .
قوله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } تقدم تفسيره في سورة المؤمنين .
قوله تعالى : { والذين هم بشهاداتهم قائمون } أي يقومون فيها عند الحكام ولا يكتمونها ولا يغيرونها وهذه الشهادة من جملة الأمانات إلا أنه خصها بالذكر لفضلها لأن بها تحيا الحقوق وتظهر وفي تركها تموت وتضيع ، وقيل أراد بالشهادة الشهادة له بأن لا إله إلا الله واحد لا شريك له ولهذا عطف عليها { والذين هم على صلواتهم يحافظون } ثم ذكر ما أعده لهم فقال تعالى : { أولئك } يعني من هذه صفته { في جنات مكرمون } قوله تعالى : { فمال الذين كفروا } أي فما بالهم { قبلك مهطعين } أي مسرعين مقبلين إليك مادي أعناقهم ومديمي النظر إليك متطلعين نحوك ، نزلت في جماعة من الكفار كانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون كلامه ويستهزئون به ويكذبونه فقال الله تعالى ما لهم ينظرون إليك ويجلسون عندك وهم لا ينتفعون بما يسمعون منك { عن اليمين وعن الشمال عزين } يعني أنهم كانوا عن يمينه وعن شماله مجتمعين حلقاً وفرقاً ، والعزون جماعات في تفرقة { أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم } قال ابن عباس : معناه أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي نعيم كما يدخلها المسلمون ويتنعمون فيها وقد كذبوا نبيي ، { كلا } أي لا يدخلها ثم ابتدأ فقال تعالى { إنا خلقناهم مما يعلمون } أي من الأشياء المستقذرة من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة نبه الله على أنهم خلقوا من أصل واحد وشيء واحد وإنما يتفاضلون بالمعرفة ويستوجبون الجنة بالإيمان والطاعة . روى البغوي بإسناد الثعلبي عن بشر بن جحاش قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصق يوماً في كفه ووضع عليها أصبعه فقال « يقول الله عز وجل يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك ومشيت بين بردين والأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة » ، وأخرجه ابن الجوزي في تفسيره بلا إسناد . وقيل في معنى الآية إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب . وقيل معناه إنا خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون ولم نخلقهم كالبهائم بلا علم ولا عقل .(6/162)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
{ فلا أقسم } يعني وأقسم وقد تقدم بيانه { برب المشارق والمغارب } يعني مشرق كل يوم من السنة ومغربه . وقيل يعني مشرق كل نجم ومغربه { إنا لقادرون على أن نبدل خيراً منهم } معناه إنا لقادرون على إهلاكهم وعلى أن نخلق أمثل منهم وأطوع لله { وما نحن بمسبوقين } أي بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بمن هو خير منكم { فذرهم يخوضوا } أي في أباطيلهم { ويلعبوا } في دنياهم { حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } نسختها آية القتال ثم فسر ذلك فقال تعالى : { يوم يخرجون من الأجداث } يعني القبور { سراعاً } أي إلى إجابة الداعي { كأنهم إلى نصب } يعني إلى شيء منصوب كالعلم والراية ونحوه . وقرىء بضم النون والصاد وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها { يوفضون } أي يسرعون ومعنى الآية أنهم يخرجون من الأجداث يسرعون إلى الداعي مستبقين إليه كما كانوا يستبقون إلى نصبهم ليستلموها { خاشعة أبصارهم } أي ذليلة خاضعة { ترهقهم ذلة } أي يغشاهم هوان { ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } يعني يوم القيامة الذي كانوا يوعدون به في الدنيا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/163)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)
قوله عز وجل : { إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك } أي بأن خوف قومك وحذرهم { من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } يعني الغرق بالطوفان والمعنى إنا أرسلناه لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا { قال يا قوم إني لكم نذير مبين } أي أنذركم وأبين لكم { أن اعبدوا الله } أي وحدوه ولا تشركوا به شيئاً { واتقوه } أي وخافوه بأن تحفظوا أنفسكم مما يؤثمكم { وأطيعون } أي فيما آمركم به من عبادة الله وتقواه { يغفر لكم من ذنوبكم } أي يغفر لكم ذنوبكم . ومن صلة وقيل يغفر لكم ما سلف من ذنوبكم إلى وقت الإيمان وذلك بعض الذنوب { ويؤخركم إلى أجل مسمى } أي إلى منتهى آجالكم فلا يعاقبكم { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون } ، معناه يقول آمنوا قبل الموت تسلموا من العذاب فإن أجل الله وهو الموت إذا جاء لا يؤخر ، قال الزمخشري إن قلت كيف قال ويؤخركم مع الإخبار بامتناع تأخير الأجل وهل هذا إلى تناقض قلت قضى مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة فقيل لهم آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي إلى وقت سماه الله وضربه أمداً تنتهون إليه لا تتجاوزونه وهو الوقت الأطول تمام الألف . ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ولم تكن حيلة فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير عنكم وحيث يمكنكم الإيمان ، { قال } يعني نوحاً عليه الصلاة والسلام { رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً } أي نفاراً وإدباراً عن الإيمان { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم } أي ليؤمنوا بك فتغفر لهم { جعلوا أصابعهم في آذانهم } لئلا يسمعوا دعوتي { واستغشوا ثيابهم } أي غطوا وجوههم بثيابهم لئلا يرون { وأصروا } على كفرهم { واستكبروا } عن الإيمان بك { استكباراً } أي تكبراً عظيماً { ثم إني دعوتهم جهاراً } أي معلناً قال ابن عباس : بأعلى صوتي .(6/164)
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)
{ ثم إني أعلنت لهم } أي كررت لهم الدعاء معلناً { وأسررت لهم إسراراً } قال ابن عباس يريد الرجل بعد الرجل أكلمه سراً بيني وبينه أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً } وذلك أن قوم نوح لما كذبوه زماناً طويلاً حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أموالهم ومواشيهم فقال لهم استغفروا ربكم أي من الشرك واطلبوا المغفرة بالتوحيد حتى يفتح عليكم أبواب نعمه وذلك لأن الاشتغال بالطاعة يكون سبباً لاتساع الخير والرزق .
وأن الكفر سب لهلاك الدنيا فإذا اشتغلوا بالإيمان والطاعة حصل ما يحتاجون إليه في الدنيا . وروى الشعبي أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار حتى يرجع فقيل له ما سمعناك استسقيت فقال طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر ثم قرأ { استغفروا ربكم إنه كان غفاراً } الآية قوله بمجاديح السماء واحدها مجدح وهو نجم من النجوم . وقيل هو الدبران وقيل هي ثلاثة كواكب كالأثافي تشبيهاً بالمجدح الذي له شعب وهي عند العرب من الأنواء الدالة على المطر فجعل عمر الاستغفار مشبهاً بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفون وكانوا يزعمون أن من شأنها المطر لا أنه يقول بالأنواء .
وعن بكر بن عبد الله أن أكثر الناس ذنوباً أقلهم استغفاراً وأكثرهم استغفاراً أقلهم ذنوباً . وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال له استغفر الله وشكا آخر إليه الفقر وقلة النسل وآخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له الربيع بن صبيح أتاك رجال يشكون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار؟ فتلا هذه الآية وقوله يرسل السماء عليكم أي يرسل ماء السماء وذلك لأن ماء المطر ينزل من السماء إلى السحاب ثم ينزل من السحاب إلى الأرض . وقيل أراد بالسماء السحاب ، وقيل أراد بالسماء المطر من قول الشاعر
إذا نزل السماء بأرض قوم ... فحلوا حيثما نزل السماء
يعني المطر مدراراً أي كثير الدر وهو حلب الشاة حالاً بعد حال . وقيل مدراراً أي متتابعاً { ويمددكم بأموال وبنين } أي يكثر أموالكم وأولادكم { ويجعل لكم جنات } أي البساتين { ويجعل لكم أنهاراً } وهذا كله مما يميل طبع البشرية إليه { ما لكم لا ترجون لله وقاراً } قال ابن عباس أي لا ترون لله عظمة . وقيل معناه لا تخافون عظمته فالرجاء بمعنى الخوف ، والوقار العظمة من التوقير وهو التعظيم . وقيل التعظيم وقيل معناه ما لكم لا تعرفون لله حقاً ولا تشكرون له نعمة وقيل معناه ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيراً { وقد خلقكم أطواراً } يعني تارة بعد تارة وحالاً بعد حال نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى تمام الخلق .(6/165)
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
{ ثم يعيدكم فيها } أي في الأرض بعد الموت { ويخرجكم } أي منها يوم البعث { إخراجاً } يعني إخراجاً حقاً لا محالة { والله جعل لكم الأرض بساطاً } أي فرشها لكم مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه { لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً } أي طرقاً واسعة .
قوله تعالى : { قال نوح رب إنهم عصوني } أي لم يجيبوا دعوتي { واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً } يعني اتبع السفلة والفقراء القادة والرؤساء الذين لم تزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالاً في الدنيا وعقوبة في الآخرة { ومكروا مكراً كباراً } يعني كبيراً عظيماً يقال كبيراً وكباراً بالتشديد والتخفيف والتشديد أشد وأعظم في المبالغة والماكرون هم الرؤساء والقادة ومكرهم احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح عليه الصلاة والسلام وتحريش السفلة على أذاه وصد الناس عن الإيمان به والميل إليه والاستماع منه . وقيل مكرهم هو قولهم لا تذرن آلهتكم وتعبدوا إله نوح ، وقال ابن عباس في مكرهم قالوا قولاً عظيماً . وقيل افتروا على الله الكذب وكذبوا رسله { وقالوا } يعني القادة للأتباع { لا تذرن آلهتكم } أي لا تتركن عبادتها { ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } هذه أسماء آلهتهم وإنما أفرد بالذكر وإن كانت داخلة في جملة قوله لا تذرن آلهتكم لأنهم كانت لهم أصنام هذه الخمسة المذكورة هي أعظمها عندهم . قال محمد بن كعب هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا كان أتباعهم يقتدون بهم ويأخذون بعدهم بأخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم : لو صورتم صورهم كان ذلك أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ففعلوا ذلك ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم . فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك وسميت تلك الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صورة أولئك القوم الصالحين من المسلمين ، ( خ ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : صارت الأوثان التي كانت تعبد قوم نوح في العرب بعد . أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم صارت لبني غطيف بالجرف عند سبأ ، وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع . وروى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس في قوله ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ، قال كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت الأوثان ، وروي عن ابن عباس أن تلك الأوثان دفنها الطوفان وطمها التراب فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب ، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات كانت لثقيف والعزى لسليم وغطفان وجشم ، ومناة كانت لخزاعة بقديد وإساف ونائلة وهبل كانت لأهل مكة . ولذلك سمت العرب أنفسهم بعبد ود وعبد يغوث وعبد العزى ونحو ذلك من الأسماء .(6/166)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
{ وقد أضلوا كثيراً } أي ضل بسبب الأصنام كثير من الناس . وقيل أضل كبراء قوم نوح كثيراً من الناس { ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً } يعني ولا تزد المشركين بعبادتهم الأصنام إلا ضلالاً وهذا دعاء عليهم وذلك أن نوحاً عليه السلام كان قد امتلأ قلبه غضباً وغيظاً عليهم فدعا عليهم .
فإن قلت كيف يليق بمنصب النبوة أن يدعو بمزيد الضلال وإنما بعث ليصرفهم عنه .
قلت إنما دعا عليهم بعد أن أعلمه الله أنهم لا يؤمنون وهو قوله تعالى : { إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } وقيل إنما أراد بالضلال في أمر الدنيا وما يتعلق بها لا في أمر الآخرة { مما خطيئاتهم أغرقوا } أي بالطوفان { فأدخلوا ناراً } أي في حالة واحدة وذلك في الدنيا كانوا يغرقون من جانب ويحترقون من جانب . واستدل بعضهم بهذه الآية على صحة عذاب القبر وذلك لأن الفاء تقتضي التعقيب في قوله تعالى أغرقوا فأدخلوا ناراً ، وهذا يدل على أنه إنما حصل دخول النار عقيب الإغراق ولا يمكن حمله على عذاب الآخرة لأنه يبطل دلالة الفاء ، وقيل معناه أنهم سيدخلون ناراً في الآخرة فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لصدق الوعد في ذلك والأول أصح { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً } يعني تنصرهم وتمنعهم من العذاب الذي نزل بهم { وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } يعني أحد يدور في الأرض فيذهب ويجيء من الدوران . وقيل أصله من الدار أي نازل دار { إنك إن تذرهم يضلوا عبادك } قال ابن عباس وغيره كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول له احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي حذرنيه ، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } إنما قال نوح هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم بعد ذلك أرحام النساء وأيبس أصلاب الرجال وذلك قبل نزول العذاب بأربعين سنة . وقيل بسبعين سنة وأخبر الله نوحاً أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمناً فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله دعوته فأهلكهم جميعاً ولم يكن معهم صبي وقت العذاب لأن الله تعالى أعقمهم قبل العذاب { رب اغفر لي } وذلك أنه لما دعا على الكفار قال رب اغفر لي يعني ما صدر مني من ترك الأفضل ، وقيل يحتمل أنه لما دعا على الكفار قال رب اغفر لي يعني ما صدر مني من ترك الأفضل . وقيل يحتمل أنه حين دعا على الكفار أنه إنما دعا عليهم بسبب تأذيه منهم فكان ذلك الدعاء عليهم كالانتقام منهم فاستغفر من ذلك لما فيه من طلب حظ النفس أو لأنه ترك الاحتمال . { ولوالديَّ } وكان اسم أبيه ملك بن متوشلخ واسم أمه سمخاء بنت أنوش وكانا مؤمنين وقيل لم يكن بين آدم ونوح عليهما السلام من آبائه كافر وكان بينهما عشرة آباء { ولمن دخل بيتي مؤمناً } أي داري وقيل مسجدي وقيل سفينتي { وللمؤمنين والمؤمنات } وهذا عام في كل مؤمن آمن بالله وصدق الرسل ، وإنما بدأ بنفسه لأنها أولى بالتخصيص والتقديم ثم ثنى بالمتصلين به لأنهم أحق بدعائه من غيرهم ثم عمم جميع المؤمنين والمؤمنات ليكون ذلك أبلغ في الدعاء ، { ولا تزد الظالمين إلا تباراً } أي هلاكاً ودماراً فاستجاب الله تعالى دعاءه فأهلكهم جميعاً والله أعلم .(6/167)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)
قوله عز وجل : { قل أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن } اختلف الناس قديماً وحديثاً في ثبوت وجود الجن فأنكر وجودهم معظم الفلاسفة ، واعترف بوجودهم جمع منهم وسموهم بالأرواح السفلية ، وزعموا أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية إلا أنهم أضعف . وأما جمهور أرباب الملل وهم أتباع الرسل والشرائع فقد اعترفوا بوجود الجن لكن اختلفوا في ماهيتهم ، فقيل الجن حيوان هوائي يتشكل بأشكال مختلفة ، وقيل إنها جواهر وليست بأجسام ولا أعراض ثم هذه الجواهر أنواع مختلفة بالماهية فبعضها خيرة كريمة محبة للخيرات وبعضها دنيئة خسيسة شريرة محبة للشرور والآفات ولا يعلم عدة أنواعهم إلا الله تعالى ، وقيل إنهم أجسام مختلفة الماهية لكن تجمعهم صفة واحدة وهي كونهم حاصلون في الحيز موصوفون بالطول والعرض والعمق ، وينقسمون إلى لطيف وكثيف وعلوي وسفلي ولا يمتنع في بعض الأجسام اللطيفة الهوائية أن تكون مخالفة لسائر أنواع الأجسام في الماهية وأن يكون لها علم مخصوص وقدرة مخصوصة على أفعال عجيبة أو شاقة يعجز البشر عن مثلها . وقد يتشكلون بأشكال مختلفة وذلك بإقدار الله تعالى إياهم على ذلك ، وقيل إن الأجسام متساوية في تمام الماهية وليست البنية شرطاً للحياة وهذا قول الأشعري وجمهور أتباعه ، وشذ تأويل المعتزلة من هذه الأمة فأنكروا وجود الجن وقالوا البنية شرط للحياة وإنه لا بد من صلابة البنية حتى يكون قادراً على الأفعال الشاقة ، وهذا قول منكر وصاحب هذا القول ينكر خرق العادات ورد ما ثبت وجوده بنص الكتاب والسنة .
( فصل )
اختلف الرواة هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجن فأثبتها ابن مسعود فيما رواه عنه مسلم في صحيحه وقد تقدم حديثه في تفسير سورة الأحقاف عند قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن } وأنكرها ابن عباس فيما رواه عنه البخاري ومسلم . قال ابن عباس « ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم فقيل حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب؟ قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء . فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا { يا قومنا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً } فأنزل الله تعالى على نبيه { قل أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن } زاد في رواية { وإنما أوحي إليه قول الجن » أخرجاه في الصحيحين ، قال القرطبي في شرح مسلم في حديث ابن عباس هذا معناه أنه لم يقصدهم بالقراءة بل لما تفرقوا يطلبون الخبر الذي حال بينهم وبين استراق السمع ، صادف هؤلاء النفر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه وعلى هذا فهو صلى الله عليه وسلم لم يعلم باستماعهم ولم يكلمهم وإنما أعلمه الله عز وجل بما أوحي إليه من قوله قل أوحى إليّ أنه استمع نفر من الجن وأما حديث ابن مسعود فقضية أخرى وجن آخرون .(6/168)
والحاصل من الكتاب والسنة العلم القطعي بأن الجن والشياطين موجودون متعبدون بالأحكام الشرعية على النحو الذي يليق بخلقتهم وبحالهم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رسول إلى الإنس والجن فمن دخل في دينه فهو من المؤمنين ومعهم في الدنيا والآخرة والجنة ، ومن كفر به فهو من الشياطين المبعدين المعذبين فيها والنار مستقره . وهذا الحديث يقتضي أن الرجم بالنجوم ولم يكن قبل المبعث . وذهب قوم إلى أنه كان قبل مبعثه وآخرون إلى أنه كان لكن زاد بهذا المبعث وبهذا القول يرتفع التعارض بين الحديثين هذا آخر كلام القرطبي والله أعلم .
عكاظ سويقة معروفة بقرب مكة كان العرب يقصدونها في كل سنة مرة في الجاهلية وأول الإسلام وتهامة كل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز سميت تهامة لتغير هوائها . ومكة من تهامة معدودة ونخلة واد من أودية مكة قريب منها .
وأما التفسير فقوله سبحانه وتعالى : { قل أوحي إليّ } أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يظهر لأصحابه واقعة الجن وكما أنه مبعوث إلى الإنس فهو أيضاً مبعوث إلى الجن لتعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا به وقوله استمع نفر من الجن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة قيل كانوا تسعة من جن نصيبين . وقيل سبعة سمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم { فقالوا } أي لما رجعوا إلى قومهم ، { إنا سمعنا قرآناً عجباً } قال ابن عباس رضي الله عنهما بليغاً أي ذا عجب يعجب منه لبلاغته وفصاحته { يهدي إلى الرشد } أي يدعو إلى الصواب يعني التوحيد والإيمان { فآمنا به } أي بالقرآن { ولن نشرك بربنا أحداً } أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك . وفيه دليل على أن أولئك النفر كانوا مشركين قيل كانوا يهوداً وقيل كانوا نصارى وقيل كانوا مجوساً ومشركين { وأنه تعالى جد ربنا } أي جلال ربنا وعظمته ، ومنه قول أنس « كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا » أي عم قدره وقيل الجد الغنى .(6/169)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
{ وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً } أي كنا نظن أن الإنس والجن صادقون في قولهم إن لله صاحبة وولداً وأنهم لا يكذبون على الله في ذلك فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم قد كذبوا على الله .
قوله تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في أرض قفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح . روى البغوي بإسناد الثعلبي عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم فوثب الراعي فقال : يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمته فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بمكة وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ، { فزادوهم رهقاً } وذكره ابن الجوزي في تفسيره بغير سند ومعنى الآية زاد الإنس الجن باستعاذتهم بقادتهم رهقاً ، قال ابن عباس إثماً . وقيل طغياناً وقيل غياً وقيل شراً وقيل عظمة وذلك أنهم كانوا يزدادون بهذا التعوذ طغياناً وعظمة ويقولون يعني عظماء الجن سدنا الجن والإنس . والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم { وأنهم ظنوا } يعني الجن { كما ظننتم } أي يا معشر الكفار من الإنس { أن لن يبعث الله أحداً } يعني يقول الجن وأنا { لمسنا السماء } أي طلبنا بلوغ السماء الدنيا واستماع كلام أهلها { فوجدناها ملئت حرساً } يعني من الملائكة { شديداً وشهباً } أي من النجوم { وأنا كنا نقعد منها } أي من السماء { مقاعد للسمع } يعني كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن قد ملئت المقاعد كلها { فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } أي أرصد له ليرمى به . وقيل شهاباً من الكواكب ورصداً من الملائكة ، عن ابن عباس قال « كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا عليها تسعاً ، فأما الكلمة فتكون حقاً وأما ما زاد فيكون باطلاً . فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي بين جبلين أراه قال بمكة فأخبروه فقال هذا الحدث في الأرض » ، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح . وقال ابن قتيبة إن الرجم كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يكن مثل ما كان بعد مبعثه في شدة الحراسة وكانوا يسترقون في بعض الأحوال فلما بعث منعوا من ذلك أصلاً فعلى هذا القول يكون حمل الجن على الضرب في الأرض .
وطلب السبب إنما كان لكثرة الرجم ومنعهم عن الاستراق بالكلية .(6/170)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)
{ وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض } أي برمي الشهب { أم أراد بهم ربهم رشداً } ومعنى الآية لا ندري هل المقصود من المنع من الاستراق هو شر أريد بأهل الأرض أم أريد بهم صلاح وخير { وأنا منا الصالحون } أي المؤمنون المخلصون { ومنا دون ذلك } أي دون الصالحين مرتبة . قيل المراد بهم غير الكاملين في الصلاح وهم المقتصدون فيدخل فيهم الكافر وغيره { كنا طرائق قدداً } أي جماعات متفرقين وأصنافاً مختلفة والقدة القطعة من الشيء ، قال مجاهد يعنون مسلمين وكافرين . وقيل أهواء مختلفة وشيعاً متفرقة لكل فرقة هوى كأهواء الناس وذلك أن الجن فيهم القدرية والمرجئة والرافضة والخوارج وغير ذلك من أهل الأهواء ، فعلى هذا التفسير يكون معنى طرائق قدداً أي سنصير طرائق قدداً وهو بيان للقسمة المذكورة أي كنا ذوي مذاهب مختلفة متفرقة ، وقيل معناه كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة { وأنا ظننا } الظن هنا بمعنى العلم واليقين أي علمنا وأيقنا { أن لن نعجز الله في الأرض } أي لن نفوته إن أراد بنا أمراً { ولن نعجزه هرباً } أي إن طلبنا فلن نعجزه أينما كنا { وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به } أي لما سمعنا القرآن آمنا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً } أي نقصاناً من عمله وثوابه { ولا رهقاً } يعني ظلماً وقيل مكروهاً يغشاه { وأنا منا المسلمون } وهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم { ومنا القاسطون } أي الجائرون العادلون عن الحق ، قال ابن عباس وهم الذين جعلوا لله أنداداً { فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً } أي قصدوا طريق الله وتوخوه { وأما القاسطون } يعني الذين كفروا { فكانوا لجهنم حطباً } يعني وقوداً للنار يوم القيامة .
فإن قلت قد يتمسك بظاهر هذه الآية من لا يرى لمؤمني الجن ثواباً وذلك لأن الله تعالى ذكر عقاب الكافرين منهم ولم يذكر ثواب المؤمنين منهم .
قلت ليس فيه تمسك له وكفى بقوله فأولئك تحروا رشداً فذكر سبب الثواب والله أعدل وأكرم من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد .
فإن قلت كيف يعذب الجن بالنار وقد خلقوا منها .
قلت وإن خلقوا من النار فقد تغيروا عن تلك الهيئة وصاروا خلقاً آخر والله تعالى قادر أن يعذب النار بالنار قوله عز وجل : { وأن لو استقاموا على الطريقة } .
اختلفوا فيمن يرجع الضمير إليه فقيل هو راجع إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم والمعنى لو استقام الجن على الطريقة المثلى الحسنى لأنعمنا عليهم وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع وقيل معناه لو ثبت الجن الذين سمعوا القرآن . على الطريقة التي كانوا عليها قبل استماع القرآن ولم يسلموا { لأسقيناهم ماء غدقاً } أي لوسعنا الرزق عليهم .(6/171)
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
{ لنفتنهم فيه } وقيل الضمير راجع إلى الإنس وتم الخبر عن الجن ثم رجع إلى خطاب الإنس فقال تعالى : { وأن لو استقاموا } يعني كفار مكة على الطريقة يعني على طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين { لأسقيناهم ماء غدقاً } يعني كثيراً وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين .
والمعنى لو آمنوا لوسعنا عليهم في الدنيا ولأعطيناهم ماء كثيراً وعيشاً رغداً . وإنما ذكر الماء الغدق مثلاً لأن الخير والرزق كله أصله من المطر وقوله « لنفتنهم فيه » أي لنختبرهم كيف شكرهم فيما خولوا فيه . وقيل في معنى الآية لو استقاموا أي ثبتوا على طريقة الكفر والضلالة لأعطيناهم مالاً كثيراً ولوسعنا عليهم لنفتنهم فيه عقوبة لهم واستدراجاً لهم حتى يفتنوا به فنعذبهم والقول الأول أصح لأن الطريقة معرفة بالألف واللام وهي طريقة الهدى والقول بأن الآية في الإنس أولى لأن الإنس هم الذين ينتفعون بالمطر { ومن يعرض عن ذكر ربه } أي عن عبادة ربه وقيل عن مواعظه { يسلكه } أي يدخله { عذاباً صعداً } ، قال ابن عباس شاقاً وقيل عذاباً لا راحة فيه وقيل لا يزداد إلا شدة .
قوله تعالى : { وأن المساجد لله } يعني المواضع التي بنيت للصلاة والعبادة ، وذكر الله تعالى فيدخل فيه مساجد المسلمين والكنائس والبيع التي لليهود والنصارى { فلا تدعوا مع الله أحداً } قال قتادة كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله عز وجل المؤمنين أن يخلصوا الدعوة لله إذا دخلوا المساجد كلها . وقيل أراد بالمساجد بقاع الأرض كلها لأن الأرض كلها جعلت مسجداً للنبي صلى الله عليه وسلم فعلى هذا يكون المعنى فلا تسجدوا على الأرض لغير الله تعالى ، قال سعيد بن جبير « قالت الجن للنبي صلى الله عليه وسلم كيف لنا أن نشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك فنزلت وأن المساجد لله » وروي عنه أيضاً أن المراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها الإنسان وهي سبعة الجبهة واليدان والركبتان والقدمان والمعنى أن هذه الأعضاء التي يقع عليها السجود مخلوقة لله فلا تسجدوا عليها لغيره ، ( م ) عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول « إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه » الآراب الأعضاء ، ( ق ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال « أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسجد على سبعة أعضاء وأن لا نكف شعراً ولا ثوباً : الجبهة واليدين والركبتين والقدمين » وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفف الثياب ولا الشعر »(6/172)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
{ قل } يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقرىء على الأمر { إنما أدعوا ربي } وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لقد جئت بأمر عظيم فارجع عنه فنحن نجيرك فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم « إنما أدعو ربي { ولا أشرك به أحداً قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً } » أي لا أقدر على أن أدفع عنكم ضراً ولا أسوق إليكم رشداً وإنما الضار والنافع والمرشد والمغوي هو الله تعالى . { قل إني لن يجيرني من الله أحد } أي لم يمنعني منه أحد إن عصيته { ولن أجد من دونه ملتحداً } أي ملجأ ألجأ إليه وقيل حرزاً أحترز به وقيل مدخلاً في الأرض مثل السرب أدخل فيه { إلا بلاغاً من الله ورسالاته } أي ففيه الجوار والأمن والنجاة . وقيل معناه ذلك الذي يجبرني من عذاب الله يعني التبليغ وقيل إلا بلاغاً من الله فذلك الذي أملكه بعون الله وتوفيقه . وقيل معناه لا أملك لكم ضراً ولا رشداً لكن أبلغ بلاغاً عن الله عز وجل فإنما أنا مرسل لا أملك إلا ما ملكت ، { ومن يعص الله ورسوله } يعني ولم يؤمن { فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً حتى إذا رأوا ما يوعدون } يعني العذاب يوم القيامة { فسيعلمون } أي عند نزول العذاب { من أضعف ناصراً وأقل عدداً } أهم أم المؤمنون { قل إن أدري } أي ما أدري { أقريب ما توعدون } يعني العذاب وقيل يوم القيامة { أم يجعل له ربي أمداً } أي أجلاً وغاية تطول مدتها والمعنى أن علم وقت العذاب غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل { عالم الغيب } أي هو عالم ما غاب عن العباد { فلا يظهر } أي فلا يطلع { على غيبه } أي الغيب الذي يعلمه وانفرد به { أحداً } أي من الناس ثم استثنى فقال تعالى : { إلا من ارتضى من رسول } يعني إلا من يصطفيه لرسالته ونبوته فيظهره على ما يشاء من الغيب حتى يستدل على نبوته بما يخبر به من المغيبات فيكون ذلك معجزة له وآية دالة على نبوته . قال الزمخشري وفي هذا إبطال الكرامات لأن الذين تضاف إليهم الكرامات وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيه أيضاً إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط . قال الواحدي وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت ونحو ذلك فقد كفر بما في القرآن . فأما الزمخشري فأنكر كرامات الأولياء جرياً على قاعدة مذهبه في الاعتزال ووافق الواحدي وغيره من المفسرين في إبطال الكهانة والتنجيم قال الإمام فخر الدين ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات قال : وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء من ذلك والذي تدل عليه أن قوله { فلا يظهر على غيبه أحداً } ليس فيه صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر الله تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة ، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد ثم إنه يجوز أن يطلع الله على شيء من المغيبات غير الرسل كالكهنة وغيرهم وذكر ما يدل على صحة قوله .(6/173)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
{ ليعلم } أي ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم { أن } أي أن جبريل قد بلغ إليه رسالات ربه وقيل معناه ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم وأن الله قد حفظهم ودفع عنهم . وقيل معناه ليعلم الله أن الرسل { قد أبلغوا رسالات ربهم } فيعلم الله ذاك ظاهراً موجوداً فيوجب فيه الثواب { وأحاط بما لديهم } أي علم الله ما عند الرسل فلا يخفى عليه شيء من أمورهم { وأحصى كل شيء عدداً } قال ابن عباس : أحصى ما خلق وعرف ما خلق لم يفته شيء حتى مثاقيل الذر والخردل ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه .(6/174)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)
قوله عز وجل : { يا أيها المزمل } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصله المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف .
قال المفسرون كان النبي صلى الله عليه وسلم يتزمل في ثيابه أول ما جاءه جبريل فرقاً منه فكان يقول زملوني زملوني حتى أنس به . وقيل خرج يوماً من البيت وقد لبس ثيابه فناداه جبريل يا أيها المزمل ، وقيل معناه متزمل النبوة أي حاملها والمعنى زملت هذا الأمر فقم به واحمله فإنه أمر عظيم وإنما لم يخاطب بالنبي والرسول لأنه كان في أول الأمر ومبدئه ، ثم خوطب بالنبي والرسول بعد ذلك ، وقيل كان صلى الله عليه وسلم قد نام وهو متزمل في ثوبه فنودي يا أيها المزمل { قم الليل } أي للصلاة والعبادة واهجر هذه الحالة واشتغل بالصلاة والعبودية وكان قيام الليل فريضة في ابتداء الإسلام { إلا قليلاً } أي صل الليل إلا قليلاً تنام فيه وهو الثلث ثم بين قدر القيام فقال تعالى : { نصفه } أي قم نصف الليل { أو انقص منه قليلاً } أي إلى الثلث .(6/175)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
{ أو زد عليه } أي على النصف إلى الثلثين خيره بين هذه المنازل فكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقومون على هذه المقادير وكان الرجل منهم لا يدري متى ثلث الليل أو متى نصفه أو متى ثلثاه ، فكان يقوم الليل كله حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم فرحمهم الله وخفف عنهم ونسخها عنهم بقوله { فاقرؤوا ما تيسر منه } قيل ليس في القرآن سورة نسخ آخرها أولها إلا هذه السورة وكان بين نزول أولها ونزول آخرها سنة . وقيل ستة عشر شهراً . وكان قيام الليل فرضاً ثم نسخ بعد ذلك في حق الأمة بالصلوات الخمس وثبتت فريضته على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } ( م ) عن سعد بن هشام قال « انطلقت إلى عائشة فقلت يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ألست تقرأ القرآن قلت بلى قالت فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن . قلت فقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم المؤمنين؟ قالت ألست تقرأ المزمل قلت بلى قالت فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعاً بعد الفريضة » .
وقوله تعالى : { ورتل القرآن ترتيلاً } قال ابن عباس بينه بياناً وعنه أيضاً « اقرأه على هينتك ثلاث آيات وأربعاً وخمساً » ، وقيل الترتيل هو التوقف والترسل والتمهل والإفهام وتبيين القراءة حرفاً حرفاً أثره في أثر بعض بالمد والإشباع والتحقيق . وترتيلاً تأكيد في الأمر به وأنه لا بد للقارىء منه ، وقيل إن الله تعالى لما أمر بقيام الليل أتبعه بترتيل القرآن حتى يتمكن المصلي من حضور القلب والتأمل والفكر في حقائق الآيات ومعانيها فعند الوصول إلى ذكر الله تعالى يستشعر بقلبه عظمة المذكور وجلاله وعند ذكر الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف وعند ذكر القصص والأمثال يحصل الاعتبار فيستنير القلب عند ذلك بنور المعرفة ، والإسراع في القراءة لا يحصل فيها ذلك فظهر بذلك أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب عند القراءة .
( فصل )
( خ ) عن قتادة قال « سئل أنس كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كانت مداً ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم » عن أم سلمة رضي الله عنها وقد سألها يعلى بن مالك عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته فقالت « ما لكم وصلاته ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً » ، أخرجه النسائي وللترمذي قالت(6/176)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
{ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } قال ابن عباس شديداً . وقيل ثقيلاً يعني كلاماً عظيماً جليلاً ذا خطر وعظمة لأنه كلام رب العالمين وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل والمعنى فصير نفسك مستعدة لقبول هذا القول العظيم الثقيل الشاق ، وقيل سماه ثقيلاً لما فيه من الأوامر والنواهي فإن فيه مشقة وكلفة على الأنفس وقيل ثقيلاً لما فيه من الوعد والوعيد والحلال والحرام والحدود والفرائض والأحكام . وقيل ثقيلاً على المنافقين لأنه يبين عيوبهم ويظهر نفاقهم ، وقيل هو خفيف على اللسان بالتلاوة ثقيل في الميزان بالثواب يوم القيامة . وقيل ثقيلاً أي ليس بالخفيف ولا السفساف لأنه كلام ربنا تبارك وتعالى . وقيل معناه أنه قول مبين في صحته وبيانه ونفعه كما تقول هذا كلام رصين وهذا قول له وزن إذا استجدته وعلمت أنه صادق الحكمة والبيان . وقيل سماه ثقيلاً لما فيه من المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ . وقيل ثقيلاً في الوحي وذلك أنه صلى الله عليه وسلم « كان إذا نزل عليه القرآن والوحي يجد له مشقة » ، ( ق ) عن عائشة رضي الله عنها « أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهذا أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحياناً يتمثل إلي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول . قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً » ( م ) عن عبادة بن الصامت قال « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد له وجهه » وفي رواية « كان إذا نزل عليه الوحي عرفنا ذلك في فيه وغمض عينيه وتربد وجهه » قوله مثل صلصلة الجرس الصلصة الصوت الشديد الصلب اليابس من الأشياء الصلبة كالجرس ونحوه . قوله فيفصم أي ينفصل عني ويفارقني وقد وعيت ما قال أي حفظت . وقولها ليتفصد عرقاً أي يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد . قوله تربد وجهه الربدة في الألوان غبرة مع سواد ، وقوله تعالى : { إن ناشئة الليل } أي ساعاته كلها وكل ساعة منه ناشئة ، لأنها تنشأ عن التي قبلها وقال ابن أبي مليكة سألت ابن عباس وابن الزبير عنها فقالا الليل كله ناشئة وهي عبارة عن الأمور التي تحدث وتنشأ في الليل وقالت عائشة الناشئة القيام بعد النوم . وقيل هي قيام آخر الليل وقيل أوله ، وقيل أي ساعة قام الإنسان من الليل فقد نشأ . روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ويقول هذه ناشئة الليل ، وقيل كل صلاة بعد العشاء الآخرة فهي ناشئة الليل ، وقيل ناشئة الليل قيامه وقيل ناشئة الليل وطاؤه { هي أشد وطأ } قرىء بكسر الواو مع المد يعني من المواطأة والموافقة وذلك لأن مواطأة القلب اللسان والسمع والبصر تكون بالليل أكثر مما تكون بالنهار .(6/177)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
{ إن لك في النهار سبحاً طويلاً } أي تصرفاً وتقلباً وإقبالاً وإدباراً في حوائجك واشتغالك . وقيل فراغاً وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك أفضل من الليل { واذكر اسم ربك } أي بالتوحيد والتعظيم والتقديس والتسبيح { وتبتل إليه تبتيلاً } قال ابن عباس أخلص إليه إخلاصاً وقيل تفرغ لعبادته وانقطع إليه انقطاعاً والمعنى بتل إليه نفسك واقطعها عن كل شيء سواه . وقيل التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله . وقيل معناه وتوكل عليه توكلاً واجتهد في العبادة وقيل يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلا من عبادة الله وطاعته .
فإن قلت كيف قال تبتيلاً مكان تبتلاً ولم يجيء على مصدره؟
قلت جاء تبتيلاً على بتل نفسك إليه تبتيلاً فوقع المصدر موضع مقارنة في المعنى ويكون التقدير وبتل نفسك إليه تبتيلاً فهو كقوله والله أنبتكم من الأرض نباتاً ، وقيل لأن معنى تبتل بتل نفسك فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل . وقيل الأصل في تبتل أن يقال تبتلت تبتيلاً وتبتلت تبتيلاً فتبتيلاً محمول على معنى بتل إليه تبتيلاً وقيل إنما عدل عن هذه العبارة لدقيقة لطيفة وهي أن المقصود إنما هو التبتل فأما التبتيل فهو تصرف والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلاً إلى الله تعالى لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعاً إليه إلا أنه لا بد من التبتيل حتى يحصل التبتل فذكر أولاً التبتل لأنه المقصود وذكر التبتيل ثانياً إشعاراً بأنه لا بد منه { رب المشرق والمغرب } يعني أن التبتل والانقطاع لا يليق إلا لله تعالى الذي هو رب المشرق والمغرب { لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً } أي فوض أمرك إليه وتوكل عليه . وقيل معناه اتخذ يا محمد ربك كفيلاً بما وعدك من النصر على الأعداء { واصبر على ما يقولون } أي من التكذيب لك والأذى { واهجرهم هجراً جميلاً } أي واعتزلهم اعتزالاً حسناً لا جزع فيه وهذه الآية منسوخة بآية القتال .(6/178)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
{ وذرني والمكذبين } أي دعني ومن كذبك لا تهتم به فإني أكفيكه { أولي النعمة } أي أصحاب النعم والترفه نزلت في صناديد قريش المستهزئين وقيل نزلت في المطعمين ببدر { ومهلهم قليلاً } يعني إلى يوم بدر فلم يكن إلا يسير حتى قتلوا ببدر . وقيل أراد بالقليل أيام الدنيا ثم وصف عذابهم فقال تعالى : { إن لدينا } أي عندنا في الآخرة { أنكالاً } يعني قيوداً عظاماً ثقالاً لا تنفك أبداً وقيل أغلالاً من حديد { وجحيماً وطعاماً ذا غصة } أي غير سائغ في الحلق لا ينزل ولا يخرج وهو الزقوم والضريع { وعذاباً أليماً } أي وجيعاً { يوم ترجف الأرض والجبال } أي تتزلزل وتتحرك وهو يوم القيامة { وكانت الجبال كثيباً مهيلاً } يعني رملاً سائلاً وهو الذي إذا أخذت منه شيئاً يتبعك ما بعده { إنا أرسلنا إليكم } يعني يا أهل مكة { رسولاً } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { شاهداً عليكم } أي بالتبليغ وإيمان من آمن منكم وكفر من كفر { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً } يعني موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام ، قيل إنما خص فرعون وموسى بالذكر من بين سائر الأمم والرسل لأن محمداً صلى الله عليه وسلم آذاه أهل مكة واستخفوا به لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى بموسى وآذاه لأنه رباه { فعصى فرعون الرسول فأخذناه } أي فرعون { أخذاً وبيلاً } أي شديداً ثقيلاً يعني عاقبناه عقوبة غليظة ، خوَّف بذلك كفار مكة ثم خوَّفهم يوم القيامة فقال تعالى : { فكيف تتقون إن كفرتم } أي كيف لكم بالتّقوى يوم القيامة إن كفرتم أي في الدنيا ، المعنى لا سبيل لكم إلى التّقوى إذا وافيتم القيامة . وقيل معنى الآية فكيف تتقون العذاب يوم القيامة ، وبأي شيء تتحصنون من عذاب ذلك اليوم ، وكيف تنجون منه إن كفرتم في الدّنيا { يوماً يجعل الولدان شيباً } يعني شيوخاً شمطاً من هول ذلك اليوم وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه الصّلاة والسّلام قم ، فابعث بعث النار من ذريتك . ( ق ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم فيقول لبيك وسعديك » زاد في رواية « والخير في يديك فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النّار قال يا رب ، وما بعث النار؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، فحينئذ تضع الحامل حملها ، ويشيب الوليد وترى النّاس سكارى ، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ، فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم قالوا : يا رسول الله أينا ذلك الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعاً وتسعين ومنكم واحد ثم قال : أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثّور الأبيض ، أو كالشّعرة البيضاء في جنب الثّور الأسود ، وفي رواية كالرّقمة في ذراع الحمار ، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، فكبرنا ثم قال : ثلث أهل الجنة فكبرنا ثم قال شطر أهل الجنة فكبرنا »(6/179)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي اللّيل } أي أقل من ثلثي الليل { ونصفه وثلثه } أي تقوم نصفه وثلثه { وطائفة من الذين معك } يعني المؤمنين ، وكانوا يقومون معه الليل { والله يقدر اللّيل والنّهار } يعني أن العالم بمقادير الليل والنهار وأجزائهما وساعاتهما هو الله تعالى . لا يفوته علم ما يفعلون ، فيعلم القدر الذي يقومون من اللّيل والذي ينامون منه . { علم أن لن تحصوه } يعني أن لن تطيقوا معرفته على الحقيقة . قيل قاموا حتى انتفخت أقدامهم ، فنزل : علم أن لن تحصوه أي لن تطيقوه ، قيل كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر الله به من القيام فقال تعالى : علم أن لن تحصوه أي لن تطيقوا معرفة ذلك { فتاب عليكم } أي فعاد عليكم بالعفو والتخفيف ، والمعنى عفا عنكم ما لم تحيطوا بعلمه ورفع المشقة عنكم { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } فيه قولان :
أحدهما : أن المراد بهذه القراءة . القراءة في الصلاة ، وذلك لأن القراءة أحد أجزاء الصّلاة ، فأطلق اسم الجزء على الكل ، والمعنى فصلوا ما تيسر عليكم . وقال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء ، قال قيس بن أبي حازم : صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد ، وأول آية من البقرة ، ثم قام في الثانية ، فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ، ثم ركع فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال : إن الله تعالى يقول فاقرؤوا ما تيسر منه ، وقيل نسخ ذلك التّهجد ، واكتفي بما تيسر ثم نسخ ذلك أيضاً بالصّلوات الخمس وذلك في حق الأمة وثبت قيام اللّيل في حقه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { ومن اللّيل فتهجد به نافلة لك } .
القول الثاني : أن المراد بقوله فاقرؤوا ما تيسر من القرآن دراسته ، وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان ، فقيل يقرأ مائة آية ونحوها ، وقيل إن قراءة السورة القصيرة كافية . روى البغوي بإسناده عن أنس رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « من قرأ خمسين آية في يوم وليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية ، لم يحاججه القرآن يوم القيامة ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر » وذكره الشّيخ محيي الدّين في كتابه الأذكار ولم يضعفه وقال : في رواية « من قرأ أربعين آية بدل خمسين وفي رواية عشرين » وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ألم أخبر أنك تصوم الدهر ، وتقرأ القرآن كل ليلة قلت بلى يا رسول الله ، ولم أرد بذلك إلا الخير قال فصم صوم داود وكان أعبد النّاس واقرأ القرآن في كل شهر مرة قال قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في كل عشر قال : قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك »(6/180)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
قوله عز وجل : { يا أيها المدثر } ( ق ) عن يحيى بن كثير قال « سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال يا أيها المدثر قلت يقولون اقرأ باسم ربك قال أبو سلمة سألت جابراً عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت فقال لي جابر لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال » جاورت بحراء شهراً فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ونظرت خلفي فلم أر شيئاً فرفعت رأسي فرأيت شيئاً .
فأتيت خديجة فقلت دثروني فد ثروني « وصبوا علي ماء بارداً فنزلت { يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر } وذلك قبل أن تفرض الصلاة وفي رواية » فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي - وذكر نحوه - فإذا هو قاعد على عرش في الهواء - يعني جبريل - فأخذتني رجفة شديدة « ( ق ) عن جابر رضي الله عنه من رواية الزهري » عن أبي سلمة عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي فقال لي في حديثه : فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعباً فقلت زملوني زملوني فدثروني فأنزل الله عز وجل { يا أيها المدثر } إلى { والرجز فاهجر } « وفي رواية » فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي « وذكره وفيه قال أبو سلمة الرّجز الأوثان قال ثم حمى الوحي بعد وتتابع .
فإن قلت دل هذا الحديث على أن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن ، ويعارضه حديث عائشة رضي الله عنها المخرج في الصحيحين أيضاً في بدء الوحي ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وفيه » فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } ، حتى بلغ - { ما لم يعلم } - فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده « الحديث .
قلت الصّواب الذي عليه جمهور العلماء أن أول ما نزل من القرآن على الإطلاق { اقرأ باسم ربك الذي خلق } ، كما صرح به في حديث عائشة ، وقول من قال إن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن على الإطلاق ضعيف لا يعتد به ، وإنما كان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزّهري عن أبي سلمة عن جابر ، ويدل عليه أيضاً قوله في الحديث وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال وأنزل الله تعالى يا أيها المدثر ويدل عليه أيضاً قوله(6/181)
« فإذا الملك الذي جاءني بحراء ثم قال وأنزل الله تعالى : يا أيها المدثر » وأيضاً قوله « ثم حمي الوحي بعد وتتابع » فالصواب إن أول ما نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة { اقرأ باسم ربك الذي خلق } وإن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر فحصل بهذا الذي بيناه الجمع بين الحديثين ، والله أعلم قوله « فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض » يريد به السرير الذي يجلس عليه وقوله يحدث عن فترة الوحي ، أي عن احتباسه وعدم تتابعه ، وتواليه في النزول قوله « فجئثت منه » روى بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضّمير وروى بثاءين مثلثتين بعد الجيم ، ومعناه فرعبت منه وفزعت . وقوله « وحمي الوحي بعد وتتابع » أي كثر نزوله ، وازداد بعد فترته من قولهم حميت الشّمس والنّار إذا ازداد حرهما ، وقوله وصبوا علي ماء فيه أنه ينبغي لمن فزع أن يصب عليه ماء حتى يسكن فزعه والله أعلم .
وأما التّفسير فقوله عز وجل : يا أيها المدثر أصله المتدثر وهو الذي يتدثر في ثيابه ليستدفىء بها ، وأجمعوا على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سماه مدثراً لقوله صلى الله عليه وسلم دثروني ، وقيل معناه يا أيّها المدثر بدثار النّبوة والرّسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى ، فجعل النّبوة كالدثار واللباس ، مجازاً { قم فأنذر } أي حذرهم من عذاب ربك إن لم يؤمنوا والمعنى قم من مضجعك ودثارك ، وقيل قم قيام عز واشتغل بالإنذار الذي تحملته { وربك فكبر } أي عظم ربك عما يقوله عبدة الأوثان { وثيابك فطهر } فيه أربعة أوجه : أحدها أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على الحقيقة ، والثاني أن ينزل لفظ الثياب على الحقيقة والتطهير على المجاز والثالث أن ينزل لفظ الثّياب على المجاز ، والتّطهير على الحقيقة والرابع أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على المجاز .
أما الوجه الأول : فمعناه وثيابك فطهر من النّجاسات والمستقذرات ، وذلك أن المشركين لم يكونوا يحترزون عنها فأمر صلى الله عليه وسلم بصون ثيابه من النجاسات ، وغيرها خلافاً للمشركين .
الوجه الثاني : معناه وثيابك فقصر وذلك لأن المشركين كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم على النّجاسات وفي الثّوب الطّويل من الخيلاء والكبر والفخر ما ليس في الثوب القصير فنهى عن تطويل الثوب وأمر بتقصيره لذلك ، وقيل معناه وثيابك فطهر عن أن تكون مغصوبة أو محرمة بل تكون من وجه حلال وكسب طيب .
الوجه الثالث : معناه حمل الثوب على النفس قال عنترة :
وشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
يريد نفسه والمعنى ونفسك فطهر عن الذّنوب والرّيب وغيره وكنى بالثياب عن الجسد لأنها تشتمل عليه .(6/182)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)
{ ولا تمنن تستكثر } يعني لا تعط مالك مصانعة لتعطي أكثر منه هذا قول أكثر المفسرين وهذا النهي مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنما نهى عن ذلك تنزيهاً لمنصب النبوة لأن من أعطى شيئاً لغيره يطلب منه الزيادة عليه لا بد وأن يتواضع لذلك الذي أعطاه ، ومنصب النّبوة بحل عن ذلك وهذا غير موجود في حق الأمة ، فيجوز لغيره من الأمة ذلك كما قيل هما رباءان حلال وحرام فالحلال الهدية يهديها الرجل لغيره ليعطيه أكثر منها وأما الحرام فالربا المحرم بنص الشرع ، وقيل معناه لا تعط شيئاً لمجازاة الدنيا أعط الله وأراد به وجه الله وقيل معناه لا تمنن على الله بعملك فتستكثره ، ولا يكثرن عملك في عينك فإنه مما أنعم الله به عليك وأعطاك . وقيل معناه لا تمنن على أصحابك بما تعلمهم من أمر الدين وتبلغهم من أمر الوحي كالمستكثر بذلك عليهم ، وقيل لا تمنن عليهم بنبوتك فتأخذ منهم على ذلك أجراً تستكثر به ، وقيل معناه لا تمنن لا تضعف عن الخير تستكثر منه ، وقيل معناه لا تمنن على النّاس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثاراً منك لتلك العطية ، فإن المن يحبط العمل { ولربك فاصبر } أي على طاعته وأوامره ونواهيه لأجل ثواب الله تعالى؛ وقيل معناه فاصبر لله على ما أوذيت فيه ، وقيل معناه إنك حملت أمراً عظيماً فيه محاربة العرب والعجم ، فاصبر على ذلك لله عز وجل ، وقيل معناه فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله { فإذا نقر في الناقور } أي نفخ في الصور وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وهي النّفخة الأولى ، وقيل الثانية وهو الأصح { فذلك يومئذ } يعني يوم النفخة وهو يوم القيامة { يوم عسير } أي شديد { على الكافرين } يعني يعسر عليهم في ذلك اليوم الأمر ، فيعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم { غير يسير } أي غير هين .
فإن قلت ما فائدة قوله غير يسير وعسير مغن عنه .
قلت : فائدة التكرار التّأكيد كقوله : أنا محب لك غير مبغض ، وقيل لما كان على الكافرين غير يسير دل على أنه يهون على المؤمنين بخلاف الكفار فإنه عليهم عسير لا يسر فيه ليزداد غيظ الكافرين وبشارة المؤمنين قوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيداً } أي خلقته في بطن أمه وحيداً فريداً لا مال له ولا ولد ، وقيل معناه خلقته وحدي لم يشاركني في خلقه أحد ، والمعنى ذرني وإيّاه ، فأنا أكفيكه نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي ، وكان يسمى الوحيد في قومه . { وجعلت له مالاً ممدوداً } أي كثير يمد بعضه بعضاً دائماً غير منقطع ، وقيل ما يمد بالنماء كالزرع والضرع والتجارة واختلفوا في مبلغه ، فقيل كان ألف دينار وقيل أربعة آلاف درهم ، وقيل ألف ألف وقال ابن عباس : تسعة آلاف مثقال فضة وعنه كان له بين مكة والطّائف إبل وخيل ونعم ، وكان له غنم كثيرة وعبيد وجوار : وقيل كان له بستان بالطّائف لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفاً ، وقيل كان له غلة شهر بشهر ، { وبنين شهوداً } أي حضوراً بمكة لا يغيبون عنه لأنهم كانوا أغنياء غير محتاجين إلى الغيبة لطلب الكسب ، وقيل معنى شهوداً أي رجالاً يشهدون معه المحافل والمجامع ، قيل كانوا عشرة وقيل سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة نفر خالد وهشام وعمارة { ومهدت له تمهيداً } أي بسطت له في العيش وطول العمر بسطاً مع الجاه العريض والرياسة في قومه ، وكان الوليد من أكابر قريش وكان يدعى ريحانة قريش .(6/183)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)
{ ثم يطمع } أي يرجو { أن أزيد } أي أزيده مالاً وولداً وتمهيداً { كلا } أي لا أفعل ولا أزيده قالوا فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان ماله وولده حتى هلك { إنه كان لآياتنا عنيداً } أي معانداً والمعنى أنه كان معانداً في جميع دلائل التوحيد والقدرة والبعث والنبوة منكراً للكل ، وقيل كان كفره كفر عناد وهو أنه كان يعرف هذا بقلبه وينكره بلسانه وهو أقبح الكفر وأفحشه { سأرهقه صعوداً } يعني سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيها ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الصعود عقبة في النار يتصعد فيها الكافر سبعين خريفاً ثم يهوي فيها سبعين خريفاً فهو كذلك أبداً » أخرجه الترمذي . وقال حديث غريب وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سأرهقه صعوداً . قال هو جبل من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت فإذا رفعها عادت ، وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت وقال الكلبي : الصعود صخرة ملساء في النّار يكلف الكافر أن يصعدها لا يترك يتنفس في صعوده يجذب من أمامه بسلاسل الحديد ، ويضرب من خلفه بمقامع من حديد فيصعدها في أربعين عاماً ، فإذا بلغ ذروتها أحدر إلى أسفلها ، ثم يكلف أن يصعدها يجذب من أمامه ، ويضرب من خلفه فذلك دأبه أبداً قوله عز وجل { إنه فكر وقدر } أي فكر في الأمر الذي يريده ونظر فيه وتدبره ورتب في قلبه كلاماً ، وهيأه لذلك لأمر وهو المراد بقوله { وقدر } أي وقدر ذلك الكلام في قلبه وذلك أن الله تعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم { حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } إلى قوله { المصير } قام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد يصلي والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم لاستماعه أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلي ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش صبأ والله الوليد ولتصبون قريش كلهم فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزيناً فقال له الوليد ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟ فقال وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك ، ويزعمون أنك زينت كلام محمد ، وأنك تدخل على ابن أبي كبشة ، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم .(6/184)
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
{ فقتل كيف قدر } أي عذب ، وقيل لعن كيف قدر وهو على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ { ثم قتل كيف قدر } كرره للتأكيد ، وقيل معناه لعن على أي حال قدر من الكلام { ثم نظر } أي في طلب ما يدفع به القرآن ويرده { ثم عبس وبسر } أي كلح وقطب وجهه كالمهتم المتفكر في شيء يدبره { ثم أدبر } أي عن الإيمان { واستكبر } أي حين دعى إليه { فقال إن هذا } الذي يقوله محمد ويقرؤه { إلا سحر يؤثر } يروى ويحكى عن السحرة { إن هذا إلا قول البشر } يعني يساراً وجبراً فهو يأثره عنهما الله قال الله تعالى : { سأصليه } أي سأدخله { سقر } هو اسم من أسماء جهنّم وقيل آخر دركاتها { وما أدراك ما سقر } أي وما أعلمك أي شيء هي سقر ، وإنما ذكره على سبيل التّهويل والتّعظيم لأمرها { لا تبقي ولا تذر } قيل هما بمعنى كما تقول صد عني وأعرض عني وقيل لا بد من الفرق وإلا لزم التكرار فقيل معناه لا تبقى أحداً من المستحقين للعذاب إلا أخذته ، ثم لا تذر من لحوم أولئك شيئاً إلا أكلته وأهلكته ، وقيل لا يموت فيها ولا يحيا أي لا تبقى من فيها حياً ولا تذر من فيها ميتاً كلما احترقوا جددوا وأعيدوا ، وقيل لا تبقى لهم لحماً ولا تذر منهم عظماً ، وقيل لكل شيء ملال وفترة إلا جهنم ليس لها ملال ولا فترة فهي لا تبقى عليهم ولا تذرهم { لواحة للبشر } جمع بشرة أي مغيرة للجلد حتى تجعله أسود قال مجاهد : تلفح الجلد حتى تدعه أشد سواداً من اللّيل وقال ابن عباس : محرقة للجلد ، وقيل تلوح لهم جهنم حتى يروها عياناً .(6/185)
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32)
{ عليها تسعة عشر } أي على النار تسعة عشر من الملائكة وهم خزنتها مالك ومعه ثمانية عشر جاء في الأثر « إن أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصّياصي يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة قد نزعت منهم الرّحمة يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيرميهم حيث أراد من جهنم » وقال عمرو بن دينار : إن أحدهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر وقال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية . قال أبو جهل : لقريش ثكلتكم أمهاتكم أسمع من ابن أبي كبشة يخبر أن خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الدهم يعني الشجعان أفيعجز كل عشر منكم أن تبطش بواحد منهم يعني خزنة جهنم ، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي أنا أكفيكم منهم سبعة عشر عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني ، واكفوني أنتم اثنين ويروى عنه أنه قال أنا أمشي بين أيديكم على الصّراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة . فأنزل الله تعالى : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } يعني لا رجالاً آدميين فمن ذا يغلب الملائكة وإنما جعلهم ملائكة ليكونوا من غير جنس المعذبين وأشد منهم لأن الجنسية مظنة الرّأفة والرّحمة { وما جعلنا عدتهم } أي عددهم في القلة { إلا فتنة للذين كفروا } أي ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا ، وقيل فتنتهم هي قولهم لم لم يكونوا عشرين ، وما الحكمة في تخصيص هذا العدد وقيل فتنتهم هي قولهم كيف يقدر هذا العدد ، القليل على تعذيب جميع من في النار .
وأجيب عن قولهم لم لم يكونوا عشرين بأن أفعال الله تعالى لا تعلل ولا يقال فيها لم ، وتخصيص الزبانية بهذا العدد لأمر اقتضته الحكمة ، وقيل وجه الحكمة في كونهم تسعة عشر أن هذا العدد يجمع أكثر القليل ، وأقل الكثير ، ووجه ذلك أن الآحاد أقل الأعداد وأكثرها تسعة ، وأقل الكثير عشرة فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير وأكثر القليل لهذه الحكمة ، وما سوى ذلك من الأعداد فكثير لا يدخل تحت الحصر .
وأجيب عن قولهم كيف يقدر هذا العدد القليل على تعذيب جميع أهل النّار ، وذلك بأن الله جلّ جلاله يعطي هذا القليل من القوة والقدرة ما يقدرون به على ذلك ، فمن اعترف بكمال قدرة الله ، وأنه على كل شيء قدير وأن أحوال القيامة على خلاف أحوال الدنيا زال عن قلبه هذا الاستبعاد بالكلية . { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } يعني أن هذا العدد مكتوب في التّوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر { ويزداد الذين آمنوا إيماناً } يعني من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن العدد كان موجوداً في كتابهم وأخبر به النّبي صلى الله عليه وسلم على وفق ما عندهم من غير سابقة دراسة ، وتعلم علم إنما حصل له ذلك بالوحي السّماوي ، فازدادوا بذلك إيماناً وتصديقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم : { ولا يرتاب } أي ولا يشك { الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } يعني في عددهم وإنما قال ولا يرتاب وإن كان الاستيقان يدل على نفي الارتياب ليجمع لهم بين إثبات اليقين ونفي الشّك ، وذلك أبلغ وآكد لأن فيه تعريضاً بحال غيرهم كأنه قال : وليخالف حالهم حال الناس المرتابين من أهل الكفر ، والنفاق { وليقول الذين في قلوبهم مرض } أي شك ونفاق { والكافرون } أي مشركو مكة .(6/186)
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
{ واللّيل إذ أدبر } أي ولى ذاهباً ، وقيل دبر بمعنى أقبل تقول العرب دبرني فلان أي جاء خلفي فاللّيل يأتي خلف النهار { والصّبح إذا أسفر } أي أضاء وتبين وهذا قسم وجوابه { إنها لإحدى الكبر } يعني إن سقر لإحدى الأمور العظام ، وقيل أراد بالكبر دركات النار وهي سبعة جهنم ولظّى والحطمة والسّعير وسقر والجحيم والهاوية { نذيراً للبشر } قيل يحتمل أن يكون نذيراً صفة للنار ، والمعنى أن النّار نذير للبشر قال الحسن : والله ما أنذر بشيء أدهى من النار ، وقيل يجوز أن يكون نذيراً صفة لله تعالى ، والمعنى أنا لكم منها نذير فاتقوها وقيل هو صفة للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه يا أيها المدثر قم نذيراً للبشر فأنذر { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } أي يتقدم في الخير والطّاعة أو يتأخر عنهما فيقع في الشر والمعصية ، والمعنى أن الإنذار قد حصل لكل واحد ممن آمن أو كفر ، وقد تمسك بهذه الآية من يرى أن العبد غير مجبور على الفعل وأنه متمكن من فعل نفسه .
وأجيب عنه بأن مشيئته تابعة لمشيئة الله تعالى؛ وقيل إضافة المشيئة إلى المخاطبين على سبيل التهديد كقوله { اعملوا ما شئتم } وقيل هذه المشيئة لله تعالى ، والمعنى لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر .
قوله تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة } أي مرتهنة في النّار بكسبها ومأخوذة بعملها { إلا أصحاب اليمين } فإنهم غير مرتهنين بذنوبهم في النار ، ولكن الله يغفرها لهم ، وقيل معناه فكوا رقاب أنفسهم بأعمالهم الحسنة كما يفك الراهن رهنه بأداء الحق الذي عليه .
واختلفوا في أصحاب اليمين من هم فقيل هم المؤمنون المخلصون ، وقيل هم الذين يعطون كتبهم بإيمانهم ، وقيل هم الذين كانوا على يمين آدم يوم أخذ الميثاق وحين قال الله تعالى لهم : « هؤلاء في الجنة ولا أبالي » وقيل هم الذين كانوا ميامين أي مباركين على أنفسهم ، وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنهم أطفال المسلمين وهو أشبه بالصواب لأن الأطفال لم يكتسبوا إثماً يرتهنون به وعن ابن عباس قال هم الملائكة { في جنات } أي هم في بساتين { يتساءلون عن المجرمين } أي يتساءلون المجرمين وعن صلة فيقولون لهم .(6/187)
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
{ ما سلككم في سقر } قيل وهذا يقوي قول من قال إن أصحاب اليمين هم الأطفال لأنهم لم يعرفوا الذنوب التي توجب النّار ، وقيل معناه يسأل بعضهم بعضاً عن المجرمين ، فعلى هذا التفسير يكون معنى ما سلككم ، أيّ يقول المسؤولون للسّائلين قلنا للمجرمين ما سلككم ، أي أدخلكم وقيل ما حبسكم في سقر ، وهذا سؤال توبيخ وتقريع { قالوا } مجيبين لهم { لم نك من المصلين } أي لله في الدّنيا { ولم نك نطعم المسكين } أي لم نتصدق عليه { وكنا نخوض مع الخائضين } أي في الباطل { وكنا نكذب بيوم الدين } أي بيوم الجزاء على الأعمال وهو يوم القيامة { حتى أتانا اليقين } يعني الموت قال الله تعالى : { فما تنفعهم شفاعة الشّافعين } قال ابن مسعود : تشفع الملائكة والنّبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة ثم تلا { قالوا لم نك من المصلين } الآية ، وقال عمران بن حصين : الشّفاعة نافعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون . روى البغوي بسنده عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يصف أهل النار فيعذبون قال فيمر بهم الرجل من أهل الجنة ، فيقول للرجل منهم يا فلان فيقول ما تريد فيقول أما تذكر رجلاً سقاك شربة يوم كذا وكذا قال؛ فيقول وإنك لأنت هو فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه قال ، ثم يمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول يا فلان فيقول ما تريد فيقول أما تذكر رجلاً وهب لك وضوءاً يوم كذا وكذا ، فيقول وإنك لأنت هو فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه » { فما لهم عن التذكرة معرضين } أيّ عن مواعظ القرآن { كأنهم حمر } جمع حمار { مستنفرة } قرىء بالكسر أي نافرة وقرىء بالفتح أي منفرة مذعورة محمولة على النفار { فرت من قسورة } قيل القسورة جماعة الرّماة لا واحد له من لفظه ، وهي رواية عن ابن عباس وعنه أنها القناص وعنه قال : هي حبال الصيادين ، وقيل معناه فرت من رجال أقوياء وكل ضخم شديد عند العرب قسورة وقسور وقيل القسورة لغط القوم وأصواتهم وقيل القسورة شدة سواد ظلمة اللّيل وقال أبو هريرة : هي الأسد وذلك لأن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن هربوا منه شبههم بالحمر في البلادة والبله ، وذلك أنه لا يرى مثل نفار حمر الوحش إذا خافت من شيء .(6/188)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
{ بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة } قال المفسرون إن كفار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسوله نؤمر فيه باتباعك ، وقيل إن المشركين قالوا يا محمد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح ، وعند رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك { كلا } أي لا يؤتون الصحف وهو ردع لهم عن هذه الاقتراحات { بل لا يخافون الآخرة } أي لا يخافون عذاب الآخرة والمعنى أنهم لو خافوا النّار لما اقترحوا هذه الآيات بعد قيام الأدلة ، لأنه لما حصلت المعجزات الكثيرة كفت في الدّلالة على صحة النّبوة فطلب الزّيادة يكون من باب التعنت { كلا } أي حقاً { إنه تذكرة } يعني إنه عظة عظيمة { فمن شاء ذكره } أي اتعظ به فإنما يعود نفع ذلك عليه { وما يذكرون إلا أن يشاء الله } أي إلا أن يشاء الله لهم الهدى فيتذكروا ويتعظوا { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا به ويطيعوه ، وهو حقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم وذنوبهم وقيل هو أهل أن تتقى محارمه ، وأهل أن يغفر لمن اتقاه عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية : « هو أهل التّقوى وأهل المغفرة قال الله تبارك ، وتعالى أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهاً فأنا أهل أن أغفر له » أخرجه التّرمذي ، وقال حديث غريب وفي إسناده سهيل بن عبد الله القطيعي وليس بالقوي في الحديث وقد تفرد به عن ثابت ، والله تعالى أعلم بمراده .(6/189)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)
قوله عز وجل : { لا أقسم بيوم القيامة } اتفقوا على أن المعنى أقسم ، واختلفوا في لفظ لا فقيل إدخال لفظة لا على القسم مستفيض في كلام العرب وأشعارهم ، قال امرؤ القيس :
لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
قالوا : وفائدتها تأكيد القسم كقولك لا والله ما ذاك كما تقول تريد والله فيجوز حذفها . لكنه أبلغ في الرّد مع إثباتها ، وقيل إنها صلة كقول الله تعالى : { لئلا يعلم أهل الكتاب } وفيه ضعف لأنها لا تزاد إلا في وسط الكلام لا في أوله .
وأجيب عنه بأن القرآن في حكم السّورة الواحدة بعضه متصل ببعض يدل عليه أنه قد يجيء ذكر الشيء في سورة ، ويذكر جوابه في سورة أخرى كقوله : { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } وجوابه في سورة { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } وإذا كان كذلك كان أول هذه السورة جارياً مجرى الوسط وفيه ضعف أيضاً لأن القرآن في حكم السّورة الواحدة في عدم التناقض لا أن تقرن سورة بما بعدها فذلك غير جائز ، وقيل لا رد لكلام المشركين المنكرين للبعث أي ليس الأمر كما زعموا ، ثم ابتدأ فقال أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللّوامة ، وقيل الوجه فيه أن يقال إن لا هي للنفي ، والمعنى في ذلك كأنه قال لا أقسم بذلك اليوم ولا بتلك النّفس إلا إعظاماً لهما فيكون الغرض تعظيم المقسم به وتفخيم شأنه ، وقيل معناه لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب فإنه إثباته أظهر من أن يقسم عليه . وروى البغوي في تفسير القيامة عن المغيرة بن شعبة قال : يقولون القيامة وقيامة أحدهم موته وشهد علقمة جنازة فلما دفنت قال أما هذا فقد قامت قيامته وفيه ضعف لاتفاق المفسرين على أن المراد به القيامة الكبرى لسياق الآيات في ذلك . وقوله { ولا أقسم بالنفس اللوامة } قيل هي التي تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء والضراء ، وقيل اللوامة هي التي تندم على ما فات فتقول لو فعلت ولو لم تفعل وقيل ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً تقول هلا ازددت وإن عملت شراً تقول يا ليتني لم أفعل وقال الحسن : هي نفس المؤمن إن المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلي ، وإن الكافر يمضي ولا يحاسب نفسه ، ولا يعاتبها ، وقيل هي النّفس الشّريفة التي تلوم النّفوس العاصية يوم القيامة بسبب ترك التّقوى ، وقيل هي النّفس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الطاعة وقيل هي النّفس الشّقية العاصية يوم القيامة بسبب ترك التقوى ، وقيل هي النفس الشقية تلوم نفسها حين تعاين أهوال يوم القيامة فتقول(6/190)
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
{ بلى قادرين على أن نسوي بنانه } ومعنى أيحسب الإنسان أيظن هذا الكافر أن العظام بعد تفرقها ورجوعها رميماً ، ورفاتاً مختلطة بالتراب وبعد ما نسفتها الريح فطيرتها في أباعد الأرض أن لن نجمع عظامه ، أي لا يمكننا جمعها مرة أخرى وكيف خطر بباله هذا الخاطر الفاسد ، وما علم أن القادر على الإبداء قادر على الإعادة نزلت هذه الآية في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة وهو ختن الأخنس بن شريق الثقفي وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول « اللهم اكفني جاري السوء » يعني عديّاً والأخنس وذلك أن عديّاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد حدثني متى تكون القيامة وكيف أمرها وحالها فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال عدي بن ربيعة لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ، ولم أؤمن بك أو يجمع الله العظام فأنزل الله عز وجل . أيحسب الإنسان يعني هذا الكافر أن لن نجمع عظامه يعني بعد التفرق والبلاء فنحييه ما كان أول مرة ، وقيل ذكر العظام وأراد بها نفسه جميعها لأن العظام قالب النّفوس ، ولا يستوي الخلق إلا باستوائها ، وقيل إنما خرج على وفق قول هذا المنكر ، أو يجمع الله العظام بلى قادرين يعني على جمع عظامه ، وتأليفها وإعادتها إلى التركيب الأول والحالة ، والهيئة الأولى وعلى ما هو أعظم من ذلك ، وهو أن نسوي بنانه يعني أنامله فنجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخف البعير ، أو كحافر الحمار ، فلا يقدر أن يرتفق بها بالقبض والبسط والأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وغيرهما ، وقيل معناه أظن الكافر أن لن نقدر على عظامه بلى نقدر على جمع عظامه حتى نعيد السّلاميات على صغرها إلى أماكنها ، ونؤلف بينها حتى نسوي البنان فمن يقدر على جمع العظام الصغار ، فهو على جمع كبارها أقدر وهذا القول أقرب إلى الصواب ، وقيل إنما خص البنان بالذكر لأنه آخر ما يتم به الخلق .
قوله تعالى : { بل يريد الإنسان ليفجر أمامه } أي ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان ما عاش لا ينزع عن المعاصي ولا يتوب وقال سعيد بن جبير يقدم الذّنب ويؤخر التوبة ، ويقول سوف أتوب سوف أعمل حتى يأتيه الموت وهو على سوء حاله وشر أعماله ، وقيل هو طول الأمل يقول أعيش فأصيب من الدّنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت وقال ابن عباس : يكذب بما أمامه من البعث والحساب ، وأصل الفجور الميل وسمي الكافر والفاسق فاجراً لميله عن الحق .(6/191)
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
{ يسأل أيان يوم القيامة } أيّ متى يكون يوم القيامة والمعنى أن الكافر يسأل سؤال متعنت مستبعد لقيام السّاعة قال الله تعالى : { فإذا برق البصر } أي شخص البصر عند الموت فلا يطرف مما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا ، وقيل تبرق أبصار الكفار عند رؤية جهنم ، وقيل برق إذا فزع وتحير لما يرى من العجائب ، وقيل برق أي شق عينه وفتحها من البريق وهو التلألؤ { وخسف القمر } أي أظلم وذهب ضوءه ، { وجمع الشمس والقمر } يعني أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران ، وقيل يجمع بينهما في ذهاب الضّوء ، وقيل يجمعان ثم يقذفان في البحر فهناك نار الله الكبرى { يقول الإنسان } يعني الكافر المكذب { يومئذ } أي القيامة { أين المفرّ } أي المهرب وهو موضع الفرار { كلا } أي لا ملجأ لهم يهربون إليه وهو قوله { لا وزر } أي لا حرز ولا ملجأ ولا جبل ، وكانوا إذا فزعوا لجؤوا إلى الجبل فتحصنوا به ، فقيل لهم لا جبل لكم يومئذ تتحصنون به وأصل الوزر الجبل المنيع ، وكل ما التجأت إليه وتحصنت به فهو وزر ومنه قول كعب بن مالك .
الناس آلت علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر
ومعنى الآية أنه لا شيء يعصمهم من أمر الله تعالى لا حصن ولا جبل يوم القيامة يستندون إليه من النار { إلى ربك يومئذ المستقر } يعني مستقر الخلق وقال عبد الله بن مسعود : إليه المصير والمرجع وهو بمعنى الاستقرار ، وقيل إلى ربك مستقرهم أي موضع قرارهم من جنة أو نار ، وذلك مفوض إلى مشيئته فمن شاء أدخله الجنة برحمته ومن شاء أدخله النار بعدله { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } قال ابن مسعود وابن عباس : بما قدم قبل موته من عمل صالح أو سيىء وما أخر بعد موته من سنة حسنة ، أو سيئة يعمل بها ، وعن ابن عباس أيضاً بما قدم من المعصية وأخر من الطاعة ، وقيل بما قدم من طاعة الله وأخر من حق الله فضيعه ، وقيل بأول عمله وآخره وهو ما عمله في أول عمره وفي آخره ، وقيل بما قدم من ماله لنفسه قبل موته وما أخر من ماله لورثته .(6/192)
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
{ بل الإنسان على نفسه بصيرة } أي بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه ويشهدون عليه بعمله وهي سمعه وبصره وجوارحه ، وإنما دخلت الهاء في البصيرة لأن المراد من الإنسان جوارحه ، وقيل معناه بل الإنسان على نفسه عين بصيرة وفي رواية عن ابن عباس بل الإنسان على نفسه شاهد فتكون الهاء للمبالغة كعلامة { ولو ألقى معاذيره } يعني ولو اعتذر بكل عذر وجادل عن نفسه ، فإنه لا ينفعه لأنه قد شهد عليه شاهد من نفسه ، وقيل معناه ولو اعتذر فعليه من نفسه ما يكذب عذره ، وقيل إن أهل اليمن يسمون السّتر معذاراً وجمعه معاذير ، فعلى هذا يكون معناه ولو أرخى السّتور وأغلق الأبواب ليخفي ما يعمل ، فإن نفسه شاهدة عليه ، وهذا في حق الكافر لأنه ينكر يوم القيامة فتشهد عليه جوارحه بما عمل في الدنيا .
قوله عز وجل : { لا تحرك به لسانك لتعجل به } ( ق ) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل : { لا تحرك به لسانك لتعجل به } قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التّنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه قال ابن جبير : قال ابن عباس أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركها فحرك شفتيه فأنزل الله عز وجل { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه } قال : جمعه في صدرك ثم تقرأه ، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . قال فاستمع وأنصت ثم إن علينا أن تقرأه ، قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل بعد ذلك استمع ، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه ، وفي رواية كما وعده الله تعالى لفظ الحميدي ، ورواه البغوي من طريق البخاري وقال فيه : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي ، كان مما يحرك لسانه وشفتيه فيشتد عليه ، وكان يعرف منه فأنزل الله عز وجل الآية ، التي في لا أقسم بيوم القيامة لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ، قال إن علينا أن نجمعه في صدرك ، وتقرأه فإذا قرأناه ، فاتبع قرآنه ، فإذا أنزلناه فاستمع ثم إن علينا بيانه علينا أن نبينه بلسانك . قال فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله تعالى؛ وفي رواية كان يحرك شفتيه إذا نزل عليه يخشى أن ينفلت منه فقيل له لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ، أيّ نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه ، ومعنى الآية لا تحرك بالقرآن لسانك ، وإنما جاز هذه الإضمار وإن لم يجر له ذكر لدّلالة الحال عليه لتجعل به أي بأخذه { إن علينا جمعه } أي جمعه في صدرك وحفظك إياه { وقرآنه } أي قراءته علينا والمعنى سنقرئك يا محمد بحيث تصير لا تنساه { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } أي لا تكن قراءتك مقارنة لقراءة جبريل عليك بل اسكت حتى يتم جبريل ما يوحى إليك ، فإذا فرغ جبريل من القراءة ، فخذ أنت فيها ، وجعل قراءة جبريل قراءته لأنه بأمره نزل بالوحي ونظيره .(6/193)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
{ وجوه يومئذ } أي يوم القيامة { ناضرة } من النضارة ، وهي الحسن قال ابن عباس : حسنة وقيل مسرورة بالنعيم ، وقيل ناعمة ، وقيل مسفرة مضيئة ، وقيل بيض يعلوها نور وبهاء وقيل مشرقة بالنعيم . { إلى ربها ناظرة } قال ابن عباس وأكثر المفسرين : تنظر إلى ربها عياناً بلا حجاب قال الحسن حق لها أن تنظر وهي تنظر إلى الخالق سبحانه وتعالى ، وروي عن مجاهد وأبي صالح أنهما فسرا النّظر في هذه الآية بالانتظار قال مجاهد تنتظر من ربها ما أمر لها به وقال أبو صالح : تنتظر الثّواب من ربها ، قال الأزهري : ومن قال إن معنى قوله { إلى ربها ناظرة } بمعنى منتظرة فقد أخطأ لأن العرب لا تقول نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته إنما تقول نظرت فلاناً أي انتظرته ومنه قول الحطيئة :
وقد نظرتكم أعشاء صادرة ... للورد طال بها حوري وتنساسي
فإذا قلت نظرت إليه لم يكن إلا بالعين ، وإذا قلت نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكر فيه وتدبر بالقلب ، وهذا آخر كلامه ويشهد لصحة هذا أن النظر الوارد في التّنزيل بمعنى الانتظار كثير ولم يوصل في موضع بإلى كقوله { انظرونا نقتبس من نوركم } وقوله { هل ينظرون إلا تأويله } { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } والوجه إذا وصف بالنظر وعدي بإلى لم يحتمل غير الرؤية ، وأما قوله أنظر إلى الله ثم إليك على معنى أتوقع فضل الله ثم فضلك ، فيكون النّظر إلى الوجه لم يحتمل نظر القلب إنما يجوز هذا إذا لم يسند إلى الوجه ، فإذا أسند النظر إلى الوجه لم يحتمل نظر القلب ، ولا انتظار وإذا بطل المعنيان لم يبق لبقاء الرّؤية كلام وإن شق ذلك عليهم ، والأحاديث الصحيحة تعضد قول من فسر النظر في هذه الآية بالرؤية وسنذكرها إن شاء الله تعالى .
( فصل : في إثبات رؤية المؤمنين ربهم سبحانه وتعالى في الآخرة )
قال علماء أهل السنة رؤية الله سبحانه وتعالى ممكنة غير مستحيلة عقلاً ، وأجمعوا على وقوعها في الآخرة ، وأن المؤمنين يرون الله سبحانه ، وتعالى دون الكافرين بدليل قوله تعالى : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } وزعمت طوائف من أهل البدع كالمعتزلة والخوارج ، وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه ، وأن رؤيته مستحيلة عقلاً ، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح ، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى ، وقد رواها نحو من عشرين صحابياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن فيها مشهورة ، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبتها مشهورة في كتب المتكلمين من أهل السنة ، وكذلك باقي شبههم وأجوبتها مشهورة مستفاضة في كتب الكلام ، وليس هذا موضع ذكرها ، ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله في خلقه ، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة ، ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك .(6/194)
وأما الأحاديث الواردة في إثبات الرّؤية فمنها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه ، وأزواجه ، ونعيمه وخدمه ، وسروره مسيرة ألف سنة ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } » أخرجه التّرمذي وقال : هذا حديث غريب ، وقال : وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ولم يرفعه ( ق ) عن جرير بن عبد الله قال « كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ، وقال إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشّمس ، وقبل الغروب » قوله « لا تضامون » روي بفتح التاء وتشديد الميم وقد تضم التاء مع التّشديد أيضاً ومعناه لا ينضم بعضكم إلى بعض ولا تزدحمون وقت النظر إليه ، وروي بتخفيف الميم ومعناه لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعضكم دون بعض وقوله : « إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون القمر » معناه تشبيه الرّؤية بالرّؤية في الوضوح وزوال الشّك والمشقة لا تشبيه المرئي بالمرئي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه « أن أناساً قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تضارون في القمر ليلة البدر ، قالوا : لا يا رسول الله قال : هل تضارون في الشّمس ليس دونها سحاب ، قالوا : لا يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكم سترونه كذلك » أخرجه أبو داود وأخرجه التّرمذي . وليس عنده في أوله أن أناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قوله ليس دونها سحاب . قال الترمذي وقد روي مثل هذا الحديث عن أبي سعيد وهو صحيح ، وهذا الحديث طرف من حديث طويل قد أخرجه البخاري ومسلم ، ومعنى تضارون وتضامون واحد .
عن أبي رزين العقيلي قال : « قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه مخلياً به يوم القيامة؟ قال نعم قلت وما آية ذلك في خلقه؟ قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخلياً به قلت بلى قال : فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله يعني القمر فالله أجل وأعظم » أخرجه أبو داود ( م ) عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(6/195)
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
{ إلى ربك يومئذ المساق } أي مرجع العباد إلى الله تعالى يساقون إليه يوم القيامة ليفصل بينهم .
قوله تعالى : { فلا صدق ولا صلى } يعني أبا جهل لم يصدق بالقرآن ، ولم يصلِّ لله تعالى : { ولكن كذب وتولى } أي أعرض عن الإيمان والتصديق { ثم ذهب إلى أهله يتمطى } أي يتبختر ويختال في مشيته ، وقيل أصله يتمطط أي يتمدد من المط ، وقيل من المطا وهو الظهر لأنه يلويه . { أولى لك فأولى } هذا وعيد على وعيد من الله تعالى لأبي جهل . وهي كلمة موضوعة للتهديد والوعيد ومعناه ، ويل لك مرة بعد مرة وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه ، وقيل معناه أنك أجدر بهذا العذاب . وأحق وأولى به . يقال ذلك لمن يصيبه مكروه يستوجبه قال قتادة : ذكر لنا « أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى » فقال أبو جهل أتوعدوني يا محمد والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً وإني لأعز من مشى بين جبليها فلما كان يوم بدر صرعه وقتله أشد قتلة . وكان نبي الله يقول صلى الله عليه وسلم « إن لكل أمة فرعوناً وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل » { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } أي هملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب في الآخرة { ألم يك نطفة } أي ماء قليلاً { من مني يمنى } أي يصيب في الرحم ، والمعنى كيف يليق بمن خلق من شيء قذر مستقذر أن يتكبر ويتمرد عن الطاعة . { ثم كان علقة } أي صار الإنسان علقة بعد النطفة { فخلق فسوى } أي فقدر خلقه وسواه وعدله وقيل نفخ فيه الروح وكمل أعضاءه { فجعل منه } أي من الإنسان { الزوجين } أي الصنفين ثم فسرهما فقال { الذكر والأنثى } أي خلق من مائة أولاداً ذكوراً وإناثاً { أليس ذلك } أي الذي فعل وأنشأ الأشياء أول مرة { بقادر على أن يحيي الموتى } أي بقادر على إعادته بعد الموت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من قرأ منكم { والتين والزيتون } ، فانتهى إلى آخرها { أليس الله بأحكم الحاكمين } فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين . ومن قرأ { لا أقسم بيوم القيامة } فانتهى إلى { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } ، فليقل بلى ومن قرأ { والمرسلات فبلغ ، فبأي حديث بعده يؤمنون } فليقل آمنا بالله » أخرجه أبو داود وله عن موسى بن أبي عائشة قال « كان رجل يصلي فوق بيته ، فكان إذا قرأ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى قال سبحانك بلى فسألوه عن ذلك فقال سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم » والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/196)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
قوله عز وجل : { هل أتى } أي قد أتى { على الإنسان } يعني آدم عليه الصلاة والسلام { حين من الدهر } يعني مدة أربعين سنة وهو من طين ملقى ( م ) عن أنس رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطوف به وينظر إليه فلما رآه أجوف عرف أنه خلف لا يتمالك » قوله يطوف أي يدور حوله فلما رآه أجوف أي صاحب جوف وقيل هو الذي داخله خال قوله عرف أنه خلق لا يتمالك ، أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات ، وقيل لا يملك دفع الوسواس عنه ، وقيل لا يملك نفسه عند الغضب .
وروي في تفسير الآية أن آدم بقي أربعين سنة طيناً ، وبقي أربعين سنة حمأ مسنوناً وأربعين سنة صلصالاً كالفخار فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة { لم يكن شيئاً مذكوراً } أي لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ، ولا ما يراد به وذلك قبل أن ينفخ فيه الروح كان شيئاً ولم يكن شيئاَ يذكر .
روي عن عمر أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية : لم يكن شيئاً مذكوراً فقال عمر ليتها تمت يعني ليته بقي على ما كان عليه ويروى نحوه عن أبي بكر وابن مسعود ، وقيل المراد بالإنسان جنس الإنسان وهم بنو آدم بدليل قوله { إنا خلقنا الإنسان } فالإنسان في الموضعين واحد فعلى هذا يكون معنى قوله حين من الدهر طائفة من الدهر غير مقدرة لم يكن شيئاً مذكوراً يعني أنهم كانوا نطفاً في الأصلاب . ثم علقاً ، ومضغاً في الأرحام لم يذكروا بشيء إنا خلقنا الإنسان يعني ولد آدم { من نطفة } أي مني الرجل ومني المرأة { أمشاج } أي أخلاط قال ابن عباس وغيره : يعني ماء الرجل ، وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد فماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا صاحبه كان الشبه له وما كان من عصب ، وعظم فمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة ، وقيل الأمشاج اختلاف ألوان النطفة ، فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة صفراء . وكل لونين اختلطا فهو أمشاج . وقال ابن مسعود : هي العروق التي تكون في النطفة ، وقيل هي نطفة مشجت أي خلطت بدم وهو دم الحيض فإذا حبلت المرأة ارتفع دم الحيض ، وقيل الأمشاج أطوار الخلق نطفة ثم علقة ثم مضغة ، ثم عظما ثم يكسوه لحماً ثم ينشئه خلقاً آخر ، وقيل إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطاً من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فعلى هذا يكون التقدير من نطفة ذات أمشاج . { نبتليه } أي لنختبره بالأمر والنهي { فجعلناه سميعاً بصيراً } قيل فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة ، وقيل معناه إنا خلقنا الإنسان من هذه الأمشاج للابتلاء والامتحان ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء ، وهو السمع والبصر وهما كنايتان عن الفهم والتمييز وقيل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان ، وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها .(6/197)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)
{ إنا هديناه السبيل } أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة ، وعرفناه طريق الخير والشر ، وقيل معناه أرشدناه إلى الهدى لأنه لا يطلق اسم السبيل إلا عليه والمراد من هداية السبيل نصب الدلائل ، وبعثه الرسل وإنزال الكتب . { إما شاكراً وإما كفوراً } يعني إما موحداً طائعاً لله ، وإما مشركاً بالله في علم الله وذلك أن الله تعالى بين سبيل التوحيد ليتبين شكر الإنسان من كفره ، وطاعته عن معصيته ، وقيل في معنى الآية إما مؤمناً سعيداً وإما كافراً شقياً . وقيل معناه الجزاء أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر ، وقيل المراد من الشاكر الذي يكون مقراً معترفاً بوجوب شكر خالقه سبحانه وتعالى عليه ، والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه ثم بين ما للفريقين فوعد الشاكر ، وأوعد الكافر فقال تعالى : { إنا أعتدنا } أي هيأنا في جهنم { للكافرين سلاسل } يعني يشدون بها { وأغلالاً } أي في أيديهم تغل بها إلى أعناقهم { وسعيراً } يعني وقوداً لا توصف شدته وهذا من أعظم أنواع الترهيب والتخويف ثم ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال تعالى : { إن الأبرار } يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم ، واحدهم بار وبر وأصله التوسع فمعنى البر المتوسع في الطاعة { يشربون من كأس } يعني فيها شراب { كان مزاجها كافوراً } قيل يمزج لهم شرابهم بالكافور ويختم بالمسك .
فإن قلت إن الكافور غير لذيذ ، وشربه مضر فما وجه مزج شرابهم به .
قلت قال أهل المعاني : أراد بالكافور بياضه ، وطيب ريحه وبرده . لأن الكافور لا يشرب وقال ابن عباس : هو اسم عين في الجنة والمعنى أن ذلك الشراب يمازجه شراب ماء هذه العين التي تسمى كافوراً ، ولا يكون في ذلك ضرر لأن أهل الجنة لا يمسهم ضرر فيما يأكلون ، ويشربون وقيل هو كافور لذيذ طيب الطعم ليس فيه مضرة ، وليس ككافور الدنيا ولكن الله سمى ما عنده بما عندكم بمزج شرابهم . بذلك الكافور والمسك والزنجبيل .(6/198)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
{ عيناً } بدلاً من الكافور وقيل أعني عيناً { يشرب بها } أي يشرب منها { عباد الله } قال ابن عباس أولياء الله { يفجرونها تفجيراً } أي يقودونها إلى حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم تفجيراً سهلاً لا يمتنع عليهم .
قوله تعالى : { يوفون بالنذر } لما وصف الله تعالى ثواب الأبرار في الآخرة وصف أعمالهم في الدنيا التي يستوجبون بها هذا الثواب والمعنى كانوا في الدنيا يوفون بالنذر والنذر الإيجاب . والمعنى يوفون بما فرض الله عليهم فيدخل فيه جميع الطاعات من الأيمان والصلاة ، والزكاة والصوم والحج ، والعمرة ، وغير ذلك من الواجبات ، وقيل النذر في عرف الشرع واللغة أن يوجب الرجل على نفسه شيئاً ليس بواجب عليه ، وذلك بأن يقول : لله عليَّ كذا وكذا من صدقة أو صلاة أو صوم أو حج أو عمرة يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله . وذلك بأن يقول إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي كان لله عليَّ كذا ، ولو نذر في معصية لا يجب الوفاء به ( خ ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « من نذر أن يطيع الله فليف بنذره ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يف به » وفي رواية « فليطعه ولا يعصه » وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين » أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي ( ق ) عن ابن عباس قال : « استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأمره أن يقضيه عنها » أخرجه الجماعة . وفي الآية دليل على وجوب الوفاء بالنذر ، وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات لأن من وفى بما أوجبه على نفسه كان لما أوجبه الله عليه أوفى . { ويخافون يوماً كان شره مستطيراً } أي منتشراً فاشياً ممتداً ، وقيل استطار خوفه في أهل السموات والأرض ، وفي أولياء الله وأعدائه ، وقيل فشا سره في السموات . فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة وكورت الشمس ، والقمر ، وفي الأرض فتشققت الجبال وغارت المياه وكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء ، والمعنى أنهم يوفون بالنذر وهم خائفون من شر ذلك اليوم وهوله وشدته .
قوله عز وجل : { ويطعمون الطعام على حبه } أي حب الطعام وقلته وشهوتهم له والحاجة إليه فوصفهم الله تعالى : بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم بالطعام ، ويواسون به أهل الحاجة ، وذلك لأن أشرف أنواع الإحسان والبر إطعام الطعام . لأن به قوام الأبدان ، وقيل على حب الله عز وجل أي لحب الله { مسكيناً } يعني فقيراً وهو الذي لا مال له ولا يقدر على الكسب { ويتيماً } أي صغيراً وهو الذي لا أب له يكتسب له ، وينفق عليه { وأسيراً } قيل هو المسجون من أهل القبلة يعني من المسلمين ، وقيل هو الأسير من أهل الشرك .(6/199)
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
{ إنا نخاف من ربنا يوماً } يعني أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لطلب مكافأتكم { عبوساً } وصف ذلك اليوم بالعبوس مجازاً كما يقال نهاره صائما والمراد أهله والمعنى تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته وقيل وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة . { قمطريراً } يعني شديداً كريهاً يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس ، وقيل العبوس الذي لا انبساط فيه ، والقمطرير الشديد ، وقيل هو أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء { فوقاهم الله شر ذلك اليوم } أي الذي يخافونه { ولقاهم نضرة } أي حسناً في وجوههم { وسروراً } أي في قلوبهم { وجزاهم بما صبروا } أي على طاعة الله واجتناب معصيته ، وقيل على الفقر والجوع مع الوفاء بالنذر والإيثار { جنة وحريراً } أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير { متكئين فيها } أي في الجنة { على الأرائك } جمع أريكة وهي السرر في الحجال ولا تسمى أريكة إلا إذا اجتمعا { لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً } يعني لا يؤذيهم حر الشمس ، ولا برد الزمهرير كما كان يؤذيهم في الدنيا والزمهرير أشد البرد وحكى الزمخشري قولاً أن الزمهرير هو القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيىء وأنشد :
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر
والمعنى أن الجنة ضياء لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر { ودانية عليهم ظلالها } أي قريبة منهم ظلال أشجارها { وذللت } أي سخرت وقربت { قطوفها } أي ثمارها { تذليلاً } أي يأكلون من ثمارها قياماً وقعوداً ومضطجعين ، ويتناولونها كيف شاؤوا وعلى أي حال أرادوا . { ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب } قيل هي الكيزان التي لا عرى لها كالقدح ونحوه { كانت قواريرا قواريرا من فضة } قال أهل التفسير أراد بياض الفضة في صفاء القوارير وهو الزجاج ، والمعنى أن آنية أهل الجنة من فضة بيضاء في صفاء الزجاج ، والمعنى يرى ما في باطنها من ظاهرها ، قال الكلبي : إن الله تبارك وتعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم ، وإن أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون فيها ، وقيل إن القوارير التي في الدنيا من الرمل والقوارير التي في الجنة من الفضة ، ولكنها أصفى من الزجاج . { قدروها تقديراً } أي قدروا الكؤوس على قدر ريهم ، وكفايتهم لا تزيد ولا تنقص . والمعنى أن السقاة والخدم الذين يطوفون عليهم يقدرونها لهم ثم يسقونهم .(6/200)
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
{ ويسقون فيها } أي في الجنة { كأساً كان مزاجها زنجبيلاً } قيل إن الزنجبيل هو اسم للعين التي يشرب منها الأبرار يوجد منها طعم الزنجبيل يشرب بها المقربون صرفاً ، ويمزج لسائر أهل الجنة ، وقيل هو النبت المعروف ، والعرب كانوا يجعلون الزنجبيل في شرابهم لأنه يحصل فيه ضرب من اللذع قال الأعشى :
كأن القرنفل والزنجبي ... ل باتا بفيها وأرياً مشورا
الأري العسل والمشور المستخرج من بيوت النحل وقال المسيب بن علس :
فكأن طعم الزنجب ... يل به إذ ذقته سلافة الخمر
فلما كان الزنجبيل مستطاباً عند العرب وصف الله تعالى شراب أهل الجنة بذلك ، وقيل إن شرب أهل الجنة على برد الكافور ، وطعم الزنجبيل وريح المسك قال ابن عباس : كل ما ذكر الله تعالى في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له مثل في الدنيا ، وذلك لأن زنجبيل الجنة لا يشبه زنجبيل الدنيا { عيناً فيها تسمى سلسبيلاً } أي سلسلة منفادة لهم يصرفونها حيث شاؤوا وقيل حديدة الجرية سميت سلسبيلاً لأنها تسيل عليها في طرقهم ، ومنازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى سائر الجنان ، وقيل سميت بذلك لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق ومعنى تسمى أي توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلا صفة لا اسم { ويطوف عليهم ولدان مخلدون } أي في الخدمة وقيل مخلدون مسرورون ومقرطون { إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً } يعني في بياض اللؤلؤ الرطب وحسنه ، وصفائه ، واللؤلؤ إذا انتثر على البساط كان أصفى منه منظوماً ، وقيل إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة .
قوله عز وجل : { وإذا رأيت } قيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل لكل واحد ممن يدخل الجنة والمعنى إذا رأيت ببصرك ونظرت به { ثم } يعني إلى الجنة { رأيت نعيماً } أي لا يوصف عظمه { وملكاً كبيراً } قيل هو أن أدناهم منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقيل هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه وهو استئذان الملائكة عليهم وقيل معناه ملكاً لا زوال له ولا انتقال { عاليهم } أي فوقهم { ثياب سندس خضر } وهو مارق من الديباج { وإستبرق } وهو ما غلظ منه وكلاهما داخل في اسم الحرير { وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } يعني طاهراً من الأقذار والأردان لم تمسه الأيدي ، ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا وقيل إنه لا يستحيل بولاً ، ولكنه يستحيل رشحاً في أبدانهم كرشح المسك ، وذلك أنهم يؤتون بالطعام ثم من بعده يؤتون بالشراب الطهور فيشربون منه فتطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحاً يخرج من جلودهم أطيب من المسك الأذفر ، وتضمر بطونهم وتعود شهواتهم ، وقيل الشراب الطهور هو عين ماء على باب الجنة من شرب منه نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد .(6/201)
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
{ إن هذا كان لكم جزاء } أي يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم نعيمها . إن هذا كان لكم جزاء قد أعده الله لكم إلى هذا الوقت . فهو لكم بأعمالكم ، وقيل هو إخبار من الله تعالى لعباده المؤمنين أنه قد أعده لهم في الآخرة { وكان سعيكم مشكوراً } أي شكرتكم عليه وآتيتكم أفضل منه ، وهو الثواب ، وقيل شكر الله لعباده هو رضاء منهم بالقليل من الطاعة وإعطاؤه إياهم الكثير من الخيرات .
قوله عز وجل : { إنا نحن نزلنا عليك } أي يا محمد { القرآن تنزيلاً } قال ابن عباس : متفرقاً آية بعد آية ولم ننزله جملة واحدة ، والمعنى أنزلنا عليك القرآن متفرقاً لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين ، والمقصود من ذلك تثبيت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرح صدره وإن الذي أنزله إليه وحي منه ليس بكهانة ، ولا سحر لتزول تلك الوحشة التي حصلت له من قول الكفار إنه سحر أو كهانة . { فاصبر لحكم ربك } أي لعبادته فهي من الحكمة المحضة ، وقيل معناه فاصبر لحكم ربك في تأخير الإذن في القتال ، وقيل هو عام في جميع التكاليف ، أي فاصبر لحكم ربك في كل ما حكم الله به سواء كان تكليفاً خاصاً كالعبادات والطاعات أو عاماً متعلقاً بالغير كالتبليغ ، وأداء الرسالة وتحمل المشاق وغير ذلك . { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } قيل أراد به أبا جهل ، وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أبو جهل عنها ، وقال لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن عنقه ، وقيل أراد بالآثم عتبة بن ربيعة ، وبالكفور الوليد بن المغيرة وذلك أنهما قالا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء ، والمال فارجع عن هذا الأمر ، وقال عتبة أنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر ، وقال الوليد أنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر فأنزل الله تعالى هذه الآية .
فإن قلت هل من فرق بين الآثم والكفور قلت نعم . الآثم هو المقدم على المعاصي أي معصية كانت ، والكفور هو الجاحد فكل كفور آثم ، ولا ينعكس لأن من عبد غير الله فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان لأنه لما عبد غير الله فقد عصاه وجحد نعمه عليه . { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً } قيل المراد من الذكر الصلاة ، والمعنى وصل لربك بكرة يعني صلاة الصبح وأصيلاً يعني صلاة الظهر والعصر { ومن الليل فاسجد له } يعني صلاة المغرب والعشاء فعلى هذا تكون الآية جامعة لمواقيت الصلاة الخمس { وسبحه ليلاً طويلاً } يعني صلاة التطوع بعد المكتوبة وهو التهجد بالليل ، وقيل المراد من الآية هو الذكر باللسان ، والمقصود أن يكون ذاكراً لله تعالى في جميع الأوقات في الليل والنهار بقلبه وبلسانه . قوله عز وجل : { إن هؤلاء } يعني كفار مكة { يحبون العاجلة } يعني الدار العاجلة ، وهي الدنيا . { ويذرون وراءهم } يعني أمامهم { يوماً ثقيلاً } يعني شديداً وهو يوم القيامة والمعنى أنهم يتركونه فلا يؤمنون به ، ولا يعملون له { نحن خلقناهم وشددنا } أي قوينا وأحكمنا { أسرهم } أي خلقهم وقيل أوصالهم شددنا بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب ، وقيل الأسر مجرى البول والغائط ، وذلك أنه إذا خرج الأذى انقبضا . { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً } أي إذا شئنا أهلكناهم ، وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلاً منهم .(6/202)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
{ إن هذه } أي السورة { تذكرة } أي تذكير وعظة { فمن شاء اتخذ } أي لنفسه في الدنيا { إلى ربه سبيلاً } أي وسيلة بالطاعة ، والتقرب إليه وهذه مما يتمسك بها القدرية يقولون اتخاذ السبيل هو عبارة عن التقرب إلى الله تعالى ، وهو إلى اختيار العبد ، ومشيئته قال أهل السنة ويرد عليهم قوله عز وجل في سياق الآية . { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } أي لستم تشاؤون إلا بمشيئة الله تعالى لأن الأمر إليه ، ومشيئة الله مستلزمة لفعل العبد فجميع ما يصدر عن العبد بمشيئة الله جلّ جلاله وتعالى شأنه { إن الله كان عليماً } أي بأحوال خلقه وما يكون منهم { حكيماً } أي حيث خلقهم مع علمه بهم { يدخل من يشاء في رحمته } أي في دينه وقيل في جنته فإن فسرت الرحمة بالدين كان ذلك من الله تعالى وإن فسرت بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله جلّ جلاله وتعالى شأنه وفضله وإحسانه لا بسبب الاستحقاق { والظّالمين } يعني المشركين { أعد لهم عذاباً أليماً } أي مؤلماً ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/203)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)
قوله عز وجل : { والمرسلات عرفاً فالعاصفات عصفاً والناشرات نشراً فالفارقات فرقاً فالملقيات ذكراً عذراً أو نذراً } اعلم أن المفسرين ذكروا في هذه الكلمات الخمس وجوهاً :
الأول : أن المراد بأسرها الّرياح ومعنى المرسلات عرفاً الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس ، وقيل عرفاً أي كثيراً { فالعاصفات عصفاً } يعني الرّياح الشّديدة الهبوب ، { والناشرات نشراً } . يعني الرياح اللّينة . وقيل هي الرياح التي أرسلها نشراً بين يدي رحمته ، وقيل هي الرّياح التي تنشر السحاب ، وتأتي بالمطر فالفارقات فرقاً يعني الرياح التي تفرق السحاب ، وتبدده فالملقيات ذكراً يعني أن الرياح إذا أرسلت عاصفة شديدة قلعت الأشجار ، وخربت الديار ، وغيرت الآثار . فيحصل بذلك خوف للعباد في القلوب ، فيلجؤون إلى الله تعالى ويذكرونه ، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر ، والمعرفة في القلوب عند هبوبها .
الوجه الثاني : أن المراد بأسرها الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى ومعنى والمرسلات عرفاً . الملائكة الذين أرسلوا بالمعروف من أمر الله ، ونهيه وهذا القول رواية عن ابن مسعود فالعاصفات عصفاً يعني الملائكة تعصف في طيرانهم ، ونزولهم كعصف الرياح في السرعة ، والناشرات نشراً يعني أنهم إذا نزلوا إلى الأرض نشروا أجنحتهم ، وقيل هم الذين ينشرون الكتب ، ودواوين الأعمال يوم القيامة فالفارقات فرقاً . قال ابن عباس : يعني الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل ، فالملقيات ذكراً يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء ، وقيل يجوز أن يكون الذكر هو القرآن خاصة فعلى هذا يكون الملقى هو جبريل وحده ، وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم .
الوجه الثالث : أن المراد بأسرها آيات القرآن ، ومعنى المرسلات عرفاً آيات القرآن المتتابعة في النزول على محمد صلى الله عليه وسلم بكل عرف وخير فالعاصفات عصفاً يعني آيات القرآن تعصف القلوب بذكر الوعيد حتى تجعلها كالعصف وهو النبت المتكسر ، والناشرات نشراً يعني آيات القرآن تنشر أنوار الهداية والمعرفة في قلوب المؤمنين . فالفارقات فرقاً يعني آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل فالملقيات ذكراً يعني آيات القرآن هي الذّكر الحكيم الذي يلقى الإيمان والنور في قلوب المؤمنين .(6/204)
فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)
الوجه الرابع : أنه ليس المراد من هذه الكلمات الخمس شيئاً واحداً بعينه فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى : { والمرسلات عرفاً فالعاصفات عصفاً والناشرات نشراً } الرياح ويكون المراد بقوله { فالفارقات فرقاً فالملقيات ذكراً } الملائكة .
فإن قلت وما المجانسة بين الرياح والملائكة حتى جمع بينهما في القسم قلت الملائكة روحانيون فهم بسبب لطافتهم ، وسرعة حركاتهم شابهوا الرياح فحصلت المجانسة بينهما من هذا الوجه فحسن الجمع بينهما في القسم عذراً أو نذراً أي للإعذار والإنذار من الله ، وقيل عذراً من الله ونذراً منه إلى خلقه ، وهذه كلها أقسام وجواب القسم قوله تعالى : { إن ما توعدون } أي من أمر الساعة ومجيئها { لواقع } أي لكائن نازل لا محالة ، وقيل معناه إن ما توعدون به من الخير والشر لواقع بكم . ثم ذكر متى يقع فقال تعالى : { فإذا النجوم طمست } أي محي نورها وقيل محقت { وإذا السماء فرجت } أي شقت وقيل فتحت { وإذا الجبال نسفت } أي قلعت من أماكنها { وإذا الرسل أقتت } وقرىء وقتت بالواو ومعناهما وأحد أي جمعت لميقات يوم معلوم ، وهو يوم القيامة ليشهدوا على الأمم { لأي يوم أجلت } أي أخرت وضرب الأجل لجميعهم كأنه تعالى يعجب لعباده من تعظميم ذلك اليوم ، والمعنى جمعت الرسل في ذلك اليوم لتعذيب من كذبهم وتعظيم من آمن بهم ، ثم بين ذلك اليوم فقال تعالى : { ليوم الفصل } قال ابن عباس يوم فصل الرحمن فيه بين الخلائق ثم أتبع ذلك تعظيماً وتهويلاً فقال تعالى : { وما أدراك ما يوم الفصل } أي وما أعلمك بيوم الفصل وهو له وشدته { ويل يومئذ للمكذبين } أي بالتوحيد والنبوة والمعاد والبعث والحساب .
قوله تعالى : { ألم نهلك الأولين } يعني الأمم الماضية بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم { ثم نتبعهم الآخرين } يعني السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب ، وهم كفار قريش ، أي نهلكهم بتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم { كذلك نفعل بالمجرمين } أي إنما نفعل بهم ذلك لكونهم مجرمين { ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين } يعني النطفة { فجعلناه في قرار مكين } يعني الرحم { إلى قدر معلوم } يعني وقت الولادة وهو معلوم لله تعالى لا يعلم ذلك غيره { فقدرنا } قرىء بالتشديد من التقدير ، أي قدرنا ذلك تقديراً { فنعم القادرون } أي المقدرون له وقرىء بالتخفيف من القدرة ، أي قدرنا على خلقه ، وتصويره كيف شئنا فنعم القادرون حيث خلقناه في أحسن صورة وهيئة .(6/205)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
{ ويل يومئذ للمكذبين } أي المنكرين للبعث لأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة { ألم نجعل الأرض كفاتاً } يعني وعاء وأصله الضم والجمع { أحياء وأمواتاً } يعني تكفتهم أحياء على ظهرها بمعنى تضمهم في دورهم ومنازلهم وتكفتهم أمواتاً في بطنها في قبورهم ، ولذلك تسمى الأرض أما لأنها تضم الناس كالأم تضم ولدها { وجعلنا فيها } أي في الأرض { رواسي شامخات } يعني جبالاً عاليات { وأسقيناكم ماء فراتاً } يعني عذاباً { ويل يومئذ للمكذبين } يعني أن هذا كله أعجب عن البعث فالقادر عليه قادر على البعث .
قوله عز وجل : { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون } يعني يقال للمكذبين بيوم القيامة في الدنيا انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون وهو العذاب ثم فسره بقوله { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } يعني دخان جهنم إذا سطع وارتفع تشعب ، وتفرق ثلاث فرق ، وكذلك شأن الدخان العظيم . فيقال لهم كونوا فيه إلى أن يفرغ من الحساب كما يكون أولياء الله تعالى في ظل عرشه ، وقيل يخرج عنق من النار فيتشعب ثلاث شعب على رؤوسهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم { لا ظليل } أي إن ذلك الظل لا يظل من حر { ولا يغني من اللهب } أي لا يرد عنهم لهب جهنم والمعنى أنهم إذا استظلوا بذلك الظل لا يدفع عنهم حر اللهب { إنها } يعني جهنم { ترمي بشرر } جمع شرارة وهي ما تطاير من النار { كالقصر } يعني كالبناء العظيم ونحوه قيل هي أصول الشجر ، والنخل العظام واحدتها قصرة وسئل ابن عباس عن قوله ، { ترمي بشرر كالقصر } فقال هي الخشب العظام المقطعة وكنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع ، وفوق ذلك ودونه وندخرها للشتاء ، وكنا نسميها القصر .(6/206)
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)
{ كأنه } يعني الشرر { جمالات } جمع الجمال ، وقال ابن عباس : هي حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الجمال { صفر } جمع أصفر يعني أن لون ذلك الشرر أصفر وأنشد بعضهم :
دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى
وقيل الصفر هنا معناه الأسود لأنه جاء في الحديث أن شرر نار جهنم أسود كالقير ، والعرب تسمى سود الإبل صفراً لأنه يشوب سوادها شيء من الصفرة ، وقيل هي قطع النحاس ، والمعنى أن هذا الشرر يرتفع كأنه شيء مجموع غليظ أصفر . { ويل يومئذ للمكذبين } قوله عز وجل : { هذا يوم لا ينطقون } يعني بحجة تنفعهم قيل هذا في بعض مواطن القيامة ومواقفها ، وذلك لأن في بعضها يتكلمون وفي بعضها يختصمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } عطف على يؤذن واختير ذلك لأن رؤوس الآي بالنون فلو قال فيتعذروا لم يوافق الآيات ، والعرب تستحب وفاق الفواصل كما تستحب وفاق القوافي ، والقرآن نزل على ما تستحب العرب من موافقة المقاطع ، والمعنى لا يكون إذن واعتذار قال الجنيدي : أي عذر لمن أعرض عن منعمه وكفر بأياديه ونعمه .
فإن قلت قد توهم أن لهم عذراً ، ولكن قد منعوا من ذكره .
قلت ليس لهم عذر في الحقيقة لأنه قد تقدم الإعذار والإنذار في الدّنيا فلم يبق لهم عذر في الآخرة ، ولكن ربما تخيلوا خيالاً فاسداً أن لهم عذراً فلم يؤذن لهم في ذلك العذر الفاسد { ويل يومئذ للمكذبين } يعني أنه لما تبين إنه لا عذر لهم ، ولا حجة فيما أتوا به من الأعمال السيئة ، ولا قدرة لهم على دفع العذاب عنهم لا جرم قال في حقهم { ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل } يعني بين أهل الجنة وأهل النار ، وقيل هو الفصل بين العباد في الحقوق والمحاكمات { جمعناكم والأولين } يعني مكذبي هذه الأمة والذين كذبوا أنبياءهم من الأمم الماضية . { فإن كان لكم كيد فكيدون } أي إن كانت لكم حيلة تحتالون بها لأنفسكم فاحتالوا وهم يعلمون أن الحيل يومئذ منقطعة لا تنفع وهذا في نهاية التوبيخ والتقريع فلهذا عقبة بقوله { ويل يومئذ للمكذبين } قوله عز وجل { إن المتقين } أي الذين اتقوا الشرك { في ظلال } جمع ظل وهو ظل الأشجار { وعيون } أي في ظلهم عيون ماء { وفواكه مما يشتهون } أي يتلذذون بها { كلوا واشربوا } أي ويقال لهم كلوا واشربوا ، وهذا القول يحتمل أن يكون من جهة الله تعالى بلا واسطة ، وما أعظمها من نعمة أو يكون من جهة الملائكة على سبيل الإكرام { هنيئاً } أي خالص اللّذة لا يشوبه تنغيص { بما كنتم تعملون } أي في الدنيا من الطاعات { إنا كذلك نجزي المحسنين } قيل المقصود منه تذكير الكفار ما فاتهم من النعم العظيمة ، ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل ذلك الخير العظيم .(6/207)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
{ ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون } أي بعد نزول القرآن إذا لم يؤمنوا به فبأي شيء يؤمنون والله أعلم .(6/208)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)
قوله عز وجل : { عم } أصله عن ما { يتساءلون } عن أي شيء يتساءلون يعني المشركين ولفظه استفهام ، ومعناه التفخيم كقولك ، أي شيء زيد إذا عظمت شأنه ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد ، وأخبرهم بالبعث بعد الموت ، وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون فيما بينهم فيقول بعضهم لبعض ماذا جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ثم ذكر عما ذا تساؤلهم فقال تعالى : { عن النبأ العظيم } يعني الخبر العظيم الشأن قال الأكثرون هو القرآن ، وقيل هو البعث وقيل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به { الذي هم فيه مختلفون } فمن فسر النبأ العظيم بالقرآن قال اختلافهم فيه هو قولهم إنه سحر أو شعر أو كهانة أو نحو ذلك مما قالوه في القرآن ، ومن فسر النبأ العظيم بالبعث قال اختلافهم فيه فمن مصدق به ، وهم المؤمنون ومن مكذب به ، وهم الكافرون ومن فسره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال اختلافهم فيه كاختلافهم في القرآن { كلا } هي ردع وزجر وقيل هي نفي لاختلافهم ، والمعنى ليس الأمر كما قالوا { سيعلمون } أي عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر يعني في القيامة { ثم كلا سيعلمون } وعيد على أثر وعيد ، وقيل معناه كلا سيعلمون يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم وكفرهم ثم كلا سيعلمون يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم وإيمانهم ثم ذكر أشياء من عجائب صنائعه ليستدلوا بذلك على توحيده ، ويعلموا أنه قادر على إيجاد العالم وفنائه بعد إيجاده وإيجاده مرة أخرى للبعث والحساب ، والثواب ، والعقاب فقال تعالى : { ألم نجعل الأرض مهاداً } أي فراشاً وبساطاً لتستقر عليها الأقدام { والجبال أوتاداً } يعني للأرض حتى لا تميد { وخلقناكم أزواجاً } يعني أصنافاً ذكوراً وإناثاً .(6/209)
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
{ وجعلنا نومكم سباتاً } أي راحة لأبدانكم وليس الغرض أن السبات للراحة بل المقصود منه أن النوم يقطع التعب ويزيله ، ومع ذلك تحصل الراحة ، وأصل السبت القطع ، ومعناه أن النوم يقطع عن الحركة والتصرف في الأعمال { وجعلنا الليل لباساً } أي غطاء وغشاء يستر كل شيء بظلمته عن العيون ، ولهذا سمي الليل لباساً على وجه المجاز ، ووجه النعمة في ذلك هو أن الإنسان يستتر بظلمة الليل عن العيون إذا أراد هرباً من عدو ونحو ذلك . { وجعلنا النهار معاشاً } أي سبباً للمعاش والتصرف في المصالح وقال ابن عباس تبتغون فيه من فضل الله وما قسم لكم من رزقه { وبنينا فوقكم سبعاً شداداً } يعني سبع سموات محكمة ليس يتطرق عليها شقوق ولا فطور على ممر الزمان إلى أن يأتي أمر الله تعالى : { وجعلنا سراجاً وهاجاً } يعني الشمس مضيئة منيرة ، وقيل الوهاج الوقاد ، وقيل جعل في الشمس حرارة ونوراً والوهج يجمع النور والحرارة { وأنزلنا من المعصرات } يعني الرياح التي تعصر السحاب . وهي رواية عن ابن عباس : وقيل هي الرياح ذوات الأعاصير ، وعلى هذا المعنى تكون من بمعنى الباء ، أي وأنزلنا بالمعصرات ، وذلك لأن الريح تستدر المطر من السّحاب ، وقيل هي السحاب وفي الرواية الأخرى عن ابن عباس المعصرات السّحابة التي حان لها أن تمطر ، ولما تمطر وقيل المعصرات المغيثات والعاصر هو الغيث ، وقيل المعصرات السّموات ، وذلك لأن المطر ينزل من السّماء إلى السحاب { ماء ثجاجاً } أي صباباً مدراراً متتابعاً يتلو بعضه بعضاً ، ومنه الحديث « أفضل الحج العج والثج » ، أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهّدى { لنخرج به } أي بذلك الماء { حباً } أي ما يأكله الإنسان كالحنطة ونحوها { ونباتاً } أي ما ينبت في الأرض من الحشيش مما يأكل منه الأنعام { وجنات ألفافاً } أي ملتفة بالشجر ليس بينها خلال فدل على البعث بذكر ابتداء الخلق ثم أخبر عنه بقوله تعالى : { إن يوم الفصل } أي الحساب { كان ميقاتاً } أي لما وعده الله من الثواب والعقاب وقيل ميقاتاً يجمع فيه الخلائق ليقضي بينهم { يوم ينفخ في الصور } يعني النفخة الأخيرة { فتأتون أفواجاً } يعني زمراً زمراً من كل مكان للحساب .(6/210)
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
{ وفتحت السماء فكانت أبواباً } يعني فكانت ذوات أبواب لنزول الملائكة ، وقيل تنحل وتتناثر حتى يصير فيها أبواب وطرق { وسيرت الجبال } أي عن وجه الأرض { فكانت سراباً } أي هباء منبثاً كالسراب في عين الناظر { إن جهنم كانت مرصاداً } أي طريقاً وممراً فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار وروي عن ابن عباس « إن على جسر جهنم سبع محابس يسئل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصّلوات فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزّكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم ، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس ، فيسأل عن الحج فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس ، فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع ، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها ، وإلا يقال انظروا فإن كان له تطوع أكملت به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة » ، وقيل كانت مرصادا أي معدة لهم ، وقيل هو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته ، والمرصاد المكان الذي يرصد فيه الراصد العدو ، والمعنى إن جهنم ترصد الكفار أي تنتظرهم { للطاغين } أي الكافرين { مآباً } أي مرجعاً يرجعون إليها { لابثين فيها } أي في جهنم { أحقاباً } جمع حقب وهو ثمانون سنة كل سنة اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوم كل يوم ألف سنة يروى ذلك عن علي بن أبي طالب ، وقيل الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة .
فإن قلت الأحقاب وإن طالت فهي متناهية وعذاب الكفار في جهنم غير متناه فما معنى قوله أحقاباً .
قلت ذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : ما روي عن الحسن قال : إن الله تعالى لم يجعل على النار مدة بل قال لابثين فيها أحقاباً ، فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل حقب آخر ، ثم آخر إلى الأبد فليس للأحقاب عدة إلا الخلود وروي عن عبد الله بن مسعود قال : « لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا ، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا » .
الوجه الثاني : أن لفظ الأحقاب لا يدل على نهاية ، والحقب الواحد متناه ، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً لا يذوقون فيها أي في تلك الأحقاب برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً ، فهذا توقيت لأنواع العذاب الذي يبدلونه ولا توقيت للبثهم فيها .
الوجه الثالث : أن الآية منسوخة بقوله فلن نزيدكم إلا عذاباً يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل . { لا يذوقون فيها برداً } قال ابن عباس : البرد النوم وقيل برداً أي روحاً وراحة ، وقيل لا يذوقون برداً ينفعهم . { ولا شراباً } أي يغنيهم عن عطش { إلا حميماً وغساقاً } أي لكن يشربون حميماً قيل هو الصفر المذاب ، وقيل هو الماء الحار الذي انتهى حره وغساقاً قال ابن عباس الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده ، وقيل هو صديد أهل النار .(6/211)
جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
{ جزاء وفاقاً } أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم ، وقيل وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار . { إنهم كانوا لا يرجون حساباً } أي لا يخافون أن يحاسبوا ، والمعنى أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنهم يحاسبون { وكذبوا بآياتنا } أي التي جاءت بها الأنبياء ، وقيل كذبوا بدلائل التوحيد والنّبوة والبعث والحساب { كذاباً } ، أي تكذيباً قال الفراء هي لغة يمانية فصيحة يقولون في مصدر التفعيل فعال ، قال وقد سألني أعرابي منهم يستفتيني الحلق أحب إليك أم القصار يريد التقصير { وكل شيء } أي من الأعمال { أحصيناه } أي بيناه وأثبتناه { كتاباً } أي في كتاب وهو اللوح المحفوظ ، وقيل معناه وكل شيء علمناه علماً لا يزول ولا يتغير ولا يتبدل والمعنى أنا عالم بجميع ما فعلوه من خير وشر ، وأنا أجازيهم على قدر أعمالهم جزاء وفاقاً { فذوقوا } أي يقال لهم ذوقوا { فلن نزيدكم إلا عذاباً } قيل هذه الآية أشد آية في القرآن على أهل النار كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه .
قوله عز وجل : { إن للمتقين مفازاً } أي فوزاً أي نجاة من العذاب ، وقيل فوزاً بما طلبوه من نعيم الجنة ، ويحتمل أن يفسر الفوز بالأمرين جميعاً لأنهم فازوا بمعنى نجوا من العذاب ، وفازوا بما حصل لهم من النّعيم . ثم فسره قال { حدائق } جمع حديقة وهي البستان المحوط فيه كل ما يشتهون { وأعناباً } التنكير يدل على تعظيم ذلك العنب { وكواعب } جمع كاعب يعني جواري نواهد قد تكعبت ثديهن { أتراباً } يعني مستويات في السن { وكأساً دهاقاً } قال ابن عباس : مملوءة مترعة ، وقيل متتابعة ، وقيل صافية { لا يسمعون فيها } أي في الجنة ، وقيل في حالة شربهم لأن أهل الدنيا يتكلمون بالباطل في حالة شربهم { لغواً } أي باطلاً من الكلام { ولا كذاباً } أي تكذيباً والمعنى أنه لا يكذب بعضهم بعضاً ولا ينطقون به { جزاء من ربك عطاء حساباً } أي جازاهم جزاء وأعطاهم عطاء حساباً أي كافياً وافياً ، وقيل حساباً يعني كثيراً ، وقيل جزاء بقدر أعمالهم { رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً } أي لا يقدر الخلق أن يكلموا الرب إلا بإذنه ، وقيل لا يملكون منه خطاباً أي لا يملكون شفاعة إلا بإذنه في ذلك اليوم .(6/212)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
{ يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } قيل هو جبريل عليه الصلاة والسلام وقال ابن عباس : الروح ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوقاً أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفاً ، وقامت الملائكة كلهم صفاً واحداً فيكون من عظم خلقه مثلهم ، وقال ابن مسعود : الروح ملك عظيم أعظم من السموات والأرض والجبال وهو في السماء الرابعة يسبح الله كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً يجيء يوم القيامة صفاً وحده ، وقيل الروح خلق على صورة بني آدم وليسوا بناس يقومون صفاً والملائكة صفاً هؤلاء جند وهؤلاء جند وقال ابن عباس الروح خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم ، وعنه أنهم بنو آدم يقومون صفاً والملائكة صفاً ، وقيل يقوم سماطان سماط من الروح وسماط من الملائكة { لا يتكلمون } يعني الخلق كلهم إجلالاً لعظمته تعالى جلّ جلاله وتعالى عطاؤه وشأنه من هول ذلك اليوم { إلا من أذن له الرحمن } أي في الكلام { وقال صواباً } أي حقاً في الدنيا وعمل به ، وقيل قال لا إله إلا الله قيل الاستثناء يرجع إلى الروح والملائكة ، ومعنى الآية لا يشفعون إلا في شخص أذن الرحمن في الشفاعة له ، وذلك الشخص ممن كان يقول صواباً في الدنيا ، وهو لا إله إلا الله { ذلك اليوم الحق } أي الكائن الواقع لا محالة وهو يوم القيامة . { فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً } أي سبيلاً يرجع إليه وهو طاعة الله وما يتقرب به إليه { إنا أنذرناكم } أي خوفناكم في الدنيا { عذاباً قريباً } أي في الآخرة وكل ما هو آت قريب { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } يعني من خير أو شر مثبتاً في صحيفته ينظر إليه يوم القيامة . { ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } قال عبد الله بن عمرو « إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الدّواب والبهائم والوحوش ، ثم يجعل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشّاة الحماء من الشاة القرناء نطحتها . فإذا فرغ من القصاص قيل لها كوني تراباً فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً » وقيل يقول الله عز وجل للبهائم بعد القصاص إنا خلقناكم وسخرناكم لبني آدم وكنتم مطيعين لهم أيام حياتكم فارجعوا إلى ما كنتم عليه كونوا تراباً ، فإذ رأى الكافر ذلك تمنى ، وقال يا ليتني كنت في الدّنيا في صورة بعض هذه البهائم ، وكنت اليوم تراباً وإذا قضى الله بين الناس وأمر بأهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، وقيل لسائر الأمم سوى الناس والجن عودوا تراباً فيعودون تراباً فحينئذ يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ، وقيل معناه إن الكافر إذا رأى ما أنعم الله به على المؤمنين من الخير ، والرحمة ، قال يا ليتني كنت تراباً يعني متواضعاً في طاعة الله في الدنيا ، ولم أكن جباراً متكبراً ، وقيل إن الكافر هاهنا هو إبليس ، وذلك أنه عاب آدم وكونه خلق من تراب ، وافتخر عليه بأنه خلق من نار فإذا كان يوم القيامة ، ورأى ما فيه آدم وبنوه المؤمنين من الثواب والرحمة ، وما هو فيه من الشّدة والعذاب قال يا ليتني كنت تراباً قال أبو هريرة رضي الله عنه يقول التراب لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه .(6/213)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)
قوله عز وجل : { والنازعات غرقاً والناشطات نشطاً والسابحات سبحاً فالسابقات سبقاً } اختلفت عبارات المفسرين في هذه الكلمات هل هي صفات لشيء واحد أو لأشياء مختلفة على أوجه واتفقوا على أن المراد بقوله { فالمدبرات أمراً } وصف لشيء واحد وهم الملائكة :
الوجه الأول : في قوله تعالى : { والنازعات غرقاً } يعني الملائكة تنزع أرواح الكفار من أقاصي أجسامهم . كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المد ، والغرق من الإغراق أي ، والنازعات إغراقاً وقال ابن مسعود : « إن ملك الموت ، وأعوانه ينزعون روح الكافر كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل ، فتخرج نفس الكافر كالغريق في الماء » { والناشطات نشطاً } الملائكة تنشط نفس المؤمن أي تسلها سلاًّ رفيقاً فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير ، وإنما خص النزع بنفس الكافر والنشط بنفس المؤمن ، لأن بينهما فرقاً فالنزع جذب بشدة والنشط جذب برفق ، { والسابحات سبحاً } يعني الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلاً رفيقاً ، ثم يدعونها حتى تستريح ، ثم يستخرجونها كالسابح في الماء يتحرك فيه برفق ولطافة ، وقيل هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد إذا أسرع في جريه . يقال له سابح { فالسابقات سبقاً } يعني الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح ، وقيل هم الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة .
الوجه الثاني : في قوله { والنازعات غرقاً } يعني النفس حين تنزع من الجسد ، فتغرق في الصدر ثم تخرج { والناشطات نشطاً } ، قال ابن عباس : هي نفوس المؤمنين تنشط للخروج عند الموت لما ترى من الكرامة ، وذلك لأنه يعرض عليه مقعده في الجنة قبل أن يموت وقال علي بن أبي طالب : هي أرواح الكفار تنشط بين الجلد ، والأظفار حتى تخرج من أفواههم بالكرب والغم .(6/214)
وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
{ والسابحات سبحاً } يعني أرواح المؤمنين حين تسبح في الملكوت { فالسابقات سبقاً } يعني استباقها إلى الحضرة المقدسة .
الوجه الثالث : في قوله تعالى : { والنّازعات غرقاً } يعني النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب { والناشطات نشطاً } يعني النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، أي تذهب { والسابحات سبحاً } ، يعني النجوم والشمس والقمر يسبحون في الفلك . { فالسابقات سبقاً } يعني النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير .
الوجه الرابع : في قوله تعالى { والنّازعات غرقاً } يعني خيل الغزاة تنزع في أعنتها وتغرق في عرقها وهي الناشطات نشطاً لأنها تخرج بسرعة إلى ميدانها ، وهي السابحات في جريها ، وهي السابقات سبقاً لاستباقها إلى الغاية .
الوجه الخامس : في قوله { والنازعات غرقاً } يعني الغزاة حين تنزع قسيها في الرمي فتبلغ غاية المد وهو قوله غرقاً ، { والنّاشطات نشطاً } أي السّهام في الرمي { والسّابحات سبحاً ، فالسّابقات سبقاً } يعني الخيل والإبل حين يخرجها أصحابها إلى الغزو .
الوجه السادس : ليس المراد بهذه الكلمات شيئاً واحداً ، فقوله والنازعات يعني ملك الموت ينزع النفوس غرقاً حتى بلغ بها الغاية ، { والناشطات نشطاً } يعني النفس تنشط من القدمين بمعنى تجذب ، { والسابحات سبحاً } يعني السفن ، { والسابقات سبقاً } يعني مسابقة نفوس المؤمنين إلى الخيرات والطاعات .
أما قوله : { فالمدبرات أمراً } ، فأجمعوا على أنهم الملائكة قال ابن عباس : هم الملائكة وكلوا بأمور عرفهم الله عز وجل : العمل بها وقال عبد الرّحمن بن سابط يدبر الأمر في الدنيا أربعة أملاك جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، واسمه عزرائيل ، فأما جبريل فموكل بالرّياح والجنود ، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنّبات ، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس ، وأما إسرافيل فهو ينزل عليهم بالأمر من الله تعالى أقسم الله بهذه الأشياء لشرفها ، ولله أن يقسم بما يشاء من خلقه ، أو يكون التقدير ، ورب هذه الأشياء ، وجواب القسم محذوف تقديره لتبعثن ، ولتحاسبن ، وقيل جوابه { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى }(6/215)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
{ قلوب يومئذ واجفة } { يوم ترجف الراجفة } يعني النفخة الأولى يتزلزل ويتحرك لها كل شيء ، ويموت منها جميع الخلق { تتبعها الرادفة } يعني النفخة الثانية ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة ، وقال قتادة : هما صيحتان فالأولى تميت كل شيء ، والأخرى تحيي كل شيء بإذن الله عز وجلّ وقيل الرّاجفة التي تزلزل الأرض ، والجبال والرادفة التي تشق السماء ، وقيل الراجفة القيامة والرّادفة البعث يوم القيامة روى البغوي بسند الثعلبي عن أبي بن كعب قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع اللّيل قام وقال : أيّها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه » .
قوله عز وجل : { قلوب يومئذ واجفة } أي خافقة قلقة مضطربة ، وقيل وجله زائلة عن أماكنها { أبصارها خاشعة } أي أبصار أهلها خاشعة ذليلة ، والمراد بها الكفار بدليل قوله تعالى { يقولون } يعني المنكرين للبعث إذا قيل لهم إنكم مبعوثون بعد الموت . { أئنا لمردودون في الحافرة } يعني أنرد إلى أول الحال ، وابتداء الأمر فنصير أحياء بعد الموت كما كنا أول مرة والعرب تقول رجع فلان في حافرته ، أي رجع من حيث جاء فالحافرة عنده اسم لابتداء الشيء وأول الشيء ويقال رجع فلان في حافرته أي في طريقه الذي جاء منه يحفره بمشيئته ، فحصل بأثر قدميه حفر فهي محفورة في الحقيقة ، وقيل الحافرة الأرض التي تحفر فيها قبورهم سميت حافرة لأنها يستقر عليها الحافر ، والمعنى أئنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقاً جديداً نمشي عليها ، وقيل الحافرة النار { أئذا كنا عظاماً نخرة } أي بالية وقرىء ناخرة وهما بمعنى ، وقيل الناخرة المجوفة التي يمر فيها الريح فتنخر أي توصت { قالوا } يعني المنكرين للبعث إذا عاينوا أهوال القيامة { تلك إذاً كرة خاسرة } أي رجعة غابنة يعني إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت . { فإنما هي } يعني النفخة الأخيرة { زجرة واحدة } أي صيحة واحدة يجمعون بها جميعاً { فإذا هم بالساهرة } يعني وجه الأرض سميت ساهرة لأن عليها نوم الحيوان وسهرهم ، وقيل هي التي كثر الوطء عليها كأنها سهرت ، والمعنى أنهم كانوا في بطن الأرض . فلما سمعوا الصيحة صاروا على وجهها ، وقيل هي أرض الشام وقيل أرض القيامة ، وقيل هي أرض جهنم .(6/216)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)
قوله عز وجل : { هل أتاك حديث موسى } يا محمد وذلك أنه صلى الله عليه وسلم شق عليه حين كذبه قومه ، فذكر له قصة موسى عليه الصلاة والسلام وأنه كان يتحمل المشاق من قومه ليتأسى به { إذ ناداه ربه بالواد المقدس } أي المطهر { طوى } هو اسم واد بالشام عند الطور { اذهب إلى فرعون إنه طغى } أي علا وتكبر وكفر بالله { فقل هل لك إلى أن تزكى } أي تتطهر من الشّرك والكفر ، وقيل معناه تسلم وتصلح العمل وقال ابن عباس : تشهد أن لا إله إلا الله { وأهديك إلى ربك } أي أدعوك إلى عبادة ربك وتوحيده { فتخشى } يعني عقابه وإنما خص فرعون بالذكر ، وإن كانت دعوة موسى شاملة لجميع قومه لأن فرعون كان أعظمهم فكانت دعوته دعوة لجميع قومه { فأراه } أي أرى موسى فرعون { الآية الكبرى } يعني اليد البيضاء والعصا { فكذب } يعني فرعون بأنها من الله { وعصى } أي تمرد وأظهر التجبر { ثم أدبر } أي أعرض عن الإيمان { يسعى } يعمل الفساد في الأرض { فحشر } أي فجمع قومه وجنوده { فنادى } أي لما اجتمعوا { فقال } يعني فرعون لقومه { أنا ربكم الأعلى } أي لا رب فوقي ، وقيل أراد أن الأصنام أرباب وهو ربها وربهم { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } أي عاقبة فجعله عبرة لغيره بأن أغرقه في الدنيا ويدخله النار في الآخرة ، وقيل أراد بالآخرة والأولى كلمتي فرعون وهما قوله { ما علمت لكم من إله غيري } وقوله { أنا ربكم الأعلى } وكان بينهما أربعون سنة { إن في ذلك } أي في الذي فعل بفرعون حين كذب وعصى { لعبرة } أي عظة { لمن يخشى } أي يخاف الله عز وجل ثم عاتب منكري البعث فقال تعالى : { أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها } معناه أخلقكم بعد الموت أشد أم خلق السّماء عندكم في تقديركم . فإن كلا الأمرين بالنسبة إلى قدرة الله واحد ، لأن خلق الإنسان على صغره وضعفه إذا أضيف إلى خلق السماء مع عظمها وعظم أحوالها كان يسيراً فبين تعالى : أن خلق السماء أعظم ، وإذا كان كذلك كان خلقكم بعد الموت أهون على الله تعالى : فكيف تنكرون ذلك مع علمكم بأنه خلق السموات والأرض ولا تنكرون ذلك . ثم إنه تعالى ذكر كيفية خلق السّماء والأرض .(6/217)
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)
{ رفع سمكها } يعني علو سمتها ، وقيل رفعها بغير عمد { فسواها } أي أتقن بناءها ، فليس فيها شقوق ، ولا فطور ، { وأغطش } أي أظلم { ليلها } والغطش الظلمة { وأخرج } أي وأظهر وأبرز { ضحاها } أي نهارها ، وإنما عبر عن النهار بالضحى لأنه أكمل أجزاء النهار في النور ، والضوء ، وإنما أضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما يجريان بسبب غروب الشمس وطلوعها ، وهي في السماء ثم وصف كيفية خلق الأرض . فقال تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } أي بسطها ومدها قال أمية بن أبي الصلت :
دحوت البلاد فسويتها ... وأنت على طيها قادر
فإن قلت ظاهر هذه الآية ، يقتضي أن الأرض خلقت بعد السّماء بدليل قوله تعالى { بعد ذلك } وقد قال تعالى : في حم السّجدة { ثم استوى إلى السماء } فكيف الجمع بين الآيتين وما معناهما .
قلت خلق الله الأرض أولاً مجتمعة ، ثم سمك السماء ثانياً ، ثم دحا الأرض بمعنى مدها وبسطها . ثالثاً ، فحصل بهذا التفسير الجمع بين الآيتين ، وزال الإشكال قال ابن عباس : خلق الله الأرض بأقواتها ، من غير أن يدحوها قبل السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وقيل معناه والأرض مع ذلك دحاها كقوله { عتل بعد ذلك زنيم } أي مع ذلك { أخرج منها ماءها ومرعاها } أي فجر من الأرض عيونها ، ومرعاها أي رعيها ، وهي ما يأكله النّاس ، والأنعام واستعير الرعي للإنسان على سبيل التّجوز . { والجبال أرساها } أي أثبتها { متاعاً لكم ولأنعامكم } أي الذي أخرج من الأرض هو بلغة لكم ولأنعامكم .
قوله عز وجل : { فإذا جاءت الطّامة الكبرى } يعني النّفخة الثانية ، التي فيها البعث ، وقيل الطامة القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء فتعلو عليه ، والطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع . { يوم يتذكر الإنسان ما سعى } أي ما عمل في الدنيا من خير ، أو شر . { وبرزت الجحيم لمن يرى } يعني أنه ينكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق { فأما من طغى } أي كفر { وآثر الحياة الدّنيا } أي على الآخرة { فإن الجحيم هي المأوى } أي لمن هذه صفته { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } أي المحارم التي يشتهيها وقيل هو الرجل يهم بالمعصية ، فيذكر مقامه بين يديه جلّ جلاله للحساب فيتركها لذلك { فإن الجنة هي المأوى } أي لمن هذه صفته .
قوله عز وجل : { يسألونك } أي يا محمد { عن الساعة أيّان مرساها } أي متى ظهورها وقيامها { فيم أنت من ذكراها } أي لست في شيء من علمها وذكراها حتى تهتم لها وتذكر وقتها { إلى ربك منتهاها } أي منتهى علمها لا يعلم متى تقوم الساعة إلا هو ، وقيل معناه فيم إنكار لسؤالهم ، أي فيم هذا السّؤال ، ثم قال أنت يا محمد من ذكراها ، أي من علامتها ، لأنك آخر الرّسل ، وخاتم الأنبياء ، فكفاهم ذلك دليلاً على دنوها ، ووجوب الاستعداد لها .(6/218)
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
{ إنما أنت منذر من يخشاها } أي إنما ينفع إنذارك من يخافها . { كأنهم } يعني الكفار { يوم يرونها } أي يعاينون يوم القيامة . { لم يلبثوا } أي في الدنيا ، وقيل في قبورهم { إلا عشية أو ضحاها } .
فإن قلت العشية ليس لها ضحى فما معنى قوله { أو ضحاها } ؟
قلت قيل إن الهاء والألف صلة ، والمعنى لم يلبثوا إلا عشية ، أو ضحى ، وقيل إضافة الضّحى إلى العشية ، إضافة إلى يومها ، كأنه قال : إلا عشية أو ضحى يومها . والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .(6/219)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
قوله عز وجل : { عبس وتولى } أي كلح وقطب وجهه وتولى أي أعرض بوجهه . { أن جاءه الأعمى } يعني ابن أم مكتوم ، واسمه عمرو ، وقيل عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة ، وقيل عمرو قيس بن زائدة بن الأصم بن زهرة بن رواحة القرشي الفهري من بني عامر بن لؤي ، واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية ، وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد أسلم قديماً بمكة ، وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يناجي عتبة بن ربيعة ، وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب ، وأبي بن خلف ، وأخاه أمية بن خلف ويدعوهم إلى الله يرجو إسلامهم فقال ابن أم مكتوم : يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله؛ وجعل يناديه ويكرر النّداء ، وهو لا يدري أنه مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه ، وقال في نفسه يقول هؤلاء الصّناديد إنما اتبعه الصّبيان ، والعبيد ، والسّفلة فعبس وجهه وأعرض عنه ، وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم ، فأنزل الله هذه الآيات معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه إذا رآه ، ويقول مرحباً بمن عاتبني الله فيه ويقول له هل لك من حاجة ، واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين وكان من المهاجرين الأولين ، وقيل قتل شهيداً بالقادسية قال أنس : رأيته يوم القادسية ، وعليه درع ومعه راية سوداء ، عن عائشة رضي الله عنها قالت « أنزلت { عبس وتولى } في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول يا رسول الله أرشدني ، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم عظماء قريش من المشركين فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخرين ويقول أترى بما أقول بأساً فيقول لا ففي هذا أنزلت » أخرجه التّرمذي ، وقال حديث غريب { وما يدريك } أي أي شيء يجعلك دارياً { لعله يزكى } أي يتطهر من الذّنوب بالعمل الصّالح وما يتعلمه منك .(6/220)
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
{ أو يذكر } أي يتعظ { فتنفعه الذكرى } أي الموعظة { أما من استغنى } قال ابن عباس : عن الله وعن الإيمان بما له من المال { فأنت له تصدى } أي تتعرض له ، وتقبل عليه وتصغى إلى كلامه { وما عليك ألا يزكى } أي لا يؤمن ، ولا يهتدي وإنما عليك البلاغ { وأما من جاءك يسعى } يعني يمشي يعني ابن أم مكتوم { وهو يخشى } أي الله عز وجل { فأنت عنه تلهى } أي تتشاغل وتعرض عنه { كلا } أي لا تفعل بعدها مثلها { إنها } يعني الموعظة وقيل آيات القرآن { تذكرة } أي موعظة للخلق { فمن شاء } أي من عباد الله { ذكره } أي اتعظ به يعني القرآن ثم وصف جلالة القرآن ، ومحله عنده فقال عز وجل { في صحف مكرمة } يعني القرآن في اللّوح المحفوظ { مرفوعة } أي رفيعة القدر عند الله ، وقيل مرفوعة في السّماء السابعة { مطهرة } يعني الصحف لا يمسها إلا المطهرون ، وهم الملائكة { بأيدي سفرة } قال ابن عباس : يعني كتبة ، وهم الملائكة الكرام الكاتبون ، واحدهم سافر ومنه قيل للكتاب سفر ، وقيل هم الرّسل من الملائكة إلى الأنبياء واحدهم سفير ، ثم أثنى عليهم .(6/221)
كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)
{ كرام } أي هم كرام على الله { بررة } أي مطيعين له جمع بار .
قوله عز وجل : { قتل الإنسان } أي لعن الكافر وطرد { ما أكفره } أي أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه ، وأياديه عنده وهذا على سبيل التّعجب ، أي أعجبوا من كفره وقيل معناه أي شيء حمله على الكفر ، نزلت هذه الآية في عتبة بن أبي لهب ، وقيل في أمية بن خلف ، وقيل في الذين قتلوا يوم بدر ، وقيل الآية عامة في كل كافر ، ثم بين من أمره ما كان ينبغي أن يعلم أن الله تعالى : خالقه منه فقال تعالى : { من أي شيء خلقه } لفظه استفهام ومعناه التّقرير ، ثم فسر ذلك فقال تعالى { من نطفة خلقه فقدره } يعني خلقه أطواراً نطفة ثم علقة ، ثم مشغة ، إلى آخر خلقه ، وقيل قدره يعني خلق رأسه ، وعينيه ويديه ، ورجليه على قدر ما أراده { ثم السبيل يسره } أي سهل له طريق خروجه من بطن أمه ، وقيل سهل له العلم بطريق الحق والباطل ، وقيل يسر على كل أحد ما خلق له وقدر عليه . { ثم أماته فأقبره } أي جعل له قبراً يوارى فيه ، وقيل جعله مقبوراً ، ولم يجعله ملقى للسّباع ، والوحوش والطّيور ، أو أقبره معناه ستره الله بحيث يقبر وجعله ذا قبر يدفن فيه ، وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات . ثم قال تعالى : { ثم إذا شاء أنشره } أي أحياه بعد موته للبعث ، والحساب وإنما قال تعالى { ثم إذا شاء أنشره } لأن وقت البعث غير معلوم لأحد فهو إلى مشيئة الله تعالى متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم { كلا } ردع وزجر للإنسان عن تكبره وتجبره وترفعه ، وعن كفره وإصراره على إنكار التوحيد ، وإنكار البعث والحساب { لما يقض ما أمره } أي لم يفعل ما أمره به ربه ، ولم يؤد ما فرض عليه ، ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فإنه موضع الاعتبار فقال تعالى : { فلينظر الإنسان إلى طعامه } إلى قدرة ربه فيه أي كيف قدره ربه ، ويسره ودبره له وجعله سبباً لحياته ، وقيل مدخل طعامه ومخرجه . ثم بين ذلك فقال تعالى : { أنا صببنا الماء صباً } يعني المطر .(6/222)
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
{ ثم شققنا الأرض شقاً } أي بالنبات { فأنبتنا فيها } أي بذلك الماء { حباً } يعني الحبوب التي يتغدى بها الإنسان { وعنباً } يعني أنه غذاء من وجه ، وفاكهة من وجه ، فلهذا أتبعه الحب { وقضباً } يعني القت وهو الرطب سمي بذلك لأنه يقتضب ، أي يقطع في كل الأيام ، وقيل القضب هو العلف كله الذي تعلف به الدواب . { وزيتوناً } وهو ما يعصر منه الزيت { ونخلاً وحدائق } جمع حديقة { غلباً } يعني غلاظ الأشجار ، وقيل الغلب الشجر الملتف بعضه على بعض . وقال ابن عباس : طوالاً { وفاكهة } يعني جميع ألوان الفاكهة { وأبا } يعني الكلأ والمرعى الذي لم يزرعه الناس مما يأكله الدواب والأنعام ، وقيل فاكهة ما يأكله الناس ، والأب ما يأكله الدّواب . وقال ابن عباس : ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس . والأنعام روى إبراهيم التيمي أن أبا بكر سئل عن قوله : { وفاكهة وأبّاً } فقال أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ( خ ) عن أنس أن عمر قرأ { وفاكهة وأبّاً } قال فما الأب ، ثم قال ما كلفنا أو قال ما أمرنا بهذا لفظ البخاري ، وزاد غيره ثم قال اتبعوا ما بين لكم هذا الكتاب وما لا فدعوه . { متاعاً لكم } يعني الفواكه والحب ، والعشب منفعة لكم { ولأنعامكم } ثم ذكر أهوال القيامة فقال تعالى : { فإذا جاءت الصّاخة } يعني صيحة القيامة سميت صاخة لأنها تصخ أسماع الخلق ، أي تبالغ في أسماعهم حتى تكاد تصمها { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته ، وبنيه } أي إنه لا يلتفت إلى واحد من هؤلاء لشغله بنفسه ، والمراد من الفرار التّباعد ، والسبب في ذلك الاحتراز عن المطالبة بالحقوق فالأخ يقول ما واسيتني بمالك ، والأبوان يقولان قصرت في برنا ، والصاحبة تقول لم توفني حقي والبنون يقولون ما علمتنا وما أرشدتنا ، وقيل أول من يفر هابيل من أخيه قابيل ، والنبي صلى الله عليه وسلم من أمه وإبراهيم عليه الصّلاة والسّلام من أبيه ولوط من صاحبته ونوح من ابنه ، وقيل يفر المؤمن من موالاة هؤلاء ، ونصرتهم والمعنى أن هؤلاء الذين كانوا يقربونهم في الدنيا ، ويتقوون بهم ويتعززون بهم يفرون منهم في الدّار الآخرة ، وفائدة الترتيب كأنه قيل يوم يفر المرء من أخيه بل من أبويه لأنهما أقرب من الإخوة بل من الصّاحبة ، والولد لأن تعلقه بهما أشد من تعلقه بالأبوين { لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه } أي يشغله شأن نفسه عن شأن غيره عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه قال : « تحشرون حفاة عراة غرلاً ، فقالت امرأة أيبصر أحدنا ، أو يرى بعضنا عورة بعض قال : يا فلانة لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه » أخرجه التّرمذي وقال : حديث حسن صحيح ولما ذكر الله تعالى حال القيامة ، وأهوالها بين حال المكلفين ، وأنهم على قسمين منهم السعداء والأشقياء .(6/223)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
{ وجوه يومئذ مسفرة } أي مشرقة مضيئة من أسفر الصبح إذا أضاء ، وقيل مسفرة من قيام اللّيل ، وقيل من أثر الوضوء ، وقيل من الغبار في سبيل الله { ضاحكة } أي عند الفراغ من الحساب { مستبشرة } أي بالسرور فرحة بما تنال من كرامة الله ، ورضوانه . ثم وصف الأشقياء فقال تعالى : { ووجوه يومئذ عليها غبرة } أي سواد وكآبة للهم الذي نزل بهم { ترهقها قترة } أي تعلوها ، وتغشاها ظلمة ، وكسوف وقال ابن عباس : تغشاها ذلة والفرق بين الغبرة والقترة أن الغبرة ما كان أسفل في الأرض ، والقترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء { أولئك } أي الذين صنع بهم هذا { هم الكفرة الفجرة } جميع كافر وفاجر والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه .(6/224)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
قوله عز وجل : { إذا الشّمس كورت } قال ابن عباس : أظلمت ، وغورت ، وقيل اضمحلت ، وقيل لفت كما تلف العمامة ، وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض ومعناه أن الشّمس يجمع بعضها إلى بعض ، ثم تلف فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها ، قال ابن عباس : يكور الله الشّمس ، والقمر ، والنّجوم يوم القيامة في البحر ، ثم يبعث عليها ريحاً دبوراً فتضربها فتصير ناراً . ( خ ) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الشّمس والقمر يكوران يوم القيامة » قيل إن الشّمس ، والقمر ، جمادان فإلقاؤهما في النّار يكون سبباً لازدياد الحر في جهنم . { وإذا النّجوم انكدرت } أي تناثرت من السماء ، وسقطت على الأرض . قال الكلبي وعطاء : تمطر السّماء يومئذ نجوماً ، فلا يبقى نجم إلا وقع { وإذا الجبال سيرت } أي عن وجه الأرض ، فصارت هباء منثوراً . { وإذا العشار عطلت } يعني النوق الحوامل التي أتى عليها عشرة أشهر من حملها ، واحدتها عشراء ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة ، وهي أنفس مال عند العرب فإذا كان ذلك اليوم عطلت ، وتركت هملاً بلا راع أهملها أهلها ، وقد كانوا لازمين لأذنابها ولم يكن مال أعجب إليهم منها لما جاءهم من أهوال يوم القيامة . { وإذا الوحوش } يعني من دواب البر { حشرت } أي جمعت يوم القيامة ليقتص لبعضها من بعض . وقال ابن عباس : حشرها موتها قال : وحشر كل شيء موته غير الجن والإنس ، فإنهما يوقفان يوم القيامة . { وإذا البحار سجرت } قال ابن عباس : أوقدت فصارت ناراً تضطرم ، وقيل فجر بعضها في بعض العذاب ، والملح حتى صارت البحار كلها بحراً واحداً وقيل صارت مياهها من حميم أهل النّار ، وقيل سجرت أي يبست ، وذهب ماؤها فلم تبق فيها قطرة .
قال أبي بن كعب : ست آيات قبل يوم القيامة ، بينما النّاس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشّمس ، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض ، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النّجوم فتحركت ، واضطربت ، وفزعت الإنس ، والجن ، واختلطت الدّواب ، والطّير ، والوحش ، وماج بعضهم في بعض . فذلك قوله تعالى : { إذا الشّمس كورت وإذا النّجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت } فحينئذ تقول الجن للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فينطلقون إلى البحر ، فإذا هو نار تأجج ، فبينما هم كذلك إذ انصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى ، وإلى السماء السابعة العليا ، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم ، وعن ابن عباس قال : هي اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا ، وستة في الآخرة ، وهي ما ذكر بعد هذه . وهو قوله تعالى : { وإذا النفوس زوجت } روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : يقرن بين الرّجل الصّالح مع الرجل الصالح في الجنة ، ويقرن بين الرجل السّوء مع الرجل السوء في النّار ، وقيل ألحق كل امرىء بشيعته اليهود باليهود ، والنصارى بالنصارى ، وقيل يحشر الرجل مع صاحب عمله ، وقيل زوّجت النّفوس بأعمالها ، وقيل زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، وقرنت نفوس الكافرين بالشّياطين ، وقيل معنى زوّجت ردت الأرواح إلى الأجساد .(6/225)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)
{ وإذا الموءودة سئلت } يعني الجارية التي دفنت ، وهي حية سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب ، فيئدها ، أي يثقلها حين تموت ، وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية . تدفن البنات حية مخافة العار ، والحاجة ، وروي عن ابن عباس قال : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت ، وكان أوان ولادتها حفرت حفيرة ، فتمخضت على رأس الحفيرة فإن ولدت جارية رمت بها في الحفيرة ، وإذا ولدت غلاماً حبسته ، وقيل كان الرجل في الجاهلية إذا ولدت له بنت ، وأراد بقاءها حية ألبسها جبة صوف ، أو شعر وتركها ترعى الإبل ، والغنم في البادية ، وإذا أراد قتلها تركها حتى تشب ، فإذا بلغت قال لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر بئراً في الصّحراء ، فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها ، فإذا نظرت دفعها من ورائها ، ويهيل عليها التراب حتى تستوي بالأرض ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الوائدة ، والموءودة في النّار » أخرجه أبو داود ، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد ، ولم يئد فافتخر به الفرزدق في شعره فقال :
ومنا الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم توأد
{ بأي ذنب قتلت } معناه تسأل الموءودة ، فيقال لها ، بأي ذنب قتلت ، ومعنى سؤالها لها توبيخ قاتلها . لأنها قتلت بغير ذنب . { وإذا الصّحف نشرت } يعني صحائف الأعمال تنشر للحساب { وإذا السّماء كشطت } أي نزعت ، وطويت ، وقيل قلعت كما يقلع السقف ، وقيل كشفت ، وأزيلت عمن فيها . { وإذا الجحيم سعرت } أوقدت لأعداء الله تعالى { وإذا الجنة أزلفت } أي قربت لأولياء الله .(6/226)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
{ علمت نفس ما أحضرت } يعني عند ذلك تعمل كل نفس ما أحضرت من خير ، أو شر وهذا جواب لقوله إذا الشّمس كورت إلى هنا .
قوله عز وجل : { فلا أقسم } لا زائدة والمعنى أقسم ، وقد تقدم ذلك في قوله { لا أقسم بيوم القيامة } { بالخنس الجوار الكنس } يعني النّجوم تبدو بالليل ، فتظهر ، وتخنس بالنهار تحت نور الشّمس ، ونحو هذا المعنى روي عن علي بن أبي طالب ، وقيل هي النّجوم الخمسة زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطارد ، تخنس في مجاريها ، أي ترجع وراءها في الفلك ، وتنكس ، أي تستر وقت اختفائها ، وقيل إنها تخنس ، أي تتأخر عن مطالعها ، والكنس معناه أنها لا ترى بالنهار ، وقيل هي الظباء ، وهي رواية عن ابن عباس ، وأصل الخنوس الرّجوع إلى وراء ، والكنوس هو أن تأوي إلى كناسها ، وهو الموضع الذي يأوي إليه الوحوش . { واللّيل إذا عسعس } أي أقبل بظلامه وقيل أدبر ، والعسعسة رقة الظّلام ، وذلك يكون في طرف الليل . { والصّبح إذا تنفس } أي أقبل وبدا أوله وقيل أسفر .
وفي تنفسه قولان أحدهما : أن في إقبال الصبح روحاً ، ونسيماً فجعل ذلك نفساً على المجاز الثاني ، أنه شبه الليل بالمكروب المحزون ، فإذا تنفس وجد راحة ، فكأنه تخلص من الحزن ، فعبر عنه بالتنفس ، فهو استعارة لطيفة ، ولما ذكر المقسم به أتبعه بالمقسم عليه فقال تعالى : { إنه } يعني القرآن { لقول رسول كريم } يعني جبريل عليه الصلاة والسلام والمعنى أن جبريل نزل به عن الله عز وجل : { ذي قوة } وكان من قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط الأربع من الماء الأسود ، وحملها على جناحه ، فرفعها إلى السماء ، ثم قلبها ، وأنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه الصلاة والسلام على بعض عقاب الأرض المقدسة ، فنفحه بجناحه نفحة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند ، وأنه صاح صيحة بثمود ، فأصبحوا جاثمين ، وأنه يهبط من السّماء إلى الأرض ، ثم يصعد في أسرع من رد الطّرف { عند ذي العرش مكين } أي في المنزلة والجاه { مطاع ثم } أي في السموات تطيعه الملائكة ، ومن طاعة الملائكة له أنهم فتحوا أبواب السّموات ليلة المعراج بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح خزنة الجنة أبوابها بقوله { أمين } يعني على وحي الله تعالى إلى أنبيائه { وما صاحبكم } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يخاطب كفار مكة { بمجنون } وهذا أيضاً من جواب القسم أقسم على أن القرآن نزل به جبريل وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون كما يقول أهل مكة ، وذلك أنهم قالوا إنه مجنون ، وأن ما يقوله ليس هو إلا من عند نفسه فنفى الله عنه الجنون ، وكون القرآن من عند نفسه .(6/227)
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
{ ولقد رآه } يعني رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه الصلاة والسلام على صورته التي خلق فيها { بالأفق المبين } يعني بالأفق الأعلى من ناحية المشرق حيث تطلع الشّمس ، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصّلاة والسّلام « إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السّماء قال : لن تقوى على ذلك قال ، بلى قال فأين تشاء أن أتخيل لك قال بالأبطح ، قال لا يسعني ذلك ، قال : فبمنى قال لا يسعني ذلك قال فبعرفات ، قال : لا يسعني ذلك قال بحراء قال إن يسعني فواعده فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت . فإذا هو بجبريل قد أقبل من حيال عرفات بخشخشة ، وكلكله قد ملأ ما بين المشرق ، والمغرب ، ورأسه في السماء ، ورجلاه في الأرض ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم خر مغشياً عليه ، فتحول جبريل عن صورته ، وضمه إلى صدره ، وقال : يا محمد لا تخف ، فكيف لو رأيت إسرافيل ، ورأسه تحت العرش ، ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ، وإن العرش لعلى كاهله ، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله جلّ جلاله وعلا علاؤه وشأنه حتى يصير كالصّعو ، يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته » { وما هو } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { على الغيب } أي الوحي وخبر السّماء ، وما اطلع عليه مما كان غائباً عن علمه من القصص والأنباء . { بضنين } قرأ بالظاء ، ومعناه بمتهم والمظنة التهمة ، وقرىء بضنين بالضاد ، ومعناه ببخيل يقول إنه يأتيه علم الغيب ، ولا يبخل به عليكم ، ويخبركم به ، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلواناً ، وهو أجرة الكاهن ، وقراءة الظاء أولى لأنهم لم يبخلوه ، وإنما اتهموه ، فنفى الله عنه تلك التهمة ، ولو أراد البخل لقال وما هو بالغيب . { وما هو } يعني القرآن { بقول شيطان رجيم } يعني إن القرآن ليس بشعر ، ولا كهانة كما قالت قريش ، وقيل كانوا يقولون إن شيطاناً يلقيه على لسانه ، فنفى الله ذلك عنه ، { فأين تذهبون } أي فأين تعدلون عن القرآن ، وفيه الشفاء ، والهدى ، والبيان ، وقيل معناه أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم . { إن هو } يعني ما في القرآن { إلا ذكر للعالمين } أي موعظة للخلق أجمعين { لمن شاء منكم أن يستقيم } أي يتبع الحق ، ويقيم عليه ، وينتفع به ثم بين أن مشيئة العبد موقوفة بمشيئته فقال تعالى : { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } أعلمهم الله أن المشيئة في التوفيق للاستقامة إليه ، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله ، وتوفيقه ، وفيه إعلام أن أحداً لا يعمل خيراً إلا بتوفيق الله تعالى؛ ولا شراً إلا بخذلانه ، ومشيئته والله تعالى أعلم .(6/228)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
قوله عز وجل : { إذا السّماء انفطرت } أي انشقت { وإذا الكواكب انتثرت } أي تساقطت { وإذا البحار فجرت } أي فجر بعضها في بعض واختلط العذب بالملح ، فصارت بحراً واحداً ، وقيل معنى فجرت فاضت . { وإذا القبور بعثرت } أي بحثرت ، وقلب ترابها وبعث من فيها منه الموتى أحياء . { علمت نفس ما قدمت وأخرت } يعني علمت في ذلك اليوم ما قدمت من عمل صالح ، أو سيىء ، وأخرت بعدها من حسنة أو سيئة ، وقيل ما قدمت من الصّدقات وأخرت من الزّكوات ، وهذه أحوال يوم القيامة . قوله عز وجل : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } أي ما خدعك ، وسول لك الباطل حتى صنعت ما صنعت ، وضيعت ما أوجب عليك ، والمعنى ماذا أمنك من عقابه ، قيل نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقيل في أبي الشّريق ، واسمه أسيد بن كلدة ، وقيل كلدة بن خلف ، وكان كافراً ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقبه الله وأنزل الله هذه الآية ، وقيل الآية عامة في كل كافر وعاص ، يقول ما الذي غرك ، قيل غره حمقه ، وجهله وقيل تسويل الشّيطان له ، وقيل غره عفو الله عنه حيث لم يعاجله بالعقوبة في أول مرة بربك الكريم ، أي المتجاوز عنك ، فهو بكرمه لك لم يعاجلك بعقوبته بل بسط لك المدة لرجاء التّوبة . قال ابن مسعود « ما منكم من أحد إلا سيخلو الله عز وجل به يوم القيامة . فيقول : يا ابن آدم ما غرك بي يا ابن آدم! ماذا عملت؟ فيما علمت يا ابن آدم؟ ماذا أجبت المرسلين » ، وقيل للفضيل بن عياض لو أقامك الله يوم القيامة فيقول لك يا ابن آدم ما غرك بربك الكريم؛ ماذا كنت تقول . قال : أقول غرني ستورك المرخاة ، وقال يحيى بن معاذ : لو أقامني بين يديه ، وقال ما غرك بي أقول غرني بربك بي سالفاً وآنفاً ، وقال أبو بكر الوراق لو قال لي ما غرك بربك الكريم لقلت غرني كرم الكريم ، وقال بعض أهل الإشارة . إنما قال بربك الكريم دون سائر أسمائه ، وصفاته كأنه لقنه حجته في الإجابة حتى يقول غرني كرم الكريم .(6/229)
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)
{ الذي خلقك } أي أوجدك من العدم إلى الوجود { فسواك } أي جعلك سوياً سالم الأعضاء ، تسمع وتبصر { فعدلك } أي عدل خلقك في مناسبة الأعضاء فلم يجعل بعضها أطول من بعض ، وقيل معناه جعلك قائماً معتدلاً حسن الصّورة ، ولم يجعلك كالبهيمة المنحنية { في أي صورة ما شاء ركبك } أي في أي شبه من أب أو أم أو خال أو عم ، وجاء في الحديث « إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضر كل عرق بينه وبين آدم ثم قرأ : { في أي صورة ما شاء ركبك } » ، وقيل معناه إن شاء ركبك في صورة إنسان ، وإن شاء في صورة دابة أو حيوان ، وقيل في أي صورة ما شاء ركبك من الصور المختلفة بحسب الطول ، والقصر ، والحسن ، والقبح والذكورة ، والأنوثة ، وفي هذه دلالة على قدرة الصانع المختار القادر . وذلك أنه لما اختلفت الهيئات ، والصفات دل ذلك على كمال القدرة ، واتساع الصنعة ، وأن المدبر المختار هو الله تعالى .
قوله عز وجل : { كلا بل تكذبون بالدين } أي بيوم الحساب والجزاء { وإن عليكم لحافظين } يعني رقباء من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم { كراماً } أي على الله { كاتبين } أي يكتبون أقوالكم وأعمالكم { يعلمون ما تفعلون } يعني من خير أو شر . قوله عز وجل { إن الأبرار } يعني الذين بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء ما افترض الله عليهم ، واجتناب معاصيه . { لفي نعيم } يعني نعيم الجنة { وإن الفجار لفي جحيم } روي أن سليمان بن عبد الملك قال : لأبي حازم المزني ليت شعري ما لنا عند الله ، فقال له : اعرض عملك على كتاب الله ، فإنك تعلم ما لك عند الله ، قال : أين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال : عند قوله { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } قال سليمان فأين رحمة الله قال قريب من المحسنين { يصلونها يوم الدين } يعني يوم القيامة لأنه يوم الجزاء .(6/230)
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
{ وما هم عنها بغائبين } أي عن النّار ثم عظم شأن ذلك اليوم فقال تعالى : { وما أدراك ما يوم الدين } قيل المخاطب بذلك هو الكافر ، وهو على وجه الزّجر له ، وقيل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : والمعنى أي شيء أعلمك به لو لم نعرفك أحواله { ثم ما أدراك ما يوم الدين } التكرير لتعظيم ذلك اليوم ، وتفخيم شأنه { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً } أي لا تملك نفس كافرة شيئاً من المنفعة { والأمر يومئذ لله } يعني أنه لم يملك الله في ذلك أحداً شيئاً كما ملكهم في الدنيا ، والله أعلم .(6/231)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
قوله عز وجل : { ويل } أي قبح وهي كلمة تذكر عند وقوع البلاء ، يقال ويل له وويل عليه ، وقيل ويل اسم واد في جهنم { للمطففين } يعني الذين ينقصون المكيال والميزان لأنه لا يكاد المطفف يسرق في الكيل والوزن ، إلا الشيء اليسير الطّفيف قال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث النّاس كيلاً . فأنزل الله عز وجل : { ويل للمطففين } فأحسنوا الكيل ، وقيل لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وبها رجل يقال له أبو جهينة ، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ، ويكتال بالآخر ، فأنزل الله هذه الآية وجعل الويل للمطففين ثم بين من هم . فقال تعالى : { الذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون } يعني أنهم إذا اكتالوا من النّاس ، ومن وعلى يتعاقبان ، وقيل معناه إذا اكتالوا من النّاس ، أي اشتروا شيئاً استوفوا عليهم لأنفسهم الكيل والوزن .(6/232)
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
{ وإذا كالوهم أو وزنوهم } يعني وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للناس كما يقال نصحتك ونصحت لك . { يخسرون } أي ينقصون الكيل والوزن وهذا الوعيد يلحق من يأخذ لنفسه زائداً ويدفع إلى غيره ناقصاً ، ويتناول الوعيد القليل والكثير لكن إذا لم يتب منه فإن تاب منه ورد الحقوق إلى أهلها قبلت توبته ومن فعل ذلك ، وأصر عليه كان مصراً على كبيرة من الكبائر ، وذلك لأن عامة الخلق محتاجون إلى المعاملات وهي مبنية على أمر الكيل والوزن والذرع ، فلهذا السبب عظم الله أمر الكيل والوزن ، قال نافع : كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له اتق الله أوف الكيل والوزن ، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق ، وقال قتادة : أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك ، واعدل كما تحب أن يعدل لك ، قال الفضيل : بخس الميزان سواد يوم القيامة . { ألا يظن } أي ألا يعلم ويستيقن { أولئك } أي الذين يفعلون هذا الفعل ، وهم المطففون { أنهم مبعوثون ليوم عظيم } يعني يوم القيامة { يوم يقوم النّاس } يعني من قبورهم { لرب العالمين } أي لأمره وجزائه وحسابه ( ق ) عن نافع « أن ابن عمر تلا { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم النّاس لرب العالمين } ، قال يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه » ، وروي مرفوعاً عن المقداد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « تدنو الشّمس من رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل » زاد التّرمذي أو ميلين « قال سليم بن عامر والله ما أدري ما يعني بالميل مسافة الأرض ، أو الميل ما تكتحل به العين قال فيكون النّاس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه إلى فيه » قوله عز وجل : { كلا } قيل إنه ردع وتنبيه أي ليس الأمر على ما هم عليه من بخس الكيل والميزان ، فليرتدعوا عنه فعلى هذا تم الكلام هنا ، وقيل كلا ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقاً { إن كتاب الفجار } أي الذي كتبت فيه أعمالهم { لفي سجين } قال ابن عمر هي الأرض السابعة السفلى ، وفيها أرواح الكفار وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « سجين أسفل سبع أرضين وعليون في السماء السابعة تحت العرش » وقال شمر بن عطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : أخبرني عن قول الله عز وجل { إن كتاب الفجار لفي سجين } قال إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء ، فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض ، فتأبى أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهى بها إلى سجين ، وهو موضع جند إبليس فيخرج لها من سجين رق ، فليتم ويختم ويوضع تحت جند إبليس لمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة ، وقيل هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء خضرة السماء منها فتقلب ، ويجعل كتاب الفجار تحتها ، قال وهب : هي آخر سلطان إبليس وجاء في الحديث(6/233)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
{ وما أدراك ما سجين } أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ، ولا قومك ، وقيل إنما قال ذلك تعظيماً لأمر سجين { كتاب مرقوم } ليس هذا تفسيراً للسجن وإنما هو بيان للكتاب المذكور في قوله { إن كتاب الفجار } والمعنى إن كتاب الفجار مرقوم أي مكتوب فيه أعمالهم مثبتة عليهم كالرقم في الثّوب لا ينسى ولا يمحى حتى يحاسبوا به ، ويجازوا عليه ، وقيل مرقوم رقم عليه بشر كأنه علم بعلامة يعرف بها أنه كافر ، وقيل مرقوم أي مختوم وهو بلغة حمير { ويل يومئذ للمكذبين } قيل إنه متصل بقوله يوم يقوم النّاس لرب العالمين ومعنى الآية ويل لمن كذب بهذا اليوم ، وقيل معناه مرقوم بالشّقاوة ، ثم قال ويل يومئذ للمكذبين أي في ذلك اليوم من ذلك الكتاب المرقوم عليهم بالشقاوة { الذين يكذبون بيوم الدين } أي بيوم القيامة لأنه يوم الجزاء { وما يكذب به } أي بيوم القيامة { إلا كل معتد } أي متجاوز عن نهج الحق { أثيم } هو مبالغة في الآثم وهو المرتكب الإثم والمعاصي { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } أي أكاذيب الأولين .
قوله عز وجل : { كلا } أي لا يؤمن ثم استأنف فقال { بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إن العبد إن أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ، وهو الران الذي قال الله : { بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } » أخرجه التّرمذي وقال : حديث حسن صحيح وأصل الرّان الغلبة ومعنى الآية أن الذّنوب والمعاصي غلبت على قلوبهم وأحاطت بها ، وقيل هو الذنب على الذّنب حتى يميت القلب وقال ابن عباس : ران على قلوبهم طبع عليها ، وقيل الرين أن يسود القلب من الذّنوب ، والطّبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرّين والإقفال أشد من الطّبع وقيل الرّين التغطية ، والمعنى أنه يغشى القلب شيء كالصدى فيغطيه فعند ذلك يموت القلب .(6/234)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)
{ كلا } قال ابن عباس يريد لا يصدقون وقيل معناه ليس الأمر كما يقولون إن لهم في الاخرة خيراً ثم استأنف فقال تعالى : { إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } قيل عن كرامته ورحمته ممنوعون ، وقيل إن الله لا ينظر إليهم ولا يزكيهم وهذا التّفسير فيه ضعف أما حمله على منع الكرامة والرّحمة فهو عدول عن الظّاهر بغير دليل ، وكذا الوجه الثاني فإن من حجب عن الله فإن الله لا ينظر إليه نظر رحمة ، ولا يزكيه والذي ذهب إليه أكثر المفسرين أنهم محجوبون عن رؤية الله ، وهذا هو الصّحيح واحتج بهذه الآية من أثبت الرّؤية للمؤمنين قالوا : لولا ذلك لم يكن للتّخصيص فائدة ، ووجه آخر وهو أنه تعالى ذكر الحجاب في معرض الوعيد والتّهديد للكفار ، وما يكون وعيداً وتهديداً للكفار لا يجوز حصوله في حق المؤمنين ، فوجب أن لا يحصل هذا الحجاب في حق المؤمنين قال الحسن : لو عمل الزّاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدّنيا .
وقيل كما حجبهم في الدّنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته وسئل مالك عن هذه الآية ، فقال : لما حجب الله أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه ، وقال الشافعي في قوله { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } دلالة على أن أولياء الله يرون الله جلّ جلاله وعنه كما حجب قوماً بالسّخط دل على أن قوماً يرونه بالرضا ، ثم أخبر أن الكفار مع كونهم محجوبون عن الله يدخلون النّار . فقال عز من قائل { ثم إنهم لصالوا الجحيم } أي لداخلو النّار { ثم يقال } أي تقول لهم الخزنة { هذا } أي هذا العذاب { الذي كنتم به تكذبون } يعني في الدنيا { كلا } أي ليس الأمر كما يتوهمه الفجار من إنكار البعث ، وقيل كلا أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه ، ثم بين محل كتاب الأبرار فقال تعالى : { إن كتاب الأبرار لفي عليين } جمع علي من العلو ، وقيل هو موضوع على صفة الجمع لا واحد له من لفظه وتقدم من حديث البراء المرفوع إن عليين في السّماء السابعة تحت العرش وقال ابن عباس : هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه ، وقيل هو قائمة العرش اليمنى وقال ابن عباس في رواية عنه هي الجنة ، وقيل هي سدرة المنتهى ، وقيل معناه علو بعد علو وشرف بعد شرف ، وقيل هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة وقد عظّمها الله وأعلاها . { وما أدراك ما عليون } تنبيهاً له على عظم شأنه { كتاب مرقوم } ليس تفسير العليين ، والمعنى أن كتاب الأبرار كتاب مرقوم في عليين فيه ما أعد لهم في الآخرة من الكرامة ، وقيل مكتوب فيه أعمالهم وعليون محل الملائكة وضده سجين ، وهو محل إبليس وجنوده .(6/235)
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
{ يشهده المقربون } يعني الملائكة الذين هم في عليين يشهدون ، أي يحضرون ذلك المكتوب ومن قال إنه كتاب الأعمال قال : يشهد ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين المقربون من الملائكة لكرامة المؤمن .
قوله تعالى : { إن الأبرار } يعني المطيعين لله { لفي نعيم } يعني نعيم الجنة { على الأرائك } جمع أريكة وهي الأسرة في الحجال { ينظرون } أي إلى ما أعد الله لهم من نعيم الجنة ، وقيل ينظرون إلى أعدائهم كيف يعذبون في النّار ، وقيل ينظرون إلى ربهم سبحانه وتعالى { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } يعني أنك إذا رأيتهم تعرف أنهم من أهل النعمة لما ترى على وجوههم من النّور والحسن والبياض ، قيل النضرة في الوجه والسرور في القلب { يسقون من رحيق } يعني الخمر الصّافية الطّيبة البيضاء { مختوم } يعني ختم على ذلك الشراب ومنع من أن تمسه الأيدي إلى أن يفك ختمه الأبرار .
فإن قلت قد قال في سورة محمد صلى الله عليه وسلم { وأنهار من خمر } والنهر لا يختم عليه فكيف طريق الجمع بين الآيتين ، قلت يحتمل أن يكون المذكور في هذه الآية . في أوان مختوم عليها ، وهي غير تلك الخمر التي في الأنهار ، وإنما ختم عليها لشرفها ونفاستها { ختامه مسك } أي طينته التي ختم عليه بها مسك بخلاف خمر الدّنيا فإن ختامها طين وقال ابن مسعود مختوم أي ممزوج ختامه أي آخر طعمه ، وعاقبته مسك ، وقيل يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } أي فليرغب الرّاغبون بالمبادرة إلى طاعة الله عز وجل ، ليحصل لهم هذا الشّراب المختوم بالمسك وقيل أصله من الشيء النّفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ، ويريده كل أحد لنفسه وينفس به على غيره أي يضن ويبخل { ومزاجه من تسنيم } أي شراب ينصب عليهم من غرفهم ومنازلهم وقيل يجري في الهواء مسنماً فيصب في أواني أهل الجنة على قدر ملئها فإذا امتلأت أمسك وأصل هذه الكلمة من العلو ومنه سنام البعير لأنه أعلاه ، وقيل هو شراب اسمه تسنيم وهو من أشرف شراب أهل الجنة وقال ابن مسعود وابن عباس : هو خالص للمقربين يشربونه صرفاً ويمزج لسائر أهل الجنة ، وسئل ابن عباس عن قوله من تسنيم فقال : هذا مما قال الله تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين }(6/236)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
{ عيناً يشرب بها } أي منها وقيل يشربها { المقربون } أي صرفاً وقوله عز وجل : { إن الذين أجرموا } أي أشركوا يعني كفار قريش أبا جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم من مترفي أهل مكة { كانوا من الذين آمنوا } أي من عمار وخباب وصهيب وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين { يضحكون } أي منهم ويستهزئون بهم { وإذا مروا بهم } يعني مر المؤمنون الفقراء بالكفار الأغنياء { يتغامزون } يعني يتغامز الكفار والغمز الإشارة بالجفن والحاجب أي يشيرون إليها بالأعين استهزاء بهم { وإذا انقلبوا إلى أهلهم } يعني الكفار { انقلبوا فكهين } أي معجبين بما هم فيه ، وقيل ينقلبون بذكرهم كأنهم يتفكهون بحديثهم { وإذا رأوهم } يعني رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم { قالوا إن هؤلاء لضالون } أي هم في ضلال يأتون محمداً ويرون أنهم على شيء . قال الله عز وجل : { وما أرسلوا } يعني المشركين { عليهم } يعني على المؤمنين { حافظين } أي لأعمالهم والمعنى أنهم لم يوكلوا بحفظ أعمالهم قوله عز وجل : { فاليوم } يعني في الآخرة { الذين آمنوا من الكفار يضحكون } وسبب هذا الضحك أن الكفار لما كانوا في الدّنيا يضحكون من المؤمنين لما هم فيه من الشدة والبلاء فلما أفضوا إلى الآخرة انعكس ذلك الأمر فصار المؤمنون في السرور والنّعيم وصار الكفار في العذاب والبلاء ، فضحك المؤمنون من الكافرين لما رأوا حالهم وقال أبو صالح : تفتح للكافرين أبواب النّار وهم فيها ويقال لهم اخرجوا فإذا انتهوا إليها أغلقت دونهم فيفعل ذلك بهم مراراً والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون منهم وقال كعب بين الجنة والنّار كوى ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوه في الدّنيا من الكفار اطلع عليه من تلك الكوى وهو يعذب فيضحك منه فذلك قوله تعالى : { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } .(6/237)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{ على الأرائك } جمع أريكة وهو السرير ويتخذ في الحجلة وهي الكلة يزين بها البيت ، وأرائك الجنة من الدر والياقوت { ينظرون } يعني إليهم وهم في النّار يعذبون قال الله تعالى { هل ثُوِّبَ الكفار } أي جوزي الكفار { ما كانوا يفعلون } أي بالمؤمنين من الاستهزاء والضحك وهذا الاستفهام بمعنى التقرير ، وثوب ، وأثيب بمعنى ، قال أوس :
سأجزيك أو يجزيك عني مُثَوِّبٌ ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي
والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/238)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)
قوله عز وجل : { إذا السّماء انشقت } يعني عند قيام السّاعة وهي من علاماتها { وأذنت لربها } أي سمعت أمر ربها بالانشقاق ، وأطاعته من الأذن وهو الاستماع { وحقت } أي حق لها أن تطيع أمر ربها { وإذا الأرض مدت } يعني مد الأديم العكاظي وزيد في سعتها ، وقيل سويت فلا يبقى فيها بناء ولا جبل { وألقت ما فيها } أي أخرجت ما في بطنها من الموتى والكنوز { وتخلت } أي من ذلك الذي كان في بطنها من الموتى والكنوز { وأذنت لربها وحقت } واختلفوا في جواب إذا فقيل جوابه محذوف تقديره إذا كان هذه الأشياء يرى الإنسان الثواب أو العقاب ، وقيل جوابه يا أيّها الإنسان إنك كادح والمعنى إذا انشقت السّماء لقي كل كادح ما عمله وقيل جوابه وأذنت وحينئذ تكون الواو زائدة { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً } أي ساع إليه في عملك سعياً والكدح عمل الإنسان وجهده في الأمرين الخير والشّر ، وقيل معناه عامل لربك عملاً وقيل معناه إنك كادح في لقاء ربك وهو الموت ، والمعنى أن هذا الكدح يستمر بك إلى الموت ، وقيل معناه إنك تكدح في دنياك كدحاً تصير به إلى ربك . { فملاقيه } أي فملاق جزاء عملك .(6/239)
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)
{ فسوف يحاسب حساباً يسيراً } سوف من الله واجب والحساب اليسير هو أن تعرض عليه أعماله ، فيعرف بالطاعة ، والمعصية ثم يثاب على الطاعة ، ويتجاوز له عن المعصية فهذا هو الحساب اليسير لأنه لا شدة فيه على صاحبه ، ولا مناقشة ولا يقال له لم فعلت هذا ولا يطالب بالعذر فيه ، ولا الحجة عليه فإنه متى طولب بذلك لم يجد عذراً ، ولا حجة فيفتضح ( ق ) عن ابن أبي مليكة أن عائشة كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حوسب عذب قال : فقلت ، أوليس يقول الله عز وجل فسوف يحاسب حساباً يسيراً قالت فقال إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب عذب . { وينقلب إلى أهله } يعني في الجنة من الحور العين والآدميات { مسروراً } أي بما أوتي من الخير والكرامة { وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } يعني أنه تغل يده اليمنى إلى عنقه ، وتجعل يده اليسرى وراء ظهره ، فيعطى كتابه بشماله من وراء ظهره ، وقيل تخلع يده الشّمال فتخرج من وراء ظهره فيعطي بها كتابه { فسوف يدعوا ثبوراً } يعني عند إعطائه كتابه بشماله من وراء ظهره يعلم أنه من أهل النّار فيدعو بالويل والهلاك ، فيقول يا ويلاه يا ثبوراه { ويصلى سعيراً } أي ويقاسي التهاب النّار وحرها { إنه كان في أهله } يعني في الدنيا { مسروراً } يعني باتباع هواه وركوب شهواته { إنه ظن أن لن يحور } أي لن يرجع إلينا ولن يبعث والحور الرجوع { بلى } ليس الأمر كما ظن بل يحور إلينا ، ويبعث ويحاسب { إن ربه كان به بصيراً } أي من يوم خلقه إلى أن يبعث قوله عز وجل : { فلا أقسم بالشفق } تقدم الكلام { لا أقسم } في سورة القيامة .
وأما الشّفق فقال مجاهد : هو النهار كله وحجته في ذلك أنه عطف عليه فيجب أن يكون المذكور أولاً هو النهار فعلى هذا الوجه يكون القسم باللّيل والنهار اللذين فيهما معاش العالم وسكونه ، وقيل هو ما بقي من النّهار وقال ابن عباس ، وأكثر المفسرين : هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشّمس ، وهو مذهب عامة العلماء ، وقيل هو البياض الذي يعقب تلك الحمرة وهو مذهب أبي حنيفة { واللّيل وما وسق } أي جمع وضم ما كان منتشراً بالنهار من الخلق والدواب والهوام وذلك أن اللّيل إذا أقبل أوى كل شيء إلى مأواه ، وقيل وما عمل فيه ويحتمل أن يكون ذلك تهجد العباد ، فيجوز أن يقسم به .(6/240)
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
{ والقمر إذا اتسق } أي اجتمع وتم نوره وذلك في الأيام البيض ، وقيل استدار واستوى ، ولما ذكر المقسم به أتبعه بالمقسم عليه فقال تعالى { لتركبن } قرىء بفتح الباء وهو خطاب الواحد والمعنى لتركبن يا محمد { طبقاً عن طبق } يعني سماء بعد سماء وقد فعل الله ذلك معه ليلة أسري به ، فأصعده سماء بعد سماء ، وقيل درجة بعد درجة ، ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى : وقيل معناه لتركبن حالاً بعد حال ( خ ) عن ابن عباس قال : لتركبن طبقاً عن طبق حالاً بعد حال هذا لنبيكم صلى الله عليه وسلم ومعنى هذا يكون لك الظفر والغلبة على المشركين حتى يختم لك بجميل العاقبة فلا يحزنك تكذيبهم وتماديهم في كفرهم وقرىء لتركبن بضم الباء ، وهو الأشبه ويكون خطاب الجمع والمعنى لتركبن أيّها النّاس حالاً بعد حال وأمراً بعد أمر ، وذلك في موقف القيامة تتقلب بهم الأحوال فيصيرون في الآخرة على غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا . وقال ابن عباس يعني الشّدائد وأهوال الموت ثم البعث ثم العرض ، وقيل حال الإنسان حالاً بعد حال رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم كهل ثم شيخ ، وقيل معناه لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالهم . ( ق ) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « لتتبعن سنن من كان قبلكم وأحوالهم شبراً بعد شبر وذراعاً بعد ذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنّصارى قال فمن » ، وقيل في معنى الآية إنه أراد به السّماء تتغير لوناً بعد لون فتصير تارة وردة كالدّهان وتارة كالمهل وتنشق مرة وتطوي أخرى { فما لهم لا يؤمنون } يعني بالبعث والحساب وهو استفهام إنكار { وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون } يعني لا يصلون فعبر بالسّجود عن الصّلاة لأنه جزء منها ، وقيل أراد به سجود التلاوة وهذه السّجدة أحد سجدات القرآن عند الشّافعي ومن وافقه ( ق ) عن رافع قال « صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ { إذا السّماء انشقت } فسجد ، فقلت ما هذا قال : سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه ولمسلم عنه قال : » سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في { اقرأ باسم ربك } { وإذا السّماء انشقت }(6/241)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
{ بل الذين كفروا يكذبون } يعني بالقرآن والبعث { والله أعلم بما يوعون } يعني يجمعون في صدورهم من التكذيب { فبشرهم بعذاب أليم } يعني على عنادهم وكفرهم { إلا الذين آمنوا وعملوا الصّالحات لهم أجر غير ممنون } يعني غير مقطوع ولا منقوص في الآخرة ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه .(6/242)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
قوله عز وجل : { والسّماء ذات البروج } يعني البروج الاثني عشر وإنما حسن القسم بها لما فيها من عجيب حكمة الباري جلّ جلاله ، وهو سير الشّمس والقمر الكواكب فيها على قدر معلوم لا يختلف وقيل البروج والكواكب العظام سميت بروجاً لظهورها { واليوم الموعود } يعني يوم القيامة { وشاهد ومشهود } عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اليوم الموعود يوم القيامة ، والمشهود يوم عرفة ، والشّاهد يوم الجمعة ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه الله منه » أخرجه الترمذي وضعف أحد رواته من قبل حفظه وهذا قول ابن عباس والأكثرين أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وقيل الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر وقيل الشاهد يوم التّروية ، والمشهود يوم عرفة وإنما حسن القسم بهذه الأيام لعظمها وشرفها ، واجتماع المسلمين فيها ، وقيل الشاهد هو الله تعالى والمشهود يوم القيامة ، وقيل الشّاهد هم الأنبياء والمشهود أي عليهم هم الأمم وقيل الشاهد هو الملك والمشهود أي عليه هو آدم وذريته ، وقيل الشّاهد هذه الأمة ونبيها صلى الله عليه وسلم والمشهود عليهم هم الأمم المتقدمة ، وقيل الشّاهد الأنبياء والمشهود له هو محمد صلى الله عليه وسلم لأن الأنبياء قبله شهدوا له بالنبوة وقوله ، { والسّماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود } أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها ، وعظمها . وجواب القسم قوله تعالى : { قتل أصحاب الأخدود } أي لعن وقتل وقيل جوابه { إن بطش ربك لشديد } والأخدود الشق المستطيل في الأرض .
واختلفوا فيهم فروي عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر فبعث إليه غلاماً يعلمه ، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى السّاحر مر بالراهب ، وقعد إليه فإذا أتى السّاحر ضربه ، إذا رجع من الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه ، فإذا أتى أهله ضربوه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر ، فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فقال اليوم أعلم الرّاهب أفضل أم الساحر فأخذ حجراً ثم قال اللّهم إن كان أمر الرّاهب أحب إليك من أمر السّاحر ، فاقتل هذه الدّابة حتى يمضي الناس ، فرماها فقتلها فمضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني أنت أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك مبتلى فإن ابتليت فلا تدل عليّ فكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص ، ويداوي النّاس من سائر الأدواء ، فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ها هنالك أجمع إن أنت شفيتني قال إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل ، فإن آمنت بالله دعوت عز وجل فشفاك فآمن به فشفاه الله عز وجل فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك فقال ربي : فقال أو لك رب غيري قال ربي ، وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دله على الغلام فجيء بالغلام ، فقال له الملك أي بني إنه قد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ، فقال إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الرّاهب فجيء له بالرّاهب ، فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالميشار فوضع الميشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك ، فقيل له ارجع عن دينك فدعا بالميشار فوضع الميشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللّهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل ، فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله تعالى فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فقال : وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع نخل ثم خذ سهماً من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ، ثم قل بسم الله رب الغلام ثم ارمني به فإنك إن فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده على صدغه موضع السهم فمات ، فقال الناس آمنا برب الغلام ثلاثاً ، فأتى الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد ، والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السّكك فخدت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها ففعلوا ذلك حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أماه اصبري ولا تقاعسي فإنك على الحق »(6/243)
هذا حديث صحيح أخرجه مسلم .
وفي هذا الحديث إثبات كرامات الأولياء ، وفيه جواز الكذب في مصلحة ترجع إلى الدين ، وفيه إنقاذ النفس من الهلاك والأكمه هو الذي خلق أعمى ، والميشار بالياء وتخفيف الهمزة وروي بالنون وذروة الجبل بالضم والكسر أعلاه ، ورجف تحرك واضطرب والقرقور بضم القاف الأولى السفينة الصغيرة وانكفأت انقلبت ، والصّعيد هنا الأرض البارزة والسّكك الطّرق والأخدود الشّق العظيم في الأرض ، وأقحموه أي ارموه وتقاعست أي تأخرت وكرهت الدخول في النار . وقال ابن عباس : « كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرحبيل بن شراحيل في الفترة قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة ، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر ، وكان أبوه يسلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بداً من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم وكان في طريقه راهب حسن القراءة حسن الصوت فأعجبه ذلك » . وذكر نحو حديث صهيب وقال وهب بن منبه : إن رجلاً كان قد بقي على دين عيسى ، فوقع إلى نجران فأحبوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير وخيرهم بين النّار واليهودية ، فأبوا عليه فخدّ الأخدود وحرق اثني عشر ألفاً ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هارباً ، فاقتحم البحر بفرسه فغرق .
وقال : محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر إن خربة احتفرت في زمن عمر بن الخطاب ، فوجدوا عبد الله بن تامر واضعاً يده على ضربة في رأسه ، إذا أميطت يده عنها انبعثت دماً ، وإذا تركت ارتدت مكانها وفي يده خاتم حديد فيه مكتوب ربي الله فبلغ ذلك عمر ، فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه .
وقال سعيد بن جبير وابن أبزى لما انهزم أهل اسفندهار ، قال : عمر بن الخطاب أيُّ شيء يجري على المجوس من الأحكام ، فإنهم ليسوا بأهل كتاب ، فقال علي بن أبي طالب بلى قد كان لهم كتاب ، وكانت الخمر قد أحلّت لهم فتناولها ملك من ملوكهم ، فغلبت على عقله فوقع على أخته فلما ذهب عنه السكر ندم ، وقال لها ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه قالت : المخرج منه أنّك تخطب الناس وتقول إنّ الله قد أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته . فقام خطيباً بذلك فقال إن الله قد أحل لكم نكاح الأخوات فقال الناس بأجمعهم معاذ الله أن نؤمن بهذا أو نقر به ، ما جاءنا به من نبي ، ولا أنزل علينا في كتاب ، فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا ، فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا به فجرد لهم الأخدود ، وأوقدوا فيها النيران وعرضهم عليها فمن أبى قذفه في النار ومن أجاب أطلقه .(6/244)
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
وقوله تعالى : { النار ذات الوقود } ، هو تعظيم لأمر تلك النار قال الربيع بن أنس نجى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار يقبض أرواحهم ، قبل أن تمسهم النار وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم { إذ هم عليها قعود } ، أي جلوس عند الأخدود { وهم } يعني الملك الذي خد الأخدود وأصحابه { على ما يفعلون بالمؤمنين } أي من عرضهم على النار وإرادتهم أن يرجعوا إلى دينهم { شهود } أي حضور وقيل يشهدون أن المؤمنين ضلال حين تركوا عبادة الصنم ، { وما نقموا منهم } قال ابن عباس ما كرهوا منهم { إلا أن يؤمنوا بالله } ، وقيل ما عابوا ولا علموا فيهم عيباً إلا إيمانهم بالله { العزيز } ، يعني إن الذي يستحق العبادة هو الله العزيز الغالب القاهر الذي لا يغالب ولا يدافع ، { الحميد } يعني الذي يستحق أن يحمد ويثنى عليه ، وهو أهل لذلك وهو الله جل جلاله ، { الذي له ملك السموات والأرض } أي فهو المستحق للعبادة { والله على كل شيء } أي من أفعالهم بالمؤمنين . { شهيد } وفيه وعد عظيم للمؤمنين ووعيد عظيم للكافرين .
قوله عزَّ وجلَّ : { إن الذين فتنوا } أي عُذِّبوا وأحرِقُوا { المؤمنين والمؤمنات } أي بالنار { ثم لم يتوبوا } أي لم يرجعوا عما هم عليه من الكفر وفيه دليل على أنهم إذا تابوا وآمنوا يقبل منهم ، ويخرجون من هذا الوعيد ، وأن الله تعالى يقبل منهم التوبة ، وأن توبة القاتل مقبولة ، وأنهم إن لم يتوبوا { فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } يعني لهم عذاب جهنم بكفرهم ، ولهم عذاب الحريق بما أحرقوا المؤمنين ، وقيل لهم عذاب الحريق في الدنيا وذلك أن الله أحرقهم بالنار التي أحرقوا بها المؤمنين ارتفعت إليهم من الأخدود فأحرقتهم ، ولهم عذاب جهنم في الآخرة ثم ذكر ما أعد للمؤمنين .(6/245)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير } . قوله عزّ وجلّ : { إن بطش ربك لشديد } قال ابن عباس إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة لشديد . { إنه هو يبدىء ويعيد } أي يخلقهم أولاً في الدنيا ، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت ليجازيهم بأعمالهم في القيامة { وهو الغفور } يعني لذنوب جميع المؤمنين . { الودود } أي المحب لهم ، وقيل المحبوب أي يوده أولياؤه ويحبونه ، وقيل يغفر ويود أن يغفر ، وقيل هو المتودد إلى أوليائه بالمغفرة . { ذو العرش } أي خالقه ومالكه . { المجيد } قرىء بالرفع على أنه صفة لله تعالى لأن المجد من صفات التعالي والجلال ، وذلك لا يليق إلا بالله تعالى . وقرىء المجيد بالكسر على أنه صفة للعرش أي للسرير العظيم إذ لا يعلم صفة العرش وعظمته إلا الله تعالى وقيل أراد حسنه فوصفه بالمجيد فقد قيل إن العرش أحسن الأجسام ، ثم قال تعالى : { فعال لما يريد } يعني أنه لا يعجزه شيء ولا يمنع منه شيء طلبه ، وقيل فعال لما يريد لا يعترض عليه معترض ، ولا يغلبه غالب ، فهو يدخل أولياءه الجنة برحمته ، لا يمنعه من ذلك مانع ، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر . { هل أتاك } أي قد أتاك { حديث الجنود } أي خبر الجموع الكافرة الذين تجندوا على الأنبياء ثم بين من هم فقال تعالى : { فرعون } يعني وقومه { وثمود } وكانت قصتهم عند أهل مكة مشهورة { بل الذين كفروا } أي من قومك يا محمد . { في تكذيب } يعني لك وللقرآن كما كذب من كان قبلهم من الأمم ، ولم يعتبروا بمن أهلكنا منهم { والله من ورائهم محيط } ، أي عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أعمالهم يقدر أن ينزل بهم ما أنزل بمن كان قبلهم .(6/246)
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
{ بل هو قرآن مجيد } أي كريم شريف كثير النفع والخير ليس هو كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة . { في لوح محفوظ } قرىء بالرفع على أنه نعت للقرآن ، محفوظ يعني أن القرآن من التبديل والتغيير والتحريف ، وقرىء محفوظ بالكسر على أنه نعت للوح لأنه يعرف باللوح المحفوظ وهو أم الكتاب ، ومنه تنسخ الكتب وسمي محفوظاً لأنه حفظ من الشياطين من الزيادة والنقص ، وهو عن يمين العرش ، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال « إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده دينه الإسلام ، ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله عزّ وجلّ وصدق بوعده واتبع رسله ، أدخله الجنة » وقال : واللوح لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، وحافتاه الدر والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه من نور ، وكلامه سر معقود بالعرش وأصله في حجر ملك والله تعالى أعلم بمراده .(6/247)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
قوله عز وجل : { والسماء والطارق } قيل نزلت في أبي طالب وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأتحفه بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ماء ثم ناراً ففزع أبو طالب ، وقال : أي شيء هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « هذا نجم رمي به ، وهو آية من آيات الله » ، فعجب أبو طالب فأنزل الله والسماء والطارق يعني النجم يظهر بالليل ، وكل ما أتاك بالليل فهو طارق ، ولا يسمى ذلك بالنهار ، وسمي النجم طارقاً لأنه يطرق بالليل قالت هند :
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
تريد أن أباها نجم في علوه وشرفه . { وما أدراك ما الطارق } قيل لم يكن صلى الله عليه وسلم يعرفه ، حتى بينه الله له بقوله { النجم الثاقب } ، أي المضيء المنير ، وقيل المتوهج ، وقيل المرتفع العالي ، وقيل هو الذي يرمى به الشيطان فيثقبه أي ينفذه ، وقيل النجم الثاقب هو الثريا لأن العرب تسميها النجم ، وقيل هو زحل سمي بذلك لارتفاعه ، وقيل هو كل نجم يرمى به الشيطان لأنه يثقبه فينفذه ، وهذه أقسام أقسم الله بها ، وقيل تقديره ورب هذه الأشياء وجواب القسم(6/248)
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)
{ إن كل نفس لما عليها حافظ } ، يعني أن كل نفس عليها حافظ من ربها يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر ، قال ابن عباس : هم الحفظة من الملائكة ، وقيل حافظ من الله تعالى يحفظها ، ويحفظ قولها ، وفعلها ، حتى يدفعها ويسلمها إلى المقادير ، ثم يحل عنها ، وقيل يحفظها من المهالك والمعاطب إلا ما قدر لها .
قوله عزّ وجلّ : { فلينظر الإنسان } يعني نظر تفكر واعتبار { مم خلق } أي من أيّ شيءٍ خلقه ربه ، ثم بيّن ذلك فقال تعالى : { خلق من ماء } يعني من مني { دافق } ، أي مدفوق مصبوب في الرحم ، وأراد به ماء الرجل ، وماء المرأة ، لأن الولد مخلوق منهما وإنما جعله واحداً لامتزاجهما { يخرج } يعني ذلك الماء وهو المني ، { من بين الصلب والترائب } يعني صلب الرجل ، وترائب المرأة ، وهي عظام الصدر والنحر . قال ابن عباس : هي موضع القلادة من الصدر ، وعنه أنها بين ثديي المرأة ، قيل إن المني ، يخرج من جميع أعضاء الإنسان ، وأكثر ما يخرج من الدماغ ، فينصب في عرق في ظهر الرجل ، وينزل في عروق كثيرة من مقدم بدن المرأة ، وهي الترائب ، فلهذا السبب خصَّ الله تعالى ، هذين العضوين بالذكر { إنه على رجعه لقادر } يعني إن الله تعالى قادر على أن يرد النطفة في الإحليل ، وقيل قادر على رد الماء في الصلب الذي خرج منه ، وقيل قادر على رد الإنسان ماء كما كان من قبل ، وقيل معناه إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ومن الصبا ، إلى النطفة وقيل إنَّه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر ، وقيل معناه إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء قادر على إعادته حياً بعد موته ، وهو أهون عليه ، وهذا القول هو الأصح ، والأولى بمعنى الآية لقوله تعالى بعده { يوم تبلى السرائر } وذلك يوم القيامة . قيل معناه تظهر الخبايا . وقيل معنى تبلى تختبر ، وقيل السرائر هي فرائض الأعمال كالصوم ، والصلاة ، والوضوء ، والغسل من الجنابة ، فكل هذه سرائر بين العبد وبين ربّه عزّ وجلّ وذلك لأن العبد قد يقول صليت ولم يصلِّ ، وصمت ولم يصم ، واغتسلت ولم يغتسل ، فإذا كان يوم القيامة يختبر حتى يظهر من أداها ومن ضيعها . قال عبد الله بن عمر : يبدي الله تعالى يوم القيامة كل سر ، فيكون زيناً في وجوه وشيناً في وجوه ، يعني من أدى الفرائض كما أمر كان وجهه مشرقاً ، مستنيراً يوم القيامة ، ومن ضيعها أو انتقص منها كان وجهه أغبر .(6/249)
فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
{ فما له } أي لهذا الإنسان المنكر البعث . { من قوة } أي يمتنع بها من عذاب الله { ولا ناصر } أي ينصره من الله ، ثم ذكر قسماً آخر فقال تعالى { والسماء ذات الرجع } أي ذات المطر ، سمي به لأنه يجيء ويرجع ويتكرر { والأرض ذات الصدع } أي تتصدع وتنبثق عن النبات ، والشجر ، والأنهار ، وجواب القسم .
قوله تعالى : { إِنَّه } يعني القرآن { لقول فصل } أي إنه لحق وجد يفصل بين الحق والباطل . { وما هو بالهزل } أي باللعب والباطل . { إنهم } يعني مشركي مكة ، { يكيدون كيداً } يعني يحتالون بالمكر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا فيه . { وأكيد كيداً } يعني أجازيهم على كيدهم بأن استدرجهم من حيث لا يعلمون فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف ، وفي الآخرة بالنار { فمهل الكافرين } أي لا تستعجل ولا تدع بهلاكهم . قال ابن عباس : هذا وعيد لهم من الله عز وجل ، ثم لمَّا أمره بإمهالهم بيّن أن ذلك الإمهال قليل . فقال تعالى : { أمهلهم رويداً } يعني قليلاً ، فأخذهم الله يوم بدر ونسخ الإمهال بآية السيف ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده .(6/250)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)
قوله عزّ وجلّ : { سبح اسم ربك الأعلى } أي قل سبحان ربي الأعلى ، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين يدل عليه ما روي عن ابن عباس « أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { سبّح اسم ربك الأعلى } ، فقال سبحان ربي الأعلى » ، ذكره البغوي بإسناد الثعلبي ، وقيل معناه نزه ربك الأعلى عما يصفه الملحدون ، فعلى هذا يكون الاسم صلة ، وقيل معناه نزه تسمية ربك الأعلى بأن تذكره وأنت له معظم ، ولذكره محترم . وقال ابن عباس : سبّح أي صل بأمر ربك الأعلى . عن عقبة بن عامر ، قال : « لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم ، ولما نزلت { سبّح اسم ربك الأعلى } قال : اجعلوها في سجودكم » أخرجه أبو داود { الذي خلق فسوى } أي خلق كل ذي روح فسوى اليدين والرجلين والعينين ، وقيل خلق الإنسان مستوياً معتدل القامة . { والذي قدر فهدى } قيل قدر الأرزاق وهدى لاكتسابها ، وقيل قدر لكل شيء شكله فهدى ، أي فعرف كيف يأتي الذكر الأنثى وقيل قدر مدة الجنين في الرحم وهداه إلى الخروج منه ، وقيل قدر السعادة لأقوام ، والشقاوة لأقوام ، ثم هدى كل فريق من الطائفتين لسلوك سبيل ما قدر له ، وعليه ، وقيل قدر الخير والشر ، وهدى إليهما ، وقيل قدر أي أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه ، وهدى الأنعام وسائر الحيوانات لمراعيها ، وهو قوله تعالى : { والذي أخرج المرعى } أي أنبت العشب وما ترعاه الأنعام من أخضر وأصفر وأحمر وأبيض وغير ذلك .(6/251)
فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
{ فجعله } يعني المرعى بعد الخضرة { غثاء } أي هشيماً يابساً بالياً كالغثاء الذي تراه فوق السيل . { أحوى } أي أسود بعد الخضرة ، وذلك أن الكلأ إذا جف ويبس سود .
قوله عزّ وجلّ : { سنقرئك } أي نعلمك القرآن بقراءة جبريل عليك . { فلا تنسى } يعني ما يقرأ عليك ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل جبريل بالوحي ، لم يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأولها ، مخافة أن ينساها ، فأنزل الله تعالى { سنقرئك فلا تنسى } فلم ينس شيئاً بعد ذلك { إلا ما شاء الله } يعني أن تنساه وهو ما نسخ الله تعالى تلاوته من القرآن ورفعه من الصدور ، وقيل معناه إلا ما شاء الله أن تنساه ، ثم تذكره بعد ذلك ، كما صح من حديث عائشة رضي الله عنها . قال : « سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ في سورة بالليل فقال يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا ، آية كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا » وفي رواية « كنت أسقطتهن من سورة كذا » أخرجاه في الصحيحين ، وقيل هذا الاستثناء لم يقع ، ولم يشأ الله أن ينسيه شيئاً . { إنه يعلم الجهر } يعني من القول والفعل . { وما يخفى } يعني منهما والمعنى ، أنه تعالى يعلم السر والعلانية . { ونيسرك لليسرى } أي نهون عليك أن تعمل خيراً ونسهله عليك حتى تعمله ، وقيل نوفقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية السمحة ، وقيل هو متصل بالكلام الأول ، والمعنى إنه يعلم الجهر مما تقرؤوه على جبريل إذا فرغ من التلاوة ، وما يخفى مما تقرؤه في نفسك مخافة النسيان ، ثم وعده فقال : ونيسرك لليسرى أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه ، ولا تنساه . { فذكر } أي فعظ بالقرآن . { إن نفعت الذكرى } أي مدة نفع الموعظة ، والتذكير ، والمعنى عظ أنت ، وذكر أن نفعت الذكرى ، أو لم تنفع ، إنما عليك البلاغ . { سيذكر من يخشى } أي سيتعظ من يخشى الله تعالى . { ويتجنبها } أي الذكرى ويتباعد عنها . { الأشقى } أي في علم الله تعالى ، { الذي يصلى النار الكبرى } أي النار العظيمة الفظيعة ، وقيل النار الكبرى هي نار الآخرة ، والنار الصغرى هي نار الدنيا { ثم لا يموت فيها } أي في النار فيستريح { ولا يحيى } أي حياة طيبة تنفعه .
قوله عزّ وجلّ : { قد أفلح من تزكى } أي تطهّر من الشرك وقال لا إله إلا الله قاله ابن عباس : وقيل قد أفلح من كان عمله زاكياً ، وقيل هو صدقة الفطر ، روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قوله : { قد أفلح من تزكى } قال : أعطى صدقة الفطر .(6/252)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
{ وذكر اسم ربه فصلى } قال : خرج إلى العيد فصلى وكان ابن مسعود يقول : رحم الله امرأ تصدق ثم صلى . ثم يقرأ هذه الآية وقال نافع : كان ابن عمر إذا صلى الغداة يعني يوم العيد قال : يا نافع أخرجت الصدقة ، فإن قلت نعم مضى إلى المصلى ، وإن قلت لا قال : فالآن فأخرج ، فإنما هذه الآية في هذا قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى .
فإن قلت فما وجه هذا التأويل ، وهذه السورة مكية ، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر .
قلت يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم ، كما قال : { وأنت حل بهذا البلد } وهذه السورة مكية ، وظهر أثر الحل يوم الفتح ، وكذا نزل بمكة { سيهزم الجمع ويولون الدبر } ، وكان ذلك يوم بدر . قال عمر بن الخطاب : كنت لا أدري أي جمع سيهزم ، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ، ويقول سيهزم الجمع ويولون الدبر .
ووجه آخر وهو أنه كان في علم الله تعالى أنه سيكون ذلك فأخبر عنه ، وقيل وذكر اسم ربه فصلى يعني الصلوات الخمس ، وقيل أراد بالذكر تكبيرات العيد ، وبالصلاة صلاة العيد .
قوله عزّ وجلّ : { بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى } يعني أن الدنيا فانية والآخرة باقية ، والباقي خير من الفاني ، وأنتم تؤثرون الفاني على الباقي قال عرفجة الأشج : كنا عند ابن مسعود فقرأ هذه الآية فقال لنا أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة . قلنا لا قال : لأن الدنيا حضرت ، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها ، وإن الآخرة تغيبت وزويت عنا فأحببنا العاجل ، وتركنا الآجل ، وقيل إن أريد بذلك الكفار ، فالمعنى أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة ، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، وإن أريد بذلك المسلمون بالمعنى يؤثرون الاستكثار من الدنيا على الثواب الذي يحصل في الآخرة ، وهو خير وأبقى . { إن هذا } أي الذي ذكر من قوله قد أفلح من تزكى إلى هنا ، وهو أربع آيات . { لفي الصحف الأولى } أي الكتب المتقدمة التي نزلت قبل القرآن ، ذكر في تلك الصحف فلاح من تزكى والمصلي وإيثار الدنيا وإن الآخرة خير وأبقى ثم بيّن ذلك فقال تعالى : { صحف إبراهيم وموسى } يعني أن هذا القدر المذكور في صحف إبراهيم وموسى ، وقيل إنّه مذكور في جميع صحف الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى لأن هذا القدر المذكور في هذه الآيات لا تختلف فيه شريعة ، بل جميع الشرائع متفقة عليه .
عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال « دخلت المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للمسجد تحية فقلت وما تحيته يا رسول الله ، قال : ركعتان تركعهما ، قلت يا رسول الله هل أنزل الله عليك شيئاً مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال : يا أبا ذر اقرأ { قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا ، والآخرة خير وأبقى ، إن هذا لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى } قلت يا رسول الله ، فما صحف موسى ، قال : كانت عبراً كلها : عجبت لمن أيقن بالموت ، كيف يفرح؟! عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك؟! عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن؟ عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب! عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل »(6/253)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)
قوله عزّ وجلّ : { هل أتاك } أي قد أتاك { حديث الغاشية } يعني القيامة ، سمِّيت غاشية لأنها تغشى كل شيء بأهوالها ، وقيل الغاشية النار ، سُمِّيت بذلك لأنها تغشى وجوه الكفار { وجوه يومئذ } يعني يوم القيامة { خاشعة } يعني ذليلة ، والمراد بالوجوه أصحابها فعبر بالجزء عن الكل ، ولأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان ، فعبر به عنه . { عاملة ناصبة } قال ابن عباس : يعني الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام من عبدة الأوثان وكفار أهل الكتاب ، مثل الرهبان وأصحاب الصوامع ، لا يقبل الله منهم اجتهاداً في ضلال بل يدخلون النار يوم القيامة . ومعنى النصب الدؤوب في العمل بالتعب . ( ق ) عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » ، وفي رواية « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » ، أما الرواية فإنها تختص بمن أحدث في دين الإسلام شيئاً ابتدعه من عنده فهو مردود عليه لا يقبل منه . وأما الرواية الثانية فإنها تشتمل على كل عامل في دين الإسلام ، أو غير دين الإسلام فإنه مردود عليه إذا لم يكن تابعاً لنبينا صلى الله عليه وسلم . وقيل في معنى الآية عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في الآخرة في النار . وقيل عاملة ناصبة في النار ، لأنها لم تعمل لله في الدنيا فأعملها وأنصبها في النار بمعالجة السلاسل والأغلال ، وهي رواية عن ابن عباس قال ابن مسعود : تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، وقيل يجرون على وجوههم في النار ، وقيل يكلفون ارتقاء جبل من حديد في النار وهو قوله تعالى : { تصلى ناراً حامية } قال ابن عباس : قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله عزّ وجلّ : { تسقى من عين آنية } أي متناهية في الحرارة قد أوقدت عليها جهنم مذ خلقت لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت فيدفعون إليها وروداً عطاشاً ، فهذا شرابهم ، ثم ذكر طعامهم فقال تعالى : { ليس لهم طعام إلا من ضريع } قيل هو نبت ذو شوك لاطئ بالأرض تسميه قريش الشبرق فإذا هاج سموه الضريع ، وهو أخبث طعام وأبشعه ، وهي رواية عن ابن عباس ، فإذا يبس لا تقربه دابة ، وقيل الضريع في الدنيا هو الشوك اليابس الذي له ورق ، وهو في الآخرة شوك من نار ، وجاء في الحديث عن ابن عباس يرفعه الضريع شيء في النار يشبه الشوك ، أمر من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأشد حراً من النار ، قال أبو الدرداء : إن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون فيعطشهم ألف سنة ثم يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة ، ولا مريئة ، فإذا أدنوه من وجوههم سلخ جلدة وجوههم ، وشواها ، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها فذلك قوله تعالى : { وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم } قال المفسرون فلما نزلت هذه الآية قال المشركون إن إبلنا لتسمن على الضريع وكذبوا في ذلك ، فإن الإبل إنما ترعاه رطباً فإذا يبس لا تأكله .(6/254)
لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
{ لا يسمن ولا يغني من جوع } يعني إن هذا الطعام لا تقدر البهائم على أكله فكيف يقدر الإنسان على أكله ، فهو إذاً لا يسمن ولا يغني من جوع .
فإن قلت قد ذكر الله تعالى في هذه الآية أنّه لا طعام لهم إلا من ضريع ، وذكر في موضع آخر أنه لا طعام لهم إلا من غسلين ، فكيف الجمع بينهما؟! .
قلت إن النار دركات فعلى قدر الذنوب تقع العقوبات ، فمنهم من طعامه الزقوم لا غير ، ومنهم من طعامه الضريع ، ومنهم من طعامه الغسلين .
ثم وصف أهل الجنة فقال تعالى : { وجوه يومئذ ناعمة } أي متنعّمة ذات بهجة وحسن ، ونعمة ، وكرامة { لسعيها راضية } أي لسعيها في الدنيا راضية في الآخرة حيث أعطيت الجنة بعملها . { في جنة عالية } قيل هو من العلو الذي هو الشرف ، وقيل من العلو في المكان ، وذلك لأن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض ، كل درجة كما بين السماء والأرض . { لا تسمع فيها لاغية } أي ليس فيها لغو ولا باطل . { فيها عين جارية } على وجه الأرض في غير أخدود ، وقيل تجري حيث أرادوا من منازلهم ، وقصورهم . { فيها سرر مرفوعة } قال ابن عباس : ألواحها من ذهب ، مكللة بالزبرجد ، والياقوت ، مرتفعة ما لم يجىء أهلها ، فإذا أراد أهلها الجلوس عليها تواضعت لهم حتى يجلسوا عليها ، ثم ترتفع إلى مواضعها { وأكواب } يعني الكيزان التي لا عرى لها . { موضوعة } يعني عندهم بين أيديهم ، وقيل موضوعة على حافات العين الجارية كلما أرادوا الشرب منها وجدوها مملوءة . { ونمارق مصفوفة } يعني وسائد ومرافق مصفوفة ، بعضها جنب بعض أينما أراد أن يجلس وليُّ الله جلس على واحدة ، واستند إلى الأخرى . { وزرابي } يعني البسط العريضة قال ابن عباس : هي الطنافس التي لها خمل ، واحدتها زربية { مبثوثة } أي مبسوطة ، وقيل متفرقة في المجالس .
قوله عزّ وجلّ : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } قال أهل التفسير لما نعت الله عزّ وجلّ ما في هذه السورة مما في الجنة عجب من ذلك أهل الكفر وكذبوه ، فذكرهم الله صنعه ، فقال : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإنما بدأ بالإبل لأنها من أنفس أموال العرب ، ولهم فيها منافع كثيرة والمعنى إن الذي صنع لهم هذا في الدنيا هو الذي صنع لأهل الجنة ما صنع؛ وتكلمت علماء التفسير في وجه تخصيص الإبل بالذكر من بين سائر الحيوانات ، فقال : مقاتل لأن العرب لم يروا بهيمة قط أعظم منها ، ولم يشاهد الفيل إلا النادر منهم ، وقال الكلبي لأنها تنهض بحملها وقد كانت باركة ، وقال قتادة : لما ذكر الله تعالى ارتفاع سرر الجنة وفرشها قالوا كيف نصعدها فأنزل الله تعالى هذه الآية .(6/255)
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
{ وإلى السماء كيف رفعت } يعني فوق الأرض بغير عمد ، ولا ينالها شيء . { وإلى الجبال كيف نصبت } أي على الأرض نصباً ثابتاً راسخاً لا يزول . { وإلى الأرض كيف سطحت } أي بسطت ، ومهدت بحيث يستقر على ظهرها كل شيء . قال ابن عباس : المعنى هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل ، أو يرفع مثل السماء أو ينصب مثل الجبال ، أو يسطح مثل الأرض غير الله القادر على كل شيء . ولما ذكر الله تعالى دلائل التوحيد ولم يعتبروا ولم يتفكروا فيها خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى { فذكر إنما أنت مذكر } أي فعظ إنما أنت واعظ { لست عليهم بمسيطر } أي بمسلط فتكرههم على الإيمان ، وهذه الآية منسوخة نسختها آية القتال . { إلا من تولى وكفر } استثناء منقطع عما قبله معناه لكن من تولى وكفر بعد التذكير { فيعذبه الله العذاب الأكبر } وهو أن يدخله النار ، وإنما قال : الأكبر لأنهم عذبوا في الدنيا بأنواع من العذاب مثل الجوع ، والقحط والقتل ، والأسر ، فكانت النار أكبر من هذا كله . { إن إلينا إيابهم } أي رجوعهم بعد الموت . { ثم إن علينا حسابهم } يعني جزاءهم بعد الرجوع إلينا ، والله أعلم .(6/256)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
قوله عزّ وجلّ : { والفجر } أقسم الله عزّ وجلّ بالفجر وما بعده لشرفها وما فيها من الفوائد الدينية وهي أنها دلائل باهرة ، وبراهين قاطعة ، على التوحيد ، وفيها من الفوائد الدنيوية أنها تبعث على الشكر .
واختلفوا في معاني هذه الألفاظ ، فروي عن ابن عباس ، أنه قال : الفجر هو انفجار الصبح في كل يوم ، أقسم الله تعالى به لما يحصل فيه من انقضاء الليل ، وظهور الضوء ، وانتشار الناس ، وسائر الحيوانات في طلب الأرزاق ، وذلك يشبه نشر الموتى من قبورهم للبعث . وعن ابن عباس أيضاً أنه صلاة الفجر ، والمعنى أنه أقسم بصلاة الفجر لأنها مفتتح النهار ، ولأنها مشهودة يشهدها ملائكة الليل ، وملائكة النهار ، وقيل إنه فجر معين .
واختلفوا فيه ، فقيل هو فجر أول يوم من المحرم ، لأن منه تنفجر السنة وقيل هو فجر ذي الحجة ، لأنه قرن به الليالي العشر ، وقيل هو فجر يوم النحر ، لأن فيه أكثر مناسك الحج ، وفيه القربات . { وليال عشر } قيل إنما نكرها لما فيها من الفضل ، والشرف الذي لا يحصل في غيرها . روي عن ابن عباس أنها العشر الأول من ذي الحجة لأنها أيام الاشتغال بأعمال الحج ، وأخرج الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله قال : « ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر » ، وذكر الحديث ، وروي عن ابن عباس قال : هي العشر الأواخر من رمضان ، لأن فيها ليلة القدر ، ولأن رسول الله كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان أحيا ليله ، وشد مئزره ، وأيقظ أهله ، يعني للعبادة؛ وقيل هي العشر الأول من المحرم ، وهو تنبيه على شرفه ، ولأن فيه يوم عاشوراء . { والشفع والوتر } قيل الشفع هو الخلق ، والوتر هو الله تعالى يروى ذلك عن أبي سعيد الخدري ، وقيل الشفع هو الخلق كالإيمان والكفر ، والهدى ، والضلالة ، والسعادة ، والشقاوة ، والليل ، والنهار ، والأرض ، والسماء ، والشمس ، والقمر ، والبر ، والبحر ، والنور ، والظلمة ، والجن ، والإنس . والوتر هو الله تعالى ، وقيل الخلق كله فيه شفع وفيه وتر . وقيل هما الصلوات منها شفع ومنها وتر عن عمران بن حصين رضي الله عنه « أن رسول الله سئل عن الشفع والوتر قال : هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر » أخرجه الترمذي . وقال : حديث غريب وعن ابن عباس قال : الشفع صلاة الغداة ، والوتر صلاة المغرب ، وعن عبد الله بن الزبير قال : الشفع النفر الأول ، والوتر النفر الأخير ، وروي أن رجلاً سأله عن الشفع ، والوتر ، والليالي العشر فقال : أما الشفع والوتر فقول الله عزّ وجلّ : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه } فهما الشفع والوتر ، وأما الليالي العشر فالثمان ، وعرفة والنحر ، وقيل الشفع الأيام ، والليالي؛ والوتر اليوم الذي لا ليلة معه ، وهو يوم القيامة ، وقيل الشفع درجات الجنة لأنها ثمان ، والوتر دركات النار لأنها سبع ، فكأنه أقسم بالجنة ، والنار . وقيل الشفع أوصاف المخلوقين المتضادة ، مثل العز ، والذل ، والقدرة ، والعجز ، والقوة ، والضعف ، والغنى ، والفقر ، والعلم ، والجهل ، والبصر ، والعمى ، والموت ، والحياة ، والوتر ، صفات الله تعالى التي تفرد بها عزّ بلا ذل ، وقدرة بلا عجز ، وقوة بلا ضعف ، وغنى بلا فقر ، وعلم بلا جهل ، وحياة بلا موت .(6/257)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
{ والليل إذا يسر } أي إذا سار وذهب ، وقيل إذا جاء ، وأقبل ، وأراد به كل ليلة ، وقيل هي ليلة المزدلفة ، وهي ليلة النحر التي يسار فيها من عرفات إلى مزدلفة فعلى هذا يكون المعنى واليل الذي يسار فيه . { هل في ذلك } أي فيما ذكرت { قسم } مقنع ومكتفي في القسم فهو استفهام بمعنى التأكيد . { لذي حجر } أي لذي عقل سمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عما لا يحل له ، ولا ينبغي كما سمي عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن القبائح ، وسمي نهيه لأنه ينهى عما لا يحل ، ولا ينبغي وأصل الحجر المنع ، ولا يقال ذو حجر إلا لمن هو قاهر لنفسه ضابط لها عما لا يليق ، كأنه حجر على نفسه ومنعها ما تريد ، والمعنى إن من كان ذا لب ، وعقل علم أن ما أقسم الله عزّ وجلّ به من هذه الأشياء فيه عجائب ، ودلائل تدل على توحيده ، وربوبيته . فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه . قيل جواب القسم قوله تعالى { إن ربك لبالمرصاد } واعترض بين القسم وجوابه قوله تعالى { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } ، وقيل جواب القسم محذوف وتقديره ورب هذه الأشياء ليعذبن الكافر يدل عليه قوله تعالى { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } ؟ إلى قوله { فصب عليهم ربك سوط عذاب } وقوله عزّ وجلّ { ألم تر كيف فعل ربك } ؟ أي ألم تعلم وإنما أطلق لفظ الرؤية على العلم لأن أخبار عاد وثمود وفرعون كانت معلومة عندهم .
وقوله : { ألم تر } خطاب للنبي ولكنه عام لكل أحد . { كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد } المقصود من ذلك تخويف أهل مكة وكيف أهلكهم وهم كانوا أطول أعماراً ، وأشد قوة ، من هؤلاء فأما عاد فهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح ، ومنهم من يجعل عاداً اسماً للقبيلة لقوله تعالى : { وإنه أهلك عاداً الأولى } وإرم هو جد عاد على ما ذكر في نسبه عاد . وقيل إن المتقدمين من قوم عاد كانوا يسمون بإرم اسم جدهم . وقيل إرم هم قبيلة من عاد ، وكان فيهم الملك ، وكانوا بمهرة اسم موضع باليمن وكان عاد أباهم فنسبوا إليه وهو إرم بن عاد بن شيم بن سام بن نوح؛ وقال الكلبي : إرم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود أهل السواد ، وأهل الجزيرة ، وكان يقال عاد إرم وثمود إرم فأهلك عاد وثمود ، وأبقى أهل السواد ، وأهل الجزيرة؛ وقال سعيد بن المسيب : إرم ذات العماد دمشق وقيل الإسكندرية ، وفيه ضعف لأن منازل عاد كانت من عمان إلى حضرموت ، وهي بلاد الرمال والأحقاف . وقيل إن عاداً كانوا أهل عمد وخيام وماشية سيارة في الربيع فإذا هاج العود ويبس رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا أهل جنان وزروع ومنازلهم بوادي القرى ، وهي التي قال الله تعالى : { التي لم يخلق مثلها في البلاد } وسموا ذات العماد لأنهم كانوا أهل عمد سيارة ، وهو قول قتادة ومجاهد والكلبي ، ورواية ابن عباس .(6/258)
وقيل سموا ذات العماد لطول قامتهم يعني طولهم ، مثل العماد في الشبه ، قال مقاتل : كان طول أحدهم اثني عشر ذراعاً ، وقوله { التي لم يخلق مثلها في البلاد } يعني لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول ، والقوة ، وهم الذين قالوا { من أشد منا قوة } وقيل سموا ذات العماد لبناء بناه بعضهم ، فشيد عمده ورفع بناءه ، وقيل كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا بعده ، وقهرا البلاد والعباد فمات شديد وخلص الملك لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها وكان يحب قراءة الكتب القديمة فسمع بذكر الجنة وصفتها فدعته نفسه إلى بناء مثلها عتواً على الله وتجبراً؛ روى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فبينما هو يسير في صحارى عدن إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن وحول الحصن قصور كثيرة فلما دنا منها ظن أن فيها أحداً يسأله عن إبله فلم ير خارجاً ولا داخلاً فنزل عن دابته وعقلها ، وسل سيفه ودخل من باب المدينة فإذا هو ببابين عظيمين وهما مرصعان بالياقوت الأحمر فلما رأى ذلك دهش ، ففتح الباب ودخل ، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها ، وإذا فيها قصور في كل قصر منها غرف ، وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب ، والفضة ، وأحجار اللؤلؤ والياقوت؛ وإذا أبواب تلك القصور مثل مصاريع باب المدينة يقابل بعضها بعضاً وهي مفروشة كلها باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران ، فلما عاين ذلك ولم ير أحداً هاله ذلك ثم نظر إلى الأزقة فإذا في تلك الأزقة أشجار مثمرة ، وتحت تلك الأشجار أنهار مطردة يجري ماؤها في قنوات من فضة فقال الرجل في نفسه هذه الجنة وحمل معه من لؤلؤ ترابها ومن بنادق مسكها وزعفرانها ، ورجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وحدّث بما رأى فبلغ ذلك معاوية ، فأرسل إليه فقدم عليه فسأله عن ذلك فقص عليه ما رأى فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار فلما أتاه قال له : يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة قال نعم هي إرم ذات العماد بناها شداد بن عاد قال : فحدثني حديثها فقال لما أراد شداد بن عاد عملها أمر عليها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان ، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدوه بما في بلادهم من الجواهر فخرجت القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضاً موافقة فوقفوا على صحراء نقية من التلال وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا هذه الأرض التي أمر الملك أن نبني فيها فوضعوا أساسها من الجزع اليماني ، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة ، وكان عمر شداد تسعمائة سنة فلما أتوه وقد فرغوا منها قال : انطلقوا فاجعلوا حصناً يعني سوراً واجعلوا حوله ألف قصر وعند كل قصر ألف علم ليكون في كل قصر وزير من وزرائي ففعلوا وأمر الملك وزراءه وهم ألف وزير أن يتهيؤا للنقلة إلى إرم ذات العماد ، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين ثم ساروا إليها فلما كانوا من المدينة على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعاً ، ولم يبق منهم أحد ثم قال كعب : وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال ، وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر عبد الله بن قلابة فقال : هذا والله ذلك الرجل .(6/259)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
قوله عزّ وجلّ : { وثمود } أي وفعل بثمود مثل ما فعل بعاد { الذين جابوا } أي قطعوا { الصخر } أي الحجر { بالواد } يعني بوادي القرى وكانت ثمود أول من قطّع الصخر ونحته واتخذوا مساكن في الجبال وبيوتاً . { وفرعون ذي الأوتاد } سمي بذلك لكثرة جنوده وكثرة مضاربهم وخيامهم التي كانوا يضربونها ، إذا نزلوا ، وقيل معناه ذي الملك كما قيل في ظل ملك راسخ الأوتاد .
وقيل سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس أن فرعون إنما سمي ذا الأوتاد لأنه كانت عنده امرأة مؤمنة وهي امرأة خازنة حزقيل وكان مؤمناً كتم إيمانه مائة سنة وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت تعس من كفر بالله فقالت بنت فرعون وهل لك من إله غير أبي فقالت إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فقامت ودخلت على أبيها وهي تبكي فقال لها ما يبكيك قالت الماشطة امرأة خازنك تزعم أن إلهك وإلهنا وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فأرسل إليها فسألها عن ذلك فقالت صدقت فقال لها : ويحك اكفري بإلهك وقري أني إلهك قالت لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب وقال لها : اكفري بالله وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين فقالت لو عذبتني سبعين شهراً ما كفرت بالله وكان لها ابنتان فجاء فابنتها الكبرى فذبحها على قلبها ثم قال اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على فيك وكانت رضيعاً فقالت لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت بالله عزّ وجلّ فأتى بابنتها فلما اضطجعت على صدرها وأراد ذبحها جزعت المرأة فأطلق الله لسان ابنتها فتكلمت وهي من الأربعة الذين تكلموا في المهد صغاراً أطفالاً وقالت يا أماه لا تجزعي فإن الله قد بنى لك بيتاً في الجنة فاصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله وكرامته فذبحت فلم تلبث الأم أن ماتت فأسكنها الله الجنة قال : وبعث في طلب زوجها حزقيل فلم يقدروا عليه فقيل لفرعون إنه قد رؤي في موضع كذا في جبل كذا فبعث رجلين في طلبه فانتهى إليه الرجلان ، وهو يصلي وثلاثة صفوف من الوحش خلفه يصلون فلما رأوا ذلك انصرفوا فقال ، حزقيل : اللّهم إنك تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر عليّ أحد فأيما هذين الرجلين كتم عليّ فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سؤاله وأيما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجل عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملأ فقال له فرعون وهل معك غيرك قال نعم فلان فدعا به فقال أحق ما يقول هذا قال ما رأيت مما يقول شيئاً فأعطاه فرعون وأجزل وأما الآخر فقتله ثم صلبه قال : وكان فرعون قد تزوج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم ، فرأت ما صنع فرعون بالماشطة ، فقالت وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي فرعون وأنا مسلمة وفرعون كافر؟ فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها ، فقالت يا فرعون أنت أشر الخلق وأخبثهم ، عمدت إلى الماشطة فقتلتها قال فلعل بك الجنون الذي كان بها ، قالت : ما بي جنون وإن إلهها وإلهك وإلهي وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فبصق عليها وضربها ، وأرسل إلى أبيها وأمها فدعاهما وقال لهما : إن الجنون الذي كان بالماشطة أصابها ، قالت : أعوذ بالله من ذلك ، إني أشهد أن ربي وربك ورب السموات والأرض واحد لا شريك له ، فقال لها أبوها : يا آسية ألست من خير نساء العماليق ، وزوجك إله العماليق قالت : أعوذ بالله من ذلك إن كان ما يقول حقاً فقولا له أي يتوجني تاجاً تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله .(6/260)