وأما إذا كان جبريل إنما يفعل أمره الله به والله سبحانه وتعالى هو الذي منع فرعون من الإيمان وجبريل منفذ لأمر الله فكيف لا يجوز له منع من منعه الله من التوبة وكيف يجب عليه إعانة من لم يعنه الله بل قد حكم عليه وأخبر عنه أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم حين لا ينفعه الإيمان .
وقد يقال : إن جبريل عليه السلام إما أن يتصرف بأمر الله فلا يفعل إلا ما أمر الله به وإما أن يفعل ما يشاء من تلقاء نفسه لا بأمر الله وعلى هذين التقديرين فلا يجب عليه إعانة فرعون على التوبة ولا يحرم عليه منعه منها لأنه إنما يجب عليه فعل ما أمر به ويحرم عليه فعل ما نهي عنه والله سبحانه وتعالى لم يخبر أنه أمره بإعانة فرعون ولا حرم عليه منعه من التوبة وليست الملائكة مكلفين كتكليفنا .
وقوله وإن كان التكليف زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى هذا الذي نسب إلى جبريل فائدة فجوابه أن يقال إن للناس في تعليل أفعال الله قولين أحدهما أن أفعاله لا تعلل وعلى هذا التقدير فلا يريد هذا السؤال أصلاً وقد زال الإشكال .
والقول الثاني : إن أفعاله تبارك وتعالى لها غاية بحسب المصالح لأجلها فعلها وكذا أوامره ونواهيه لها غاية محمودة محبوبة لأجلها أمر بها ونهى عنها وعلى هذا التقدير قد يقال لما قال فرعون آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وقد علم جبريل أنه ممن حقت عليه كلمة العذاب وأن إيمانه لا ينفعه دس الطين في فيه لتحقق معاينته للموت فلا تكون تلك الكلمة نافعة له وأنه وإن كان قالها في وقت لا ينفعه فدس الطين في فيه تحقيقاً لهذا المنع والفائدة فيه تعجيل ما قد قضي عليه وسد الباب عند سداً محماً بحيث لا يبقى للرحمة فيه منفذ ولا يبقى من عمره زمن يتسع للإيمان فإن موسى عليه السلام لما دعا ربه بأن فرعون لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم والإيمان عند رؤية العذاب غير نافع أجاب الله دعاءه .
فلما قال فرعون تلك الكلمة عند معاينة الغرق استعجل جبريل فدس الطين في فيه لييأس من الحياة ولا تنفعه تلك الكلمة وتحقق إجابة الدعوة التي وعد الله موسى بقوله قد أجيبت دعوتكما فيكون سعي جبريل في تكميل ما سبق في حكم الله أنه يفعله فيكون سعي جبريل في مرضاة الله سبحانه وتعالى منفذاً لما أمره به وقدره وقضاه على فرعون .
وأما قوله : لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر ، فجوابه ما تقدم من أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وجبريل إنما يتصرف بأمر الله ولا يفعل إلا ما أمره الله به وإذا كان جبريل قد فعل ما أمره الله به ونفذه فإنما رضي بالأمر لا بالمأمور به فأي كفر يكون هنا وأيضاً فإن الرضا بالكفر إنما يكون كفراً في حقنا لأنا مأمورون بإزالته بحسب الإمكان فإذا أقررنا الكافر على كفره ورضينا به كان كفراً في حقنا لمخالفتنا ما أمرنا به .(3/424)
وأما من ليس مأموراً كأمرنا ولا مكلفاً كتكليفنا بل يفعل ما يأمره به ربه فإنه إذا نفذ ما أمره به لم يكن راضياً بالكفر ولا يكون كفراً في حقه وعلى هذا التقدير فإن جبريل لما دس الطين في في فرعون كان ساخطاً لكفره غير راض به والله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد خيرها وشرها وهو غير راض بالكفر فغاية أمر جبريل مع فرعون أن يكون منفذاً لقضاء الله وقدره في فرعون من الكفر وهو ساخط له غير راض به وقوله كيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل بأن يمنعه من الإيمان فجوابه أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وأما قوله وإن قيل إن جبريل إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله فجوابه أنه إنما فعل ذلك بأمر الله منفذاً لأمر الله والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .
قوله سبحانه وتعالى : { فاليوم ننجيك ببدنك } أي نلقيك على نجوة من الأرض وهي المكان المرتفع .
قال أهل التفسير : لما أغرق الله سبحانه وتعالى فرعون وقومه أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه فقالت بنو إسرائيل ما مات فرعون وإنما قالوا ذلك لعظمته عندهم وما حصل في قلوبهم من الرعب لأجله فأمر الله عز وجل البحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصيراً كأنه ثور فرآه بنو إٍسرائيل فعرفوه فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتاً أبداً ، ومعنى قوله ببدنك يعني نلقيك وأنت جسد لا روح فيه وقيل هذا الخطاب على سبيل التهكم والاستهزاء كأنه قيل له ننجيك ولكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك .
وقيل : أراد بالبدن الدرع وكان لفرعون درع من ذهب مرصع بالجواهر ، يعرف به فلما رأوه في درعه ذلك عرفوه { لتكون لمن خلفك آية } يعني عبرة وموعظة ، وذلك أنهم ادعوا أن مثل فرعون لا يموت أبداً فأظهره الله لهم حتى يشاهدوه وهو ميت لتزول الشبهة من قلوبهم ويعتبروا به لأنه كان في غاية العظمة فصار إلى نهاية الخسة والذلة ملقى على الأرض لا يهابه أحد { وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون } قوله عز وجل : { ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق } يعني أسكناهم مكان صدق وأنزلناهم منزل صدق بعد خروجهم من البحر وإغراق عدوهم فرعون .(3/425)
والمعنى : أنزلناهم منزلاً محموداً صالحاً وإنما وصف المكان بالصدق لأن عادة العرب إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق تقول العرب : هذا رجل صدق وقدم صدق والسبب فيه أن الشيء إذا كان كاملاً صالحاً ، لا بد أن يصدق الظن فيه وفي المراد بالمكان الذي بوءوا قولان أحدهما أنه مصر فيكون المراد : إن الله أورث بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه من ناطق وصامت وزرع وغيره .
والقول الثاني : إنه أرض الشام والقدس والأردن لأنها بلاد الخصب والخير والبركة { ورزقناهم من الطيبات } يعني تلك المنافع والخيرات التي رزقهم الله تعالى : { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } يعني فما اختلف هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل حتى جاءهم ما كانوا به عالمين وذلك أنهم كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مقرين به مجمعين على نبوته غير مختلفين فيه لما يجدونه مكتوباً عندهم فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيه فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وكفر به بعضهم بغياً وحسداً .
فعلى هذا المعنى يكون المراد من العلم المعلوم والمعنى فما اختلفوا حتى جاءهم المعلوم الذي كانوا يعلمونه حقاً فوضع العلم مكان العلوم وقيل المراد من العلم القرآن النازل على محمد صلى الله عليه وسلم وإنما سماه علماً لأنه سبب العلم وتسمية السبب بالمسبب مجاز مشهور وفي كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان :
الأول : أن اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته ويفتخرون بذلك على المشركين ، فلما بعث كذبوه بغياً وحسداً وإيثاراً لبقاء الرياسة لهم فآمن به طائفة قليلة وكفر به غالبهم .
والوجه الثاني : أن اليهود كانوا على دين واحد قبل نزول القرآن فلما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم آمن به طائفة وكفر به آخرون .
وقوله تعالى : { إن ربك } يعني يا محمد { يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } يعني من أمرك وأمر نبوتك في الدنيا فيدخل من آمن بك الجنة ومن كفر بك وجحد نبوتك النار .(3/426)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
{ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } الشك في موضع اللغة خلاف اليقين والشك اعتدال النقيضين عند الإنسان لوجود أمارتين أو لعدم الأمارة والشك ضرب من الجهل وهو أخص منه فكل شك جهل وليس كل جهل شكاً فإذا قيل فلان شك في هذا الأمر فمعناه توقف فيه حتى يتبين له فيه الصواب أو خلافه وظاهر هذا الخطاب في قوله فإن كنت في شك أنه للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى فإن كنت يا محمد في شك مما أنزلنا إليك يعني من حقيقة ما أخبرناك به وأنزلناه يعني القرآن { فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } يعني علماء أهل الكتاب يخبرونك أنك مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وأنك نبي يعرفونك بصفتك عندهم وقد توجه هاهنا سؤال واعتراض وهو أن يقال هل شك النبي صلى الله عليه وسلم فيما أنزل عليه أو في نبوته حتى يسأل أهل الكتاب عن ذلك وإذا كان شاكاً في نبوة نفسه كان غيره أولى بالشك منه .
قلت : الجواب عن هذا السؤال والاعتراض ما قاله القاضي عياض في كتابه الشفاء فإنه أورد هذا السؤال ، ثم قال : احذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره فيه بعض المفسرين عن ابن عباس أو غيره من إثبات شك النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه فإنه من البشر فمثل هذا لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم جملة بل قال ابن عباس : لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل . ونحوه عن سعيد بن جبير والحسن البصري . وحكي عن قتادة أنه قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « ما أشك ولا أسأل » وعامة المفسرين على هذا ، ثم كلام القاضي عياض رحمه الله ثم اختلفوا في معنى الآية ومن المخاطب بهذا الخطاب على قولين أحدهما أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر والمراد به غيره فهو كقوله لئن أشركت ليحبطن عملك ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرك فثبت أن المراد به غيره ومن أمثلة العرب :
إياك أعني واسمعي يا جارة . فعلى هذا يكون معنى الآية قل يا محمد ، يا أيها الإنسان الشاك إن كنت في شك مما أنزلنا إليك على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم فاسأل الذين يقرؤون الكتاب يخبروك بصحته ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في آخر هذه السورة قل يا أيها الناس إن كنتم في شك في ديني الآية فبين أن المذكور في هذه الآية على سبيل الرمز وهو المذكور في تلك الآية على سبيل التصريح وأيضاً لو كان النبي صلى الله عليه وسلم شاكاً في بنوته لكان غيره أولى بالشك في نبوته وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية معاذ الله من ذلك وقيل إن الله سبحانه وتعالى علم أن النبي لم يشك قط فيكون المراد بهذا التهييج فإنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع هذا الكلام يقول(3/427)
« لا أشك يا رب ولا أسأل أهل الكتاب بل أكتفي بما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة » وقال الزجاج : إن الله خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله فإن كنت في شك وهو شامل للخلق فهو كقوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وهذا وجه حسن لكن فيه بعد وهو أن يقال متى كان الرسول صلى الله عليه وسلم داخلاً في هذا الخطاب كان الاعتراض موجوداً والسؤال وارداً ، وقيل : إن لفظة إن في قوله فإن كنت في شك للنفي ومعناه وما أنت في شك مما أنزلنا إليك حتى تسأل فلا تسأل ولئن سألت لازددت يقيناً .
والقول الثاني : إن هذا الخطاب ليس هو للنبي صلى الله عليه وسلم البتة ووجه هذا القول إن الناس كانوا في زمنه على ثلاث فرق فرقة له مصدقون وبه مؤمنون وفرقة على الضد من ذلك والفرقة الثالثة المتوقفون في أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله عز وجل بهذا الخطاب ، فقال : تمجد وتعالى : فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فاسأل أهل الكتاب ليلوك على صحة نبوته وإنما وحد الله الضمير في قوله فإن كنت وهو يريد الجمع لأنه خطاب لجنس الإنسان كما في قوله تعالى : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } لم يرد في الآية إنساناً بعينه بل أراد الجمع واختلفوا في المسؤول عنه في قوله تعالى : { فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك } من هم فقال المحققون من أهل التفسير : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه لأنهم هم الموثوق بأخبارهم .
وقيل : المراد كل أهل الكتاب سواء مؤمنهم وكافرهم لأن المقصود من هذا السؤال الإخبار بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو أنه مكتوب عندهم صفته ونعته فإذا أخبروا بذلك فقد حصل المقصود والأول أصح . وقال الضحاك يعني أهل التقوى وأهل الإيمان من أهل الكتاب ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم { لقد جاءك الحق من ربك } هذا كلام مبتدأ منقطع عما قبله وفيه معنى القسم تقديره أسقم لقد جاءك الحق اليقين من الخير بأنك رسول الله حقاً وأن أهل الكتاب يعلمون صحة ذلك { فلا تكونن من الممترين } يعني من الشاكين في صحة ما أنزلنا إليك { ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله } يعني بدلائله وبراهينه الواضحة { فتكون من الخاسرين } يعني الذين خسروا أنفسهم .(3/428)
واعلم أن هذا كله على ما تقدم من أن ظاهره خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره ممن عنده شك وارتياب فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يرتب ولم يكذب بآيات الله فثبت بهذا أن المراد به غيره والله أعلم .
قوله سبحانه وتعالى { إن الذين حقت عليهم } يعني وجبت عليهم { كلمة ربك } يعني حكم ربك وهو قوله سبحانه وتعالى : وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي وقال قتادة : سخط ربك وقيل لعنة ربك وقيل هو ما قدره عليهم وقضاه في الأزل { لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية } فإنهم لا يؤمنون بها { حتى يروا العذاب الأليم } فحينئذ لا ينفعهم شيء قوله سبحانه وتعالى : { فلولا } يعني فهلا { كانت قرية } وقيل معناه فما كانت قرية وقيل لم تكن قرية لأن في الاستفهام معنى الحجة والمراد هل كانت قرية { آمنت } يعني عند معاينة العذاب { فنفعها إيمانها } يعني في حال اليأس { إلا قوم يونس } هذا استثناء منقطع يعني لكن قوم يونس فإنهم آمنوا فنفعهم إيمانهم في ذلك الوقت وهو قوله { لما آمنوا } يعني لما أخلصوا الإيمان { كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } يعني إلى وقت انقضاء آجالهم واختلفوا في قوم يونس هل رأوا العذاب عياناً أم لا فقال بعضهم رأوا دليل العذاب فآمنوا؛ وقال الأكثرون إنهم رأوا العذاب عياناً بدليل قوله كشفنا عنهم عذاب الخزي والكشف لا يكون إلا بعد الوقوع أو إذا قرب وقوعه .
( ذكر القصة في ذلك )
على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ووهب وغيرهم قالوا : إن قوم يونس كانوا بقرية نينوى من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فأرسل الله سبحانه وتعالى إليهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأصنام فدعاهم فأبوا عليه فقيل له أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فأخبرهم بذلك فقالوا إنا لم نجرب عليه كذباً قط فانظروا فإن بات فيكم الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم فلما كلان جوف الليل خرج يونس من بين أظهرهم فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم . قال ابن عباس : إن العذاب كان أهبط على قوم يونس حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل فلما دعوا كشف الله عنهم ذلك .
وقال مقاتل : قدر ميل ، وقال سعيد بن جبير : غشي قوم يونس العذاب كما يغشى الثوب القبر ، وقال وهب : غامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً فهبط حتى غشي مدينتهم واسودت أسطحتهم فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيهم يونس عليه السلام فلم يجدوه فقذف الله سبحانه وتعالى في قلوبهم فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم فلبسوا المسموح وأظهروا الإسلام والتوبة وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والدواب فحن البعض إلى البعض فحن الأولاد إلى الأمهات والأمهات إلى الأولاد وعلت الأصوات وعجوا جميعاً إلى الله وتضرعوا إليه وقالوا آمنا بما جاء به يونس وتابوا إلى الله وأخلصوا النية فرحمهم ربهم فاستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب بعد ما أظلهم وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة .(3/429)
قال ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم فيما بينهم حتى أن كان الرجل ليأتي إلى الجر وقد وضع أساس بنيانه عليه فيقلعه فيرده .
وروى الطبري بسنده عن أبي الجلد خيلان قال : لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى قال قالوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوها فكشف الله عنهم العذاب ومتعوا إلى حين .
وقال الفضيل بن عياض : إنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله ، قال : وخرج يونس وجعل ينتظر العذاب فلم ير شيئاً فقيل له ارجع إلى قومك قال وكيف أرجع إليهم فيجدوني كذاباً وكان من كذب ولا بينة له قال فانصرف عنهم مغاضباً فالتقمه الحوت وستأتي القصة في سورة والصافات إن شاء الله تعالى فإن قلت كيف كشف العذاب عن قوم يونس بعد ما نزل بهم وقبل توبتهم ولم يكشف العذاب عن فرعون حين آمن ولم يقبل توبته .
قلت : أجاب العلماء عن هذا بأجوبة :
أحدهما : أن ذلك كان خاصاً بقوم يونس والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
الجواب الثاني : أن فرعون ما آمن إلا بعد ما باشر العذاب وهو وقت اليأس من الحياة وقوم يونس دننا منم العذاب ولم ينزل بهم ولم يباشرهم فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية .
الجواب الثالث : أن الله عز وجل علم صدق نياتهم في التوبة فقبل توبتهم بخلاف فرعون فإنه ما صدق في إيمانهم ولا أخلص فلم يقبل منه إيمانه والله أعلم .(3/430)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
قوله سبحانه وتعالى : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } يقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم لآمن بك وصدقك من في الأرض كلهم جميعاً ولكن لم يشأ أن يصدقك ويؤمن بك إلا من سبقت له السعادة في الأزل قال ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن به جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله عز وجل أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له من السعادة في الذكر الأول ولم يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان حريصاً على إيمانهم كلهم فأخبره الله أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له العناية الأزلية فلا تتعب نفسك على إيمانهم وهو قوله سبحانه وتعالى : { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } يعني ليس إيمانهم إليك حتى تكرههم عليه أو تحرص عليه إنما إيمان المؤمن وإضلال الكافر بمشيئتنا وقضائنا وقدرنا ليس ذلك لأحد سوانا { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } يعني وما كان ينبغي لنفس خلقها الله تعالى أن تؤمن وتصدق إلا بقضاء الله لها بالإيمان فإن هدايتها إلى الله وهو الهادي المضل .
وقال ابن عباس : معنى بإذن الله ، بأمر الله وقال عطاء : بمشيئة الله قوله تعالى : { ويجعل } قرئ بالنون على سبيل التعظيم أي ونجعل نحن وقرئ بالياء ومعناه ويجعل الله { الرجس } يعني العذاب ، وقال ابن عباس : يعني السخط { على الذين لا يعقلون } يعني لا يفهمون عن الله أمره ونهيه .
قوله عز وجل : { قل انظروا } أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يسألونك الآيات انظروا يعني انظروا بقلوبكم نظر اعتبار وتفكر وتدبر { ماذا في السموات والأرض } يعني : ماذا خلق الله في السموات والأرض من الآيات الدالة على وحدانيته ففي السموات الشمس والقمر وهما دليلان على النهار والليل والنجوم سخرها طالعة وغاربة وإنزال المطر من السماء وفي الأرض الجبال والبحار والمعادن والأنهار والأشجار والنبات كل ذلك آية دالة على وحدانية الله تعالى وأنه خالقها كما قال الشاعر :
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
{ وما تغني الآيات والنذر } يعني الرسل { عن قوم لا يؤمنون } وهذا في حق أقوام علم الله أنهم لا يؤمنون لما سبق لهم في الأزل من الشقاء .(3/431)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
{ فهل ينتظرون } يعني مشركي مكة { إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } يعني من مضى من قبلهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل قال قتادة يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود .
والعرب تسمي العذاب أياماً والنعم أياماً كقوله تعالى وذكرهم بأيام الله والمعنى فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلا يوماً يعاينون فيه العذاب مثل ما فعلنا بالأمم السالفة المكذبة أهلكناهم جميعاً فإن كانوا ينتظرون ذلك العذاب ف { قل فانتظروا } يعني : قل لهم يا محمد فانتظروا العذاب { إني معكم من المنتظرين } يعني : هلاككم ، قال الربيع بن أنس : خوفهم عذابه ونقمته ثم أخبرهم أنه إذا وقع ذلك بهم أنجى الله رسله والذين آمنوا معهم من ذلك العذاب وهو قوله تعالى : { ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا } يعني من العذاب والهلاك { كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين } يعني كما أنجينا رسلنا ، والذين آمنوا معهم من الهلاك كذلك ننجيك يا محمد والذين آمنوا معك وصدقوك من الهلاك والعذاب .
قال بعض المتكلمين : المراد بقوله حقاً علينا الوجوب لأن تخليص الرسول والمؤمنين من العذاب واجب وأجيب عن هذا بأنه حق واجب من حيث الوعد والحكم لا أنه واجب بسبب الاستحقاق لأنه قد ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئاً .
قوله سبحانه وتعالى : { قل يا أيها الناس } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي قل يا محمد لهؤلاء الذين أرسلتك إليهم فشكوا في أمرك ولم يؤمنوا بك { إن كنتم في شك من ديني } يعني الذي أدعوكم إليه وإنما حصل الشك لبعضهم في أمره صلى الله عليه وسلم لما رأى الآيات التي كانت تظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم فحصل له الاضطراب والشك فقال إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه لأنه دين إبراهيم عليه السلام وأنتم من ذريته وتعرفونه ولا تشكون فيه وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في عبادتكم لهذا الأصنام التي لا أصل لها البتة فإن أصررتم على ما أنتم عليه { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } يعني هذه الأوثان وإنما وجب تقديم هذا النفي لأن العبادة هي غاية التعظيم للمعبود فلا تليق لأخس الأشياء وهي الحجارة التي لا تنفع لمن عبدها ولا تضر لمن تركها ولكن تليق العبادة لمن بيده النفع والضر وهو قادر على الإماتة والإحياء وهو قوله سبحانه وتعالى : { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } والحكمة في وصف الله سبحانه وتعالى في هذا المقام بهذه الصفة أن المراد أن الذي يستحق العبادة أعبده أنا وأنتم هو الذي خلقكم أولاً ولم تكونوا شيئاً ثم يميتكم ثانياً ثم يحييكم بعد الموت ثالثاً ، فاكتفى بذكر الوفاة تنبيهاً على الباقي ، وقيل : لما كان الموت أشد الأشياء على النفس ذكر في هذا المقام ليكون أقوى في الزجر والردع وقيل إنهم لما استعجلوا بطلب العذاب أجابهم بقوله ولكن أعبد الله الذي هو قادر على إهلاككم ونصري عليكم { وأمرت أن أكون من المؤمنين } يعني وأمرني ربي أن أكون من المصدقين بما جاء من عنده قيل لما ذكر العبادة وهي من أعمال الجوارح أتبعها بذكر الإيمان لأنه من أعمال القلوب { وأن أقم وجهك للدين حنيفاً } الواو في قوله وأن أقم واو عطف معناه وأمرت أن أقيم وجهي يعني أقم نفسك على دين الإسلام حنيفاً يعني مستقيماً عليه غير معوج عنه إلى دين آخر ، وقيل معناه أقم عملك على الدين الحنيفي وقيل أراد بقوله وأن أقم وجهك للدين صرف نفسه بكليته إلى طلب الدين الحنيفي غير مائل عنه { ولا تكونن من المشركين } يعني ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه غيره فيهلك وقيل إن النهي عن عبادة الأوثان قد تقدم في الآية المتقدمة فوجب حمل هذا النهي على معنى زائد وهو أن من عرف الله عز وجل وعرف جميع أسمائه وصفاته وأنه المستحق للعبادة لا غيره فلا ينبغي له أن يلتفت إلى غيره بالكلية وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشكر الخفي { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك } يعني إن عبدته ودعوته { ولا يضرك } يعني إن تركت عبادته { فإن فعلت } يعني ما نهيتك عنه فعبدت غيري أو طلبت النفع ودفع الضر من غيري { فإنك إذاً من الظالمين } يعني لنفسك لأنك وضعت العبادة في غير موضعها وهذا الخطاب وإن كان في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد به غيره لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدع من دون الله شيئاً البتة فيكون المعنى ولا تدع أيها الإنسان من دون الله ما لا ينفعك ، الآية .(3/432)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
قوله تعالى : { وإن يمسسك الله بضر } يعني وإن يصبك الله بشدة وبلاء { فلا كاشف له } يعني لذلك الضر الي أنزل بك { إلا هو } لا غيره { وإن يردك بخير } يعني بسعة ورخاء { فلا راد لفضله } يعين فلا دافع لرزقه { يصيب به } يعني : بكل واحد من الضر والخير { من يشاء من عباده } قيل إن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأوثان وبين أنها لا تقدر على نفع ولا ضر بين تعالى أنه هو القادر على ذلك كله ، وأن جميع الكائنات محتاجة إليه وجميع الممكنات مستندة إليه لأنه هو القادر على كل شيء وأنه ذو الجود والكرم والرحمة ولهذا المعنى ختم الآية بقوله { وهو الغفور الرحيم } وفي الآية لطيفة أخرى وهي أن الله سبحانه وتعالى رجح جانب الخير على جانب الشر وذلك أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو وذلك يدل على أنه سبحانه وتعالى يزيل جميع المضار ويكشفها لأن الاستثناء من النفي إثبات .
ولما ذكر الخير قال فيه فلا راد لفضله يعني أن جميع الخيرات منه فلا يقدر أحد على ردها لأنه هو الذي يفيض جميع الخيرات على عباده وعضده بقوله وهو الغفور يعني الساتر لذنوب عباده الرحيم يعني بهم .
قوله سبحانه وتعالى : { قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم } يعني القرآن والإسلام وقيل الحق هو محمد صلى الله عليه وسلم جاء بالحق من الله عز وجل { فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } لأن نفع ذلك يرجع إليه { ومن ضل فإنما يضل عليها } أي على نفسه لأن وباله راجع إليه فمن حكم الله له بالاهتداء في الأزل انتفع ومن حكم عليه بالضلالة ضل ولم ينتفع بشيء أبداً { وما أنا عليكم بوكيل } يعني وما أنا عليكم بحفيظ أحفظ عليكم أعمالكم وقال ابن عباس : هذه الآية منسوخة بآية السيف { واتبع ما يوحى إليك } يعني الأمر الذي يوحيه الله إليك يا محمد { واصبر } يعني على أذى من خالفك من كفار مكة وهم قومك { حتى يحكم الله } يعني ينصرك عليهم بإظهار دينك { وهو خير الحاكمين } يعني أنه سبحانه وتعالى حكم بنصر نبيه وإظهار دينه وبقتل المشركين وأخذ الجزية من أهل الكتاب ، وفيه ذلهم وصغارهم والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه .(3/433)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
قوله عز وجل : { الر كتاب أحكمت آياته } قال ابن عباس : لم ينسخها كتاب كما نسخت هي الكتب والشرائع { ثم فصلت } يعني بينت وقال الحسن : أحكمت آياته بالآمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب وفي رواية عنه بالعكس ، قال : أحكمت بالثواب والعقاب وفصلت بالأمر والنهي ، وقال قتادة : أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بعلمه فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته فيها وقيل : أحكمها الله فليس فيها تناقض ثم فصلها وبينها وقيل معناه نظمت آياته نظماً رصيناً محكماً بحيث لا يقع فيه نقض ولا خلل كالبناء المحكم الذي ليس فيه خلل ثم فصلت آياته سورة سورة وقيل إن آيات هذا الكتاب دالة على التوحيد وصحة النبوة والمعاد وأحوال القيامة وكل ذلك لا يدخله النسخ ثم فصلت بدلائل الأحكام والمواعظ والقصص والإخبار عن المغيبات ، وقال مجاهد : فصلت بمعنى فسرت وثم في قوله ثم فصلت ليست هي للتراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل فإن قلت كيف عم الآيات هنا بالأحكام وخص بعضها في قوله منه آيات محكمات .
قلت : إن الإحكام الذي عم به هنا غير الذي خص به هناك فمعنى الإحكام العام هنا أنه لا يتطرق إلى آياته التناقض والفساد كأحكام البناء فإن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدمة عليه والمراد بالإحكام الخاص المذكور في قوله منه آيات محكمات أن بعض آياته منسوخة نسخها بآيات منه أيضاً لم ينسخها غيره وقيل أحكمت آياته أي معظم آياته محكمة وإن كان قد دخل النسخ على البعض فأجرى الكل على البعض لأن الحكم للغالب وإجراء الكل على البعض مستعمل في كلامهم تقول أكلت طعام زيد وإنما أكلت بعضه .
وقوله تعالى : { من لدن حكيم } يعني أحكمت آيات الكتاب من عند حكيم في جميع أفعاله { خبير } يعني بأحوال عباده وما يصلحهم .(3/434)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
{ ألا تعبدوا إلا الله } هذا مفعول له معناه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله والمراد بالعبادة التوحيد وخلع الأنداد والأصنام وما كانوا يعبدون والرجوع إلى الله تعالى وإلى عبادته والدخول في دين الإسلام { إنني لكم منه } أي : قل لهم يا محمد إنني لكم من عند الله { نذير } ينذركم عقابه إن ثبتم على كفركم ولم ترجعوا عنه { وبشير } يعني وأبشر بالثواب الجزيل لمن آمن بالله ورسوله وأطاع وأخلص العمل لله وحده { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } اختلفوا في بيان الفرق بين هذين المرتبتين فقيل معناه اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم ثم ارجعوا إليه لأن الاستغفار هو طلب الغفر وهو الستر والتوبة الرجوع عما كان فيه من شرك أو معصية إلى خلاف ذلك فلهذا السبب قدم الاستغفار على التوبة وقيل معناه استغفروا ربكم لسالف ذنوبكم ثم توبوا إليه في المستقبل وقال الفراء : ثم هنا بمعنى الواو لأن الاستغفار والتوبة بمعنى واحد فذكرهما للتأكيد { يمتعكم متاعاً حسناً } يعني إنكم إذا فعلتم ما أمرتم به من الاستغفار والتوبة وأخلصتم العبادة لله عز وجل بسط عليكم من الدنيا وأسباب الرزق ما تعيشون به في أمن وسعة وخير ، قال بعضهم : المتاع الحسن هو الرضا بالميسور والصبر على المقدور { إلى أجل مسمى } يعني يمتعكم متاعاً حسناً إلى حين الموت ووقت انقضاء آجالكم .
فإن قلت قد ورد في الحديث { إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر } وقد يضيق على الرجل في بعض أوقاته حتى لا يجد ما ينفقه على نفسه وعياله فيكف الجمع مبين هذا وبين قوله سبحانه وتعالى يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى .
قلت أما قوله صلى الله عليه وسلم « الدنيا سجن المؤمن » فهو بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم فإنه في سجن في الدنيا حتى يفضي إلى ذلك المعد له وأما كون الدنيا جنة الكافر فهو النسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من العذاب الأليم الدائم الذي لا ينقطع فهو في الدنيا في جنة حتى يفضي إلى ما أعد الله له في الآخرة وأما ما يضيق على الرجل المؤمن في بعض الأوقات فإنما ذلك لرفع الدرجات وتكفير السيئات وبيان الصبر عند المصيبات فعلى هذا يكون المؤمن في جميع أحواله في عيشة حسنة لأنه راض عن الله في جميع أحواله .
وقوله سبحانه وتعالى : { ويؤت كل ذي فضل فضله } أي ويعط كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة ، قال أبو العالية : من كثرت طاعاته في الدنيا زادت حسناته ودرجاته في الجنة لأن الدرجات تكون على قدر الأعمال ، وقال ابن عباس : من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة ومن زادت سيئاته دخل النار ومن استوت حسناته وسيئاته كان من الأعراف ثم يدخلون الجنة .(3/435)
وقال ابن مسعود : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من حسناته العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم يقول ابن مسعود : هلك من غلبت آحاده أعشاره وقيل معنى الآية من عمل لله وفقه الله في المستقبل لطاعته { وإن تولوا } يعني وإن أعرضوا عما جئتم به من الهدى { فإني أخاف عليكم } أي : فقل لهم يا محمد إني أخاف عليكم { عذاب يوم كبير } يعني : عذاب النار في الآخرة { إلى الله مرجعكم } يعني في الآخرة فيثيب المحسن على إحسانه ويعاقب المسيء على إساءته { وهو على كل شيء قدير } يعني من إيصال الرزق إليكم في الدنيا وثوابكم وعقابكم في الآخرة قوله سبحانه وتعالى : { ألا إنهم يثنون صدورهم } قال ابن عباس : نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلاً حلو الكلام حلو المنظر وكان يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يجب وينطوي بقلبه على ما يكره فنزلت ألا إنهم يثنون صدورهم يعني يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة من ثنيت الثوب إذا طويته . وقال عبد الله بن شداد بن الهاد : نزلت في بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال قتادة : كانوا يحنون صدورهم كي لا يسمعوا كتاب الله تعالى ولا ذكره وقيل كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول هل يعلم الله ما في قلبي ، وقال السدي : يثنون صدورهم أي يعرضون بقلوبهم من قولهم ثنيت عناني { ليستخفوا منه } يعني من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد من الله عز وجل إن استطاعوا { ألا حين يستغشون ثيابهم } يعني يغطون رؤوسهم بثيابهم { يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور } ومعنى الآية على ما قاله الأزهري : إن الذين أضمروا عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخفى علينا حالهم في كل حال وقد نقل عن ابن عباس غير هذا التفسير وهو ما أخرجه البخاري في إفراده عن محمد بن عياش بن جعفر المخزومي أنه سمع ابن عباس يقرأ : ألا إنهم يثنون صدورهم ، قال : فسألته عنها فقال كل أناس يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء .(3/436)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
وقوله سبحانه وتعالى : { وما من دابة في الأرض } الدابة اسم لكل حيوان دب على وجه الأرض وأطلق لفظ الدابة على كل ذي أربع من الحيوان على سبيل العرف والمراد منه الإطلاق فيدخل الآدمي وغيره من جميع الحيوانات { إلا على الله رزقها } يعني هو المتكفل برزقها فضلاً منه لا على سبيل الوجوب فهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق وقيل إن لفظة على بمعنى أي من الله رزقها وقال مجاهد ما جاءها من رزق فمن الله وربما لم يرزقها فتموت جوعاً { ويعلم مستقرها ومستودعها } قال ابن عباس : مستقرها المكان الذي تأوي في ليل أو نهار ومستودعها المكان الذي تدفن فيه بعد الموت ، وقال ابن مسعود : مستقرها أرحام الأمهات والمستودع المكان الذي تموت فيه وقيل المستقر الجنة أو النار والمستودع القبر { كل في كتاب مبين } أي كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل خلقها قوله عز وجل : { وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } يعني قبل خلق السموات والأرض قال كعب خلق الله ياقوتة خضراء ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء . قال ضمرة : إن الله سبحانه وتعالى كان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وخلق القلم فكتب به ما خلق وما هو خالق وما هو كائن من خلقه إلى يوم القيامة ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ألف عام قبل أن يخلق شيئاً من خلقه .
وقال سعيد بن جبير سئل ابن عباس عن قوله سبحانه وتعالى : { وكان عرشه على الماء } على أي شيء كان الماء قال : على متن الريح ، وقال وهب بن منبه : إن العرش كان قبل أن يخلق الله السموات والأرض ثم قبض الله قبضة من صفاء الماء ثم فتح القبضة فارتفع دخان ثم قضاهن سبع سموات في يومين ثم أخذ سبحانه وتعالى طينة من الماء فوضعها مكان البيت ثم دحا الأرض منها ثم خلق الأقوات في يومين والسموات في يومين والأرض في يومين ثم رفع آخر الخلق وفي اليوم السابع . قال بعض العلماء : وفي خلق جميع الأشياء وجعلها على الماء ما يدل على كمال القدرة لأن البناء الضعيف إذا لم يكن له أساس على أرض صلبة لم يثبت فكيف بهذا الخلق العظيم وهو العرش والسموات والأرض على الماء فهذا يدل على كمال قدرة الله تعالى ( خ ) عن عمران بن حصين قال « دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتى ناس من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا بشرتنا فاعطنا مرتين فتغير وجهه ثم دخل عليه ناس من بني أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا قبلنا يا رسول الله ثم قالوا جئنا لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله سبحانه وتعالى ولم يكن معه شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت فانطلقت أطلبها فإذا السراب يقطع دونها وايم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم »(3/437)
عن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال « كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء وخلق عرشه على الماء » أخرجه الترمذي ، وقال قال أحمد : يريد بالعماء أنه ليس معه شيء قال أبو بكر البيهقي : في كتاب الأسماء والصفات له قوله صلى الله عليه وسلم « كان الله ولم يكن شيء قبله » ، يعني لا الماء ولا العرش ولا غيرهما وقوله { وكان عرشه على الماء } يعني وخلق الماء وخلق العرش على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء ، وقوله في عماء وجدته في كتاب عمار مقيداً بالمد فإن كان في الأصل ممدوداً فمعناه سحاب رقيق ويريد بقوله في عماء أي فوق سحاب مدبراً له وعالياً عليه كما قال سبحانه وتعالى { أأمنتم من في السماء } يعني من فوق السماء وقال تعالى : { لأصلبنكم في جذوع النخل } يعني على جذوعها وقوله { ما فوقه هواء } أي ما فوق السحاب هواء وكذلك قوله { وما تحته هواء } أي ما تحت السحاب هواء وقد قيل إن ذلك العمى مقصور والعمى إذا كان مقصوراً فمعناه لا شيء ثابت لأنه مما عمى عن الخلق لكونه غير شيء فكأنه قال في جوابه كان قبل أن يخلق خلقه ولم يكن شيء غيره ثم قال ما فوقه هواء وما تحته هواء أي ليس فوق العمى الذي هو لا شيء موجود هواء ولا تحته هواء لأن ذلك إن كان غير شيء فليس يثبت له هواء بوجه والله أعلم وقال الهروي صاحب الغريبين : قال بعض أهل العلم معناه أين كان عرش ربنا فحذف المضاف اختصاراً كقوله واسأل القرية ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى : { وكان عرشه على الماء } هذا آخر كلام البيهقي ، وقال ابن الأثير : العماء في اللغة السحاب الرقيق وقيل : الكثيف وقيل : هو الضباب ولا بد في الحديث من حذف مضاف ، تقديره أين كان عرش ربنا فحذف ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى : { وكان عرشه على الماء } وحكي عن بعضهم في العمى المقصور أنه قال هو كل أمر لا يدركه الفطن ، وقال الأزهري : قال أبو عبيد إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم وإلا فلا ندري كيف كان ذلك العماء قال الأزهري : فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(3/438)
« كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء » وفي رواية « فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السموات والأرض وكان عرشه على الماء بخمسين ألف سنة » قوله فرغ يريد إتمام خلق المقادير لا أنه كان مشغولاً ففرغ منه لأن الله سبحانه وتعالى لا يشغله شأن عن شأن فإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون .
قوله سبحانه وتعالى : { ليبلوكم } يعني ليختبركم وهو أعلم بكم منكم { أيكم أحسن عملاً } يعني بطاعة الله وأورع عن محارم الله { ولئن قلت } يعني ولئن قلت يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك { إنكم مبعوثون من بعد الموت } يعني للحساب والجزاء { ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } يعنون القرآن .(3/439)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
{ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة } يعني إلى أجل محدود وأصل الأمة في اللغة الجماعة من الناس فكأنه قال سبحانه وتعالى إلى انقراض أمة ومجيء أمة أخرى { ليقولن ما يحبسه } يعني : أي شيء يحبس العذاب وإنما يقولون ذلك استعجالاً بالعذاب واستهزاء يعنون أنه ليس بشي قال الله عز وجل : { ألا يوم يأتيهم } يعني العذاب { ليس مصروفاً عنهم } أي لا يصرفه عنهم شيء { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } يعني ونزل بهم وبال استهزائهم .
قوله سبحانه وتعالى : { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة } يعني : رخاء وسعة في الرزق والعيش وبسطنا عليه من الدنيا { ثم نزعناها منه } يعني سلبناه ذلك كله وأصابته المصائب فاجتاحته وذهبت به { إنه ليؤوس كفور } يعني يظل قانطاً من رحمة الله آيساً من كل خير كفور أي جحود لنعمتنا عليه أولاً قليل الشكر لربه قال بعضهم : يا ابن آدم إذا كانت بك نعمة من الله من أمن وسعة وعافية فاشكرها ولا تجحدها فإن نزعت عنك فينبغي لك أن تصبر ولا تيأس من رحمة الله فإنه العواد على عباده بالخير وهو قوله سبحانه وتعالى : { ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته } يعني ولئن نحن أنعمنا على الإنسان وبسطنا عليه من العيش { ليقولن } يعني الذي أصابه الخير والسعة { ذهب السيئات عني } يعني ذهب الشدائد والعسر والضيق وإنما قال ذلك غرة بالله عز وجل وجرأة عليه لأنه لم يضف الأشياء كلها إلى الله وإنما أضافها إلى العوائد فهلذا ذمه الله تعالى فقال { إنه لفرح فخور } أي إنه أشر بطر والفرح لذة تحصل في القلب بنيل المراد والمشتهى والفخر هو التطاول على الناس بتعديد المناقب وذلك منهي عنه ثم استثنى فقال تبارك وتعالى : { إلا الذين صبروا ، وعملوا الصالحات } قال الفراء : هذا استثناء منقطع معناه لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات فإنهم ليسوا كذلك فإنهم إن نالتهم شدة صبروا وإن نالتهم نعمة شكروا عليها { أولئك } يعني من هذه صفتهم { لهم مغفرة } يعني لذنوبهم { وأجر كبير } يعني الجنة .
قوله عز وجل : { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فلعلك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك ربك أن تبلغه إلى من أمرك أن تبلغ ذلك إليه { وضائق به صدرك } يعني ويضيق صدرك بما يوحى إليك فلا تبلغه إياهم وذلك أن كفار مكة قالوا ائت بقرآن غير هذا ليس فيه سب آلهتنا فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك ذكر آلهتهم ظاهراً فأنزل الله عز وجل فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك يعني من ذكر آلهتهم هذا ما ذكره المفسرون في معنى هذه الآية وأجمع المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم فيما كان طريقه البلاغ فإنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا خطأ ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً وأنه صلى الله عليه وسلم بلغ جميع ما أنزل الله عليه إلى أمته ولم يكتم منه شيئاً وأجمعوا على أنه لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم خيانة في الوحي والإنذار ولا يترك بعض ما أوحي إليه لقول أحد لأن تجويز ذلك يؤدي إلى الشك في أداء الشرائع والتكاليف لأن المقصود من إرسال الرسول التبليغ إلى من أرسل إليه فإذا لم يحصل ذلك فقد فاتت فائدة الرسالة والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من ذلك كله وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد بقوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك شيئاً آخر سوى ما ذكره المفسرون .(3/440)
وللعلماء في ذلك أجوبة :
أحدها : قال ابن الأنباري : قد علم الله سبحانه وتعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يترك شيئاً مما يوحى إليه إشفاقاً من موجدة أحد وغضبه ولكن الله تعالى أكد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في متابعة الإبلاغ من الله سبحانه وتعالى كما قال : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } الآية .
الثاني : أن هذا من حثه سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتحريضه على أداء ما أنزله إليه والله سبحانه وتعالى من وراء ذلك في عصمته مما يخافه ويخشاه .
الثالث : أن الكفار كانوا يستهزئون بالقرآن ويضحكون منه وتهاونون به وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لذلك وأن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويستهزئون به فأمره الله سبحانه وتعالى بتبليغ ما أوحي إليه وأن لا يلتفت إلى استهزائهم وأن يتحمل هذا الضرر أهون من كتم شيء من الوحي ، والمقصود من هذا الكلام التنبيه على هذه الدقيقة لأن الإنسان إذا علم أن كل واحد من طرفي الفعل والترك مشتمل على ضرر عظيم ثم علم أن الضرر في باب الترك أعظم سهل عليه الإقدام على الفعل ، وقيل : إن الله سبحانه وتعالى مع علمه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يترك شيئاً من الوحي هيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة باستهزائهم وردهم إلى قبول قوله بقوله : { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم مخافة ردهم واستهزائهم به وضائق به صدرك أي بأن تتلوه عليهم { أن يقولوا } يعني مخافة أن يقولوا { لولا أنزل عليه كنز } يعني يستغني به وينفقه { أو جاء معه ملك } يعني يشهد بصدقه وقائل هذه المقالة هو عبد الله بن أمية المخزومي .
والمعنى أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت صادقاً في قولك بأنك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وأنت عزيز عنده مع أنك فقير فهلا أنزل عليك ما تستغني به أنت وأصحابك وهل أنزل عليك ملكاً يشهد لك بالرسالة فتزول الشبهة في أمرك فأخبر الله عز وجل أنه صلى الله عليه وسلم نذير بقوله عز وجل : { إنما أنت نذير } تنذر بالعقاب لمن خالفك وعصى أمرك وتبشر بالثواب لمن أطاعك وآمن بك وصدقك { والله على كل شيء وكيل } يعني أنه سبحانه وتعالى حافظ يحفظ أقوالهم وأعمالهم فيجازيهم عليها يوم القيامة .(3/441)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
قوله سبحانه وتعالى : { أم يقولون افتراه } يعني بل يقول كفار مكة اختلقه يعني ما أوحي إليه من القرآن { قل } أي قل لهم يا محمد { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } لما قالوا له افتريت هذا القرآن واختلقته من عند نفسك وليس هو من عند الله تحداهم وأرخى لهم العنان وفاوضهم على مثل دعواهم فقال صلى الله عليه وسلم هبوا أني اختلقته من عند نفسي ولم يوح إلي شيء وأن الأمر كما قلتم وأنتم عرب مثلي من أهل الفصاحة وفرسان البلاغة وأصحاب اللسان فأتوا أنتم بكلام مثل هذا الكلام الذي جئتكم به مختلق من عند أنفسكم فإنكم تقدرون على مثل ما أقدر عليه من الكلام فلهذا قال سبحانه وتعالى : { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } في مقابلة قولهم افتراه .
فإن قلت قد تحداهم فأن يأتوا بسورة مثله فلم يقدروا على ذلك وعجزوا عنه فكيف قالوا فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ومن عجز عن سورة واحدة فهو عن العشرة أعجز .
قلت : قد قال بعضهم إن سورة هود نزلت قبل سورة يونس ، وأنه تحداهم أولاً بعشر سور فلما عجزوا تحداهم بسورة يونس وأنكر المبرد هذا القول وقال : إن سورة يونس نزلت أولاً ، قال : ومعنى قوله في سورة يونس فأتوا بسورة مثله يعني مثله في الإخبار عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد وفي قوله في سورة هود فأتوا بعشر سور مثله يعني في مجرد الفصاحة والبلاغة من غير خبر عن غيب ولا ذكر حكم ولا وعد ولا وعيد فلما تحداهم بهذا الكلام أمره بأن يقول لهم { وادعوا من استطعتم من دون الله } حتى يعينوكم على ذلك { إن كنتم صادقين } يعني في قولكم إنه مفترى { فإن لم يستجيبوا لكم } اعلم أنه لما اشتملت الآية المتقدمة على أمريين وخاطبين :
أحدهما : أمر وخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله سبحانه وتعالى قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات . والثاني : أمر وخطاب للكفار وهو قوله تعالى وادعوا من استطعتم من دون الله ثم أتبعه بقوله تبارك وتعالى فإن لم يستجيبوا لكم احتمل أن يكون المراد أن الكفار لم يستجيبوا في المعارضة لعجزهم عنها واحتمل أن يكون المراد أن من يدعون من دون الله لم يستجيبوا للكفار في المعارضة فلهذا السبب اختلف المفسرون في معنى الآية على قولين أحدهما أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه كانوا يتحدون الكفار بالمعارضة ليتبين عجزهم فلما عجزوا عن المعارضة قال الله سبحانه وتعالى لنبيه والمؤمنين فإن لم يستجيبوا لكم فيما دعوتموهم إليه من المعارضة وعجزوا عنه { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } يعني فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقيناً وثباتاً لأنهم كانوا عالمين بأنه منزل من عند الله ، وقيل : الخطاب في قوله فإن لم يستجيبوا لكم للنبي صلى الله عليه وسلم وحده وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً له صلى الله عليه وسلم .(3/442)
القول الثاني : أن قوله سبحانه وتعالى فإن لم يستجيبوا لكم خطاب مع الكفار وذلك أنه سبحانه وتعالى لما قال في الآية المتقدمة وادعوا من استطعتم من دون الله قال الله عز وجل في هذه الآية فإن لم يستجيبوا لكم أيها الكفار ولم يعينوكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأنه ليس مفترى على الله بل هو أنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم { وأن لا إله إلا هو } يعني الذي أنزل القرآن هو الله الذي لا إله إلا هو لا من تدعون من دونه { فهل أنتم مسلمون } فيه معنى الأمر أي أسلموا وأخلصوا لله العبادة وإن حملنا معنى الآية على أنه خطاب مع المؤمنين كان معنى قوله فهل أنتم مسلمون الترغيب أي دوموا على ما أنتم عليه من الإسلام .
قوله عز وجل : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } يعني بعمله الذي يعمله من أعمال البر نزلت في كل من عمل عملاً يبتغي به غير الله عز وجل : { نوف إليهم أعمالهم فيها } يعني أجور أعمالهم التي عملوها لطلب الدنيا وذلك أن الله سحبانه وتعالى يوسع عليهم في الرزق ويدفع عنهم المكاره في الدنيا ونحو ذلك { وهم فيها لا يبخسون } يعني أنهم لا ينقصون من أجور أعمالهم التي علموها لطلب الدنيا بل يعطون أجور أعمالهم كاملة موفرة .(3/443)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
{ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها } يعني وبطل ما عملوا في الدنيا من أعمال البر { وباطل ما كانوا يعملون } لأنه لغير الله واختلف المفسرون في المعنى بهذه الآية فروى قتادة عن أنس أنها في اليهود والنصارى وعن احسن مثله ، وقال الضحاك : من عمل عملاً صالحاً في غير تقوى يعني من أهل الشرك أعطي على ذلك اجراً في الدنيا وهو أن يصل رحماً أو يعطي سائلاً أو يرحم مضطراً أو نحو هذا من أعمال البر فيجعل الله له ثواب عمله في الدنيا يوسع عليه في المعيشة والرزق ويقر عينه فيما خوله ويدعف عنه المكاره في الدنيا وليس له في الآخرة نصيب ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو قوله أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار الآية وهذه حالة الكافر في الآخرة وقيل نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم لأنهم كانوا لا يرجون ثواب الآخرة وقيل إن حمل الآية على العموم أولى فيندرج الكافر والمنافق الذي هذه صفته والمؤمن الذي يأتي بالطاعات وأعمال البر على وجه الرياء والسمعة قال مجاهد في هذه الآية هم أهل الرياء وهذا القول مشكل لأن قوله سبحانه وتعالى أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار لا يليق بحال المؤمن إلا إذا قلنا إن تلك الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة لما كانت لغير الله استحق فاعلها الوعيد الشديد وهو عذاب النار ويدل على هذا ما روي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تبارك وتعالى : « أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه » أخرجه مسلم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من تعلم علماً لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار » أخرجه الترمذي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة » يعني ريحها أخرجه أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « تعوذوا بالله من جب الحزن قالوا يا رسول الله وما جب الحزن قال واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم ألف مرة قيل يا رسول الله من يدخله قال القراء المراؤون بأعمالهم » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قال البغوي وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(3/444)
« إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال الرياء » أخرجه بغير سند والرياء هو أن يظهر الإنسان الأعمال الصالحة ليحمده الناس عليها أو ليعتقدوا فيه الصلاة أو ليقصدوه بالعطاء فهذا العمل هو الذي لغير الله نعوذ بالله من الخذلان قال البغوي وقيل هذا في الكفار يعني قوله من كان يريد الحياة وزينتها أما المؤمن فيريد الدنيا والآخرة وإرادته الآخرة غالبة فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة وروينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً » أخرجه البغوي بغير سند .
قوله سبحانه وتعالى : { أفمن كان على بينة من ربه } لما ذكر الله سبحانه وتعالى : في الآية المقتدمة الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر في هذه الآية من كان يريد بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة فقال سبحانه وتعالى افمن كان على بينة من ربه أي كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار وإنما حذف هذا الجواب لظهوره ودلالة الكلام عليه وقيل معناه أفمن كان على بينة من ربه وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كمن هو في ضلالة وكفر والمراد بالبينة الدين الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم وقيل المراد بالبينة اليقين يعني أنه على يقين من ربه أنه على الحق { ويتلوه شاهد منه } يعني ويتبعه من يشهد له بصدقه واختلفوا في الشاهد من هو ، فقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد وعكرمة والضحاك وأكثر المفسرين : أنه جبريل عليه السلام يريد أن جبريل يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويؤيده ويسدده ويقويه وقال الحسن وقتادة هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم وروي عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي يعني علي بن أبي طالب رضي الله تعالى : عنه أنت التالي؟ قال : وما تعني بالتالي؟ قلت : قوله سبحانه وتعالى ويتلوه شاهد منه قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجه هذا القول إن اللسان لما كان يعرف عما في الجنان ويظهره جعل كالشاهد له لأن اللسان هو آلة الفضل والبيان وبه يتلى القرآن وقال مجاهد الشاهد هو ملك يحفظ النبي صلى الله عليه وسلم ويسدده وقال الحسين بن الفضل : الشاهد هو القرآن لأن إعجازه وبلاغته وحسن نظامه يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بنبوته ولأنه أعظم معجزاته الباقية على طول الدهر ، وقال الحسين بن علي وابن زيد : الشاهد منه هو محمد صلى الله عليه وسلم ووجه هذا القول أن من نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعين العقل والبصيرة علم أنه ليس بكذاب ولا ساحر ولا كاهن ولا مجنون ، وقال جابر بن عبد الله قال علي بن أبي طالب : ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان فقال له رجل وأنت أي آية نزلت فيك فقال على ما تقرأ الآية التي في هود ويتلوه شاهد منه فعلى هذا القول يكون الشاهد علي بن أبي طالب وقوله يعني من النبي صلى الله عليه وسلم والمراد تشريف هذا الشاهد وهو علي لاتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم وقيل يتلوه شاهد منه يعني الإنجيل وهو اختيار الفراء والمعنى أن الإنجيل يتلو القرآن في التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به وإن كان قد نزل قبل القرآن .(3/445)
وقوله سبحانه وتعالى : { ومن قبله } يعني ومن قبل نزول القرآن وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم { كتاب موسى } يعني التوراة { إماماً ورحمة } يعني أنه كان إماماً لهم يرجعون إليه في أمور الدين والأحكام والشرائع وكونه رحمة لأنه الهادي من الضلال وذلك سبب حصول الرحمة وقوله تعالى : { أولئك يؤمنون به } يعني أن الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم هم المشار إليهم بقوله ولئك يؤمنون به يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل أراد الذين أسلموا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه { ومن يكفر به } يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم { من الأحزاب } يعني من جميع الكفار وأصحاب الأديان المختلفة فتدخل فيه اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وغيرهم والأحزاب والفرق الذين تحزبوا وتجمعوا على مخالفة الأنبياء { فالنار موعده } يعني في الآخرة روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار » قال سعيد بن جبير : ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله عز وجل حتى بلغني هذا الحديث لا يسمع بي أحد من هذه الأمة الحديث ، قال سعيد : فقلت أين هذا في كتاب الله حتى أتيت على هذه الآية { ومن قبله كتاب موسى } إلى قوله سبحانه وتعالى : { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } قال فالأحزاب أهل الملل كلها ثم قال سبحانه وتعالى : { فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك } فيه قولان أحدهما أن معناه فلا تك في شك من صحة هذا الدين ومن كون القرآن نازلاً من عند الله فعلى هذا القول يكون متعلقاً بما قبله من قوله تعالى : { أم يقولون افتراه } والقول الثاني : إنه راجع إلى قوله { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } يعني فلا تك في شك من أن النار موعد من كفر من الأحزاب والخطاب في قوله { فلا تك في مرية } للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك قط ويعضد هذا القول سياق الآية وهو قوله سبحانه وتعالى : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } يعني لا يصدقون بما أوحينا إليك أو من أن موعد الكفار النار .(3/446)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
قوله عز وجل : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } يعني أي الناس أشد تعدياً ممن اختلق على الله كذباً فكذب عليه وزعم أن له شريكاً أو ولداً وفي الآية دليل على أن الكذب على الله من أعظم أنواع الظلم لأن قوله تعالى : { ومن أظلم ممن أفترى على الله كذباً } ورد في معرض المبالغة { أولئك } يعني المفترين على الكذب { يعرضون على ربهم } يعني يوم القيامة فيسألهم عن أعمالهم في الدنيا { ويقول الأشهاد } يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ، قاله مجاهد وقال ابن عباس : هم الأنبياء والرسل وبه قال الضحاك وقال قتادة : الأشهاد الخلق كلهم { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } يعني : في الدنيا وهذه الفضيحة تكون في الآخرة لكل من كذب على الله { ألا لعنة الله على الظالمين } يعني يقول الله ذلك يوم القيامة فيلعنهم ويطردهم من رحمته ( ق ) . عن صفوان بن محرز المازني قال : بينما ابن عمر يطوف بالبيت إذ عرض له رجل فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا فيقول أعرب رب أعرف مرتين فيقول سترتها عليه في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته » وفي رواية « ثم تطوى صحيفة حسناته » وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد وفي رواية « فينادى بهم على رؤوس الأشهاد من الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين » قوله سبحانه وتعالى : { الذين يصدون عن سبيل الله } هذه الآية متصلة بما قبلها والمعنى ألا لعنة الله على الظالمين ثم وصفهم فقال الذين يصدون عن سبيل الله يعني يمنعون الناس من الدخول في دين الله الذي هو دين الإسلام { ويبغونها عوجاً } يعني ويطلبون إلقاء الشبهات في قلوب الناس وتعويج الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام { وهم بالآخرة هم كافرون } يعني وهم مع صدهم عن سبيل الله يجحدون البعث بعد الموت وينكرونه { أولئك } يعني من هذه صفتهم { لم يكونوا معجزين في الأرض } قال ابن عباس يعني سابقين وقيل هاربين وقيل فائتين في الأرض والمعنى أنهم لا يعجزون الله إذا أرادهم بالعذاب والانتقام منهم ولكنهم في قبضته وملكه لا يقدرون على الامتناع منه إذا طلبهم { وما كان لهم من دون الله من أولياء } يعني وما كان لهؤلاء المشركين من أنصار يمنعونهم من دون الله إذا أراد بهم سوءاً وعذاباً { يضاعف لهم العذاب } يعني في الآخرة يزاد عذابهم بسبب صدهم عن سبيل الله وإنكارهم البعث بعد الموت { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } قال قتادة صموا عن سمع الحق فلا يسمعون خيراً فينتفعون به ولا يبصرون خيراً فيأخذون به .
وقال ابن عباس أخبر الله سبحانه وتعالى أنه أحال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فإنه قال ما كانوا يستطيعون السمع وهي طاعته وما كانوا يبصرون وأما في الآخرة فإنه قال لا يستطيعون خاشعة أبصارهم .(3/447)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
{ أولئك الذين خسروا أنفسهم } يعني أن هؤلاء الذين هذه صفتهم هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله { وضل عنهم ما كانوا يفترون } يعني وبطل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله وادعاؤهم أن الملائكة والأصنام تشفع لهم { لا جرم } يعني حقاً وقال الفراء لا محالة { أنهم في الآخرة هم الأخسرون } لأنهم باعوا منازلهم في الجنة واشتروا عوضها منازل في النار وهذا هو الخسران المبين .
قوله عز وجل : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم } لما ذكر الله عز وجل أحوال الكفار في الدنيا وخسرانهم في الآخرة أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا وربحهم في الآخرة والإخبات في اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه وإذا قلت أخبت له فمعناه خشع وخضع له فقوله : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } إشارة إلى جميع أعمال الجوارح وقوله وأخبتوا إشارة إلى أعمال القلوب وهي الخضوع والخشوع لله عز وجل يعني أن هذه الأعمال الصالحة لا تنفع في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب وهي الخشوع والخضوع فإذا فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان معنى الكلام يأتون بالأعمال الصالحة مطمئنين إلى صدق وعد الله بالثواب والجزاء على تلك الأعمال أو يكونون مطمئنين إلى ذكره سبحانه وتعالى وإذا فسرنا الإخبات الخشوع والخضوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمل الصالحة خائفين وجلين أن لا تكون مقبولة وهو الخشوع والخضوع { أولئك } يعني الذين هذه صفتهم { أصحاب الجنة هم فيها خالدون } أخبر عن حالهم في الآخرة بأنهم من أهل الجنة التي لا انقطاع لنعيمها ولا زوال .
قوله سبحانه وتعالى : { مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع } لما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال الكفار وما كانوا عليه من العمى عن طريق الهدى والحق ومن الصمم عن سماعه وذكر أحوال المؤمنين وما كانوا عليه من البصيرة وسماع الحق والانقياد للطاعة ضرب لهم مثلاً فقال تبارك وتعالى مثل الفريقين يعني فريق المؤمنين وفريق الكفارين كالأعمى وهو الذي لا يهتدي لرشده والأصم وهو الذي لا يسمع شيئاً البتة ، والبصير وهو الذي يبصر الأشياء على ماهيتها ، والسميع وهو الذي يسمع الأصوات ويجيب الداعي فمثل المؤمنين كمثل الذي يسمع ويبصر وهو الكامل في نفسه ومثل الكافر كمثل الذي لا يسمع ولا يبصر وهو الناقص في نفسه { هل يستويان مثلاً } قال الفراء لم يقل هل يستوون لأن الأعمى والأصم في حيز كأنهما واحد وهما من وصف الكافر والبصير والسميع في حيز كأنهما واحد وهما من وصف المؤمن { أفلا تذكرون } يعني فتتعظون .
قوله عز وجل : { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين } يعني أن نوحاً عليه السلام قال لقومه حين أرسله الله إليهم إني لكم أيها القوم نذير مبين يعني بين النذارة أخوف بالعقاب من خالفة أمر الله وعبد غيره؛ وهو قوله سبحانه وتعالى : { أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } يعني مؤلم موجع قال ابن عباس : بعث نوح بعد أربعين سنة ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة فكان عمره ألفاً وخمسين سنة . وقال مقاتل : بعث وهو ابن مائة سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو يومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفاً وأربعمائة وخمسين سنة .(3/448)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
{ فقال الملأ الذين كفروا من قومه } يعني الأشراف والرؤساء من قوم نوح { ما نراك } يا نوح { إلا بشراً مثلنا } يعني آدمياً مثلنا لا فضل لك علينا لأن التفاوت الحاصل بني آحاد البشر يمتنع اشتهاره إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة على جميع العالم وإنما قالوا هذه المقالة وتمسكوا بهذه الشبهة جهلاً منهم لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدعوة إلى الله تعالى بإقامة الدليل والبرهان على ذلك ويظهر المعجزة الدالة على صدقه ولا يأتي ذلك إلا من آحاد البشر وهو من اختصه الله بكرامته وشرفه بنبوته وأرسله إلى عباده ثم قال سبحانه وتعالى إخباراً عن قوم نوح { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } يعني سفلتنا والرذل الدون من كل شيء قيل هم الحاكة والأساكفة وأصحاب الصنائع الخسيسة وإنما قالاو ذلك جهلاً منهم أيضاً لأن الرفعة في الذين ومتابعة الرسول لا تكون بالشرف ولا بالمال والمناصب العالية بل للفقراء الخاملين وهم أتباع الرسل ولا يضرهم خسة صنائعهم إذا حسنت سيرتهم في الدين { بادي الرأي } يعني أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير تثبت وتفكر في أمرك ، ولو تفكروا ما اتبعوك .
وقيل : معناه ظاهر الرأي ، يعني أنهم اتبعوك من غير أن تفكروا باطناً { وما نرى لكم علينا من فضل } يعني بالمال والشرف والجاه وهذا القول أيضاً جهل منهم لأن الفضيلة المعتبرة عند الله بالإيمان والطاعة لا بالشرف والرياسة { بل نظنكم كاذبين } قيل الخطاب لنوح ومن آمن معه من قومه وقيل هو لنوح وحده فعلى هذا يكون الخطاب بلفظ الجمع للواحد على سبيل التعظيم { قال } يعني نوحاً { يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } يعني على بيان ويقين من ربي بالذي أنذرتكم به { وآتاني رحمة من عنده } يعني هدياً ومعرفة ونبوة { فعميت عليكم } يعني خفيت وألبست عليكم { أنلزمكموها } الهاء عائدة إلى الرحمة والمعنى أنلزمكم أيها القوم قبول الرحمة يعني أنا لا نقدر أن نلزمكم ذلك من عند أنفسنا { وأنتم لها كارهون } وهذا استفهام معناه الإنكار أي لا أقدر على ذلك والذي أقدر عليه أن أدعوكم إلى الله وليس لي أن أضطركم إلى ذلك قال قتادة والله لو استطاع نبي صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك { ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً } يعني لا أسألكم ولا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلاً { إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا } وذلك أنهم طلبوا من نوح أن يطرد الذين آمنوا وهم الأرذلون في زعمهم فقال ما يجوز لي ذلك لأنهم يعتقدون { إنهم ملاقو ربهم } فلا أطردهم { ولكني أراكم قوماً تجهلون } يعني عظمة الله ووحدانيته وربوبيته وقيل معناه إنكم تجهلون أن هؤلاء المؤمنين خير منكم { ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم } يعني من يمنعني من عذاب الله إن طردتهم عني لأنهم مؤمنون مخلصون { أفلا تذكرون } يعني فتتعظون .(3/449)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{ ولا أقول لكم عندي خزائن الله } هذا عطف على قوله لا أسألكم عليه مالاً والمعنى لا أسألكم عليه مالاً ولا أقول لكم عندي خزائن الله يعني التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها وقال ابن الأنباري الخزائن هنا بمعنى غيوب الله وما هو منطو عن الخلق وإنما وجب أن يكون هذا جواباً من نوح عليه السلام لهم لأنهم قالوا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وادعوا أن المؤمنين إنما اتبعوه في ظاهر ما يرى منهم وهم في الحقيقة غير متبعين له فقال مجيباً لهم ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يعلم منها ما ينطوي عليه عباده وما يظهرونه إلا هو وإنما قيل للغيوب خزائن لغموضها عن الناس واستتارها عنهم والقول الأول أولى ليحصل الفرق بين قوله ولا أقول لكم عندي خزائن الله وبين قوله { ولا أعلم الغيب } يعني ولا أدعي علم ما يغيب عني مما يسرونه في نفوسهم فسبيل قبول إيمانهم في الظاهر ولا يعلم ما في ضمائرهم إلا الله { ولا أقول إني ملك } وهذا جواب لقولهم ما نراك إلا بشراً مثلنا أي لا أدعي أني من الملائكة بل أنا بشر مثلكم أدعوكم إلى الله وأبلغكم ما أرسلت به إليكم .
( فصل )
استدل بعضهم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء قال لأن نوحاً عليه السلام قال ولا أقول إني ملك لأن الإنسان إذا قال أنا لا أدعي كذا وكذا لا يحسن إلا إذا كان ذلك الشيء أشرف وافضل من أحوال ذلك القائل فلما قال نوح عليه السلام هذه المقالة وجب أن يكون الملك أفضل منه والجواب أن نوحاً عليه السلام إنما قال هذه المقالة في مقابلة قولهم ما نراك إلا بشراً مثلنا لما كان في ظنهم أن الرسل لا يكونون من البشر إنما يكونون من الملائكة فأعلمهم أن هذا ظن باطل وأن الرسل إلى البشر إنما يكونون من البشر فلهذا قال سبحانه وتعالى : { ولا أقول إني ملك } ولم يرد أن درجة الملائكة أفضل من درجة الأنبياء والله أعلم .
وقوله سبحانه وتعالى : { ولا أقول للذين تزدري أعينكم } يعني تحتقر وتستصغر أعينكم يعني المؤمنين وذلك لما قالوا إنهم أراذلنا من الرذالة وهي الخسة { لن يؤتيهم الله خيراً } يعني توفيقاً وهداية وإيماناً وأجراً { الله أعلم بما في أنفسهم } يعني من الخير والشر { إني إذاً لمن الظالمين } يعني إن طردتهم مكذباً لظاهرهم ومبطلاً لإيمانهم يعني أني إن فعلت هذا فأكون قد ظلمتهم وأنا لا أفعله فما أنا من الظالمين { قالوا يا نوح قد جادلتنا } يعني خاصمتنا { فأكثرت جدالنا } يعني خصومتنا { فأتنا بما تعدنا } يعني من العذاب { إن كنت من الصادقين } يعني في دعواك أنك رسول الله إلينا { قال إنما يأتيكم به الله إن شاء } يعني قال نوح لقومه حين استعجلوه بإنزال العذاب إن ذلك ليس إليّ إنما هو إلى الله ينزله متى شاء وعلى من يشاء إن أراد إنزال العذاب بكم { وما أنتم بمعجزين } يعني وما أنتم بفائتين إن أراد الله نزول العذاب بكم { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم } يعني ولا ينفعكم إنذاري وتحذيري إياكم عقوبته ونزول العذاب { إن كان الله يريد أن يغويكم } يعني يضلكم وقيل يهلككم وهذا معنى وليس بتفسير لأن الإغواء يؤدي إلى الهلاك { هو ربكم } يعني أنه سبحانه وتعالى هو يملككم فلا تقدرون على الخروج من سلطانه { وإليه ترجعون } يعني في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم { أم يقولون افتراه } أي اختلقه وجاء به من عند نفسه والضمير يعود إلى الوحي الذي جاءهم به { قل إن افتريته } أي اختلقته { فعلي إجرامي } أي إثم إجرامي والإجرام اقتراف السيئة واكتسابها يقال جرم وأجرم بمعنى أنه اكتسب الذنب وافتعله { وأنا بريء مما تجرمون } يعني من الكفر والتكذيب وأكثر المفسرين على أن هذا من محاورة نوح قومه فهي من قصة نوح عليه السلام وقال مقاتل { أم يقولون } يعني المشركين من كفار مكة افتراه يعني محمداً صلى الله عليه وسلم اختلق القرآن من عند نفسه فعلى هذا القول تكون هذه الآية معترضة في قصة نوح ثم رجع إلى القصة فقال سبحانه وتعالى : { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } قال ابن عباس إن قوم نوح كانوا يضربون نوحاً حتى يسقط فيلفونه في لبد ويلقونه في بيت يظنون أنه قد مات فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله ويروي أن شيخاً منهم جاء متكئاً على عصاه ومعه ابنه فقال يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون فقال يا أبت أمكني من العصا فأخذه من أبيه وضرب بها نوحاً عليه السلام حتى شجه شجة منكرة فأوحى الله إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن { فلا تبتئس } يعني فلا تحزن عليهم فإني مهلكهم { بما كانوا يفعلون } يعني بسبب كفرهم وأفعالهم فحينئذ دعا نوح عليه السلام عليهم فقال(3/450)
{ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } وحكى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عمير الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يبسطون نوحاً فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى تمادوا في المعصية واشتد عليه فإذا فاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى تمادوا في المعصية واشتد عليه منهم البلاء وهو ينتظر الجيل بعد الجيل فلا يأتي قرن إلا كان أنحس من الذي قبله ولقد كان يأتي القرن الآخر منهم فيقول قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنوناً فلا يقبلون منه شيئاً فشكا نوح إلى الله عز وجل فقال يا رب { أني دعوت قومي ليلاً ونهاراً } الآيات حتى بلغ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه .(3/451)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
{ واصنع فلك } يعني السفينة والفلك لفظ يطلق على الواحد والجمع { بأعيننا } قال ابن عباس بمرأى منا وقيل بعلمنا وقيل بحفظنا { ووحينا } يعني بأمرنا { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } يعني بالطوفان والمعنى ولا تخاطبني في إمهال الكفار فإني قد حكمت بإغراقهم وقيل ولا تخاطبني في ابنك كنعان وامرأتك واعلة فإنهما هالكان مع القوم وقيل إن جبريل أتى نوحاً فقال له إن ربك يأمرك أن تصنع الفلك فقال كيف أصنعها ولست نجاراً فقال إن ربك يقول اصنع فإنك بأعيننا فأخذ القدوم وجعل ينجر ولا يخطئ فصنعها مثل جؤجؤ الطير وهو قوله سبحانه وتعالى : { ويصنع الفلك } يعني كما أمره الله سبحانه وتعالى قال أهل السير لما أمر الله سبحانه وتعالى نوحاً بعمل السفينة أقبل على عملها ولها عن قومه وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيئ القار وكل ما يحتاج إليه في عمل الفلك وجعل قومه يمرون وهو في عمله فيسخرون منه ويقولون يا نوح قد صرت نجاراً بعد النبوة وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم ولد قال البغوي وزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه وأن يجعل طوله ثمانين ذراعاً وعرضه خمسين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثين ذراعا والذراع إلى المنكب وأن يجعله ثلاث طباق سفلى ووسطى وعلياً وأن يجعل فيه كوى فصنعه نوح كما أمره الله سبحانه وتعالى وقال ابن عباس اتخذ نوح السفينة في سنتين فكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعاً وطولها في السماء ثلاثين ذراعاً وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون فجعل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وركب هو ومن معه في البطن الأعلى وجعل معه ما يحتاج إليه من الزاد وغيره قال قتادة وكان بابها في عرضها ، وروي عن الحسن : أنه كان طولها ألف ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع والقول الأول أشهر وهو أن طولها ثلثمائة ذراع وقال زيد بن أسلم : مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ومائة سنة يصنع الفلك ، وقال كعب الأحبار : عمل نوح عليه السلام السفينة في ثلاثين سنة وروي أنها ثلاثة أطباق الطبقة السفلى للدواب ، والوحوش والطبقة الوسطى للإنس والطبقة العلياء للطير فلما كثرت رواث الدواب أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ومسح على الخنزير فوقع منه الفأر فأقبلوا على الروث فأكلوه فلما أفسد الفأر في السفينة فجعل يقرضها ويقرض حبالها أوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة وهي القطة والقط فأقبلا على الفأر فأكلاه .(3/452)
قوله سبحانه وتعالى : { وكلما مر عليه ملأ من قومه } أي جماعة من قومه { سخروا منه } يعني استهزؤوا به وذلك أنهم قالوا إن هذا الذي كان يزعم أنه نبي قد صار نجاراً وقيل قالوا يا نوح ماذا تصنع قال أصنع بيتاً يمشي على الماء فضحكوا منه { قال } يعني نوحاً لقومه { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } يعني إن تستجهلونا في صنعنا فإنا نستجهلكم لتعرضكم لما يوجب سخط الله وعذابه ، فإن قلت السخرية لا تليق بمنصب النبوة فكيف قال نوح عليه السلام إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون .
قلت إنما سمي هذا لفعل سخرية على سبيل الازدوج في مشاكلة الكلام كما في قوله سبحانه وتعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } والمعنى إنا نرى غب سخريتكم بنا إذا نزل بكم العذاب .(3/453)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
قوله تعالى : { فسوف تعلمون } يعني فسترون { من يأتيه } يعني أينا يأتيه نحن أو أنتم { عذاب يخزيه } يعني يهينه { ويحل عليه عذاب مقيم } يعني في الآخرة فالمراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا وهو الغرق والمراد بالعذاب الثاني عذاب الآخرة وعذاب النار الذي لا انقطاع له .
وقوله عز وجل : { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور } يعني وغلى والفور الغليان وفارت القدر إذا غلت .
والتنور : فارسي معرب لا تعرف له العرب اسماً غير هذا فلذلك جاء في القرآن بهذا اللفظ فخوطبوا بما يعرفون وقيل إن لفظ التنور جاء هكذا بكل لفظ عربي وعجمي وقيل إن لفظ التنور أصله أعجمي فتكلمت به العرب فصار عربياً مثل الديباج ونحوه واختلفوا في المراد بهذا التنور ، فقال عكرمة والزهري : هو وجه الأرض وذلك أنه قيل لنوح عليه السلام إذا رأيت الماء قد فار على وجه الأرض فاركب السفينة فعلى هذا يكون قد جعل فوران التنور علامة لنوح على هذا الأمر العظيم وقال علي : فار التنور أي طلع الفجر ونور الصبح شبه نور الصبح بخروج النار من التنور ، وقال الحسن ومجاهد والشعبي : إن التنور هو الذي يخبز فيه ، وهو قول أكثر المفسرين ورواية عن ابن عباس ، أيضاً وهذا القول أصح لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى ولفظ التنور حقيقة في اسم الموضع الذي يخبز فيه فوجب حمل اللفظ عليه .
فإن قلت الألف واللام في لفظ التنور للعهد وليس هاهنا معهود سابق عند السامع فوجب حمله على غيره وهو شدة الأمر والمعنى إذا رأيت الماء يشتد نبوعه ويقوى فانج بنفسك ومن معك .
قلت : لا يبعد أن يكون ذلك التنور معلوماً عند نوح عليه السلام ، قال الحسن كان تنوراً من حجارة وكانت حواء تخبز فيه ثم صار إلى نوح وقيل له إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك واختلفوا في موضع التنور فقال مجاهد نبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته وكان ذلك في ناحية الكوفة وكان الشعبي يحلف بالله ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة ، قال الشعبي : اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة وكان فوران التنور علامة لنوح عليه السلام ، وقال مقاتل : كان ذلك التنور تنور آدم وكان بالشام بموضع يقال له عين وردة وروي عن ابي عباس أنه كان بالهند قال : والفوران الغليان { قلنا احمل فيها } يعني : قلنا لنوح احمل في السفينة { من كل زوجين اثنين } الزوجان كل اثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر كالذكر والأنثى يقال لكل واحد منهما زوج والمعنى من كل صنف زوجين ذكراً أو أنثى فحشر الله سبحانه وتعالى إليه الحيوان من الدواب والسباع والطير فجعل نوح يضرب بيديه في كل جنس منها فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى فيجعلهما في السفينة { وأهلك } أي واحمل أهلك وولدك وعيالك { إلا من سبق عليه القول } يعني بإهلاك وأراد به امرأته واعلة وولده كنعان { ومن آمن } يعني واحمل معك من آمن بك من قومك { وما آمن معه إلا قليل } اختلفوا في عدد من حمل نوح معه في السفينة فقال قتادة وابن جريج ومحمد كعب القرظي لم يكن في السفينة إلا ثمانين : نفر نوح وامرأته وثلاثة بنين له وهم سام وحام ويافث ونساؤهم؛ وقال الأعمش : كانوا سبعة نوحاً وبنيه وثلاث كنائن له .(3/454)
وقال محمد بن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم وهم نوح وبنوه سام وحام ويافث وستة نفر آمنوا بنوح وأزواجهم جميعاً ، وقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين نفراً رجلاً وامرأة وقال ابن عباس كان في السفينة ثمانون رجلاً أحدهم جرهم ، قال الطبري : والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل : { وما آمن معه إلا قليل } فوصفهم الله سبحانه وتعالى بالقلة ولم يحدد عدداً بمقدار فلا ينبغي أن يجاوز في ذلك حد الله سبحانه وتعالى إذ لم يرد ذلك في كتاب ولا خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مقاتل : حمل نوح معه جسد آدم عليه السلام فجعله معترضاً بين الرجال والنساء وقصد نوحاً جميع الدواب والطيور ليحملها قال ابن عباس : أول ما حمل نوح الدرة وآخر ما حمل الحمار فلما أراد أن يدخل الحمار أدخل صدره فتعلق إبليس بذنبه فلم تنتقل رجلاه وجعل نوح يقول له ويحك ادخل فينهض فلا يستطيع حتى قال له أدخل وإن كان الشيطان معك كلمة ذلت على لسانه فلما قالها نوح خلى سبيل الحمار فدخل الحمار ودخل الشيطان معه فقال له نوح ماذا أدخلك عليّ يا عدو الله قال ألم تقل ادخل وإن كان الشيطان معك قال اخرج عني يا عدو الله .
قال : لا بد من أن تحملني معك فكان فيما يزعمون على ظهر السفينة ، هكذا نقله البغوي وقال الإمام فخر الدين الرازي : وأما الذي يروى أن إبليس دخل السفينة فبعيد لأنه من الجن وهو جسم ناري أو هوائي فكيف يفر من الغرق وأيضاً فإن كتاب الله لم يدل على ذلك ولم يرد فيه خبر صحيح فالأولى ترك الخوض فيه ، قال البغوي : وروي عن بعضهم أن الحية والعقرب أتيا نوحاً عليه السلام فقالتا احملنا معك فقال إنكما سبب البلاء فلا أحملكما فقالتا احملنا فنحن نضمن لك أن لا نضر أحداً ذكرك فمن قرأ حين يخاف مضرتهما سلام على نوح في العالمين لم تضراه وقال الحسن لم يحمل نوح معه في السفينة إلا ما يلد ويبيض وأما ما سوى ذلك مما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق والبعوض فلم يحمل منها شيئاً .(3/455)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
قوله سبحانه وتعالى : { وقال اركبوا فيها } يعني وقال نوح لمن حمل معه اركبوا في السفينة { بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم } يعني بسم الله اجراؤها وإرساؤها قال الضحاك كان نوح إذا أراد أن تجري السفينة قال بسم الله فتجري وكان إذا أراد أن ترسو يعني تقف قال بسم الله فترسو أي تقف وهذا تعليم من الله لعباده أنه من أراد أمراً فلا ينبغي له أن يشرع فيه حتى يذكر اسم الله عليه وقت الشروع حتى يكون ذلك سبباً للنجاح والفلاح في سائر الأمور { وهي تجري بهم في موج كالجبال } الموج ما ارتفع من الماء إذا اشتدت عليه الريح ، شبهه سبحانه وتعالى بالجبال في عظمه هو ارتفاعه على الماء قال العلماء : بالسير أرسل الله المطر أربعين يوماً وليلة وخرج الماء من الأرض فذلك قوله سبحانه وتعالى : { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر } يعني : صار إناء نصفين نصفاً من السماء ونصفاً من الأرض وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعاً وقيل خمسة عشر ذراعاً حتى أغرق كل شيء .
وروي أنه لما كثر الماء في الشكك خافت أم الصبي على ولدها من الغرق وكانت تحبه حباً شديداً فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلحقها الماء فارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما لحقها الماء ذهبت حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء إلى رقبتها رفعت الصبي بيديها حتى ذهب بهما الماء فأغرقهما فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي { ونادى نوح ابنه } يعني كنعان وكان كافراً { وكان في معزل } يعني عن نوح لم يركب معه { يا بني اركب معنا } يعني في السفينة { ولا تكن مع الكافرين } يعني فتهلك معهم { قال } يعني قال كنعان { سآوي } يعني سألتجئ وأصير { إلى جبل يعصمني } يعني يمنعني { من الماء قال } يعني قال له نوح { لا عاصم } يعني لا مانع { اليوم من أمر الله } يعني من عذابه { إلا من رحم } يعني إلا من رحمه الله فينجيه من الغرق { وحال بينهما الموج فكان من المغرقين } يعني كنعان .(3/456)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
{ وقيل } يعني بعد ما تناهى الطوفان وأغرق الله قوم نوح { يا أرض ابلعي ماءك } أي اشربيه { ويا سماء أقلعي } أي أمسكي { وغيض الماء } أي نقص ونضب يقال غاض الماء إذا نقص وذهب { وقضي الأمر } يعني وفرغ من الأمر وهو هلاك قوم نوح { واستوت } يعني واستقرت السفينة { على الجودي } وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل { وقيل بعداً } يعني هلاكاً { للقوم الظالمين } قال العلماء : بالسير لما استقرت السفينة بعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع إليه فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجليها بالطين ، فعلم نوح أن الماء قد ذهب فدعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت وطوق الحمامة بالخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت وروي أن نوحاً عليه السلام ركب السفينة لعشر بقين من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرت بالبيت الحرام وقد رفعه الله من الغرق وبقي موضعه فطافت السفينة به سبعاً وأودع الحجر الأسود جبل أبي قبيس وهبط نوح ومن معه في السفينة يوم عاشوراء فصامه نوح عليه السلام وأمر جميع من معه بصيامه شكراً لله تعالى وبنوا قرية بقرب الجبل فسميت سوق ثمانين فهي أول قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان ، وقيل : إنه لم ينج أحد من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق وكان المال يصل إلى حجزته وسبب نجاته من الهلاك أن نوحاً عليه السلام احتاج إلى خشب ساج لأجل السفينة فلم يمكنه نقله فحمله عوج بن عنق من الشام إلى نوح فنجاه الله من الغرق لذلك .
فإن قلت : كيف اقتضت الحكمة الإلهية والكرم العظيم إغراق من لم يبلغوا الحلم من الأطفال ولم يدخلوا تحت التكليف بذنوب غيرهم .
قلت : ذكر بعض المفسرين أن الله عز وجل أعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فلم يولد لهم ولد تلك المدة وهذا الجواب ليس بقوي لأنه يرد عليه إغراق جميع الدواب والهوام والطير وغير ذلك من الحيوان ويرد على ذلك أيضاً إهلاك أطفال الأمم الكافرة مع آبائهم غير قوم نوح .
والجواب الشافي عن هذا كله أن الله سبحانه وتعالى متصرف في خلقه وهو المالك المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
قوله عز وجل : { ونادى نوح ربه } أي دعاه وسأله { فقال رب إن ابني من أهلي } يعني وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي { وإن وعدك الحق } يعني الصدق الذي لا خلف فيه { وأنت أحكم الحاكمين } يعني أنك حكمت لقوم بالنجاة وحكمت على قوم بالهلاك { قال } يعني قال الله تعالى : { يا نوح إنه } يعني هذا الابن الذي سألتني نجاته { ليس من أهلك } اختلف علماء التفسير : هل كان هذا الولد ابن نوح لصلبه أم لا فقال الحسن ومجاهد كان ولد حدث من غير نوح ولم يعلم به فلذلك قال إنه ليس من أهلك ، وقال محمد بن جعفر الباقر : كان ابن امرأة نوح وكان يعلمه نوح ولذلك قال من أهلي ولم يقل مني .(3/457)
وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأكثر المفسرين : إنه ابن نوح من صلبه ، وهذا القول هو الصحيح والقولان الأولان ضعيفان بل باطلان ويدل على صحة هذا نقل الجمهور لما صح عن ابن عباس أنه قال : ما بغت امرأة نبي قط ولأن الله سبحانه وتعالى نص عليه بقوله سبحانه وتعالى : { ونادى نوح ابنه } ونوح صلى الله عليه وسلم أيضاً نص عليه بقوله { يا بني اركب معنا } وهذا نص في الدلالة وصرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة لا يجوز وإنما خالف هذا الظاهر من خالفه لأنه استبعد أن يكون ولد نبي كافراً وهذا خطأ ممن قاله لأن الله سبحانه وتعالى خلق خلقه فريق في الجنة وهم المؤمنون وفريق في السعير وهم الكفار والله سبحانه وتعالى يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم فإن الله سبحانه وتعالى أخرج قابيل من صلب آدم عليه السلام وهو نبي وكان قابيل كافراً وأخرج إبراهيم من صلب آزر وهو نبي وكان آزر كافراً فكذلك أخرج كنعان وهو كافر من صلب نوح وهو نبي فهو المتصرف في خلقه كيف يشاء .
فإن قلت : فعلى هذا كيف ناداه نوح فقال : اركب معنا وأسأل له النجاة مع قوله رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً قلت : قد ذكر بعضهم أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لم يعلم بكون ابنه كان كافراً فلذلك ناداه وعلى تقدير أنه يعلم كفره إنما حمله على أن ناداه رقة لأبوة ولعله إذا رأى تلك الأهوال أن يسلم فينجيه الله بذلك من الغرق فأجابه الله عز وجل بقوله إنه ليس من أهلك يعني أنه ليس من أهل دينك لأن أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما .
ولما حكمت الشريعة برفع حكم النسب في كثير من الأحكام بين المسلم والكافر قال الله سبحانه وتعالى لنوح : إنه ليس من أهلك { إنه عمل غير صالح } قرأ الكسائي ويعقوب : عَمِلَ بكسر الميم وفتح اللام غير بفتح الراء على عود الفعل على الابن ومعناه أنه عمل الشرك والكفر والتكذيب وكل هذا غير صالح ، وقرأ الباقون من القراء : عمَلٌ بفتح الميم ورفع اللام مع التنوين وغير بضم الراء ومعناه إن سؤالك إياي أن أنجيه من الغرق عمل غير صالح لأن طلب نجاة الكفار بعد ما حكم عليه بالهلاك بعيد فلهذا قال سحبانه وتعالى : { إنه عمل غير صالح } ويجوز أن يعود الضمير في إنه على ابن نوح أيضاً ويكون التقدير على هذه القراءة إن ابنك ذو عمل أو صاحب عمل غير صالح فحذف المضاف كما قالت الخنساء : فإنما هي إقبال وإدبار .(3/458)
قال الواحدي ، وهذا قول أبي إسحاق يعني الزجاج وأبي بكر بن الأنباري وأبي علي الفارسي قال أبو علي : ويجوز أن يكون ابن نوح عمل عملاً غير صالح فجعلت نفسه ذلك العمل لكثرة ذلك منه ، كما يقال الشعر زهير والعلم فلان إذا كثر منه فعلى هذا لا حذف { فلا تسألن ما ليس لك به علم } وذلك أن نوحاً عليه السلام سأل ربه إنجاء ولده م نالغرق وهو من كمال شفقة الوالد على ولده وهو لا يعلم أن ذلك محظور لإصرار ولده على الكفر فهناه الله سبحانه وتعالى عن مثل هذه المسألة وأعلمه أن ذلك لا يجوز فكان المعنى فلا تسألن ما ليس لك به علم بجواز مسألته { إني أعظك } يعني أنهاك { أن تكون من الجاهلين } يعني لمثل هذا السؤال .(3/459)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
{ قال } يعني : قال نوح { رب إني أعوذ بك } يعني : ألجأ إليك وأعتذر إليك { أن أسألك ما ليس لي به علم } يعني : إنك أنت علام الغيوب وأنا لا أعلم ما غاب عني فأعتذر إليك من مسألتي ما ليس لي به علم { وإلا تغفر لي } يعني : جهلي وإقدامي على سؤال ما ليس لي به علم { وترحمني } يعني برحمتك التي وسعت كل شيء { أكن من الخاسرين }
( فصل وقد استدل بهذه الآيات من لا يرى عصمة الأنبياء )
وبيانه أن قوله إنه عمل غير صالح المراد منه السؤال وهو محظور فلهذا نهاه عنه بقوله فلا تسألن ما ليس لك به علم ، وقوله سبحانه وتعالى : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } يدل على أن ذلك السؤال كان جهلاً ففيه زجر وتهديد وطلب المغفرة والرحمة له يدل على صدور الذنب منه .
والجواب أن الله عز وجل كان قد وعد نوحاً عليه السلام بأن ينجيه وأهله فأخذ نوح ظاهر اللفظ واتبع التأويل بمقتضى هذا الظاهر ولم يعلم ما غاب عنه ولم يشك في وعد الله سبحانه وتعالى فأقدم على هذا السؤال لهذا السبب فعاتبه الله عز وجل على سؤاله ما ليس له به علم وبين له أنه ليس من أهله الذي وعده بنجاتهم لكفره وعمله الذي هو غير صالح وأعلمه الله سبحانه وتعالى أنه مغرق مع الذين ظلموا ونهاه عن مخاطبته فيهم فأشفق نوح من إقدامه على سؤال ربه فيما لم يؤذن له فيه فخاف نوح من ذلك الهلاك فلجأ إلى ربه عز وجل وخشع له وعاذ به وسأل المغفرة والرحمة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين وليس في الآيات ما يقتضي صدور ذنب ومعصية من نوح عليه السلام سوى تأويله وإقدامه على سؤال ما لم يؤذن له فيه وهذا ليس بذنب ولا معصية والله أعلم .
قوله سبحانه وتعالى : { قيل يا نوح اهبط } أي انزل من السفينة أو من الجبل إلى الأرض { بسلام } أي بأمن وسلامة { منا وبركات عليك } البركة هي ثبوت الخير ونماؤه وزيادته ، وقيل : المراد بالبركة هنا أن الله سبحانه وتعالى جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة فكل العالم من ذرية أولاده الثلاثة ولم يعقب من كان معه في السفينة غيرهم { وعلى أمم ممن معك } يعني : وعلى ذرية أمم ممن كانوا معك في السفينة ، والمعنى وبركات عليك وعلى قرون تجيء من بعدك من ذرية أولادك وهم المؤمنون . قال محمد بن كعب القرظي : دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة { وأمم سنمتعهم } هذا ابتداء كلام أي وأمم كافرة يحدثون بعدك سنمتعهم يعني في الدنيا إلى منتهى آجالهم { ثم يمسهم منا عذاب أليم } يعني في الآخرة { تلك من أنباء الغيب } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني أن هذه القصة التي أخبرناك يا محمد من قصة نوح وخبر قومه من أنباء الغيب يعني من أخبار الغيب { نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } يعني من قبل نزول القرآن عليك .(3/460)
فإن قلت إن قصة نوح كانت مشهورة معروفة في العالم فكيف قال ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا .
قلت : يحتمل أن يكون كانوا يعلمونها مجملة فنزل القرآن بتفصيلها وبيانها .
وجواب آخر وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان أميّاً لم يقرأ الكتب المتقدمة ولم يعلمها وكذلك كانت أمته فصح قوله ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل نزول القرآن بها { فاصبر } يا محمد على أذى مشركي قومك كما صبر نوح على أذى قومه { إن العاقبة } يعني النصر والظفر على الأعداء والفوز بالسعادة الأخروية يعني للمؤمنين .
قوله عز وجل : { وإلى عاد } يعني وأرسلنا إلى عاد { أخاهم هوداً } يعني أخاهم في النسب لا في الدين { قال يا قوم اعبدوا الله } يعني وحدوا الله ولا تشركوا معه شيئاً في العبادة { ما لكم من إله غيره } يعني أنه تعالى هو إلهكم لا هذه الأصنام التي تعبدونها فإنها حجارة لا تضر ولا تنفع { إن أنتم إلا مفترون } يعني ما أنتم إلا كاذبون في عبادتكم غيره .(3/461)
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
{ يا قوم لا أسألكم عليه } يعني على تبليغ الرسالة { أجراً } يعني جعلاً آخذه منكم { إن أجري } يعني ما ثوابي { إلا على الذي فطرني } يعني : خلقني فإنه هو الذي رزقني في الدنيا ويثيبني في الآخرة { أفلا تعقلون } يعني فتتعظون { ويا قوم استغفروا ربكم } أي آمنوا به فالاستغفار هنا بمعنى الإيمان لأنه هو المطلوب أولاً { ثم توبوا إليه } يعني من شرككم وعبادتكم غيره ومن سالف ذنوبكم { يرسل السماء عليكم مدراراً } يعني : ينزل المطر عليكم متتابعاً مرة بعد مرة في أوقات الحاجة إليه وذلك أن بلادهم كانت مخصبة كثيرة الخير والنعم فأمسك الله عنهم المطر مدة ثلاث سنين فأجدبت بلادهم وقحطت بسبب كفرهم فأخبرهم هود عليه السلام أنهم إن آمنوا بالله وصدقوه أرسل الله إليهم المطر فأحيا به بلادهم كما كانت أول مرة { ويزدكم قوة إلى قوتكم } يعني شدة مع شدتكم ، وقيل : معناه أنكم إن آمنتم يقوِّكم بالأموال والأولاد وذلك أنه سبحانه وتعالى أعقم أرحام نسائهم فلم تلد فقال لهم هود عليه السلام إن آمنتم أرسل الله المطر فتزدادون مالاً ويعيد أرحام الأمهات إلى ما كانت عليه فيلدن فتزدادون قوة بالأموال والأولاد وقيل : تزدادون قوة في الدين إلى قوة الأبدان { ولا تتولوا مجرمين } يعني ولا تعرضوا عن قبول قولي ونصحي حال كونكم مشركين { قالوا يا هود ما جئتنا ببينة } أي ببرهان وحجة واضحة على صحة ما تقول { وما نحن بتاركي ألهتنا عن قولك } يعني وما نترك عبادة آلهتنا لأجل قولك { وما نحن لك بمؤمنين } يعني بمصدقين { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } يعني إنك يا هود لست تتعاطى ما تتعاطاه من مخالفتنا وسب آلهتنا إلا أن بعض آلهتنا أصابك بخبل وجنون لأنك سببتهم فانتقموا منك بذلك ولا نحمل أمرك إلا على هذا { قال } يعني قال هود مجيباً لهم { إني أشهد الله } يعني على نفس واشهدوا يعني واشهدوا أنتم أيضاً علي : { أني بريء مما تشركون من دونه } يعني هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها { فكيدوني جميعاً } يعني احتالوا في كيدي وضري أنتم وأصنامكم التي تعتقدون أنها تضر وتنفع فإنها لا تضر ولا تنفع { ثم لا تنظرون } يعني ثم لا تمهلون وهذا فيه معجزة عظيمة لهود عليه السلام وذلك أنه كان وحيداً في قومه فما قال لهم هذه المقالة ولم يهبهم ولم يخف منهم مع ما هم فيه من الكفر والجبروت إلا لثقته بالله عز وجل وتوكله عليه وهو قوله تعالى : { إني توكلت على الله ربي وربكم } يعني أنه فوض مره إلى الله واعتمد عليه { ما من دابة } يعني تدب على الأرض ويدخل في هذا جميع بني آدم والحيوان لأنهم يدبون على الأرض { إلا هو آخذ بناصيتها } يعني أنه تعالى هو مالكها والقادر عليها وهو يقهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته ، والناصية مقدم الرأس وسمي الشعر الذي عليه ناصية للمجاورة قيل : إنما خصَّ الناصية بالذكر لأن العرب تستعمل ذلك كثيراً في كلامهم فإذا وصفوا إنساناً بالذلة مع غيره يقولون ناصية فلان بيد فلان وكانوا إذا أسروا أسيراً وأرادوا إطلاقه جزوا ناصيته ليمنوا عليه ويعتدوا بذلك فخراً عليه فخاطبهم الله سبحانه وتعالى بما يعرفون من كلامهم { إن ربي على صراط مستقيم } يعني إن ربي وإن كان قادراً وأنتم في قبضته كالعبد الذليل فإنه سبحانه وتعالى لا يظلمكم ولا يعمل إلا بالإحسان والإنصاف والعدل فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بعصيانه ، وقيل معناه أن دين ربي هو الصراط المستقيم وقيل فيه إضمار تقديره إن ربي يحملكم على صراط مستقيم .(3/462)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
{ فإن تولوا } يعني تتولوا بمعنى تعرضوا عن الإيمان بما أرسلت به إليكم { فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم } يعني أني لم يقع مني تقصير في تبليغ ما أرسلت به إليكم إنما التقصير منكم في قبول ذلك { ويستخلف ربي قوماً غيركم } يعني أنكم إن أعرضتم عن الإيمان وقبول ما أرسلت به إليكم يهلككم الله ويستبدل بكم قوماً غيركم أطوع منكم يوحدونه ويعبدونه فيه إشارة إلى عذاب الاستئصال فهو وعيد وتهديد { ولا تضرونه شيئاً } يعني بتوليكم إنما تضرون أنفسكم بذلك وقيل لا تنقصونه شيئاً إذا أهلككم لأن وجودكم وعدمكم عنده سواء { إن ربي على كل شيء حفيظ } يعني أنه سبحانه وتعالى حافظ لكل شيء فيحفظني من أن تنالوني بسوء .
قوله سبحانه وتعالى : { ولما جاء أمرنا } يعني بإهلاكهم وعذابهم { نجينا هوداً والذين آمنوا معه } وكانوا أربعة آلاف { برحمة منا } وذلك أن العذاب إذا نزل قد يعم المؤمن والكفار فلما أنجى الله المؤمنين من ذلك العذاب كان برحمته وفضله وكرمه { ونجيناهم من عذاب غليظ } يعني الريح التي أهلكت بها عاد وذلك أن الله سبحانه وتعالى أرسل على عاد ريحاً شديدة غليظة سبع ليلا وثمانية أيام حسوماً وهي الأيام النحسات فأهلكتهم جميعاً وأنجى الله المؤمنين جميعاً فلم تضرهم شيئاً ، وقيل : المراد بالعذاب الغليظ هو عذاب الآخرة وهذا هو الصحيح ليحصل الفرق بين العذابين والمعنى أنه تعالى كما أنجاهم من عذاب الدنيا كذلك ينجيهم من عذاب الآخرة ووصف عذاب الآخرة بكونه غليظاً لأنه أعظم من عذاب الدنيا { وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله } لمكا فرغ من ذكر قصة عاد خاطب أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال وتلك عاد رده إلى القبيلة وفيه إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال سيروا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا بها ثم وصف حالهم بقوله تعالى جحدوا بآيات ربهم يعني المعجزات التي أتى بها هود عليه السلام وعصوا رسله يعني هوداً وحده إنما أتى به بلفظ الجمع إما للتعظيم أو لأن من كذب برسول فقد كذب كل الرسل { واتبعوا أمر كل جبار عنيد } يعني أن السفلة منهم اتبعوا الرؤساء والمراد من الجبار الرفيع في نفسه المتمرد على الله والعنيد المعاند الذي لا يقبل الحق ولا يتبعه .(3/463)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
{ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة } يعني أردفوا لعنة تتبعهم وتلحقهم وتنصرف معهم واللعنة الطرد والإبعاد من رحمة الله { ويوم القيامة } يعني وفي يوم القيامة أيضاً تتبعهم اللعنة كما تتبعهم في الدنيا ، ثم ذكر سبحانه وتعالى السبب الذي استحقوا به هذه اللعنة فقال سبحانه وتعالى : { ألا إن عاداً كفروا ربهم } أي كفروا بربهم { ألا بعداً لعاد } يعني هلاكاً لهم وقيل بعداً عن الرحمة .
فإن قلت : اللعنة معناها الإبعاد والهلاك فما الفائدة في قوله ألا بعداً لعاد لأن الثاني هو الأول بعينه .
قلت : الفائدة فيه أن التكرار بعبارتين مختلفتين يدل على نهاية التأكيد وأنهم كانوا مستحقين له { قوم هود } عطف بيان لعاد .
فإن قلت : هذا البيان حاصل مفهوم فما الفائدة في قوله قوم هود؟
قلت : إن عاداً كانا قبيلتين عاد الأولى القديمة التي هم قوم هود وعاد الثانية وهم إرم ذات العماد وهم العماليق فأتى بقوله قوم هود ليزول الاشتباه وجواب آخر وهو أن المبالغة في التنصيص تدل على تقوية التأكيد .
قوله عز وجل : { وإلى ثمود أخاهم صالحاً } يعني وأرسلنا إلى ثمود وهم سكان الحجر أخاهم صالحاً يعني في النسب لا في الدين { قال يا قوم اعبدوا الله } أي وحدوا الله وخصوه بالعبادة { ما لكم من إله غيره } يعني هو إلهكم المستحق للعبادة لا هذه الأصنام ثم ذكر سبحانه وتعالى الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال تعالى : { هو أنشأكم من الأرض } يعني أنه هو ابتدأ خلقكم من الأرض وذلك أنهم من بني آدم وآدم خلق من الأرض { واستعمركم فيها } يعني وجعلكم عمارها وسكانها ، وقال الضحاك : أطال أعماركم فيها حتى كان الواحد منهم يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف سنة وكذلك كان قوم عاد وقال مجاهد : أعمركم من العمرى أي جعلها لكم ما عشتم { فاستغفروه } يعني : من ذنوبكم { ثم توبوا إليه } يعني من الشرك { إن ربي قريب } يعني من المؤمنين { مجيب } لدعائهم { قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا } يعني : قبل هذا القول الذي جئت به والمعنى إنا كنا نرجوا أن تكون فينا سيداً لأنه كان من قبيلتهم وكان يعين ضعيفهم ويغني فقيرهم ، وقيل : معناه أنا كنا نطمع أن تعود إلى ديننا فلما أظهر دعاءهم إلى الله وعاب الأصنام انقطع رجاؤهم منه { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } يعني الآلهة { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه } يعني من عبادة الله { مريب } يعني انا مرتابون في قولك من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس ووقوعها في التهمة { قال } يعني قال صالح مجيباً لقومه { يا قوم أرأيتم الله } أي فمن يمنعني من عذاب الله { إن عصيته } يعني إن خالفت أمره { فما تزيدونني غير تخسير } قال ابن عباس معناه غير خسارة في خسارتكم وقال الحسن بن الفضل : لم يكن صالح في خسارة حتى يقول فما تزيدونني غير تخسير وإنما المعنى فما تزيدونني بما تقولون إلا نسبتي إلى الخسارة .(3/464)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
{ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية } وذلك أن قومه طلبوا أن يخرج لهم ناقة من صخرة كانت هناك أشاروا إليها فدعا الله عز وجل فأخرج لهم من تلك الصخرة ناقة عشراء ثم ولدت فصيلاً يشبهها وقوله ناقة الله إضافة تشريف كبيت الله وعبد الله فكانت هذه الناقة لهم آية ومعجزة دالة على صدق صالح عليه السلام { فذروها تأكل } يعني من العشب والنبات { في أرض الله } يعني فليس عليكم مؤنتها { ولا تمسوها بسوء } يعني يعقر { فيأخذكم } يعني إن قتلتموها { عذاب قريب } يعني في الدنيا { فعقروها } يعني فخالفوا أمر ربهم فعقروها { فقال } يعني فقال لهم صالح { تمتعوا } يعني عيشوا { في داركم } أي في بلدكم { ثلاثة أيام } يعني ثم تهلكون { ذلك } يعني العذاب الذي أوعدهم به بعد ثلاثة أيام { وعد غير مكذوب } أي هو غير كذب روى أنه قال لهم يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام فتصبحون في اليوم الأول ووجوهكم مصفرة وفي اليوم الثاني محمرة وفي اليوم الثالث مسودة فكان كما قال وأتاهم العذاب في اليوم الرابع وهو قوله سبحانه وتعالى : { فلما جاء أمرنا } يعني العذاب { نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا } أي بنعمة منا بأن هديناهم إلى الإيمان فآمنوا { ومن خزي يومئذ } يعني ونجيناهم من عذاب يومئذ سمي خزياً لأن فيه خزي الكافرين { إن ربك } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني إن ربك يا محمد { هو القوي } يعني هو القادر على إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين { العزيز } يعني القاهر الذي لا يغلبه شيء ثم أخبر عن عذاب قوم صالح فقال سبحانه وتعالى : { وأخذ الذين ظلموا } يعني أنفسهم بالكفر { الصيحة } وذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة واحدة فهلكوا جميعاً وقيل أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم فماتوا جميعاً { فأصبحوا في ديارهم جاثمين } يعني صرعى هلكى .(3/465)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
{ كأن لم يغنوا فيها } يعني كأن لم يقيموا في تلك الديار ولم يسكنوها مدة من الدهر يقال غنيت بالمكان إذا أتيته أقمت به { ألا إن ثموداً كفروا ربهم ألا بعداً لثمود } وهذه القصص قد تقدمت مستوفاة في تفسير سورة الأعراف .
قوله عز وجل : { ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى } أراد بالرسل الملائكة واختلفوا في عددهم ، فقال ابن عباس وعطاء : كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وقال الضحاك : كانوا تسعة وقال مقاتل كانوا اثني عشر ملكاً ، وقال محمد بن كعب القرظي : كان جبريل ومعه سبعة أملاك وقال السدي : كانوا أحد عشر ملكاً على صور الغلمان الحسان الوجوه وقول ابن عباس : هو الأولى لأن أقل الجمع ثلاثة وقوله رسلنا جميع فيحمل على الأقل وما بعده غير مقطوع به بالبشرى يعني بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل : بإهلاك قوم لوط { قالوا سلاماً } يعني أن الملائكة سلموا سلاماً { قال } يعني لهم إبراهيم { سلام } أي عليكم أو أمركم سلام { فما لبث أن جاء بعجل حنيذ } يعني : مشوياً والمحنوذ هو المشوي على الحجارة المحماة في حفرة من الأرض وهو من فعل أهل البادية وكان سميناً يسيل منه الودك قال قتادة : كان عامة مال إبراهيم عليه السلام البقر ، وقيل : مكث إبراهيم عليه السلام خمس عشرة ليلة لم يأته ضيف فاغتم لذلك وكان يحب الضيف ولا يأكل إلا معه فلما جاءت الملائكة رأى أضيافاً لم ير مثلهم قط فعجل قراهم وجاءهم بعجل سمين مشوي { فلما رأى أيديهم } يعني أيدي الأضياف { لا تصل إليه } يعني إلى العجل المشوي { نكرهم } يعني أنكرهم وأنكر حالهم وإنما أنكر حالهم لامتناعهم من الطعام { وأوجس منهم خيفة } يعني ووقع في قلبه خوف منهم والوجوس هو رعب القلب وإنما خاف إبراهيم صلى الله عليه وسلم منهم لأنه كان ينزل ناحية من الناس فخاف أن ينزلوا به مكروهاً لامتناعهم من طعامه ولم يعرف أنهم ملائكة وقيل إن إبراهيم عرف أنهم ملائكة لما قدمه إليهم لمعلمه أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولأنه خافهم ولو عرف أنهم ملائكة وإنما خاف أن يكونوا نزلوا بعذاب قومه فخاف من ذلك والأقرب أن إبراهيم عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة في أول الأمر ويدل على صحة هذا أنه عليه السلام قدم إليهم الطعام ولو عرف أنهم ملائكة لما خافهم فلما رأت الملائكة خوف إبراهيم عليه السلام { قالوا لا تخلف } يا إبراهيم { إنا } ملائكة الله { أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته } يعني سارة زوجة إبراهيم وهي ابنة هاران بن ناحوراء وهي ابنة عم إبراهيم { قائمة } يعني من وراء الستر تسمع كلامهم ، وقيل : كانت قائمة في خدمة الرسل وإبراهيم جالس معهم { فضحكت } أصل الضحك انبساط الوجه من سرور يحصل للنفس ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك ويستعمل في السرور المجرد وفي التعجب المجرد أيضاً وللعلماء في تفسير هذا الضحك قولان أحدهما أنه الضحك المعروف وعليه أكثر المفسرين ثم اختلفوا في سبب هذا الضحك فقال السدي لما قرب إبراهيم الطعام إلى أضيافه فلم يأكلوا خاف إبراهيم منهم ثم اختلفوا في سبب هذا الضحك فقال السدي لما قرب إبراهيم الطعام إلى أضيافه فلم يأكلوا خاف أبراهيم فقال ألا تأكلون فقالوا إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن قال فإن له ثمناً قالوا وما ثمنه قال تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره فنظر جبريل إلى ميكائيل وقال حق لهذا أن يتخذه ربه خليلاً فلما رأى إبراهيم وسارة أيديهم لا تصل إليه ضحكت سارة وقال يا عجباً لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا ، وقال قتادة : ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم ، وقال مقاتل والكلبي : ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة وهو فيما بين خدمه وحشمه وخواصه وقيل : ضحكت من زوال الخوف عنها وعن إبراهيم وذلك أنها خافت لخوفه فحين قالوا لا تخف ضحكت سروراً وقيل ضحكت سروراً بالبشارة ، وقال ابن عباس ووهب : ضحكت تعجباً من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها فعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير تقديره فبشّرناها بإسحاق فضحكت يعني تعجباً من ذلك وقيل إنها قالت لإبراهيم أضمم إليك ابن أخيك لوطاً فإن العذاب نازل بقومه فلما جاءت الرسل وبشّرت بعذابهم سُّرت سارة بذلك وضحكت لموافقة ما ظنت .(3/466)
القول الثاني : في معنى قوله فضحكت قال عكرمة ومجاهد أي حاضت في الوقت وأنكر بعض أهل اللغة ذلك ، قال الراغب : وقول من قال حاضت ليس ذلك تفسيراً لقوله فضحكت كما تصوره بعض المفسرين فقال ضحكت بمعنى حاضت وإنما ذكر ذلك تنصيصاً لحالها فإن جعل ذلك أمارة لما بشرت به بحيضها في الوقت لتعلم أن حملها ليس بمنكر لأن المرأة ما دامت تحيض فإنها تحمل وقال الفراء : ضحكت بمعنى حاضت لم نسمعه من ثقة ، وقال الزجاج : ليس بشيء ضحكت بمعنى حاضت ، وقال ابن الأنباري : قد أنكر الفراء وأبو عبيدة أن يكون ضحكت بمعنى حاضت وقد عرفه غيرهم وأنشد :
تضحك الضبع لقتلى هذيل ... وترى الذئب بها يستهل
قال : أراد أنها تحيض فرحاً وقال الليث في هذه الآية فضحكت أي طمثت وحكى الأزهري عن بعضهم في قوله فضحكت أي حاضت قال : ويقال أصله من ضحاك الطلعة إذا انشقت ، قال : وقال الأخطل فيه بمعنى الحيض :
تضحك الضبع من دماء سليم ... إذ رأتها على الحراب تمور
وقال في المحكم : ضحكت المرأة حاضت وبه فسر بعضهم قوله سبحانه وتعالى فضحكت فبشرناها بإسحاق وضحكت الأرنب ضحكاً يعني حاضت حيضاً قال :(3/467)
وضحك الأرنب فوق الصفا ... كمثل دم الخوف يوم اللقا
يعني الحيض فيما زعم بعضهم وأجاب عن هذا من أنكر أن يكون الضحك بمعنى الحيض ، قال : كان ابن دريد يقول من شاهد الضبع كند كشرها علم أنها تحيض وإنما أراد الشاعر تكشر لأكل اللحوم وهذا سهو منه لأنه جعل كشرها حيضاً ، وقيل : معناه أنها تستبشر بالقتلى فتهز بعضها على بعض فجعل هزيزها ضحكاً ، وقيل : لأنها تسر بهم فجعل سرورها ضحكاً .
فإن قلت أي القولين أصح في معنى الضحك قلت إن الله عز وجل حكى عنها أنها ضحكت وكلا القولين محتمل في معنى الضحك فالله أعلم أي ذلك كان وقوله سبحانه وتعالى : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } يعني : ومن بعد إسحاق يعقوب وهو ولد الولد فبشرت سارة بأنها تعيش حتى ترى ولد ولدها فلما بشرت بالولد صكت وجهها أي ضربت وجهها وهو من صنيع النساء وعادتهن وإنما فعلت ذلك تعجباً .(3/468)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
{ قالت يا ويلتا } نداء ندبة وأصلها يا ويلتاه وهي كلمة يستعملها الإنسان عند رؤية ما يتعجب منه مثل ما عجباه { أألد وأنا عجوز } وكانت بنت تسعين سنة في قول ابن إسحاق ، وقال مجاهد : كانت بنت تسع وتسعين سنة { وهذا بعلي } يعني زوجي والبعل هو المستعلي على غيره ولما كان زوج المرأة مستعلياً عليها قائماً بأمرها سمي بعلاً لذلك { شيخاً } وكان سن إبراهيم يومئذ مائة وعشرين سنة في قول محمد بن إسحاق وقال مجاهد مائة سنة وكان بين الولادة والبشارة سنة { إن هذا لشيء عجيب } لم تنكر قدرة الله سبحانه وتعالى وإنما تعجبت من كون الشيخ الكبير والعجوز الكبير يولد لهما { قالوا } يعني قالت الملائكة لسارة { أتعجبين من أمر الله } معناه لا تعجبي من ذلك فإن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء فإذا أراد شيئاً كان سريعاً { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } يعني : بيت إبراهيم عليه السلام وهذا على معنى الدعاء من الملائكة لهم بالخير والبركة فيه دليل على أن أزواج الرجل من أهل بيته { إنه حميد } يعني : هو المحمود الذي يحمد على أفعاله كلها وهو المستحق لأن يحمد في السراء والضراء والشدة والرخاء فهو محمود على كل حال { مجيد } ومعناه المنيع الذي لا يرام ، وقال الخطابي : المجيد الواسع الكرم ، وأصل المجد في كلامهم : السعة يقال رجل ماجد إذا كان سخياً كريماً واسع العطاء وقيل الماجد هو ذو الشرف والكرم .(3/469)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
قوله سبحانه وتعالى : { فلما ذهب عن إبراهيم الروع } يعني : الفزع والخوف الذي حصل له عند امتناع الملائكة من الأكل { وجاءته البشرى } يعني زال عنه الخوف بسبب البشرى التي جاءته وهي البشارة بالولد { يجادلنا } فيه إضمار تقديره أخذ يجادلنا أو جعل يجادلنا ويخاصمنا وقيل معناه يكلمنا ويسألنا { في قوم لوط } لأن العبد لا يقدر أن يخاصم ربه وقال جمهور المفسرين : معناه يجادل رسلنا في قوم لوط وكانت مجادلة إبراهيم مع الملائكة أن قال لهم أرأيتم لو كان في مدائن قوم لوط خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها قالوا لا قال فأربعون قالوا لا قال فثلاثون قالوا لا قال فما زال كذلك حتى بلغ خمسة قالوا لا قال أرأيتم لو كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها قالوا لا قال إبراهيم فإن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا أمرأته كانت من الغابرين وقيل إنما طلب إبراهيم تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون أو يرجعون عما هم فيه من الكفر والمعاصي ، قال ابن جريج : كان في قرى قوم لوط أربعة آلاف مقاتل { إن إبراهيم لحليم أوَّاه منيب } تقدم تفسيره في سورة التوبة فعند ذلك قالت الملائكة لإبراهيم { يا إبراهيم أعرض عن هذا } يعني أعرض عن هذا المقال واترك هذا الجدال { إنه قد جاء أمر ربك } يعني : إن ربك قد حكم بعذابهم فهو نازل بهم وهو قوله سبحانه وتعالى : { وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } يعني أن العذاب الذي نزل بهم غير مصروف ولا مدفوع عنهم .
وقوله عز وجل : { ولما جاءت رسلنا لوطاً } يعني : هؤلاء الملائكة الذين كانوا عند إبراهيم وكانوا على صورة غلمان مرد حسان الوجوه { سيء بهم } يعني أحزن لوط بمجيئهم إليه وساء ظنه بقومه { وضاق بهم ذرعاً } قال الأزهري : الذي يوضع موضع الطاقة والأصل فيه أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعاً على قدر سعة خطوه فإذا حمل عليه أكثر من طوقه ضاق ذرعه من ذلك وضعف ومد عنقه فجعل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع والطاقة والمعنى وضاق بهم ذرعاً إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصاً ، وقال غيره : معناه ضاق بهم قلباً وصدراً ولا يعرف أصله إلا أن يقال إن الذرع كناية عن الوسع ، والعرب تقول : ليس هذا في يدي يعنون ليس هذا في وسعي لأن الذراع من اليد ويقال ضاق فلان ذرعاً بكذا إذا وقع في مكروه ولا يطيق الخروج منه وذلك أن لوطاً عليه السلام لما نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم أشفق عليهم من قومه وخاف أن يقصدوهم بمكروه أو فاحشة وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عنهم { وقال } يعني لوطاً { هذا يوم عصيب } أي : شديد كأنه قد عصب به الشر والبلاء أي شد به مأخوذ من العصابة التي تشد به الرأس ، قال قتادة والسدي : خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فأتوا لوطاً نصف النهار وهو يعمل في أرض له وقيل أنه كان يحتطب وقد قال الله سبحانه وتعالى للملائكة لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات فاستضافوه فانطلق بهم فلما مشى ساعة قال لهم أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا وما أمرهم قال أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملاً يقول ذلك أربع مرات فمضوا معه حتى دخلوا منزله وقيل : إنه لما حمل الحطب ومعه الملائكة مر على جماعة من قومه فتغامزوا فيما بينهم فقال لوط إن قومي شر خلق الله تعالى ، فقال جبريل : هذه واحدة فمر على جماعة أخرى فتغامزوا فقال مثله ثم مر على جماعة أخرى ففعلوا ذلك وقال لوط مثل ما قال أولاً حتى قال ذلك أربع مرات وكلما قال لوط هذا القول قال جبريل للملائكة اشهدوا وقيل إن الملائكة جاءوا إلى بيت لوط فوجدوه في داره فدخلوا عليه ولم يعلم أحد بمجيئهم إلا أهل بيت لوط فخرجت امرأته الخبيثة فأخبرت قومها وقالت : إن في بيت لوط رجالاً ما رأيت مثل وجوههم قط ولا أحسن منهم .(3/470)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
{ وجاءه قومه يهرعون إليه } قال ابن عباس وقتادة يسرعون إليه وقال مجاهد يهرولون ، وقال الحسن : الإهراع هو مشي بين مشيين وقال شمر هو بين الهرولة والخبب والجمز { ومن قبل } يعنى من قبل مجيء الرسل إليهم قيل ومن قبل مجيئهم إلى لوط { كانوا يعملون السيئات } يعني الفعلات الخبيثة والفاحشة القبيحة وهي إتيان الرجال في أدبارهم { قال } يعني : قال لوط لقومه حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان من بني آدم { يا قوم هؤلاء بناتي } يعني أزواجكم إياهن وقى أضيافه ببناته قيل إنه كان في ذلك الوقت وفي تلك الشريعة تزويج المرأة المسلمة بالكافر ، وقال الحسن بن الفضل : عرض بناته عليهم بشرط الإسلام ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير : أراد ببناته نساء قومه وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبي أبو أمته وهو كالوالد لهم وهذا القول هو الصحيح وأشبه بالصواب إن شاء الله تعالى والدليل عليه أن بنات لوط كانتا إثنتين وليستا بكافيتين للجماعة وليس من المروءة أن يعرض الرجل بناته على أعدائه ليزوجهن إياهم فكيف يليق ذلك بمنصب الأنبياء أن يعرضوا بناتهم على الكفار وقيل إنما قال ذلك لوط على سبيل الدفع لقومه لا على سبيل التحقيق وفي قوله { هن أطهر لكم } سؤال وهو أن يقال أن قوله هو أطهر لكم من باب أفعل التفضيل فيقتضي أن يكون الذي يطلبونه من الرجال طاهراً ومعلوم أنه محرم فاسد نجس لا طهارة فيه البتة فكيف قال هن أطهر لكم والجواب عن هذا السؤال إن هذا جار مجرى قوله ذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم ومعلوم أن شجرة الزقوم لا خير فيها وكقوله صلى الله عليه وسلم لما قال يوم أحد اعل هبل قال الله أعلى وأجل إذ لا مماثلة بين الله عز وجل والصنم وإنما هو كلام خرج مخرج المقابلة ولهذا نظائر كثيرة .
وقوله { فاتقوا الله } يعني خافوه وراقبوه واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان { ولا تخزون في ضيفي } يعني ولا تسوءني في أضيافي ولا تفضحوني معهم { أليس منكم رجل رشيد } أي صالح سديد عاقل ، وقال عكرمة : رجل يقول لا إله إلا الله ، وقال محمد بن إسحاق : رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى ينهى عن هذا الفعل القبيح { قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق } يعني ليس لنا بهن حاجة ولا لنا فيهن شهوة وقيل معناه ليست بناتك لنا بأزواج ولا مستحقين نكاحهن وقيل معناه مالنا في بناتك من حاجة لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ولا نريد ذلك { وإنك لتعلم ما نريد } يعني من إتيان الرجال في أدبارهم فعند ذلك { قال } لوط عليه السلام { لو أن لي بكم قوة } أي لو أني أقدر أن أتقوى عليكم { أو آوي إلى ركن شديد } يعني أو أنضم إلى عشيرة يمنعوني منكم ، وجواب لو محذوف تقديره لو وجدت قوة لقاتلتكم أو لوجدت عشرة لانضممت إليهم قال أبو هريرة : ما بعث الله نبياً بعده إلا في منعة من عشيرته ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/471)
« يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته » قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله : المراد بالركن الشديد هو الله عز وجل فإنه أشد الأركان وأقواها وأمنعها ومعنى الحديث أن لوطاً عليه السلام لما خاف على أضيافه ولم تكن له عشيرة تمنعهم من الظالمين ضاق ذرعه واشتد خزنه عليهم فغلب ذلك عليه فقال في تلك الحال لو أن لي بكم قوة في الدفع بنفسي أو آوي إلى عشيرة تمنع لمنعتكم وقصد لوط إظهار العذر عند أضيافه وأنه لو استطاع لدفع المكروه عنهم ومعنى باقي الحديث فيما يتعلق بيوسف عليه السلام يأتي في موضعه من سورة يوسف إن شاء الله تعالى ، قال ابن عباس وأهل التفسير : أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار وجعل يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب وقومه يعالجون سور الدار فلما رأت الملائكة ما لقي لوط بسببهم .(3/472)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
{ قالوا يا لوط } ركنك شديد { إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } يعني بمكروه فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام ربه عز وجل في عقوبتهم فأذن له فتحول إلى صورته التي يكون فيها ونشر جناحية وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا أجلى الجبين ورأسه حبك مثل المرجان كأنه كالثلج بياضاً وقدماه إلى الخضرة فضرب بجناحية وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم فانصرفوا وهم يقولون النجاء النجاء في بيت لوط أسحر قوم في الأرض قد سحرونا وجعلوا يقولون يا لوط كما أنت حتى تصبح وسترى ما تلقى منا غداً يوعدونه بذلك { فأسر بأهلك } يعني ببيتك { بقطع من الليل } قال ابن عباس : بطائفة من الليل ، وقال الضحاك : لبقية من الليل ، وقال قتادة : بعد مضي أوله وقيل أنه السحر الأول { ولا يلتفت منكم أحد } يعني ولا يلتفت منكم أحد إلى ورائه ولا ينظر إلى خلفه { إلا امرأتك } فإنها من الملتفتات فتهلك مع من هلك من قومها وهو قوله سبحانه وتعالى : { إنه مصيبها ما أصابهم } فقال لوط : متى يكون هذا العذاب قالوا { إن موعدهم الصبح } قال لوط إنه بعيد أريد أسرع من ذلك فقالوا له { أليس الصبح بقريب } فلما خرج لوط من قريته أخذ أهله معه وأمرهم ألا يلتفت منهم أحد فقبلوا منه إلا امرأته فإنها لما سمعت هذه العذاب وهو نازل بهم التفتت وصاحت وا قوماه فأخذتها حجارة فأهلكتها معهم { فلما جاء أمرنا } يعني أمرنا بالعذاب { جعلنا عاليها سافلها } وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط وهي خمس مدائن أكبرها سدوم وهي المؤتفكات المذكورة في سورة براءة ويقال كان فيها أربعمائة ألف وقيل أربعة آلاف ألف فرفع جبريل المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب لم يكفأ لهم إناء ولم ينتبه لهم نائم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها { وأمطرنا عليها } يعني على شذاذها ومن كان خارجاً عنها من مسافريها وقيل بعد ما قلبها أمطر عليهم { حجارة من سجيل } قال ابن عباس وسعيد بن جبير : معناه شنك كل فارسي معرب لأن العرب تكلمت بشيء من الفارسي صارت لغة للعرب ولا يضاف إلى الفارسي مثل قوله سندس وإستبرق ونحو ذلك فكل هذه ألفاظ فارسية تكلمت بها العرب واستعملتها في ألفاظهم فصارت عربية ، قال قتادة وعكرمة : السجيل الطين دليله قوله في موضع آخر حجارة من طين . وقال مجاهد : أولها حجر وآخرها طين ، وقال الحسن : أصل الحجارة طين فشدت ، وقال الضحاك : يعني الآجر وقيل : السجيل اسم سماء الدنيا ، وقيل : هو جبل في سماء الدنيا { منضود } قال ابن عباس : متتابع يتبع بعضها بعضاً مفعول من النضد وهو وضع الشيء بعضه فوق بعض .(3/473)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
{ مسومة عند ربك } صفة للحجارة يعني معلمة قال ابن جريج : عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض ، وقال قتادة وعكرمة : عليها خطوط حمر على هيئة الجزع وقال الحسن والسدي : كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم ، وقيل : كان مكتوباً عليها أي على كل حجر اسم صاحبه الذي يرمى به { وما هي } يعني تلك الحجارة { من الظالمين } يعني مشركي مكة { ببعيد } قال قتادة وعكرمة : يعني ظالمي هذه الآمة والله ما أجار الله منها ظالماً بعد وفي بعض الآثار ما من ظالم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة ، وقيل : إن الحجارة اتبعت شذاذ قوم لوط حتى إن واحداً منهم دخل الحرم فوجد الحجر معلقاً في السماء أربعين يوماً حتى خرج ذلك الرجل من الحرم فسقط عليه الحجر فأهلكه .
قوله عز وجل : { وإلى مدين } يعني وأرسلنا إلى مدين { أخاهم شعيباً } مدين اسم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ثم صار إسماً للقبيلة من أولاده وقيل هو اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم فعلى هذا يكون التقدير وأرسلنا إلى أهل مدين فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } يعني وحِّدوا الله ولا تعبدوا معه غيره كانت عادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يبدؤون بالأهم فالأهم ولما كانت الدعوة إلى توحيد الله وعبادته أهم الأشياء قال شعيب إعبدوا الله ما لكم من إله غيره ثم بعد الدعوة إلى التوحيد شرع فيما هم فيه ولما كان المعتاد من أهل مدين البخس في الكيل والوزن دعاهم إلى ترك هذه العادة القبيحة وهي تطفيف الكيل والوزن فقال { ولا تنقصوا المكيال والميزان } النقص في الكيل والوزن على وجهين أحدهما : أن يكون الاستنقاص من قبلهم فيكيلون ويزنون للغير ناقصاً ، والوجه الآخر : هو استيفاء الكيل والوزن لأنفسهم زائداً عن حقهم فيكون نقصاً في مال الغير وكلا الوجهين مذموم فلهذا نهاهم شعيب عن ذلك بقوله ولا تنقصوا المكيال والميزان { إني أراكم بخير } قال ابن عباس : كانوا موسرين في نعمة وقال مجاهد : كانوا في خصب وسعة فحذرهم زوال تلك النعمة وغلاء السعر وحصول النقمة إن لم يتوبوا ولم يؤمنوا وهو قوله : { وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } يعني : يحيط بكم فيهلككم جميعاً وهو عذاب الاستئصال في الدنيا أو حذرهم عذاب الآخرة ومنه قوله سبحانه وتعالى وإن جهنم لمحيطة بالكافرين { ويا قوم أوفوا المكيال والميزان } أي أتموهما ولا تطففوا فيهما { بالقسط } أي بالعدل ، وقيل : بتقويم لسان الميزان وتعديل المكيال { ولا تبخسوا الناس } أي : ولا تنقصوا الناس { أشياءهم } يعني أموالهم فإن قلت قد وقع التكرار في هذه القصة من ثلاثة أوجه لأنه قال ولا تنقصوا المكيال والميزان ، ثم قال : أوفوا المكيال والميزان وهذا عين الأول ثم قال ولا تبسخوا الناس أشياءهم وهذا عين ما تقدم فما الفائدة في هذا التكرار .(3/474)
قلت : إن القوم لما كانوا مصرين على ذلك العمل القبيح وهو تطفيف الكيل والوزن ومنع الناس حقوقهم احتيج في المنع إلى المبالغة في التأكيد والتكرير يفيد شدة الاهتمام والعناية بالتأكيد فلهذا كرر ذلك ليقوي الزجر والمنع من ذلك الفعل لأن قوله ولا تنقصوا المكيال والميزان نهى عن التنقيص وقوله أوفوا المكيال والميزان أمر بإيفاء العدل وهذا غير الأول ومغاير له ولقائل أن يقول النهي ضد الأمر فالتكرار لازم على هذا الوجه قلنا الجواب عن هذا قد يجوز أن ينهى عن التنقيص ولا يأمر بإيفاء الكيل والوزن فلهذا جمع بينهما فهو كقولك صل رحمك ولا تقطعها فتريد المبالغة في الأمر والنهي وأما قوله ثانياً ولا تبخسوا الناس أشياءهم فليس بتكرير أيضاً لأنه سبحانه وتعالى لما خصص النهي عن التنقيص والأمر بإيفاء الحق في الكيل والوزن عمم الحكم في جميع الأشياء التي يجب إيفاء الحق فيها فيدخل فيه الكيل والوزن وغير ذلك فظهر بهذا البيان فائدة التكرار والله أعلم؟ وقوله سبحانه وتعالى : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } يعني بتنقيص الكيل والوزن ومنع الناس حقوقهم .(3/475)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
{ بقيت الله خير لكم } قال ابن عباس يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير لكم مما تأخذونه بالتطفيف وقال مجاهد بقية الله يعني طاعة الله خير لكم وقيل بقية الله يعني ما أبقاه لكم من الثواب في الآخرة خير لكم مما يحصل لكم في الدنيا من المال الحرام { إن كنتم مؤمنين } يعني مصدقين بما قلت لكم وأمرتكم به ونهيتكم عنه { وما أنا عليكم بحفيظ } يعني أحفظ أعمالكم قال بعضهم إنما قال لهم شعيب ذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم { قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } يعني من الأصنام { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } يعني من الزيادة والنقصان ، قال ابن عباس : كان شعيب كثير الصلاة فلذلك قالوا هذا وقيل إنهم كانوا يمرون ب فيرونه يصلي فيستهزئون به ويقولون هذه المقالة ، وقال الأعمش : أقراءتك لأن الصلاة تطلق على القراءة والدعاء وقيل المراد بالصلاة هنا الدين يعني أدينك يأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نفعل في أموالنا ما نشاء وذلك أنهم كانوا ينقصون الدراهم والدنانير فكان شعيب عليه السلام ينهاهم عن ذلك ويخبرهم أنه محرم عليهم وإنما ذكر الصلاة لأنها من أعظم شعائر الدين { إنك لأنت الحليم الرشيد } قال ابن عباس : أرادوا السفيه الغاوي لأن العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون للديغ سليم وللفلاة المهكلة مفازة ، وقيل : هو على حقيقته وإنما قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية ، وقيل : معناه إنك لأنت الحليم الرشيد في زعمك وقيل هو على بابه من الصحة ومعناه إنك يا شعيب فينا حليم رشيد فلا يحمل بك شق عصا قومك ومخالفتهم في دينهم { قال } يعني قال لهم شعيب { يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } يعني : على بصيرة وهداية وبيان { ورزقني منه رزقاً حسناً } يعني حلالاً قيل كان شعيب كثير المال الحلال والنعمة وقيل الرزق الحسن ما أتاه الله من العلم والهداية والنبوة والمعرفة وجواب إن الشرطية محذوف تقديره أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني المال الحلال والهداية والمعرفة والنبوة فهل يسعني مع هذه النعمة أن أخون في وحيه أو أن أخالف أمره أو أتبع الضلال أو أبخس الناس أشياءهم ، وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم ذلك أنهم قالوا له إنك لأنت الحليم الرشيد والمعنى فكيف يليق بالحليم الرشيد أن يخالف أمر ربه وله عليه نعم كثيرة وقوله : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } قال صاحب الكشاف يقول خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده ويقال الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول خالفني إلى الماء يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذاهب عنه صداراً ومنه قوله { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } أي أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم .(3/476)
قال الإمام فخر الدين الرازي : وتحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا فيها بأنه حليم رشيد وذلك يدل على كمال العقل وكمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح فكأنه عليه السلام قال لهم لما اعترفتم بكمال عقلي فاعملوا أن الذي اخترته لنفسي هو أصوب الطرق وأصلحها وهو الدعوة إلى توحيد الله وترك البخس والنقصان فأنا مواظب عليها غير تارك لها فاعلموا أن هذه الطريقة خير الطرق وأشرفها لا ما أنتم عليه وقال الزجاج : معناه إني لست أنهاكم عن شيء وأدخل فيه إنما أختار لكم لنفسي وقال ابن الأنباري بين أن الذي يدعوهم إليه من اتباع طاعة الله وترك البخس والتطفيف هو ما يرتضيه لنفسه وهو لا ينطوي إلا عليه فكان هذا محض النصيحة لهم { إن أريد } يعني ما أريد فيما آمركم به وإنهاكم عنه { إلا الإصلاح } يعني فيما بيني وبينكم { ما استطعت } يعني ما استطعت إلا الإصلاح وهو الإبلاغ والإنذار فقط ولا أستطيع إجباركم على الطاعة لأن ذلك إلى الله فإنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء { وما توفيقي إلا بالله } التوفيق تسهيل سبيل الخير والطاعة على العبد ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى فلذلك قال تعالى : { وما توفيقي إلا بالله } { عليه توكلت } يعني على الله اعتمدت في جميع أموري { وإليه أنيب } يعني وإليه أرجع فيما ينزل من النوائب وقيل إليه أرجع في معادي روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر شعيباً قال « ذلك خطيب الأنبياء » لحسن مراجعته قومه .
وقوله تعالى : { ويا يوم لا يجرمنكم شقاقي } أي لا يحملنكم خلافي وعداوتي { أن يصيبكم } يعني عذاب العاجلة على كفركم وأفعالكم الخبيثة { مثل ما أصاب قوم نوح } يعني الغرق { أو قوم هود } يعني الريح التي أهلكتهم { أو قوم صالح } يعني ما أصابهم من الصيحة حتى هلكوا جميعاً { وما قوم لوط منكم ببعيد } وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم وقيل معناه وما ديار قوم لوط منكم ببعيد وذلك انهم كانوا جيران قوم لوط وبلادهم قريبة من بلادهم .(3/477)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
{ واستغفروا ربكم } يعني من عبادة الأصنام { ثم توبوا إليه } يعني من البخس والنقصان في الكيل والوزن { إن ربي رحيم } يعني بعباده إذا تابوا واستغفروا { ودود } قال ابن عباس : الودود المحبّ لعباده المؤمنين فهو من قولهم وددت الرجل أوده إذا أحببته ، وقيل : يحتمل أن يكون ودود فعول بمعنى مفعول ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لكثرة إفضاله وإحسانه إليهم . وقال الحليمي : هو الوّاد لأهل طاعته أي الراضي عنهم بأعمالهم والمحسن إليهم لأجلهم والمادح لهم بها ، وقال أبو سليمان الخطابي : وقد يكون معناه من تودد إلى خلقه { قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول } يعني ما نفهم ما تدعونا إليه وذلك أن الله سبحانه وتعالى ختم على قلوبهم فصارت لا تعي ولا تفهم ما ينفعها وإن كانوا في الظاهر يسمعون ويفهمون { وإنا لنراك فينا ضعيفاً } قال ابن عباس وقتادة : كان أعمى ، قال الزجاج : ويقال إن حمير كانوا يسمون المكفوف ضعيفاً وقال الحسن وأبو روق ومقاتل : يعني ذليلاً ، قال أبو روق : إن الله سبحانه وتعالى لم يبعث نبياً أعمى ولا نبياً به زمانة ، وقيل : كان ضعيف البصر وقيل المراد بالضعف العجز عن الكسب والتصرف وقيل هو الذي يتعذر عليه المنع عن نفسه ويدل على صحة هذا القول ما بعده وهو قوله { ولولا رهطك } يعني جماعتك وعشيرتك قيل الرهط ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : إلى السبعة { لرجمناك } يعني لقتلناك بالحجارة والرجم أسوأ القتلات وشرها ، وقيل : معناه لشتمناك وأغلظنا لك القول { وما أنت علينا بعزيز } يعني بكريم وقيل بممتنع منا والمقصود من هذا الكلام وحاصله أنهم بينوا لشعيب عليه السلام أنه لا حرمة له عندهم ولا في صدورهم وأنهم إنما لم يقتلوه ولم يسمعوه الكلام الغليظ الفاحش لأجل احترامهم رهطه وعشيرته وذلك لأنهم كانوا على دينهم وملتهم ولما قالوا لشعيب عليه السلام هذه المقالة أجابهم بقوله { قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله } يعني أهيب عندكم من الله وأمنع حتى تركتم قتلي لمكان رهطي عندكم فالأولى أن تحفظوني في الله ولأجل الله لا لرهطي لأن الله أعز وأعظم { واتخذتموه وراءكم ظهرياً } يعني ونبذتم أمر الله وراء ظهوركم وتركتموه كالشيء الملقى الذي لا يلتفت إليه { إن ربي بما تعملون محيط } يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأحوالكم جميعاً لا يخفى عليه منها شيء فيجازيكم بها يوم القيامة { ويا قوم اعملوا على مكانتكم } يعني على تؤدتكم وتمكنكم من أعمالكم وقيل المكانة الحالة والمعنى اعملوا حال كونكم موصفين بعناية المكنة والقدرة من الشر { إني عامل } يعني ما أقدر عليه من الطاعة والخير وهذا الأمر في قوله اعملوا فيه وعيد وتهديد عظيم ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى : { سوف تعلمون } أينا الجاني على نفسه المخطئ في فعله .(3/478)
فإن قلت أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في قوله سوف تعلمون .
قلت إدخال الفاء في قوله : فسوف تعلمون ، وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل ونزعها في قوله سوف تعلمون وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا فما يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت فقال سوف تعلمون يعني عاقبة ذلك فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف للتفنن في البلادة كما هو عادة بلغاء العرب وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف للتفنن في البلادة كما هو عادة بلغاء العرب وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه والمعنى سوف تعلمون { من يأتيه عذاب يخزيه } يعني بسبب عمله السيء أو أينا الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه { ومن هو كاذب } يعني فيما يدعيه { وارتقبوا } يعني وانتظروا العاقبة ما يؤول إليه أمري وأمركم { إني معكم رقيب } أي منتظر ، والرقيب بمعنى المراقب .(3/479)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
{ ولما جاء أمرنا } يعني بعذابهم وإهلاكهم { نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا } يعني بفضل منا بأن هديناهم للإيمان ووفقناهم للطاعة { وأخذت الذين ظلموا } يعني ظلموا أنفسهم بالشرك والبخس { الصيحة } وذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم وماتوا جميعاً ، وقيل : أتتهم صيحة واحدة من السماء فماتوا جميعاً { فأصبحوا في ديارهم جاثمين } يعني ميتين وهو إستعارة من قولهم جثم الطير إذا قعد ولطأ بالأرض { كأن لم يغنوا فيها } يعني كأن لم يقيموا بديارهم مدة من الدهر مأخوذ من وقولهم غني بالمكان إذا أقام فيه مستغنياً به عن غيره { ألا بعداً } يعني هلاكاً { لمدين كما بعدت ثمود } قال ابن عباس « لم تعذب أمتان قط بعذاب واحد إلى قوم شعيب وقوم صالح فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم وأما قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم » قوله عز وجل : { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } يعي بحججنا والبراهين التي أعطيناه الدالة على صدقه ونبوته { وسلطان مبين } يعني ومعجزة باهرة ظاهرة دالة على صدقة أيضاً قال بعض المفسرين المحققين سميت الحجة سلطاناً لأن صاحب الحجة يقهر من لا حجة معه كالسلطان يقهر غيره ، وقال الزجاج : السلطان هو الحجة وسمي السلطان سلطاناً لأنه حجة الله في الأرض { إلى فرعون وملئه } يعني أتباعه وأشراف قومه { فاتبعوا أمر فرعون } يعني ما هو عليه من الكفر وترك الإيمان بما جاءهم به موسى { وما أمر فرعون برشيد } يعني وما طريق فرعون وماهو عليه بسديد ولا حميد العاقبة ولا يدعو إلى خير { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار } يعني كما تقدم قومه فأدخلهم البحر في الدنيا كذلك يتقدم قومه يوم القيامة فيدخلهم النار ويدخل هو أمامهم ، والمعنى كما كان قدوتهم في الضلال والكفر في الدنيا فكذلك هو قدوتهم وإمامهم في النار { وبئس الورد المورود } يعني : وبئس الدخل المدخول فيه وقيل شبه الله تعالى فرعون في تقدمه على قومه إلى النار بمن يتقدم على الوارد إلى الماء وشبه أتباعه بالواردين بعده ولما كان ورود الماء محموداً عند الواردين لأنه يكسر العطش قال في حق فرعون وأتباعه فأوردهم النار وبئس الورد المورود لأن الأصل فيه قصد الماء واستعمل في ورود النار على سبيل الفظاعة { وأتبعوا في هذه } يعني في هذه الدنيا { لعنة } يعني طرداً وبعداً عن الرحمة { ويوم القيامة } يعني وأتبعوا لعنة أخرى يوم القيامة مع اللعنة التي حصلت لهم في الدنيا { بئس الرفد المرفود } يعني بئس العون المعان وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعنة في الآخرة وقيل معناه بئس العطاء المعطى وذلك أن ترادف عليهم لعنتان لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة .(3/480)
وقوله سبحانه وتعالى : { ذلك من أنباء القرى } يعني من أخبار أهل القرى وهم الأمم السالفة والقرون الماضية { نقصّه عليك } يعني نخبرك به يا محمد لتخبر قومك أخبارهم لعلهم يعتبرون بهم فيرجعوا عن كفرهم أو ينزل بهم مثل ما نزل بهم من العذاب { منها } يعني من القرى التي أهلكنا أهلها { قائم وحصيد } يعني منها عامر ومنها خراب وقيل منها قائم يعني الحيطان بغير سقوف ومنها ما قد محي أثره بالكلية شبهها الله تعالى بالزرع الذي بعضه قائم على سوقه وبعضهم قد حصد وذهب أثره والحصيد بمعنى المحصود { وما ظلمناهم } يعني بالعذاب والإهلاك { ولكن ظلموا أنفسهم } يعني بالكفر والمعاصي { فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك } يعني بعذابهم أي لم تنفعهم أصنامهم ولم تدفع عنهم العذاب { وما زادوهم غير تتبيب } يعني غير تخسير وقيل غير تدمير .(3/481)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
{ وكذلك أخذ ربك } يعني وهكذا أخذ ربك { إذا أخذ القرى وهي ظالمة } الضمير في وهي عائد على القرى والمراد أهلها { إن أخذه أليم شديد } ( ق ) عن أبي موسى الأعشري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد » فالآية الكريمة في الحديث دليل على أن من أقدم على ظلم فإنه يجب أن يتدارك ذلك بالتوبة والإنابة ورد الحقوق إلى أهلها إن كان الظلم للغير لئلا يقع في هذا الوعيد العظيم والعذاب الشديد ولا يظن أن هذه الآية حكمها مختص بظالمي الأمم الماضية بل هو عام في كل ظالم ويعضده الحديث والله أعلم .
قوله عز وجل : { إن في ذلك لآية } يعني ما ذكر من عذاب الأمم الحالية وإهلاكهم لعبرة وموعظة { لمن خاف عذاب الآخرة } يعني أن إهلاك أولئك عبرة يعتبر بها وموعظة يتعظ بها من كان يخشى الله ويخاف عذابه في الآخرة لأنه إذا نظر ما أحل الله بأولئك الكفار في الدنيا من أليم عذابه وعظيم عقابه وهو كالنموذج مما أعد لهم في الآخرة اعتبر به فيكون زيادة في خوفه وخشيته من الله { ذلك يوم مجموع له الناس } يعني يوم القيامة تجمع فيه الخلائق من الأولين والآخرين للحساب والوقوف بين يدي رب العالمين { وذلك يوم مشهود } يعني يشهده أهل السماء وأهل الأرض { وما نؤخره إلا لأجل معدود } يعني وما نؤخر ذلك اليوم وهو يوم القيامة إلا إلى وقت معلوم محدود وذلك الوقت لا يعلمه أحد إلا الله تعالى : { يوم يأت } يعني ذلك اليوم { لا تكلم نفس إلا بإذنه } قيل : إن جميع الخلائق يسكتون في ذلك اليوم فلا يتكلم أحد فيه إلا بإذن الله تعالى .
فإن قلت كيف وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه وتعالى : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } وقوله إخباراً عن محاجة الكفار { والله ربنا ما كنا مشركين } والأخبار أيضاً تدل على الكلام في ذلك اليوم .
قلت : يوم القيامة يوم طويل وله أحوال مختلفة وفيه أهوال عظيمة ففي بعض الأحوال لا يقدرون على الكلام لشدة الأهوال وفي بعض الأحوال يؤذن لهم في الكلام فيتكلمون وفي بعضها تخفف عنهم تلك الأهوال فيحاجون ويجادلون وينكرون ، وقيل : المراد من قوله لا تكلم نفس إلا بإذنه الشفاعة يعني لا تشفع نفس لنفس شيئاً إلا أن يأذن الله لها في الشفاعة { فمنهم } يعني فمن أهل الموقف { شقي وسعيد } الشقاوة خلاف السعادة والسعادة هي معاونة الأمور الإلهية للإنسان ومساعدته على فعل الخير والصلاح وتيسيره لها ثم السعادة على ضربين سعادة دنيوية وسعادة أخروية وهي السعادة القصوى لأن نهايتها الجنة وكذلك الشقاوة على ضربين أيضاً شقاوة دنيوية وشقاوة أخروية وهي الشقاوة القصوى لأن نهايتها النار فالشقي من سبق له الشقاوة في الأزل والسعيد من سبقت له السعادة في الأزل ( ق ) .(3/482)
عن علي بن أبي طالب قال : « كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكت بمخصرته ثم قال : ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى } » الآية . بقيع الغرقد هو مقبرة أهل المدينة الشريفة ومدفنهم والمخصرة كالسوط والعصا ونحو ذلك مما يمسكه بيده الإنسان والنكت بالنون والتاء المثناة من فوق ضرب الشيء بتلك المخصرة أبو اليد ونحو ذلك حتى يؤثر فيه واستدل بعض العلماء بهذه الآية وهذا الحديث على أن أهل الموقف قسمان شقي وسعيد لا ثالث لهما وظاهر الآية والحديث يدل على ذلك لكن بقي قسم آخر مسكوت عنه وهو من استوت حسناته وسيئاته وهم أصحاب الأعراف في قول والأطفال والمجانين الذين لا حسنات لهم ولا سيئات فهؤلاء مسكوت عنهم فهم تحت مشيئة الله عز وجل يوم القيامة يحكم فيهم بما يشاء وتخصيص هذين القسمين بالذكر لا يدل على نفي القسم الثالث { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها } أي في النار من العذاب والهوان { زفير وشهيق } أصل الزفير ترديد النفس في الصدر حتى تنتفخ منه الضلوع والشهيق رد النفس إلى الصدر أو الزفير مده وإخراجه من الصدر وقال ابن عباس : الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف ، وقال الضحاك ومقاتل : الزفير أول صوت الحمار والشهيق آخره إذا رده إلى صدره وقال أبو العالية ، الزفير في الحلق والشهيق في الجوف .(3/483)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
{ خالدين فيها } يعني لابثين مقيمين في النار { ما دامت السموات والأرض } قال الضحاك : يعني ما دامت سموات الجنة والنار وأرضهما ولا بد لأهل الجنة وأهل النار من سماء تظلهم وأرض تقلهم فكل ما علاك فأظلك فهو سماء وكل ما استقر عليه قدمك فهو أرض وقال أهل المعاني هذه عبارة عن التأبيد وذلك على عادة العرب فإنهم يقولون لا آتيك ما دامت السموات والأرض وما اختلف الليل والنهار يريدون بذلك التأبيد .
وقوله سبحانه وتعالى : { إلا ما شاء ربك } اختلف العلماء في معنى هذين الإستثناءين فقال ابن عباس والضحاك : الإستثناء الأول المذكور في أهل الشقاء يرجع إلى قوم من المؤمنين يدخلهم الله النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها فيكون استثناء من غير الجنس لأن الذين أخرجوا من النار سعداء في الحقيقة استثناهم الله تعالى من الأشقياء ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله سبحانه وتعالى يخرج قوماً من النار بالشفاعة فيدخلهم الجنة » وفي رواية « إن الله يخرج ناساً من النار فيدخلهم الجنة » أخرجه البخاري ومسلم ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « يخرج من النار قوم بعد ما مسهم منها سفع فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين » وفي رواية « ليصيبن أقواماً سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة لهم ثم يدخلهم الله الجنة بفضله ورحمته فيقال لهم الجهنميون » ( خ ) عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنة يسمون الجهنميين » وأما الاستثناء الثاني المذكور في أهل السعادة فيرجع إلى مدة لبث هؤلاء في النار قبل دخولهم الجنة فعلى هذا القول يكون معنى الآية فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك أن يخرجهم منها فيدخلهم الجنة { إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك } أن يدخله النار أولاً ثم يخرجه منها فيدخله الجنة فحاصل هذا القول إن الاستثناءين يرجع كل واحد منهما إلى قوم مخصوصين هم في الحقيقة سعداء أصابوا ذنوباً استوجبوا بها عقوبة يسيرة في النار ثم يخرجون منها فيدخلون الجنة لأن إجماع الأمة على أن من دخل الجنة لا يخرج منها أبداً وقيل إن الاستثناءين يرجعان إلى الفريقين السعداء والأشقياء وهو مدة تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ وهو ما بين الموت إلى البعث ومدة وقوفهم للحساب ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيكون المعنى خالدين في الجنة والنار إلا هذا المقدار ، وقيل : معنى إلا ما شاء ربك سوى ما شاء ربك فيكون الامعنى خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من الزيادة على ذلك وهو كقولك لفلان علي ألف إلا ألفين أي سوى ألفين وقيل إلا بمعنى الواو بمعنى وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وخلود هؤلاء في الجنة فهو كقوله تمجدو تعالى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا فيها ، قال الفراء : هذا استثناء استثناه الله ولا يفعله كقوله والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزمه أن يضربه فهذه الأقوال في معنى الاستثناء ترجع إلى الفريقين والصحيح هو القول الأول ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى : { إن ربك فعال لما يريد } يعني من إخراج من أراد من النار وإدخالهم الجنة فهذا على الإجمال في حال الفريقين فأما على التفصيل فقوله إلا ما شاء ربك في جانب الأشقياء يرجع إلى الزفير والشهيق وتقريره أن يفيد حصول الزفير والشهيق مع خلود لأنه إذا دخل الاستثناء عليه وجب أن يحصل فيه هذا المجموع والاستثناء في جانب السعداء يكون بمعنى الزيادة يعني إلا ما شاء ربك من الزيادة لهم من النعيم بعد الخلود ، وقيل : إن الاستثناء الأول في جانب الأشقياء معناه إلا ما شاء ربك من الزيادة لهم من النعيم بعد الخلود ، وقيل : إن الاستثناء الأول في جانب الأشقياء معناه إلا ما شاء ربك من أن يخرجهم من حرّ النار إلى البرد والزمهرير وفي جانب السعداء معناه إلا ما شاء ربك أن يرفع بعضهم إلى منازل أعلى منازل الجنان ودرجاتها والقول الأول هو المختار ويدل على خلود أهل الجنة في الجنة أن الأمة مجتمعة على من دخل الجنة لا يخرج منها بل هو خالد فيها .(3/484)
وقوله سبحانه وتعالى في جانب السعداء { عطاء غير مجذوذ } يعني غير مقطوع قال ابن زيد : أخبرنا الله سبحانه وتعالى بالذي يشاء لأهل الجنة فقال تعالى عطاء غير مجذوذ ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار وروي عن ابن مسعود أنه قال « ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً » وعن أبي هريرة نحوه ، وهذا إن صح عن ابن مسعود وأبي هريرة : فمحمول عند أهل السنة على إخلاء أماكن المؤمنين الذي استحقوا النار من النار بعد إخراجهم منها لأنه ثبت بالدليل الصحيح القاطع إخراج جميع الموحدين وخلود الكفار فيها أو يكون محمولاً على إخراج الكفار من حر النار إلى برد الزمهرير ليزدادوا عذاباً فوق عذابهم والله أعلم .(3/485)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
قوله سبحانه وتعالى : { فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء } يعني فلا تك في شك يا محمد في هذه الأصنام التي يعبدها هؤلاء الكفار فإنها لا تضر ولا تنفع { ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل } يعني أنه ليس لهم في عبادة هذه الأصنام مستند إلا أنهم رأوا آباءهم يعبدونها فعبدوها مثلهم { وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص } يعني وإنا مع عبادتهم هذه الأصنام نرزقهم الرزق الذي قدرناه لهم من غير نقص فيه ويحتمل أن يكون المراد من توفية نصيبهم يعني من العذاب الذي قدر لهم في الآخرة كاملاً موفراً غير ناقص .
قوله عز وجل : { ولقد آتينا موسى الكتاب } يعني التوراة { فاخلتف فيه } يعني في الكتاب فمنهم مصدق به ومكذب به كما فعل قومك يا محمد بالقرآن ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم { ولولا كلمة سبقت من ربك } يعني بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة لكان الذي يستحقونه من تعجيل العقوبة في الدنيا على كفرهم وتكذيبهم وهو قوله تبارك وتعالى : { لقضي بينهم } يعني لعذبوا في الحال وفرغ من عذابهم وإهلاكهم { وإنهم لفي شك منه } يعني من القرآن ونزوله عليك يا محمد { مريب } يعني أنهم قد وقعوا في الريب والتهمة { وإن كلاًّ } يعني من الفريقين المختلفين المصدق والمكذب { لما ليوفينهم ربك أعمالهم } اللام لام القسم تقديره والله ليوفينهم جزاء أعمالهم في القيامة فيجازي المصدق على تصديقه الجنة ويجازي المكذب على تكذيبه النار { إنه بما يعملون خبير } يعني أنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده وإن دقت ففيه وعد للمحسنين المصدقين وفيه وعيد وتهديد للمكذبين الكافرين .(3/486)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
قوله سبحانه وتعالى : { فاستقم كما أمرت } الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم يعني فاستقم يا محمد على دين ربك والعمل به والدعاء إليه كما أمرك ربك والأمر في فاستقم للتأكيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الاستقامة لم يزل عيها كقولك للقائم قم حتى آتيك أي دُم على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك { ومن تاب معك } يعني ومن آمن معك من أمتك فليستقيموا أيضاً على دين الله والعمل بطاعته قال عمر بن الخطاب : الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ منه روغان الثعلب ( م ) . عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال « قل آمنت بالله ثم استقم » { ولا تطغوا } يعني ولا تجاوزوا أمري إلى غيره ولا تعصوني وقيل معناه ولا تغلوا في الدين فتجاوزوا ما أمرتكم به ونهيتكم عنه { إنه بما تعملون بصير } يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها قال ابن عباس : ما نزلت آية على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أشد عليه من هذه الآية ولذلك قال شيبتني هود وأخواتها ( خ ) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة » قوله : إن الدين يسر ، اليسر ضد العسر وأراد به التسهيل في الدين وترك التشدد فإن هذا الدين مع يسره وسهولته قوي فلن يغالب ولن يقاوى فسددوا أي اقصدوا السداد من الأمور وهو الصواب وقاربوا أي اطلبوا المقاربة وهي القصد الذي لا غلو فيه ولا تقصير والغدوة الرواح بكرة والرواح الرجوع عشياً والمراد منه اعملوا أطراف النهار وقتاً وقتاً والدلجة سير الليل والمراد مه اعملوا بالنهار واعملوا بالليل أيضاً وقوله شيء من الدلجة إشارة إلى تقليله .
وقوله تعالى : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } قال ابن عباس : ولا تميلوا والركون هو المحبة والميل بالقلب ، وقال أبو العالية : لا ترضوا بأعمالهم ، وقال السدي : لا تداهنوا الظلمة ، وعن عكرمة لا تطيعوهم ، وقيل : معناه ولا تسكنوا إلى الذين ظلموا { فتمسكم النار } يعني فتصيبكم النار بحرها { وما لكم من دون الله من أولياء } يعني أعواناً وأنصاراً يمنعونكم من عذابه { ثم لا تنصرون } يعني ثم لا تجدون لكم من ينصركم ويخلصكم من عقاب الله غداً في القيامة ففيه وعيد لمن ركن إلى الظلمة أو رضي بأعمالهم أو أحبهم فكيف حال الظلمة في أنفسهم نعوذ بالله من الظلم .
قوله عز وجل : { وأقم الصلاة طرفي النهار } سبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي اليسر قال « أتتني امرأة تبتاع تمراًَ فقلت إن في البيت تمراً هو أطيب منه فدخلت معي فأهويت إليها فقبلتها فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً فلم أصبر فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً فلم أصبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال أخلفت غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظن أنه من أهل النار قال وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً حتى أوحى الله إليه وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إلى قوله ذلك ذكرى للذاكرين .(3/487)
قال أبو اليسر : فأتيته فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه يا رسول الله ألهذا خاصة أم للناس عامة قال « بل للناس عامة » قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب وقيس بن الربيع ضعّفه وكيع وغيره وأبو اليسر هو كعب بن عمرو ( ق ) . عن عبد الله بن مسعود « أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فنزلت { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل } الآية فقال الرجل يا رسول الله ألي هذه الآية قال لمن عمل بها من أمتي وفي رواية فقال رجل من القوم يا نبي الله هذه له خاصة قال » بل للناس كافة « عن معاذ بن جبل قال » أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله أرأيت رجلاً لقي امرأة وليس بينهما معرفة فليس يأتي الرجل إلى امرأته شيئاً إلا قد أتى هو إليها إلا أنه لم يجامعها قال فأنزل الله عز وجل { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويصلي قال معاذ فقلت يا رسول الله أهي له خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال : « بل للمؤمنين عامة؟ » أخرجه الترمذي وقال هذا الحديث ليس بمتصل لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ .
أما التفسير فقوله سبحانه وتعالى : { وأقم الصلاة طرفي النهار } يعني صلاة الغداة والعشي وقال مجاهد : طرفي النهار يعني صلاة الصبح والظهر والعصر { وزلفاً من الليل } يعني صلاة المغرب والعشاء ، وقال مقاتل : صلاة الصبح والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف وزلفاً من الليل يعني صلاة العشاء وقال الحسن طرفي النهار الصبح والعصر وزلفاً من الليل المغرب والعشاء وقال ابن عباس طرفي النهار الغداة والعشي يعني صلاة الصبح والمغرب قال الإمام فخر الدين الرازي : كثرت المذاهب في تفسير طرفي النهار والأشهر أن الصلاة التي في طرفي النهار هي الفجر والعصر وذلك لأن أحد طرفي النهار هو طلوع الشمس والثاني هو غروبها فالطرف الأول هو صلاة الفجر والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب لأنها داخلة تحت قوله تعالى { وزلفاً من الليل } فوجب حمل الطرف الثاني على صلاة العصر { وزلفاً من الليل } يعني وأقم الصلاة في زلف من الليل وهي ساعاته واحدتها زلفة وأصل الزلفة المنزلة والمراد بها صلاة المغرب والعشاء { إن الحسنات يذهبن السيئات } يعني إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات ويكفرنها ( م ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(3/488)
« الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن زاد في رواية ما لم تغش الكبائر » وزاد في رواية أخرى « ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر » ( ق ) عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا لا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا » ( خ ) عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات » قال الحسن وما يبقى من الدرن .
قال العلماء : الصغائر من الذنوب تكفرها الأعمال الصالحات مثل الصلاة والصدقة والذكر والاستغفار ونحو ذلك من أعمال البر وأما الكبائر من الذنوب فلا يكفرها إلا التوبة النصوح ولها ثلاث شرائط : الشرط الأول : الإقلاع عن الذنب بالكلية .
الثاني : الندم على فعله .
الثالث : العزم التام أن لا يعود إليه في المستقبل ، فإذا حصلت هذه الشرائط صحت التوبة وكانت مقبولة إن شاء الله تعالى ، وقال مجاهد في تفسير الحسنات إنها قول سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر والقول الأول أصح أنها الصلوات الخمس وهو قول ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب ومجاهد في إحدى الروايتين عنه والقرظي والضحاك وجمهور المفسرين { ذلك } إشارة إلى ما تقدم ذكره من الاستقامة والتوبة وقيل هو إشارة إلى القرآن { ذكرى للذاكرين } يعني عظة للمؤمنين المطيعين { واصبر } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني واصبر يا محمد على أذى قومك وما تلقاه منهم ، وقيل معناه واصبر على الصلاة { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } يعني أعمالهم ، قال ابن عباس : يعني المصلين .(3/489)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
قوله سبحانه وتعالى : { فلولا كان من القرون } يعني فهلا كان من القرون التي أهلكناهم { من قبلكم } يعني يا أمة محمد { أولو بقية } يعني أولوا تمييز وطاعة وخير يقال فلان ذو بقية إذا كان فيه خير وقيل معناه أولوا بقية من خير يقال فلان على بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة { ينهون عن الفساد في الأرض } يعني يقومون بالنهي عن الفساد في الأرض والآية للتقريع والتوبيخ يعني لم يكن فيهم من فيه خير ينهى عن الفساد عن الأرض فلذلك أهلكناهم { إلا قليلاً } هذا استثناء منقطع معناه لكن قليلاً { ممن أنجينا منهم } يعني من آمن الأمم الماضية وهم أتباع الأنبياء كانوا ينهون عن الفساد في الأرض { واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه } يعني واتبع الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي ما تنعموا فيه والترف التنعم والمعنى أنهم اتبعوا ما تعودوا به من النعم وإيثار اللذات على الآخرة ونعيمها { وكانوا مجرمين } يعني كافرين { وما كان ربك } يعني وما كان ربك يا محمد { ليهلك القرى بظلم } يعني لا يهلكهم بظلم منه { وأهلها مصلحون } يعني : في أعمالهم ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السيئات ، وقيل : في معنى الآية وما كان ربك ليهلك القرى بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعني يعامل بعضهم بعضاً بالصلاح والسداد والمراد من الهلاك عذاب الاستئصال في الدنيا أما عذاب الآخرة فهو لازم لهم ولهذا قال بعض الفقهاء إن حقوق الله مبناها على المسامحة والمساهلة وحقوق العباد مبناها على التضييق والتشديد قوله عز وجل : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } يعني كلهم على دين واحد وشريعة واحدة { ولا يزالون مختلفين } يعني على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك ومسلم فكل أهل دين من هذه الأديان قد اختلفوا في دينهم أيضاً اختلافاً كثيراً لا ينضبط عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « تفرق اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين والنصارى مثل ذلك وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة » أخرجه أبو داود والترمذي بنحوه عن معاوية قال « قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة » أخرجه أبو داود قال الخطابي : قوله صلى الله عليه وسلم « وستفترق أمتي » فيه دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة من الملة والدين إذ جعلهم من أمته وقال غيره المراد بهذه الفرق أهل البدع والأهواء الذين تفرقوا واختلفوا وظهروا بعده كالخوارج والقدرية والمعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع والأهواء والمراد بالواحدة هي فرقة السنة والجماعة الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله .(3/490)
وقوله سبحانه وتعالى : { إلا من رحم ربك } يعني لكن من رحم ربك فمنّ عليه بالهداية والتوفيق إلى الحق ، وهداه إلى الدين القويم والصراط المستقيم فهم لا يختلفون { ولذلك خلقهم } قال الحسن وعطاء وللاختلاف خلقهم .
قال أشهب : سألت مالك بن أنس عن هذه الآية فقال خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير ، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : وللرحمة خلقهم يعني الذين يرحمهم .
وقال الفراء : خلق أهل الرحمة للرحمة وخلق أهل الاختلاف للاختلاف ، وقيل : خلق الله عز وجل أهل الرحمة للرحمة لئلا يختلفوا وخلق أهل العذاب لأن يختلفوا وخلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلق النار وخلق لها أهلاً فحاصل الآية أن الله خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين ، وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين فحكم على بعضهم بالاختلاف ومصيرهم إلى النار وحكم على بعضهم بالرحمة وهم أهل الاتفاق ومصيرهم إلى الجنة ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو قوله تبارك وتعالى : { وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجميعن } وهذا صريح بأن الله سبحانه وتعالى خلق أقواماً للجنة وللرحمة فهداهم ووفقهم لأعمال أهل الجنة وخلق أقواماً للضلالة والنار فخذلهم ومنعهم من الهداية .(3/491)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
قوله سبحانه وتعالى : { وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } لما ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة قصص الأمم الماضية والقرون الحالة وما جرى لهم مع أنبيائهم خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله وكلاًّ نقص عليك يا محمد من أنباء الرسل يعني من أخبار الرسل وما جرى لهم مع قومهم ما نثبت به فؤادك يعني ما نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك وتتأسى بالرسل الذين خلوا من قبلك وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع هذه القصص وعلم أن حال جميع الأنبياء مع أتباعهم هكذا سهل عليه تحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه { وجاءك } يا محمد { في هذه الحق } اختلفوا في هذا الضمير إلى ماذا يعود فقيل معناه وجاءك في هذه الدنيا الحق وفيه بعد لأنه لم يجر للدنيا ذكر حتى يعود الضمير إليها وقيل في هذه الآية وقيل في هذه السورة وهو الأقرب وهو قول الأكثرين فإن قلت جاءه الحق في سورة القرآن فلم خص هذه السورة بالذكر قلت لا يلزم من تخصيص هذه السورة بالذكر أن لا يكون قد جاءه الحق في غيرها من السور بل القرآن كله حق وصدق وإنما خصها بالذكر تشريفاً لها { وموعظمة وذكرى للمؤمنين } أي وهذه السورة موعظة يتعظ بها المؤمنون إذا تذكروا أحوال الأمم الماضية وما نزل بهم { وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم } فيه وعيد وتهديد يعني اعملوا ما أنتم عاملون فستعلمون عاقبة ذلك العمل فهو كقوله : إعملوا ما شئتم { إنا عاملون } يعني ما أمرنا به ربنا { وانتظروا } يعني ما يعدكم به الشيطان { إنا منتظرون } يعني ما يحل بكم من نقمة الله وعذابه إما في الدنيا وإما في الآخرة { ولله غيب السموات والأرض } يعني يعلم ما غاب عن العباد فيهما يعني أن علمه سبحانه وتعالى نافذ في جميع الأشياء خفيها وجليها وحاضرها ومعدومها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء { إليه يرجع الأمر كله } يعني إلى الله يرجع أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة { فاعبده } يعني أن من كان كذلك كان مستحقاً للعبادة لا غيره فاعبده ولا تستغل بعبادة غيره { وتوكل عليه } يعني وثق به في جميع أمورك فإنه يكفيك { وما ربك بغافل عما تعملون } قال أهل التفسير هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم والمعنى أنه سبحانه وتعالى يحفظ على العباد أعمالهم لا يخفى عليه منها شيء فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .
قال كعب الأحبار : خاتمة التوراة خاتمة سورة هود والله أعلم بمراد وأسرار كتابه .(3/492)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
قوله عز وجل : { آلر } تقدم تفسيره في أول سورة يونس عليه الصلاة والسلام { تلك } إشارة إلى آيات هذه السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسماة بالر هذه { آيات الكتاب المبين } وهو القرآن أي البين حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وقال قتادة : مبين بينه الله ببركته وهداه ورشده فهذا من بان أي ظهر ، وقال الزجاج : مبين الحق من الباطل والحلال من الحرام فهذا من أبان بمعنى أظهر وقيل إنه يبين فيه قصص الأولين وشرح أحوال المتقدمين { إنا أنزلناه } يعني هذا الكتاب { قرآناً عربياً } أي أنزلناه بلغتكم لكي تعلموا معانيه وتفهموا ما فيه وقيل لما قالت اليهود لمشركي مكة سلوا محمداً صلى الله عليه وسلم عن أمر يعقوب وقصة يوسف وكانت عند اليهود بالعبرانية فأنزل الله هذه السورة وذكر فيها قصة يوسف بالعربية لتفهمها العرب ويعرفوا معانيها والتقدير إنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه عربياً فعلى هذا القول يجوز إطلاق اسم القرآن على بعضه لأنه اسم جنس يقع على الكل والبعض واختلف العلماء هل يمكن أن يقال في القرآن شيء بغير العربية ، فقال أبو عبيدة : من زعم أن في القرآن لساناً غير العربية فقد قال بغير الحق وأعظم على الله القول واحتج بهذه الآية إنا أنزلناه قرآناً عربياً . وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة : أن فيه من غير لسان العربية مثل سجيل والمشكاة واليم واستبرق ونحو ذلك وهذا هو الصحيح المختار لأن هؤلاء أعلم من أبي عبيده بلسان العرب وكلا القولين صواب إن شاء الله تعالى ووجه الجمع بينهما أن هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب ودارت على ألسنتهم صارت عربية فصيحة وإن كانت غير عربية في الأصل لكنهم لما تكلموا بها نسبت إليهم وصارت لهم لغة ، فظهر بهذا البيان صحة القولين وأمكن الجمع بينهما { لعلكم تعقلون } يعني تفهمون أيها العرب لأنه نازل بلغتكم قوله تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص } الأصل في معنى القصص اتباع الخبر بعضه بعضاً والقاص هو الذي يأتي بالخبر على وجهه وأصله في اللغة من قص الأثر إذا تتبعه وإنما سميت الحكاية قصة لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئاً فشيئاً والمعنى نحن نبين لك يا محمد أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان وقيل المراد منه قصة يوسف عليه الصلاة والسلام خاصة وإنام سماها أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا وما فيها من سير الملوك والمماليك والعلماء ومكر النساء والصبر على أذى الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد اللقاء وغير ذلك من الفوائد المذكورة في هذه السورة الشريفة .(3/493)
قال خالد بن معدان : سورة يوسف وسورة مريم يتفكه بهما أهل الجنة في الجنة . قال عطاء : لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها .
وقوله تعالى : { بما أوحينا إليك } يعني بإيحائنا إليك يا محمد { هذا القرآن وإن كنت } أي وقد كنت { من قبله } يعني من قبل وحينا إليك { لمن الغافلين } يعني عن هذه القصة وما فيها من العجائب قال سعد بن أبي وقاص : أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زماناً فقالوا يا رسول الله لو حدثتنا فأنزل الله عز وجل : { الله نزل أحسن الحديث } فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص } فقالوا يا رسول الله لو ذكرتنا فأنزل الله عز وجل : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله . }(3/494)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
{ إذ قال يوسف لأبيه } أي اذكر يا محمد لقومك قول يوسف لأبيه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليه وعليهم أجمعين ( خ ) عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم » ويوسف اسم عبري ولذلك لا يجري فيه الصرف وقيل هو عربي سئل أبو الحسن الأقطع عن يوسف فقال الأسف أشد الحزن والأسيف العبد واجتمعا في يوسف فسمي به { يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } معناه قال أهل التفسير : رأى يوسف في منامه كأن أحد عشر كوكباً نزلت من السماء ومعها الشمس والقمر فسجدوا له وكانت هذه الرؤيا ليلة الجمعة وكانت ليلة القدر وكان النجوم في التأويل إخوته وكانوا أحد عشر رجلاً يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم والشمس أبوه والقمر أمه في قول قتادة ، وقال السدي : القمر خالته لأن أمه راحيل كانت قد ماتت . وقال قتادة وابن جريج : القمر أبوه والشمس أمه لأن الشمس مؤنثة والقمر مذكر وكان يوسف عليه السلام ابن اثنتي عشرة سنة ، وقيل : سبع عشرة سنة وقيل سبع سنين وأراد بالسجود تواضعهم له ودخولهم تحت أمره وقيل أراد به حقيقة السجود لأنه كان في ذلك الزمان التحية فيما بينهم السجود .
فإن قلت : إن الكواكب جماد لا تعقل فكيف عبر عنها بكناية من يعقل في قوله رأيتهم ولم يقل رأيتها وقوله : ساجدين ولم يقل ساجدات .
قلت : لما أخبرنا عنها بفعل من يعقل وهو السجود كنى عنها بكناية من يعقل فهو كقوله { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } وقيل إن الفلاسفة والمنجمين يزعمون أن الكواكب أحياء نواطق حساسة فيجوز أن يعبر عنها بكناية من يعقل وهذا القول ليس بشيء والأول أصح فإن قلت قد قال { إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر } ثم أعاد لفظ الرؤيا ثانياً فقال { رأيتهم لي ساجدين } فما فائدة هذا التكرار .
قلت : معنى الرؤيا الأولى أنه رأى أجرام الكواكب والشمس والقمر ومعنى الرؤيا الثانية أنه أخبر بسجودها له وقال بعضهم .
معناه أنه لمَّا قال : { إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر } فكأنه قيل له : وكيف رأيت؟ قال : { رأيتهم لي ساجدين } وإنما أفرد الشمس والقمر بالذكر وإن كانا من جملة الكواكب للدلالة على فضلهما وشرفهما على سائر الكواكب قال أهل التفسير : إن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان شديد الحب ليوسف عليه الصلاة والسلام فحسده إخوته لهذا السبب وظهر ذلك ليعقوب ، فلما رأى يوسف هذه الرؤيا وكان تأويلها أن إخوته وأبويه يخضعون له فلهذا { قال } يعقوب { يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك } يعني لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأوليها { فيكيدوا لك كيداً } أي : فيحتالوا في إهلاكك فأمره بكتمان رؤياه عن إخوته لأن رؤيا الأنبياء وحي وحق واللام في فيكيدوا لك كيداً تأكيداً للصلة كقولك : نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك { إن الشيطان للإنسان عدو مبين } يعني أنه بيّن العداوة ، لأن عداوته قديمة فهم إن أقدموا على الكيد كان ذلك مضافاً إلى تزيين الشيطان ووسوسته ( ق ) عن أبي قتادة قال : كنت أرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله(3/495)
« الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب وإذا رأى أحدكم ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثاً وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وشرها فإنها لن تضره » ( خ ) . عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله فليحمد الله عليها وليحدِّث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره ، فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من الشيطان ومن شرِّها ولا يذكرها لأحد فإنها لن تضره » ( م ) عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثاً وليتحول عن جنبه الذي كان عليه » عن أبي رزين العقيلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « رؤيا المؤمن جزء من أربعين وفي رواية جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة وهي على رجل طائر ما لم يحدث بها فإذا حدث بها سقطت قال وأحسبه قال ولا يحدث بها إلا لبيباً أو حبيباً » أخرجه الترمذي ، ولأبي داود نحوه قال الشيخ محيي الدين النووي قال المازري مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها علماً على أمور أخر يجعلها في ثاني الحال والجميع خلق الله تعالى ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي يجعلها علماً على ما سر بغير حضرة الشيطان فإذا خلق ما هو علم على ما يضر يكون بحضرة الشيطان فينسب إلى الشيطان مجازاً وإن كان لا فعل له في الحقيقة فهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم « الرؤيا من الله والحلم من الشيطان » لا على أن الشيطان يفعل شيئاً والرؤيا اسم للمحبوب والحلم اسم للمكروه ، وقال غيره : إضافة الرؤيا المحبوبة إلى الله تعالى إضافة تشريف بخلاف الرؤيا المكروهة وإن كانتا جميعاً من خلق الله وتدبيره وإرادته ولا فعل للشيطان فيها ولكنه يحضر المكروهة ويرتضيها فيستحب إذا رأى الرجل في منامه ما يحب أن يحدث به من يحب وإذا رأى ما يكره فلا يحدث به وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شرها وليتفل ثلاثاً وليتحول إلى جنبه الآخر فإنها لا تضره فإن الله تعالى جعل هذه الأسباب سبباً لسلامته من المكروه كما جعل الصدقة سبباً لوقاية المال وغيره من البلاء والله أعلم .(3/496)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
قوله تعالى : { وكذلك يجتبيك ربك } يعني يقول يعقوب ليوسف عليه الصلاة والسلام أي وكما رفع منزلتك بهذه الرؤيا الشريفة العظيمة كذلك يجتبيك ربك يعني يصطفيك ربك واجتباء الله تعالى العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي تحصل له منه أنواع الكرامات بلا سعي من العبد وذلك مختص بالأنبياء أو ببعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء والصالحين { ويعلمك من تأويل الأحاديث } يعني به تعبير الرؤيا سمي تأويلاً لأنه يؤول أمره إلى ما رأى في منامه ، يعني يعلمك تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم وكان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتعبير الرؤيا . وقال الزجاج : تأويل أحاديث الأنبياء والأمم السالفة والكتب المنزلة .
وقال ابن زيد : يعلمك العلم والحكمة { ويتم نعمته عليك } يعني بالنبوة ، قاله ابن عباس لأن منصب النبوة أعلى من جميع المناصب وكل الخلق دون درجة الأنبياء فهذا من إتمام النعمة عليهم ، لأن جميع الخلق دونهم في الرتب والمناصب { وعلى آل يعقوب } المراد بآل يعقوب أولاده فإنهم كانوا أنبياء وهو المراد من إتمام النعمة عليهم { كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق } بأن جعلهما نبيين وهو المراد من إتمام النعمة عليهما وقيل : المراد من إتمام النعمة على إبراهيم صلى الله عليه وسلم بأن خلصه الله من النار واتخذه خليلاً والمراد من إتمام النعمة على الأصح بأن إتمام النعمة عليهما بالنبوة لأنه لا أعظم من منصب النبوة فهو من أعظم النعم على العبد { إن ربك عليم } يعني بمصالح خلقه { حكيم } يعني أنه تعالى لا يفعل شيئاً إلا بحكمة ، وقيل : إنه تعالى حكم بوضع النبوة في بيت إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس رضي الله عنهما كان بين رؤيا يوسف هذه وبين تحقيقها بمصر واجتماعه بأبواه وإخوته أربعون سنة وهذا قول أكثر المفسرين ، وقال الحسن البصري : كان بينهما ثمانون سنة فلما بلغت هذه الرؤيا إخوة يوسف حسدوه وقالوا ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه .
قوله عز وجل : { لقد كان في يوسف وإخوته } يعني في خبره وخبر إخوته وأسماؤهم روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولاوى ويهوذا وزبولول ويشجر وأمهم ليا بنت ليان وهي ابنة خال يعقوب وولد يعقوب من سريتين إسم إحداهما زلفة والأخرى بلهة أربعة أولاد وأسماؤهم دان ونفتالي وجاد وآشر ، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين فهؤلاء بنو ليعقوب وهم الأسباط ، وعددهم اثنا عشر نفراً { آيات للسائلين } وذلك أن اليهود لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف وقيل سألوه عن سبب انتقال ولد يعقوب من أرض كنعان إلى أرض مصر ذكر قصة يوسف وإخواته فوجدها موافقة لما في التوراة فعجبوا منه فعلى هذا تكون هذه القصة دالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقرأ الكتب المتقدمة ولم يجالس العلماء والأحبار ، ولم يأخذ عن أحد منهم شيئاً فدل ذلك على أن ما أتي به وحي سماوي وعلم قدسي أوحاه الله إليه وشرفه به ، ومعنى آيات للسائلين أي عبرة للمعتبرين فإن هذه القصة تشتمل على أنواع من العبر والمواعظ والحكم ومنها رؤيا يوسف وما حقق الله فيها ومنها حسد إخوته له وما آل إليه أمرهم من الحسد ومنها صبر يوسف على إخوته وبلواه مثل إلقائه في الجب وبيعه عبداً وسجنه بعد ذلك وما آل إليه أمره من الملك ومنها ما تشتمل عليه من حزن يعقوب وصبره على فقد ولده وما آل إليه أمره من بلوغ المراد وغير ذلك من الآيات التي إذا فكر فيها الإنسان اعتبر واتعظ .(3/497)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
{ إذ قالوا } يعني إخوة يوسف { ليوسف } اللام فيه لام القسم تقديره والله ليوسف { وأخوه } يعني بنيامين وهما من أم واحدة { أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة } إنما قالوا هذه المقالة حسداً منهم ليوسف وأخيه لما رأوا من ميل يعقوب إليه وكثرة شفقته عليه والعصبة الجماعة وكانوا عشرة ، قال الفراء : العصبة هي العشرة فما زاد وقيل هي ما بين الواحد إلى العشرة وقيل ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقال مجاهد : هي ما بين العشرة إلى خمسة عشر وقيل إلى الأربعين وقيل الأصل فيه أن كل جماعة يتعصب بعضهم ببعض يسمون عصبة والعصبة لا واحد لها من لفظها كالرهط والنفر { إن أبانا لفي ضلال مبين } يعني لفي خطأ بين في إيثاره حب يوسف علينا مع صغره لا نفع فيه ونحن عصبة ننفعه ونقوم بمصالحه من أمر دنياه وإصلاح أمر مواشيه وليس المراد من ذكر هذا الضلال الضلال عن الدين إذ لو أرادوا ذلك لكفروا به ولكن أرادوا به الخطأ في أمر الدنيا وما يصلحها يقول نحن أنفع له من يوسف فهو مخطئ في صرف محبته إليه لأنا أكبر منه سناً وأشد قوة وأكثر منفعة وغاب عنهم المقصود الأعظم وهو أن يعقوب عليه الصلاة والسلام ما فضل يوسف وأخاه على سائر الإخوة إلا في المحبة المحضة ومحبة القلب ليس في وسع البشر دفعها ويحتمل أن يعقوب إنما خص يوسف بمزيد المحبة والشفقة لأن أمه ماتت وهو صغير ولأنه رأى فيه من آيات الرشد والنجابة ما لم يره في سائر إخوته فإن قلت الذي فعله إخوة يوسف بيوسف هو محض الحسد والحسد من أمهات الكبائر وكذلك نسبة أبيهم إلى الضلالة هو محض العقوق وهو من الكبائر أيضاً وكل ذلك قادح في عصمة الأنبياء فما الجواب عنه .
قلت : هذه الأفعال إنما صدرت من إخوة يوسف قبل ثبوت النبوة لهم والمعتبر في عصمة الأنبياء هو وقت حصول النبوة لا قبلها ، وقيل : كانوا وقت هذه الأفعال مراهقين غير بالغين ولا تكليف عليهم قبل البلوغ فعلى هذا لم تكن هذه الأفعال قادحة في عصمة الأنبياء .
قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف { اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم } لما قوي الحسد وبلغ النهاية قال إخوة يوسف فيما بينهم لا بد من تبعيد يوسف عن أبيه وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين إما القتل مرة واحدة أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه بأبيه بأن تفترسه الأسد والسباع أو يموت في تلك الأرض البعيدة ثم ذكروا العلة في ذلك وهي قوله يخل لكم وجه أبيكم والمعنى أنه قد شغله حب يوسف عنكم فإذا فعلتم ذلك بيوسف أقبل يعقوب بوجهه عليكم وصرف محبته إليكم { وتكونوا من بعده } يعني من بعد قتل يوسف أو إبعاده عن أبيه { قوماً صالحين } يعني : تائبين فتوبوا إلى الله يعف عنكم فتكونوا قوماً صالحين وذلك أنهم لما علموا أن الذي عزموا عليه من الذنوب والكبائر قالوا نتوب إلى الله من هذا الفعل ونكون من الصالحين في المستقبل ، قوال مقاتل : معناه يصلح لكم أمركم فيما بينكم وبين أبيكم فإن قلت كيف يليق أن تصدر هذه الأفعال منهم وهم أنبياء . قلت : الجواب ما تقدم أنهم لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت حتى تكون هذه الأفعال قادحة في عصمة الأنبياء وإنما أقدموا على هذه الأفعال قبل النبوة وقيل إن الذي أشار بقتل يوسف كان أجنبياً شاوروه في ذلك فأشار عليهم بقتله .(3/498)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
{ قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف } يعني قال قائل من إخوة يوسف وهو يهوذا ، وقال قتادة : هو روبيل وهو ابن خالته وكان أكبرهم سناً وأحسنهم رأياً فيه فنهاهم عن قتله ، وقال : القتل كبيرة عظيمة والأصح أن قائل هذه المقالة هو يهوذا لأنه كان أقربهم إليه سناً { وألقوه في غيابت الجب } يعني ألقوه في أسفل الجب وظلمته والغيابة كل موضع ستر شيئاً وغيبه عن النظر والجب البئر الكبيرة غير مطوية سمي بذلك لأنه جب أي قطع ولم يطو وأفاد ذكر القيامة مع ذكر الجب أن المشير أشار بطرحه في موضع من الجب مظلم لا يراه أحد واختلفوا في مكان ذلك الجب ، فقال قتادة : هو بئر ببيت المقدس ، وقال وهب : هو في أرض الأردن وقال مقاتل هو في أرض الأردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب وإنما عينوا ذلك الجب للعلة التي ذكروها وهي قولهم { يلتقطه بعض السيارة } وذلك أن هذا الجب كان معروفاً يرد عليه كثير من المسافرين ، والالتقاط أخذ الشيء من الطريق أو من حيث لا يحتسب ، ومنه اللقطة بعض السيارة يعني يأخذه بعض المسافرين فيذهب به إلى ناحية أخرى فتستريحون منه { إن كنتم فاعلين } فيه إشارة إلى ترك الفعل فكأنه قال لا تفعلوا شيئاً من ذلك وإن عزمتم على هذا الفعل فافعلوا هذا القدر إن كنتم فاعلين ذلك .
قال البغوي : كانوا يومئذ بالغين ولم يكونوا أنبياء إلا بعده وقيل لم يكونوا بالغين وليس بصحيح بدليل أنهم قالوا وتكونوا من بعده قوماً صالحين وقالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين والصغير لا ذنب له . قال محمد بن إسحاق : اشتمل فعلهم هذا على جرائم كثيرة من قطيعة الرحم وعقوق الوالدين وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له والغدر بالأمانة وترك العهد والكذب مع أبيهم وعفا الله عن ذلك كله حتى لا ييأس أحد من رحمة الله تعالى وقال بعض أهل العلم عزموا على قتله وعصمهم الله رحمة بهم ولو فعلوا ذلك لهلكوا جميعاً وكل ذلك كان قبل أن نبأهم الله فلما أجمعوا على التفريق بين يوسف وبين والده بضرب من الحيل { قالوا } يعني : قال إخوة يوسف ليعقوب { يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف } بدؤوا بالإنكار عليه في ترك إرسال يوسف معهم كأنهم قالوا : أتخافنا إذا أرسلته معنا { وإنا له لناصحون } المراد بالنصح هنا القيام بالمصلحة ، وقيل : البر والعطف والمعنى وإنا لعاطفون عليه قائمون بمصلحته وبحفظه ، وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير وذلك أنهم قالوا لأبيهم أرسله معنا فقال يعقوب إني ليحزنني أن تذهبوا به فحينئذ قالوا : مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون ثم قالوا .(3/499)
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
{ أرسله معنا غداً } يعني إلى الصحراء { يرتع } الرتع هو الاتساع في الملاذ يقال رتع فلان في ماله إذا أنفقه في شهواته والأصل في الرتع أكل البهائم في الخصب زمن الربيع ويستعار للأنسان إذا أريد به الأكل الكثير { ويلعب } اللعب معروفة وقال الراغب : يقال لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً سئل أبو عمرو بن العلاء كيف قالوا نلعب وهم الأنبياء فقال كم يكونوا يومئذ أنبياء ويحتمل أن يكون المراد باللعب هنا الإقدام على المباحات لأجل إنشراح الصدر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه « هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك » وأيضاً فإن لعبهم كان الاستباق وهو غرض صحيح مباح لما فيه من المحاربة والإقدام على الأقران الحرب بدليل قوله نستبق وإنما سموه لعباً لأنه في صورة اللعب وقيل في معنى نرتع ونلعب نتنعم ونأكل ونلهو وننشط { وإنا له لحافظون } يعني نجتهد في حفظه غاية الاجتهاد حتى نرده إليك سالماً { قال } يعني قال لهم يعقوب عليه الصلاة والسلام { إني ليحزنني أن تذهبوا به } أي : ذهابكم به والحزن هنا ألم القلب بفراق المحبوب ومعنى الآية أنه لما طلبوا منه أن يرسل معهم يوسف عليه الصلاة والسلام اعتذر يعقوب عليه الصلاة والسلام بعذرين أحدهما أن ذهابهم به ومفارقته إياهم يحزنه لأنه كان لا يقدر أن يصبر عنه ساعة والثاني قوله { وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون } يعني إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم وذلك أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان رأى في المنام أن ذئباً شد على يوسف عليه الصلاة والسلام فكان يعقوب يخاف عليه من ذلك وقيل كانت الذئاب في أرضهم كثيرة { قالوا } يعني قال إخوة يوسف مجيبين ليعقوب { لئن أكله الذئب ونحن عصبة } أي جماعة عشرة رجال { إنا إذاً لخاسرون } يعني عجزة ضعفاء وقيل إنهم خافوا أن يدعو عليهم يعقوب بالخسار والبوار وقيل معناه إنا إذا لم نقدر على حفظ أخينا فكيف نقدر على حفظ مواشينا فنحن إذاً خاسرون .
قوله عز وجل : { فلما ذهبوا به } فيه إضمار واختصار تقديره فأرسله معهم فلما ذهبوا به { وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب } يعني وعزموا على أن يلقوه في غيابة الجب .
ذكر قصة ذهابهم بيوسف عليه الصلاة والسلام
قال وهب ، وغيره من أهل السير والإخبار : إن إخوة يوسف قالوا له أما تشتاق أن تخرج معنا إلى مواشينا فنصيد ونستبق قال بلى قالوا له أنسأل أباك أن يرسلك معنا ، قال يوسف : افعلوا فدخلوا بجماعتهم على يعقوب ، فقالوا : يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا فقال يعقوب : ما تقول يا بني؟ قال : نعم يا أبت إني أرى من إخوتي اللين واللطف فأحب أن تأذن لي ، وكان يعقوب يكره مفارقته ويحب مرضاته فأذن له وأرسله معهم فلما خرجوا به من عند يعقوب جعلوا يحملونه على رقابهم ويعقوب ينظر إليه فلما بعدوا عنه وصاروا إلى الصحراء وألقوه على الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وأغلظوا له القول وجعلوا يضربونه فجعل كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به ضربه فلما فطن لما عزموا عليه من قتله جعل ينادي يا أبتاه يا يعقوب لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك وجعل يبكي بكاء شديداً فأخذه روبيل وجلد به الأرض ثم جثم على صدره وأراد قتله ، فقال له يوسف : مهلاً يا أخي لا تقتلني ، فقال له : يا ابن راحيل أنت صاحب الأحلام قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ولوى عنقه ، فاستغاث يوسف بيهوذا وقال له اتق الله فيّ وحلّ بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة الإخوة ورق له فقال يهوذا يا إخوتي ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أهون لكم وأرفق به فقالوا وما هو قال تلقونه في هذا الجبّ إما أن يموت أو يلتقطه بعض السيارة فانطلقوا به إلى بئر هناك على غير الطريق واسع الأسفل ضيق الرأس فجعلوا يدلونه في البئر فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال يا إخوتاه ردوا عليّ قميصي لأستتر به في الجب فقالوا ادع الشمس والقمر والكواكب تخلصك وتؤنسك فقال إني لم أر شيئاً فألقوه فيها ثم قال لهم يا إخوتاه أتدعوني فيها فريداً وحيداً وقيل جعلوه في دلو ثم أرسلوه فيها ، فلما بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة كانت في البئر فقام عليها وقيل نزل عليه ملك فحل يديه وأخرج له صخرة من البئر فأجلسه عليها ، وقيل إنهم لما ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركته فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ليقتلوه فمنعهم يهوذا من ذلك وقيل إن يعقوب لما بعثه مع إخوته أخرج له قميص إبراهيم الذي كساه الله إياه من الجنة حين ألقي في النار فجعله يعقوب في قصبة فضة وجعلها في عنق يوسف فألبسه الملك إياه حين ألقي في الجب فأضاء له الجب .(3/500)
وقال الحسن : لما ألقي يوسف في الجب عذب ماؤه فكان يكفيه عن الطعام والشراب ودخل عليه جبريل فأنس به فلما أمسى نهض جبريل ليذهب فقال له إنك إذا خرجت استوحشت فقال له إذا رهبت شيئاً فقل يا صريخ المستصرخين ويا غوث المستغيثين ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري فلما قالها يوسف حفته الملائكة واستأنس في الجب ، وقال محمد بن مسلم الطائفي : لما ألقي يوسف في الجب قال : يا شاهداً غير غائب ويا قريباً غير بعيد ويا غالباً غير مغلوب اجعل لي فرجاً مما أنا فيه فما بات فيه واختلفوا في قدر عمر يوسف يوم ألقي في الجب فقال الضحاك ست سنين وقال الحسن : اثنتا عشرة سنة ، وقال ابن السائب : سبع عشرة سنة ، وقيل : ثمان عشرة سنة ، وقيل : مكث في الجب ثلاثة أيام وكان إخوته يرعون حوله وكان يهوذا يأتيه بالطعام فذلك قوله تعالى : { وأوحينا إليهم لتنبئنهم بأمرهم هذا } يعني لتخبرن إخوتك قال أكثر المفسرين : إن الله أوحى إليه وحياً حقيقة فبعث إليه جبريل يؤنسه ويبشره بالخروج ويخبره أنه سينبئهم بما فعلوا ويجازيهم عليه هذا قول طائفة عظيمة من المحققين ثم القائلون بهذا القول اختلفوا هل كان بالغاً في ذلك الوقت أو كان صبياً صغيراً فقال بعضهم إنه كان بالغاً وكان عمره خمس عشرة سن وقال آخرون بل كان صغيراً إلا أن الله عز وجل أكمل عقله ورشده وجعله صالحاً لقبول الوحي والنبوة كما قال في حق عيسى عليه الصلاة والسلام .(4/1)
فإن قلت كيف جعله نبياً في ذلك الوقت ولم يكن أحد يبلغه رسالة ربه لأن فائدة النبوة والرسالة تبليغها إلى من أرسل إليه .
قلت : لا يمتنع أن الله يشرفه بالوحي ويكرمه بالنبوة والرسالة في ذلك الوقت ، وفائدة ذلك تطييب قلبه وإزالة الهمّ والغمّ والوحشة عنه ثم بعد ذلك يأمره بتبليغ الرسالة في وقتها وقيل إن المراد من قوله وأوحينا إليه وحي إلهام كما في قوله تعالى وأوحى ربك إلى النحل وأوحينا إلى أم موسى والقول الأول وقوله تعالى : { وهم لا يشعرون } يعني بإيحائنا إليك وأنت في البئر بأنك ستخبرهم بصنيعهم هذا ، والفائدة في إخفاء ذلك الوحي أنهم إذا عرفوه فربما ازداد حسدهم له . وقيل : إن الله تعالى أوحى إلى يوسف لتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا بعد هذا اليوم وهم لا يشعرون بأنك أنت يوسف والمقصود من ذلك تقوية قلب يوسف عليه الصلاة والسلام وأنه سيخلص مما هو فيه من المحنة ويصير مستولياً عليهم ويصيرون تحت أمره وقهره .(4/2)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
قوله تعالى : { وجاؤوا أباهم عشاء يبكون } قال المفسرون : لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء ليكونوا في الظلمة أجرأ على الاعتذار بالكذب فلما قربوا من منزل يعقوب جعلوا يبكون ويصرخون فسمع أصواتهم ففزع من ذلك وخرج إليهم فلما رآهم قال بالله سألتكم يا بني هل أصابكم شيء في غنمكم قالوا لا قال فما أصابكم وأين يوسف { قالوا يا أبنا إنا ذهبنا نستبق } قال ابن عباس : يعني ننتضل ، وقال الزجاج : يسابق بعضنا بعضاً في الرمي الأصل في السبق الرمي بالسهم وهو التناضل أيضاً وسمي المتراميان بذلك يقال تسابقا واستبقا إذا فعلا ذلك ليتبين أيهما أبعد سهماً . وقال السدي : يعني نشتد ونعدو والمعنى نستبق على الأقادم ليتبين أينا أسرع عدواً وأخف حركة ، وقال مقاتل : نتصيد والمعنى نستبق إلى الصيد { وتركنا يوسف عند متاعنا } يعني عند ثيابنا { فأكله الذئب } يعني في حال استباقنا وغفلتنا عنه { وما أنت بمؤمن لنا } يعني وما أنت بمصدق لنا { ولو كنا صادقين } يعني في قولنا والمعنى إنا وإن كنا صادقين لكنك لا تصدق لنا قولاً لشدة محبتك ليوسف عند ثيابنا { فأكله الذئب } يعني في حال استباقنا وغفلتنا عنه { وما أنت بمؤمن لنا } يعني وما أنت بمصدق لنا { ولو كنا صادقين } يعني في قولنا والمعنى إنا وإن كنا صادقين لكنك لا تصدق لنا قولاً لشدة محبتك ليوسف فإنك تتهمنا في قولنا هذا وقيل معناه إنا وإن كنا صادقين فإنك لا تصدقنا لأنه لم تظهر عندك أماة تدل على صدقنا { وجاؤوا على قميصه } يعني قميص يوسف { بدم كذب } أي مكذوب فيه قال ابن عباس : إنهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف ثم جاؤوا أباهم وفي القصة أنهم لطخوا القميص بالدم ولم يشقوه ، فقال يعقوب لهم : كيف أكله الذئب ولم يشقّ قميصه فاتهمهم بذلك ، وقيل إنهم أتوه بذئب وقالوا هذا أكله فقال يعقوب : أيها الذئب أنت أكلت ولدي وثمرة فؤادي؟ فأنطقه الله عز وجل وقال والله ما أكلته ولا رأيت ولدك قط ولا يحل لنا أن نأكل لحوم الأنبياء ، فقال يعقوب فكيف وقعت بأرض كنعان قال جئت لصلة الحم وهي قرابة لي فأخذوني وأتوا بي إليك فأطلقه يعقوب ولما ذكر إخوة يوسف ليعقوب هذا الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم ، { قال } يعقوب { بل سولت لكم أنفسكم أمراً } يعني بل زينت لكم أنفسكم أمراً ، وأصل التسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه ، وقال صاحب الكشاف : سولت سهلت من السول وهو الاسترخاء أي سهلت لكم أنفسكم أمراً عظيماً ركبتموه من يوسف وهوّنتموه في أنفسكم وأعينكم فعلى هذا يكون معنى قوله بل رد لقولهم فأكله الذئب كأنه قال ليس الأمر كما تقولون أكله الذئب بل سولت لكم أنفسكم أمراً آخر غير ما تصفون { فصبر جميل } أي : فشأني صبر جميل ، وقيل : معناه فصبري صبر جميل والصبر الجميل الذي لا شكوى فيه ولا جزع . وقيل : من الصبر أن لا تتحدث بمصيبتك ولا تزكين نفسك { والله المستعان على ما تصفون } يعني : من القول الكذب ، وقيل : معناه والله المستعان على حمل ما تصفون .(4/3)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
قوله عز جل : { وجاءت سيارة } وهم القوم المسافرون سمّوا سيارة لمسيرهم في الأرض ، وكانوا رفقة من مدين يريدون مصر فأخطؤوا الطريق فنزلوا قريباً من الجب الذي كان فيه يوسف وكان في قفرة بعيدة من العمارة ترده الرعاة والمارة وكان ماؤه ملحاً فلما ألقي يوسف فيه عذب فلما نزلوا أرسلوا رجلاً من أهل مدين يقال له مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء فذلك قوله عز وجل : { فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه } قال والوارد هو الذي يتقدم الرفقة إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء يقال أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر ودلوتها إذا أخرجتها قال فتعلق يوسف عليه الصلاة والسلام بالحبال وكان يوسف عليه السلام أحسن ما يكون من الغلمان وذكر البغوي بسند متصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « أعطي يوسف شطر الحسن » ويقال إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة وكانت قد أعطيت سدس الحسن قال محمد بن إسحاق : ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن ، وحكى الثعلبي عن كعب الأحبار ، قال : كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوي الخلق أبيض اللوم غليظ الساعدين والعضدين والساقين خميص البطن صغير السرة وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه وإذا تكلم رأيت شعاع النور في ثناياه ، ولا يستطيع أحد وصفه وكان حسنه كضوء النهار عند الليل وكان يشبه آدم عليه الصلاة والسلام يوم خلقه الله وصورته قبل أن يصيب الخطيئة . قالوا فلما خرج يوسف ورآه مالك بن ذعر كأحسن ما يكون من الغلمان قال يعني الوارد وهو مالك بن ذعر { يا بشراي } يعني يقول الوارد لأصحابه أبشروا { هذا غلام } وقرئ يا بشرى بغير إضافة ومعناه أن الوارد نادى رجلاً من أصحابه اسمه بشرى كما تقول يا زيد ويقال أن جدران البئر بكت على يوسف حين خرج منها { وأسروه بضاعة } قال مجاهد أسره : مالك بن ذعر وأصحابه من التجار الذين كانوا معهم وقالوا إنه بضاعة استبضعناه لبعض أهل المال إلى مصر وإنما قالوا ذلك خيفة أن يطلبوا منهم الشركة فيه ، وقيل : إن إخوة يوسف أسروا شأن يوسف يعني أنهم أخفوا أمر يوسف وكونه أخاً لهم بل قالوا هو عبد لنا أبق وصدقهم يوسف على ذلك لأنهم توعدوه بالقتل سراً من مالك ابن ذعر وأصحابه والقول الأول أصح لأن مالك بن ذعر هو الذي أسره بضاعة وأصحابه { والله عليم بما يعملون } يعني من إرادة إهلاك يوسف فجعل ذلك سبباً لنجاته وتحقيقاً لرؤياه أن يصير ملك مصر بعد أن كان عبداً قال أصحاب الأخبار : إن يهوذا كان يأتي يوسف بالطعام فأتاه فلم يجده في الجب فأخبر إخوته بذلك فطلبوه فإذا هم بمالك بن ذعر وأصحابه نزولاً قريباً من البئر فأتوهم فإذا يوسف عندهم فقالوا لهم هذا عبدنا أبق معنا ويقال إنهم هددوا يوسف حتى يكتم حاله ولا يعرفها وقال لهم مثل قولهم ثم إنهم باعوه منهم .(4/4)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
قوله تعالى : { وشروه } أي باعوه وقد يطلق لفظ الشراء على البيع يقال شريت الشيء بمعنى بعته وإنما وجب حمل هذا الشراء على البيع لأن الضمير في وشروه وفي وكانوا فيه من الزاهدين يرجع إلى شيء واحد وذلك أن إخوته زهدوا فيه فباعوه وقيل إن الضمير في وشروه يعود على مالك بن ذعر وأصحابه فعلى هذا القول يكون لفظ الشراء على بابه { بثمن بخس } قال الحسن والضحاك ومقاتل والسدي : بخس أي حرام لأن ثمن الحر حرام ويسمى الحرام بخساً لأنه مبخوس البركة يعني منقوصها وقال ابن مسعود وابن عباس : بخس أي زيوف ناقصة العيار وقال قتادة : بخس أي ظلم والظلم نقصان الحق يقال ظلمه إذا نقصه حقه وقال عكرمة والشعبي : بخس أي قليل وعلى الأقوال كلها فالبخس في اللغة هو نقص الشيء على سبيل الظلم والبخس والباخس الشيء الطفيف { دراهم معدودة } فيه إشارة إلى قلة تلك الدراهم لأنهم في ذلك الزمان ما كانوا يزنون أقل من أربعين درهماً إنما كانوا يأخذون ما دونها عدداً فإذا بلغت أربعين درهماً وهي أوقية وزنوها واختلفوا في عدد تلك الدراهم فقال ابن مسعود وابن عباس وقتادة : كانت عشرين درهماً فاقتمسوها درهمين درهمين فعلى هذا القول لم يأخذ أخوه من أمه وأبيه شيئاً منها ، وقال مجاهد : كانت اثنين وعشرين درهماً فعلى هذا أخذ أخوه منها درهمين لأنهم كانوا أحد عشر أخاً وقال عكرمة كانت أربعين درهماً { وكانوا فيه من الزاهدين } يعني وكان إخوة يوسف في يوسف من الزاهدين وأصل الزهد قلة الرغبة يقال زهد فلان في كذا إذا لم يكن له فيه رغبة والضمير في قوله وكانوا فيه من الزاهدين إن قلنا أنه يرجع إلى أخوة يوسف كان وجه زهدهم فيه أنهم حسدوه وأرادوا إبعاده عنهم ولم يكن قصدهم تحصيل الثمن وإن قلنا إن قوله وشروه وكانوا فيه من الزاهدين يرجع إلى معنى واحد وهو أن الذين شروه كانوا فيه من الزاهدين كان وجه زهدهم فيه إظهار قلة الرغبة فيه ليشتروه بثمن بخس قليل .
ويحتمل أن يقال : إن إخوته لما قالوا إنه عبدنا وقد أبق أظهر المشتري قلة الرغبة فيه لهذا السبب قال أصحاب الأخبار ثم إن مالك بن ذعر وأصحابه لما اشتروا يوسف انطلقوا به إلى مصر وتبعهم إخوته يقولون استوثقوا منه لا يأبق منكم فذهبوا به حتى قدموا مصر فعرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير قاله ابن عباس ، وكان قطفير صاحب أمر الملك وكان على خزائن مصر وكان يسمى العزيز وكان الملك بمصر ونواحيها اسمه الريان بن الوليد بن شروان وكان من العماليق ، وقيل : إن هذا الملك لم يمت حتى آمن بيوسف واتبعه على دينه ثم مات ويوسف عليه الصلاة والسلام حي .(4/5)
قال ابن عباس : لما دخلوا مصر لقي قطفير مالك بن ذعر فاشترى يوسف منه بعشرين ديناراً وزوج نعل وثوبين أبيضين ، وقال وهب بن منبه : قدمت السيارة بيوسف مصر ودخلوا به السوق يعرضونه للبيع فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ وزنه ذهباً ووزنه فضة ووزنه مسكاً وحريراً وكان وزنه أربعمائة رطل وكان عمره يومئذ ثلاث عشرة سنة أو سبع عشرة سنة فابتاعه قطفير بهذا الثمن فذلك قوله تعالى : { وقال الذي اشتراه من مصر } يعني قطفير من أهل مصر { لأمرأته } وكان اسمها راعيل وقيل زليخا { أكرمي مثواه } يعني أكرمي منزله ومقامه عندك والمثوى موضع الإقامة وقيل أكرميه في المطعم والملبس والمقام { عسى أن ينفعنا } يعني إن أردنا بيعه بعناه بربح أو يكفينا بعض أمورنا ومصالحنا إذا قوي وبلغ { أو نتخذه ولداً } يعني نتبناه وكان حصوراً ليس له ولد ، قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف حيث قال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً وابنة شعيب في موسى حيث قالت لأبيها استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين وأبو بكر في عمر استخلفه بعده { وكذلك مكَّنّا ليوسف في الأرض } يعني كما مننا على يوسف بأن أنقذناه من القتل وأخرجناه من الجب كذلك مكناه في الأرض يعني أرض مصر فجعلناه على خزائنها { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } أي مكنا له في الأرض لكي نعلمه من تأويل الأحاديث يعني عبارة الرؤيا وتفسيرها { والله غالب على أمره } قيل الكناية في أمره راجعة إلى الله تعالى ومعناه والله غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا دافع لأمره ولا راد لقضائه ولا يغلبه شيء وقيل هي راجعة إلى يوسف ومعناه أن الله مستولٍ على أمر يوسف بالتدبير والإحاطة لا يكله إلى أحد سواه حتى يبلغ منتهى ما علمه فيه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يعني ما هو صانع بيوسف وما يريد منه .(4/6)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
{ ولما بلغ أشده } يعني منتهى شبابه وشدته وقوته ، وقال مجاهد : ثلاثة وثلاثون سنة ، وقال الضحاك : عشرون سنة وقال السدي : ثلاثون سنة ، وقال الكلبي : الأشد ما بين ثمان عشرة إلى ثلاثين سنة وسئل مالك عن الأشد فقال : هو الحلم { آتيناه حكماً وعلماً } يعني آتينا يوسف بعد بلوغ الأشد نبوة وفقهاً في الدين وقيل حكماً يعني أصابة في القول وعلماً بتأويل الرؤيا وقيل الفرق بين الحكيم والعالم أن العالم هو الذي يعلم الأشياء بحقائقها والحكيم هو الذي يعمل بما يوجبه العلم وقيل الحكمة حبس النفس عن هواها وصونها عما لا ينبغي والعلم هو العلم النظري { وكذلك } يعني وكما أنعمنا على يوسف بهذه النعم كلها كذلك { نجزي المحسنين } قال ابن عباس : يعني المؤمنين وعنه أيضاً المهتدين ، وقال الضحاك : يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف { وراودته التي هو في بيتها عن نفسه } يعني أن امرأة العزيز طلبت من يوسف الفعل القبيح ودعته إلى نفسها ليواقعها { وغلقت الأبواب } أي أطبقتها وكانت سبعة لأن مثل هذا لفعل لا يكون إلا في ستر وخفية أو أنها أغقلتها لشدة خوفها { وقالت هيت لك } أي هلم وأقبل ، قال أبو عبيدة : كان الكسائي يقول هي لغة لأهل حوران رفعت إلى الحجاز معناها تعال ، وقال عكرمة أيضاً بالحوارنية : هلم ، وقال مجاهد وغيره : هي لغة عربية وهي كلمة حث وإقبال على الشيء وقيل هي بالعبرانية وأصلها هيتالج أي تعال فعربت فقيل هيت لك فمن قال إنها بغير لغة العرب يقول إن العرب وافقت أصحاب هذه اللغة فتكلمت بها على وفق لغات غيرهم كما وافقت لغة العرب الروم في القسطاس ولغة العرب الفرس في التنور ولغة العرب الترك في الغساق ولغة العرب الحبشة في ناشئة الليل وبالجملة فإن العرب إذا تكلمت بكلمة صارت لغة لها وقرئ هئت لك بكسر الهاء مع الهمزة ومعناها تهيأت لك { قال } يعني يوسف { معاذ الله } أي أعوذ بالله وأعتصم به وألجأ إليه فيما دعوتني إليه { إنه ربي } يعني أن العزيز قطفير سيدي { أحسن مثواي } أي أكرم منزلتي فلا أخونه وقيل إن الهاء في إنه ربي راجعة إلى الله تعالى والمعنى يقول إن الله ربي أحسن مثواي يعني أنه آواني ومن بلاء الجب نجاني { إنه لا يفلح الظالمون } يعني إن فعلت هذا الفعل فأنا ظالم ولا يفلح الظالمون ، وقيل : معناه أنه لا يسعد الزناة .(4/7)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
قوله عز وجل : { ولقد همَّت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } الآية ، هذه الآية الكريمة مما يجب الاعتناء بها والبحث عنها والكلام عليها في مقامين الأول في ذكر أقوال المفسرين في هذه الآية قال المفسرون : الهمّ هم المقاربة من الفعل من غير دخول فيه ، وقيل : اللهم مصدر هممت بالشيء إذا أردته وحدثتك نفسك به وقاربته من غير دخول فيه فمعنى قوله ولقد همَّت به أي أرادته وقصدته فكان همهما به عزمها على المعصية والزنا ،
وقال الزمخشري : همَّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه قال الشاعر وهو عمرو بن ضابئ البرجمي :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
وقوله : ولقد همَّت به : معناه ولقد همت بمخالطته وهم بها أي وهم بمخالطتها لولا أن رأى برهان ربه جوابه محذوف تقديره لولا أن رأى برهان ربه لخالطها قال البغوي وأما همه بها فروي عن ابن عباس أنه قال حلّ الهميان وجلس منها مجلس الخائن ، وقال مجاهد : حل سراويله وجعل يعالج ثيابه ، وهذا قول أكثر المفسرين منهم سعيد بن جبير والحسن وقال الضحاك : جرى الشيطان بينهما فضرب بيده إلى جيد يوسف وبيده الأخرى إلى جيد المرأة حتى جمع بينهما ، قال أبو عبيده القاسم بن سلام : وقد أنكر قوم هذا القول قال البغوي : والقول ما قاله قدماء هذه الأمة وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء من غير علم ، قال السدي وابن إسحاق : لما أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوقه إلى نفسها فقالت : يا يوسف ما أحسن شعرك ، قال : هو أول ما ينتثر عن جسدي ، قالت : ما أحسن عينيك ، قال : هي أول ما يسيل على خدي في قبري ، قالت : ما أحسن وجهك ، قال : هو للتراب يأكله . وقيل : إنها قالت له إن فراش الحرير مبسوط قم فاقض حاجتي قال : إذن يذهب نصيبي من الجنة . فلم تزل تطمعه وتدعوه إلى اللذة وهو شاب يجد من شبق الشباب ما يجده الرجل وهي امرأة حسناء جميلة حتى لان لها لما يرى من كلفها به فهم بها ثم إن الله تدارك عبده يوسف بالبرهان الذي ذكره وسيأتي الكلام على تفسير البرهان الذي رآه يوسف عليه الصلاة والسلام فهذا ما قاله المفسرون في هذه الآية أما المقام الثاني في تنزيه يوسف عليه الصلاة والسلام عن هذه الرذيلة وبيان عصمته من هذه الخطيئة التي ينسب إليها . قال بعض المحققين : الهم همان فهم ثابت وهو ما كان معه عزم وقصد وعقيدة رضا مثل هم امرأة العزيز فالعبد مأخوذ به وهم عارض وهو الخطرة في القلب وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف فالعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل به ويدل على صحة هذا ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تبارك وتعالى :(4/8)
« إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها عليه سيئة واحدة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له عشرة » لفظ مسلم وللبخاري بمعناه ( ق ) .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل قال « إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هم بها وعملها كتبها الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومن همّ بسيئة ولم يعملها كتبها الله له عنده حسنة وإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عليه سيئة واحدة » زاد في رواية أو محاها « ولن يهلك على الله إلا هالك » قال القاضي عياض في كتابه الشفاء فعلى مذهب كثير من الفقهاء المحدثين إن هم النفس لا يؤاخذ به وليس سيئة وذكر الحديث المتقدم فلا معصية في هم يوسف إذن وأما على مذهب المحققين من الفقهاء والمتكلمين فإن الهم إذا وطنت عليه النفس كان سيئة وأما مالم لم توطن عليه النفس من همومها وخواطرها فهو المعفو عنه هذا هو الحق فيكون إن شاء الله هم يوسف من هذا ويكون قوله وما أبرئ نفسي الآية أي ما أبرئها من هذا الهم أو يكون ذلك على طريق التواضع والاعتراف بمخالفة النفس لما زكي قبل وبرئ فكيف وحكى أبو حاتم عن عبيدة أن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يهم وأن الكلام فيه تقديم وتأخير أي ولقد همت به ولولا أن أري برهان ربه لهمّ بها وقال تعالى حاكياً عن المرأة ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وقال تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، وقال تعالى : وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله الآية وقيل في قوله وهم بها أي بزجرها ووعظها وقيل هم بها أي همه امتناعه وقيل هم بها أي نظر إليها وقيل هم بضربها ودفعها وقيل هذا كله كان قبل نبوته وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة زليخا حتى نبأه الله فألقى عله هيبة النبوة فشغلت هيبته كل من رآه عن حسه هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله ، وأما الإمام فخر الدين فذكر في هذا المقام كلاماً طويلاً مبسوطاً وأنا أذكر بعضه ملخصاً ، فأقول قال الإمام فخر الدين الرازي : إن يوسف عليه الصلاة والسلام كان بريئاً من العمل الباطل والهم المحرم وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين وبه نقول وعنه نذب فإن الدلائل قد دلت على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا يلتفت إلى ما نقله بعض المفسرين عن الأئمة المتقدمين فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت منهم زلة أو هفوة استعظموها وأتبعوها فإظهار الندامة والتوبة والاستغفار كما ذكر عن آدم عليه السلام في قوله ظلمنا أنفسنا الآية وقال في حق داود عليه الصلاة والسلام فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب وأما يوسف عليه الصلاة والسلام فلم يحك عنه شيئاً في ذلك في هذه الواقعة لأنه لو صدر منه شيء لأتبعه بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله ذلك عنه في كتابه كما ذكر عن غيره من الأنبياء وحيث لم يحك عنه شيئاً علمنا براءته مما قيل فيه ولم يصدر عنه شيء كما نقله أصحاب الأخبار ويدل على ذلك أيضاً أن كل من كان له تعلق بهذه الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام عما نسب إليه واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف والمرأة وزوجها والنسوة واللاتي قطعن أيديهن والمولود الذي شهد على القميص شهدوا ببراءته والله تعالى شهد ببراءته من الذنب أيضاً .(4/9)
أما بيان أن يوسف ادعى براءته مما نسب إليه فقوله هي راودتني عن نفسي ، وقوله : رب السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه . وأما بيان أن المرأة اعترفت ببراءة يوسف ونزاهته فقولها : أنا راودته عن نفسه فاستعصم ، وقولها : الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين . وأما بيان أن زوج امرأة اعترف أيضاً ببراءة يوسف فقوله : إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين . وأما شهادة المولود ببراءته فقوله : وشهد شاهد من أهلها الآية وأما شهادة الله له بذلك فقوله تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ومن كان كذلك فليس للشيطان عليه سلطان بدليل قوله لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين وبطل بهذا قول من قال إن الشيطان جرى بينهما حتى أخذ بجيده وجيد المرأة حتى جمع بينهما فإنه قول منكر لا يجوز لأحد أن يقول ذلك . وأما ما روي عن ابن عباس : إنه جلس منها مجلس الخائن فحاش ابن عباس أن يقول مثل هذا عن يوسف عليه الصلاة والسلام ولعل بعض أصحاب القصص وأصحاب الأخبار وضعوه عن ابن عباس ، وكذلك ما روي عن مجاهد وغيره أيضاً فإنه لا يكاد يصح بسند صحيح وبطل ذلك كله وثبت ما بيناه من براءة يوسف عليه الصلاة والسلام من هذه الرذيلة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه وما صدر من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام .(4/10)
فإن قلت : فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله عز وجل لولا أن رأى برهان ربه فائدة .
قلت : فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين أحدهما : أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو همّ بدفعها لقتلته فأعلمه بالبرهان أن الامتناع من ضربتها أولى صوناً للنفس عن الهلاك الوجه ، الثاني : أنه عليه الصلاة والسلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه لتعلقت به فكان في ذلك أن يتمزق ثوبه من قدام وكان في علم الله أن الشاهد يشهد بأنه ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن وذا تمزق من خلف كانت هي الخائنة فأعلمه الله بالبرهان هذا المعنى فلم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هارباً فأثبت بذلك الشاهد حجة له لا عليه وأما تفسير البرهان على ما ذكره المفسرون في قوله تعالى { لولا أن رأى برهان ربه } فقال قتادة وأكثر المفسرين : إن يوسف رأى صورة يعقوب عليه السلام وهو يقول له يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب من الأنبياء . وقال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك : انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عاضاً على أصبعه ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : مثل له يعقوب فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله وقال السدي نودي يا يوسف أتواقعها إنما مثلك لما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق عليه وإن مثلك إن واقعتها كمثله إذا وقع على الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شيئاً ومثلك ما لم يتواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يطاق ومثلك إن واقعتها كمثله إذا مات ودخل النمل في قرنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه وقيل إنه رأى معصماً بلا عضد عليه مكتوب { وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون } فولى هارباً ثم رجع فعاد المعصم وعليه مكتوب { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } فولى هارباً ثم عاد فرأى ذلك الكف وعليه مكتوب { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } الآية ثم عاد فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام أدرك عبدي يوسف قبل ان يصيب الخطيئة فانحط جبريل عاضاً على أصبعه يقول يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله من الأنبياء وقيل إنه مسه بجناحه فخرجت شهوته من أنامله قال محمد بن كعب القرظي رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت فرأى كتاباً في حائط فيه { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } وفي رواية عن ابن عباس أن رأى مثال ذلك الملك ، وعن علي بن الحسين قال : كان في البيت صنم فقامت المرأة إليه وسترته بثوب فقال لها يوسف عليه السلام لم فعلت هذا قالت استحييت منه أن يراني على معصية فقال لها يوسف أتستحيين مما لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه شيئاً فأنا أحق أن أستحيي من ربي فهرب فذلك قوله لولا أن رأى برهان ربه أما المحققون فقد فسروا البرهان بوجوه الأول ، قال جعفر بن محمد الصادق : البرهان هو النبوة التي جعلها الله تعالى في قلبه حالت بينه وبين ما يسخط الله عز وجل الثاني البرهان حجة الله عز وجل على العبد في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب الثالث إن الله عز وجل طهر نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الأخلاق الذميمة والأفعال الرذيلة وجبلهم على الأخلاق الشريفة الطاهرة المقدسة فتلك الأخلاق الطاهرة الشريفة تحجزهم عن فعل ما لا يليق فعله { كذلك } يعني كما رأيناه البرهان كذلك { لنصرف عنه السوء } يعني الإثم { والفحشاء } يعني الزنا ، وقيل : السوء مقدمات الفحشاء وقيل السوء الثناء القبيح فصرف الله عنه ذلك كله وجعله من عباده المخلصين وهو قوله { إنه } يعني يوسف { من عبادنا المخلصين } قرئ بفتح اللام ومعناه أنه من عبادنا الذين اصطفيناهم بالنبوة واخترناهم على غيرهم وقرئ بكسر اللام ومعناه أنه من عبادنا الذين أخلصوا الطاعة لله عز وجل .(4/11)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
قوله تعالى : { واستبقا الباب } وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى البرهان قام هارباً مبادراً إلى الباب وتبعته المرأة لتمسك عليه الباب حتى لا يخرج والمسابقة طلب السبق فسبق يوسف وأدركته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه وجذتبه إليها حتى لا يخرج فذلك قوله عز وجل : { وقدت قميصه من دبر } يعني شقته من خلف فغلبها يوسف فخرج وخرجت معه { وألفيا سيدها لدى الباب } يعني فلما خرجا وجدا زوج المرأة قطفير وهو العزيز عند الباب جالساً مع ابن عم المرأة فلما رأته المرأة هابته وخافت التهمة فسبقت يوسف بالقول { قالت } يعني لزوجها { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } يعني الفاحشة ثم خافت عليه أن يقتله وذلك لشدة حبها له فقالت { إلا أن يسجن } أي يحبس في السجن ويمنع التصرف { أو عذاب أليم } يعني الضرب بالسياط وإنما بدأ بذكر السجن دون العذاب لأن الحب لا يشتهي إيلام المحبوب وإنما أرادت أن يسجن عندها يوماً أو يومين ولم ترد السجن الطويل وهذه لطيفة فافهمها فلما سمع يوسف مقاتلها أراد أن يبرهن عن نفسه { قال } يعني يوسف { هي راودتني عن نفسي } يعني طلبت مني الفحشاء فأبيت وفررت وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام ما كان يريد أن يذكر هذا القول ولا يهتك سترها ولكن لما قالت هي ما قالت ولطخت عرضه احتاج إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه فقال هي راودتني عن نفسي { وشهد شاهد من أهلها } يعني وحكم حاكم من أهل المرأة واختلفوا في ذلك الشاهد ، فقال سعيد بن جبير والضحاك : كان صبياً في المهد فأنطقه الله عز وجل وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « تكلم أربعة وهم صغار ابن ماشطة وابنة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم » ذكره البغوي بغير سند والذي جاء في الصحيحين « ثلاثة عيسى بن مريم وصاحب جريج وابن المرأة » وقصتهم مخرجة في الصحيح قيل كان هذا الصبي شاهد يوسف ابن خال المرأة . وقال الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد : لم يكن صبياً ولكنه كان رجلاً حكيماً ذا رأي ، وقال السدي : هو ابن عم امرأة فحكم فقال { إن كان قميصه قد من قبل } أي من قدام { فصدقت وهو من الكاذبين } .(4/12)
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
{ وإن كان قميصه قد من دبر } أي من خلف { فكذبت وهو من الصادقين } وإنما كان هذا الشاهد من أهل المرأة ليكون أقوى من نفي التهمة عن يوسف عليه الصلاة والسلام ونفي التهمة عنه من وجوه منها أنه كان في الظاهر مملوك هذه المرأة والمملوك لا يبسط يديه إلى سيدته ومنها أنهم شاهدوا يوسف يعدو هارباً منها والطالب لا يهرب ومنها أنهم رأوا المرأة قد تزينت بأكمل الوجوه فكان إلحاق التهمة بها أولى ومنها أنهم عرفوا يوسف في المدة الطويلة فلم يروا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذه الحالة فكان مجموع هذه العلامات دلالة على صدقه مع شهادة الشاهد له بصدقه أيضاً { فلما رأى قميصه قد من دبر } يعني فلما رأى قطفير زوج المرأة قميص يوسف عليه الصلاة والسلام قد من خلفه عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف عليه الصلاة والسلام { قال } يعني قال لها زوجها قطفير { إنه } يعني هذا الصنيع { من كيدكن } يعني من حيلكن ومكركن { إن كيدكن عظيم } فإن قلت كيف وصف كيد النساء بالعظيم مع قوله تعالى وخلق الإنسان ضعيفاً وهلا كان مكر الرجال أعظم من مكر النساء .
قلت أما كون الإنسان خلق ضعيفاً فهو بانسبة إلى خلق ما هو أعظم منه كخلق الملائكة والسموات والأرض والجبال ونحو ذلك وأما عظم كيد النساء ومكرهن في هذا الباب فهو أعظم من كيد جميع البشر لأن لهن من المكر والحيل والكيد في إتمام مرادهن ما لا يقدر عليه الرجال في هذا الباب ، وقيل : إن قوله إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم من قول الشاهد وذلك أنه لما ثبت عنده خيانة المرأة وبراءة يوسف عليه الصلاة والسلام قال هذه المقالة { يوسف } يعني يا يوسف { أعرض عن هذا } يعني اترك هذا الحديث فلا تذكره لأحد حتى لا يفشو ويشيع وينتشر بين الناس وقيل معناه يا يوسف لا تكترث بهذا الأمر ولا تهتم به فقد بان عذرك وبراءتك ثم التفت إلى المرأة فقال لها { واستغفري لذنبك } يعني توبي إلى الله مما رميت يوسف به من الخطيئة وهو بريء منها وقيل إن هذا من قول الشاهد يقول للمرأة سلي زوجك أن يصفح عنك ولا يعاقبك بسبب ذنبك { إنك كنت من الخاطئين } يعني من المذنبين حين خنت زوجك ورميت يوسف بالتهمة وهو بريء وإنما قال من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات تغليباً لجنس الرجال على النساء وقيل إنه لم يقصد به الخبر عن النساء بل قصد الخبر عن كل ما يفعل هذا الفعل تقديره إنك كنت من القوم الخاطئين فهو كقوله وكانت من القانتين .
قوله عز وجل : { وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه } يعني وقال جماعة من النساء وكنَّ خمساً وقيل كن أربعاً وذلك لما شاع خبر يوسف والمرأة في مدينة مصر وقيل هي مدينة عين الشمس وتحدثت النساء فيما بينهن بذلك وهن امرأة حاجب الملك وامرأة صاحب دوابه وامرأة خبازه وامرأة ساقيه وامرأة صابح سجنه وقيل نسوة من أشراف مصر امرأة العزيز يعني زليخا تراود فتاها عن نفسه يعني تراود عبدها الكنعاني عن نفسه لأنها تطلب منه الفاحشة وهو يمتنع منها والفتى الشاب الحديث السن { قد شغفها حباً } يعني قد علقها حباً والشغاف جلدة محيطة بالقلب يقال لها غلاف القلب والمعنى أنه حبه دخل الجلدة حتى أصاب القلب وقيل إن حبه قد أحاط بقلبها كإحاطة الشغاف بالقلب قال الكلبي حجب حبه قلبها حتى لا تعقل شيئاً سواه { إنا لنراها في ضلال مبين } يعني في خطأ بيّن ظاهر حيث تركت ما يجب على أمثالها من العفاف والستر وأحبت فتاها .(4/13)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
{ فلما سمعت بمكرهن } يعني فلما سمعت زليخا بقولهن وما تحدثن به إنما سمى قولهن ذلك مكراً لأنهن طلبن بذلك رؤية يوسف وكان وصف لهن حسنه وجماله فقصدن أن يرينه وقيل إن امرأة العزيز أفشت إليهن سرها واستكتمتهن فأفشين ذلك عليها فلذلك سماه مكراً { أرسلت إليهن } يعني أنها لما سمعت بأنهن يلمنها على محبتها ليوسف أرادت أن تقيم عذرها عندهن قال وهب اتخذت مائدة يعني صنعت لهن وليمة وضيافة ودعت أربعين امرأة من أشراف مدينتها فيهن هؤلاء اللاتي عيرنها { وأعتدت لهن متكأً } يعني ووضعت لهن نمارق ومساند يتكئن عليها ، وقال ابن عباس وابن جبير والحسن وقتادة ومجاهد : متكئاً يعني طعاماً وإنما سمي الطعام متكئاً لأن كل من دعوته ليطعم عندك فقد أعددت له وسائد يجلس ويتكئ عليها فسمي الطعام متكأً على الاستعارة ويقال : اتكأنا عند فلان أي طعمنا عنده المتكأ ما يتكأ عليه عند الطعام والشراب والحديث ولذلك جاء النهي عنه في الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم « لا آكل متكئاً » وقيل المتكأ الأترج وقيل هو كل شيء يقطع بالسكين أو يحز بها ويقال إن المرأة زينت البيت بألوان الفاكهة والأطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة اللاتي عيرنها بحب يوسف { وآتت كل واحدة منهن سكيناً } يعني وأعطت كل واحدة من النساء سكيناً لتأكل بها وكان من عادتهم أن يأكلن اللحم والفواكه بالسكين { وقالت اخرج عليهن } يعني وقالت زليخا ليوسف اخرج على النسوة وكان يخاف من مخالفتها فخرج عليهن يوسف وكانت قد زينته واختبأته في مكان آخر { فلما رأينه } يعني النسوة { أكبرنه } يعني أعظمنه ودهشن عند رؤيته وكان يوسف قد أعطي شطر الحسن ، وقال عكرمة : كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم وروى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « رأيت ليلة أسري بي إلى السماء يوسف كالقمر ليلة البدر » ذكره البغوي بغير سند ، وقال إسحاق بن أبي فروة : كان يوسف إذا سار في أزقة مصر تلألأ وجهه على الجدران ويقال إنه ورث حسن آدم يوم خلقه الله عز وجل قبل أن يخرج من الجنة وقال أبو العالية هالهن أمره وبهتن إليه وفي رواية عن ابن عباس قال أكبرنه أي حضن ونحوه ، عن مجاهد والضحاك قال : حضن من الفرج وأنكر أكثر أهل اللغة هذا القول . قال الزجاج : هذه اللفظة ليست معروفة في اللغة والهاء في أكبرنه تمنع من هذا لأنه لا يجوز أن يقال النساء قد حضنه لأن حضن لا يتعدى إلى مفعول قال الأزهري إن صحت هذه اللفظة فلها مخرج وذلك أن المرأة إذا حاضت أول ما تحيض فقد خرجت من حد الصغار إلى حد الكبار فيقال لها أكبرت أي حاضت على هذا المعنى فإن صحت الرواية عن ابن عباس ، سلمنا له وجعلنا الهاء في قوله أكبرنه هاء الوقف لا هاء الكناية ، وقيل : إن المرأة إذا خافت أو فزعت فربما أسقطت ولدها وتحيض فإن كان ثم حيض فربما كان من فزعهن وما هالهن من أمر يوسف حين رأينه قال الإمام فخر الدين الرازي : وعندي أنه يحتمل وجهاً آخر وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة آثار الخضوع والإخبات وشاهدن فيه مهابة وهيبة ملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهن وكان ذلك الجمال العظيم مقروناً بتلك الهيبة والهيئة فتعجبن من تلك الحالة فلا جرم أكبرنه وأعظمنه ووقع الرعب والمهابة في قلوبهن قال وحمل الآية على هذا الوجه أولى { وقطعن أيديهن } يعني : وجعلن يقطعن أيديهن بالسكاكين التي معهن وهون يحسبن أنهن يقطعن الأترج ولم يجدن الألم لدهشتهن وشغل قلوبهم بيوسف قال مجاهد فما أحسسن إلا بالدم ، وقال قتادة : أين أيديهن حتى ألقينها والأصح أنه كان قطعاً من غير إبانة ، قال وهب : مات جماعة منهن { وقلن } يعني النسوة { حاش لله ما هذا بشراً } أي معاذ الله أن يكون هذا بشراً { إن هذا إلا ملك كريم } يعني على الله والمقصود من هذا إثبات الحسن العظيم المفرط ليوسف لأنه قد ركز في النفوس أن لا شيء أحسن من الملك فلذلك وصفته بكونه ملكاً وقيل لما كان الملك مطهراً من بواعث الشهوة وجميع الآفات والحوادث التي تحصل للبشر وصفن يوسف بذلك .(4/14)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
قوله تعالى : { قالت فذلكن الذي لمتنني فيه } يعني قالت امرأة العزيز للنسوة لما رأين يوسف ودهشن عند رؤيته فذلكن الذي لمتنني في محبته وإنما قالت ذلك لإقامة عذرها عندهن حين قلن إن امرأة العزيز قد شغفها فتاها الكنعاني حباً وإنما قالت فذلكن الذي الخ بعد ما قام من المجلس وذهب وقال صاحب الكشاف قالت فذلكن ولم تقل فهذا وهو حاضر رفعا لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتن به ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن عشقت عبدها الكنعاني تقول هو ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه ثم إن امرأة العزيز صرحت بما فعلت فقالت { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } يعني فامتنع من ذلك الفعل الذي طلبته منه وإنما صرحت بذلك لأنها علمت أنه لا ملامة عليه منهن وأنهن قد أصابهن ما أصابها عند رؤيته ثم إن امرأة العزيز قالت { ولئن لم يفعل ما آمره } يعني وإن لم يطاوعني يما دعوته إليه { ليسجنن } أي ليعاقبن بالسجن والحبس { وليكوناً من الصاغرين } يعني : من الأذلاء المهانين فقال النسوة ليوسف أطع مولاتك فيما دعتك إليه فاختار يوسف السجن على المعصية حين توعدته المرأة بذلك { قال رب } أي يا رب { السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه } قيل : إن الدعاء كان منها خاصة وإنما أضافه إليهن جميعاً خروجاً من التصريح إلى العريض ، وقيل : إنهن جميعاً دعونه إلى أنفسهن ، وقيل : إنهن لما قلن له أطع مولاتك صحت إفاضة الدعاء إليهن جميعاً أو لأنه كان بحضرتهن قال بعضهم أو لم يقل السجن أحب إليّ لم يبتل بالسجن والأولى بالعبد أن يسأل الله العافية { وإلا تصرف عني كيدهن } يعني ما أردن مني { أصب إليهن } أي أمل إليهن يقال صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه واشتاقه { وأكن من الجاهلين } يعني من المذنبين وقيل معناه أكن ممن يستحق صفة الذم بالجهل ، وفيه دليل على أن من ارتكب ذنباً إنما يرتكبه عن جهالة { فاستجاب له ربه } يعني فأجاب الله تعالى دعاء يوسف { فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع } يعني لدعاء يوسف وغيره { العليم } يعني بحاله وفي الآية دليل على أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما أظلته البلية بكيد النساء ومطالبتهن إياه بما لا يليق بحاله لجأ إلى الله وفزع إلى الدعاء رغبة إلى الله ليكشف عنه ما نزل به من ذلك الأمر مع الاعتراف بأنه إن لم يعصمه من المعصية وقع فيها فدل ذلك على أنه لا يقدر أحد عن الانصراف عن المعصية إلا بعصمة الله ولطفه به .
قوله عز وجل : { ثم بدا لهم } يعني للعزيز وأصحابه في الرأي وذلك أنهم أرادوا أن يقتصروا من أمر يوسف على الإعراض وكتم الحال وذلك أن المرأة قالت لزوجها إن ذلك العبد العبراني قد فضحني عند الناس يخبرهم بأني قد راودته عن نفسه فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر إلى الناس وإما أنت تحبسه فرأى حبسه { من بعد ما رأوا الآيات } يعني الدالة على صدق يوسف وبراءته من قد القميص وكلام الطفل وقطع النساء أيديهن وذهاب عقولهن عند رؤيته { ليسجننه } أي ليحبسن يوسف في السجن { حتى حين } يعني إلى مدة يرون رأيهم فيها ، وقال عطاء : إلى أن تنقطع مقالة الناس ، وقال عكرمة : إلى سبع سنين ، وقال الكلبي : خمس سنين فحبسه ، قال السدي : جعل الله ذلك الحبس تطهيراً ليوسف من همه بالمرأة .(4/15)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
{ ودخل معه السجن فتيان } وهما غلامان كانا للوليد بن شروان العمليق ملك مصر الأكبر أحدهما خبازه وصاحب طعامه والآخر ساقيه وصاحب شرابه وكان قد غضب عليهما الملك فحبسهما ، وكان السبب في ذلك أن جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله وقتله فمضنوا لهذين الغالمين مالاً على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم إن الساقي ندم فرجع عن ذلك وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر الطعام بين يدي الملك قال الساقي لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم وقال الخباز لا تشرب فإن الشراب مسموم فقال للساقي اشرب فشربه فلم يضره وقال للخباز كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك الطعام دابة فهلكت فأمر الملك بحبسهما مع يوسف وكان يوسف لما دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول إني أعبر الأحلام فقال أحد الغلامين لصاحبه هلم فلنجرب هذا الغلام العبراني فتراءيا له فسألاه من غير أن يكونا قد رأيا شيئاً قال ابن مسعود ما رأيا شيئاً إنما تحالما ليجربا يوسف وقال بل كانا قد رأيا رؤيا حقيقة فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكرا أنهما غلامان للملك وقد حبسهما وقد رأيا رؤيا قد غمتهما فقال يوسف قصا علي ما رأيتما فقصا عليه ما رأياه ذلك قوله تعالى : { قال أحدهما } وهو صاحب شراب الملك { إني أرأني أعصر خمراً } يعني عنباً سمي العنب خمراً باسم ما يؤول إليه يقال فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبن حتى يصير آجراً ، وقيل : الخمر العنب بلغة عمان وذلك أنه قال إني رأيت في المنام كأني في بستان وإذا فيه أصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد عنب فجنيتها وكان كأس الملك في يدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه { وقال الآخر } وهو صاحب طعام الملك { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه } وذلك أنه قال إني رأيت في المنام كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منها { نبئنا بتأويله } أي أخبرنا بتفسير ما رأينا وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا { إنا نراك من المحسنين } يعني من العالمين بعبارة الرؤيا والإحسان هنا بمعنى العلم ، وسئل الضحاك ما كان إحسانه فقال : كان إذا مرض إنسان في الحبس عاده وقام عليه وإذا ضاق على أحد وسع عليه وإذا احتاج أحد جمع له شيئاً مع هذا يجتهد في العبادة يصوم النهار ويقوم الليل كله للصلاة . وقيل : إنه لما دخل السجن وجد فيه قوماً اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يسليهم ويقول إصبروا وأبشروا فقالوا بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا في جوارك فمن أين أنت قال أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبرايهم فقال له صاحب السجن يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك ولكن سأرفق بك وأحسن جوارك واختر أي بيوت السجن شئت وقيل إن الفتيين لما رأيا يوسف قالا إنا قد أحببناك منذ رأيناك فقال لهما يوسف أنشدكما بالله أن لا تحباني فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من ذلك بلاء وأحبني أبي فألقيت في الجب وأحبتني امرأة العزيز فحبست فلما قصا عليه رؤياهما كره يوسَف أن يعبرها لهما حين سألاه لما علم ما في ذلك من المكروه لأحدهما وأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره من إظهار المعجزة والنبوة والدعاء إلى التوحيد وقيل إنه عليه السلام راد أن يبين لهما أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدا فيه وذلك أنهما طلبا منه علم التعبير ولا شك إن هذا العلم مبني على الظن والتخمين فأراد أن يعلمهما أنه يمكنه الإخبار عن المغيبات على سبيل القطع واليقين وذلك مما يعجز الخلق عنه وإذا قدر على الإخبار عن الغيوب كان أقدر على تعبير الرؤيا بطريق الأولى . وقيل : إنما عدل عن تعبير رؤياهما إلى إظهار المعجزة لأنه علم أن أحدهما سيصلب فأراد أن يدخله في الإسلام ويخلصه من الكفر ودخول النار فأظهر له المعجزة لهذا السبب .(4/16)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
{ قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله } قيل : أراد به في النوم يقول لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما إلا أخبرتكما خبره في اليقظة ، وقيل : أراد به اليقظة يقول لا يأتيكما طعام من منازلكما ترزقانه يعني تطعمانه وتأكلانه إلا نبأتكما بتأويله يعني أخبرتكما بقدره ولونه والوقت الذي يصل إليكما فيه { قبل أن يأتيكما } يعني قبل أن يصل إليكما وأي طعام أكلتم وكم أكلتم ومتى أكلتم وهذا مثل معجزة عيسى عليه الصلاة والسلام حيث قال وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فقالا ليوسف عليه الصلاة والسلام هذا من علم العرافين والكهنة فمن أين لك هذا العلم؟ فقال ما أنا بكاهن ولا عراف وإنما ذلك إشارة إلى المعجزة والعلم الذي أخبرهما به { ذلكما مما علمني ربي } يعني أن هذا الذي أخبرتكما به وحي من الله أوحاه إليّ وعلم علمنيه { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله } فإن قلت ظاهر قوله أني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله أنه عليه الصلاة والسلام كان داخلاً في هذه الملة ثم تركها وليس الأمر كذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من حين ولدوا وظهروا إلى الوجود هم على التوحيد فما معنى هذا الترك في قوله تركت .
قلت الجواب من وجهين : الأول : أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء والالتفات إليه بالمرة وليس من شرطه أن يكون قد كان داخلاً فيه ثم تركه ورجع عنه .
والوجه الثاني : وهو الأقرب أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما كان عند العزيز وهو كافر وجميع من عنده كذلك وقد كان بينهم وكان يوسف على التوحيد والإيمان الصحيح صح قوله إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله { وهم بالآخرة هم كافرون } فترك ملتهم وأعرض عنهم ولم يوافقهم على ما كانوا عليه وتكرير لفظة هم في قوله وهم بالآخرة هم كافرون للتوكيد لشدة إنكارهم للمعاد وقوله { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } لما ادعى يوسف عليه السلام النبوة وأظهر المعجزة أظهر أنه من أهل بيت النبوة وأن آباءه كلهم كانوا أنبياء وقيل لما كان إبراهيم وإسحاق ويعقوب مشهورين بالنبوة والرسالة ولهم الدرجة العليا في الدنيا عند الخلق والمنزلة الرفيعة في الآخرة أظهر يوسف عليه الصلاة والسلام أنه من أولادهم وأنه من أهل بيت النبوة ليسمعوا قوله ويطيعوا أمره فيما يدعوهم إليه من التوحيد { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } معناه أن الله سبحانه وتعالى لما اختارنا لنبوته واصطفانا لرسالته وعصمنا من الشرك فما كان ينبغي لنا أن نشرك به مع جميع هذه الاختصاصات التي اختصَّنا بها . قال الواحدي : لفظة من في قوله من شيء زائدة مؤكدة كقولك ما جاءني من أحد ، وقال صاحب الكشاف : ما كان لنا ما صح لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله من شيء أي شيء كان من ملك أو جني أو نسي فضلاً أن نشرك به صنماً لا يسمع ولا يبصر { ذلك من فضل الله } يعني ذلك التوحيد وعدم الإشراك والعلم الذي رزقنا من فضل الله { علينا وعلى الناس } يعني بما نصب لهم من الأدلة الدالة على وحدانيته وبين لهم طريق الهداية إليه فكل ذلك من فضل الله على عباده { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } يعني أن أكثرهم لا يشكرون الله على هذه النعم التي أنعم بها عليهم لأنهم تركوا عبادته وعبدوا غيره ثم دعاهما إلى الإسلام .(4/17)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
{ يا صاحبي السجن } يريد يا صاحبيَّ في السجن فأضافهما إلى السجن كما تقول يا سارق الليلة لأن الليلة مسروق فيها غير مسروقة ويجوز أن يريد يا ساكني السجن كقوله أصحاب النار وأصحاب الجنة { أأرباب متفرقون } يعني أآلهة شتى من ذهب وفضة وصفر وحديد وحشب وحجارة وغير ذلك وصغير وكبير ومتوسط متباينون في الصفة وهي مع ذلك لا تضر ولا تنفع { خير أم الله الواحد القهار } يعني أن هذه الأصنام أعظم صفة في المدح واستحقاق اسم الإلهية والعبادة أم الله الواحد القهار ، قال الخطابي : الواحد هو الفرد الذي لم يزل وحده وقيل هو المنقطع عن القرين والمعدوم الشريك والنظير وليس هو كسائر الآحاد من الأجسام المؤلفة لأن ذلك قد يكثر بانضمام بعضها إلى بعض والواحد ليس كذلك فهو الله الواحد الذي لا مثل له ولا يشبهه شيء من غيره : القهار هو الذي قهر كل شيء وذلله فاستسلم وانقاد وذل له ، والمعنى أن هذه الأصنام التي تعبدونها ذليلة مقهورة إذا أراد الإنسان كسرها وإهانتها قدر عليه والله هو الواحد في ملكه القهار لعباده الذي لا يغلبه شيء وهو الغالب لكل شيء سبحانه وتعالى ثم بين عجز الأصنام وأنها لا شيء البتة فقال { ما تعبدون من دونه } يعني من دون الله وإنما قاله تعبدون بلفظ الجمع وقد ابتدأ بالتثنية في المخاطبة لأنه أراد جميع من في السجن من المشركين { إلا أسماء سميتموها } يعني سميتموها آلهة وأرباباً وهي حجارة جمادات خالية عن المعنى لا حقيقة لها { أنتم وآباؤكم } يعني من قبلكم سموها آلة { ما أنزل الله بها من سلطان } يعني أن تسمية الأصنام آلهة لا حجة لكم بها ولا برهان ولا أمر الله بها وذلك أنهم كانوا يقولون إن الله أمرنا بهذه التسمية فرد الله عليهم بقوله : { ما أنزل الله بها من سلطان أن الحكم إلا لله } يعني أن الحكم والقضاء والأمر والنهي لله تعالى لا شريك له في ذلك { أمر أن لا تعبدوا إلا إياه } لأنه هو المستحق للعبادة لا هذه الأصنام التي سميتموها آلهة { ذلك الدين القيم } يعني عبادة الله هي الدين المستقيم { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ذلك .
ولما فرغ يوسف عليه الصلاة والسلام من الدعاء إلى الله وعبادته رجع إلى تعبير رؤياهما فقال { يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمراً } يعني أن صاحب شراب الملك يرجع إلى منزلته ويسقي الملك خمراً كما كان يسقيه أولاً والعناقيد الثلاثة هي ثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يدعو به الملك ويرده إلى منزلته التي كان عليها { وأما الآخر فيصلب } يعني صاحب طعام الملك والسلال الثلاث ثلاثة أيام ثم يدعو به الملك فيصلبه { فتأكل الطير من رأسه } قال ابن معسود رضي الله عنه فلما سمعا قول يوسف عليه الصلاة والسلام قالا ما رأينا شيئاً إنما كنا نلعب قال يوسف { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } يعني فرغ من الأمر الذي سألتما عنه ووجب حكم الله عليكما بالذي أخبرتكما به رأيتما شيئاً أم لم تريا { وقال } يعني يوسف { للذي ظن } يعني علم وتحقق فالظن بمعنى العلم { أنه ناج منهما } يعني ساقي الملك { اذكرني عند ربك } يعني سيدك وهو الملك الأكبر فقل له إن في السجن غلاماً محبوساً مظلوماً طال حبسه { فأنساه الشيطان ذكر ربه } في هاء الكناية في فأنساه إلى من تعود قولان :
أحدهما : أنها ترجع إلى الساقي وهو قول عامة المفسرين والمعنى فأنس الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك قالوا لأن صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل الساقي حتى أنساه ذكر يوسف أولى من صرفها إلى يوسف .(4/18)
والقول الثاني : وهو قول أكثر المفسرين أن هاء الكناية ترجع إلى يوسف ، والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه عز وجل حتى ابتغى الفرج من غيره واستعان بمخلوق مثله في دفع الضرر وتلك غفلة عرضت ليوسف عليه السلام فإن الاستعانة بالمخلوق في دفع الضرر جائزة إلا أنه لما كان مقام يوسف أعلى المقامات ورتبته أشرف المراتب وهي منصب النبوة والرسالة لا جرم صار يوسف مؤاخذاً بهذا القدر فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين .
فإن قلت كيف تمكن الشيطان من يوسف حتى أنساه ذكر ربه .
قلت بشغل الخاطر وإلقاء الوسوسة فإنه قد صح في الحديث « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » فأما النسيان الذي هو عبارة عن ترك الذكر وإزالته عن القلب بالكلية فلا يقدر عليه .
وقوله سبحانه وتعالى : { فلبث في السجن بضع سنين } .
اختلفوا في قدر البضع فقال مجاهد ما بين الثلاثة إلى السبع وقال قتادة : هو ما بين الثلاث إلى التسع ، وقال ابن عباس هو ما دون العشرة وأكثر المفسرين على أن البضع في هذه الآية سبع سنين وكان يوسف قد لبث قبلها في السجن خمس سنين فجملة ذلك اثنتا عشرة سنة وقال وهب : أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين .
وقال مالك بن دينار : لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك قال له يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك فبكى يوسف وقال يا رب أنسى قلبي ذكرك كثرة البلوى فقلت كلمة قال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم « رحم الله يوسف لولا كلمته التي قالها ما لبث في السجن ما لبث » يعني قوله اذكرني عند ربك ثم بكى الحسن وقال نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس ذكره الثعلبي مرسلاً وبغير سند وقيل إن جبريل دخل على يوسف في السجن فلما رآه يوسف عرفه فقال له يوسف يا أخا المنذرين مالي أراك بين الخاطئين فقال له جبريل يا طاهر بن الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين ويقول لك ما استحييت مني أن أستغثت بالآدميين فوعزتي وجلالي لألبثنك في السكن بضع سنين قال يوسف وهو في ذلك عني راض قال نعم قال إذن لا أبالي وقال كعب قال جبريل ليوسف يقول الله عز وجل لك من خلقك قال الله فمن رزقك قال الله قال فمن حببك إلى أبيك قال الله قال فمن نجاك من كرب البئر قال الله قال فمن علمك تأويل الرؤيا قال الله قال فمن صرفك عنك السوء والفحشاء قال الله قال فكيف استغثت بآدمي مثلك قالوا فلما انقضت سبع سنين .(4/19)
قال الكلبي : وهذه السبع سوى الخمس سنين التي كانت قبل ذلك ودنا فرج يوسف وأراد الله عز وجل إخراجه من السجن رأى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة هالته وذلك أن رأى في منامه سبع بقرات سمان قد خرجن من البحر ثم خرجن عقيبهن سبع بقرات عجاف في غاية الهزال فابتلع العجاف السمان ودخلن في بطونهن ولم ير منهن شيء ولم يتبين على العجاف منها شيء ورأى سبع سنبلات خصر قد انعقد حبها وسبع سنبلات أخر يابسات قد استحصدت فالتوت اليابسات على الخضر حتى علون عليهن ولم يبق من خضرتها شيء فجمع السحرة والكهنة والمعبرين وقص عليهم رؤياه التي رآها .(4/20)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
قوله تعالى : { وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي } يعني يا أيها الأشراف أخبروني بتأويل رؤياي { إن كنتم للرؤيا تعبرون } يعني : إن كنتم تحسنون علم العبارة وتفسيرها وعلم التعبير مختص بتفسير الرؤيا وسمي هذا العلم تعبيراً لأن المفسر للرؤيا عابر من ظاهرها إلى باطنها ليستخرج معناها وهذا أخص من التأويل لأن التأويل يقال فيه وفي غيره .(4/21)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
{ قالوا } يعني قال جماعة الملأ وهم السحرة والكهنة والمعبرون مجيبين للملك { أضغاث أحلام } يعني أخلاط مشتبه واحدها ضغث وأصله الحزمة المختلطة من أنواع الحشيش والأحلام جمع حلم وهو الرؤيا التي يراها الإنسان في منامه { وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } لما جعل الله هذه الرؤيا سبباً لخلاص يوسف عليه الصلاة والسلام من السجن وذلك أن الملك لما رآها قلق واضطرب وذلك لأنه قد شاهد الناقص الضعيف قد استولى على القوي الكامل حتى قهره وغلبه فأراد أن يعرف تأويل ذلك فجمع سحرته وكهنته ومعبريه وأخبرهم بما رأى في منامه وسألهم عن تأويلها فأعجز الله بقدرته جماعة الكهنة والمعبرين عن تأويل هذه الرؤيا ومنعهم عن الجواب ليكون ذلك سبباً لخلاص يوسف عليه الصلاة والسلام من السجن فذلك قوله تعالى : { وقال الذي نجا منهما } يعني وقال الساقي الذي نجا من السجن والقتل بعد هلاك صاحبه الخباز { وادكر بعد أمة } يعني أنه تذكر قول يوسف اذكرني عند ربك بعد أمة يعني بعد حين وهو سبع سنين وسمي الحين من الزمان أمة لأنه جماعة الأيام والأمة والجماعة { أنا أنبئكم } يعني أخبركم { بتأويله } وقوله أنا أنبئكم بلفظ الجمع إما أنه أراد به الملك مع جماعة السحرة والكهنة والمعبرين أو أراد به الملك وحده وخاطبه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم وذلك أن الفتى الساقي جثا بين يدي الملك وقال إن في السجن رجلاً عالماً يعبر الرؤيا { فأرسلون } فيه اختصار تقديره فأرسلني أيها الملك فأتى السجن قال ابن عباس ولم يكن السجن في المدينة { يوسف } أي يا يوسف { أيها الصديق } إنما سماه صديقاً لأنه لم يجرب عليه كذباً قط والصديق الكثير الصدق والذي ل يكذب قط وقيل سماه صديقاً لأنه صدق في تعبيره رؤياه التي رآها في السجن { أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات } فإن الملك رأى هذه الرؤيا { لعلي أرجع إلى الناس } يعني أرجع بتأويل هذه الرؤيا إلى الملك وجماعته { لعلهم يعلمون } يعني بتأويل هذه الرؤيا وقيل لعلهم يعلمون منزلتك في العلم { قال } يعني يوسف معبراً لتلك الرؤيا أما البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبة وأما البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبه فذلك قوله تعالى : { تزرعون } وهذا خبر بمعنى الأمر أي ازرعوا { سبع سنين دأباً } يعني عادتكم في الزراعة والدأب العادة وقيل ازرعوا بجد واجتهاد { فما حصدتم فذروه في سنبله } إنما أمرهم بترك ما حصدوه من الحنطة في سنبله لئلا يفسد ويقع في السوس وذلك ابقى له على طول الزمان { إلا قليلاً مما تأكلون } يعني ادرسوا قليلاً من الحنطة للأكل بقدر الحاجة وأمرهم بحفظ الأكثر لوقت الحاجة أيضاً وهو وقت السنين المجدبة وهو قوله { ثم يأتي من بعد ذلك } يعني من بعد السنين المخصبة { سبع شداد } يعني سبع سنين مجدبة ممحلة شديدة على الناس { يأكلن } يعني يفنين { ما قدمتم لهن } يعني يؤكل فيهن كل ما أعددتم وادخرتم لهن من الطعام وإنما أضاف الأكل إلى السنين على طريق التوسع في الكلام { إلا قليلاً مما تحصنون } يعني تحرزون وتدخرون للبذر ، والإحصان الإحراز وهو إبقاء الشي في الحصن بحيث يحفظ ولا يضيع .(4/22)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
{ ثم يأتي من بعد ذلك } يعني من بعد هذه السنين المجدبة { عام فيه يغاث الناس } أي يمطرون من الغيث الذي هو المطر ، وقيل : هو من قولهم استغثت بفلان فأغاثني من الغوث { وفيه يعصرون } يعني يعصرون العنب خمراً والزيتون زيتاً والسمسم دهناً أراد به كثرة الخير والنعم على الناس وكثرة الخصب في الزرع والثمار ، وقيل يعصرون معناه ينجون من الكرب والشدة والجدب .
قوله عز وجل : { وقال الملك ائتوني به } وذلك أن الساقي لما رجع إلى الملك وأخبره بفتيا يوسف وما عبر برؤياه استحسنه الملك وعرف أن الذي قاله كائن لا محالة فقال ائتنوني به حتى أبصر هذا الرجل الذي قد عبر رؤياي بهذه العبارة فرجع الساقي إلى يوسف وقال له أجب الملك فذلك قوله تعالى : { فلما جاءه الرسول } فأبى أن يخرج معه حتى تظهر براءته للملك ولا يراه بعين النقص { قال } يعني قال يوسف للرسول { ارجع إلى ربك } يعني إلى سيدك وهو الملك { فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } ولم يصرح بذكر امرأة العزيز أدباً واحتراماً لها ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي » أخرجه الترمذي ، وزاد فيه « ثم قرأ فلما جاء الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن » هذا الحديث فيه بيان فضل يوسف عليه الصلاة والسلام وبيان قوة صبره وثباته والمراد بالداعي رسول الملك الذي جاءه من عنده فلم يخرج معه مبادراً إلى الراحة ومفارقة ما هو فيه من الضيق والسجن الطويل فلبث في السجن وأرسل الملك في كشف أمره الذي سجن بسبه لتظهر براءته عند الملك وغيره فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على يوسف عليه الصلاة والسلام وبين فضيلته وحسن صبره على المحنة والبلاء وقوله : { إن ربي بكيدهن عليم } يعني أن الله تعالى عالم بصنيعهن وما احتلن في هذه الواقعة من الحيل العظيمة فرجع الرسول من عند يوسف إلى الملك بهذه الرسالة فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز معهن و { قال } لهن { ما خطبكن } أي شأنكن وأمركن { إذ راودتن يوسف عن نفسه } إنما خاطب الملك جميع النسوة بهذا الخطاب ، والمراد بذلك امرأة العزيز وحدها ليكون أستر لها وقيل إن امرأة العزيز راودته عن نفسه وحدها وسائر النسوة أمرنه بطاعتها فلذلك خاطبهن بهذا الخطاب { قلن } يعني النسوة جميعاً مجيبات للملك { حاش لله } يعني معاذ الله { ما علمنا عليه من سوء } يعني من خيانة في شيء من الأشياء { قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق } يعني ظهر وتبين وقيل إن النسوة أقبلن على امرأة العزيز فعزرنها وقيل خافت أن يشهد عليها فأقرت فقالت { أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } يعني في قوله هي راودتني عن نفسي .(4/23)
واختلفوا في قوله { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } على قولين :
أحدهما : أنه من قول المرأة ووجه هذا القول أن هذا كلام متصل بما قبله وهو قول المرأة الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ، ثم قالت : ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب والمعنى ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه في حال غيبته وهو في السجن ولم أكذب عليه بل قلت أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين وإن كنت قد قلت فيه ما قلت في حضرته ، ثم بالغت في تأكيد هذا القول فقالت { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } يعني أني لما أقدمت على هذا الكيد والمكر لا جرم أني افتضحت لأن الله لا يرشد ولا يوفق كيد الخائنين .
والقول الثاني : إنه من قول يوسف عليه الصلاة والسلام وهذا قول الأكثرين من المفسرين والعلماء ووجه هذا القول أنه لا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة عليه فعلى هذا يكون معنى الآية أن لما بلغ يوسف قولا لمرأة أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين قال يوسف ذلك أي الذي فعلت من ردي رسول الملك إليه ليعلم يعني العزيز أني لم أخنه في زوجته بالغيب يعني في حال غيبته ، فيكون هذا من كلام يوسف اتصل بقول امرأة العزيز أنا راودته عن نفسه من غير تمييز بين الكلامين لمعرفة السامعين لذلك مع غموض فيه لأنه ذكر كلام إنسان ثم أتبعه بكلام إنسان آخر من غير فصل بين الكلامين ونظير هذا قوله تعالى : { يريد أن يخرجكم من أرضكم } هذا من قول الملأ ، فماذا تأمرون من قول فرعون ومثله قوله تعالى : { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } هذا من قول بلقيس { وكذلك يفعلون } من قوله عز وجل تصديقاً لها وعلى هذا القول اختلفوا أين كان يوسف حين قال هذه المقالة على قولين أحدهما أنه كان في السجن وذلك أنه لما رجع إليه رسول الملك وهو في السجن وأخبره بجواب امرأة العزيز للملك قال حينئذ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وهذه رواية أبي صالح عن ابن عباس وبه قال ابن جريج .
والقول الثاني : إنه قال هذه المقالة عند حضوره عند الملك وهذه رواية عطاء عن ابن عباس فإن قلت فعلى هذا القول كيف خاطبهم بلفظة ذلك وهي إشارة للغائب مع حضوره عندهم .
قلت قال ابن الأنباري قال اللغويون هذا وذلك يصلحان في هذا الموضع لقرب الخبر من أصحابه فصار كالمشاهد الذي يشار إليه بهذا وقيل ذلك إشارة إلى ما فعله يقول ذلك الذي فعلته من ردي الرسول ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي لم أخن العزيز في حال غيبته؛ ثم ختم هذا الكلام بقوله وأن الله لا يهدي كيد الخائنين يعني أني لو كنت خائناً لما خلصني الله من هذه الورطة التي وقعت فيها لأن الله لا يهدي أي لا يرشد ولا يوفق كيد الخائنين واختلفوا في قوله .(4/24)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
{ وما أبرئ نفسي } من قول من؟ على قولين أيضاً :
أحدهما : أنه من قول المرأة وهذا التفسير على قول من قال إن قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب من قول المرأة فعلى هذا يكون المعنى وما أبريء نفس من مراودتي يوسف عن نفسه وكذبي عليه .
والقول الثاني : وهو الأصح وعليه أكثر المفسرين أنه من قول يوسف عليه الصلاة والسلام وذلك أنه لما قال ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال له جبريل ولا حين هممت بها فقال يوسف عند ذلك وما أبرئ نفسي وهذه رواية عن ابن عباس أيضاً وهو قول الأكثرين وقال الحسن إن يوسف لما قال ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب خاف أن يكون قد زكى نفسه فقال وما أبرئ نفسي لأن الله تعالى قال فلا تزكوا أنفسكم ، ففي قوله وما أبرئ نفسي هضم للنفس وانكسار وتواضع لله عز وجل فإن رؤية النفس في مقام العصمة والتزكية ذنب عظيم فراد إزالة ذلك عن نفسه فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين { إن النفس لأمارة بالسوء } والسوء لفظ جامع لكل ما يهم الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية والسيئة الفعلة القبيحة .
واختلفوا في النفس الأمارة بالسوء ما هي فالذي عليه أكثر المحققين من المتكلمين وغيرهم أن النفس الإنسانية واحدة ولها صفات : منها الأمارة بالسوء ، ومنها اللوامة ، ومنها المطمئنة فهذه الثلاث المراتب هي صفات لنفس واحدة فإذا دعت النفس إلى شهواها مالت إليها فهي النفس الأمارة بالسوء فإذا فعلتها أتت النفس اللوامة فلامتها على ذلك الفعل القبيح من ارتكاب الشهوات ويحصل عند ذلك الندامة على ذلك الفعل القبيح وهذا من صفات النفس المطمئنة ، وقيل : إن النفس أمارة بالسوء بطبعها فإذا تزكت وصفت من أخلاقها الذميمة صارت مطمئنة .
وقوله { إلا ما رحم ربي } قال ابن عباس : معناه إلا من عصم ربي فتكون ما بمعنى من فهو كقوله « ما طاب لكم من النساء » يعني من طاب لكم وقيل هذا استثناء منقطع معناه لكم من رحم ربي فعمصه من متابعة النفس الأمارة بالسوء { إن ربي غفور } يعني غفور لذوب عباده { رحيم } بهم .
قوله تعالى : { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } وذلك أنه لما تبين للملك عذر يوسف وعرف أمانته وعلمه طلب حضوره إليه فقال أئتوني به يعني بيوسف أستخلصه لنفسي أي أجعله خالصاً لنفسي والاستخلاص طلب خلوص الشيء من جميع شوائب الاشتراك وإنما طلب الملك أن يستخلص يوسف لنفسه ، لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة العزيزة ولا يشاركهم فيها أحد من الناس وإنما قال الملك ذلك لما عظم اعتقاده في يوسف لما علم من غزارة علم يوسف وحسن صبره وإحسانه إلى أهل السجن وحسن أدبه وثباته على المحن كلها لهذا حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد الله تعالى أمراً هيأ أسبابه فألهم الملك ذلك فقال ائتوني به أستخلصه لنفسي { فلما كلمه } فيه اختصار تقديره فلما جاء الرسول إلى يوسف فقال له أجب الملك الآن بلا معاودة فأجابه .(4/25)
روي أن يوسف لما قام ليخرج من السجن دعا لأهله فقال اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد ، فلما خرج من السجن كتب على بابه هذا بيت البلواء وقبر الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثياباً حسنة ثم قصد باب الملك .
قال وهب : فلما وقف بباب الملك قال : حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ثم دخل الدار فلما أبصر الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره فلما نظر إليه الملك سلم يوسف عليه بالعربية فقال له الملك ما هذا اللسان؟ قال لسان عمي إسماعيل ثم دعا له بالعبرانية فقال له وما هذا اللسان أيضاً قال يوسف هذا لسان آبائي قال وهب وكان الملك يتكلم بسبعين لغة فلم يعرف هذين اللسانين وكان الملك كلما كلمه بلسان أجاباه يوسف وزاد عليه بالعربية والعبرانية فلما رأى الملك منه ذلك أعجبه ما رأى مع حداثة سن يوسف عليه السلام وكان له من العمر يومئذ ثلاثون سنة فأجلسه إلى جنبه فذلك قوله تعالى فلما كلمه يعني فلما كلم الملك يوسف لأن مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبدأ بالكلام فيها وإنما يبدأ فيها بالكلام وقيل معناه فلما كلم يوسف الملك قال الساقي أيها الملك هذا الذي علم تأويل الملك رؤياك مع عجز السحرة والكهنة عنها فأقبل عليه الملك و { قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } يقال : اتخذ فلان عند فلان مكانة أي منزلة وهي الحالة التي يتمكن بها صاحبها مما يريد ، وقيل : المكانة المنزلة والجاه والمعنى قد عرفت أمانتك ومنزلتك وصدقك وبراءتك مما نسبت إليه وقوله مكين أمين كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب في أمر الدين والدنيا .
روي أن الملك قال ليوسف عليه الصلاة والسلام أحب أن أسمع تأويل رؤياي منك شفاهاً فقال : نعم أيها الملك رأيت سبع بقرات سمان شهب غر حسان غير عجاف كشف لك عنهن النيل فطلعن من شاطئه تشخب أخلافهن لبناً فينما أنت تنظر إليهن وقد أعجبك حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبسه فخرج من حمأته سبع بقرات عجاف شعث غبر ملصقات البطون ليس لهما ضروع ولا أخلاف ولهن أنياب وأضراس وأكف كأكف الكلام وخراطيم كخراطيم السباع فاختلطن بالسمان فاترسن السمان فافترس السبع فأكلن لحومهن ومزقن جلودهن وحطمن عظامهن ومشمسن مخهن فبينما أنت تنظر وتتعجب كيف غلبنهن وهو مهازيل ثم لم يظهر منهن سمن ولا زيادة بعد أكلهن إذ سبع سنبلات خضر طريات ناعمات ممتلئات حباً وماء وإلى جانبهن سبع أخر سود يابسات في منبت واحد عروقهن في الثرى والماء فبينا أنت تقول في نفسك أي شيء هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد وأصولهن في الثرى والماء .(4/26)
إذ هبت الريح فذرت أوراق اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهن النار فأحرقتهن فصرن سوداً فهذا ما رأيت أيها الملك ثم انتبهت مذعوراً فقال الملك والله ما أخطأت منها شيئاً فما شأن هذه الرؤيا وإن كان عجباً فما هو بأعجب مما سمعت منك وما ترى في تأويل رؤياي أيها الصديق؟ قال يوسف عليه الصلاة والسلام : أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعاً كثيراً في هذه السنين المخصبة وتجعل ما يتحصل من ذلك الطعام في الخزائن بقصبه وسنبله فإنه أبقى له فيكون ذلك القصب والسنبل علفاً للدواب وتأمر الناس فليرفعوا الخمس من زروعهم أيضاً فيكفيك ذلك الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها وتأتيك الخلق من سائر النواحي للميرة ويجتمع عندك من الكنز والأموال ما لا يجتمع لأحد قبلك فقال الملك : ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه لي ويكفيني العميل فيه فعند ذلك .(4/27)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
{ قال } يعني يوسف { اجعلني على خزائن الأرض } يعني على خزائن الطعام والأموال ، وأراد بالأرض أرض مصر أي اجعلني على خزائن أرضك التي تحت يدك ، وقال الربيع بن أنس اجعلني على خزائن خراج مصر ودخلها { إني حفيظ عليم } أي حفيظ الخزائن عليم بوجوه مصالحها وقيل معناه إني حاسب كاتب وقيل حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني وقيل حفيظ للحساب عليم أعلم لغة من يأتيني ، وقال الكلبي : حفيظ بتقديره في السنين المخصبة للسنين المجدبة عليم بوقت الجوع حين يقع فقال الملك عند ذلك ومن أحق بذلك منك وولاَّه ذلك ، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يرحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة »
فإن قلت كيف طلب يوسف علي الصلاة والسلام الإمارة والولاية مع ما ورد من النهي عنها مع كراهية طلبها لما صح من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أتيتها من غير مسألة أعنت عليها » أخرجاه في الصحيحين .
قلت إنما يكره طلب الإمارة إذا لم يتعين عليه طلبها فإذا تعين عليها طلبها وجب ذلك عليه ولا كراهية فيه فأما يوسف عليه الصلاة والسلام فكان عليه طلب الإمارة لأنه مرسل من الله تعالى والرسول أعلم بمصالح الأمة من غيره وإذا كان مكلفاً برعاية المصالح ولا يمكنه ذلك إلا بطلب الإمارة وجب عليه طلبها ، وقيل إنه علم انه سيحصل قحط وشدة إما بطريق الوحي من الله أو بغيره وربما أفضى ذلك إلى هلاك معظم الخلق ، وكان في طلب الإمارة إيصال الخير والراحة إلى المستحقين وجب عليه طلب الأمارة لهذا السبب .
فإن قلت كيف مدح يوسف نفسه بقوله إني حفيظ عليم والله تعالى يقول فلا تزكوا أنفسكم .
قلت إنما يكره تزكية النفس إذا قصد به الرجل التطاول والتفاخر والتوسل به إلى غير ما يحل فهذا القدر المذموم في تزكية النفس .
أما إذا قصد بتزكية النفس ومدحها إيصال الخير والنفع إلى الغير فلا يكره ذلك ولا يحرم بل يجب عليه ذلك مثاله أن يكون بعض الناس عنده علم نافع ولا يعرف به فإنه يجب عليه أن يقول أنا عالم ، ولما كان المالك قد علم من يوسف أنه عالم بمصالح الدين ولم يعلم أنه عالم بمصالح الدنيا نبهه يوسف بقوله إني حفيظ عليم على أنه عالم بما يحتاج إليه في مصالح الدنيا أيضاً مع كمال علمه بمصالح الدين .(4/28)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
قوله عز وجل : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } وكذلك إشارة إلى ما تقدم ، يعني وكما أنعمنا على يوسف بأن أنجيناه من الجب وخلصناه من السجن وزيناه في عين الملك حتى قربه وأدنى منزلته كذلك مكنا له في الأرض يعني أرض مصر؛ ومعنى التمكين هو أن لا ينازعه منازع فيما يراه ويختاره وإليه الإشارة بقوله { يتبوأ منها حيث يشاء } لأنه تفسير للتمكين .
قال ابن عباس وغيره لما انقضت السنة من يوم سأل يوسف الإمارة دعاه الملك فتوجه وقلده بسيفه وحلاه بخاتمه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت طوله ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرة أذرع ووضع له عليه ثلاثون فراشاً وستون مارياً وضرب له عليه كلة من إستبرق وأمره أن يخرج فخرج متوجاً لونه كالثلج ووجه كالقمر يرى الناظر وجهه فيه من صفاء لونه فانطلق حتى جلس على ذلك السرير ودانت ليوسف الملوك وفوض الملك الأكبر إليه ملكه وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه .
قال ابن إسحاق قال ابن زيد وكان لملك مصر خزائن كثيرة فسلمها إلى يوسف وسلم له سلطانه كله وجعل أمره وقضاءه نافذاً في مملكته قالوا ثم هلك قطفير عزيز مصر في تلك الليالي فزوج الملك يوسف امرأة العزيز بعد هلاكه فلما دخل يوسف عليها قال لها أليس هذا خيراً مما كنت تريدين قال له أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي وعصمك الله قالوا فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له ولدين ذكرين إفراثيم وميشا وهما ابنا يوسف منها واستوثق ليوسف ملك مصر وأقام فيه العدل وأحبه الرجال والنساء فلما اطمأن يوسف في ملكه دبر في جمع الطعام أحسن التدبير وأقام فيه العدل وأحبه الرجال والنساء اطمأن يوسف في ملكه دبر في جمع الطعام أحسن التدبير فبنى الحصون والبيوت الكثيرة وجمع فيها الطعام للسنين المجدبة وأنفق المال بالمعروف حتى خلت السنين المخصبة ودخلت السنين المجدبة بهول وشدة لم ير الناس مثله ، وقيل : إنه دبر في طعام الملك وحاشيته كل يوم مرة واحدة نصف النهار فلما دخلت سنين القحط كان أول من أصابه الجوع الملك فجاع نصف النهار فنادى يا يوسف الجوع الجوع فقال يوسف هذا أول أوان القحط فهلك في السنة الأولى من أول سنين القحط كل ما أعدوه في السنين المخصبة فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف فباعهم في السنة الأولى بالنقود حتى لم يبق بمصر درهم ولا دينار إلا أخذه منهم وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر في أيدي الناس منها شيء وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشي والأنعام حتى لم تبق دابة ولا ماشية إلا احتوى عليها كلها وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والجواري حتى لم يبق بأيدي الناس عبد ولا أمة وباعهم في السنة الخامسة بالضياع والعقار حتى أتى عليها كلها وباعهم في السنة السادسة بأولادهم ، حتى استرقهم وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا ملكه فصاروا جميعهم عبيداً ليوسف عليه الصلاة والسلام فقال أهل مصر ما رأينا كاليوم ملكاً أجمل ولا أعظم من يوسف فقال يوسف للملك كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني فما ترى في هؤلاء قال الملك الرأي رأيك ونحن لك تبع قال فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم وقيل إن يوسف كان لا يشبع من الطعام في تلك الأيام فقيل له أتجوع وبيدك خزائن الأرض فقال أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع وأمر يوسف طباخي الملك أن يجعلوا غداءه نصف النهار وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائع فمن ثم جعل الملوك غداءهم نصف النهار .(4/29)
قال مجاهد : ولم يزل يوسف يدعو الملك إلى الإسلام ويتلطف به حتى أسلم الملك وكثير من الناس فذلك قوله سبحانه وتعالى : وكذلك مكَّنَّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء { نصيب برحمتنا من نشاء } يعني نختص بنعمتنا وهي النبوة من نشاء يعني من عبادنا { ولا نضيع أجر المحسنين } قال ابن عباس يعني الصابرين { ولأجر الآخرة } يعني ولثواب الآخرة { خير } يعني أفضل من أجر الدنيا { للذين آمنوا وكانوا يتقون } يعني يتقون ما نهى الله عنه وفيه دليل على أن الذي أعد الله عز وجل ليوسف عليه الصلاة والسلام في الآخرة من الأجر والثواب الجزيل أفضل مما أعطاه الله في الدنيا من الملك .(4/30)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
قوله تعالى : { وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون } قال العلماء : لما اشتد القحط وعظم البلاء وعم ذلك جميع البلاد حتى وصل إلى بلاد الشام قصد الناس مصر من كل مكان للميرة وكان يوسف لا يعطي أحداً أكثر من حمل بعير وإن كان عظيماً تقسيطاً ومساواة بين الناس ونزل بآل يعقوب ما نزل بالناس من الشدة فبعث بنيه إلى مصر للميرة وأمسك عنده بنيامين أخا يوسف لأمه وأبيه وأرسل عشرة فذلك قوله تعالى وجاء إخوة يوسف وكانوا عشرة وكان مسكنهم بالعربات من أرض فلسطين والعربات ثغور الشام وكانوا أهل بادية وإبل وشياه فدعاهم يعقوب عليه الصلاة والسلام وقال بلغني أن بمصر ملكاً صالحاً يبيع الطعام فتجهزوا له واقصدوه لتشتروا منه ما تحتاجون إليه من الطعام فخرجوا حتى قدموا مصر فدخلوا على يوسف فعرفهم .
قال ابن عباس ومجاهد : بأول نظرة نظر إليهم عرفهم ، وقال الحسن : لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه وهم له منكرون يعني لم يعرفوه .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان بين أن قذفوه في الجب وبين دخولهم عليه مدة أربعين سنة فلذلك أنكروه وقال عطاء : إنما لم يعرفوه لأنه كان على سرير الملك وكان على رأسه تاج الملك وقيل لأنه كان قد لبس زي ملوك مصر عليه ثياب حرير وفي عنقه طوق من ذهب وكل واحد من هذه الأسباب مانع من حصول المعرفة فكيف وقد اجتمعت فيه ، وقيل إن العرفان إنما يقع في القلب بخلق الله تعالى له فيه وإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق ذلك العرفان في تلك الساعة في قلوبهم تحقيقاً لما أخبر أنه سينبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون فكان ذلك معجزة ليوسف عليه الصلاة والسلام فلما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية كلمهم بلسانهم فقال لهم أخبروني من أنتم وما أمركم فإني قد أنكرت حالكم قالوا : نحن قوم من أرض الشام رعاة قد أصابنا من الجهد ما أصاب الناس فجئنا نمتار؟ قال يوسف لعلكم جئتم تنظرون عورة بلادي قالوا : لا والله ما نحن بجواسيس إنما نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ كبير صديق يقال له يعقوب نبي من أنبياء الله تعالى قال وكم أنتم؟ قالوا كنا اثني عشر فذهب أخل لنا معنا إلى البرية فهلك فيها وكان أحبنا إلى أبينا قال : فكم أنتم الآن ، قالوا : عشرة قال : وأين الآخر قالوا هو عند أبينا لأنه أخو الذي هلك لأمه فأبونا يتسلى به قال فمن يعلم أن الذي تقولون حق قالوا أيها الملك إننا ببلاد غربة لا يعرفنا فيها أحد قال فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين فأنا راض بذلك منكم قالوا إن أبانا يحزن لفراقه وسنراوده عنه قال فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني به فاقترعوا فيما بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأياً في يوسف فخلفوه عنده .(4/31)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
قوله تعالى : { ولما جهزهم بجهازهم } يقال : جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهاز سفرهم وهو ما يحتاجون إليه في وجوههم والجهاز بفتح الجيم هي اللغة الفصيحة الجيدة وعليها الأكثرون من أهل اللغة وكسر الجيم لغة ليست بجيده . قال ابن عباس : حمل لكل واحد منهم بعيراً من الطعام وأكرمهم في النزول وأحسن ضيافتهم وأعطاهم ما يحتاجون إليه في سفرهم { قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم } يعني الذي خلفتموه عنده وهو بنيامين { ألا ترون أني أوفي الكيل } يعني أني أتمّه ولا أبخس منه شيئاً وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم أكرمكم بذلك { وأنا خير المنزلين } يعني خير المضيفين لأنه كان قد أحسن ضيافتهم مدة إقامتهم عنده قال الإمام فخر الدين الرازي : هذا الكلام يضعف قول من يقول من المفسرين إنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس ومن يشافههم بهذا الكلام فلا يليق به أن يقول لهم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ، وأيضاً يبعد من يوسف عليه الصلاة والسلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم أنتم جواسيس وعيون مع أنه يعرف براءتهم من هذه التهمة لأن البهتان لا يليق بالصديق ثم قال يوسف { فإن لم تأتوني به } يعني بأخيكم الذي من أبيكم { فلا كيل لكم عندي } يعني لست أكيل لكم طعاماً { ولا تقربون } يعني ولا ترجعوا ولا تقربوا بلادي وهذا هو نهاية التخويف والترهيب لأنهم كانوا محتاجين إلى تحصيل الطعام ولا يمكنهم تحصيله إلا من عنده فإذا منعهم من العود كان قد ضيق عليهم فعند ذلك { قالوا } يعني إخوة يوسف { سنراود عنه أباه } يعني سنجتهد ونحتال حتى ننزعه من عنده { وإنا لفاعلون } يعني ما أمرتنا به .
قوله عز وجل : { وقال لفتيانه } يعني : وقال يوسف لفتيانه وهم غلمانه وأتباعه { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } أراد بالبضاعة ثمن الطعام الذي أعطوه ليوسف وكانت دراهم وحكى الضحاك عن ابن عباس أنها كانت النعال والأدم والرحال جمع رحل وهي الأوعية التي يحمل فيها الطعام وغيره { لعلهم يعرفونها } يعني يعرفون بضاعتهم { إذا انقلبوا إلى أهلهم } يعني إذا رجعوا إلى أهلهم { لعلهم يرجعون } إلينا واختلفوا في السبب الذي من أجله رد يوسف عليه الصلاة والسلام عليهم بضاعتهم فقيل إنه إذا فتحوا متاعهم ووجدوا بضاعتهم قد ردت إليهم علموا أن ذلك من كرم يوسف وسخائه فيبعثهم ذلك على الرجوع إليه سريعاً وقيل إنه خاف أن لا يكون عند أبيه شيء آخر من المال لأن الزمان كان زمان قحط وشدة ، وقيل : إنه رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته لؤم لشدة حاجتهم إليه وقيل أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم فيه لوم ولا عيب ، وقيل أراد أن يريهم بره وكرمه وإحسانه إليهم في رد بضاعتهم ليكون ذلك أدعى إلى العود إليه ، وقيل : إنما فعل ذلك لأنه علم أن ديانتهم وأمانتهم تحملهم على رد البضاعة إليه إذا وجدوها في رحالهم لأنهم أنبياء وأولاد أنبياء وقيل أراد برد البضاعة إليهم أن يكون ذلك عوناً لأبيه ولإخوته على شدة الزمان .(4/32)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
{ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا } إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة عظيمة لو كان رجلاً من أولاد يعقوب ما أكرمنا كرامته فقال لهم يعقوب إذا رجعتم إلى ملك مصر فاقرؤوا عليه مني السلام وقولوا له إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك بما أوليتنا ثم قال لهم أين شمعون قالوا ارتهنه ملك مصر عنده وأخبروه بالقصة ثم قالوا يا أبانا { منع منا الكيل } وفيه قولان :
أحدهما : أنهم لما أخبروا يوسف بأخيهم من أبيهم طلبوا منه الطعام لأبيهم وأخيهم المتخلف عند أبيهم فمنعهم من ذلك حتى يحضر فقولهم منع منا الكيل إشارة إليه وأراد بالكيل الطعام لأنه يكال .
والقول الثاني : إنه سيمنع منا الكيل في المستقبل وهو إشارة إلى قول يوسف فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون وقال الحسن يمنع منا الكيل إن لم نحمل معنا أخانا وهو قوله تعالى إخباراً عنهم { فأرسل معنا أخانا } يعني بنيامين { نكتل } قرئ بالياء يكتل لنفسه وقرئ بالنون يعني نكتل نحن جميعاً وإياه معنا { وإنا له لحافظون } يعني نرده إليك فلما قالوا ليعقوب هذه المقالة { قال } يعني يعقوب { هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل } يعني كيف آمنكم على ولدي بنيامين وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم وإنكم ذكرتم مثل هذا فكيف يحصل هاهنا ثم قال { فالله خير حافظاً } يعني أن حفظ الله خير من حفظكم له ففيه التفويض إلى الله تعالى والاعتماد عليه في جميع الأمور { وهو أرحم الراحمين } وظاهر هذا الكلام يدل على أنه أرسله معهم ، وإنما أرسله معهم وقد شاهد ما فعلوا بيوسف لأنه لم يشاهد فيما بينهم وبين بنيامين من الحقد والحسد مثل ما كان بينهم وبين يوسف أو أن يعقوب شاهد منهم الخير والصلاح ولما كبروا فأرسله معهم أو أن شدة القحط وضيق الوقت أحوجه إلى ذلك .
قوله تعالى : { ولما فتحوا متاعهم } يعني الذي حملوه من مصر فيحتمل أن يكون المراد به الطعام أو أوعية الطعام { وجدوا بضاعتهم ردت إليهم } يعني أنهم وجدوا في متاعهم ثمن الطعام الذي كانوا قد أعطوه ليوسف قد رد عليهم ودس في متاعهم { قالوا يا أبانا ما نبغي } يعني ماذا نبغي وأي شيء نطلب وذلك أنهم كانوا قد ذكروا ليعقوب إحسان ملك مصر إليهم وحثوا يعقوب على إرسال بنيامين معهم فلما فتحوا متاعهم ووجدوا بضاعتهم قد ردت إليهم قالوا أي شيء نطلب من الكلام بعد هذا العيان من الإحسان والإكرام أوفى لنا الكيل ورد علينا الثمن ، وأرادوا بهذا الكلام تطييب قلب أبيهم { هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا } يقال مار أهله يميرهم ميراً إذا حمل لهم الطعام وجلبه من بلد آخر إليهم والمعنى إنا نشتري لأهلنا الطعام ونحمله إليهم { ونحفظ أخانا } يعني بنيامين مما تخاف عليه حتى نرده إليك { ونزداد كيل بعير } يعني ونزداد لأجل أخينا على أحمالنا حمل بعي من الطعام { ذلك كيل يسير } يعني إن ذلك الحمل الذي نزداد من الطعام هين على الملك لأنه قد أحسن إلينا وأكرمنا بأكثر من ذلك وقيل معناه أن الذي حملناه معنا كيل يسير قليل لا يكفينا وأهلنا .(4/33)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
{ قال } يعني قال لهم يعقوب { لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله } يعني لن أرسل معكم بنيامين حتى تؤتون عهد الله وميثاقه والموثق العهد المؤكد باليمين ، وقيل هو المؤكد بإشهاد الله عليه { لتأتنني به } دخلت اللام هنا لأجل اليمين وتقدريه حتى تحلفوا بالله لتأتنني به { إلا أن يحاط بكم } قال مجاهد : إلا أن تهلكوا جميعاً فيكون عذراً لكم عندي ، لأن العرب تقول أحيط بفلان إن هلك أو قارب هلاكه .
وقال قتادة : إلا أن تغلبوا جميع فلا تقدروا على الرجوع { فلما آتوه موثقهم } يعني فلما أعطوه عهدهم وحلفوا له { قال الله على ما نقول وكيل } يعني قال يعقوب الله شاهد على ما نقول كأن الشاهد وكيل بمعنى أنه موكول إليه هذا العهد ، وقيل وكيل بمعنى حافظ .
قال كعب الأحبار : لما قال يعقوب { فالله خير حافظاً } قال الله تعالى : « وعزتي وجلالي لأردن عليك كليهما بعد ما توكلت علي وفوضت أمرك إليّ » وذلك أنه لما اشتد بهم الأمر وضاق عليهم الوقت وجهدوا أشد الجهد لم يجد يعقوب بداً من إرسال بنيامين معهم فأرسله معهم متوكلاً على الله ومفوضاً أمره إليه .
قوله عز وجل إخباراً عن يعقوب { وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } وذلك أنهم لما خرجوا من عند يعقوب قاصدين مصر قال لهم يا بني لا تدخلوا يعني مدينة مصر من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وكان لمدينة مصر يومئذ أربعة أبواب ، وقال السدي : أراد الطرق لا الأبواب يعني من طرق متفرقة وإنما أمرهم بذلك لأنه خاف عليهم العين لأنهم كانوا قد أعطوا جمالاً وقوة وامتداد قامة وكانوا أولاد رجل واحد فأمرهم أن يتفرقوا في دخولهم المدينة لئلا يصابوا بالعين فإن العين حق ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين ( ق ) .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إن العين حق » زاد البخاري « ونهى عن الوشم » ( م ) عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغتسلوا » عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت « كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين » أخرجه أبو داود .
قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى : قال المازري : أخذ جماهير العلماء بظاهر هذا الحديث وقال العين حق وأنكره طوائف من المبتدعة والدليل على فساد عقولهم ان كل معنى يكون مخالفاً في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فإنه من مجوزات العقول وإذا أخبر الشرع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه وإنكاره وقيل لا بد من فرق بين تكذيبهم بهذا وتكذيبهم بما يخبر به من أمور الآخرة قال وقد زعم بعض الطبائعيين مثبتين للعين تأثيراً أن العين تنبعث من عينيه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد قالوا ولا يمتنع هذا كما لا يمتنع انبعاث قوة سمية من الأفعى والعقب تتصل بالملدوغ فيهلك وإن كان غير محسوس لنا فكذا العين ، قال المازري : وهذا غير مسلم لأنا بينا في كتب علم الكلام أنه لا فاعل إلا الله تعالى وبينا فساد القول بالطبائع وبينا أن المحدث لا يفعل في غيره شيئاً ، فإذا تقرر هذا بطل ما قالوه ثم تقول هذا المنبعث من العين إما جوهر وإما عرض فباطل أن يكون عرضاً لأنه لا يقبل الانتقال وباطل ان يكون جوهراً لأن الجواهر متجانسة فليس بعضها بأن يكون مفسداً لبعض بأولى من عكسه فبطل ما قالوه وأقرب طريقة قالها من ينتحل الإسلام منهم إن قالوا لا يبعد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية من عين العائن للتصل بالمعين فتتخلل مسام جسمه فيخلق الله عز وجل الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السموم عادة أجراها الله عز وجل وليست ضرورة ولا طبيعية ألجأ الفعل إليها قال ومذهب أهل السنة أن المعين إنما يفسد ويهلك عند نظر العائن بفعل الله تعالى أجرى الله تعالى العادة بأن يخلق الضرر عند مقابلة هذا الشخص شخصاً آخر ، وهل ثم جواهر أم لا فهذا من مجوزات العقول لا يقطع فيه بواحد من الأمرين وإنما يقطع بنفي الفعل عنها وإضافته إلى الله تعالى فمن قطع من أطباء الإسلام بانبعاث الجواهر فقد أخطأ في قطعه وإنما هو من الجائزات هذا ما يتعلق بعلم الأصول وأما ما يتعلق بعلم الفقه فإن الشرع قد ورد بالوضوء لهذا الأمر في حديث سهل بن حنيف لما أصيب بالعين عند اغتساله رواه مالك في الموطأ .(4/34)
وأما صفة وضوء العائن فمذكور في كتب شرح الحديث ومعروف عند العلماء فيطلب من هناك فليس هذا موضعه والله أعلم .
وقال وهب بن منبه : في قوله { لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } أنه خاف أن يغتالوا لما ظهر لهم في أرض مصر من التهمة حكاه ابن الجوزي عنه وقيل إن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان قد علم أن ملك مصر هو ولده يوسف عليه الصلاة والسلام إلا أن الله تعالى لم يأذن له في إظهاره ذلك فلما بعث أبناءه إليه قال لهم : لا تدخلوا من بابا واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى أخيه يوسف في وقت الخلوة قبل إخوته والقول الأول أصح أنه خاف عليهم من العين ثم رجع إلى علمه وفوض أمره إلى الله تعالى بقوله : { وما أغني عنكم من الله من شيء } يعني إن كان الله قد قضى عليكم بقضاء فهو يصيبكم مجتمعين كنتم أو متفرقين فإن المقدور كائن ولا ينفع حذر من قدر { إن الحكم إلا لله } يعني وما الحكم إلا لله وحده لا شريك له فيه وهذا تفويض من يعقوب في أموره كلها إلى الله تعالى : { عليه توكلت } يعني عليه اعتمدت في أموري كلها لا على غيره { وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } يعني من الأبواب المتفرقة وكان لمدينة مصر وقيل مدينة الفرماء أربعة أبواب فدخلوا من أبوابها كلها { ما كان يغني عنهم من الله من شيء } وهذا تصديق من الله سبحانه وتعالى ليعقوب فيما قال وما أغني عنكم من الله من شيء { إلا حاجة في نفس يعقوب قضاه } هذا استثناء منقطع ليس من الأول في شيء ومعناه لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها وهو أنه أشفق عليهم إشفاق الآباء على الأبناء وذلك أنه خاف عليهم من العين أو خاف عليهم حسد أهل مصر أو خاف أن لا يردوا عليه فأشفق من هذا كله أو بعضه { وأنه } يعني يعقوب { لذو علم } يعني صاحب علم { لما علمناه } يعني لتعليمنا إياه ذلك العلم ، وقيل : معناه وإنه لذو علم للشيء الذي والمعنى أنا لما علمناه هذه الأشياء حصل له العلم بتلك الأشياء ، وقيل : إنه لذو حفظ لما علمناه وقيل إنه كان يعمل ما يعمل عن علم لا عن جهل ، وقيل : إنه لعامل بما علمناه قال سفيان من لا يعمل بما يعلم لا يكون عالماً { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يعني لا يعلمون ما كان يعلم يعقوب لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم وقال ابن عباس : لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه .(4/35)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
قوله تعالى : { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه } قال المفسرون : لما دخل إخوة يوسف على يوسف قالوا أيها الملك هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به فقال لهم أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي ثم أنزلهم وأكرم نزلهم ثم إنه أضافهم وأجلس كل اثنين على مائدة فبقي بنيامين وحيداً فبكى وقال لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه فقال يوسف لقد بقي هذا وحده فقالوا كان له أخ فهلك قال لهم أجلسه معي فأخذه فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله فلما كان الليل أمرهم بمثل ذلك وقال كل اثنين منكم ينامان على فراش واحد فبقي بنيامين وحده فقال يوسف هذا ينام عندي على فراشي فنام بنيامين مع يوسف على فراشه فجعل يوسف يضمه إليه ويشم ريحه حتى أصبح فلما أصبح قال لهم إني أرى هذا الرجل وحيداً ليس معه ثان وسأضمه إليّ فكيون معي في منزلي ثم إنه أنزلهم وأجرى عليهم الطعام فقال روبيل ما رأينا مثل هذا فذلك قوله آوى إليه أخاه يعني ضمه وأنزل معه في منزله فلما خلا به قال له يوسف ما اسمك قال بنيامين قال وما بنيامين قال ابن المشكل وذلك أنه لما ولدته أمه هلكت قال وما اسم أمك قال راحيل قال فهل لك من ولد قال عشر بنين قال فهل لك من أخ لأمك قال كان لي أخ فهلك قال يوسف أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال بنيامين ومن فهل لك من يجد أخاً مثلك أيها الملك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه الصلاة والسلام وقام إليه وعانقه و { قال } له { إني أنا أخوك } يعني يوسف { فلا تبتئس } يعني لا تحزن وقال أهل اللغة تبتئس تفتعل من البؤس وهو الضرر والشدة والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس { بما كانوا يعملون } يعني فلا تحزن بشيء فعلوه بنا فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا ونجانا من الهلاك وجمع بيننا ، وقيل : إن يوسف صفح عن إخوته وصفا لهم فأراد أن يجعل قلب أخيه بنيامين مثل قبله صافياً عليهم ثم قال يوسف لأخيه بنيامين لا تعلم إخوتك بشيء مما أعلمتك به ثم إنه أوفى لإخوته الكيل وزاد لكل واحد حمل بعير ولبنيامين حمل بعير باسمه ثم أمر بساقية الملك فجعلت في رحل أخيه بنيامين ، قال السدي : وهو لا يشعر وقال كعب : لما قال له يوسف إني أنا أخوك قال بنيامين أنا لا أفارقك فقال يوسف قد علمت اغتمام والدي عليّ فإذا حبستك عندي ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا يحمد قال لا أبالي فافعل ما بدا لك فإني لا أفارقك قال فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليكم بالسرقة ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك قال فافعل ما شئت .(4/36)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
{ فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه } وهي المشربة التي كان الملك يشرب فيها ، قال ابن عباس : كانت من زبرجد ، وقال ابن إسحاق كانت من فضة وقيل من ذهب ، وقال عكرمة : كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر جعلها يوسف مكيالاً لئلا يكال بغيرها وكان يشرب فيها والسقاية والصواع اسم لإناء واحد وجعلت في وعاء طعام أخيه بنيامين ثم ارتحلوا راجعين إلى بلادهم فأمهلهم يوسف حتى انطلقوا وذهبوا منزلاً وقيل حتى خرجوا من العمارة ثم أرسل خلفهم من استوقفهم وحبسهم { ثم أذن مؤذن } يعني نادى مناد وأعلم معلم .
والأذان في اللغة الإعلام { أيتها العير } وهي القافلة التي في الأحمال ، وقال مجاهد : العير الحمير والبغال ، وقال أبو الهيثم : كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهي عير وقول من قال إنها الإبل خاصة باطل وقيل العير الإبل التي تحمل عليها الأحمال سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء وقيل هي قافلة الحمير ثم كثر ذلك في الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عير وقوله أيتها العير أراد أصحاب العير { إنكم لسارقون } فقفوا والسرقة أخذ ما ليس له أخذه في خفاء .
فإن قلت هل كان هذا النداء بأمر يوسف أم لا فإن كان بأمره فكيف يليق بيوسف مع علو منصبه وشريف رتبته من النبوة والرسالة أن يتهم أقواماً وينسبهم إلى السرقة كذباً مع علمه ببراءتهم من ذلك وإن كان ذلك النداء بغير أمره فهلا أظهر براءته عن تلك التهمة التي نسبوا إليها .
قلت ذكر العلماء عن هذا السؤال أجوبة :
أحدها : أن يوسف لما أظهر لأخيه أنه أخوه قال لست أفارقك قال لا سبيل إلى ذلك إلا بتدبير حيلة أنسبك فيها إلى ما يليق قال رضيت بذلك فعلى هذا التقدير لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام بل قد رضي به فلا يكون ذنباً .
الثاني : أن يكون المعنى إنكم لسارقون ليوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام فهو من المعاريض وفي المعاريض مندوحة عن الكذب .
الثالث : يحتمل أن يكون المنادي ربما قال ذلك النداء على سبيل الاستفهام وعلى هذا التقدير لا يكون كذباً .
الرابع : ليس في القرآن ما يدل على أنهم قالوا ذلك بأمر يوسف وهو الأقرب إلى ظاهر الحال لأنهم طلبوا السقاية فلم يجدوها ولم يكن هناك أحد غيرهم وغلب على ظنهم أنهم هم الذين أخذوها فقالوا ذلك بناء على غلبة ظنهم { قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون } قال أصحاب الأخبار لما وصل الرسل إلى إخوة يوسف قالوا لهم ألم نكرمكم ونحسن ضيافتكم ونوف إليكم الكيل ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم قالوا بلى وما ذاك قالوا فقدنا سقاية الملك ولا نتهم عليها غيركم فذلك قوله تعالى قالوا وأقبلوا عليهم أي عطفوا على المؤذن وأصحابه ماذا أي ما الذي تفقدون والفقدان ضد الوجود { قالوا } يعني المؤذن وأصحابه { نفقد صواع الملك } الصاع الإناء الذي يكال به وجمعه أصوع والصواع لغة فيه وجمعه صيعان { ولمن جاء به } يعني بالصواع { حمل بعير } يعني من الطعام { وأنا به زعيم } أي كفيل قال الكلبي الزعيم هو الكفيل بلسان أهل اليمن وهذه الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها في قوله(4/37)
« الحميل غارم » والحميل الكفيل .
فإن قلت كيف تصح هذه الكفالة مع أن السارق لا يستحق شيئاً .
قلت لم يكونوا سراقاً في الحقيقة فيحمل ذلك على مثل رد الضائع فيكون جعالة أو لعل مثل هذه الكفالة كانت جائزة عندهم في ذلك الزمان فيحمل عليه { قالوا } يعني إخوة يوسف { تالله } التاء بدل من الواو ولا تدخل إلا على اسم الله في اليمين خاصة تقديره والله { لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا مسرفين } قال المفسرون : إن أخوة يوسف حلفوا على أمرين :
أحدهما : أنهم ما جاؤوا لأجل الفساد في الأرض والثاني أنهم ما جاؤوا سارقين وإنما قالوا هذه المقالة لأنه كان قد ظهر من أحوالهم ما يدل على صدقهم وهو أنهم كانوا مواظبين على أنواع الخير والطاعة والبر حتى بلغ من أمرهم أنهم شدوا أفواه دوابهم لئلا تؤذي زرع الناس ومن كانت هذه صفته فالفساد في حقه ممتنع .
وأما الثاني : وهو أنهم ما كانوا سارقين فلأنهم قد كانوا ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم ولم يستحلوا أخذها ومن كانت هذه صفته فليس بسارق فلأجل ذلك قالوا لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين فلما تبينت براءتهم من هذه التهمة { قالوا } يعني أصحاب يوسف وهو المنادي وأصحابه { فما جزاؤه إن كنتم كاذبين } يعني فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين .(4/38)
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
{ قالوا } يعني إخوة يوسف { جزاؤه من وجد في رحله } يعني جزاء السارق الذي وجد في رحله أن يسلم برقبته إلى المسروق منه فيسترقه سنة وكان ذلك سنة آل يعقوب في حكم السارق وكان في حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق وكان هذا في شرعهم في ذلك الزمان يجري مجرى القطع في شرعنا فأراد يوسف أن يأخذ بحكم أبيه في السارق فلذلك رد الحكم إليهم ، والمعنى أن جزاء السارق أن يستعبد سنة جزاء له على جرمه وسرقته { فهو جزاؤه } يعني هذا الجزاء جزاؤه { كذلك نجزي الظالمين } يعني مثل هذا الجزاء وهو أن يسترقّ السارق سنة نجزي الظالمين ثم قيل إن هذا الكلام من بقية كلام إخوة يوسف وقيل هو من كلام أصحاب يوسف فعلى هذا إن أخوة يوسف لما قالوا جزاء السارق أن يسترق سنة قال أصحاب يوسف كذلك نجزي الظالمين يعني السارقين .
قوله عز وجل : { فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه } قال أهل التفسير إن إخوة يوسف لما أقروا أن جزاء السارق أن يسترق سنة قال أصحاب يوسف لا بد من تفتيش رحالكم فردوهم إلى يوسف فأمر بتفتيشها بين يديه فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه لإزالة التهمة فجعل يفتش أوعيتهم واحداً واحداً .
قال قتادة : ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعاً ولا ينظر وعاء إلا استغفر تأثماً مما قذفهم به حتى لا يبق إلا رحل بنيامين قال ما أظن هذا أخذ شيئاً قال إخوته والله لا نتركك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع فيه فذلك قوله تعالى : { ثم استخرجها من وعاء أخيه } إنما أنَّث الكناية لأنه ردها إلى السقاية ، وقيل : إن الصواع يذكر ويؤنث فلما أخرج الصواع من رحل بنيامين نكس إخوة يوسف رؤوسهم من الحياء وأقبلوا على بنيامين يلومونه ويقولون له ما صنعت بنا فضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل ما زال لنا منكم بلاء حتى أخذت هذا الصواع ، فقال بنيامين : بل بنو راحيل ما زال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية إن الذي وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم قالوا فأخذ بنيامين رقيقاً ، وقيل : إن المنادي وأصحابه هم الذين تولوا تفتيش رحالهم وهم الذين استخرجوا الصواع من رحل بنيامين فأخذه برقبته وردوه إلى يوسف { كذلك كدنا ليوسف } يعني ومثل ذلك الكيد كدنا ليوسف وهو إشارة إلى الحكم الذي ذكره إخوه يوسف باسترقاق السارق أي مثل ذلك الحكم الذي ذكره إخوة يوسف حكمنا ليوسف ولفظ الكيد مستعار للحيلة والخديعة وهذا في حق الله عز وجل محال فيجب تأويل هذه اللفظة بما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى فنقول الكيد هنا جزاء الكيد يعني كما فعلوا بيوسف بأن حكموا أن جزاء السارق أن يسترق كذلك ألهمنا يوسف حتى دس الصواع في رحل أخيه ليضمه إليه على ما حكم به إخوته ، وقال ابن الأعرابي : الكيد التدبير بالباطل وبحق فعلى هذا يكون المعنى كذلك دبرنا ليوسف ، وقيل : صنعنا ليوسف ، وقال ابن الأنباري : كدنا وقع خبراً من الله عز وجل عليّ خلاف معناه في أوصاف المخلوقين فإنه إذا أخبر به عن مخلوق كان تحته احتيال وهو في موضع فعل الله معرى من المعاني المذمومة ويخلص بأنه وقع بمن يكيده تدبير ما يريده به من حيث لا يشعر ولا يقدر على دفعه فهو من الله مشيئة بالذي يكون من أجل أن المخلوق إذا كاد المخلوق في ستر عنه ما ينويه ويضمره له من الذي يقع به من الكيد فهو من الله تعالى أستر إذ هو ما ختم به عاقبته والذي وقع بإخوة يوسف من كيد الله هو ما انتهى إليه شأن يوسف من ارتفاع المنزلة وتمام النعمة وحيث جرى الأمر على غير ما قدر من إهلاكه وخلوص أبيهم له بعده وكل ذا جرى بتدبير الله تعالى وخفي لطفه سماه كيداً لأنه أشبه كيد المخلوقين فعلى هذا يكون كيد الله عز وجل ليوسف عليه الصلاة والسلام عائداً إلى جميع ما أعطاه الله وأنعم به عليه على خلاف تدبيره وإخوته من غير أن يشعروا بذلك وقوله تعالى : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } يعني في حكم الملك وقضائه لانه كان في حكم الملك أن السارق يضرب ويغرم ضعفي قيمة المسروق يعني في حكم الملك وقضائه فلم يتمكن يوسف من حبس أخيه عنده في حكم الملك فالله تعالى ألهم يوسف ما دبره حتى وجد السبيل إلى ذلك { إلا أن يشاء الله } يعني أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره لأن ذلك كله كان إلهاماً من الله ليوسف وإخوته حتى جرى الأمر على وفق المراد { نرفع درجات من نشاء } يعني بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته وفي هذه الآية دلالة على أن العلم الشريف أشرف المقامات وأعلى الدرجات لأن الله تعالى مدح يوسف ورفع درجته على إخوته بالعلم وبما ألهمه على وجه الهداية والصواب في الأمور كلها { وفوق كل ذي علم عليم } قال ابن عباس : فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فوق كل عالم لأنه هو الغني بعلمه عن التعليم وفي الآية دليل على أن إخوة يوسف كانوا علماء وكان يوسف أعلم منهم ، قال ابن الأنباري : يجب أن يتهم العالم نفسه ويستشعر التواضع لمواهب ربه تعالى ولا يطمع نفسه في الغلبة لأنه لا يخلو عالم من عالم فوقه .(4/39)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
قوله تعالى : { قالوا } يعني إخوة يوسف { إن يسرق } يعني بنيامين الصواع { فقد سرق أخ له من قبل } يعني يوسف ظاهر الآية يقتضي أن إخوة يوسف قالوا للملك إن هذا الأمر ليس بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان سارقاً أيضاً وكان غرضهم من هذا الكلام أنّ لسنا على طريقته ولا على سيرته بل هذا وأخوه كان على هذه الطريقة وهذه السيرة لأنهما من أم أخرى غير أمنا .
واختلفوا في السرقة التي ينسبوها إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فقال سعيد بن جبير وقتادة : وكان لجده أبي أمه صنم وكان يعبده فأخذه يوسف وكسره وألقاه في الطريق لئلا يعبده ، وقال مجاهد : إن يوسف جاءه سائل يوماً فأخذ بيضة من البيت فناولها له ، وقال سفيان بن عيينة أخذ دجاجة من الطير الذي كان في بيت يعقوب فأعطاها سائلاً ، وقال وهب : كان يخبئ الطعام من المائدة للفقراء .
وذكر محمد بن إسحاق : إن يوسف كان عند عمته ابنة إسحاق بعد موت أمه راحيل فحضنته عمته وأحبته حباً شديداً فلما ترعرع وكبر وقعت محبة يعقوب عليه فأحبه فقال لأخته يا أختاه سلمي إلي يوسف فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة واحدة فقالت لا أعطيكه فقال لها والله ما أنا بتاركه عندك فقالت دعه عندي أياماً أنظر إليه لعل ذلك يسليني عنه ففعل ذلك فعمدت إلى منطقة كانت لإسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر وكانت أكبر أولاد إسحاق فكانت عندها فشدت المنطقة على وسط يوسف تحت ثيابه وهو صغير لا يشعر ثم قالت لقد فقدت منطقة إسحاق ففتشوا أهل البيت فوجودها مع يوسف فقالت إنه لسلم لي يعني يوسف فقال يعقوب إن كان قد فعل فهو سلم لك فأمسكته عندها حتى ماتت فلذلك قال إخوة يوسف إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل يعنون هذه السرقة قال الأنباري : وليس في هذه الأفعال كلها ما يوجب السرقة ولكنها تشبه السرقة فعيروه بها عند الغضب { فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } في هاء الكناية ثلاثة أقوال : أحدها : أن الضمير يرجع إلى الكلمة التي بعدها وهي قوله تعالى { قال } يعني يوسف { أنتم شر مكاناً } روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس والثاني أن الضمير يرجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه وهي قولهم فقد سرق أخ له من قبل وهذا معنى قول أبي صالح عن ابن عباس ، فعلى هذا القول يكون المعنى فأسر يوسف جواب الكلمة التي قالوها في حقه ولم يجبهم عليها والثالث أن الضمير يرجع إلى الحجة فيكون المعنى على هذا القول فأسر يوسف الاحتجاج عليهم في ادعائهم عليه السرقة ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكاناً يعني منزلة عند الله ممن رميتموه بالسرقة لأنه لم يكن من يوسف سرقة في الحقيقة وخيانتكم حقيقة { والله أعلم بما تصفون } يعني بحقيقة ما تقولون .(4/40)
قوله عز وجل : { قالوا } يعني إخوة يوسف { يا أيها العزيز } يخاطبون بذلك الملك { إن له أباً شيخاً كبيراً } قال أصحاب الأخبار والسير إن يوسف عليه الصلاة والسلام لما استخرج الصواع من رحل أخيه بنيامين نقره وأدناه إلى أذنه ثم قال إن صواعي هذا يخبرني أنكم اثنا عشر رجلاً لأب واحد وإنكم انطلقتم بأخ لكم من أبيكم فبعتموه قال بنيامين أيها الملك سل صواعك هذا من جعله في رحلي فنقره ثم قال إن صواعي غضبان وهو يقول كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت قالوا فغضب روبيل لذلك وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء وكان إذا صاح ألقت كل حامل حملها إذا سمعت صوته وكان من هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب يسكن غضبه وكان أقوى الإخوة وأشدهم ، وقيل : كانت هذه صفة شمعون بن يعقوب ، وقيل : إنه قال لإخوته كم عدد الأسواق بمصر قالوا عشرة قال اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق فدخلوا على يوسف فقال روبيل أيها الملك لتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا يبقى بمصر امرأة حامل إلا وضعت ولدها وقامت كل شعرة في جسد روبيل حتى خرجت من ثيابه فقال يوسف لابن له صغير قم إلى جنب هذا فمسه أو خذ بيده فأتى له فلما مسه سكن غضبه فقال لإخوته : من مسني منكم قالوا لم يصبك منا أحد فقال روبيل إن هذا بذر من بذر يعقوب وقيل إنه غضب ثانياً فقام إليه يوسف فوكزه برجله وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض وقال أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم فلما رأوا ما نزل بهم ورأوا أن لا سبيل إلى تخليصه خضفوا وذلوا وقالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً يعني في السن ويحتمل أن يكون كبيراً في القدر لأنه نبي من أولاد الأنبياء { فخذ أحدنا مكانه } يعني بدلاً عنه لأنه يحبه ويتسلى به عن أخيه الهالك { إنا نراك من المحسنين } يعني في أفعالك كلها وقيل من المحسنين إلينا في توفية الكيل وحسن الضيافة ورد البضاعة إلينا وقيل إن رددت بنيامين إلينا وأخذت أحدنا مكانه كنت من المحسنين .(4/41)
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
{ قال معاذ الله } يعني : قال يوسف أعوذ بالله معاذاً { أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } لم يقل سرق تحرزاً عن الكذب لأنه يعلم أخاه ليس بسارق { إنا إذاً لظالمون } يعني إن أخذنا بريئاً بذنب غيره فإن قلت كيف استجاز يوسف أن يعمل مثل هذه الأعمال بأبيه ولم يخبره بمكانه وحبس أخاه أيضاً عنده مع علمه بشدة وجد أبيه عليه ففيه ما فيه من العقوق وقطيعة الرحم وقلة الشفقة وكيف يجوز ليوسف مع علو منصبه من النبوة والرسالة أن يزور على إخوته ويروج عليهم مثل هذا مع ما فيه من الإيذاء لهم فكيف يليق به هذا كله قلت قد ذكر العلماء عن هذا السؤال أجوبة كثيرة وأحسنها وأصحها أنه إنما فعل ذلك بأمر الله تعالى له لا عن أمره وإنما أمره الله بذلك ليزيد بلاء يعقوب فيضاعف له الأجر على البلاء ويلحقه بدرجة آبائه الماضين لله تعالى أسرار لا يعلمها أحد من خلقه فهو المتصرف في خلقه بما يشاء وهو الذي أخفى خبر يوسف عن يعقوب في طول هذه المدة مع قرب المسافة لما يريد أن يدبره فيهم والله أعلم بأحوال عباده .
قوله عز وجل : { فلما استيأسوا منه } يعني أيسوا من يوسف أن يجيبهم لما سألوه ، وقيل : أيسوا من أخيهم أن يرد عليهم ، وقال أبو عبيدة : استيأسوا أي استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم { خلصوا نجياً } يعني خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون ليس فيهم غيرهم { قال كبيرهم } يعني في العقل والعلم لا في السن ، قال ابن عباس : الكبير يهوذا وكان أعقلهم وقال مجاهد هو شمعون وكانت له الرئاسة على إخوته ، وقال قتادة والسدي والضحاك : هو روبيل وكان أكبرهم سناً وأحسنهم رأياً في يوسف لأنه نهاهم عن قتله { ألم تعلموا أن أباكم } يعني يعقوب { قد أخذ عليكم موثوقاً } يعني عهداً { من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف } يعني قصرتم في أمر يوسف حتى ضيعتموه { فلن أبرح الأرض } يعني الأرض التي أنا فيها وهي أرض مصر والمعنى فلن أخرج من أرض مصر ولا أفارقها على هذه الصورة { حتى يأذن لي أبي } يعني في الخروج من أرض مصر فيدعوني إليه { أو يحكم الله لي } برد أخي عليّ أو بخروجي معكم وترك أخي أو يحكم الله لي بالسيف فأقاتلهم حتى أسترد أخي { وهو خير الحاكمين } لأنه يحكم بالحق والعدل والإنصاف ، والمراد من هذا الكلام الالتجاء إلى الله تعالى في إقامة عذره عند والده يعقوب عليه الصلاة والسلام .(4/42)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
{ ارجعوا إلى أبيكم } يعني يقول الأخ الكبير الذي عز على الإقامة بمصر لإخوته الباقين ارجعوا إلى أبيكم يعقوب { فقولوا } له { يا أبانا إن ابنك سرق } إنما قالوا هذه المقالة ونسبوه إلى السرقة لأنهم شاهدوا الصواع وقد أخرج من متاع بنيامين فغلب على ظنهم أنه سرق فلذلك نسبوه إلى السرقة في ظاهر الأمر لا في حقيقة الحال ويدل على أنهم لم يقطعوا عليه بالسرقة قولهم { وما شهدنا إلا بما علمنا } يعني ولم نقل ذلك إلا بعد ان رأينا إخراج الصواع وقد أخرج من متاعه وقيل معناه ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما علمناه وهذه ليست بشهادة إنما هو خبر عن صنيع ابنك أنه سرق بزعمهم فيكون المعنى ان ابنك في زعم الملك وأصحابه لا أنّا نشهد عليه بالسرقة : وقرأ ابن عباس والضحاك : سرق بضم السين وكسر الراء وتشديدها أي نسب إلى السرقة واتهم بها وهذه القراءة لا تحتاج إلى تأويل ومعناها أن القوم نسبوه إلى السرقة إلا أن هذه القراءة ليست مشهورة فلا تقوم بها حجة والقراءة الصحيحة المشهورة وهي الأولى وقوله وما شهدنا إلا بما علمنا يعني وما قلنا هذا إلا بما علمنا فيما رأينا إخراج الصواع من متاعه ، وقيل : معناه ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما عملناه وليست هذه شهادة وإنما هو خبرعن صنيع ابنك بزعمهم . وقيل : قال لهم يعقوب هب أنه سرق فما يدري هذا الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته إلا بقولكم قالوا ما شهدنا عنده أن السارق يسترق إلا بما علمنا من الحكم وكان الحكم كذلك عند الأنبياء قبله ويعقوب وبنيه .
وأورد على هذا القول كيف جاز ليعقوب إخفاء هذا الحكم حتى ينكر على بنيه ذلك .
وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون ذلك الحكم كان مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً فلهذا أنكر عليهم إعلام الملك بهذا الحكم لظنه أنه كافر { وما كنا للغيب حافظين } قال مجاهد وقتادة : يعني ما كنا نعلم أن ابنك سرق ويصير أمرنا إلى هذا ولو عملنا ذلك ما ذهبنا به معنا وإنما قلنا ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه منه سبيل ، وقال ابن عباس : ما كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين وقيل معناه إن حقيقة الحال غير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله فلعل الصواع دس في رحله ونحن لا نعلم بذلك { واسأل القرية التي كنا فيها } يعني واسأل أهل القرية إلا أن حذف المضاف للإيجاز ومثل هذا النوع من المجاز مشهور في كلام العرب والمراد بالقرية مصر ، وقال ابن عباس : هي قرية من قرى مصر كان قد جرى فيها حديث السرقة والتفتيش { والعير التي أقبلنا فيها } يعني واسأل القافلة التي كنا فيها وكان صحبهم قوم من كنعان من جيران يعقوب { وإنا لصادقون } يعني فيما قلناه وإنما أمرهم أخوهم الذي أقام بمصر بهذه المقالة مبالغة في إزالة التهمة عن أنفسهم عند أبيهم لأنهم كانوا متهمين عنده بسبب واقعة يوسف { قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً } فيه اختصار تقديره فرجعوا إلى أبيهم فأخبروه بما جرى لهم في سفرهم ذلك وبما قال لهم كبيرهم وأمرهم أن يقولوه لأبيهم فعند ذلك قال لهم يعقوب بل سولت يعني بل زينت لكم أنفسكم أمراً وهو حمل أخيكم معكم إلى مصر لطلب نفع عاجل فآل أمركم إلى ما آل ، وقيل : معناه بل خيلت لكم أنفسكم أنه سرق ما سرق { فصبر جميل } تقدم تفسيره في أول السورة .(4/43)
وقوله { عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً } يعني بيوسف وبنيامين والأخ الثالث الذي أقام بمصر وإنما قال يعقوب هذه المقالة لأنه لما طال حزنه واشتد بلاؤه ومحنته علم أن الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب فقال ذلك على سبيل حسن الظن بالله عز وجل لأنه إذا اشتد البلاء وعظم كان أسرع إلى الفرج ، وقيل : إن يعقوب علم بما يجري عليه وعلى بنيه من أول الأمر وهو رؤيا يوسف وقوله { يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً } فلما تناهى الأمر قال عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً { إنه هو العليم } يعني بحزني ووجدي عليهم { الحكيم } فيما يدبره ويقضيه .(4/44)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
قوله تعالى : { وتولى عنهم } يعني وأعرض يعقوب عن بنيه حين بلغوه خبر بنيامين فحينئذ تناهى حزنه واشتد بلاؤه وبلغ جهده وهيج حزنه على يوسف فعند ذلك أعرض عنهم { وقال يا أسفى على يوسف } الأسف أشد الحزن وإنما جدد حزنه على يوسف عند وجود هذه الواقعة لأن الحزن القديم إذا صادفه حزن آخر كان ذلك أوجع للقلب وأعظم لهيجان الحزن الأول كما قال متمم بن نويرة لما رأى قبراً جيداً جدد حزنه على أخيه مالك :
يقول أتبكي كل قبر رأيته ... لقد ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى ... فدعني فهذا كله قبر مالك
فأجاب بأن الحزن يجدد الحزن ، وقيل : إن يوسف وبنيامين لما كانا من أم واحدة كان يعقوب يتسلى عن يوسف ببنيامين فلما حصل فراق بنيامين زاد حزنه عليه ووجده وجدد حزنه على يوسف لأن يوسف كان أصل المصيبة ، وقد اعترض بعض الجهال على يعقوب عليه السلام في قوله يا أسفا على يوسف فقال هذه شكاية وإظهار جزع فلا يليق بعلو منصبه ذلك وليس الأمر كما قال هذا الجاهل المعترض لأن يعقوب عليه الصلاة والسلام شكا إلى الله لا منه فقوله يا أسفا على يوسف معناه يا رب ارحم أسفي على يوسف وقد ذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال : نداء يعقوب بالأسف في اللفظ من المجاز يعني به غير المظهر في اللفظ وتلخيصه يا إلهي ارحم أسفي أو أنت رائي أسفي أو هذا أسفي فنادى الأسف في اللفظ والمنادى سواه في المعنى ولا مأثم إذ لم ينطلق اللسان بكلام مؤثم لأنه لم يشك إلا إلى ربه عز وجل فلما كان قوله يا أسفاً على يوسف شكوى إلى ربه كان غير ملوم في شكواه وقيل إن يعقوب لما عظمت مصيبته واشتد بلاؤه وقويت محنته قال يا أسفا على يوسف أي أشكوا إلى الله شدة أسفي على يوسف ولم يشكه إلى أحد من الخلق بدليل قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى الله { وابيضت عيناه من الحزن } أي عمي من شدة الحزن على يوسف قال مقاتل لم يبصر شيئاً ست سنين ، وقيل : إنه ضعف بصره من كثرة البكاء وذلك أن الدمع يكثر عند غلبة البكاء فتصير العين كأنها بيضاء من ذلك الماء الخارج من العين { فهو كظيم } أي مكظوم وهو الممتلئ من الحزن الممسك عليه لا يبثه ، قال قتادة : وهو الذي يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيراً ، وقال الحسن : كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقيا ثمانون سنة لم تجف عينا يعقوب وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله منه .(4/45)
وقال ثابت البناني ووهب بن منبه والسدي : إن جبريل عليه الصلاة والسلام دخل على يوسف وهو في السجن فقال له تعرفني أيها الصديق قال يوسف أرى صورة طاهرة قال إني رسول رب العالمين وأنا الروح الأمين فقال يوسف فما أدخلك مدخل المذنبين وأنت أطيب الطيبين ورأس المقربين وأمين رب العالمين قال ألم تعلم يا يوسف أن الله يطهر الأرض بطهر النبيين وأن الأرض التي يدخلونها هي أطهر الأرضين وأن الله قد طهر بك الأرض والسجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين المخلصين قال يوسف كيف لي بإسم الصديقين وتعدني من الصالحين المخلصين الطاهرين وقد أدخلت مدخل المذنبين قال له إنه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربك فلذلك سماك الله من الصديقين وعدك من المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين قال يوسف فهل لك علم من يعقوب أيها الروح الأمين قال نعم قد ذهب بصره وابتلاه الله بالحزن عليك فهو كظيم ووهب له الصبر الجميل قال فما قدر حزنه قال حزن سبعين ثكلاء قال فما له من الأجر يا جبريل قال أجر مائة شهيد قال أفتراني لاقيه قال نعم فطابت نفس يوسف وقال ما أبالي مما لقيت إن رأيته .
قوله عز وجل : { قالوا } يعني إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام لأبيهم { تالله تفتأ تذكر يوسف } يعني لا تزال تذكر يوسف ولا تفتر عن حبه يقال ما فتئ يفعل كذا أي ما زال ولا محذوفة في جواب القسم لأن موضعها معلوم فحذفت للتخفيف كقول امرئ القيس :
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي لا أبرح قاعداً وقوله { حتى تكون حرضاً } قال ابن عباس يعني دنفاً وقال مجاهد الحرض ما دون الموت يعني قريباً من الموت ، وقال ابن إسحاق : يعني فاسداً لا عقل له والحرض الذي فسد جسمه وعقله وقيل ذائباً من الهم وأصل الحرض الفساد في الجسم والعقل من الحزن أو الهم ومعنى الآية حتى تكون دنف الجسم مخبول العقل يعني لا تنتفع بنفسك من شدة الحزن والهم والأسف { أو تكون من الهالكين } يعني من الأموات .
فإن قلت كيف حلفوا على شيء لم يعلموا حقيقته قطعياً؟ .
قلت : إنهم بنوا الأمر على الأغلب الظاهر أي نقوله ظناً منا أن الأمر يصير إلى ذلك { قال } يعني يعقوب عند ما رأى قولهم له وغلظتهم عليه { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله } أصل البث إثارة الشيء وتفريقه وبث النفس ما انطوت عليه من الغم والشر ، قال ابن قتيبة : البث أشد الحزن وذلك لأن الإنسان إذا ستر الحزن وكتمه كان هماً فإذا ذكره لغيره كان بثاً فالبث أشد الحزن والحزن الهم فعلى هذا يكون المعنى إنما أشكوا حزني العظيم وحزني القليل إلى الله لا إليكم .(4/46)
قال ابن الجوزي : روى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال « كان ليعقوب أخ مؤاخ فقال له ذات يوم يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك وما الذي قوس ظهرك قال أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك أما تستحي أن تشكو إلى غيري فقال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله فقال جبريل الله أعلم بما تشكو » وقيل : إنه دخل على يعقوب جار له فقال له يا عقوب مالي أراك قد تهشمت بالضعف وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك فقال هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف أفوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي قال قد غفرتها لك فكان بعد ذلك إذا سئل يقول إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله تعالى وقيل إن الله أوحى إليه وعزتي وجلالي لا أكشف ما بك حتى تدعوني فعند ذلك قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله تعالى ثم قال أي رب أما ترحم الشيخ الكبير أذهبت بصري وقوست ظهري فاردد على ريحانتي أشممها شمة قبل أن أموت ثم اصنع ما شئت فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك أبشر فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك أتدري لم وجدت عليك لأنكم ذبحتم شاة فقام على بابكم فلان المسكين وهو صائم فلم تطعموه منها شيئاً وإن أحب عبادي إلي الأنبياء ثم المساكين إصنع طعاماً وادع إليه المساكين فصنع طعاماً ثم قال من كان صائماً فليفطر الليلة عند آل يعقوب وكان بعد ذلك إذا تغدى أمر منادياً ينادي من أراد أن يتغدى فليأت آل يعقوب وإذا أفطر أمر أن ينادي من أراد أن يفطر فليأت آل يعقوب فكان يتغدى ويتعشى مع المساكين ، وقال وهب بن منبه أوحى الله تعالى إلى يعقوب أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة قال يا رب لا قال لأنك شويت عناقاً وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه وقيل إن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلاً بين يدي أمه وهي تخور فلم يرحمها .
فإن قلت هل في هذه الروايات ما يقدح في عصمة الأنبياء؟
قلت : لا وإنما عوقبت يعقوب بهذا لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين وإنما يطلب من الأنبياء من الأعمال على قدر منصبهم وشريف رتبتهم ويعقوب عليه الصلاة والسلام من أهل بيت النبوة والرسالة ومع ذلك فقد ابتلى الله كل واحد من أنبيائه بمحنة فصبر وفوض أمره إلى الله فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ألفي في النار فصبر ولم يشك إلى أحد وإسماعيل ابتلي بالذبح فصبر وفوض أمره إلى الله وإسحاق ابتلي بالعمى فصبر ولم يشك إلى أحد ويعقوب ابتلي بفقده ولده يوسف وبعده بنيامين ثم عمي بعد ذلك أو ضعف بصره من كثرة البكاء على فقدهما وهو مع ذلك صابر لم يشك إلى أحد شيئاً مما نزل به وإنما كانت شكايته إلى الله عز وجل بدليل قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فاستوجب بذلك المدح العظيم والثناء الجميل في الدنيا والدرجات العلى في الآخرة مع من سلف من أبويه إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام .(4/47)
وأما دمع العين وحزن القلب فلا يستوجب به ذماً ولا عقوبة لأن ذلك ليس إلى اختيار الإنسان فلا يدخل تحت التكليف بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم عند موته وقال « إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وما نقول إلا ما يرضي ربنا » فهذا القدر لا يقدر الإنسان على دفعه عن نفسه فصار مباحاً لا حرج فيه على أحد من الناس وقوله { وأعلم من الله ما لا تعلمون } يعني أنه تعالى من رحمته وإحسانه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب وفيه إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف ويتوقع رجوعه إليه وروى أن ملك الموت زار يعقوب فقال له يعقوب أيها الملك الطيب ريحه الحسن صورته الكريم على ربه هل قبضت روح ابني يوسف في الأرواح فقال لا فطابت نفس يعقوب وطمع في رؤيته فلذلك قال وأعلم من الله ما لا تعملون وقيل معناه وأعلم أن رؤيا يوسف حق وصدق وإني وأنتم سنسجد له وقال السدي لما أخبره بنوه بسيرة ملك مصر وكمال حاله في جميع أقواله وأفعاله أحسست نفس يعقوب وطمع أن يكون هو يوسف فعند ذلك قال يعني يعقوب .(4/48)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
{ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } التحسس طلب الخبر بالحاسة وهو قريب من التجسس بالجيم وقيل إن التحسس بالحاء يكون في الخير وبالجيم يكون في الشر ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورات الناس قال ابن عباس التمسوا قال ابن الأنباري يقال تحسست عن فلان ولا يقال من فلان وقال هنا من يوسف وأخيه لأنه أقيم من مقام عن قال ويجوز أن يقال من للتبعيض ويكون المعنى تحسسوا خبراً من أخبار يوسف وأخيه ، روي عن عبد الله بن يزيد عن أبي فروة أن يعقوب كتب كتاباً إلى يوسف عليهما الصلاة والسلام حين حبس عنده بنيامين : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى ملك مصر أما بعد فإنا أهل بيت وكل بنا البلاء أما جدي إبراهيم فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله برداً وسلاماً وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي ثم كان لي ابن آخر وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به وإنك حبسته وزعمت أنه سرق وأنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته إليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك فلما قرأ يوسف كتاب أبيه اشتد بكاؤه وعيل صبره وأظهر نفسه لأخوته على ما سنذكره إن شاء الله تعالى فذلك قوله تعالى يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه { ولا تيأسوا } أي ولا تقنطوا { من روح الله } يعني من رحمة الله وقيل من فضل الله وقيل من فرج الله { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرين } يعني أن المؤمن على خير يرجوه من الله فيصبر عند البلاء فينال به خيراً ويحمد عند الرخاء فينال به خيراً والكافر بضد ذلك .
قوله تعالى : { فلما دخلوا عليه } فيه حذف واختصار تقديره فخرجوا من عند أبيهم قاصدين مصر فلما دخلوا عليه يعني على يوسف { قالوا يا أيها العزيز } يعنون يا أيها الملك والعزيز القادر الممتنع وكان العزيز لقب ملك مصر يومئذ { مسنا وأهلنا الضر } أي الشدة والفقر والجوع وأرادوا بأهلهم من خلفهم ومن وراءهم من العيال { وجئنا ببضاعة مزجاة } أي ببضاعة رديئة كاسدة لا تنفق في ثمن الطعام إلا بتجوز من البائع .
وأصل الإزجاء في اللغة : الدفع قليلاً قليلاً والتزجية دفع الشيء لينساق كتزجية الريح السحاب ومنه قول الشاعر :
وحاجة غير مزجاة من الحاج ... يعني هي قليلة يسيرة يمكن دفعها وسوقها لقلة الاعناء بها وإنما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إما لنقصانها أو لرداءتها أو لمجموعهما فلذلك اختلفت عبارات المفسرين في معنى هذه البضاعة المزجاة ، فقال ابن عباس : كانت دراهم رديئة زيوفاً وقيل كانت خلق الغرائر والحبال ، وقيل : كانت من متاع الأعراب من الصوف والأقط ، وقال الكلبي ومقاتل : كانت حبة الخضراء وقيل كانت سويق المقل وقيل كانت الأدم والنعال ، وقال الزجاج : سميت هذه البضاعة القليلة الرديئة مزجاة من قولهم : فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل من العيش والمعنى جئنا ببضاعة مزجاة لندافع بها الزمان وليست مما يتسع بها ، وقيل : إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن يدفعها { فأوف لنا الكيل } يعني أعطنا ما كنت تعطينا من قبل بالثمن الجيد الوافي والمعنى إنا نريد أن تقيم لنا الزائد مقام الناقص والجيد مقام الرديء { وتصدق علينا } يعني وتفضل علينا بما بين الثمين الجيد والرديء ولا تنقصنا ، هذا قول أكثر المفسرين قال ابن الأنباري : وكان الذي يسألونه من المسامحة يشبه الصدقة وليس به واختلف العلماء هل كانت الصدقة حلالاً للأنبياء قبل نبينا أم لا فقال سفيان بن عيينة : إن الصدقة كانت حلالاً للأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم واستدل بهذه الآية وأنكر جمهور العلماء ذلك وقالوا إن حال الأنبياء كلهم واحد في تحريم الصدقة عليهم لإنهم ممنوعون من الخضوع للمخلوقين والأخذ منهم ، والصدقة أوساخ الناس فلا تحل لهم لأنهم مستغنون بالله عمن سواه .(4/49)
وأجيب عن قوله وتصدق علينا أنهم طلبوا منه أن يجريهم على عادتهم من المسامحة وإيفاء الكيل ونحو ذلك مما كان يفعل بهم من الكرامة وحسن الضيافة لا نفس الصدقة وكره الحسن ومجاهد ان يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علينا لأن الصدقة لا تكون إلا ممن يبتغي الثواب وروي أن الحسن سمع رجلاً يقول اللهم تصدق عليّ فقال إن الله لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل اللهم أعطني وتفضل عليّ ، وقال ابن جريج والضحاك وتصدق علينا يعني برد أخينا علينا { إن الله يجزي المتصدقين } يعني بالثواب الجزيل وقال الضحاك لم يقولوا إن الله يجزيك لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن { قال } يعني قال يوسف لإخوته { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } وقد اختلفوا في السبب الذي من أجله حمل يوسف وهيجه على هذا القول ، فقال ابن إسحاق : ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته رقة على إخوته فباح بالذي كان يكتم ، وقيل : إنه أخرج لهم نسخة الكتاب الذي كتبوه ببيعه من مالك وفي آخره وكتبه يهوذا فلما قرؤوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا يا أيها الملك إنه كان لنا عبد فبعناه منه فغاظ ذلك يوسف وقال : إنكم تستحقون العقوبة وأمر بقتلهم فلما ذهبوا بهم ليقتلوهم قال يهوذا كان يعقوب يبكي ويحزن لفقد واحد منا فكيف إذا أتاه الخبر بقتل بنيه كلهم ثم قالوا إن كنت فاعلاً ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا فإنه بمكان كذا وكذا فذلك حين أدركته الرقة عليهم والرحمة فبكى ، وقال هذا القول ، وقيل : إن يوسف لما قرأ كتاب أبيه لم يتمالك أن بكى وقال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه وهذا استفهام يفيد تعظيم أمر هذه الواقعة ومعناه ما أعظم ما ارتكبتم من أمر يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه من قطيعة الرحم وتفريقه من أبيه وهذا كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت وهل تعرف من خالفت ولم يرد بهذا نفس الاستفهام ولكنه أراد تفظيع الأمر وتعظيمه ويجوز أن يكون المعنى هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله إياهما من المكروه .(4/50)
واعلم أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى : { وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } فإن قلت الذي فعلوه بيوسف معلوم ظاهر فما الذي فعلوه بأخيه من المكروه حتى يقول لهم هذه المقالة فإنهم لم يسعوا في حبسه ولا أرادوا ذلك .
قلت : إنهم لما فرقوا بينه وبين أخيه يوسف نغصوا عليه عيشه وكانوا يؤذونه كلما ذكر يوسف ، وقيل : إنهم قالوا له لما اتهم بأخذ الصواع ما رأينا منكم يا بني راحيل خيراً { إذ أنتم جاهلون } هذا يجري مجرى العذر لهم يعني أنكم أقدمتم على هذا الفعل القبيح المنكر حال كونكم جاهلين وهو وقت الصبا وحالة الجهل وقيل جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف .(4/51)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
قوله عز وجل : { قالوا أئنك لأنت يوسف } قرئ على سبيل الاستفهام وحجة هذه القراءة قال ابن عباس لما قال لهم هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه تبسم فرأوا ثناياه كاللؤلؤ تشبه ثنايا يوسف فشبهوه بيوسف فقالوا استفهاماً أئنك لأنت يوسف؟ ، وقرئ على الخب وحجته ما قال ابن عباس أيضاً في رواية أخرى عنه : إن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج على رأسه وكان له في قرنه علامة تشبه الشامة وكان ليعقوب مثلها ولإسحاق مثلها ولسارة مثلها فعرفوه بها وقالوا أنت يوسف ، وقيل : قالوه على سبيل التوهم ولم يعرفوه حتى { قال أنا يوسف } قال بعض العلماء إنما أظهر الاسم في قوله أنا يوسف ولم يقل أنا هو تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته له وما عوضه الله من النصر والظفر والملك فكأنه قال أنا يوسف المظلوم الذي ظلمتموني وقصدتم قتلي بأن ألقيتموني في الجب ثم بعتموني بأبخس الأثمان ثم صرت إلى ما ترون فكانت تحت ظهور الاسم هذه المعاني كلها ولهذا قال { وهذا أخي } وهم يعرفونه لأنه قصد به أيضاً وهذا أخي المظلوم كما ظلمتموني ثم صرت أنا وهو إلى ما ترون وهو قوله : { قد منَّ الله علينا } بأن جمع بيننا وقيل منَّ علينا بكل عز وخير في الدنيا والآخرة ، وقيل : منَّ علينا بالسلامة في ديننا ودنيانا { إنه من يتق ويصبر } يعني يتقي الزنا ويصبر على العزوبة قاله ابن عباس ، وقال مجاهد : يتقي المعصية ويصبر على السجن ، وقيل : يتقي الله بأداء فرائضه ويصبر عما حرم الله { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } يعني أجر من كان هذا حاله { قالوا } يعني قال إخوة يوسف معتذرين إليه مما صدر منهم في حقه { تالله لقد آثرك الله علينا } أي اختارك وفضلك علينا يقال آثرك الله إيثاراً أي اختارك ويستعار الأثر للفضل والإيثار للتفضيل والمعنى لقد فضلك الله علينا بالعلم والعقل وقال الضحاك عن ابن عباس بالملك وقال أبو صالح عنه بالصبر وقيل بالحلم والصفح علينا وقيل بالحسن وسائر الفضائل التي أعطاها الله عز وجل له دون إخوته وقيل فضله عليهم بالنبوة وأورد على هذا القول أن إخوته كانوا أنبياء أيضاً فليس له عليهم فضل في ذلك وأجيب عنه بأن يوسف فضل عليهم بالرسالة مع النبوة فكان أفضل منهم بهذا الاعتبار لأن من جمعت له النوبة والرسالة كان أفضل ممن خص بالنبوة فقط { وإن كنا لخاطئين } يعني وما كنا في صنعنا بك إلا خاطيئن ولهذا اختير لفظ الخاطئ على المخطئ والفرق بينهما أن يقال خطئ خطأ إذا تعمد وأخطأ إذا كان غير متعمد وقيل يجوز أني كون آثر لفظ خاطئين على مخطيئن لموافقة رؤوس الآي لأن خاطيئن أشبه بما قبلها { قال } يعني يوسف { لا تثريب عليكم } يعني لا تعيير ولا توبيخ عليكم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم(4/52)
« إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يوبخها ولا يثرب » أي لا يعيرها بالزنا بعد إقامة الحد عليها وفي محل قوله { اليوم } قولان أحدهما أنه يرجع إلى ما قبله فيكون التقدير لا تثريب عليكم اليوم والمعنى أن هذا اليوم هو يوم التثيرب والتقريع والتوبيخ وأنا لا أقرعكم اليوم ولا أوبخكم ولا أثرب عليكم ، فعلى هذا يحسن الوقف على قوله لا تثريب عليكم اليوم ويبتدئ بقوله { يغفر الله لكم } .
والقول الثاني : أن اليوم متعلق بقوله يغفر الله لكم فعلى هذا يحسن الوقف على قوله لا تثريب عليكم ويبتدئ باليوم يغفر الله لكم كأنه لما نفى عنهم التوبيخ والتقريع بقوله لا تثريب عليكم بشرهم بقوله اليوم يغفر الله لكم { وهو أرحم الراحمين } ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن حال أبيه فقال ما حال أبي بعدي؟ قالوا ذهب بصره من كثرة البكاء عليك فأعطاهم قميصه .(4/53)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
{ اذهبوا بقميصي هذا } قال الضحاك كان هذا القميص من نسج الجنة ، وقال مجاهد : أمره جبريل أن يرسل إليه قميصه وكان ذلك القميص قميص إبراهيم وذلك أنه لما جرد من ثيابه وألقي في النار عرياناً أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فكان ذلك القميص عند إبراهيم ، فلما مات ورثه إسحاق فلما مات ورثه يعقوب فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في قصبة من فضة وسد رأسها وجعلها في عنق يوسف كالتعاويذ لما كان يخاف عليه من العين وكانت لا تفارقه فلما ألقي يوسف في البئر عرياناً أتاه جبريل وأخرج ذلك القميص وألبسه إياه فلما كان هذا الوقت جاءه جبريل فأمره أن يرسل هذا القميص إلى أبيه لأن فيه ريح الجنة فلا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي في الوقت فدفع ذلك القميص يوسف إلى إخوته وقال اذهبوا بقميصي هذا { فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً } قال المحققون : إن علم يوسف أن إلقاء ذلك القميص على وجه يعقوب يوجب رد البصر كان بوحي الله إليه ذلك ويمكن أن يقال إن يوسف لما علم أن أباه قد عمي من كثرة البكاء عليه وضيق الصدر بعث إليه قميصه ليجد ريحه فيزول بكاؤه وينشرح صدره ويفرح قلبه فعند ذلك يزول الضعف ويقوى البضر فهذا القدر تمكن معرفته من جهة العقل وقوله { وأتوني بأهلكم أجمعين } قال الكلبي : كانوا نحواً من سبعين إنساناً وقال مسروق : كانوا ثلاثة وسبعين ما بين رجل وامرأة { ولما فصلت العير } يعني خرجت من مصر وقيل من عريش مصر متوجهين إلى أرض كنعان { قال أبوهم } يعني : قال يعقوب لولد ولده { إني لأجد ريح يوسف } قيل : إن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير ، وقال مجاهد : أصابت يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاث أيام ، وقال ابن عباس : من مسيرة ثمان ليل وقال الحسن كان بينهما ثمانون فرسخاً ، وقيل : هبت ريح فاحتملت ريح القميص إلى يعقوب فوجد يعقوب ريح الجنة فعلم أنه ليس في الأرض من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فعلم بذلك أنه من ريح يوسف فلذلك قال : إني لأجد ريح يوسف { لولا أن تفندون } أصل التفنيد من الفند وهو ضعف الرأي وقال ابن الأنباري أفند الرجل إذا خرف وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه وقال الأصمعي : إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو الفنيد والفند يكون المعنى لولا أن تفندوني أي تنسبوني إلى الخرف وقيل تسفهوني وقيل : تلوموني وقيل تجلهوني وهو قول ابن عباس : ، وقال الضحاك تهرموني فتقولون شيخ كبير قد خرف وذهب عقله { قالوا } يعني أولاد أولاد يعقوب وأهله الذين عنده لأن أولاده لصلبه كانوا غائبين عنه { تالله إنك لفي ضلالك القديم } يعني من ذكر يوسف ولا تنساه لأنه كان عندهم ان يوسف قد مات وهلك ويرون أن يعقوب قد لهج بذكره فلذلك قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم من ذكره والضلال الذهاب عن طريق الصواب .(4/54)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
{ فلما أن جاء البشير } وهو المبشر بخبر يوسف ، قال ابن مسعود : جاء البشير بين يدي العير قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما هو يهوذا ، قال السدي : قال يهوذا أنا ذهبت بالقميص ملطخاً بالدم إلى يعقوب وأخبرته أن يوسف أكله الذئب فأنا أذهب اليوم بالقميص وأخبره أنه حي فأفرحه كما أحزنته . قال ابن عباس : حمله يهوذا وخرج به حافياً حاسراً يعدو ومعه سبعة أرغفة فلم يستوف أكلها حتى أتى أباه وكانت المسافة ثمانين فرسخاً { ألقاه على وجهه } يعني فألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب { فارتد بصيراً } يعني فرجع بصيراً بعد ما كان قد عمي وعادت إليه قوته بعد الضعف وسروره بعد الحزن { قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون } يعني من حياة يوسف وأن الله يجمع بيننا ، وروي أن يعقوب قال للبشير كيف تركت يوسف قال تركته ملك مصر قال يعقوب ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة .
قوله تعالى : { قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا } يعني قال أولاد يعقوب حين وصلوا إليه وأخذوا يعتذرون إليه مما صنعوا به وبيوسف استغفر لنا أي اطلب لنا غفر ذنوبنا من الله { إنا كنا خاطئين } يعني في صنيعنا { قال سوف أستغفر لكم ربي } قال أكثر المفسرين : إن يعقوب أخر الدعاء والاستغفار لهم إلى وقت السحر لأنه أشرف الأوقات وهو الوقت الذي يقول الله فيه هل من داع فأستجب له فلما انتهى يعقوب إلى وقت السحر قام إلى الصلاة متوجهاً إلى الله تعالى فلما فرغ رفع يديه إلى الله تعالى وقال اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لأولادي ما أتوا إلى أخيهم يوسف فأوحى الله إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين قال عكرمة عن ابن عباس : إنه أخر الاستغفار لهم إلى ليلة الجمعة لأنها أشرف الأوقات قال وهب كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة نيفاً وعشرين سنة وقال طاوس أخر الاستغفار إلى وقت السحر من ليلة الجمعة فوافق ذلك ليلة عاشوراء وقال الشعبي سوف أستغفر لكم ربي قال حتى أسأل يوسف فإن كان قد عفا عنكم أستغفر لكم ربي { إنه هو الغفور } يعني لذوب عباده { الرحيم } بجميع خلقه قال عطاء الخراساني طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منه إلى الشيوخ ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته لا تثريب عليكم الآية وقول يعقوب سوف أستغفر لكم ربي ، قال أصحاب الأخبار إن يوسف عليه الصلاة والسلام بعث مع إخوته إلى أبيه مائتي راحلة وجهازاً كثيراً ليأتوه بيعقوب وجميع أهله إلى مصر فلما أتوه تجهز يعقوب للخروج إلى مصر فجمع أهله وهم يومئذ اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وقال مسروق كانوا ثلاثة وسبعين فلما دنا يعقوب من مصر كلم يوسف الملك الأكبر يعني ملك مصر وعرفه بمجيء أبيه وأهله فخرج يوسف ومعه الملك في أربعة آلاف من الجند وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب عليه الصلاة والسلام وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يد ابنه يهوذا فلما نظر إلى الخيل والناس قال ياهوذا هذا فرعون مصر قال لا بل هذا ابنك يوسف فلما دنا كل واحد من صاحبه أراد يوسف أن يبدأ يعقوب بالسلام فقال له جبريل لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام فقال يعقوب السلام عليك يا مذهب الأحزان ، وقيل : إنهما نزلا وتعانقا وفعلا كما يفعل الوالد بولده والولد بوالده وبكيا ، وقيل : إن يوسف قال لأبيه يا أبت بكيت حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا قال بلى ولكن خشيت أن يسلب دينك فيحال بيني وبينك .(4/55)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
قوله تعالى : { فلما دخلوا على يوسف آوى إليه } يعني ضم إليه { أبويه } قال أكثر المفسرين : هو أبوه يعقوب وخالته ليا وكانت أمه قد ماتت في نفاس بنيامين وقال الحسن هما أبوه وأمه وكانت حية بعد ، وقيل : إن الله أحياها ونشرها من قبرها حتى تسجد ليوسف تحقيقاً لرؤياه والأول أصح { وقال ادخلوا مصر } قيل المراد بالدخول الأول في قوله فلما دخلوا على يوسف أرض مصر وذلك حين استقبلهم ثم قال ادخلوا مصر يعني البلد وقيل إنه أراد بالدخول الأأول دخولهم مصر وأراد بالدخول الثاني الاستطيان بها أي أدخلوا مصر مستوطنين فيهما { إن شاء الله آمنين } قيل إن هذا الاستثناء عائد إلى الأمن لا إلى الدخول والمعنى ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله وقيل إنه عائد إلى الدخول فعلى هذا يكون قد قال ذلك لهم قبل أن يدخلوا مصر ، وقيل : إن هذا الاستثناء يرجع إلى الاستغفار فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله وقيل إن الناس كانوا يخافون من ملوك مصر فلا يدخلها أحد إلا بجوارهم فقال لهم يوسف ادخلوا مصر آمنين على أنفسكم وأهليكم إن شاء الله فعلى هذا يكون قوله إن شاء الله للتبرك فهو كقوله صلى الله عليه وسلم « وإنا إن شاء الله بكم لاحقون » مع علمه أنه لاحق بهم { ورفع أبويه على العرش } يعني على السرير الذي كان يجلس عليه يوسف والرفع النقل إلى لعلو { وخروا له سجداً } يعني يعقوب وخالته ليا وإخوته وكانت تحية الناس يومئذ السجود وهو الانحناء والتواضع ولم يرد به حقيقة السجود مع وضع الجبهة على الأرض على سبيل العبادة .
فإن قلت كيف استجاز يوسف عليه السلام أن يسجد له أبوه وهو أكبر منه وأعلى منصباً في النبوة والشيخوخة؟ قلت : يحتمل أن الله تعالى أمر بذلك لتحقيق رؤياه ، ثم في معنى هذا السجود قولان : أحدهما أنه كان انحناء على سبيل التحية كما تقدم فلا إشكال فيه ، والقول الثاني أنه كان حقيقة السجود وهو وضع الجبهة على الأرض وهو مشكل لأن السجود على هذه الصورة لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى ، وأجيب عن هذا الإشكال بأن السجود كان في الحقيقة لله تعالى على سبيل الشكر له وإنما كان يوسف كالقبلة كما سجد الملائكة لآدم ويدل على صحة هذا التأويل قوله ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وظاهر هذا يدل على أنهم لما صعدوا على السرير خروا سجداً لله تعالى ولو كان ليوسف لكان قبل الصعود لأن ذلك أبلغ من التواضع .
فإن قلت يدفع صحة هذا التأويل قوله(4/56)
{ رأيتهم لي ساجدين } وقوله { خروا له سجداً } فإن الضمير يرجع إلى أقرب المذكورات وهو يوسف عليه الصلاة والسلام .
قلت : يحتمل أن يكون المعنى وخروا لله سجداً لأجل يوسف واجتماعهم به وقيل يحتمل أن الله أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية وهي أن إخوة يوسف ربما احتملتهم الأنفة والتكبر عن السجود ليوسف فلما رأوا أن أباهم قد سجد له سجدوا له أيضاً فتكون هذه السجدة على سبيل التحية والتواضع لا على سبيل العبادة وكان ذلك جائزاً في ذلك الزمان فلما جاء الإسلام نسخت هذه الفعلة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه { وقال } يعني وقال يوسف عند ما رأى ذلك { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } يعني هذا تصديق الرؤيا التي رأيت في حال الصغر { قد جعلها ربي حقاً } يعني في اليقظة واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها فقال سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد أربعون سنة ، وقال أبو صالح عن ابن عباس : اثنتان وعشرون سنة ، وقال سعيد بن جبير وعكرمة والسدي : ست وثلاثون سنة ، وقال قتادة : خمس وثلاثون سنة ، وقال عبد الله بن سودون : سبعون سنة ، وقال الفضيل بن عياض : ثمانون سنة ، حكى هذه الأقوال كلها ابن الجوزي وزاد غيره عن الحسن : أن يوسف كان عمره حين ألقي في الجب سبع عشرة سنة وأقام في العبودية والسجن والملك مدة ثمانين سنة وأقام مع أبيه وإخوته وأقاربه مدة ثلاث وعشرين سنة وتوفاه الله وهو ابن مائة وعشرين سنة وقوله { وقد أحسن بي } يعني أنعم عليّ يقال أحسن بي وإليّ بمعنى واحد { إذ أخرجني من السجن } إنما ذكر إنعام الله عليه في إخراجه من السجن وإن كان الجب أصعب منه استعمالاً للأدب والكرم لئلا يخجل إخوته بعد أن قال لهم لا تثريب عليكم اليوم ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن كانت أعظم من إخراجه من الجب وسبب ذلك أن خروجه من الجب كان سبباً لحصوله في العبودية والرق وخروجه من السجن كان سبباً لوصوله إلى الملك وقيل إن دخوله الجب كان لحسد إخوته ودخوله السجن كان لزوال التهمة عنه وكان ذلك من أعظم نعمه عليه { وجاء بكم من البدو } يعني من البادية وأصل البدو والبسيط من الأرض يبدو الشخص فيه من بعد يعني يظهر والبدو خلاف الحضر والبادية خلاف الحاضرة وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية فسكنوا البادية { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } يعني أفسد ما بيننا بسبب الحسد وأصل النزغ دخول في أمر لإفساده واستدل بهذه الآية من يرى بطلان الجبر من المبتدعة قالوا لأن يوسف أضاف الإحسان إلى الله وأضاف النزغ إلى الشيطان ولو كان من فعل الله لوجب أن ينسب إليه كما في الإحسان والنعم ، والجواب عن هذا الاستدلال أن إسناد الفعل إلى الشيطان وإضافته إليه على سبيل المجاز وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي إضافة الفعل إلى الشيطان لا على الحقيقة لأن الفاعل المطلق المختار هو الله تعالى في الحقيقة(4/57)
{ قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } فثبت بذلك أن الكل من عند الله وبقضائه وقدره ليس للشيطان فيه مدخل إلا بإلقاء الوسوة والتحريش لإفساد ذات البين وذلك بإقدار الله إياه على ذلك { إن ربي لطيف لما يشاء } يعني أنه تعالى ذو لطف عالم بدقائق الأمور وخفياتها .
قال صاحب المفردات : وقد يعب باللطف عما تدركه الحاسة ويصح أن يكون وصف الله تعالى به على هذا الوجه وأن يكون لمعرفه بدقائق الأمور وأن يكون لرفقه بالعباد في هدايتهم ، وقوله : إن ربي لطيف لما يشاء ، أي حسن الاستخراج تنبيهاً على ما أوصل إلى يوسف حين ألقاه إخوته في الجب .
وقيل إن اجتماع يوسف بأبيه وإخوته بعد طول الفرقة وحسد إخوته له وإزالة ذلك مع طيب الأنفس وشدة المحبة كان من لطف الله بهم حيث جعل ذلك كله لأن الله تعالى إذا أراد أمراً هيأ أسبابه { إنه هو العليم } يعني بمصالح عباده { الحكيم } في جميع أفعاله .
قال أصحاب الأخبار والتواريخ : إن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام عنه يوسف بمصر أربعاً وعشرين سنة في أهنأ عيش وأنعم بال وأحسن حال فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند قبر أبيه إسحاق في الأرض المقدسة بالشام فلما مات يعقوب عليه السلام بمصر فعل يوسف ما أمره به أبوه فحمل جسده في تابوت من ساج حتى قدم به الشام فوافق ذلك موت العيص أخي يعقوب وكانا قد ولدا في بطن واحد فدفنا في قبر واحد وكان عمرهما مائة وسبعاً وأربعين سنة فلما دفن يوسف أباه وعمه رجع إلى مصر .
قالوا لما جمع الله شمل يوسف عليه الصلاة والسلام بأبيه وإخوته علم أن نعيم الدنيا زائل سريع الفناء لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة والخاتمة الصالحة .(4/58)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
{ رب } أي يا رب { قد آتيتني من الملك } يعني من ملك مصر ومن هنا للتبعيض لأنه لم يؤت ملك مصر كله بل كان فوقه ملك آخر والملك عبارة عن الاتساع في المقدور لمن له السياسة والتدبير { وعلمتني من تأويل الأحاديث } يعني تعبير الرؤيا { فاطر السموات والأرض } يعني خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق .
وأصل الفطر الشق يقال فطر ناب البعير إذا شق وظهر وفطر الله الخلق أوجده وأبدعه { أنت وليي } يعني معيني ومتولي أمري { في الدنيا والآخرة توفني مسلماً } أي اقبضني إليك مسلماً .
واختلفوا هل هو طلب للوفاة في الحال أم لا على قولين :
أحدهما : أنه سأل الله الوفاة في الحال ، قال قتادة : لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف قال أصحاب هذا القول وإنه لم يأت عليه أسبوع حتى توفي .
والقول الثاني : أنه سأل الوفاة على الإسلام ولم يتمن الموت في الحال قال الحسن إنه عاش بعد هذه سنين كثيرة فعلى هذا القول يكون معنى الآية توفني إذا توفتني على الإسلام فهو طلب لأن يجعل الله وفاته على الإسلام وليس في اللفظ ما يدل على أنه طلب الوفاة في الحال ، قال بعض العلماء وكلا القولين محتمل لأن اللفظ صالح للأمرين ولا يبعد من الرجل العاقل الكامل أن يتمنى الموت لعلمه أن الدنيا ولذاتها فانية زائلة سريعة الذهاب وأن نعيم الآخرة باق دائم لا نفاذ له ولا زوال ولا يمنع من هذا قوله صلى الله عليه وسلم « لا يتمن أحدكم الموت لضر نزل به » فإن تمني الموت عند وجود الضر ونزول البلاء مكروه والصبر عليه أولى وقوله : { وألحقني بالصالحين } أراد به بدرجة آبائه وهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام قال علماء التاريخ عاش يوسف مائة وعشرين سنة وفي التوارة مائة وعشر سنين وولد ليوسف من امرأة العزيز ثلاثة أولاد أفراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوب وقيل عاش بعد أبيه ستين سنة وقيل أكثر .
ولما مات يوسف عليه الصلاة والسلام دفنوه في النيل في صندوق من رخام وقيل من حجارة المرمر وذلك أنه لما مات يوسف تشاحن الناس فيه فطلب كل أهل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته حتى هموا أن يقتتلوا ثم رأوا أن يدفنوه في النيل بحيث يجري الماء عليه ويتفرق عنه وتصل بركته إلى جميعهم وقال عكرمة إنه دفن في الجانب الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر فنقل إلى الجانب الإيسر فأخصب وأجدب الجانب الأيمن فدفنوه في وسط النيل وقدروه بسلسلة فأخصب الجانبان فبقي إلى أن أخرجه موسى عليه الصلاة والسلام وحمله معه حتى دفنه بقرب آبائه بالشام في الأرض المقدسة .(4/59)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
قوله عز جل : { ذلك } يعني الذي ذكرت لك يا محمد من قصة يوسف وما جرى له مع إخوته ، ثم إنه صار إلى الملك بعد الرق { من أنباء الغيب } يعني أخبار الغيب { نوحيه إليك } يعني الذي أخبرناك به من أخبار يوسف وحي أوحيناه إليك يا محمد وفي هذه الآية دليل قاطع على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان رجلاً أمياً لم يقرأ الكتب ولم يلق العلماء ولم يسافر إلى بلد آخر غير بلده الذي أنشأ فيه صلى الله عليه وسلم وأنه نشأ بين أمة أمية مثله ، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى بهذه القصة الطويلة على أحسن ترتيب وأبين معان وأفصح عبارة فلعم بذلك أن الذي أتى به هو وحي إلهي ونور قدسي سماوي فهو معجزة له قائمة إلى آخر الدهر .
وقوله تعالى : { وما كنت لديهم } يعني وما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب { إذا أجمعوا أمرهم } يعني حين عزموا على إلقاء يوسف صلى الله عليه وسلم في الجب { وهم يمكرون } يعني بيوسف { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى وما أكثر الناس يا محمد لو حرصت على إيمانهم بمؤمنين وذلك أن اليهود وقريشاً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فلما أخبرهم بها على وفق ما عندهم في التوراة لم يسلموا فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فقيل له إنهم لا يؤمنون ولو حرصت على إيمانهم ففيه تسلية له { وما تسألهم عليه من أجر } يعني على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله من أجر يعني أجراً وجعلا على ذلك { إن هو } أي ما هو يعني القرآن { إلا ذكر } يعني عظة وتذكيراً { للعالمين وكأين من آية } يعني وكم من آية دالة على التوحيد { في السموات والأرض يمرون عليها } يعني لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها { وهم عنها معرضون } أي لا يلتفتون إليها والمعنى ليس إعراضهم عن هذه الآيات الظاهرة الدالة على وحدانية الله تعالى بأعجب من إعراضهم عنك يا محمد { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } يعني أن من إيمانهم أنهم إذا سئلوا من خلق السموات والأرض قالوا الله وإذا قيل لهم من ينزل المطر قالوا الله وهم مع ذلك يعبدون الأصنام .
وفي رواية عن ابن عباس : إنهم يقرون أن الله خالقهم فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره فذلك شركهم ، وفي رواية أخرى عنه أيضاً أنها نزلت في تلبية مشركي العرب وذلك أنهم كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ، وقال عطاء هذا في الدعاء وذلك أن الكفار نسوا ربهم في الرخاء فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء .(4/60)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
{ أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله } يعني عقوبة مجللة تعمهم وقال مجاهد عذاب غشاهم ، وقال قتادة : وقيعة وقال الضحاك يعني الصواعق والقوارع { أو تأتيهم الساعة بغتة } يعني فجأة { وهم لا يشعرون } يعني بقيامها قال ابن عباس : تهيج الصحية بالناس وهم في أسواقهم { قل } أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين { هذه سبيلي } يعني طريقي التي { أدعو } إليها وهي توحيد الله عز وجل ودين الإسلام وسمي الدين سبيلاً لأنه الطريق المؤدي إلى الله عز وجل وإلى الثواب والجنة { إلى الله } يعني إلى توحيد الله والإيمان به { على بصيرة } يعني على يقين ومعرفة والبصيرة هي المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل { أنا ومن اتبعني } يعني من آمن بي وصدق بما جئت به أيضاً يدعو إلى الله ، وهذا قول الكلبي وابن زيد قال : حق على من اتبعه وآمن به أن يدعو إلى ما دعا إليه ويذكر بالقرآن وقيل تم الكلام عند قوله أدعو إلى الله ثم استأنف على بصيرة أنا ومن اتبعني بعدي أنا على بصيرة ومن اتبعني أيضاً على بصيرة قال ابن عباس إن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا على أحسن طريقة وأفضل هداية وهم معدن العلم وكنز الإيمان وجند الرحمن .
وقال ابن مسعود : ومن كان مستناً فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة وأبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً قوم اختارهم الله لصحبة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطريقهم فهؤلاء كانوا على الصراط المستقيم .
وقوله { سبحان الله } أي وقل سبحان الله يعني تنزيهاً له عما لا يليق بجلاله من جميع العيوب والنقائص والشركاء الأضداد والأنداد { وما أنا من المشركين } يعني وقل يا محمد وما أنا من المشركين الذي أشركوا بالله غيره .
قوله عز وجل : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً } يعني وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالاً مثلك ولم يكونوا ملائكة { نوحي إليهم } هذا جواب لأهل مكة حيث قالوا هلا بعث الله ملكاً والمعنى كيف تعجبوا من إرسالنا إياك يا محمد وسائرالرسل الذين كانوا من قبلك بشر مثلك حالهم كحالك { ومن أهل القرى } يعني من أهل الأمصار والمدن لا من أهل البوادي لأن أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل عقلاً من أهل البوادي ، قال الحسن : لم يبعث نبي من بدو ولا من الجن ولا من النساء ، وقيل : إنما لم يبعث الله نبياً من البادية لغلظهم وجفائهم { أفلم يسيروا في الأرض } يعني هؤلاء المشركين المكذبين { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } يعني كانت عاقبتهم الهلاك لما كذبوا رسلنا فليعتبر هؤلاء بهم وما حل بهم من عذابنا { ولدار الآخرة خير للذين اتقوا } يعني فعلنا هذا بأوليائنا وأهل طاعتنا إذ أنجيناهم عند نزول العذاب بالأمم المكذبة وما في الدار الآخرة خير لهم يعني الجنة لأنها خير من الدنيا وإنماً أضاف الدار إلى الآخرة وإن كانت في الآخرة لأن العرب تضيف الشيء إلى نفسه كقولهم حق اليقين والحق هو اليقين نفسه { أفلا تعقلون } يعني يتفكرون ويعتبرون بهم فيؤمنون .(4/61)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
قوله عز وجل : { حتى إذا استيأس الرسل } قال صاحب الكشاف : حتى متعلقة بمحذوف دلَّ عليه الكلام كأنه قيل وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فتراخى نصرهم حتى إذا استيأس الرسل عن النصر ، وقال الواحدي : حتى هنا حرف من حروف الابتداء يستأنف بعدها والمعنى حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم { وظنوا أنهم قد كذبوا } قرأ أهل الكوفة وهم عاصم وحمزة والكسائي كذبوا بالتخفيف ووجه هذه القراءة على ما قاله الواحدي أن معناه ظن الأمم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم وهذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد ، وقال أهل المعاني كذبوا من قولهم كذبتك الحديث أي لم أصدقك ومنه قوله تعالى وقعد الذين كذبوا الله ورسوله قال أبو علي والضمير في قوله وظنوا على هذه القراءة للمرسل إليهم والتقدير وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم إهلاك أعدائهم وهذا معنى قول ابن عباس إنهم لم يؤمنوا حتى نزل بهم العذاب وإنما ظنوا ذلك لما شاهدوا من امهال الله إياهم ولا يمتنع حمل الضمير في ظنوا على المرسل إليهم وإن لم يتقدم لهم ذكر لأن ذكر الرسل يدل على ذكر المرسل إليهم وإن شئت قلت إن ذكرهم جرى في قوله أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم أي مكذبي الرسل والظن هنا على معنى التوهم والحسبان وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم الإجابة وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا من نصرهم وإهلاك من كذبهم وقيل معناه وتيقين الرسل أنهم قد كذبوا في وعد قومهم إياهم الإيمان أي وعدوا أن يؤمنوا ثم لم يؤمنوا وقال صاحب الكشاف وظنوا أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حتى حدثتهم بأنهم لا ينصرون أو رجاؤهم كقولهم رجاء صادق ورجاء كاذب والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة وانتظار النصر من الله تعالى وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب ، وعن ابن عباس : وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله به من النصر قال وكانوا بشراً وتلا قوله وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله . قال صاحب الكشاف : فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه الطبيعة البشرية وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل الله الذي هم أعرف الناس بربهم وأنه متعال عن خلق الميعاد وحكى الواحدي عن ابن الأنباري أنه قال هذا غير معول عليه من جهتين إحداهما أن التفسير ليس عن ابن عباس لكنه من متأول تأول عليه والأخرى أن قوله جاءهم نصرنا دال على أن أهل الكفر ظنوا ما لا يجوز مثله واستضعفوا رسل الله ونصر الله للرسل ولو كان الظن للرسل كان ذلك منهم خطأ عظيماً ولا يستحقون ظفراً ولا نصراً وتبرئة الأنبياء وتطهيرهم واجب علينا إذا وجدنا إلى ذلك سبيلاً وقرأ الباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وظنوا أنهم قد كذبو بالتشديد ووجه ظاهر وهو أن معناه حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنوا يعني وأيقنوا يعني الرسل أن المم قد كذبوهم تكذيباً لا يرجى بعده إيمانهم فالظن بمعنى اليقين وهذا معنى قول قتادة وقال بعضهم معناه حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم أن يصدقوهم وظنوا أن من قد آمن بهم من قومهم قد فارقوهم وارتدوا عن دينهم لشدة المحنة والبلاء واستبطؤوا النصر أتاهم النصر وعلى هذا القول الظن بمعنى الحسبان والتكذيب مظنون من جهة من آمن بهم يعني وظنوا بالرسل ظن حسبان أن ربهم قد كذبهم في وعد الظفر والنصر لإبطائه وتأخره عنهم ولطول البلاء بهم لا أنهم كذبوهم في كونهم رسلاً وقيل إن هذا التكذيب لم يحصل من أتباعهم المؤمنين لأنه لو حصل لكان نوع كفر ولكن الرسل ظنت بهم ذلك لبطء النصر وعلى هذا القول الظن بمعنى اليقين والتكذيب المتيقن هو من جهة الكفار وعلى القولين جميعاً فالكناية في وظنوا للرسل ( خ ) عن عروة بن الزبير : أنه سأل عائشة عن قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أو كذبوا ، قالت : بل كذبهم قومهم فقلت والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم وما هو بالظن فقالت يا عروة أجل لقد استيقنوا بذلك فقلت لعلها قد كذبوا فقالت : معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك من ربهم قلت فما هذه الآية قالت هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أن أتباعهم كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك .(4/62)
وفي رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة قال : قال ابن عباس حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا خفيفة قال ذهب لها هنالك وتلا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب قال فلقيت عروة بن الزبير وذكرت ذلك له فقال قالت عائشة معاذ الله والله ما وعد الله ورسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون معهم من قومهم من يكذبوهم فكانت تقرؤها وظنوا أنهم قد كذبوا مثقلة .(4/63)
وقوله تعالى : { جاءهم نصرنا } يعني جاء نصر الله النبيين { فنجي من نشاء } من عبادنا يعني عند نزول العذاب بالكافرين فننجي المؤمنين المطيعين { ولا يرد بأسنا } يعني عذابنا { عن القوم المجرمين } يعني المشركين قوله تعالى : { لقد كان في قصصهم } يعني في خبر يوسف وإخوته { عبرة } أي موعظة { لأولي الألباب } يعني يتعظ بها أولو الألباب والعقول الصحيحة ومعناه الاعتبار والعبرة الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد والمراد من التأمل والتفكر ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه وإخراجه من السجن وتمليكه مصر بعد العبودية وجمع شملة بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة واليأس من الاجتماع لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته وإظهار دينه وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب فكانت معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : إن الله تعالى قال في أول هذه السورة نحن نقص عليك أحسن القصص وقال في آخرها لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب فدل على هذه القصة من أحسن القصص وإن فيها عبرة لمن اعتبرها { ما كان حديثاً يفترى } يعني ما كان هذا القرآن حديثاً يفتري ويختلق لأن الذي جاء به من عند الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يصح منه أن يفتريه أو يختلقه لأنه لم يقرأ الكتب ولم يخلط العلماء ثم إنه جاء بهذا القرآن المعجز فدل ذلك على صدقه وأنه ليس بمفتر { ولكن تصديق الذي بين يديه } يعني ولكن كان تصديق الذي بين يديه من الكتب الإلهية المنزلة من السماء من التوراة والإنجيل وفيه إشارة إلى أن هذه القصة وردت على وجه الموافق لما في التوراة من ذكر قصة يوسف { وتفصيل كل شيء } يعني أن هذا القرآن المنزل عليك يا محمد تفصيل كل شيء تحتاج إليه من الحلال والحرام والحدود والأحكام والقصص والمواعظ والأمثال وغير ذلك مما يحتاج إليه العباد في أمر دينهم ودنياهم { وهدى } يعني إلى كل خير { ورحمة } يعني أنزلناه رحمة { لقوم يؤمنون } لأنهم هم الذين ينتفعون به والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .(4/64)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
قوله عز و جل { آلمر } قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه أنا الله أعلم وأرى . وروى عطاء عنه أنه قال : إن معناه أنا الله الملك الرحمن { تلك آيات الكتاب } الإشارة بتلك الى آيات السورة المسماة بالمر ، والمراد بالكتاب السورة أي آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها ثم قال تعالى : { والذي أنزل إليك من ربك الحق } يعني من القرآن كله هو الحق الذي لا مزيد عليه ، وقيل المراد بالإشارة في قوله : تلك الأخبار والقصص أي الأخبار والقصص التي قصصتها عليك يا محمد هي آيات التوراة والإنجيل والكتب الإلهية القديمة المنزلة ، والذي أنزل إليك يعني وهذا القرآن الذي أنزل إليك يا محمد من ربك الحق أي هو الحق فاعتصم به وقال ابن عباس وقتادة : أراد بآيات الكتاب القرآن ، والمعنى : هذه آيات الكتاب الذي هو القرآن ثم قال : والذي أنزل إليك من ربك الحق يعني : وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق لا شك فيه ولا تناقض { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } يعني مشركي مكة نزلت هذه الآية في الرد عليهم حين قالوا إن محمداً يقوله من تلقاء نفسه ، ثم ذكر من دلائل ربوبيته وعجائب قدرته ما يدل على وحدانيته فقال تعالى : { الله الذي رفع السماوات بغير عمد } جمع عمود وهي الأساطين والدعائم التي تكون تحت السقف وفي قوله : { ترونها } قولان أحدهما أن الرؤية ترجع إلى السماء يعني : وأنتم ترون السماوات مرفوعة بغير عمد من تحتها يعني ليس من دونهما دعامة تدعمها ولا من فوقها علاقة تمسكها ، والمراد نفي العمد بالكلية . قال إياس بن معاوية : السماء مقبية على الأرض مثل القبة ، وهذا قول الحسن وقتادة و جمهور المفسرين ، وإحدى الروايتين عن ابن عباس . و القول الثاني : إن الرؤية ترجع الى العمد ، والمعنى أن لها عمداً ولكن لا ترونها أنتم ، ومن قال بهذا القول يقول : إن عمدها على جبل قاف ، وهو جبل من زمرد محيط بالدنيا ، والسماء عليه مثل القبة ، وهذا قول مجاهد وعكرمة والرواية الأخرى عن ابن عباس ، والقول الأول أصح ، وقوله تعالى { ثم استوى على العرش } تقدم تفسيره والكلام عليه في سورة الأعراف بما فيه كفاية { وسخر الشمس والقمر } يعني ذللهما لمنافع خلقه فهما مقهوران ، يجريان على ما يريد { كلُّ يجري لأجل مسمى } يعني إلى وقت معلوم ، وهو وقت فناء الدنيا وزوالها . و قال ابن عباس : أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما يعني أنهما يجريان في منازلهما ودرجاتهما الى غاية ينتهيان إليها ولا يجاوزانها ، وتحقيقه أن الله تعالى جعل لكل واحد من الشمس والقمر سيراً خاصاً إلى جهة بمقدار خاص من السرعة والبطء في الحركة ، { يدبر الأمر } يعني أنه تعالى يدبر أمر العالم العلوي و السفلي ، ويصرفه ويقضيه بمشيئته ، وحكمته ، على أكمل الأحوال لا يشغله شأن عن شأن ، وقيل : يدبر الأمر بالإيجاد والإعدام والإحياء و الإماتة ، ففيه دليل على كمال القدرة والرحمة ، لأن جميع العالم محتاجون إلى تدبيره ورحمته ، داخلون تحت قهره وقضائه وقدرته { يفصل الآيات } يعني أنه تعالى يبين الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته ، وقيل : إن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان : الأول : الموجودات المشاهدة ، وهي خلق السماوات والأرض وما فيهما من العجائب وأحوال الشمس والقمر وسائر النجوم وهذا قد تقدم ذكره .(4/65)
والقسم الثاني : الموجودات الحادثة في العالم ، وهي الموت بعد الحياة والفقر بعد الغنى والضعف بعد القوة إلى غير ذلك من أحوال هذا العالم ، وكل ذلك مما يدل على وجود الصانع و كمال قدرته { لعلكم بلقاء ربكم توقنون } يعني أنه تعالى يبين الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته لكي توقنوا ، وتصدقوا بلقائه والمصير إليه بعد الموت لأن من قدر على إيجاد الإنسان بعد عدمه قادر على إيجاده وإحيائه بعد موته ، واليقين صفة من صفات العلم ، وهو فوق المعرفة والدراية وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك ، يقال منه استيقن وأيقن بمعنى علم .(4/66)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
قوله تعالى : { وهو الذي مد الأرض } لما ذكر الدلالة على وحدانيته و كمال قدرته وهي رفع السمأوات بغير عمد ، وذكر أحوال الشمس والقمر أردفها بذكر الدلائل الأرضية ، فقال : وهو الذي مد الأرض أي بسطها على وجه الماء ، وقيل : كانت الأرض مجتمعة فمدها من تحت البيت الحرام ، وهذا القول إنما يصح إذا قيل إن الأرض منسطحة كالأكف ، وعند أصحاب الهيئة : الأرض كرة ، ويمكن أن يقال : إن الكرة إذا كانت كبيرة عظيمة فإن كل قطعة منها تشاهد ممدودة كالسطح الكبير العظيم ، فحصل الجمع ومع ذلك فالله تعالى قد أخبر أنه مد الأرض ، وأنه دحاها وبسطها وكل ذلك يدل على التسطيح والله تعالى أصدق قيلاً وأبين دليلاً من أصحاب الهيئة { وجعل فيها } . يعني في الأرض { رواسي } يعني جبالاً ثابتة ، يقال : رسا الشيء يرسو إذا ثبت وأرساه غير أثبته قال ابن عباس : كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض { وأنهاراً } ، يعني وجعل في الأرض أنهاراً جارية لمنافع الخلق { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } يعني صنفين اثنين أحمر وأصفر وحلواً وحامضاً { يغشي الليل النهار } ، يعني يلبس النهار ظلمة الليل ويلبس الليل ضوء النهار { إن في ذلك } يعني الذي تقدم ذكره من عجائب صنعته وغرائب قدرته الدالة على وحدانيته { لآيات } أي دلالات { لقوم يتفكرون } يعني فيستدلون بالصنعة على الصانع ، وبالسبب على المسبب ، والفكر هو تصرف القلب في طلب الأشياء ، وقال صاحب المفردات : الفكر قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم ، والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل ، وذلك للإنسان دون الحيوان ، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روي « تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله » إذ كان الله منزلها أن يوصف بصورة . و قال بعض الأدباء : الفكر مقلوب عن الفرك لأنه يستعمل في طلب المعاني ، وهو فرك الأمور وبحثها طلباً للوصول الى حقيقتها . قوله عز وجل { وفي الأرض قطع متجاورات } يعني متقاربات بعضها من بعض ، وهي مختلفة في الطبائع فهذه طيبة تنبت وهذه سبخة لا تنبت ، وهذه قليلة الريع وهذه كثيرة الريع { وجنات } يعني متقاربات بعضها من بعض ، وهي مختلفة في الطبائع فهذه طيبة تنبت وهذه سبخة لا تنبت ، وهذه قليلة الريع وهذه كثيرة الريع { وجنات } يعني بساتين والجنة كل بستان ذي شجر من نخيل وأعناب وغير ذلك ، سمي جنة لأنه يستر بأشجاره الأرض وإليه الإشارة بقوله { من أعناب وزرع ونخيل صنوان } جمع صنو وهي النخلات يجتمعن من أصل واحد ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس « عم الرجل صنو أبيه » يعني أنهما من أصل واحد { وغير صنوان } هي النخلة المنفردة بأصلها فالصنوان المجتمع ، وغير الصنوان المتفرق { يسقى بماء واحد } يعني أشجار الجنات وزروعها ، والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام ، وقيل : في حده جوهر سيال به قوام الأرواح؛ { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } يعني في الطعم ما بين الحلو والحامض والعفص وغير ذلك من الطعام .(4/67)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم « في قوله تعالى : { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } قال : الدقل والنرسيان والحلو والحامض » أخرجه الترمذي ، وقال : حديث حسن غريب . قال مجاهد : هذا كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد ، وقال الحسن : هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن فسطحها فصارت قطعاً متجاورات ، وأنزل على وجهها ماء السماء فتخرج هذه زهرتها وثمرتها وشجرها ، وتخرج هذه نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها وكل يسقى بماء واحد فلو كان الماء قليلاً . قيل : إنما هذا من قبل الماء كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم فتخشع وتخضع وتقسو قلوب قوم فتلهو ، ولا تسمع . وقال الحسن : والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزياده أو نقصان قال الله تعالى { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } وقوله تعالى { إن في ذلك } يعني الذي ذكر { لآيات لقوم يعقلون } يعني فيتدبرون ويتفكرون في الآيات الدالة على وحدانيته . قوله تعالى { وإن تعجب فعجب قولهم } العجب تبعيد النفس رؤية المستبعد في العادة ، وقيل : العجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب ولهذا قال بعض الحكماء : العجب ما لا يعرف سببه ولهذا قيل : العجب في حق الله محال لأنه تعالى علاّم الغيوب لا تخفى عليه خافية ، والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه وإنك يا محمد إن تعجب من تكذيبهم إياك بعد أن كنت عندهم تعرف بالصادق الأمين فعجب أمرهم ، وقيل : معناه وإن تعجب من اتخاذ المشركين ما لا يضرهم ولا ينفعهم آلهة يعبدونها مع إقرارهم بأن الله تعالى خالق السماوات والأرض ، وهو يضر وينفع وقد رأوا من قدرة الله وما ضرب لهم به الأمثال ما رأوا فعجب قولهم . وقيل وإنك إن تعجب من إنكارهم النشأة الآخرة والبعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من الله فعجب قولهم وذلك أن المشركين كانوا ينكرون البعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من الله وقد تقرر في النفوس أن الإعادة أهون من الابتداء فهذا موضع التعجب وهو قولهم { أئذا كنا تراباً } يعني بعد الموت { أئنا لفي خلق جديد } يعني نعاد خلقاً جديداً بعد الموت كما كنا قبله ثم إن الله تعالى قال في حقهم { أولئك الذين كفروا بربهم } وفيه دليل على أن كل من أنكر البعث بعد الموت فهو كافر بالله تعالى ، لأن من أنكر البعث بعد الموت فقد أنكر القدرة وأن الله على كل شيء قدير ، ومن أنكر ذلك فهو كافر { وأولئك الأغلال في أعناقهم } يعني يوم القيامة ، والأغلال جمع غل وهو طوق من حديد يُجعل في العنق .(4/68)
وقيل أراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير ذليلاً بالغل { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } يعني أنهم مقيمون فيها ولا يخرجون منها ولا يموتون . { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة } الاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته ، والمراد بالسيئة هنا هي العقوبة وبالحسنة العافية ، وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلاً من العافية استهزاء منهم ، وهو قولهم { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } { وقد خلت من قبلهم المثلات } يعني وقد مضت في الأمم المكذبة العقوبات بسبب تكذيبهم رسلهم ، والمثلة بفتح الميم وضم الثاء المثلثة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثلاً ليرتدع غيره به ، وذلك كالنكال وجمعه مثلات بفتح الميم وضمها مع ضم الثاء فيهما لغتان { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } قال ابن عباس : معناه إنه لذو تجاوزٍ عن المشركين إذا آمنوا { وإن ربك لشديد العقاب } يعني للمصرين على الشرك الذي ماتوا عليه . وقال مجاهد : إنه لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب عنهم ، وإنه لشديد العقاب إذا عاقب . قوله تعالى { ويقول الذين كفروا } يعني من أهل مكة { لولا } أي هلاّ { أنزل عليه } يعني على محمد صلى الله عليه وسلم { آية من ربه } يعني مثل عصى موسى وناقة صالح ذلك لأنهم لم يقنعوا بما رأوا من الآيات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم { إنما أنت منذر } أي ليس عليك يا محمد غير الإنذار والتخويف ، وليس لك من الآيات شيء { ولكل قوم هاد } قال ابن عباس : الهادي هو الله ، وهذا قول سعيد ابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك والنخعي ، والمعنى إنما عليك الإنذار يا محمد والهادي هو الله يهدي من يشاء . وقال عكرمة في رواية عنه وأبو الضحى : الهادي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم المعنى : إنما أنت منذر وأنت هاد ، وقال الحسن وقتادة وابن زيد : يعني ولكل قوم نبي يهديهم وقال أبو العالية : الهادي هو العمل الصالح . وقال أبو صالح : الهادي هو القائد إلى الخير لا إلى الشر .(4/69)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
قوله عز وجل : { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات أخبرهم الله عز وجل عن عظيم قدرته ، وكمال علمه وأنه عالم بما تحمل كل أنثى يعني من ذكر أو أنثى سويّ الخلق أو ناقص الخلق واحداً أو اثنين أو كثر { وما تغيض } يعني وما تنقص { الأرحام وما تزداد } قال أهل التفسير : غيض الأرحام الحيض على الحمل فإذا حاضت الحامل كان ذلك نقصاناً في الولد لأن دم الحيض هو غذاء الولد في الرحم ، فإذا خرج الدم نقص الغذاء فينقص الولد ، واذا لم تحض يزداد الولد ويتم فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم ، والزيادة تمام خلقه باستمساك الدم ، وقيل : إذا حاضت المرأة في وقت حملها ينقص الغذاء وتزداد مدة الحمل حتى تستكمل تسعة أشهر طاهرة فإن رأت خمسة أيام دماً ، وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام فالنقصان في الغذاء زيادة في مدة الحمل . وقيل : النقصان السقط والزيادة تمام الخلق . وقال الحسن : غيضها نقصانها من تسعة اشهر والزيادة زيادتها على تسعة اشهر فأقل مدة الحمل ستة أشهر وقد يولد لهذه المدة ويعيش . واختلفوا في أكثره فقال قوم : أكثر مدة الحمل سنتان ، وهو قول عائشة ، وبه قال أبو حنيفة وقيل : إن الضحاك ملد لسنتين . وقال جماعة : أكثرها أربع سنين وإليه ذهب الشافعي . وقال حماد بن أبي سلمة : إنما سمي هرم بن حيان هرماً لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين ، وعند مالك أن أكثر مدة الحمل خمس سنين { وكل شيء عنده بمقدار } يعني بتقدير واحد لا يجاوزه ، ولا ينقص منه . وقيل : إنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على أكمل الوجوه . وقيل : معناه إنه تعالى خصص كل حادثة من الحوادث بوقت معين وحالة معينة وذلك بمشيئته الأزلية وإرادته وتقديره الذي لا يقدر عليه غيره { عالم الغيب والشهادة } يعني أنه تعالى يعلم ما غاب عن خلقه ، وما يشاهدونه . وقيل : الغيب هو المعدوم والشاهد هو الموجود . وقيل : الغيب ما غاب عن الحس والشاهد ما حضر في الحس { الكبير } أي العظيم الذي يصغر كل كبير بالإضافة إلى عظمته وكبريائه فهو يعود إلى معنى كبر قدرته ، وأنه تعالى المستحق لصفات الكمال { المتعال } يعني المنزه عن صفات النقص المتعالي عن الخلق ، وفيه دليل على أنه تعالى موصوف بالعلم الكامل والقدرة التامة وتنزيهه عن جميع النقائص . قوله تعالى { سواء منكم من أسرَّ القول ومن جهر به } أي مستو منكم من أخفى القول وكتمه ومن أظهره وأعلنه ، والمعنى أنه قد استوى في علم الله تعالى المسرّ بالقول والجاهر به { ومن هو مستخف بالليل } أي مستتر بظلمته { وسارب بالنهار } أي ذاهب بالنهار في سربه ظاهر .(4/70)
والسرب بفتح السين وسكون الراء الطريق . وقال القتيبي : السارب المتصرف في حوائجه . قال ابن عباس في هذه الآية : هو صاحب ريبة مستخف بالليل ، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم . وقيل : مستخف بالليل ظاهر من قولهم خفيت الشيء إذا أظهرته ، وأخفيته إذا كتمته وسارب بالنهار أي متوارٍ دخل في السرب مستخفياً ، ومعنى الآية : سواء ما أضمرت به القلوب أو نطقت به الألسن ، وسواء من أقدم على القبائح مستتراً في ظلمات الليل أو أتى بها ظاهراً في النهار فان علمه تعالى محيط بالكل { له معقبات } يعني : لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار ، فإذا صعدت ملائكة الليل عقبتها ملائكة النهار والتعقيب العود بعد البدء وإنما ذكر معقبات بلفظ التأنيث ، وإن كان الملائكة ذكوراً لأن واحدها معقب ، وجمعها معقبة ثم جمع المعقبة معقبات . كما قيل أبناوات سعد ورجالات بكر ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يتعقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر ، وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ، وهو أعلم بهم ، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون . وقيل : إن مع كل واحد من بني آدم ملكين ملك عن يمينه ، وهو صاحب الحسنات وملك عن شمال وهو كاتب السيئات وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل العبد حسنة كتبها له بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيئة قال صاحب الشمال لصاحب اليمين أكتبها عليه فيقول : انظره لعله يتوب أو يستغفر فيستأذنه ثلاث مرات ، فإن هو تاب منها وإلا قال : اكتبها عليه سيئة واحدة وملك موكل بناصية العبد فإذا تواضع العبد لله عز وجل رفعه بها ، وإن تجبر على الله عز وجل وضعه بها وملك موكل بعينيه يحفظهما من الأذى وملك موكل بفيه لا يدعه يدخل فيه شيء من الهوام يؤذيه فهؤلاء خمسة أملاك موكلون بالعبد في ليله وخمسة غيرهم في نهاره ، فانظر إلى عظمة الله تعالى وقدرته وكمال شفقته عليك أيها العبد المسكين » وهو قوله تعالى { من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } يعني : يحفظون العبد من بين يديه ومن وراء ظهره ، ومعنى من أمر الله بأمر الله وإذنه ما لم يجىء القدر فإذا جاء خلوا عنه . وقيل : معناه إنهم يحفظونه ، بما أمر الله به من الحفظ له . قال مجاهد : ما من عبد إلا وملك موكل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما من شيء يأتيه يؤذيه إلا قال له الملك وراءك ، إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه . وقال كعب الأحبار : لولا أن الله تعالى وكلَّ بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن .(4/71)
وقال ابن جريج : معنى يحفظونه أي يحفظون عليه الحسنات والسيئات ، وهذا على قول من يقول : إن الآية في الملكين القاعدين عن اليمين وعن الشمال يكتبان الحسنات والسيئات ، وقال عكرمة : الآية في الأمراء وحرسهم يحفظونهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم والضمير في قوله له راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس في معنى هذه الآية : لمحمد صلى الله عليه وسلم حراس من الرحمن من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من شر الجن وطوارق الليل والنهار . وقال عبد الرحمن بن زيد : نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة ، وهما من بني عامر بن زيد وكانت قصتهما على ما رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس . قال : « » أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة وهما من بني عامر بن زيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في نفر من أصحابه فدخل المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر ، وكان من أجمل الناس وكان أعور فقال : يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك ، فقال : دعه فان يرد الله به خيراً يهده فأقبل حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا محمد ما لي إن أسلمت؟ قال : لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين . قال : تجعل الأمر لي بعدك؟ قال ليس ذلك لي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء . قال : فتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ قال : لا قال : فما تجعل لي؟ قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها . قال : أوليس ذلك لي اليوم قم معي أكلمك فقال معه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عامر قد أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف ، فجعل عامر يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه ودار أربد بن ربيعة من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لضربه ، فاخترط شبراً من سيفه ثم حبسه الله تعالى عليه فلم يقدر على سله ، وجعل عامر يومىء إليه فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما صنع بسيفه ، فقال : اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صحو قائظ فأحرقته فولى عامر هارباً وقال : يا محمد دعوت ربك فقتل أربد ، والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً وشباباً مرداً . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يمنعني الله من ذلك « وابنا قيلة يريد الأوس والخزرج ، فنزل عامر بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم إليه سلاحه ، فخرج له خراج في أصل أذنه أخذه منه مثل النار فاشتد عليه فقال غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية ، ثم ركب فرسه وجعل يركض في الصحراء ، ويقول : ادن يا ملك الموت وجعل يقول الشعر ، ويقول لئن أبصرت محمداً وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي فأرسل الله إليه ملكاً فلطمه ، فأرداه في التراب ثم عاد فركب جواده حتى مات على ظهره ، وأجاب الله عز وجل دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عامر بن الطفيل فمات بالطعن ، وأربد بن ربيعة مات بالصاعقة وأنزل الله عز وجل في شأن هذه القصة سواء منكم من أسر القول ، ومن جهر به إلى قوله له معقبات من بين يديه ، ومن خلفه يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ، ومن خلفه من أمر الله أي بأمر الله وقيل : إن تلك المعقبات من أمر الله ، وفيه تقديم وتأخير تقديره له معقباب من أمر الله يحفظونه من بيه يديه ومن خلفه ، وقوله { إن الله لا يغير ما بقوم } خطاب لهذين عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة ، يعني لا يغير ما بقوم من العافية والنعمة التي أنعم بها عليهم { حتى يغيروا ما بأنفسهم } يعني : من الحالة الجميلة فيعصون ربهم ، ويجحدون نعمه عليهم فعند ذلك تحل نقمته بهم ، وهو قوله تعالى { وإذا أراد الله بقوم سوءاً } يعني هلاكاً وعذاباً { فلا مرد له } يعني لا يقدر أحد أن يرد ما أنزل الله بهم من قضائه وقدره { وما لهم من دونه من وال } يعني وليس لهم من دون الله من وال يلي أمرهم ونصرهم ويمنع العذاب عنهم .(4/72)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
قوله عز وجل : { هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً } لما خوف الله عز وجل عباده بقوله : وإذا أراد الله بقوم سوءاً ذكر في هذه الآية من عظيم قدرته ما يشبه النعم من وجه يشبه العذاب من وجه ، فقال تعالى : هو الذي يعني هو الذي يريكم البرق والبرق معروف ، وهو لمعان يظهر من خلال السحاب وفي كونه خوفاً وطمعاً وجوه : الأول إن عند لمعان البرق يخاف من الصواعق ، ويطمع في نزول المطر . الثاني : أنه يخاف من البرق من يتضرر بالمطر كالمسافر ومن في جرينه يعني بيدره التمر والزبيب والقمح ونحو ذلك ، ويطمع فيه من له في نزول المطر نفع كالزارع ونحوه . الثالث : أن المطر يخاف منه إذا كان في غير مكانه وزمانه ، ويطمع فيه إذا كان في مكانه وزمانه فان من البلاد ما إذا أمطرت قحطت وإذا لم تمطر أخصبت { وينشىء السحاب الثقال } يعني المطر . يقال : انشأ الله السحابة فنشأت أي أبداها فبدت والسحاب جمع سحابة ، والسحاب غربال الماء ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وقيل : السحاب الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء . ولهذا قيل : سحاب جهام وهو الخالي من الماء وأصل السحب الجر وسمي السحاب سحاباً إما لجر الريح له أو لجره الماء أو لانجراره في سيره { ويسبح الرعد بحمده } أكثر المفسرين على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب ، والصوت المسموع منه تسبيحه . وأورد على هذا القول ما عطف عليه . وهو قوله { والملائكة من خيفته } وإذا كان المعطوف مغايراً للمعطوف عليه وجب أن يكون غيره . وأجيب عنه أنه لا يبعد أن يكون الرعد اسماً لملك من الملائكة وإنما أفرده بالذكر تشريفاً له على غيره من الملائكة ، فهو كقوله : وملائكته وجبريل وميكال . قال ابن عباس : أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله وسلم فقالوا أخبرنا عن الرعد ما هو قال : « ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوقه بها حيث يشاء الله » قالوا فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال : « زجره السحاب حتى تنتهي حيث أمرت » قالوا صدقت . أخرجه الترمذي مع زيادة فيه . المخاريق : جمع مخراق ، وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضاً ، وأراد به هنا آلة تزجر بها الملائكة السحاب . وقد جاء تفسيره في حديث آخر وهو صوت من نور تزجر الملائكة به السحاب ، قال ابن عباس : من سمع صوت الرعد فقال : سبحان من يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير . فإن أصابه صاعقة فعلي ديته ، وكان عبد الله بن الزبير إذا سمع الرعد ترك الحديث ، وقال : سبحان من يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته وكان يقول إن الوعيد لأهل الأرض شديد .(4/73)
وفي بعض الأخبار أن الله تعالى يقول : « لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولم أسمعهم صوت الرعد » وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال : الرعد ملك موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر ، وإن بحور الماء في نقرة إبهامه ، وإنه يسبح الله فإذا سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر ، وقيل : إن الرعد اسم لصوت الملك الموكل بالسحاب ، ومع ذلك فإن صوت الرعد يسبح الله عز وجل لأن التسبيح والتقديس عبارة عن تنزيه لله عز وجل عن جميع النقائص ، ووجود هذا الصوت المسموع من الرعد وحدوثه دليل على وجود موجود خالق قادر متعال عن جميع النقائص ، وإن لم يكن ذلك في الحقيقة تسبيحاً ومنه قوله : وإن من شيء إلا يسبح بحمده وقيل المراد من تسبيح الرعد أن من سمعه سبح الله فلهذا المعنى أضيف التسبح إليه ، وقوله والملائكة من خيفته يعني ويسبح الملائكة من خيفة الله عز وجل وهيبته وخشيته ، وقيل : المراد بهذه الملائكة أعوان السحاب جعل الله عز وجل مع الملك الموكل بالسحاب أعواناً من الملائكة ، وهم خائفون خاضعون طائعون . وقيل : المراد بهم جميع الملائكة وحمله على العموم أولى { ويرسل الصواعق } جمع صاعقة ، وهي العذاب النازل من البرق فيحترق من تصيبه وقيل : هي الصوت الشديد النازل من الجو ثم يكون فيه نار أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شيء واحد ، وهذه الأشياء الثلاثة تنشأ منها { فيصيب بها } يعني بالصواعق { من يشاء } يعني فيهلك بها كما أصاب أربد بن ربيعة . قال محمد الباقر : الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب الذاكر { وهم يجادلون في الله } يعني يخاصمون في الله . وقيل : المجادلة المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة ، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله نزلت في شأن أربد بن ربيعة حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم : مم ربك أمن درأم من ياقوت أم من ذهب فنزلت صاعفة من السماء فأحرقته . وسئل الحسن عن قوله : ويرسل الصواعق الآية فقال : كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه يدعونه إلى الله ، وإلى رسوله فقال لهم : أخبروني عن رب محمد هذا الذي تدعونني إليه ، هل هو من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس؟ فاستعظم القوم كلامه فانصرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ما رأينا رجلاً أكفر قلباً ولا أعتى على الله منه . فقال : ارجعوا إليه فرجعوا فلم يزدهم على مقالته الأولى شيئاً بل قال : أأجيب محمداً إلى رب لا أراه ولا أعرفه فانصرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ما زادنا على مقالته شيئاً بل أخبث .(4/74)
فقال : ارجعوا إليه فرجعوا إليه فبينما هم عنده يدعونه وينازعونه ، وهو لا يزيدهم على مقالته شيئاً إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم ، فرعدت وبرقت ورمت بصاعقة فأحرقت الكافر ، وهم جلوس عنده فرجعوا ليخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رجعوا استقبلهم نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا لهم : احترق صاحبكم قالوا : من أين علمتم ذلك؟ قالوا قد أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويرسل الصواعق فيصب بها من يشاء وهم يجادلون في الله . واختلفوا في هذه الواو ، فقيل : واو الحال فيكون المعنى فيصيب بها من يشاء في حال جداله في الله وذلك أن أربد لما جادل في الله ، أهلكه الله بالصاعقة ، وقيل : إنها واو الاستئناف فيكون المعنى أنه تعالى لما تمم ذكر الدلائل قال : بعد ذلك وهم يجادلون في الله { وهو شديد المحال } أي شديد الأخذ بالعقوبة ، من قولهم يمحل به محلاً إذا أراد به سوءاً ، وقيل : هو من قولهم يمحل به إذا سعى به إلى السلطان وعرضه للهلاك وتمحل إذا تكلف استعمال الحيلة ، واجتهد فيه فيكون المعنى أنه سبحانه وتعالى شديد المحال بأعدائه حتى يهلكهم بطريق لا يعرفونه ولا يتوقعونه . وقيل : المحل من المحول وهو الحيلة ، والميم زائدة في اختلفت عبارات المفسرين في معنى قوله شديد المحال فقال الحسن : معناه شديد النقمة . وقال مجاهد وقتادة : شديد القوة . وقال ابن عباس : شديد الحول . وقيل شديد العقوبة وقيل معناه شديد الجدال . وذلك أنه لما أخبر عنهم أنهم يجادلون في الله أخبر أنه أشد جدالاً منهم .(4/75)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
قوله تعالى : { له دعوة الحق } يعني لله دعوة الصدق ، قال على دعوة الحق التوحيد ، وقال ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله . قال صاحب الكشاف دعوة الحق فيها وجهان أحدهما أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف الكلمة إليه في قولك كلمة الحق . للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به ، وأنها بمعزل من الباطل؛ والمعنى أن الله تعالى يدعى فيستجيب الدعوة ويعطي الداعي سؤله إن كان مصلحة له فكانت دعوة ملابسة للحق لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا نفع فيه ولا جدوى فيرد دعاءه . الثاني أن تضاف إلى الحق الذي هو الله على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب ، وعن الحسن : الله هو الحق وكل دعاء إليه دعوة الحق . فإن قلت : ما وجه اتصال هذين الوصفين بما قبلهما . قلت : أما على قصة أربد فظاهر لأن إصابته بالصاعقة كانت بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه دعا عليه وعلى صاحبه عامر بن الطفيل فأجيب فيهما فكانت الدعوة دعوة حق ، وأما على قوله وهم يجادلون في الله فوعيد للكفار على مجادلتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجابة دعائه إن دعا عليهم . وقيل في معنى الآية : الدعاء بالإخلاص ، والدعاء الخالص لا يكون إلا لله تعالى { والذين يدعون من ودنه } يعني والذين يدعونهم آلهة من دون الله ، وهي الأصنام التي يعبدونها { لا يستجيبون لهم بشيء } يعني لا يجيبونهم بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضرر إن دعوهم { إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه } يعني إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه ، يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ، ولا بعطشه ولا يقدر أن يجيب دعاءه أو يبلغ فاه ، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ، ولا يقدر على نفعهم . وقيل : شبههم في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فيبسطهما ناشراً أصابعه فلم تلق كفاه منه شيئاً ، ولم يبلغ طلبته من شربه وقيل إن القابض على الماء ناشراً أصابعه لا يكون في يده منه شيء ، ولا يبلغ إلى فيه منه شيء كذلك الذي يدعو الأصنام لأنها لا تضر ولا تنفع ولا يفيده منها شيء . وقيل شبه : بالرجل العطشان الذي يرى الماء من بعيد بعينيه ، فهو يشير بكفيه إلى الماء ويدعوه بلسانه فلا يأتيه أبداً هذا معنى قول مجاهد ، وعن عطاء كالعطشان الجالس على شفير البئر وهو يمد يديه إلى البئر فلا هو يبلغ إلى قعر البئر ليخرج الماء ، ولا الماء يرتفع إليه فلا ينفعه بسطه الكف إلى الماء ودعاؤه له ، ولا هو يبلغ فاه كذلك الي يدعون الأصنام لا ينفعهم ذلك .(4/76)
وقال ابن عباس : كالعطشان إذا بسط كفيه في الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف بهما من الماء ولا يبلغ الماء فاه ما دام باسط كفيه ، وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار ودعائهم الأصنام حين لا ينفعهم البتة ثم ختم هذه بقوله { وما دعاء الكافرين } يعني أصنامهم { إلا في ضلال } يعني يضل عنهم إذا احتاجوا إليه ، قال ابن عباس في هذه الآية أصواتهم محجوبة عن الله تعالى . قوله عز وجل { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً } في معنى هذا السجود قولان : أحدهما أن المراد منه السجود على الحقيقة وهو وضع الجبهة على الأرض ، ثم على هذا القول ففي معنى الآية وجهان أحدهما أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد منه الخصوص ، فقوله : ولله يسجد من في السموات يعني الملائكة ومن في الأرض من الإنس يعني المؤمنين طوعاً وكرهاً ، يعني من المؤمنين من يسجد لله طوعاً وهم المؤمنون المخلصون لله العبادة ، وكرهاً يعني المنافقين الداخلين في المؤمنين وليسوا منهم فان سجودهم لله على كره منهم ، لأنهم لا يرجون على سجودهم ثواباً ولا يخافون على تركه عقاباً بل سجودهم وعبادتهم خوف من المؤمنين . الوجه الثاني : هو حمل اللفظ على العموم ، وعلى هذا ففي اللفظ إشكال ، وهو أن جميع الملائكة والمؤمنين من الجن والإنس يسجدون لله طوعاً ، ومنهم من يسجد كرهاً كما تقدم وأما الكفار من الجن والإنس ، فلا يسجدون لله البتة فهذا وجه الإشكال . والجواب عنه أن المعنى أنه يجب على كل من في السموات ومن في الأرض أن يسجد لله ، فعبر بالوجوب عن الوقوع والحصول . وجواب آخر وهو أن يكون المراد من هذا السجود هو الاعتراف بالعظمة والعبودية ، وكل من في السموات من ملك ومن في الأرض من إنس وجن ، فإنهم يقرون لله بالعبودية والتعظيم ويدل عليه قوله تعالى { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } والقول الثاني : في معنى هذا السجود هو الانقياد والخضوع وترك الامتناع فكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى ، وهذا الاعتبار لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل فهم خاضعون منقادون له . وقوله تعالى { وظلالهم بالغدو والآصال } الغدوة والغداة أو النهار ، وقيل : إلى نصف النهار والغدو بالضم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والآصال جمع أصل ، وهو العشية والآصال العشايا جمع عشية وهي ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس . قال المفسرون : إن ظل كل شخص يسجد لله ظل المؤمن والكافر . وقال مجاهد : ظل المؤمن يسجد لله طوعاً وهو طائع وظل الكافر يسجد لله كرهاً ، وهو كاره .(4/77)
وقال الزجاج : جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله . قال ابن الأنباري : ولا يبعد أن يخلق الله تعالى للظلال عقولاً وأفهاماً تسجد بها وتخشع كما جعل للجبال أفهاماً حتى سبحت لله مع داود ، وقيل : المراد بسجود الظلال ميلانها من جانب إلى جانب آخر ، وطولها وقصرها بسبب ارتفاع الشمس ونزولها ، وإنما خص الغدو والآصال بالذكر لأن الظلال تعظم ، وتكثر في هذين الوقتين ، وقيل : لأنهما طرفا النهار فيدخل وسطه فيما بينهما .
( فصل )
وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة ، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند قراءته واستماعه لهذه السجدة والله أعلم . قوله تعالى { قل من رب السموات والأرض } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذي يعبدون غير الله من رب السموات والأرض ، يعني من مالك السموات والأرض ، ومن مدبرهما وخالقهما فسيقولون : الله لأنهم مقرون بأن الله خالق السموات وما فيها ، والأرض ، وما فيها فإن أجابوك بذلك فقل : أنت يا محمد الله رب السموات والأرض . وقيل : لما قال هذه المقالة للمشركين عطفوا عليه وقالوا أجب أنت فأمره الله أن يجيبهم بقوله { قل الله } أي قل يا محمد { الله } وقيل : إنما جاء السؤال والجواب من جهة واحدة لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق كل شيء ، فلما لم ينكروا ذلك وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله الله فكأنهم قالوا ذلك أيضاً ثم ألزمهم الحجة على عبادتهم الأصنام بقوله { قل } أي قل يا محمد للمشركين { أفاتخذتم من دونه } يعني من دون الله { أولياء } يعني الأصنام والولي الناصر ، والمعنى توليتم غير رب السموات والأرض واتخذتموهم أنصاراً يعني الأصنام { لا يملكون } يعني وهم لا يملكون { لأنفسهم نفعاً ولا ضراً } فكيف لغيرهم . ثم ضرب الله مثلاً للمشركين الذين يعبدون الأصنام وللمؤمنين الذين يعبدون الله . فقال تعالى { قل هل يستوي الأعمى والبصير } قال ابن عباس : يعني المشرك والمؤمن { أم هل تستوي الظلمات والنور } يعني الشرك والإيمان والمعنى كما لا يستوي الأعمى والبصير كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن وكما لا تستوي الظلمات والنور كذلك لا يستوي الكفر والإيمان ، وإنما شبه الكافر بالأعمى لأن الأعمى لا يهتدي سبيلاً ، وكذلك الكافر لا يهتدي سبيلاً { أم جعلوا لله شركاء } هذا استفهام إنكار يعني جعلوا لله شركاء { خلقوا كخلقة } يعني خلقوا سموات وأرضين وشمساً وقمراً وجبالاً وبحاراً وجناً وإنساً { فتشابه الخلق عليهم } من هذا الوجه ، والمعنى هل رأوا غير الله خلق شيئاً فاشتبه عليهم خلق الله بخلق غيره ، وقيل : إنه تعالى وبخهم بقوله أم جعلوا لله شركاء خلقوا خلقاً مثل خلقه فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم ، وهذا استفهام إنكاري أي ليس الأمر كذلك حتى يشتبه عليهم الأمر ، بل إذ تفكروا بعقولهم وجدوا الله تعالى هو المنفرد بخلق سائر الأشياء والشركاء مخلوقون له أيضاً لا يخلقون شيئاً حتى يشتبه خلق الله بخلق الشركاء ، وإذا كان الأمر كذلك فقد لزمتهم الحجة ، وهو قوله تعالى { قل الله خالق كل شيء } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الله خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقاً ، وقوله الله خالق كل شيء من العموم الذي يراد به الخصوص لأن الله تعالى خلق كل شيء وهو غير مخلوق { وهو الواحد } يعني والله تعالى هو الواحد المنفرد بخلق الأشياء كلها { القهار } لعباده حتى يدخلهم تحت قضائه وقدره وإرادته .(4/78)
وقوله عز وجل : { أنزل من السماء ماء } لما شبه الله عز وجل الكافر بالأعمى والمؤمن بالبصير وشبه الكفر بالظلمات والإيمان بالنور ضرب لذلك مثلاً فقال تعالى : أنزل من السماء ماء يعني المطر { فسالت أودية بقدرها } أودية جمع واد وهو المفرج بين الجبلين يسيل فيها الماء وقوله : فسالت أودية فيه اتساع ، وحذف تقديره فسال في الوادي فهو كما يقال جري النهر والمراد جرى الماء في النهر فحذف في لدلالة الكلام عليه بقدرها . قال مجاهد بمثلها وقال ابن جريج : الصغير بقدره والكبير بقدره ، وقيل : بمقدار مائها وإنما نكر أودية لأن المطر إذا نزل لا يعم جميع الأرض ، ولا يسيل في كل الأودية بل ينزل في أرض دون أرض ويسيل في واد دون وادٍ . فلهذا السبب جاء هذا بالتنكير . وقال ابن عباس : أنزل من السماء ماء يعني قرآناً وهذا مثل ضربه الله تعالى فسالت أودية بقدرها يريد بالأودية القلوب شبه نزول القرآن الجامع للهدى والنور ، والبيان بنزول المطر لأن المطر إذا نزل عمّ نفعه وكذلك نزول القرآن وشبه القلوب بالأودية ، لأن الأودية يستكن فيها الماء وكذلك القلوب يستكن فيها الإيمان والعرفان ببركة نزول القرآن فيها ، وهذا خاص بالمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بنزول القرآن ( ق ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء نفع الله بها الناس ، فشربوا منها وسقوا ورعوا ، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فتعلم ، وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به » قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله ، وغيره في معنى هذا الحديث وشرحه أما الكلأ فباغمز يقع على الرطب واليابس من الحشيش ، وأما قوله وكان منها أجادب فالجيم والدال المهملة والباء الموحدة كذا في الصحيحين ، وهي الأرض التي لا تنبت الكلأ جمع جدب على غير قياس وقياسه أجدب ، والجدب ضد الخصب .(4/79)
وقال الخطابي : هي التي تمسك الماء ولم يسرع فيه النضوب وفي رواية الهروي أخاذات بالخاء المعجمة والذال المعجمة جمع آخاذة وهي الغدير الذي يمسك الماء ، وقوله : ورعوا كذا هو في صحيح مسلم من الرعي ، ووقع في صحيح البخاري وزرعوا بزيادة زاي من الزرع والقيعان بكسر القاف جمع قاع وهو المستوي من الأرض ، وقوله : فذلك مثل من فقه في دين الله يروى بضم القاف وهو المشهور وروي بكسرها ومعناه فهم الأحكام وأما معنى الحديث ومقصوده فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً لما جاء به من الهدى ، والعلم بالأرض التي أصابها المطر . قال العلماء : والأرض ثلاثة أنواع وكذلك الناس لأنهم منها خلقوا ، فالنوع الأول من أنواع الأرض الطيبة التي تنتفع بالمطر فتنبت به العشب فينتفع الناس به والدواب بالشرب والرعي وغير ذلك وكذلك النوع الأول من الناس من يبلغه الهدى من غير ذلك من العلم فيحيا به قلبه ويحفظه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع به وينفع غيره . قال مسروق : صحبت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالأخاذات لأن قلوبهم كانت واعية فصارت أوعية للعلوم بما رزقت من صفاء الفهوم . النوع الثاني من أنواع الأرض : أرض لا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة لغيرها ، وهي إمساك الماء لغيرها لينتفع به الناس والدواب وكذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة ، لكن ليس لهم أفهام ثاقبة فيبقى ما عندهم من العلم حتى يجيء المحتاج إليه المتعطش لما عندهم من العلم فيأخذه منهم فينتفع به هو وغيره ، النوع الثالث : من أنواع الأرض أرض سبخة لا تنبت مرعى ولا تمسك ماء كذلك النوع الثالث من الناس ليس لهم قلوبه حافظة ، ولا أفهام ثاقبة فإذا بلغهم شيء من العلم لا ينتفعون به في أنفسهم ولا ينفعون غيرهم والله وأعلم . وقوله تعالى { فاحتمل السيل زبداً } الزبد ما يعلو على وجه الماء عند الزيادة ، كالحبب وكذلك ما يعلو على القدر عند غليانها والمعنى فاحتمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبداً { رابياً } يعني عالياً مرتفعاً فوق الماء طافياً عليه ، وهاهنا تم المثل ثم ابتدأ بمثل آخر فقال تعالى { ومما يوقدون عليه في النار } الايقاد جعل الحطب في النار لتتقد تلك النار تحت الشيء ليذوب { ابتغاء حلية } يعني لطلب زينة ، والضمير في قوله عليه يعود على الذهب والفضة ، وإن لم يكونا مذكورين لأن الحلية لا تطلب إلا منهما { أو متاع } يعني أو لطلب متاع آخر مما ينتفع به كالحديد والنحاس والرصاص ونحوه مما يذاب وتتخذ منه الأواني وغيرها مما ينتفع له ، والمتاع كل ما ويتمتع به . ويقال لكل ما ينتفع به في البيت كالطبق والقدر ونحو ذلك من الأواني : متاع { زبد مثله } يعني أن ذلك الذي يوقد عليه في النار إذا أذيب ، فله أيضاً زبد مثل زبد الماء فالصافي من الماء ومن هذه الجواهر هو الذي ينتفع به وهو مثل الحق .(4/80)
والزبد من الماء ومن هذه الجواهر وهو الذي لا ينتفع به ، وهو مثل الباطل وهو قوله تعالى { كذلك يضرب الله الحق والباطل } فالحق هو الجوهر الصافي الثابت ، والباطل هو الزبد الطافي الذي لا ينتفع به وهو قوله { فأما الزبد فيذهب جفاء } يعني ضائعاً باطلاً والجفاء ما رمى به الوادي من الزبد إلى جوانبه . وقيل : الجفاء المتفرق يقال جفأت الريح الغيم إذا فرقته والمعنى أن الباطل وإن علا في وقت فإنه يضمحل ويذهب { وأما ما ينفع الناس } يعني الماء الصافي والجوهر الجيد من هذه الأجسام التي تذاب { فيمكث في الأرض } يعني يثبت ويبقى ولا يذهب { كذلك يضرب الله الأمثال } قال أهل التفسير والمعاني : هذا مثل ضربه الله للحق والباطل . فالباطل وإن علا على الحق في بعض الأوقات والأحوال ، فإن الله يمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو على الماء فيذهب الزبد ويبقى الماء الصافي الذي ينتفع به ، وكذلك الصفو من هذه الجواهر يبقى ويذهب العلو الذي هو الكدر ، وهو ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض كذلك الحق والباطل . فالباطل وإن علا في وقت فإنه يذهب هو وأهله ، والحق يظهر هو وأهله . وقيل : هذا مثل للمؤمن واعتقاده وانتفاعه بالإيمان كمثل الماء الصافي الذي ينتفع به الناس ومثل الكافر وخبث اعتقاده كالزبد الذي لا ينتفع به البتة . وقيل : هذا مثل ضربه الله للنور الذي يحصل في قلوب العباد على ما قسم لها في الأزل لأن الوادي إذا سال كنس كل شيء فيه من النجاسات والمستقذرات ، كذلك إذا سال وادي قلب العبد بالنور الذي قسم له على قدر إيمانه ومعرفته كنس كل ظلمة وغفلة فيه ، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض يعني يذهب البواطل وهي الأخلاق المذمومة ، وتبقى الحقائق وهي الأخلاق الحميدة كذلك يضرب الله الأمثال .(4/81)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
وقوله تعالى : { للذين استجابوا لربهم الحسنى } قيل : اللام في للذين متعلقة بيضرب والمعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذي استجابوا لربهم يعني أجابوه إلى ما دعاهم إليه من توحيده والإيمان به وبرسوله وللكافرين الذين لم يستجيبوا ، فعلى هذا يكون قوله كذلك يضرب الله الأمثال ثم للفريقين من المؤمنين والكافرين وقيل تم الكلام عند قوله كذلك يضرب الله الأمثال ثم استأنف بقوله للذين استجابوا لربهم الحسنى . قال ابن عباس وجمهور المفسرين : يعني الجنة . وقيل : الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن وهي المنفعة الخالصة الخالية عن شوائب المضرة والانقطاع { والذين لم يستجيبوا له } يعني الكبار الذين استمروا علىكفرهم وشركهم وما كانوا عليه { لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به } يعني لبذلوا ذلك كله فداء لأنفسهم من عذاب النار يوم القيامة { أولئك } يعني الذين لم يستجيبوا لربهم { لهم سوء الحساب } قال إبراهيم النخعي : سوء الحساب أن يحاسب الرجل بذنبه كله ولا يغفر له منه شيء { ومأواهم } يعني في الآخرة { جهنم وبئس المهاد } يعني وبئس ما مهد لهم في الآخرة ، وقيل : المهاد الفراش يعني وبئس الفراش يفرش لهم في جهنم . قوله تعالى { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق } يعني فيؤمن به ويعمل بما فيه { كمن هو أعمى } يعني أعمى البصيرة ، لا أعمى البصر وهو الكافر فلا يؤمن بالقرآن ولا يعمل بما فيه قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه سلم وأبي جهل بن هشام . وقيل : نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل فالأول هو حمزة أو عمار الثاني هو أبو جهل وحمل الآية على العموم أولى ، وإن كان السبب مخصوصاً ، والمعنى : لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن لا يبصر الحق ولا يتبعه وإنما شبه الكافر والجاهل بالأعمى لأن الأعمى لا يهتدي لرشد ، وربما وقع في مهلكة وكذلك الكافر والجاهل لا يهتديان للرشد وهما واقعان في المهلكة { إنما يتذكر أولو الألباب } يعني إنما يتعظ ذوو العقول السليمة الصحيحة ، وهم الذين ينتفعون بالمواعظ والأذكار . قوله عز وجل { الذين يوفون بعهد الله } يعني الذي عاهدهم عليه وهو القيام بما أمرهم به ، وفرضه عليهم وأصل العهد حفظ الشيء ، ومراعاته حالاً بعد حال وقيل أراد بالعهد ما أخذه على أولاد آدم حين أخرجهم من صلبه ، وأخذ عليهم العهد والميثاق { ولا ينقضون الميثاق } بل يوفون به فهو توكيد لقوله الذين يوفون بعهد الله { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } قال ابن عباس : يريد الإيمان بجميع الكتب والرسل يعني يصل بينهم بالإيمان والا يفرق بين أحد منهم والأكثرون على أن المراد به صلة الرحم عن عبد الرحمن بن عوف .(4/82)
قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « قال الله تبارك وتعالى : أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته أو قال بتتته » أخرجه أبو داود والترمذي ( ق ) . عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله » ( خ ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من سره أن يبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه » صلة الرحم مبرة الأهل والأقارب والإحسان إليهم وضده القطع ، قوله : وان ينسأ له في أثره الأثر هنا الأجل سمي الأجل أثراً لأنه تابع للحياة وسابقها . ومعنى ينسأ : يؤخر والمراد به تأخير الأجل . وهو على وجهين : أحدهما أن يبارك الله في عمره فكأنما قد زاد فيه . والثاني أن يزيده في عمره زيادة حقيقية والله يفعل ما يشاء ( ق ) عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لا يدخل الجنة قاطع » في رواية سفيان يعني « قاطع رحم » ( خ ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « ليس الواصل بالمكافىء الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها » عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فان صلة الرحم محبة في الأهل ومثراة في المال ومنسأة في الأثر » أخرجه الترمذي . وقوله تعالى : { ويخشون ربهم } يعني أنهم مع وفائهم بعهد الله وميثاقه والقيام بما أمر الله به من صلة الرحم يخشون ربهم ، والخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه { ويخافون سوء الحساب } تقدم معناه .(4/83)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
{ والذين صبروا } يعني على طاعة الله وقال ابن عباس : على أمر الله . وقال عطاء : على المصائب والنوائب . وقيل : صبروا عن الشهوات وعن المعاصي وقيل : حمله على العموم أولى فيدخل فيه الصبر على جميع النوائب والمأمورات من سائر العبادات والطاعات ، وجميع أعمال البر وترك جميع المنهيات فيدخل فيه ترك جميع المعاصي من الحسد والحقد والغيبة ، وغير ذلك من المنهيات ، ويدخل فيه الصبر عن المباحات مثل جميع الشهوات والصبر على ما نزل به من الأمراض والمصائب ، وأصل الصبر حبس النفس عما يقتضيه العقل أو الشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه فالصبر لفظ عام يدخل تحته جميع ما ذكر ، وإنما قيد الصبر بقوله { ابتغاء وجه ربهم } لأن الصبر ينقسم إلى نوعين : الأول الصبر المذموم وهو أن الإنسان قد يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على ما تحمل من النوازل وقد يصبر لئلا يعاب على الجزع ، وقد يصبر لئلا تشمت به الأعداء ، وكل هذه الأمور وإن كان ظاهرها الصبر فليس ذلك داخلاً تحت قوله : { ابتغاء وجه ربهم } لأنه لغير الله تعالى . النوع الثاني : الصبر المحمود وهو أن يكون الإنسان صابراً لله تعالى راضياً بما نزل به من الله طالباً في ذلك الصبر ثواب الله محتسباً أجره على الله فهذا هو الصبر الداخل تحت قوله ابتغاء وجه ربهم يعني صبروا على ما نزل بهم تعظيماً لله وطلب رضوانه { وأقاموا الصلاة } يعني الصلاة المفروضة . وقيل : حمله على العموم أولى فيدخل صلاة الفرض والنقل والمراد بإقامتها إتمام أركانها وهيئآتها { وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية } قال الحسن : المراد به الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أن يؤديها سراً ، وإن كان متهماً بترك أداء الزكاة فالأولى أن يؤديها علانية . قيل : إن المراد بالسر ما يخرج من الزكاة بنفسه والمراد بالعلانية ما يؤديه إلى الإمام . وقيل : المراد بالسر صدقة التطوع والمراد بالعلانية الزكاة الواجبة وحمله على العموم أولى { ويدرؤون بالحسنة السيئة } قال ابن عباس : يدفعون بالعمل الصالح العمل السيء ، وهو معنى قوله : { إن الحسنات يذهبن السيئات } ويدل على صحة هذا التأويل ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية » وروى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل أخرى فانفكت أخرى حتى خرج إلى الأرض » وقال ابن كيسان : يدفعون الذنب بالتوبة وقيل : لايكافئون الشر بالشر ولكن يدفعون الشر بالخير وقال القتيبي معناه إذا سفه عليهم حلموا والسفه السيئة والحلم الحسنة ، وقال قتادة : ردوا عليهم رداً معروفاً .(4/84)
وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا . قال عبد الله بن المبارك : هذه ثمان خلال مشيرة إلى أبواب الجنة الثمانية قلت إنما هي تسع خلال فيحتمل أنه عد خلتين بواحدة ولما ذكر الله عز وجل هذه الخلال من أعمال البر ، ذكر بعدها ما أعد للعاملين بها من الثواب فقال تعالى { أولئك } يعني من أتى بهذه الأعمال { لهم عقبى الدار } يعني الجنة والمعنى إن عاقبتهم دار الثواب { جنَّات عدن } بدل من عقبى الدار يعني بساتين إقامة يقال عدن بالمكان إذا أقام به { يدخلونها } يعني الدار التي تقدم وصفها { ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } يعني ومن صدق من آبائهم بما صدقوا به ، وإن لم يعمل بأعمالهم قاله ابن عباس . وقال الزجاج : إن الإنسان لا ينتفع بغير أعماله الصالحة فعلى قول ابن عباس : معنى صلح صدق وآمن ووحد ، وعلى قول الزجاج معناه أصلح في عمله قال الواحدي والصحيح : ما قاله ابن عباس لأن الله تعالى جعل ثواب المطيع سروره بما يراه في أهله حيث بشره بدخوله الجنة مع هؤلاء ، فدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع العامل الآتي بالأعمال الصالحة ، ولو كان دخولهم الجنة بأعمالهم الصالحة ، لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به إذ كل من كان صالحاً في عمله ، فهو يدخل الجنة . قال الإمام فخر الدين الرازي : قوله تعالى وأزواجهم ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه وروي أنه لما كبرت سودة أراد النبي صلى الله عليه وسلم طلاقها فسألته أن لا يفعل ، ووهبت يومها لعائشة فأمسكها رجاء أن تحشر في جملة أزواجه فهو كالدليل على ما ذكرناه . وقوله تعالى { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } يعني من أبواب الجنة . وقيل من أبواب القصور ، قال ابن عباس : يريد به التحية من الله والتحف والهدايا { سلام عليكم } يعني يقولون : سلام عليكم فأضمر القول هاهنا لدلالة الكلام عليه { بما صبرتم } يعني يقولون لهم : سلمكم الله من الآفات التي كنتم تخافونها في الدنيا وأدخلكم بما صبرتم في دار الدنيا على الطاعات ، وترك المحرمات الجنة وقيل : إن السلام قول والصبر فعل ولا يكون القول ثواباً للفعل ، فعلى هذا يكون قوله : سلام عليكم دعاء من الملائكة لهم يعني سلمكم الله بما صبرتم . قال مقاتل : إن الملائكة يدخلون عليهم في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات معهم الهدايا والتحف من الله تعالى . يقولون : سلام عليكم بما صبرتم ، وروى البغوي بسنده عن أبي أمامة موقوفاً عليه قال : « إن المؤمن ليكون متكئاً على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم وعند طرف السماطين باب مبوب فيقبل الملك من ملائكة الله يستأذن فيقوم أدنى الخدم إلى الباب فإذا بالملك يستأذن فيقول : للذي يليه ملك يستأذن ويقول الآخر : كذلك حتى يبلغ المؤمن فيقول ائذنوا له فيقول أقربهم إلى المؤمن ائذنوا له ويقول الذي يليه ائذنوا له وكذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له ، فيدخل فيسلم ثم ينصرف » { فنعم عقبى الدار } يعني فنعم العقبى عقبى الدار .(4/85)
وقيل : معناه فنعم عقبى الدار ما أنتم فيه { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } لما ذكر الله أحوال السعداء وما أعد لهم من الكرامات والخيرات ذكر بعده أحوال الأشقياء ، وما لهم من العقوبات فقال تعالى { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } ونقض العهد ضد الوفاء به ، وهذا من صفة الكفار لأنهم هم الذين نقضوا عهد الله يعني خالفوا أمره ، ومعنى من بعد ميثاقه من بعد ما أوثقوه على أنفسهم بالاعتراف والقبول { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } يعني ما بينهم وبين المؤمنين من الرحم والقرابة { ويفسدون في الأرض } يعني بالكفر والمعاصي { أولئك } يعني من هذه صفته { لهم اللَّعنة } يعني الطرد عن رحمة الله يوم القيامة { ولهم سوء الدار } يعني النار لأن منقلب الناس في العرف إلى دورهم ، ومنازلهم ، فالمؤمنون لهم عقبى الدار وهي الجنة ، والكفار لهم سوء الدار وهي النار . قوله تعالى { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } يعني يوسع على من يشاء من عباده فيغنيه من فضله ، ويضيق على من يشاء من عباده فيفقره ويقتر عليه ، وهذا أمر اقتضته حكمة الله { وفرحوا بالحياة الدنيا } يعني مشركي مكة لما بسط الله عليهم الرزق أشروا وبطروا والفرح لذة تحصل في القلب بنيل المشتهى . وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا والركون إليها حرام { وما الحياة الدنيا في الآخرة } يعني بالنسبة إلى الآخرة { إلا متاع } أي قليل ذاهب . قال الكلبي : المتاع مثل السكرجة والقصعة والقدر ينتفع بها في الدنيا ثم تذهب كذلك الحياة لأنها ذاهبة لا بقاء لها { ويقول الذين كفروا } يعني من أهل مكة { لولا أنزل عليه آية من ربه } يعني هلا أنزل على محمد أية ومعجزة مثل معجزة موسى وعيسى { قل } أي قل لهم يا محمد : { إن الله يضل من يشاء } فلا ينفعه نزول الآيات وكثرة المعجزات إن لم يهده الله عز وجل وهو قوله { ويهدي إليه من أناب } يعني ويرشد إلى دينه والإيمان به من أناب بقلبه ورجع إليه بكليته { الذين آمنوا } بدل من قوله من أناب { وتطمئن قلوبهم } يعني وتسكن قلوبهم { بذكر الله } قال مقاتل : بالقرآن لأنه طمأنينة لقلوب المؤمنين والطمأنينة والسكون إنما تكون بقوة اليقين ، والاضطراب إنما يكون بالشك { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } يعني بذكره تسكن قلوب المؤمنين ويستقر اليقين فيها .(4/86)
وقال ابن عباس : هذا في الحلف وذلك أن المسلم إذا حلف بالله على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه . فإن قلت أليس قد قال الله تبارك وتعالى في أول سورة الأنفال { إنما المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } والوجل استشعار الخوف ، وحصول الاضطراب وهو ضد الطمأنينة فكيف وصفهم بالوجل والطمأنينة وهل يمكن الجمع بينهما في حال واحد . قلت : إنما يكون الوجل عند ذكر الوعيد والعقاب الطمأنينة ، إنما تكون عند الوعد والثواب فالقلوب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه وعقابه وتطمئن إذا ذكرت فضل الله ورحمته وكرمه وإحسانه .(4/87)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
{ الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم } اختلف العلماء في تفسير طوبى فقال ابن عباس : فرح لهم وقرة أعين . وقال عكرمة : نعمى لهم . وقال قتادة : حسن لهم وفي رواية أخرى ، عنه إن هذه الكلمة عربية يقول الرجل للرجل : طوبى لك أي أصبت خيراً . وقال إبراهيم النخعي خير لهم وكرامة . وقال الزجاج : طوبى من الطيب وقيل تأويلها الحال المستطابة لهم وهو كل ما استطابه هؤلاء في الجنة من بقاء بلا فناء وعز بلا ذل وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم . قال الأزهري : تقول طوبى لك وطوباك لحن لا تقوله العرب وهو قول أكثر النحويين . وقال سعيد بن جبير : طوبى اسم الجنة بالحبشية وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرداء أن طوبى اسم شجرة في الجنة تظلل الجنان كلها . وقال عبيد ابن عمير : هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبي صلى الله عليه وسلم وفي كل دار وغرفة في الجنة منها غصن لم يخلق الله لوناً ولا زهرة إلا وفيها منه إلا السواد ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلا وفيها منها ينبع من أصلها عينان : الكافور والسلسبيل . وقال مقاتل : كل ورقة منها تظل أمة عليها ملك يسبح الله بأنواع التسبيح وروي عن أبي سعيد الخدري : أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طوبى فقال : « هي شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها » وعن معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه . قال : « طوبى شجرة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة » هكذا ذكر البغوي هذه الحديثين بغير سند ، وروي بسنده موقوفاً عن أبي هريرة قال : « إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرؤوا إن شئتم وظل ممدود » فبلغ ذلك كعب الأحبار فقال : صدق والذي أنزل التوراة على موسى والقرآن على محمد لو أن رجلاً ركب فرساً أو حقة أو جذعة ، ثم دار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرماً إن الله غرسها بيده ، ونفخ فيها من روحه وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة ، وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة . فقال البغوي وبهذا الإسناد عن عبد الله بن المبارك عن الأشعث عن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : « إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى يقول الله لها تفتقي لعبدي عما يشاء فتفتق له عن فرس مسرجة بلجامها وهيئتها كما يشاء وتفتق له عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما يشاء عن وعن الثياب » ( ق ) عن سهل بن سعد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(4/88)
« إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها » ( ق ) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام ما يقطعها » ( ق ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة » زاد البخاري في روايته « واقرؤوا إن شئتم وظل ممدود » . وقوله تعالى { وحسن مآب } يعني ولهم حسن منقلب ومرجع ينقلبون ويرجعون إليه في الآخرة وهي الجنة . قوله عز وجل : { كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم } يعني كما أرسلناك يا محمد إلى هذه الأمة كذلك أرسلنا أنبياء قبلك إلى أمم قد خلت ومضت { لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك } يعني لتقرأ على أمتك الذي أوحينا إليك من القرآن وشرائع الدين { وهم يكفرون بالرحمن } قال قتادة ومقاتل وابن جريج : هذه الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية وذلك أن سهيل بن عمرو لما جاء للصلح واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : « اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم » فقالوا لا نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب اكتب كما نكتب باسمك اللهم فهذا معنى قوله وهم يكفرون بالرحمن يعني أنهم ينكرونه ويجحدونه والمعروف أن الآية مكية . وسبب نزولها أن أبا جهل سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحجر يدعو ويقول في دعائه : « يا الله يا رحمن » فرجع أبو جهل إلى المشركين وقال : إن محمداً يدعو إلهين يدعو الله ويدعو إلهاً آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية ونزل قوله تعالى { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيًّا ما تدعو فله الأسماء الحسنى } وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم { اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } فقال الله تعالى { قل } أي قل يا محمد إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته { هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت } يعني عليه اعتمدت في أموري كلها { وإليه متاب } يعني وإليه توبتي ورجوعي . قوله تعالى { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال } الآية نزلت في نفر من مشركي قريش منهم أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية ، جلسوا خلف الكعبة وأرسلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم وقيل : إنه مر بهم وهم جلوس فدعاهم إلى الله عز وجل فقال له عبد الله بن أبي أمية إن سرك أن نتبعك فسير جبال مكة بالقرآن فادفعها عنا حتى تتفتح فإنها أرض ضيقة لمزارعنا واجعل لنا فيها أنهاراً وعيوناً لنغرس الأشجار ، ونزرع ونتخذ البساتين فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود ، حيث سخر له الجبال تسير معه أو سخر لنا الريح لنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا ونرجع في يومنا كما سخرت لسليمان كما زعمت فلست بأهون على ربك من سليمان أو أحي لنا جدك قصياً أو من شئت من موتانا لنسأله عن أمرك أحق أو باطل فإن عيسى كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله من عيسى فأنزل الله هذه الآية { ولو أن قرآنا سيِّرت به الجبال } فأذهبت عن وجه الأرض { أو قطِّعت به الأرض } يعني شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً { أو كلِّم به الموتى } فأحياها واختلفوا في جواب لو فقال قوم جواب لو محذوف ، وإنما حذف اكتفاء بمعرفة السامع مراده وتقديره ولو أن قرآناً فعل به كذا وكذا لكان هذا القرآن فهو كقول الشاعر :(4/89)
فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
أراد : لو شيء أتانا رسوله سواك لرددناه ، وهذا معنى قول قتادة فإنه قال معناه لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم وقال آخرون : جواب لو تقدم تقدير الكلام وهم يكفرون بالرحمن ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن ، ولم يؤمنوا به لما سبق في علمنا فيهم كما قال : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا } ثم قال تعالى { بل لله الأمر جميعاً } يعني في هذه الأشياء وفي غيرها إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل { أفلم ييأس الذين آمنوا } قال أكثر المفسرين : معناه أفلم يعلم؟ قال الكلبي : هذه لغة النخع وقيل هي لغة هوازن واختلف أهل اللغة في هذه اللفظة فقال الليث وأبو عبيد ألم ييأس ألم يعلم واستدلوا لهذه اللغة بقول الشاعر :
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
يعني ألم تعلموا . واستدلوا عليه أيضاً بقول شاعر آخر :
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
يعني ألم يعلم الأقوام . قال قطرب : يئس بمعنى علم لغة للعرب . قالوا : ووجه هذه اللغة أنه إنما وقع اليأس في مكان العلم لأن علمك بالشيء ويقينك به ييئسك من غيره . وقيل : لم يرد أن اليأس في موضع كلام العرب للعلم وإنما قصد أن يأس الذين آمنوا من ذلك يقتضي أن يحصل العلم بانتفائه فإذن معنى يأسهم يقتضي حصول العلم . وقال الكسائي ما وجدت العرب تقول يئست بمعنى علمت قال وهذا الحرف في القرآن من اليأس المعروف لا من العلم وذلك أن المشركين لما طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات اشرأَبَّ المسلمون لذلك وأرادوا أن يظهر لهم آية ليجتمعوا على الإيمان ، فقال الله تعالى : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء ويعلموا علماً يقيناً { أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً } يعني من غير ظهور آية .(4/90)
وقال الزجاج : القول عندي أن معناه أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء لأن الله لو يشاء لهدى الناس جميعاً . وحاصله أن في معنى الآية قولين : أحدهما أن يئس بمعنى علم . والقول الثاني : أنه من اليأس المعروف وتقدير القولين ما تقدم وتمسك أهل السنة يقوله أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً على أن الله لم يشأ هداية جميع الخلائق { ولا يزال الذين كفروا كانوا تصيبهم بما صنعوا } يعني من الكفر والأعمال الخبيثة { قارعة } أي نازلة وداهية تقرعهم بأنواع البلايا أحياناً مرة بالجدب ، ومرة بالسلب ومرة بالقتل والأسر . وقال ابن عباس : أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها إليهم { أو تحل } يعني السرايا أو البلية { قريباً من دارهم } وقيل معناه أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم { حتى يأتي وعد الله } يعني النصر والفتح وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه وقيل أراد بوعد الله يوم القيامة لأن الله يجمعهم فيه فيجازيهم بأعمالهم { إن الله لا يخلف الميعاد } والغرض منه تشجيع قلب النبي صلى الله عليه وسلم وإزالة الحزن عنه لعلمه بأن الله لا يخلف الميعاد .(4/91)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
قوله عز وجل : { ولقد استهزىء برسل من قبلك } وذلك أن كفار مكة إنما سألوا هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء فأنزل الله هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى أنهم إنما طلبوا منك هذه الآيات على سبيل الاستهزاء ، وكذلك قد استهزىء برسل من قبلك { فأمليت للذين كفروا } يعني فأمهلتهم وأطلت لهم المدة { ثم أخذتهم } يعني بالعذاب بعد الإمهال فعذبتهم في الدنيا بالقحط والقتل والأسر وفي الآخرة بالنار { فكيف كان عقاب } يعني فكيف كان عقابي لهم { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } يعني أفمن هو حافظها ورازقها وعالم بها وبما عملت من خير وشر ويجازيها بما كسبت فيثيبها إن أحسنت ويعاقبها إن أساءت وجوابه محذوف ، وتقديره كمن ليس بقائم بل هو عاجز عن نفسه ومن كان عاجزاً عن نفسه فهو عن غيره أعجز وهي الأصنام التي لا تضر ولا تنفع { وجعلوا لله شركاء } يعني وهو المستحق للعبادة لا هذه الأصنام التي جعلوها لله شركاء { قل سموهم } يعني له . وقيل : صفوهم بما يستحقون ثم انظروا هل هي أهل لأن تعبد { أم تنبئونه } يعني أم تخبرون الله { بما لا يعلم في الأرض } يعني أنه لا يعلم أن لنفسه شريكاً من خلقه وكيف يكون المخلوق شريكاً للخالق وهو العالم بما في السموات والأرض ولو كان لعلمه والمراد من ذلك نفي العلم بأن يكون له شريك { أم بظاهر من القول } يعني أنهم يتعلقون بظاهر من القول مسموع وهو في الحقيقة باطل لا أصل له وقيل : معناه بل بظن من القول لا يعلمون حقيقته { بل زين للذين كفروا مكرهم } قال ابن عباس : زين لهم الشيطان الكفر وإنما فسر المكر بالكفر لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم كفر منهم والمزين في الحقيقة هو الله تعالى لأنه هو الفاعل المختار على الإطلاق لا يقدر أحد أن يتصرف في الوجود إلا بإذنه فتزيين الشيطان إلقاء الوسوسة فقط ، ولا يقدر على إضلال أحد وهدايته إلا الله تعالى ويدل على هذا سياق الآية وهو قوله : ومن يضلل الله فما له من هاد ، وقوله { وصدوا عن السبيل } قرىء بضم الصاد ومعناه صرفوا عن سبيل الدين والرشد والهداية ومنعوا من ذلك والصاد المانع لهم هو الله تعالى ، وقرىء وصدوا بفتح الصاد ومعناه أنهم صدوا عن سبيل الله غيرهم أي عن الإيمان { ومن يضلل الله فما له من هاد } الوقف عليه بسكون الدال وحذف الياء في قراءة أكثر القراء { لهم عذاب في الحياة الدنيا } يعني بالقتل والأسر ونحو ذلك مما فيه غيظهم { ولعذاب الآخرة أشق } يعني أشد وأغلظ لأن المشقة غلظ الأمر على النفس وشدته مما يكاد يصدع القلب من شدته فهو من الشق الذي هو الصدع { وما لهم من الله } يعني من عذاب الله { من واق } يعني من مانع يمنعهم من عذابه قوله تعالى { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي صفة الجنة التي وعد المتقون { تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم } لا ينقطع أبداً { وظلها } يعني أنه دائم لا ينقطع أبداً وليس في الجنة شمس ولا قمر ولا ظلمة بل ظل ممدود لا ينقطع ، ولا يزول وفي الآية رد على جهم وأصحابه فإنهم يقولون : إن نعيم الجنة يفنى وينقطع وفي الآية دليل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم .(4/92)
كما يقول أبو الهذيل واستدل القاضي عبد الجبار المعتزلي بهذه الآية على أن الجنة لم تخلق بعد . قال : ووجه الدليل أنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى وينقطع أكلها لقوله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } فوجب أن لا تكون الجنة مخلوقة لقوله : أكلها دائم يعني لا ينقطع قال ولا ينكر أن تكون في السموات جنات كثيرة تتمتع بها الملائكة ، ومن يعد حياً من الأنبياء والشهداء وغيرهم على ماروي إلا أن الذي نذهب إليه أن جنة الخلد لم تخلق بعد . والجواب عن هذا أن حاصل دليلهم مركب من آيتين : إحداهما : قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه ، والأخرى قوله : أكلها دائم وظلها ، فإذا أدخلنا التخصيص على هذين العمومين سقط دليلهم فنخص هذين الدليلين بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة . منها قوله تعالى : { وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } وقوله تعالى { تلك عقبى الذين اتقوا } يعني أن عاقبة أهل التقوى هي الجنة { وعقبى الكافرين النار } يعني في الآخرة . قوله عز وجل { والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك } في المراد بالكتاب هنا قولان : أحدهما أنه القرآن والذين أتوه المسلمون وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد أنهم يفرحون بما يتجدد من الأحكام والتوحيد والنبوة والحشر بعد الموت بتجدد نزول القرآن { ومن الأحزاب } يعني الجماعات الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار واليهود والنصارى { من ينكر بعضه } وهذا قول الحسن وقتادة . فإن قلت : إن الأحزاب من المشركين وغيرهم من أهل الكتاب ينكرون القرآن كله فكيف قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه . قلت : إن الأحزاب لا ينكرون القرآن بجملته لأنه قد ورد فيه آيات دالاَّت على توحيد الله وإثبات قدرته وعلمه وحكمته ، وهم لا ينكرون ذلك أبداً والقول الثاني أن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل والمراد بأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ومن أسلم من النصارى ، وهم ثمانون رجلاً أربعون من نجران وثلاثون من الحبشة وعشرة ممن سواهم فرحوا بالقرآن لكونهم آمنوا به وصدقوه ، ومن الأحزاب يعني بقية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وسائر المشركين من ينكر بعضه .(4/93)
وقيل : كان ذكر الرحمن قليلاً في القرآن في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام ومن معه من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة ، فلما كرر الله تعالى ذكر لفظه الرحمن في القرآن فرحوا بذلك فأنزل الله تعالى والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب يعني مشركي مكة من ينكر بعضه وذلك لمَّا كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصلح يوم الحديبية كتب فيه بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله { وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي } وإنما قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الله وينكرون الرحمن { قل } أي قل يا محمد { إنما أمرت أن أعبد الله } يعني وحده { ولا أشرك به } شيئاً { إليه أدعو } إي إلى الله وإلى الإيمان به أدعوا الناس { وإليه مآب } يعني مرجعي يوم القيامة .(4/94)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
{ وكذلك أنزلناه حكماً عربياً } أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلغاتهم ، أنزلنا إليك يا محمد هذا الكتاب وهو القرآن عربياً بلسانك ولسان قومك . وإنما سمي القرآن حكماً لأن فيه جميع التكاليف والأحكام والحلال والحرام والنقض والإبرام ، فلما كان القرآن سبباً للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة ، وقيل إن الله لما حكم على جميع الخلق بقبول القرآن والعمل بمقتضاه سماه حكماً لذلك المعنى { ولئن اتبعت أهواءهم } قال جمهور المفسرين : إن المشركين دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائهم فتوعده الله على اتباع أهوائهم في ذلك . وقال ابن السائب : المراد به متابعة آبائهم في الصلاة لبيت المقدس { بعد ما جاءك من العلم } يعني بأنك على الحق ، وأن قبلتك الكعبة هي الحق . وقيل : ظاهر الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره وقيل : هو حث للنبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ الرسالة والقيام بما أمر به ويتضمن ذلك تحذير غيره من المكلفين لأن من هو أرفع منزلة وأعظم قدراً وأعلى مرتبة إذا حذر كان غيره ممن هو دونه بطريق الأولى { ما لك من الله من ولي ولا واق } يعني من ناصر ولا حافظ قول تعالى { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك } روي أن اليهود ، وقيل المشركين ، قالوا : إن هذا الرجل يعنون النبي صلى الله عليه وسلم ، ليس له همة إلا في النساء فعابوا عليه ذلك وقالوا لو كان كما يزعم أنه رسول الله لكان مشتغلاً بالزهد وترك الدنيا فأجاب الله عز وجل عن هذه الشبهة ، وعما عابوه به بقوله عز وجل { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك } يا محمد { وجعلنا لهم أزواجاً وذرية } فإنه قد كان لسليمان عليه الصلاة والسلام ثلثمائة امرأة حرة وسبعمائة امرأة سرية فلم يقدح ذلك في نبوته وكان لأبيه داود عليه الصلاة والسلام مائة امرأة فلم يقدح ذلك أيضاً في نبوته فكيف يعيبون عليك ذلك ، ويجعلونه قادحاً في نبوتك والمعنى : ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك يأكلون ويشربون وينكحون ، وما جعلناهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } هذا جواب لعبد الله بن أبي أمية ، وغيره من المشركين الذي سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الآيات واقترحوا عليه أن يريهم المعجزات ، وتقدير هذا الجواب أن المعجزة الواحدة كافية في إثبات النبوة وقد أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعجزات كثيرة يعجز عن مثلها البشر ، فما لهم أن يقترحوا عليه شيئاً ، وإتيان الرسول بمعجزات ليس إليه بل هو مفوض إلى مشيئة الله عز وجل فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها { لكل أجل كتاب } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم فلما استبطئوا ذلك ، وقد كانوا يستعجلون نزوله أخبر الله عز وجل أن لكل قضاء قضاه كتاباً قد كتبه فيه ووقتاً يقع فيه لا يتقدم ولا يتأخر .(4/95)
والمعنى : أن لكل أجل أجله الله كتاباً قد أثبته فيه ، وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديره لكل كتاب أجل ومدة والمعنى أن الكتب المنزلة لكل كتاب منها وقت ينزل فيه { يمحو الله ما يشاء ويثبت } وذلك أنهم لما اعترضوا على رسول الله فقالوا : إن محمداً يأمر أصحابه بأمر اليوم ثم يأمرهم بخلافه غداً ، وما سبب ذلك إلا أنه يقوله من تلقاء نفسه ، أجاب الله عن هذا الاعتراض بقوله { يمحو الله ما يشاء ويثبت } . قال سعيد بن جبير وقتادة : يمحو الله ما شاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء من ذلك فلا ينسخه ولا يبدله ، وقال ابن عباس : يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن حذيفة بن أسيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكاً فصورهما وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ، ثم قال : يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما يشاء فيكتب الملك ، ثم يقول يا رب أجله فيقول : ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول : الملك يا رب رزقه فيقول : ما يشاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك الصحيفة ، فلا يزيد على أمر ولا ينقص » أخرجه مسلم ( ق ) عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهو الصادق والمصدوق « إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه نطفة أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكاً بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح ، فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها » فإن قلت : هذا الحديث والذي قبله صريح بأن الآجال والأرزاق مقدرة ، وكذا السعادة والشقاوة لا تتغير عما قدره الله وعلمه في الأزل فيستحيل زيادتها ونقصانها ، وكذلك يستحيل أن ينقلب السعيد شقيا أو الشقي سعيداً ، وقد صح في فضل صلة الرحم أن صلة الرحم تزيد في العمر فكيف الجمع بين هذه الأحاديث ، وبين قوله تعالى : يمحو الله ما يشاء ويثبت؟ .(4/96)
قلت : قد تكرر بالدلائل القطعية أن الله عالم الآجال والأرزاق وغيرها . وحقيقة العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه فإذا علم الله أن زيداً يموت في وقت معين استحال أن يموت قبله أو بعده وهو قوله تعالى { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } فدل ذلك على أن الآجال لا تزيد ولا تنقص . وأجاب العلماء عما ورد في الحديث في فضل صلة الرحم من أنها تزيد في العمر بأجوبة الصحيح منها : أن هذه الزيادة تكون بالبركة في عمره بالتوفيق للطاعات ، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة ، وصيانتها عن الضياع وغير ذلك . والجواب الثاني : منه أنها بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة في اللوح المحفوظ أن عمر زيد مثلاً ستون سنة ، إلا أن يصل رحمه فإن وصلها زيد له أربعون سنة ، وقد علم الله في الأزل ما سيقع من ذلك ، وهو معنى قوله تعالى : يمحو الله ما يشاء ويثبت أي بالنسبة لما يظهر للمخلوقين من تصوير الزيادة . وأما انقلاب الشقي سعيداً أو السعيد شقياً فيتصور في الظاهر أيضاً لأن الكافر قد يسلم فينقلب من الشقاوة إلى السعادة ، وكذا العاصي ونحوه وقد يتوب فينقلب من الشقاوة إلى السعادة وقد يرتد المسلم ، والعياذ بالله تعالى ، فيموت على ردته فينقلب من السعادة إلى الشقاوة ، والأصل في هذا الاعتبار بالخاتمة عند الموت وما يختم الله به له وهو المراد من علم الله الأزلي الذي لا يتغير ولا يتبدل . والله أعلم . وأصل المحو : إذهاب أثر الكتابة وضده الإثبات فمن العلماء من حمل الآية على ظاهرها فجعلها عامة في كل شيء يقتضيه ظاهر اللفظ ، فيزيد الله ما يشاء في الرزق والأجل . وكذا القول في السعادة والشقاوة والإيمان بالله والكفر . ونقل نحو هذا عن عمر وابن مسعود فإنهما قالا : يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء . وروي عن عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول : اللهم إن كنت كتبتني من أهل السعادة والمغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب وروي مثله عن ابن مسعود وقد ورد في بعض الآثار « أن الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيمد إلى ثلاثين سنة » هكذا ذكر البغوي بغير سند . وروي بسنده عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم « ينزل الله تبارك وتعالى في ثلاث ساعات بقين من الليل فينظر في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت » ومن العلماء من حمل معنى الآية على الخصوص في بعض الأشياء دون بعض فقال : المراد بالمحو والإثبات نسخ الحكم المتقدم وإثبات حكم آخر عوضاً عن الحكم المتقدم ، وقيل : إن الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ، ولا عقاب مثل قول القائل أكلت ، شربت ، دخلت ، خرجت ، ونحو ذلك من الكلام ، وهو صادق فيه ويثبت ما فيه ثواب وعقاب .(4/97)
وهذا قول الضحاك . وقال الكلبي : يكتب القول كله حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب . وقال ابن عباس : هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلاله فهو الذي يمحو والذي يثبت هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يموت ، وهو في طاعته فهو الذي يثبت ، وقال الحسن : يمحو الله ما يشاء يعني من جاء أجله فيذهبه ويثبت من لم يجىء أجله وقال سعيد بن جبير يمحو الله ما يشاء من ذنوب عباده فيغفرها ويثبت ما يشاء منها فلا يغفرها . وقال عكرمة : يمحو الله ما يشاء من الذنوب بالتوبة ويثبت بدل الذنوب حسنات . وقال السدي : يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت الشمس . وقال الربيع : هذا في الأرواح يقبضها الله عند النوم فمن أراد موته محاه وأمسكه ، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه ، وقيل : إن الله يثبت في أول كل سنة حكمها فإذا مضت السنة محاه وأثبت حكماً آخر للسنة المستقبلة وقيل : يمحو الله الدنيا ويثبت الآخرة . وقيل : هو في المحن والمصائب فهي مثبتة في الكتاب ثم يمحوها بالدعاء والصدقة . وقيل : إن الله يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لا اعتراض لأحد عليه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . فان قلت مذهب أهل السنة أن المقادير سابقة وقد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فكيف يستقيم مع هذا المحو والإثبات . قلت : المحو والإثبات مما جف به القلم وسبق به القدر فلا يمحو شيئاً ولا يثبت شيئاً إلا ما سبق به علمه في الأزل وعليه يترتب القضاء والقدر .
مسألة : استدلت الرافضة على مذهبهم في البداء بهذه الآية : قالوا : إن البداء جائز على الله وهو أن يعتقد شيئاً ثم يظهر له خلاف ما اعتقده وتمسكوا بقوله { يمحو الله ما يشاء ويثبت } والجواب عن هذه المسألة أن هذا مذهب باطل ظاهر الفساد لأن علم الله قديم أزلي ، وهو من لوازم ذاته المخصوصة ، وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محالاً كذا ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسير هذه الآية . وقوله تعالى { وعنده أم الكتاب } يعني أصل الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدل ، وسمي اللوح المحفوظ أم الكتاب لأن جميع الأشياء مثبتة فيه ومنه تنسخ الكتب المنزلة ، وقيل : إن العلوم كلها تنسب إليه وتتولد منه ، قال ابن عباس : هما كتابان كتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت ما يشاء وأم الكتاب الذي لا يغير شيء منها وروى عطية عن ابن عباس قال : إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوتة ، لله فيه كل يوم ثلثمائة وستون لحظة يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ، وسأل ابن عباس كعباً عن أم الكتاب فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه وما هم عاملون .(4/98)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{ وإن ما نرينك } يعني يا محمد { بعض الذي نعدهم } يعني من العذاب { أو نتوفينك } يعني قبل أن نريك ذلك { فإنما عليك البلاغ } يعني ليس عليك إلا تبليغ الرسالة إليهم والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ { وعلينا الحساب } يعني وعلينا أن نحاسبهم يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم . قوله عز وجل : { أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } يعني أو لم ير كفار مكة الذين سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم الآيات أنا نأتي الأرض يعني أرض الشرك ننقصها من أطرافها . قال أكثر المفسرين : المراد منه فتح دار الشرك فإن ما زاد في دار الإسلام فقد نقص في دار الشرك والمعنى أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنفتحها لمحمد صلى الله عليه وسلم أرضاً بعد أرض حوالى أراضيهم أفلا يعتبرون ، فيتعظون وهذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة من المفسرين : وذلك أن المسلمين إذا استولوا على بلاد الكفار قهراً وتخريباً كان ذلك نقصاناً في ديارهم ، وزيادة في ديار المسلمين ، وقوتهم وكان ذلك من أقوى الدلائل على أن الله تعالى ينصر عبده ويعز جنده ويظهر دينه ، وينجز له ما وعده . وقيل : هو خراب الأرض والمعنى أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها ونهلك أهلها أفلا يخافون أن نفعل بهم مثل ذلك ، وقال مجاهد : هو خراب الأرض وقبض أهلها . وعن عكرمة والشعبي نحوه وهذا القول قريب من الأول وقال عطاء وجماعة من المفسرين نقصانها موت العلماء وذهب الفقهاء ( ق ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس » ، وفي رواية « من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا » قال الحسن قال عبد الله بن مسعود : موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار ، وقال عبد الله أيضاً : عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله ، وقال سليمان : لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر فإذا هلك الأول ولم يتعلم الآخر هلك الناس . وقيل لسعيد بن جبير : ما علامة هلاك الناس؟ قال : هلاك العلماء . فعلى هذا القول فالمراد بالأطراف العلماء ، والأشراف من الناس : حكى الجوهري عن ثعلب قال : الأطراف الأشراف . واستدل الواحدي لهذه اللغة بقول الفرزدق :
واسأل بنا وبكم إذا وردت مني ... أطراف كل قبيلة من يتبع
قال : يريد أشراف كل قبيلة . قال الواحدي : والتفسير على القول الأول أولى لأن هذا وإن صح فلا يليق بهذا الموضع . قال الإمام فخر الدين الرازي : ويمكن أن يقال أيضاً إن هذ الوجه لا يليق بهذا الموضع وتقديره أن يقال : أو لم يروا أن كل ما يحدث في الدنيا من الاختلاف خراب بعد عمارة وموت بعد حياة وذل بعد عز ونقص بعد كمال وإذا كانت هذه التغييرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة ، فيجعلهم ذليلين بعدما كانوا عزيزين ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين ، وعلى هذا الوجه أيضاً يجوز إيصال الكلام بما قبله .(4/99)
وقوله تعالى { والله يحكم لا معقب لحكمه } يعني لا رادّ لحكمه ولا ناقض لقضائه ، والمعقب هو الذي يعقب غيره بالرد والإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق : معقب ، لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب . والمعنى : والله يحكم نافذاً حكمه خالياً من المدافع والمعارض والمنازع لا يتعقب حكمه أحد غيره بتغيير ، ولا نقض { وهو سريع الحساب } قال ابن عباس : يريد سريع الانتقام ممن حاسبه للمجازاة بالخير والشر فمجازاة الكفار بالانتقام منهم ، ومجازاة المؤمنين بإيصال الثواب إليهم ، وقد تقدم بسط الكلام في معنى سريع الحساب قبل هذا { وقد مكر الذين من قبلهم } يعني من قبل مشركي مكة من الأمم الماضية ، الذين مكروا بأنبيائهم والمكر إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر مثل ما مكر نمرود بإبراهيم وفرعون بموسى واليهود بعيسى ، { فلله المكر جميعاً } يعني عند الله جزاء مكرهم . وقال الواحدي : يعني جميع مكر الماكرين له ومنه أي هو من خلقه وإرادته فالمكر جميعاً مخلوق له بيده الخير والشر وإليه النفع والضر . والمعنى أن المكر لا يضر إلا بإذنه وإرادته ، وفي هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأمان له من مكرهم كأنه قيل : قد فعل من كان قبلهم من الكفار مثل فعلهم وصنعوا مثل صنيعهم ، فلم يضروا إلا من أراد الله ضره ، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله لا من أحد من المخلوقين { يعلم ما تكسب كل نفس } يعني أن جميع اكتساب العباد وتأثيراتها معلومة لله هو خالقها أو خلاف المعلوم ممتنع الوقوع وإذا كان كذلك فكل ما علم وقوعه فهو واجب الوقوع وكل ما علم عدمه كان ممتنع الوقوع وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك ، فكان الكل من الله ولا يحصل ضرراً إلا بإذنه وإرادته ، وفيه وعيد للكفار الماكرين { وسيعلم الكافر } على التوحيد وقرىء وسيعلم الكفار على الجمع . قال ابن عباس : يعني أبا جهل . وقيل : أراد المستهزئين وهم خمسة نفر من كفار مكة { لمن عقبى الدار } والمعنى أنهم وإن كانوا جهالاً بالعواقب فسيعلمون أن العاقبة الحميدة للمؤمنين ، ولهم العاقبة المذمومة في الآخرة حين يدخلون النار ، ويدخل المؤمنون الجنة قوله تعالى { ويقول الذين كفروا لست مرسلاً } لما أنكر الكفار كون محمد رسولاً من عند الله أمره الله بقوله { قل } أي قل : يا محمد لهؤلاء الكفار الذين أنكروا نبوتك { كفى بالله شهيداً بيني وبينكم } المراد بشهادة الله على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما أظهر على يديه من المعجزات الباهرات والآيات القاهرات الدالة على صدقه ، وكونه نبياً مرسلاً من عند الله { ومن عنده علم الكتاب } يعني ومن عنده علم الكتاب أيضاً يشهد على نبوتك يا محمد وصحتها .(4/100)
واختلفوا في الذي عنده علم الكتاب من هو فروى العوفي عن ابن عباس أنهم علماء اليهود والنصارى ، والمعنى أن كل من كان عالماً من اليهود بالتوراة ومن النصارى بالإنجيل علم أن محمداً صلى الله عليه وسلم مرسل من الله لما يجد من الدلائل الدالة على نبوته فيهما شهد بذلك من شهد به وأنكره من أنكره منهم ، وقيل : إنهم مؤمنو أهل الكتاب يشهدون أيضاً على نبوته . قال قتادة : هو عبد الله بن سلام ، وأنكر الشعبي هذا وقال : هذه السورة مكية وعبد الله بن سلام بالمدينة المنورة وقال يونس لسعيد بن جبير ومن عنده علم الكتاب أهو عبد الله بن سلام؟ فقال : كيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية؟ وقال الحسن ومجاهد ومن عنده علم الكتاب هو الله تعالى . وعلى هذا القول يكون المعنى : كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح المحفوظ إلا هو شهيداً بيني وبينكم . قال الزجاج : الأشبه أن الله لا يشهد على صحة حكمه لغيره . وهذا قول مشكل لأن عطف الصفة على الموصوف وإن كان جائزاً إلا أنه خلاف الأصل . فلا يقال شهد بهذا زيد والفقيه . بل يقال : شهد بهذا زيد الفقيه لكن يشهد لصحة هذا القول قراءة من قرأ ومن عنده علم الكتاب بكسر الميم والدال ، وهي قراءة ابن عباس وغيره على البناء للمفعول والمعنى ومن عند الله علم الكتاب ودليل هذه القراءة قوله { وعلمناه من دلنا علماً } وقيل : معناه إن من علم أن القرآن الذي جئتكم به معجز ظاهر وبرهان باهر لما فيه من الفصاحة والبلاغة والإخبار عن الغيوب ، وعن الأمم الماضية فمن علم بهذه الصفة كان شهيداً بيني وبينكم والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .(4/101)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
قوله عز وجل : القرآن { كتاب أنزلناه إليك } يعني هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد والكتاب هو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { لتخرج الناس من الظلمات الى النور } يعني بهذا القرآن والمراد من الظلمات الكفر والضلالة والجهل ، والمراد بالنور : الإيمان . قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : وفيه دليل على أن طرق الكفر والبدع كثيرة وطريق الحق ليس إلا واحداً لأنه تعالى قال : لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فعبر عن الجهل والكفر والضلال بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الإيمان والهدى بالنور وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أن طرق الكفر والجهل كثيرة ، وأما طريق العلم والإيمان فليس إلا واحد { بإذن ربهم } يعني بأمر ربهم وقيل : يعلم ربهم { إلى صراط العزيز الحميد } يعني إلى دين الإسلام وهو دينه الذي أمر به عباده ، والعزيز هو الغالب الذي لا يغلب والحميد المحمود على كل حال المستحق لجميع المحامد { الله } قرىء بالرفع على الاستئناف وخبره ما بعده وقرىء بالجر نعتاً للعزيز الحميد فقال أبو عمرو قراءة الخفض على التقديم والتأخير تقديره إلى صراط الله العزيز الحميد { الذي له ما في السموات وما في الأرض } يعني ملكاً وما فيهما عبيده { وويل للكافرين } يعني الذين تركوا عبادة من يستحق العبادة الذي له ما في السموات وما في الأرض ، وعبدوا من لا يملك شيئاً البتة بل هو مملوك لله لأنه من جملة خلق الله ، ومن جملة ما في السموات وما في الأرض { من عذاب شديد } يعني معد لهم في الآخرة ثم وصفهم .(4/102)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
فقال تعالى : { الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة } يعني يختارون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة { ويصدون عن سبيل الله } أي ويمنعون الناس عن قبول دين الله { ويبغونها عوجاً } يعني ويطلبون لها زيغاً وميلاً ، فحذف الجار وأوصل الفعل . وقيل : معناه يطلبون سبيل الله حائدين عن القصد وقيل الهاء في ويبغونها راجعة إلى الدنيا ومعناه يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق والميل إلى الحرام { أولئك } يعني من هذه صفته { في ضلال بعيد } يعني عن الحق وقيل يجوز أن يراد في ضلال بعيد ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال يبعد عن الطريق . قوله تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } يعني بلغة قومه ليفهموا عنه ما يدعوهم إليه وهو قوله تعالى { ليبين لهم } يعني ما يأتون وما يذرون . فإن قلت : لم يبعث الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس جميعاً بدليل قوله تعالى { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } بل هو مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس ، وهم على ألسنة مختلفة ولغات شتى وقوله بلسان قومه وليس قومه سوى العرب يقتضي بظاهره أنه مبعوث إلى العرب خاصة فكيف يمكن الجمع؟ قلت : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب وبلسانهم والناس تبع للعرب فكان مبعوثاً إلى جميع الخلق ، لأنهم تبع للعرب ثم إنه يبعث الرسل إلى الرسل إلى الأطراف ، فيترجمون لهم بألسنتهم ويدعونهم إلى الله تعالى بلغاتهم . وقيل : يحتمل أنه أراد بقومه أهل بلدة ، وفيهم العرب وغير العرب فيدخل معهم من غير جنسهم في عموم الدعوى وقيل : إن الرسول إذا أرسل بلسان قومه وكانت دعوته خاصة وكان كتابه بلسان قومه كان أقرب لفهمهم عنه وقيام الحجة عليهم في ذلك ، فإذا فهموه ونقل عنهم انتشر عنهم علمه وقامت التراجم ببيانه وتفهيمه لمن يحتاج إلى ذلك ممن هو من غير أهله ، وإذا كان الكتاب بلغة واحدة مع اختلاف الأمم وتباين اللغات كان ذلك أبلغ في اجتهاد المجتهدين في تعليم معانيه ، وتفهيم فوائده وغوامضه وأسراره وعلومه وجميع حدوده وأحكامه وقوله { فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } يعني أن الرسول ليس عليه إلا التبليغ والتبيين والله هو الهادي المضل يفعل ما يشاء { وهو العزيز } يعني الذي يغلب و لا يغلب { الحكيم } في جميع أفعاله . قوله عز وجل { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } المراد بالآيات المعجزات التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام ، مثل العصا واليد وفلق البحر وغير ذلك من المعجزات العظيمة الباهرة { أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور } أي أن أخرج قومك بالدعوة من ظلمات الكفر الى نور الإيمان { وذكرهم بأيام الله } قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة : يعني بنعم الله .(4/103)
وقال مقاتل : بوقائع الله في الأمم السالفة . يقال : فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم بما أراد بما كان في أيام الله من النعمة والنقمة ، فأخبر بذكر الأيام عن ذلك لأن ذلك كان معلوماً عندهم وعلى هذا يكون المعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد . والترغيب والوعد أن يذكرهم بما أنعم الله عليهم به من النعمة ، وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل فيما مضى من الأيام ، والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله ، وشدة انتقامه ممن خالف أمره وكذب رسله ، وقيل : بأيام الله في حق موسى أن يذكر قومه بأيام المحنة والشدة والبلاء حين كانوا تحت أيدي القبط يسومونهم سوء العذاب فخلصهم الله من ذلك ، وجعلهم مولكاً بعد أن كانوا مملوكين { إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور } الصبّار : الكثير الصبر ، والشكور : الكثير الشكر ، وإنما خص الشكور والصبور بالاعتبار بالآيات وإن كان فيها عبرة للكافة لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم فلهذا خصهم بالآيات ، فكأنها ليست لغيرهم فهو كقوله { وهدى للمتقين } ولأن الانتفاع بالآيات لا يمكن حصوله إلا لمن يكون صابراً شاكراً أما من لم يكن كذلك فلا ينتفع بها البتة { وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم } لما أمر الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام أن يذكر قومه بأيام الله امتثل ذلك الأمر ، وذكرهم بأيام الله فال { اذكروا نعمة الله عليكم } { إذ أنجاكم من آل فرعون } أي اذركوا إنعام الله عليكم في ذلك الوقت الذي أنجاكم فيه من آل فرعون { يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم } . فإن قلت قال في سورة البقرة : يذبحون بغير واو وقال هنا ويذبحون بزيادة واو فما الفرق؟ قلت : إنما حذفت الواو في سورة البقرة لأن قوله يذبحون تفسير لقوله يسومونكم سوء العذاب ، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو كما تقول جاءني القوم زيد وعمرو إذا أردت تفسير القوم وأما دخول الواو هنا في هذه السورة فلأن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح وبالتذبيح أيضاً فقوله : ويذبحون نوع آخر من العذاب لأنه تفسير العذاب { ويستحيون نساءكم } يعني يتركونهن أحياء { وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم } . فان قلت كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم ؟ قلت : تمكينهم وإمهالهم حتى فعلوا ما فعلوا بلاء من الله؛ ووجه آخر وهون أذن لكم إشارة إلى الانجاء ، وهو بلاء عظيم لأن البلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً ومنه قوله : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } وهذا الوجه أولى لأنه موافق لأول الآية وهو قوله اذكروا نعمة الله عليكم . فإن قلت : هب أن تذبيح الأبناء فيه بلاء فكيف يكون استحياء النساء فيه بلاء . قلت : كانوا يستحيونهن ويتركونهن تحت أيديهم كالإماء فكان ذلك بلاء { وإذ تأذن ربكم } هذا من جملة ما قال موسى لقومه كأنه قيل اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم ، ومعنى تأذن : آذن ، أي أعلم ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل كأنه قيل وأذن ربكم إيذاناً بليغاً تنتفي عنده الشكوك وتنزاح الشبه المعنى وإذ تأذن ربكم فقال : { ولئن شكرتم } يعني يا بني اسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح { لأزيدنكم } يعني نعمة إلى نعمة ، ولأضاعفن لكم ما أتيتكم قيل شكر الموجود صيد المفقود .(4/104)
وقيل : لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب وأصل الشكر تصور النعمة ، وإظهارها وحقيقته الاعتراف بنعمة المنم مع تعظيمه ، وتوطين النفس على هذه الطريقة وهاهنا دقيقة وهي أن العبد إذا اشتغل بمطالعة أقسام نعم الله عز وجل عليه ، وأنواع فضله وكرمه وإحسانه إليه اشتغل بشكر تلك النعمة وذلك يوجب المزيد وبذلك تتأكد محبة العبد لله عز وجل وهو مقام شريف ومقام أعلى منه وهو أن يشغله حب المنعم عن الالتفات إلى النعم ، وهذا مقام الصدّيقين نسأل الله القيام بواجب شكر النعمة حتى يزيدنا من فضله وكرمه وإحسانه وإنعامه . وقوله { ولئن كفرتم } المراد بالكفر هاهنا كفران النعمة ، وهو جحودها لأنه مذكور في مقابلة الشكر { إن عذابي لشديد } يعني لمن كفر نعمتي ولا يشكرها { وقال موسى إن تكفروا } يعني يا بني اسرائيل { أنتم ومن في الأرض جميعاً } يعني والناس كلهم جميعاً فإنما ضرر ذلك يعود على أنفسكم بحرمانها الخير كله { فإن الله لغني } يعني عن جميع خلقه { حميد } أي محمود في جميع أفعاله لأنه متفضل وعادل { ألم يأتكم نبأ } يعني خبر { الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود } قال بعض المفسرين : يحتمل أن يكون هذا خطاباً من موسى لقومه ، والمقصود منه أنه عليه الصلاة والسلام يذكرهم بأمر القرون الماضية والأمم الخالية والمقصود منه حصول العبرة بأحوال من تقدم وهلاكهم { والذين من بعدهم } يعني من بعد هؤلاء الأمم الثلاثة { لا يعلمهم إلا الله } يعني لا يعلم كنه مقاديرهم وعددهم إلا الله لأن علمه محيط بكل شيء { ألا يعلم من خلق } وقيل : المراد بقوله والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله أقوام وأمم ما بلغنا خبرهم أصلاً ومنه قوله : { وقروناً بين ذلك كثيراً } وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول : كذب النسابون . يعني أنهم يدعون علم النسب إلى آدم ، وقد نفى الله علم ذلك عن العباد . وعن عبد الله بن عباس أنه قال : بين إبراهيم وعدنان ثلاثون قرناً لا يعلمهم إلا الله وكان مالك بن أنس يكره أن ينسب الإنسان نفسه أباً أباً إلى آدم ، لأنه لا يعلم أولئك إلا الله . وقوله تعالى { جاءتهم رسلهم بالبينات } يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات { فردوا أيديهم في أفواههم } .(4/105)
وفي معنى الأيدي والأفواه قولان : أحدهما أن المراد بهما هاتان الجارحتان المعلومتان ثم في معنى ذلك وجوه . قال ابن مسعود : عضوا أيديهم غيظاً . وقال ابن عباس : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم . وقال مجاهد وقتادة : كذبوا الرسل وردوا ما جاؤوا به . يقال : رددت قول فلان في فيه أي كذبته . وقال الكلبي : يعني أن الأمم ردوا أيديهم إلى أفواه أنفسهم ، يعني أنهم وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة منهم إلى الرسل أن اسكتوا . وقال مقاتل : ردوا أيديهم إلى أفواه الرسل يسكتونهم بذلك وقيل : إن الأمم لما سمعوا كلام الرسل عجبوا منه . وضحكوا على سبيل السخرية فعند ذلك ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل الذي غلبه الضحك . القول الثاني : أن المراد بالأيدي والأفواه غير الجارحتين فقيل المراد بالأيدي النعم ومعناه ردوا ما لو قبلوه لكان نعمة عليهم يقال لفلان عندي يد أي نعمة ، والمراد بالأفواه وتكذيبهم الرسل والمعنى كذبوهم بأفواههم وردوا قولهم وقيل إنهم كفوا عن قبول ما أمروا بقبوله من الحق ولم يؤمنوا به يقال فلان رد يده إلى فيه إذا أمسك عن الجواب فلم يجب وهذا القول فيه بعد لأنهم قد أجابوا بالتكذيب وهو أن الأمم ردوا على رسلهم { وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به } يعني إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم به لأنهم لم يقروا بأنهم أرسلوا إليهم لأنهم لو أقروا بأن الرسل أرسلوا إليهم لكانوا مؤمنين { وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب } يعني يوجب الريبة أو يوقع في الريبة والتهمة ، والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر الذي يشك فيه . فإن قلت : إنهم قالوا أولاً إنا كفرنا بما أرسلتم به فكيف يقولون ثانياً وإنا لفي شك والشك دون الكفر أو داخل فيه . قلت : إنهم لما صرحوا بكفرهم بالرسل فكأنهم حصل لهم شبهة توجب لهم الشك فقالوا : إن لم تدع الجزم في كفرنا فلا أقل من أن نكون شاكّين مرتابين في ذلك { قالت رسلهم } يعني مجيبين لأممهم { أفي الله شك } يعني وهل تشكون في الله وهو استفهام إنكار ونفي لما اعتقدوه { فاطر السموات والأرض } يعني وهل تشكون في كونه خالق السموات والأرض وخالق جميع ما فيهما { يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم } يعني ليغفر لكم ذنوبكم إذا آمنتم وصدقتم وحرف ( من ) صلة وقيل : إنها أصل ليست بصلة ، وعلى هذا إنه يغفر لهم ما بينهم وبينه من الكفر والمعاصي دون مظالم العباد { ويؤخركم إلى أجل مسمى } يعني إلى حين انقضاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب { قالوا } يعني الأمم مجيبين للرسل { إن أنتم } يعني ما أنتم { إلا بشر مثلنا } يعني في الصورة الظاهرة لستم ملائكة { تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا } يعني ما تريدون بقولكم : هذا إلا صدنا عن آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها { فأتونا بسلطان مبين } حجة بينة واضحة على صحة دعواكم { قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم } يعني أن الكفار لما قالوا لرسلهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا قالت لهم رسلهم مجيبين لهم : هب أن الأمر كما قلتم ووصفتم فنحن بشر مثلكم لا ننكر ذلك { ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } يعني بالنبوة والرسالة فيصطفي من يشاء من عباده لهذا المنصب العظيم الشريف { وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله } يعني وليس لنا من ما خصنا الله به من النبوة وشرفنا به من الرسالة أن نأتيكم بآية ، وبرهان ومعجزة تدل على صدقنا إلا بإذن الله لنا في ذلك { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } يعني في دفع شرور أعدائهم عنهم { وما لنا أن لا نتوكل على الله } يعني أن الأنبياء قالوا أيضاً قد عرفنا أنه لا يصيبنا شيء إلا بقضاء الله وقدره فنحن نثق به ونتوكل عليه في دفع شروركم عنا { وقد هدانا سبلنا } يعني وقد عرفنا طريق النجاة ، وبين لنا الرشد { ولنصبرن } اللام لام القسم تقديره والله لنصبرن { على ما آذيتمونا } يعني به من قول أو فعل { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } .(4/106)
فإن قلت : كيف كرر الأمر بالتوكل؟ وهل من فرق بين التوكلين؟ قلت : نعم التوكل الأول فيه إشارة إلى استحداث التوكل والتوكل الثاني فيه إشارة إلى السعي في التثبيت على ما استحدثوا من توكلهم وإبقائه وإدامته فحصل الفرق بين التوكلين . قوله تعالى : { وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا } يعني ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم أيها الرسل من بلادنا وأرضنا وإما عودكم في ملتنا . فإن قلت : هذا يوهم بظاهره أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعود فيها قلت : معاذ الله ولكن العود هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب ، وفيه وجه آخر ، وهو أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل الرسالة لم يظهروا خلاف أممهم ، فلما أرسلوا إليهم أظهروا مخالفتهم ودعوا إلى الله فقالوا لهم : لتعودن في ملتنا ظناً منهم أنهم كانوا على ملتهم ثم خالفوهم وإجماع الأمة على أن الرسل من أول الأمر إنما نشؤوا على التوحيد لا يعرفون غيره { فأوحى إليهم ربهم } يعني أن الله تعالى أوحى إلى رسله وأنبيائه بعد هذه المخاطبات والمحاورات { لنهلكن الظالمين } يعني أن عاقبة أمرهم إلى الهلاك فلا تخافوهم { ولنسكننكم الأرض من بعدهم } يعني من بعد هلاكهم { ذلك } يعني ذلك الإسكان { لمن خاف مقامي } يعني خاف مقامه بين يدي يوم القيامة فأضاف قيام العبد إلى نفسه ، لأن العرب قد تضيف أفعالها إلى أنفسها كقولهم : ندمت على ضربي إياك وندمت على ضربك مثله { وخاف وعيد } أي وخاف عذابي .(4/107)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
قوله عز وجل : { واستفتحوا } يعني واستنصروا . قال ابن عباس : يعني الأمم وذلك أنهم قالوا : اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا وقال مجاهد وقتادة : واستفتح الرسل على أممهم وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب { وخاب } يعني وخسر وقيل : هلك { كل جبار عنيد } والجبار في صفة الإنسان يقال لمن تجبر بنفسه بادعاء منزلة عالية لا يستحقها وهو صفة ذم في حق الإنسان ، وقيل : الجبار الذي لايرى فوقه أحداً وقيل : الجبار المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه والعنيد المعاند للحق ومجانبه قال مجاهد . وقال ابن عباس : هو المعرض عن الحق . وقال مقاتل : هو المتكبر . وقال قتادة : هو الذي يأبى أن يقول لا إله إلا الله . وقيل : العنيد هون المعجب بما عنده . وقيل العنيد الذي يعاند ويخالف { من ورائه جهنم } يعني هي أمامه وهو صائر إليها قال أبو عبيدة : هو من الأضداد يعني أنه يقال : وراء بمعنى خلف وبمعنى أمام وقال الأخفش : هو كما يقال : هذا الأمر من ورائك يعني أنه سيأتيك { ويسقى } يعني في جهنم { من ماء صديد } وهو ما سال من الجلد واللحم من القيح جعل ذلك شراب أهل النار . وقال محمد بن كعب القرظي : هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر وهو قوله { يتجرعه } أي يتحساه ويشربه لا بمرة واحدة بل جرعة بعد جرعة لمرارته وحرارته وكراهته ونتنه { ولا يكاد يسيغه } أي لا يقدر على ابتلاعه . يقال : ساغ الشراب في الحلق إذا سهل انحداره فيه . قال بعض المفسرين : إن يكان صلة والمعنى يتجرعه ولا يسيغه وقال صاحب الكشاف : دخلت يكاد للمبالغة يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة وقال بعضهم ولا يكاد يسيغه بعد إبطاء لأن العرب تقول ما كدت أقوم أي قمت بعد إبطاء فعلى هذا كاد أصلها وليست بصلة ، وقال ابن عباس : معناه لا يجيزه . وقيل : معناه يكاد لا يسيغه ويسيغه فيغلي في جوفه . عن أبي إمامة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { ويسقى من ماء صديد يتجرعه } قال : « يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره قال وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم وقال وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا » أخرجه الترمذي . وقال : حديث غريب . قوله : وقعت فروة رأسة أي جلدة رأسه وإنما شبهها بالفروة للشعر الذي عليها . وقوله تعالى { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } يعني أن الكافر يجد ألم الموت وشدته من كل مكان من أعضائه .(4/108)
وقال إبراهيم التيمي : حتى من تحت كل شعرة من جسده وقيل يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه ، ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وما هو بميت فيستريح . وقال ابن جريج : تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة { ومن ورائه } يعني أمامه { عذاب غليظ } أي شديد قيل : هو الخلود في النار . قوله تعالى { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف } هذا كلام مستأنف منقطع عما قبله وهو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه تقديره فيما نقص ، أو فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا والمثل مستعار للقصة التي فيها غرابة ، وقوله : أعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم فقال أعمالهم كرماد . وقال المفسرون والفراء : مثل أعمال الذين كفروا بربهم فحذف المضاف اعتماداً على ما ذكره بعد المضاف إليه . وقيل : يحتمل أن يكون المعنى صفة الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد كقولك في صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول والرماد معروف وهو ما يسقط من الحطب والفحم بعد إحراقه بالنار ، اشتدت به الريح يعني فنسفته وطيرته ولم تبق منه شيئاً في يوم عاصف ، وصف اليوم بالعصوف والعصوف من صفة الريح ، لأن الريح تكون فيه كقولك : يوم بارد وحار وليلة ماطرة لأن الحر والبرد والمطر توجد فيهما وقيل : معناه في يوم عاصف الريح فحذف الريح لأنه قد تقدم ذكرها وهذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار التي لم ينتفوا بها ، ووجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتذهب به وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى منها شيء وكذلك أعمال الكفار تبطل ، وتذهب بسبب كفرهم وشركهم حتى لا يبقى منها شيء ثم اختلفوا في هذه الأعمال ما هي فقيل : هي ما عملوه من أعمال الخير في حال الكفر كالصدقة وصلة الأرحام وفك الأسير وإقراء الضيف وبر الوالدين ، ونحو ذلك من أعمال البر والصلاح فهذه الأعمال ، وإن كانت أعمال بر لكنها لا تنفع صاحبها يوم القيامة بسبب كفره لأن كفره أحبطها وأبطلها كلها وقيل : المراد بالأعمال عبادتهم الأصنام التي ظنوا أنها تنفعهم فبطلت وحبطت ولم تنفعهم البتة ، ووجه خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم في الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالاً عليهم . وقيل : أراد بالأعمال الأعمال التي عملوها في الدنيا وأشركوا فيها غير الله فإنها لا تنفعهم لأنها صارت كالرماد الذي ذرته الريح وصار هباء لا ينتفع به وهو قوله تعالى : { لا يقدرون مما كسبوا } يعني في الدنيا { عمل شيء } يعني من تلك الأعمال والمعنى أنهم لايجدون ثواب أعمالهم في الآخرة { ذلك هو الضلال البعيد } يعني ذلك : الخسران الكبير لأن أعمالهم ضلت وهلكت ، فلا يرجى عودها والبعيد هنا الذي لا يرجى عوده { ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق } يعني لم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً وإنما خلقها لأمر عظيم وغرض صحيح { إن يشأ يذهبكم } يعني أيها الناس { ويأت بخلق جديد } يعني : سواكم أطوع لله منكم .(4/109)
والمعنى : أن الذي قدر على خلق السموات والأرض ، قادر على إفناء قوم وإماتتهم وإيجاد خلق آخر سواهم لأن القادر لا يصعب عليه شيء . وقيل هذا خطاب لكفار مكة يريد يمتكم يا معشر الكفار ، ويخلق قوماً غيركم خيراً منكم وأطوع { وما ذلك على الله بعزيز } يعني بممتنع لأن الأشياء كلها سهلة على الله ، وإن جلت وعظمت . قوله عز وجل { وبرزوا لله جميعاً } يعني خرجوا من قبورهم إلى الله ليحاسبهم ويجازيهم على قدر أعمالهم والبراز الفضاء ، وبرز حصل في البراز وذلك أن يظهر بذاته كلها والمعنى ، وخرجوا من قبورهم وظهروا إلى الفضاء وأورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر الله عنه ، فهو حق وصدق . وكائن لامحالة فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود { فقال الضعفاء } يعني الأتباع { للذين استكبروا } وهم القادة والرؤساء { ن كنا لكم تبعاً } يعني في الدين والاعتقاد { فهل أنتم } يعني في هذا اليوم { مغنون عنا } يعني دافعون عنا { من عذاب الله من شيء } من هنا للتبعيض والمعنى هل تقدرون على أن تدفعوا عنا بعض عذاب الله الذي حل بنا { قالوا } يعني الرؤساء والقادة ، والمتبوعين للتابعين { لو هدانا الله لهديناكم } يعني لو أرشدنا الله لأرشدناكم ودعوناكم إلى الهدى ولكن لما أضلنا دعوناكم إلى الضلالة { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } يعني مستويان علينا الجزع والصبر . والجزع ، أبلغ من الحزن لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده ، ويقطعه عنه { ما لنا من محيص } يعني من مهرب ، ولا مناجاة مما نحن فيه من العذاب . قال مقاتل : يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع فيقولون : تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر فعند ذلك يقولون سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص . وقال محمد بن كعب القرظي : بلغني أن أهل النار يستغيثون بالخزنة كما قال الله وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب فردت الخزنة عليهم وقالوا ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى فردت الخزنة وقالوا ادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال فلما يئسوا مما عند الخزنة ، نادوا يا مالك ليقض علينا ربك سألوا الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً واليوم كألف سنة مما تعدون ثم يجيبهم بقوله : إنكم ماكثون فلما يئسوا مما عنده قال بعضهم لبعض : تعالوا فلنصبر كما صبر أهل الطاعة لعل ذلك ينفعنا فصبروا وطال صبرهم فلم ينفعهم وجزعوا ، فلم ينفعهم عند ذلك قالوا : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص .(4/110)
قوله تعالى { وقال الشيطان } يعني إبليس { لما قضي الأمر } يعني لما فرغ منه وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار . يأخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه ، وتوبيخه ، فيقوم فيها خطيباً قال مقاتل : يوضع له منبر في النار فيجتمع عليه أهل النار يلومونه فيقول لهم : ما أخبر الله عنه بقوله { إن الله وعدكم وعد الحق } فيه إضمار تقديره فصدق في وعده { ووعدتكم فأخلفتكم } يعني الوعد . وقيل يقول : لهم إني قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار { وما كان لي عليكم من سلطان } يعني من ولاية وقهر ، وقيل : لم آتيكم بحجة فيما وعدتكم به { إلا أن دعوتكم } هذا استثناء منقطع معناه لكن دعوتكم { فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } يعني ما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة ، وقد سمعتم دلائل الله وجاءتكم الرسل فكان من الواجب عليكم أن لا تلتفوا إليّ ولا تسمعوا قولي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم بكم أولى بأجابتي ، ومتابعتي من غير حجة ولا دليل { ما أنا بمصرخكم } يعني بمغيثكم ولا منقذكم { وما أنتم بمصرخي } يعني بمغيثيّ ولا منقذيّ مما أنا فيه { إني كفرت بما أشركتمون من قبل } يعني كفرت بجعلكم إياي شريكاً كله في عبادته وتبرأت من ذلك والمعنى أن إبليس جحد ما يعتقده الكفار فيه ، من كونه شريكاً لله وتبرأ من ذلك { إن الظالمين لهم عذاب أليم } روى البغوي يسنده عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة ، وذكر الحديث إلى قوله « فيأتوني فيأذن الله في أن أقوم فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتى ربي فيشفعني ، ويجعل لي نوراً من رأسي إلى ظهر قدمي . ثم يقول الكفار : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ، فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ثم تعظم جهنم ، ويقول عند ذلك : إن الله وعدكم وعد الحق الآية » .(4/111)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
قوله تعالى : { وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } لما شرح الله عز وجل حال الكفار الأشقياء بما تقدم من الآيات الكثيرة ، شرح أحوال المؤمنين السعداء ، وما أعد لهم في الآخرة من الثواب العظيم الجزيل ، وذلك أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم والمنفعة الخالصة إليها الإشارة دائمة بقوله : وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، وكونها دائمة أشير إليه بقوله { خالدين فيها } والتعظيم حصل من وجهين أحدهما قوله : { بإذن ربهم } لأن تلك المنافع إنما كانت تفضلاً من الله بإنعامه الثاني قوله { تحيتهم فيها سلام } فيحتمل أن بعضهم يحيي بعضاً بهذا الكلمة أو الملائكة تحييهم بها أو الرب سبحانه وتعالى يحييهم ، ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما دخلوا الجنة سلموا من جميع الآفات لأن السلام مشتق من السلامة . قوله عز وجل { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً } لما شرح الله عز وجل أحوال الأشقياء وأحوال السعداء ، ضرب مثلاً فيه حكم هذين القسمين فقال تعالى : ألم تر أي بعين قلبك فتعلم علم يقين بإعلامي إياك فعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب في للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل معه غيره فيه ويحتمل أن يكون الخطاب فيه لكل فرد من الناس ، فيكون المعنى ألم تر أيها الإنسان كيف ضرب الله مثلاً يعني بين شبهاً ، والمثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر ، بينهما مشابهة ليتبين أحدهما من الآخر ويتصور . وقيل : هو قول سائر لتشبيه شيء بشيء آخر { كلمة طيبة } هي قول لا إله إلا الله في قول ابن عباس وجمهور المفسرين : { كشجرة طيبة } يعني كشجرة طيبة الثمرة وقال ابن عباس : هي النخلة . وبه قال ابن مسعود وأنس ومجاهد وعكرمة والضحاك ( ق ) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » أخبروني عن شجرة شبه الرجل أو قال كالرجل المسلم لا يتحات ورقها تؤتي أكلها كل حين « قال ابن عمر : فوقع في نفسي أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه سلم » هي النخلة « قال : فلما قمنا قلت لعمر : يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة فقال ما منعك أن تتكلم؟ فقلت لم أركم تتكلمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً فقال عمر لأن تكون قلته أحب إلي من كذا وكذا » وفي رواية : « إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد الله ابن عمر ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت أن أتكلم ثم قالوا : حدثنا ما هي يا رسول الله قال هي النخلة »(4/112)
وفي رواية عن ابن عباس ، أنها شجرة في الجنة وفي رواية أخرى عنه أنها المؤمن . قوله { أصلها ثابت } يعني في الأرض { وفرعها } يعني أعلاها { في السماء } يعني ذاهبة في السماء { تؤتي أكلها } يعني ثمرها { كل حين بإذن ربها } يعني بأمر ربها والحين في اللغة الوقت يطلق على القليل والكثير واختلفوا في مقداره هذا وقال مجاهد وعكرمة : الحين هنا سنة كاملة لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة واحدة . وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن : ستة أشهر يعني من وقت طلعها إلى حين صرامها ، وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً . وقال علي بن أبي طالب : ثمانية أشهر يعني أن مدة حملها باطناً وظاهراً ثمانية أشهر . وقيل : أربعة أشهر من حين ظهور حملها إلى إدراكها . وقال سعيد بن المسيب : شهران يعني من وقت أن يؤكل منها إلى صرامها . وقال الربيع بن أنس : كل حين يعني غدوة وعشية ، لأن ثمر النخل يؤكل أبداً ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاءً ، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والبسر والمنصف والرطب ، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب فأكلها دائم في كل وقت . وقال العلماء : ووجه الحكمة في تمثيل هذه الكلمة التي هي كلمة الإخلاص وأصل الإيمان بالنخلة حاصل من أوجه : أحدهما : أن كلمة الإخلاص شديدة الثبوت في قلب المؤمن كثبوت أصل النخلة في الأرض . الوجه الثاني : أن هذه الكلمة ترفع عمل المؤمن إلى السماء . كما قال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وكذلك فرع النخلة الذي هو عال في السماء . الوجه الثالث : أن ثمر النخلة يأتي في كل حين ووقت وكذلك ما يكسبه المؤمن من الأعمال الصالحة في كل وقت وحين ببركة هذه الكلمة ، فالمؤمن كلما قال : لا إله إلا الله صعدت إلى السماء وجاءته بركتها وثوابها وخيرها ومنفعتها . الوجه الرابع : أن النخلة شبيهة بالإنسان في غالب الأمر لأنها خلقت من فضله طينة آدم وأنها إذا قطع رأسها تموت كالآدمي بخلاف سائر الشجر فإنه إذا قطع نبت ، وأنها لا تحمل حتى تلقح بطلع الذكر . الوجه الخامس : في وجه الحكمة في تمثيل الإيمان بالشجر على الإطلاق لأن الشجرة لا تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء : عرق راسخ ، وأصل ثابت ، وفرع قائم ، وكذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء : تصديق بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل بالأبدان ، وقوله سبحانه وتعالى : { ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون } يعني أن في ضرب الأمثال زيادة في الأفهام وتصويراً للمعاني وتذكيراً ومواعظ لمن تذكر واتعظ . قوله تعالى { ومثل كلمة خبيثة } وهو الشرك { كشجرة خبيثة } يعني الحنظل قاله أنس بن مالك ومجاهد : وفي رواية عن ابن عباس إنها الكشوت وعنه أيضاً أنها الثوم وعنه أيضاً أنها الكافر لأنه لا يقبل عمله فليس له أصل ثابت ولا يصعد إلى السماء { اجتثت } يعني استؤصلت وقطعت { من فوق الأرض ما لها من قرار } يعني ما لهذه الشجرة من ثبات في الأرض ، لأنها ليس لها أصل ثابت في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء كذلك الكافر لا خير فيه ولا يصعد له .(4/113)
قول طيب ولا عمل صالح ولا لاعتقاده أصل ثابت ، فهذا وجه تمثيل الكافر بهذه الشجرة الخبيثة . عن أنس قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع عليه رطب فقال : « مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها قال : هي النخلة ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار قال هي الحنظلة » أخرجه الترمذي . مرفوعاً وموقوفاً ، وقال الموقوف أصح . قوله سبحانه وتعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } والقول الثابت : هي الكلمة الطيبة وهي شهادة أن لا إله إلا الله ، في قول جمهور المفسرين . ولما وصف الكلمة الخبيثة في الآية المتقدمة بكلمة الشرك قال : في هذه الآية ويضل الله الظالمين يعني بالكلمة الخبيثة وهي كلمة الشرك في قول جميع المفسرين وقوله : { في الحياة الدينا } يعني في القبر عند السؤال { وفي الآخرة } يعني يوم القيامة عند البعث والحساب وهذا القول واضح ويدل عليه ما روي عن البراء بن عازب . قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن المسلم إذا سئل في القبل يشهد أن لا إله إلله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال : نزلت في عذاب القبر زاد في رواية يقال له من ربك فيقول ربي الله ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم » أخرجه البخاري ومسلم ( ق ) . عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال : « إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وأنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة قال النبي صلى الله عليه وسلم : » فيراهما جميعاً « قال قتادة : ذكر لنا أنه يفسح له في قبره ثم رجع إلى حديث أنس وأما المنافق وفي رواية وأما الكافر فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه . فيقال : لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين »(4/114)
لفظ البخاري ولمسلم بمعناه زاد في رواية « أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً ، ويملا عليه خضراً إلى يوم يبعثون » وأخرجه أبو داود عن أنس قال : وهذا لفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن المؤمن إذا وضع قبره أتاه ملك فيقول : ماكنت تعبد؟ فإن هداه الله ، قال : كنت أعبد الله فيقول له : ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول هو عبد الله ورسوله فلا يسأل عن شيء بعدها فينطلق به إلى بيت كان له في النار ، فيقال له : هذا كان مقعدك ولكن عصمك الله فأبدلك به بيتاً في الجنة فيراه ، فيقول : دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي . فيقال له : اسكن . وإن الكافر والمنافق إذا وضع في قبره ، أتاه ملك فينهضه فيقول ما كنت تعبد؟ فيقول : لا أدري . فيقال له : لا دريت ولا تليت فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول كنت أقول ما يقول الناس فيه فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين » وأخرجه النسائي . أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قبر الميت أو قال إذا قبر أحدكم آتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول : كنت أقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً ، ثم ينور له فيه ثم يقال له : ثم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه ، حتى يبعثه الله تعالى من مضجعه ، ذلك وإن كان منافقاً فيقول سمعت الناس يقولون قولاً فقلت مثلهم لا أدري فيقولان : قد كنا نعلم أنك كنت تقول ذلك . فيقال للأرض : التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه ، فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك » أخرجه الترمذي . عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهت إلى القبر ، ولما يلحد بعد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤؤسنا الطير وبيده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه صلى الله عليه وسلم فقال : تعوذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً زاد في رواية قال : إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا ولو مدبرين حين يقال له : يا هذا من ربك وما دينك وما نبيك وفي رواية يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟ فيقول : ربي الله فيقولان له وما دينك؟ فيقول : ديني الإسلام فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله فيقولان : وما يدريك؟ فيقول : قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقت ، زاد في رواية فذلك قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ثم لقناه قال فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوا له من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره وإن كان الكافر فذكر موته قال : فتعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول : هاه هاه لا أدري .(4/115)
فيقولا ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء قد كذب عبدي فافرشوا له من النار وألبسوه من النار وافتحوا له باباً في النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره ، حتى تختلف فيه أضلاعه في رواية ثم يقبض له أعمى أبكم أصم معه مرزبة من حديد ، لو ضرب بها جبلاً لصار تراباً فيضربه بها ضربة ، يسمعها من بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير تراباً ثم تعاد فيه الروح « أخرجه أبو داود . عن عثمان بن عفان قال : » كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : « استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل » أخرجه أبو داود . عن عبد الرحمن بن ثمامة المهري قال : حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت فبكى بكاء طويلاً ، وحول وجهه إلى الجدر وجعل ابنه يقول : ما يبكيك يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا فأقبل بوجهه وقال : إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وذكر الحديث بطوله وفيه « فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ، ولا نار فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ما أراجع به رسل ربي » أخرجه مسلم بزيادة طويلة فيه قيل المراد من التثبيت بالقول الثابت هو أن الله تعالى إنما يثبتهم في القبر بسبب كثرة مواظبتهم على شهادة الحق في الحياة الدينا وحبهم لها ، فمن كانت مواظبته على شهادة الإخلاص أكثر كان رسوخها في قلبه أعظم فينبغي للعبد المسلم أن يكثر من قول لا إله إلا الله محمد رسول الله في جميع حالاته ، من قيامه وقعوده ونومه ويقظته وجميع حركاته وسكناته ، فلعل الله عز وجل أن يرزقه ببركة مواظبته على شهادة الإخلاص التثبيت في القبر ، ويسهل عليه جواب الملكين بما فيه خلاصه من عذاب الآخرة ، نسأل الله التثبيت في القبر ، وحسن الجواب وتسهيله بفضله ومنه وكرمه وإحسانه ، إنه على كل شيء قدير وقوله تعالى : { ويضل الله الظالمين } يعني أن الله تعالى لا يهدي المشركين إلى الجواب الصواب في القبر { ويفعل الله ما يشاء } يعني من التوفيق ، والخذلان والهداية والإضلال والتثبيت ، وتركة لا اعتراض عليه في جميع أفعاله لا يسئل عما يفعل وهم يسألون .(4/116)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
قوله عز وجل : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } ( خ ) عن ابن عباس في قوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً؟ قال : هم كفار مكة وفي رواية هم والله كفار قريش . قال عمر : هم قريش ونعمة الله هو محمد صلى الله عليه وسلم { وأحلوا قومهم دار البوار } قال البوار : يوم بدر وعن علي رضي الله عنه قال هم كفار قريش فجروا يوم بدر ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية أما بنو المغيرة فقد كفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فقد متعوا إلى حين فقوله بدلوا نعمة الله كفراً معناه أن الله تعالى لما أنعم على قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم فأرسله إليهم وأنزل عليه كتابه ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان اختاروا الكفر على الإيمان ، وغيروا نعمة الله عليهم . وقيل : يجوز أن يكون بدلوا شكر نعمة الله عليهم كفراً لأنهم لما وجب عليهم الشكر بسبب هذه النعمة أتوا بالكفر فكأنهم غيروا الشكر ، وبدلوه بالكفر وأحلوا قومهم ، يعني ومن تبعهم على دينهم وكفرهم دار البوار يعني دار الهلاك ثم فسرها بقوله { جهنم يصلونها وبئس القرار } يعني المستقر { وجعلوا لله أنداداً } يعني أمثالاً وأشباهاً من الأصنام ، وليس لله تعالى ند ولا شبيه ، ولا مثيل تعالى لله عن الند والتشبيه والمثيل علواً كبيراً { ليضلوا عن سبيله } يعني ليضلوا الناس عن طريق الهدى ودين الحق { قل تمتعوا } أي قل : يا محمد لهؤلاء الكفار تمتعوا في الدنيا أياماً قلائل { فإن مصيركم إلى النار } يعني في الآخرة . قوله تعالى { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } يعني يقيموا الصلاة الواجبة ، وإقامتها إتمام أركانها { وينفقوا مما رزقناهم } قيل أراد بهذا الإنفاق إخراج الزكاة الواجبة ، وقيل : أراد به جميع الإنفاق في جميع وجوه الخير والبر وحمله على العموم أولى ليدخل فيه إخراج الزكاة ، والإنفاق في جميع وجوه البر { سراً وعلانية } يعني ينفقون أموالهم في حال السر وحال العلانية ، وقيل : أراد بالسر صدقة التطوع وبالعلانية إخراج الزكاة الواجبة { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } قال أبو عبيدة : البيع هنا الفداء يعني لا فداء في ذلك اليوم { ولا خلال } يعني ولا خلة ، وهي المودة والصداقة التي تكون مخاللة بين اثنين . وقال مقاتل : إنما هو يوم لا بيع فيه ولاشراء مخاللة ولا قرابة ، إنما هي الأعمال إما أن يثاب بها أو يُعاقَب عليها . فإن قلت كيف نفى الخلة في هذه الآية ، وفي الآية التي في سورة البقرة وأثبتها في قوله { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } قلت : الآية الدالة على نفي الخلة محمولة على نفي الخلة الحاصلة ، بسبب ميل الطبيعة ، ورعونة النفس ، والآية الدالة على حصول الخلة وثباتها محمولة على الخلة الحاصلة بسبب محبة الله ألا تراه أثبتها للمتقين فقط ، ونفاها عن غيرهم . وقيل : إن ليوم القيامة أحوالاً مختلفة ، ففي بعضها يشتغل كل خليله عن خليله وفي بعضها يتعاطف الأخلاء بعضهم على بعض . إذا كانت تلك المخالة لله في محبته .(4/117)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
قوله عز وجل : { الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج من الثمرات رزقاً لكم } اعلم أنه تقدم تفسير هذه الآية في مواضع كثيرة ، ونذكر هاهنا بعض فوائد هذه الآية الدالة على وجود الصانع المختار القادر الذي لا يعجزه شيء أراده ، فقوله تعالى : الله خلق السموات والارض ، إنما بدأ خلق السموات والأرض ، لأنها أعظم المخلوقات الشاهدة الدالة على وجود الصانع الخالق القادر المختار وأنزل من السماء ماء يعني من السحاب سمي السحاب سماء لارتفاعه مشتق من السمو ، وهو الارتفاع وقيل إن المطر ينزل من السماء إلى السحاب ومن السحاب الى الأرض فأخرج به أي بذلك الماء من الثمرات رزقاً لكم ، والثمر اسم يقع على ما يحصل من الشجر . وقد يقع على الزرع أيضاً بدليل قوله : كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده وقوله : من الثمرات بيان للرزق أي أخرج به رزقاً هو الثمرات { وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره } لما ذكر الله سبحانه وتعالى إنعامه بإنزال المطر ، وأخراج الثمر لأجل الرزق والانتفاع به ذكر نعمته على عباده بتسخير السفن الجارية على الماء ، لأجل الانتفاع بها في جلب ذلك الرزق الذي هو الثمرات ، وغيرها من بلد إلى بلد آخر . فهي من تمام نعمة الله على عباده { وسخر لكم الأنهار } يعني ذللها لكم تجرونها حيث شئتم ، ولما كان ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزروع والثمرات ولا في الشراب أيضاً ذكر نعمته على عباده في تسخير الأنهار ، وتفجير العيون لأجل هذه الحاجة ، فهو من أعظم نعم الله على عباده { وسخر لكم الشمس والقمر دائبين } الدأب العادة المستمرة دائماً على حالة واحدة ودأب في السير دوام عليه ، والمعنى أن الله سخر الشمس والقمر ، يجريان دائماً فيما يعود إلى مصالح العباد لا يفتران إلى آخر الدهر ، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها . قال ابن عباس : دؤبها في طاعة الله عز وجل . وقال بعضهم : معناه يدأبان في طاعة الله أي في مسيرهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وإصلاح النبات والحيوان لأن الشمس سلطان النهار وبها تعرف فصول السنة والقمر سلطان الليل ، وبه يعرف انقضاء الشهور وكل ذلك بتسخير الله عز وجل ، وإنعامه على عباده وتسخيره لهم { وسخر لكم الليل والنهار } يعني يتعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان ، والزيادة وذلك من إنعام الله على عباده وتسخيره لهم { وآتاكم من كل ما سألتموه } لما ذكر الله سبحانه وتعالى النعم العظام التي أنعم الله بها على عباده وسخرها لهم بين بعد ذلك ، أنه تعالى لم يقتصر على تلك النعم بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها العد والحصر .(4/118)
والمعنى : وآتاكم من كل ما سألتموه شيئاً فحذف شيئاً اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض ، وقيل : هو على التكثير يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه ، وما لم تسألوه لأن نعمه علينا أكثر من أن تحصى { وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها } يعني أن نعم الله كثيرة على عباده ، فلا يقدر أحد على حصرها ولا عدها لكثرتها { إن الإنسان } قال ابن عباس : يريد أبا جهل ، وقال الزجاج : هو اسم جنس ولكن يقصد به الكافر { لظلوم كفار } يعني ظلوم لنفسه كفار بنعمة ربه ، وقيل : الظلوم الشاكر لغير من أنعم عليه فيضع الشكر في غير موضعه كفار جحود لنعم الله عليه . وقيل : يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها ، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع بالنعمة يجمع ويمنع . قوله سبحانه وتعالى { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً } يعني ذا آمن يؤمن فيه وأراد بالبلد مكة . فإن قلت : أي فرق بين قوله اجعل هذا بلداً آمناً وبين قوله اجعل هذا البلد آمناً؟ قلت : الفرق بينهما أنه سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فيها ولا يخافون وسأل في الثاني أن يخرج هذا البلد من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن ، كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمناً { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } يعني أبعدني وبنيّ أن نعبد الأصنام . فإن قلت قد توجه على هذه الآية إشكالات وهي من وجوه : الأول أن إبراهيم دعا ربه أن يجعل مكة آمنة ثم إن جماعة من الجبابرة وغيرهم ، قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها . الوجه الثاني : أن الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام معصومون عن عبادة الأصنام ، وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله اجنبني عن عبادتها . الوجه الثالث : أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه أيضاً أن يجنب بنيه عن عبادة الأصنام ، وقد وجد كثير من بنيه عبد الأصنام مثل كفار قريش ، وغيرهم ممن ينسب إلى إبراهيم عليه السلام . قلت : الجواب عن الوجوه المذكورة من وجوه : فالجواب على الوجه الأول : من وجهين أحدهما أن إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء ، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب ، وهذا موجود بحمد الله ولم يقدر أحد على خراب مكة ، وأورد على هذا ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة » أخرجاه في الصحيحين . وأجيب عنه بأن قوله : اجعل هذا البلد آمناً يعني إلى قرب القيامة وخراب الدنيا وقيل : هو عام مخصوص بقصة ذو السويقتين فلا تعارض بين النصين . الوجه الثاني : أن يكون المراد اجعل هذا البلد آمنين ، وهذا الوجه عليه أكثر العلماء من المفسرين وغيرهم علو هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله : ويتخطف الناس من حولهم ، وأهل مكة آمنون من ذلك حتى إن من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وما له من ذلك ، وحتى إن الوحوش إذا كانت خارجة من الحرم استوحشت فإذا دخلت الحرم أمنت واستأنست لعلمها أنها لا يهيجها أحد في الحرم وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها وأما الجواب عن الوجه الثاني : فمن وجوه أيضاً : الوجه الأول : أن دعاء إبراهيم عليه السلام لنفسه لزيادة العصمة التثبيت ، فهو كقوله واجعلنا مسلمين لك .(4/119)
الوجه الثاني : أن إبراهيم عليه السلام ، وإن كان يعلم أن الله سبحانه وتعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه دعا بهذا الدعاء ، هضماً للنفس وإظهاراً للعجز والحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى ورحمته ، وأن أحداً لا يقدر على نفع نفسه بشيء لم ينفعه الله به فلهذا السبب دعا لنفسه بهذا الدعاء وأما دعاؤه لبنيه ، وهو الوجه الثالث من الإشكالات فالجواب عنه من وجوه : الأول أن إبراهيم دعا لبنيه من صلبه ، ولم يعبد أحد منهم صنماً قط . الوجه الثاني : أنه أراد أولاده وأولاد أولاده الموجودين حالة الدعاء ولا شك أن إبراهيم عليه السلام قد أجيب فيهم . الوجه الثالث قال الواحدي : دعا لمن أذن الله أن يدعو له فكأنه قال : وبني الذين أذنت لي في الدعاء لهم لأن دعاء الأنبياء مستجاب وقد كان من بنيه من عبد الصنم فعلى هذا الوجه يكون هذا الدعاء من العام المخصوص . الوجه الرابع : أن هذا مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية : فمن تبعني فإنه مني ، وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فليس منه ، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه . وقوله تعالى { رب إنهن } يعني الأصنام { أضللن كثيراً من الناس } وهذا مجاز لأن الأصنام جمادات ، وحجارة لا تعقل شيئاً حتى تضل من عبدها إلا أنه لما حصل الإضلال بعبادتها أضيف إليها كما تقول : فتنتهم الدنيا وغرتهم وإنما فتنوا بها واغتروا بسببها { فمن تبعني فإنه مني } يعني فمن تبعني على ديني واعتقادي ، فإنه مني يعني المتدينين بديني المتمسكين بحبلي كما قال الشاعر :
إذا حاولت في أسد فجوراً ... فإني لست منك ولست مني
أراد ولست من المتمسكين بحبلي ، وقيل : معناه أنه مني حكمه حكمي جار مجراي في القرب والاختصاص { ومن عصاني } يعني في غير الدين { فإنك غفور رحيم } قال السدي : ومن عصاني ثم تاب فإنك غفور رحيم . وقال مقاتل : ومن عصاني فيما دون الشرك فإنك غفور رحيم . وشرح أبو بكر بن الأنباري هذا فقال : ومن عصاني فخالفني في بعض الشرائع وعقائد التوحيد فإنك غفور رحيم إن شئت أن تغفر له غفرت إذا كان مسلماً وذكر وجهين آخرين أحدهما أن هذا كان قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبويه ، وهو يقول أن ذلك غير محظور فلما عرف أنهما غير مغفور لهما تبرأ منهما والوجه الآخر ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان ، والإسلام وتهديه إلى الصواب .(4/120)
قوله عز وجل إخباراً عن إبراهيم { ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم } ( خ ) عن ابن عباس قال : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل ، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ، فوضعهما هناك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفل إبراهيم منطقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم إلى أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت آلله أمرك بهذا؟ قال نعم قالت إذن لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم فدعا بهذه الدعوات فرفع يديه؛ فقال : رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت ، وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال : يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفاء أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليها ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً فهبطت منه حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم ترى أحداً ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم « فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت صوتاً أيضاً فقالت : قد أسمعت أن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بقعبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه ، وتقول : بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها ، وهو يفور بعدما تغرف » وفي رواية قدر ما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه سلم : « يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً » قال : فشربت وأرضعت ولدها . فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتا لله تعالى ، يبنيه هذا الغلام وأبوه وأن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً .(4/121)
فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي ، وما فيه ماء فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا ، وأم إسماعيل عند الماء فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك قالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا : قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه سلم : « فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا أهليهم ، فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم وشب الغلام ، وتعلم العربية منهم وآنسهم وأعجبهم حين حين شب فلما أدرك زوجوه بامرأة منهم وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته » أخرجه البخاري بأطول من هذا ، وقد تقدم الحديث بطوله في تفسير سورة البقرة ، وأما تفسير الآية فقوله ربنا إني أسكنت من ذريتي من للتبعيض أي بعض ذريتي وهو إسماعيل عليه السلام بواد غير ذي زرع يعني ليس فيه زرع ، لأنه واد بين جبلين جبل أبي قبيس وجبل أجياد وهو واد بمكة عند بيتك المحرم سماه محرماً لأنه يحترم عنده ما لا يحترم عند غيره ، وقيل : لأن الله حرمه على الجبابرة فلم ينالوه بسوء وحرم التعرض له والتهاون به ، وبحرمته وجعل ما حوله محرماً لمكانه ، وشرفه وقيل : لأنه حرم على الطوفان بمعنى امتنع منه وقيل : سمي محرماً لأن الزائرين له يحرمون على أنفسهم أشياء كانت مباحة لهم من قبل وسمي عتيقاً أيضاً لأنه أعتق من الجبابرة أو من الطوفان . فإن قلت : كيف قال عند بيتك المحرم ولم يكن هناك بيت حينئذ ، وإنما بناه إبراهيم بعد ذلك . قلت : يحتمل أن الله عز وجل أوحى إليه وأعلمه أن هناك بيتاً قد كان في سالف الزمان ، وأنه سيعمر فلذلك قال عند بيتك المحرم ، وقيل : يحتمل أن يكون المعنى عند بيتك الذي كان ثم رفع عند الطوفان وقيل : يحتمل أن يكون المعنى عند بيتك الذي جرى في سابق علمك أنه سيحدث في هذا المكان { ربنا ليقيموا الصلاة } اللام في ليقيموا متعلقة بأسكنت يعين أسكنت قوماً من ذريتي ، وهم إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا أي لأجل أن يقيموا أو ليكي يقيموا الصلاة { فاجعل أفئدة من الناس } قال البغوي جمع الموفد { تهوي إليهم } تحن وتشتاق إليهم . قال السدي رحمه الله : أمل قلوبهم إلى هذا الموضع وقال ابن الجوزي أفئدة من الناس أي قلوب جماعة من الناس فلهذا جعله جمع فؤاد قال ابن الأنباري : وإنما عبر عن القلوب بالأفئدة لقرب القلب من الفؤاد فجعل القلب والفؤاد جارحتين .(4/122)
وقال الجوهري : الفؤاد القلب والجمع أفئدة فجعلهما جارحة واحدة ولفظة من في قوله من الناس للتبعيض ، قال مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس والروم والترك والهند . وقال سعيد بن جبير : لحجت اليهود والنصارى والمجوس ولكنه قال أفئدة من الناس فهم المسلمون تهوي إليهم قال الأصمعي : يقال هوى يهوي هوياً إذا سقط من علو إلى أسفل وقال الفراء تهوي إليهم تريدهم كما تقول : رأيت فلاناً يهوي نحوك معناه يريدك وقال أيضاً تهوي تسرع إليهم ، وقال ابن الأنباري : معناه تنحط إليهم وتنحدر وتنزل هذا قول أهل اللغة في هذا الحرف وأما أقوال المفسرين وقال ابن الأنباري : معناه تنحط إليهم وتنحدر وتنزل هذا قول أهل اللغة في هذا الحرف وأما أقوال المفسرين فقال ابن عباس : يريد تحن إليهم لزيارة بيتك وقال قتادة تسرع إليهم . وفي هذا بيان أن حنين الناس إليهم ، إنما هو لطلب حج البيت لا لأعيانهم ، وفيه دعاء للمؤمنين بأن يرزقهم حج البيت ودعاء لسكان مكة من ذريته بأنهم ينتفعون بمن يأتي إليهم من الناس الزيارة البيت فقد جمع إبراهيم عليه السلام في هذا الدعاء من أمر الدين ، والدنيا ما ظهر بيانه وعمت بركاته { وارزقهم من الثمرات } يعني كما رزقت سكان القرى ذوات الماء والزرع فيكو المراد عمارة قرى بقرب مكة لتحصل تلك الثمار ، وقيل يحتمل أن يكون المراد جلب الثمرات إلى مكة بطريق النقل والتجارة فهو كقوله تعالى يجبى إليه ثمرات كل شيء . وقوله تعالى { لعلهم يشكرون } يعني لعلهم يشكرون هذه النعم التي أنعمت بها عليهم ، وقيل : معناه لعلهم يوحدونك ويعظمونك وفيه دليل على أن تحصيل منافع الدنيا ، إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات .(4/123)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
{ ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن } يعني إنك تعلم السر كما تعلم العلن عما لا تفاوت فيه؛ والمعنى أنك تعلم أحوالنا ، وما يصلحنا وما يفسدنا وأنت أرحم بنا منا فلا حاجة بنا إلى الدعاء ، والطلب إنما ندعوك إظهاراً للعبودية لك ، وتخشعاً لعظمتك وتذللاً لعزتك وافتقاراً إلى ما عندك وقيل : معناه تعلم ما نخفي من الوجد بفرقة إسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بواد غير ذي زرع وما نعلن يعني من البكاء وقيل : ما نخفي يعني من الحزن المتمكن في القلب ، وما نعلن يعني ما جرى بينه وبين هاجر عند الوداع حين قالت لإبراهيم عليه السلام إلى من تكلنا قال : إلى الله قالت إذاً لا يضيعنا { وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء } فقيل : هذا من تتمة قول إبراهيم يعني وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان وقال الأكثرون : إنه من قول الله تعالى تصديقاً لإبراهيم فيما قال : فهو كقوله وكذلك يفعلون { الحمد لله رب الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } قال ابن عباس : ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة وقال سعيد بن جبير : بشر إبراهيم بإسحاق وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة ، ومعنى قوله : على الكبر مع الكبر لأن هبة الولد في هذا السن من أعظم المنن لأنه سن اليأس من الولد لهذا شكر الله على هذه المنة . فقال : الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق . فإن قلت : كيف جمع بين إسماعيل وإسحاق في الدعاء في وقت واحد وإنما بشر باسحاق بعد إسماعيل بزمان طويل؟ قلت : يحتمل أن إبراهيم عليه السلام إنما أتى بهذا الدعاء عندما بشر باسحاق وذلك أنه لما عظمت المنة على قلبه بهبة ولدين عظيمين عند كبره قال عند ذلك الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ولا يرد على هذا ما ورد في الحديث أنه دعا بما تقدم عند مفارقة إسماعيل وأمه لأن الذي صح في الحديث أنه دعا بقوله ربنا إني أسكنت ذريتي إلى قوله لعلهم يشكرون إذا ثبت هذا فيكون قوله الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق في وقت آخر والله أعلم بحقيقة الحال { إن ربي لسميع الدعاء } كان إبراهيم عليه السلام قد دعا ربه وسأله الولد بقوله { رب هب لي من الصالحين } فلما استجاب الله دعاءه ووهبه ما سأل شكر الله على ما أكرمه به ومن إجابة دعائه فعند ذلك قال الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء وهو من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله { ربِّ اجعلني مقيم الصلاة } يعني ممن يقيم الصلاة بأركانها ويحافظ عليها في أوقاتها { ومن ذريتي } أي واجعل من ذريتي من يقيم الصلاة وإنما أدخل لفظة من التي هي للتبعيض في قوله ومن ذريتي لأنه أعلم بإعلام الله إياه أنه قد يوجد من ذريته جمع من الكفار لا يقيمون الصلاة فلهذا قال ومن ذريتي وأراد بهم المؤمنين من ذريته { ربنا وتقبل دعاء } سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يتقبل دعاءه فاستجاب الله لإبراهيم وقيل دعاءه بفضله ومنه كرمه { ربنا اغفر لي } فان قلت طلب المغفرة من الله إنما يكون لسابق ذنب قد سلف حتى يطلب المغفرة من ذلك الذنب وقد ثبت عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الذنوب فما وجه طلب المغفرة له؟ قلت : المقصود منه الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى وقطع الطمع من كل شيء إلا من فضله وكرمه والاعتراف بالعبودية لله تعالى والاتكال على رحمته { ولوالدي } .(4/124)
فإن قلت : كيف استغفر إبراهيم لأبويه وكانا كافرين؟ قلت : أراد أنهما إن أسلما وتابا وقيل إنما قال ذلك أن يتبين له أنهما من أصحاب الجحيم وقيل إن أمه أسلمت فدعا لها وقيل أراد بوالديه آدم وحواء { وللمؤمنين } يعني واغفر للمؤمنين كلهم { يوم يقوم الحساب } يعني يوم يبدو ويظهر الحساب وقيل أراد يوم الناس للحساب فاكتفى بذلك أي بذكر الحساب لكونه مفهوماً عند السامع وهذا دعاء للمؤمنين بالمغفرة والله سبحانه وتعالى لا يرد دعاء خليله إبراهيم عليه السلام ففيه بشارة عظيمة لجميع المؤمنين بالمغفرة . قوله سبحانه وتعالى { ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون } الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور وقيل حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ وهذا في حق الله محال فلا بد من تأويل الآية فالمقصود منها أنه سبحانه وتعالى ينتقم من الظالم للمظلوم ففيه وعيد وتهديد للظالم وإعلام له بأن لا يعامله معاملة الغافل عنه بل ينتقم ولا يتركه مغفلاً قال سفيان بن عيينة : فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم . فإن قلت : تعالى الله عن السهو والغفلة فكيف يحسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم غافلاً وهو أعلم الناس به أنه لم غافلاً حتى قيل له ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون . قلت : إذا كان المخاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان : أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً فهو كقوله { ولا تكونن من المشركين } { ولا تدع مع الله إلهاً آخر } وكقوله سبحانه وتعالى { يا أيها الذين آمنوا آمنوا } أي اثبتوا على ما أنتم عليه من الإيمان . الوجه الثاني أن المراد بالنهي عن حسابه غافلاً الإعلام بأنه سبحانه وتعالى عالم بما يفعل الظالمون ولا يخفى عليه شيء وأنه ينتقم منهم فهو على سبيل الوعيد والتهديد لهم والمعنى : ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عنهم ولكن يعاملهم معاملة الرقيب الحفيظ عليهم المحاسب لهم على الصغير والكبير وإن كان المخاطب غير النبي صلى الله عليه وسلم فلا إشكال فيه ولا سؤال لأن أكثر الناس غير عارفين بصفات الله فمن جوز أن يحسبه غافلاً فلجهله بصفاته { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } يقال : شخص بصر الرجل إذا بقيت عيناه مفتوحتين لا يطرفهما ، وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة من هول ما ترى في ذلك اليوم { مهطعين } قال قتادة مسرعين وهذا قول أبي عبيدة فعلى هذا المعنى أن الغالب من حال من بقي بصره شاخصاً من شدة الخوف أن يبقى واقفاً باهتاً فبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن أحوال أهل الوقف يوم القيامة بخلاف الحال المعتادة فأخبر سبحانه وتعالى أنهم مع شخوص الأبصار يكونون مهطعين يعني مسرعين نحو الدعي وقيل المهطع الخاضع الذليل الساكت { مقنعي رؤوسهم } الاقناع رفع الرأس إلى فوق فأهل الموقف من صفتهم أنهم رافعو رؤوسهم إلى السماء وهذا بخلاف المعتاد لأن من يتوقع البلاء فإنه يطرق ببصره إلى الأرض قال الحسن وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وهو قوله تعالى { لا يرتد إليهم طرفهم } أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة الخوف فهي شاخصة لا ترتد إليهم قد شغلهم ما بين أيديهم { وأفئدتهم هواء } أي خالية .(4/125)
قال قتادة خرجت قلوبهم من صدورهم فصارت في حناجرهم فلا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها ومعنى الآية أن أفئدتهم خالية فارغة لا تعي شيئاً ولا تعقل من شدة الخوف . وقال سعيد بن جبير : وأفئدتهم هواء مترددة تهوي في أجوافهم ليس لها مكان تستقر فيه ومعنى الآية أن القلوب يومئذ زائلة عن أماكنها والأبصار شاخصة والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته .(4/126)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
{ وأنذر الناس } يعني وخوف الناس يا محمد بيوم القيامة وهو قوله سبحانه وتعالى { يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا } يعني ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي { ربنا أخرنا إلى أجل قريب } يعني أمهلنا مدة يسيرة قال بعضهم : طلبوا الرجوع إلى الدنيا حتى يؤمنوا فينفعهم ذلك وهو قوله تعالى { نجب دعوتك ونتبع الرسل } فأجيبوا بقوله { أولم تكونوا أقسمتم من قبل } يعني في دار الدنيا { مالكم من زوال } يعني ما لكم عنها انتقال وةلا بعث ولا نشور .(4/127)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
{ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } يعني بالكفر والمعاصي ممن كان قبلكم من كفار الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم { وتبين لكم كيف فعلنا بهم } يعني وقد عرفتم كيف كان عقوبتنا إياهم { وضربنا لكم الأمثال } يعني الأمثال التي ضربها الله عز وجل في القرآن ليتدبروها ، ويعتبروا بها فيجب على كل من شاهد أحوال الماضين من الأمم الخالية ، والقرون الماضية وعلم ما جرى لهم وكيف أهلكوا أن يعتبر بهم ويعمل في خلاص نفسه من العقاب والهلاك . قوله سبحانه وتعالى { وقد مكروا مكرهم } اختلفوا في الضمير إلى من يعود في قوله ، وقد مكروا فقيل يعود إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، وهذا القول صحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور وقيل : إن المراد بقوله وقد مكروا كفار قريش الذين مكروا برسول الله صل الله عليه وسلم ومكرهم ما ذكره الله تعالى بقوله تعالى { وإذ يمكر بك الذين كفروا } الآية والمعنى وأنذر الناس يا محمد ، يوم يأتيهم العذاب يعني بسبب مكرهم بك . وقوله تعالى { وعند الله مكرهم } يعني جزاء مكرهم وقيل إن مكرهم مثبت عند الله ليجازيهم به يوم القيامة { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } يعني وإن كان مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال وقيل : معناه إن مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال وقد حكي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية قولاً آخر : وهو أنها نزلت في نمرود الجبار الذي حاجّ إبراهيم في ربه فقال نمرو : إن كان ما يقول إبراهيم حقاً فلا أنتهى حتى أصعد إلى السماء فأعلم ما فيها فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور فرباهن حتى كبرت وشبت ، واتخذ تابوتاً من خشب وجعل له باباً من أعلى وباباً من أسفل ثم جوع النسور ونصب خشبات أربعاً في أطراف التابوت وجعل على رؤوس تلك الخشبات لحماً أحمر وقعد هو في التابوت ، وأقعد معه رجلاً آخر ، وأمر بالنسور فربطت في أطراف التابوت من أسفل فجعلت النسور كلما رأت اللحم رغبت فيه ، وطارت إليه فطارت النسور يوماً أجمع حتى بعدت في الهواء فقال نمرود لصاحبه : افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربنا منها ففتح ونظر فقال له إن السماء كهيئتها فقال له : افتح الباب الأسفل فانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل فقال : أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان . قال : فطارت النسور يوماً آخر وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران فقال نمرود لصاحبه : افتح الباب الأعلى ففعل فإذا السماء كهيئتها ، وفتح الباب الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة فنودي أيها الطاغي أين تريد؟ قال عكرمة : وكان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب وأخذ معه الترس ، ورمى بسهم فعاد إليهم السهم ملطخاً بدم سمكة قذفت بنفسها من بحر في الهواء وقيل إن طائراً أصابه السهم فلما رجع إليهم السهم مطلخاً بالدم قال كفيت إله السماء ثم أمر نمرود صاحبه أن يصوب الخشبات إلى أسفل وينكس اللحم ففعل فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال خفيق التابوت والنسور ففزعت ، وظنت أنه قد حدث حدث من السماء إن الساعة قد قامت فكادت تزول عن أماكنها ، فذلك قوله تعالى وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال واستبعد العلماء هذه الحكاية وقال : إن الخطر فيه عظيم ولا يكاد عاقل أن يقدم على مثل هذا الأمر العظيم وليس فيه خير صحيح يعتمد عليه ، ولا مناسبة لهذه الحكاية بتأويل الآية البتة { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } يعني فلا تحسبن الله يا محمد مخلف ما وعد به رسله من النصر وإعلاء الكلمة ، وإظهار الدين فإنه ناصر رسله وأوليائه ومهلك أعدائه ، وفيه تقديم وتأخير تقديره ولا تحسبن الله مخلف رسله وعده { إن الله عزيز } أي غالب { ذو انتقام } يعني من أعدائه قوله عز وجل { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات } ذكر المفسرون في معنى هذا التبديل قولين أحدهما أنه تبدل صفة الأرض والسماء لا ذاتهما فأما تبديل الأرض فبتغيير صفتها وهيئتها مع بقاء ذاتها وهو أن تدك جبالها وتسوى وهادها وأوديتها ، وتذهب أشجارها وجميع ما عليها من عمارة وغيرها لا يبقى على وجهها شيء إلا ذهب ، وتمد مد الأديم وأما تبديل السماء فهو أن تنتثر كواكبها وتطمس شمسها ، وقمرها ويكوران كونها تارة كالدهان ، وتارة كالمهل وبهذا القول قال جماعة من العلماء : ويدل على صحة هذا القول ما روي عن سهل بن سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/128)
« يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقى ليس بها علم لأحد » أخرجاه في الصحيحين العفراء بالعين المهملة ، وهي البيضاء إلى الحمرة ولهذا شبهها بقرصة النقى ، وهو الخبر الجيد البياض الفائق المائل إلى حمرة كأن النار ميلت بياض وجهها إلى الحمرة وقوله : ليس به علم لأحد يعني ليس فيها علامة لأحد بتبديل هيئتها ، وزوال جبالها وجميع بنائها فلا يبقى فيها أثر يستدل به والقول الثاني : هو تبديل ذوات الأرض والسماء وهذا قول جماعة من العلماء ، ثم اختلفوا في معنى هذا التبديل فقال ابن مسعود في معنى هذه الآية قال : تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاء نقية لم يسفك بها دم ، ولم يعمل عليها خطيئة . وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : الأرض من فضة والسماء من ذهب . وقال أبيّ بن كعب في معنى التبديل : بأن تصير الأرض نيراناً والسماء جناناً وقال أبو هريرة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه عن أبي سعيد الخدري قال .(4/129)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة » أخرجاه في الصحيحين بزيادة فيه . قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح هذا الحديث : أما النزل فبضم النون والزاي ويجوز إسكان الزاي وهو ما يعد للضيف عند نزوله وأما الخبزة فبضم الخاء . وقال أهل اللغة : هي الظلمة التي توضع في الملة يتكفؤها بالهمزة بيده أي يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتسوى لأنها ليست منبسطة كالرقاقة وقد حققنا الكلام في اليد في حق الله سبحانه وتعالى وتأويلها مع القطع باستحالة الجارحة عليه ليس كمثله شيء ، ومعنى الحديث أن الله سبحانه وتعالى ، يجعل الأرض كالظلمة أي الرغيف العظيم وتكون طعاماً نزلاً لأهل الجنة والله على كل شيء قدير . فإن قلت : إذا فسرت التبديل بما ذكرت فكيف يمكن الجمع بينه وبين قوله تعالى { يومئذ تحدث أخبارها } وهو أن تحدث أخبارها وهو أن تحدث بكل ما عمل عليها ، قلت : وجه الجمع بين الآيتين أن الأرض تبدل أولاً صفتها مع بقاء ذاتها كما تقدم فيومئذ تحدث أخبارها ثم بعد ذلك تبدل تبديلاً ثانياً ، وهو أن تبدل ذاتها بغيرها كما تقدم أيضاً ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن عائشة قالت سألت رسول الله صلى الله عليه سلم عن قوله تعالى { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات } فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله فقال : « على الصراط » أخرجه مسلم وروى ثوبان بأن حبراً من اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض قال : « هم في الظلمة دون الجسر » ذكره البغوي بغير سند ، ففي هذين الحديثين دليل على أن تبديل الأرض ثاني مرة يكون بعد الحساب والله أعلم بمراده وأسرار كتابه . وقوله تعالى { وبرزوا } يعني وخرجوا من قبورهم { لله } يعني لحكم الله ، والوقوف بين يديه للحساب { الواحد القهار } صفتان لله تعالى فالواحد الذي لا ثاني له ولا شريك معه المنزه عن الشبه والضد والند والقهار الذي يقهر عباده على ما يريد ، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .(4/130)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
قوله تعالى : { وترى المجرمين يومئذ مقرنين } يعني مشدودين بعضهم إلى بعض يقال : قرنت الشيء بالشيء إذا شددته معه في رباط واحد { في الأصفاد } يعني في القيود والأغلال . قال ابن عباس : يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة . قال أبو زيد : تقرن أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد وهي القيود . وقال ابن قتيبة : يقرن بعضهم إلى بعض { سرابيلهم } يعني قمصهم واحدها سربال وقيل السربال كل ما لبس { من قطران } القطران دهن يتحلب من شجر الأبهل والعرعر والتوت كالزفت تدهن به الإبل إذا جربت ، وهو الهناء يقال هنأت البعير أهنؤه بالهناء وهو القطران قال الزجاج : وإنما جعل لهم القطران سرابيل لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود ولو أراد الله المبالغة في إحراقهم بغير ذلك لقدر ولكنه حذرهم مما يعرفون وقرأ عكرمة ، ويعقوب من قطران على كلمتين منونتين فالقطر النحاس المذاب والآن الذي انتهى حره { وتغشى وجوههم النار } يعني تعلوها وتجللها { ليجزي الله كل نفس بما كسبت } يعني من خير أو شر { إن الله سريع الحساب } يعني إذا حاسب عباده يوم القيامة { هذا بلاغ للناس } يعني هذا القرآن فيه تبليغ وموعظة للناس { ولينذروا } يعني وليخوفوا بالقرآن ومواعظه وزواجره { وليعلموا أنما هو إله واحد } يعني وليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية الله تعالى { وليذكر أولو الألباب } يعني وليتعظ بهذا القرآن وما فيه من المواعظ ، أولو العقول والأفهام الصحيحة ، فإنه موعظة لمن اتعظ والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .(4/131)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
قوله سبحانه وتعالى : { الرَ تلك آيات الكتاب وقرآن مبين } تلك إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والمراد بالكتاب وبالقرآن المبين : الكتاب الذي وعد به الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، وتنكير القرآن للتفخيم ، والتعظيم والمعنى تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً ، وفي كونه قرآناً وأي قرآن كأنه قيل : الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان وقيل : أراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، لأن عطف القرآن على الكتاب والمعطوف غير المعطوف عليه وهذا القول ليس بالقوي ، لأنه لم يجر للتوراة والإنجيل ذكر حتى يشار إليهما . وقيل : المراد بالكتاب القرآن وإنما جمعهما بوصفين وإن كان الموصوف واحداً لما في ذلك من الفائدة وهي التفخيم والتعظيم ، والمبين الذي يبين الحلال من الحرام ، والحق من الباطل { ربما } قرىء بالتخفيف والتشديد وهما لغتان ورب للتقليل وكم للتكثير ، وإنما زيدت ما مع رب ليليها الفعل تقول رب رجل جاءني وربما جاءني زيد وإن شئت جعلت ما بمنزلة شيء كأنك قلت رب شيء فتكون المعنى رب شيء { يود الذين كفروا } وقيل : ما في ربما بمعنى حين أي رب حين يود يعني يتمنى الذين كفروا لأن التمني هو : تشهي حصول ما يوده ، واختلف المفسرون في الوقت الذي يتمنى الذي كفروا { لو كانو مسلمين } على قولين أحدهما : أن ذلك يكون عند معاينة العذاب وقت الموت فحيئنذ يعلم الكافر أنه كان على الضلال ، فيتمنى لو كان مسلماً ، وذلك حين لا ينفعه ذلك التمني . قال الضحاك : هو عند حالة المعاينة والقول الثاني : إن هذا التمني يكون في الآخرة ، وذلك حين يعاينون أهوال يوم القيامة وشدائده وما يصيرون عليه من العذاب فحينئذ يتمنى الذين كفروا لو كانوا مسلمين . وقال الزجاج : أن الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب ورأى حالاً من أحوال المسلم ود لو كان مسلماً وقيل إذا رأى الكافر أن الله تعالى يرحم المسلمين ، ويشفع بعضهم في بعض حين يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين والقول المشهور أن ذلك التمني حين يخرج الله المؤمنين من النار عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم « قال إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة : ألستم مسلمين؟ قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا في النار . قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيغفرها الله لهم بفضل رحمته فيأمر الله بكل من كان من أهل القبلة في النار ، فيخرجون منها فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين » ذكره البغوي بغير سند ، وكذا ذكره ابن الجوزي وقال : وإليه ذهب ابن عباس في رواية عنه عن أنس بن مالك ومجاهد وعطاء وأبو العالية وإبراهيم يعني النخعي .(4/132)
فإن قلت : رب إنما وضعت للتقليل ، وتمني الذين كفروا لو كانوا مسلمين يكثر يوم القيامة فكيف قال : ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين . قلت : قال صاحب الكشاف هو وارد على مذهب العرب في قولهم لعلك ستندم على فعلك ، وربما ندم الإنسان على فعله ، ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله ، ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكاً فيه أو كان قليلاً لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغمِّ المظنون كما يتحرزون من المتيقن ومن القليل منه كما يتحرزون من الكثير وقال غيره إن هذا القليل أبلغ في التهديد ومعناه يكفيك قليل الندم في كونه زاجراً لك عن هذا الفعل . فيكف بكثيره؟ وقيل : إن شغلهم بالعذاب لا يقرعهم للندامة إنما يخطر ذلك ببالهم . فإن قلت : رب لا تدخل إلا على الماضي فكيف قال : ربما يود وهو في المستقبل قلت لأن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه كأنه قال : ربما ود . قوله سبحانه وتعالى { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } يعني دع يا محمد هؤلاء الكفار يأكلوا في دنياهم ويتمتعوا بلذاتها { ويلههم الأمل } يعني ويشغلهم طول الأمل عن الإيمان والأخذ بطاعة الله تعالى { فسوف يعلمون } يعني إذا وردوا القيامة ، وذاقوا وبال ما صنعوا وهذا فيه تهديد ووعيد لمن أخذ بحظه من الدنيا ، ولذاتها ولم يأخذ بحظه من طاعة الله عز وجل ، وقال بعض أهل العلم : ذرهم تهديد وفسوف يعلمون تهديد آخر فمتى يهنأ العيش بين تهديدين وهذه الآية منسوخة بآية القتال ، وفي الآية دليل على أن إيثار التلذذ ، والتنعم في الدنيا يؤدي إلى طول الأمل وليس ذلك من أخلاق المؤمنين . قال علي بن أبي طالب : إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل ، ينسي الآخرة ، واتباع الهوى يصد عن الحق .(4/133)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
{ وما أهلكنا من قرية } يعني من أهل قرية وأراد إهلاك الاستئصال { إلا ولها كتاب معلوم } أي أجل مضروب ، ووقت معين لا يتقدم العذاب عليه ، ولا يتأخر عنه ولا يأتيهم إلا في الوقت الذي حدد لهم في اللوح المحفوظ { ما تسبق من أمة أجلها } من زائدة في قوله : من أمة كقولك ما جاءني من أحد . وقيل : هي على أصلها لأنها تفيد التبعيض إلى هذا الحكم فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد ، ومعنى الآية أن الأجل المضروب لهم وهو وقت الموت ، أو نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر وهو قوله سبحانه وتعالى : { وما يستأخرون } وإنما أدخل الهاء في أجلها لإرادة الأمة ، وإخراجها من قوله وما يستأخرون لإرادته الرجال . قوله عز وجل { وقالوا } يعني مشركي مكة { يا أيها الذي نزل عليه الذكر } يعني القرآن وأرادوا به محمداً صلى الله عليه وسلم { إنك لمجنون } إنما نسبوه إلى الجنون لأنه صلى الله عليه وسلم ، كان يظهر عند نزول الوحي عليه ما يشبه الغشي فظنوا أن ذلك جنون فلهذا السبب نسبوه إلى الجنون ، وقيل : إن الرجل إذا سمع كلاماً مستغرباً من غيره فربما نسبه إلى الجنون ، ولما كانوا يستبعدون كونه رسولاً من عند الله ، وأتى بهذا القرآن العظيم أنكروه ونسبوه إلى الجنون ، وإنما قالوا : يا أيها الذي نزل عليه الذكر على طريق الاستهزاء وقيل : معناه يا أيها الذي نزل عليه الذكر في زعمه ، واعتقاده واعتقاد أصحابه وأتباعه إنك لمجنون في ادعائك الرسالة { لو ما } قال الزجاج والفراء : لو ما ولولا لغتان ومعناهما هلا يعني هلا { تأتينا بالملائكة } يعني يشهدون لك بأنك رسول من عند الله حقاً { إن كنت من الصادقين } يعني في قولك وادعائك الرسالة { ما ننزل الملائكة إلا بالحق } يعني بالعذاب أو وقت الموت ، وهو قوله تعالى { وما كانوا إذاً منظرين } يعني لو نزلت الملائكة إليهم لم يمهلوا ولم يؤخروا ساعة واحدة وذلك أن كفار مكة كانوا يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنزال الملائكة عياناً فأجابهم الله عز وجل بهذا ، والمعنى لو نزلوا عياناً لزال عن الكفار الإمهال وعذبوا في الحال إن لم يؤمنوا ويصدقوا { إنّا حن نزلنا الذكر } يعني القرآن أنزلناه عليك يا محمد ، وإنما قال سبحانه وتعالى : إنا نحن نزلنا الذكر جواباً لقولهم : يا أيها الذين نزل عليه الذكر فأخبر الله عز وجل هو الذي نزل الذكر على محمد صلى الله عليه وسلم { وإنا له لحافظون } الضمير في له يرجع إلى الذكر يعني ، وإنا للذكر الذي أنزلناه على محمد لحافظون يعني من الزيادة فيه ، والنقص منه والتغيير والتبديل والتحريف ، فالقرآن العظيم محفوط من هذه الأشياء كلها لايقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه ، أو ينقص منه حرفاً واحداً أو كلمة واحدة ، وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها التحريف ، والتبديل والزيادة والنقصان ولما تولى الله عز وجل حفظ هذا الكتاب بقي مصوناً على الأبد محروساً من الزيادة والنقصان ، وقال ابن السائب ومقاتل : الكناية في له راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم يعني وإنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء فهو كقوله تعالى(4/134)
{ والله يعصمك من الناس } ووجه هذا القول أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الإنزال ، والمنزل دل ذلك على المنزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم فحسن صرف الكناية إليه لكونه أمراً معلوماً إلا أن القول الأول أصح ، وأشهر وهو قول الأكثرين لأنه أشبه بظاهر التنزيل ورد الكناية إلى أقرب مذكور أولى ، وهو الذكر وإذا قلنا : إن الكناية عائدة إلى القرآن ، وهو الأصح فاختلفوا في كيفية حفظ الله عز وجل للقرآن فقال بعضهم : حفظه بأن جعله معجزاً باقياً مبايناً لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة فيه ، والنقصان منه لأنهم لو أرادوا الزيادة فيه والنقصان منه لتغيير نظمه ، وظهر ذلك لكل عالم عاقل وعلموا ضرورة أن ذلك ليس بقرآن ، وقال آخرون : إن الله حفظه وصانه من المعارضة فلم يقدر أحد من الخلق أن يعارضه . وقال آخرون : بل أعجز الله الخلق عن إبطاله وإفساده بوجه من الوجوه فقيض الله له العلماء الراسخين يحفظونه ، ويذبون عنه إلى آخر الدهر لأن دواعي جماعة من الملاحدة واليهود متوفرة على إبطاله وإفساده فلم يقدروا على ذلك بحمد الله تعالى قوله سبحانه وتعالى : { ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين } لما تجرأ كفار مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاطبوه بالسفاهة وهو قولهم : إنك لمجنون وأساؤوا الأدب عليه أخبر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن عادة الكفار في قديم الزمان مع أنبيائهم ، كذلك فلك يا محمد أسوة في الصبر على أذى قومك بجميع الأنبياء ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الآية محذوف تقديره ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك يا محمد ، فحذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه ، وقوله تعالى في شيع الأولين : الشيعة هم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم وقال الفراء : الشيعة هم الأتباع وشيعة الرجل أتباعه . وقيل : الشيعة من يتقوى بهم الإنسان . وقوله من شيع الأولين من باب إضافة الصفة إلى الموصوف { وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون كذلك نسلكه في قلوب المجرمين } السلوك النفاذ في الطريق ، والدخول فيه والسلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط ، ومعنى الآية كما سلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء في قلوب شيع الأولين ، كذلك نسلكه أي ندخله في قلوب المجرمين يعني مشركي مكة ، وفيه رد على القدرية والمعتزلة وهي أبين آية في ثبوت القدر لمن أذعن للحق ، ولم يعاند قال الواحدي قال أصحابنا : أضاف الله سبحانه وتعالى إلى نفسه إدخال الكفر في قلوب الكفار ، وحسن ذلك منه فمن آمن بالقرآن فليستحسنه ، وقال الإمام فخرالدين الرازي : احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل ، والضلال في قلوب الكفار فقالوا قوله : كذلك نسلكه أي كذلك نسلك الباطل ، والضلال في قلوب المجرمين وقالت المعتزلة لم يجر للضلال ، والكفر ذكر فيما قيل هذا اللفظ فلا يمكن أن يكون الضمير عائد إليه ، وأجيب عنه بأنه سبحانه وتعالى قال : ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون فالضمير في قوله كذلك نسلكه عائد إليه ، والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال فثبت صحة قولنا : إن المراد من قوله كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ، أنه الكفر والضلال .(4/135)
قوله تعالى { لايؤمنون به } بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل بالقرآن { وقد خلت سنة الأولين } فيه وعيد وتهديد لكفار مكة ، يخوفهم أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية المكذبة للرسل ، والمعنى وقد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل من الأمم الماضية فاحذروا يا أهل مكة أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب { ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون } يعني ولو فتحنا على هؤلاء الذين قالوا : لو ما تأتينا بالملائكة باباً من السماء فظلوا . يقال : ظل فلان يفعل كذا إذا فعله بالنهار ، كما يقل بات يفعل كذا إذا فعله بالليل فيه يعني في ذلك الباب يعرجون يعني يصعدون ، والمعارج المصاعد وفي المشار إليه بقوله : فظلوا به يعرجون قولان : أحدهما أنهم الملائكة وهو قول ابن عباس والضحاك ، والمعنى : لو كشف عن أبصار هؤلاء الكفار قرأوا باباً من السماء مفتوحاً والملائكة تصعد فيه لما آمنوا . والقول الثاني : أنهم المشركون وهو قول الحسن وقتادة والمعنى : فظل المشركون يصعدون في ذلك الباب فينظرون في ملكوت السموات ، وما فيها من الملائكة لما آمنوا لعنادهم وكفرهم ، ولقالوا إنا سحرنا وهو قوله تعالى { لقالوا إنما سكرت أبصارنا } قال ابن عباس : سدت أبصارنا مأخوذ من سكر النهر إذا حبس ، ومنع من الجري وقيل : هو من سكر الشراب والمعنى أن أبصارهم حارت ، ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع للرجل السكران من تغيير العقل ، وفساد النظر وقيل سكرت يعني غشيت أبصارنا وسكنت عن النظر ، وأصله من السكور يقال سكرت عينه إذا تحيرت ، وسكنت عن النظر { بل نحن قوم مسحورون } يعني سحرنا محمد ، وعمل فينا سحره . وحاصل الآية أن الكفار لما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن ينزل عليهم الملائكة فيروهم عياناً ويشهدوا بصدقه أخبر الله سبحانه وتعالى أنه لو حصل لهم هذا وشاهدوه عياناً لما آمنوا ولقالوا سحرنا لما سبق لهم في الأزل من الشقاوة .(4/136)
قوله سبحانه وتعالى { ولقد جعلنا من السماء بروجاً } يعني البروج التي تنزلها الشمس في مسيرها واحدها برج ، وهي بروج الفلك الاثنا عشر برجاً هي : الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلوا والحوت . وهذه البروج مقسومة على ثمانية وعشرين منزلاً لكل برج منزلان وثلث منزل ، وقد تقدم ذكر منازل القمر في تفسير سورة يونس ، وهذه البروج مقسومة على ثلثمائة وستين درجة لكل برج منها ثلاثون درجة تقطعها الشمس في كل سنة مرة ، وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوماً ، قال ابن عباس في هذه الآية يريد بروج الشمس والقمر ، يعني منازلهما وقال ابن عطية : هي قصور في السماء عليها الحرس . وقال الحسن ومجاهد وقتادة : هي النجوم العظام . قال أبو إسحاق يريدون نجوم هذه البروج ، وهي نجوم على ما صورت به . وسميت وأصل هذا كله من الظهور { وزيناها } يعني السماء بالشمس والقمر والنجوم { للناظرين } يعني المعتبرين المستدلين بها على وحيد خالقها ، وصانعها وهو الله الذي أوجد كل شيء وخلقه وصوره { وحفظناها } يعني السماء { من كل شيطان رجيم } أي مرجوم فعيل بمعنى مفعول ، وقيل : ملعون مطرود من رحمة الله . قال ابن عباس : كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها ، ويأتون بأخبارها إلى الكهنة فيلقونها إليهم ، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم ، منعوا من السموات أجمع فما منهم من أحد يريد أن يسترق السمع إلا رمي بشهاب فلما منعوا من تلك المقاعد ذكروا لإبليس فقال : لقد حدث في الأرض حدث فبعثهم ينظرون فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن فقالوا : هذا والله حدث .(4/137)
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
{ إلا من استرق السمع } هذا استثناء منقطع ، معناه لكن من استرق السمع { فأتبعه } أي لحقه { شهاب مبين } والشهاب شعلة من نار ساطع سمي الكوكب شهاباً لأجل ما فيه من البريق شبه بشهاب النار ، قال ابن عباس في قوله إلا من استرق السمع : يريد الخطفة اليسيرة ، وذلك أن الشياطين يركب بعضهم بعضاً إلى السماء يسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالكواكب ، فلا تخطىء أبداً فمنهم من تقتله ، ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده ، أو حيث يشاء الله ومنهم من تخبله فيصير غولاً يضل الناس في البوادي ( خ ) عن أبي هريرة أن النبي صل الله عليه وسلم قال : « إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا : الذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض ، ووصف سفيان بكفه فحذفها ، وبدد أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب ، قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال له : أليس قال لنا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء »
اختلف العلماء هل كانت الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا على قولين : أحدهما أنها لم تكن ترمى بالنجوم ، قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما ظهر ذلك في بدء أمره فكان ذلك أساساً لنبوته صلى الله عليه وسلم ويدل على صحة هذا القول ما روي عن ابن عباس قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين ، وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب . أخرجاه في الصحيحين . فظاهر هذا الحديث يدل على أن هذا الرمي بالشهب لم يكن قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم فلما بعث حدث هذا الرمي . ويعضده ما روي أن يعقوب بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قال : أو من فزع للرمي بالنجوم هذا الحي من ثقيف ، وأنهم جاؤوا إلى رجل منهم يقال له : عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أهدى العرب فقالوا له : ألم تر ما حدث في السماء من القذف بالنجوم؟ فقال : بلى . ولكن انظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس من معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طي الدنيا وهلاك الخلق الذين فيها وإن كانت نجوماً غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا الأمر أراده الله من الخلق قال الزجاج : ويدل على أنها كانت بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم أن شعراء العرب الذين ذكروا البرق ، والأشياء المسرعة لم يوجد في شعرهم ذكر الكواكب المنقضة فما حدثت بعد مولده صلى الله عليه وسلم ، استعملت الشعراء ذكرها قال ذو الرمة :(4/138)
كأنه كوكب في أثر عفرية ... مسوم في سواد الليل منقضب
والقول الثاني : إن ذلك كان موجوداً قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لما بعث شدد وغلظ عليهم . قال معمر : قلت للزهري أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم . قلت : أفرأيت قوله وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فقال : غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم ويدل على صحة هذا القول ما روي عن ابن عباس قال أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمى بنجم واستنار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا ، قالوا كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم أو مات رجل عظيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإنها لا يرمى بها لموت أحد ، ولا لحياته ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح إلى أهل هذه السماء ، ثم قال : الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ، ماذا قال ربكم فيخبرونهم بما قال ، فيستخبر بعض أهل السماء بعضاً حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا ، فتخطف الجن السمع فيقذفونه إلى أوليائهم ، ويرمون فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يقذفون فيه ويزيدون » أخرجه مسلم وقال ابن قتيبة : أن الرجم كان قبل مبعثه ، ولكن لم يكن في شدة الحراسة مثل بعد مبعثه ، قال وعلى هذا وجدنا الشعر القديم قال بشر بن أبي حازم وهو جاهلي :
فالعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفهما انقضاض الكوكب
وقال أوس بن حجر وهو جاهلي :
فانقض كالدر يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا
والجمع بين هذين القولين : أن الرمي بالنجوم كان موجوداً قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث شدد ذلك وزيد في حفظ السماء وحراستها صوناً لأخبار الغيوب والله أعلم . قوله سبحانه وتعالى : { والأرض مددناها } يعني بسطناها على وجه الماء كما يقال : إنها دحيت من تحت الكعبة ثم بسطت هذا قول أهل التفسير ، وزعم أرباب الهيئة أنها كرة عظيمة بعضها في الماء ، وبعضها خارج عن الماء ، وهو الجزء المغمور منها واعتذروا عن قوله تعالى : والأرض مددناها بأن الكرة إذا كانت عظيمة كان كل جزء منها ، كالسطح العظيم فثبت بهذا الأمر أن الأرض ممدودة مبسوطة وأنها كرة ، ورد هذا أصحاب التفسير بأن الله أخبر في كتابه بأنها ممدودة ، وأنها مبسوطة ولو كانت كرة لأخبر بذلك والله أعلم بمراده ، وكيف مد الأرض { وألقينا فيها رواسي } يعني جبالاً ثوابت وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الأرض على الماء مادت ورجفت فأثبتها بالجبال { وأنبتنا فيها } أي في الأرض ، لأن أنواع النبات المنتفع به تكون في الأرض ، وقيل : الضمير يرجع إلى الجبال لأنها أقرب مذكور لقوله تعالى { من كل شيء موزون } وإنما يوزن ما تولد في الجبال من المعادن ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : موزون أي معلوم ، وقال مجاهد وعكرمة أي مقدور فعلى هذا يكون المعنى معلوم القدر عند الله تعالى لأن الله سبحانه وتعالى يعلم القدر الذي يحتاج إليه الناس في معايشهم وأرزاقهم فيكون إطلاق الوزن عليه مجازاً ، لأن الناس لا يعرفون مقادير الأشياء إلا بالوزن ، وقال الحسن وعكرمة وابن زيد : أنه عنى به الشيء الموزون كالذهب والفضة والرصاص والحديد والكحل ونحو ذلك مما يستخرج من المعادن ، لأن هذه الأشياء كلها توزن وقيل : معنى موزون متناسب في الحسن والهيئة والشكل ، تقول العرب فلان موزون الحركات إذا كانت حركاته متناسبة حسنة ، وكلام موزون إذا كانت متناسباً حسناً بعيداً من الخطأ والسخف وقيل إن جميع ما ينبت في الأرض والجبال نوعان : أحدهما ما يستخرج من المعادن وجميع ذلك موزون .(4/139)
والثاني النبات وبعضه موزون أيضاً : وبعضه مكيل وهو يرجع إلى الوزن لأن الصاع والمدّ مقدران بالوزن { وجعلنا لكم فيها معايش } جمع معيشة . وهو ما يعيش به الإنسان مدة حياته في الدنيا من المطاعم والمشارب والملابس ونحو ذلك { ومن لستم له برازقين } يعني الدواب والوحش والطير أنتم منتفعون بها ، ولستم لها برازقين لأن رزق جميع الخلق على الله ومنه قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } وتكون في قوله تعالى : ومن لستم بمعنى ما لأن من لمن يعقل وما لمن لا يعقل ، وقيل : يجوز إطلاق لفظة من على من لا يعقل كقوله تعالى : { فمنهم من يمشي على بطنه } وقيل أراد بهم العبيد والخدم فتكون من على أصلها ، ويدخل معهم ما لا يعقل من الدواب والوحش { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } الخزائن جمع خزانة هي أسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء للحفظ يقال : خزن الشيء إذا أحرزه . فقيل أراد مفاتيح الخزائن وقيل : أراد بالخزائن المطر لأنه سبب الأرزاق والمعايش لبني آدم والدواب والوحش والطير ومعنى عندنا أنه في حكمه وتصرفه وأمره وتدبيره قوله تعالى : { وما ننزله إلا بقدر معلوم } يعني بقدر الكفاية . وقيل : إن لكل أرض حداً ومقدار من المطر . يقال : لا تنزل من السماء قطرة مطر إلا ومعها ملك يسوقها إلى حيث يشاء الله تعالى .(4/140)
وقيل : إن المطر ينزل من السماء كل عام بقدر واحد لا يزيد ولا ينقص ولكن الله يمطر قوماً ، ويحرم آخرين وقيل : إذا أراد الله بقوم خيراً أنزل عليهم المطر والرحمة وإذا أراد بقوم شراً صرف المطر عنهم إلى حيث لا ينتفع به ، كالبراري والقفار والرمال والبحار ونحو ذلك . وحكى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده أنه قال في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر والبحر . وهو تأويل قوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه { وأرسلنا الرياح لواقح } قال ابن عباس يعني للشجر ، وهو قول الحسن وقتادة وأصل هذا من قولهم : لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى إليها الماء ، فحملته فكذلك الرياح كالفحل للسحاب وقال ابن مسعود في تفسير هذه الآية يرسل الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء فتمجه في السحاب ثم تمر به فتدر كما تدر اللقحة ، وقال عبيد بن عمير : يرسل الله الريح المبشرة فتقم الأرض قماً ، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب ، ثم يرسل المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض فتجعله ركاماً ، ثم يرسل اللواقح فتلقح الشجر والأظهر في هذه الآية إلقاحها السحاب لقوله بعده فأنزلنا من السماء ماء قال أبو بكر بن عياش : لا تقطر قطرة من السماء إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيها فالصبا تهيج السحاب ، والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه . وقال أبو عبيد : لواقح هنا بمعنى ملاقح جمع ملقحة حذفت الميم وردت إلى الأصل . وقال الزجاج : يجوز أن يقال لها لواقح وإن ألقحت غيرها ، لأن معناها النسبة كما يقال : درهم وازن أي ذو وزن واعترض الواحدي على هذا . فقال هذا ليس بمغن لأنه كان يجب أن يصح اللاقح بمعنى ذات لقح حتى يوافق قول المفسرين ، وأجاب الرازي عنه بأن قال : هذا ليس بشيء . لأن اللاقح هو المنسوب إلى اللقحة ، ومن أفاد غير اللقحة فله نسبة إلى اللقحة وقال صاحب المفردات لواقح أي ذات لقاح وقيل إن الريح في نفسها لاقح لأنها حاملة للسحاب والدليل عليه قوله تعالى { حتى إذا أقلت سحاباً } ثقالاً ، أي حملت فعلى هذا تكون الريح لاقحة بمعنى حاملة تحمل السحاب . وقال الزجاج : ويجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بخير وورد في بعض الأخبار أن الملقح الرياح الجنوب ، وفي بعض الآثار ما هبت رياح الجنوب إلا واتبعت عيناً غدقة ( ق ) عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال : « اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما فيها ما أرسلت به » وروى البغوي بسنده إلى الشافعي إلى ابن عباس قال : ما هبت ريح قط إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه ، وقال :(4/141)
« اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذاباً اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » قال ابن عباس في كتاب الله عز وجل { إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } { فأرسلنا عليه الريح العقيم } وقال : { وأرسلنا الرياح لواقح } وقال { يرسل الرياح مبشرات } وقوله سبحانه وتعالى { فأنزلنا من السماء ماء } يعني المطر { فأسقيناكموه } يعني جعلنا لكم المطر سقياً يقال أسقى فلان فلاناً إذا جعل له سقياً ، وسقاه إذا أعطاه ما يشرب ، وتقول العرب : سقيت الرجل ماء ، ولبناً إذا كان لسقيه فإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته يقال : أسقيناه { وما أنتم له } يعني للمطر { بخازنين } يعني : إن المطر في خزائننا لا في خزائنكم . وقيل : وما أنتم له بمانعين .(4/142)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
{ وإنا لنحن نحيي ونميت } يعني بيدنا إحياء الخلق وإماتتهم لا يقدر على ذلك أحد إلا الله سبحانه وتعالى ، لأن قوله تعالى : وإنا لنحن يفيد الحصر يعني لا يقدر على ذلك سوانا { ونحن الوارثون } وذلك بأن نميت جميع الخلق ، فلا يبقى أحد سوانا فيزول ملك كل مالك ويبقى جميع ملك المالكين لنا والوارث هو الباقي بعد ذهاب غيره والله سبحانه وتعالى هو الباقي بعد ذهاب غيره والله سبحانه وتعالى هو الباقي بعد فناء خلقه الذين أمتعهم بما آتاهم في الحياة الدنيا لأن وجود الخلق . وما آتاهم كان ابتداؤه منه تعالى فإذا فني جميع الخلائق رجع الذي كانوا يملكونه في الدنيا على المجاز إلى مالكه على الحقيقة ، وهو الله تعالى . وقيل مصير الخلق إليه . قوله عز وجل { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } عن ابن عباس قال : كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس فكان بعض الناس يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها . ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر ، فإذا ركع نظر من تحت أبطيه فأنزل الله عز وجل ولقد علمنا المستقدمين منكم ، ولقد علمنا المستأخرين أخرجه النسائي وأخرجه الترمذي وقال فيه وقد روي عن ابن الجوزي نحوه . ولم يذكر فيه عن ابن عباس وهذا أشبه أن يكون أصح قال البغوي وذلك أن النساء كن يخرجن إلى الجماعة فيقفن خلف الرجال فربما كان من الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى آخر صف الرجال ، ومن النساء من في قلبها ريبه فتتقدم إلى أول صف النساء لتقرب من الرجال فنزلت هذه الآية فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه سلم : « خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها . وشرها أولها » أخرجه مسلم عن أبي هريرة . وقال ابن عباس : أراد بالمستقدمين من خلق الله وبالمستأخرين من لم يخلق الله تعالى بعد . وقال مجاهد : المستقدمون القرون الأولى والمستأخرون أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن : المستقدمون يعني في الطاعة والخير والمستأخرون يعني فيهما . وقال الأوزاعي : أراد بالمستقدمين المصلين في أول الوقت وبالمستأخرين المؤخرين لها إلى آخره . وقال مقاتل : أراد بالمستقدمين وبالمستأخرين في صف القتال . وقال ابن عيينة : أراد من يسلم أولاً ومن يسلم آخراً . وقال ابن عباس في رواية أخرى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حرض على الصف الأول فازدحموا عليه ، وقال قوم كانت بيوتهم قاصة عن المسجد : لنبيعن دورنا ونشتري دوراً قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم . فنزلت هذه الآية ، ومعناها إنما تجزون على النيات فاطمأنوا وسكنوا فيكون معنى الآية على القول الأول المستقدم للتقوى والمستأخر للنظر ، وعلى القول الأخير المستقدم لطلب الفضيلة والمستأخر للعذر ، ومعنى الآية أن علمه سبحانه وتعالى محيط بجميع خلقه مقدمهم ومتأخرهم طائعهم وعاصيهم ، لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه { وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم } يعني على ما علم منهم ، وقيل : إن الله سبحانه وتعالى يميت الكل ثم يحشرهم الأولين والآخرين على ما ماتوا عليه ( م ) عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/143)
« يبعث كل عبد على ما مات عليه » قوله سبحانه وتعالى { ولقد خلقنا الإنسان } يعني آدم عليه السلام في قول جميع المفسرين سمي إنساناً لظهوره وإدراك البصر إياه ، وقيل من النسيان لأنه عهد إليه فنسي من { صلصال } يعني من اليابس ، إذا نقرته سمعت له صلصلة يعني صوتاً ، وقال ابن عباس : هو الطين الحر الطيب الذي إذا نضب عنه الماء تشقق فإذا حرك تقعقع . وقال مجاهد : هو الطين المنتن . واختاره الكسائي وقال : هو من صل اللحم إذا أنتن { من حمأ } يعني من الطين الأسود { مسنون } أي متغير قال مجاهد وقتادة : هو المنتن المتغير . وقال أبو عبيدة : هو المصبوب . تقول العرب : سننت الماء إذا أصببنه قال ابن عباس : هو التراب المبتل المنتن جعل صلصالاً كالفخار ، والجمع بين هذه الأقاويل على ما ذكره بعضهم أن الله سبحانه وتعالى لما أراد خلق آدم عليه السلام ، قبض قبضة من تراب الأرض فبلها بالماء حتى اسودت وأنتن ريحها ، وتغيرت وإليه الإشارة : بقوله : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } ثم إن ذلك التراب بله بالماء وخمره حتى اسودت ، وأنتن ريحه وتغير وإليه الإشارة بقوله : من حمأ مسنون ثم ذلك الطين الأسود المتغير صوره صورة إنسان أجوف ، فلما جف ويبس كانت تدخل فيه الريح فتسمع له صلصلة يعني صوتاً ، وإليه الإشارة بقوله من صلصال كالفخار وهو الطين اليابس ، إذا تفخّر في الشمس ثم نفخ فيه الريح فكان بشراً سوياً قوله تعالى { والجان خلقناه من قبل } يعني من قبل آدم عليه السلام . قال ابن عباس : الجان أبو الجن كما أن آدم أبو البشر . وقال قتادة : هو إبليس . وقيل : الجان أبو الجن وإبليس أبو الشياطين ، وفي الجن مسلمون وكافرون يأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبني آدم . وأما الشياطين فليس فيهم مسلمون ولا يموتون إلا إذا مات إبليس . وقال وهب : إن من الجن من يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين ، ومن الجن من هو بمنزلة الريح لا يتوالدون ، ولا يأكلون ولا يشربون وهم الشياطين والأصح أن الشياطين نوع من الجن لاشتراكهم في الاستتار سموا جناً لتواريهم واستتارهم عن الأعين من قولهم : جن الليل إذا ستر والشيطان هو العاتي المتمرد الكافر ، والجن منهم المؤمن ومنهم الكافر { من نار السموم } يعني من ريح حارة تدخل مسام الإنسان من لطفها ، وقوة حرارتها فتقتله .(4/144)
ويقال للريح الحارة التي تكون بالنهار : السموم . وللريح الحارة التي تكمون بالليل : الحرور ، وقال أبو صالح : السموم نار لا دخال لها والصواعق تكون منها ، وهي نار بين السماء والحجاب ، فإذا حدث أمر خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به فالهدة التي تسمعون من خرق ذلك الحجاب وهذا على قول أصحاب الهيئة أن الكرة الرابعة تسمى كرة النار ، وقيل : من نار السموم يعني من نار جهنم . وقال ابن مسعود : هذه السموم جزء من سبعين جزء من السموم التي خلق منها الجان ، وتلا هذه الآية . وقال ابن عباس : كان ابليس من حي من الملائكة يسمون الجان خلقوا من نار السموم ، وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وخلقت الملائكة من النور . قوله عز وجل { وإذ قال ربك للملائكة } أي واذكر يا محمد : إذ قال ربك للملائكة { إني خالق بشراً } سمي الآدمي بشراً ، لأنه جسم كثيف ظاهر البشرة ظاهر الجلد { من صلصال من حمأ مسنون } تقدم تفسيره { فإذا سويته } يعني عدلت صورته ، وأتممت خلقه { ونفخت له من روحي } النفخ عبارة عن إجراء الريح في تجاويف جسم آخر ، ومنه نفخ الرح في النشأة الأولى ، وهو المراد من قوله : ونفخت فيه من روحي وأضاف الله عز وجل روح آدم إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم لها كما يقال بيت الله وناقة الله وعبد الله وسيأتي الكلام على الروح في تفسير سورة الإسراء عند قوله : { ويسألونك عن الروح } إن شاء الله تعالى { فقعوا له ساجدين } الخطاب للملائكة ، الذي قال الله لهم : إني خالق بشراً أمرهم بالسجود لآدم بقوله فقعوا له ساجدين . وكان هذا السجود تحية لا سجود عبادة { فسجد الملائكة كلهم } يعني الذين أمروا بالسجود لآدم { أجمعون } قال سيبويه : هذا توكيد بعد توكيد ، وسئل المبرد عن هذه الآية فقال : لو قال فسجد الملائكة لاحتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال كلهم لزم إزالة ذلك الاحتمال فظهر بهذا أنهم سجدوا بأسرهم ثم عند هذا بقي احتمال آخر ، وهو أنهم سجدوا في أوقات متفرقة ، أو في دعة واحدة فلما قال : أجمعون ظهر أن الكل سجدوا دفعة واحدة ، ولما حكى الزجاج هذا القول عن المبرد قال : قول الخليل وسيبويه أجود لأن أجمعين معرفة فلا تكون حالاً . روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله سبحانه وتعالى أمر جماعة من الملائكة ، بالسجود لآدم فلم يفعلوا فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم . ثم قال لجماعة أخرى : اسجدوا لآدم فسجدوا .(4/145)
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
{ إلا إبليس أبى أن يكون من الساجدين } يعني مع الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم فسجدوا { قال } يعني قال الله { يا أبليس مالك ألا تكون مع الساجدين قال } يعني إبليس { لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون } أراد إبليس أنه أفضل من آدم لأن آدم طيني الأصل وإبليس ناري الأصل . والنار أفضل من الطين فيكون إبليس في قياسه أفضل من آدم ، ولم يدرِ الخبيث أن الفضل فيما فضله الله تعالى { قال فاخرج منها } يعني من الجنة وقيل من السماء { فإنك رجيم } أي طريد { وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين } قيل : إن أهل السموات يلعنون إبليس كما يلعنه أهل الأرض ، فهو ملعون في السموات والأرض فإن قلت : إن حرف إلى لانتهاء الغاية فهل ينقطع اللعن عنه يوم الدين الذي هو يوم القيامة؟ قلت : لا بل يزداد عذاباً إلى اللعنة التي عليه كأنه قال تعالى ، وإن عليك اللعنة فقط إلى يوم الدين . ثم تزداد معها بعد ذلك عذاباً دائماً مستمراً لا انقطاع له { قال رب فأنظرني } يعني أخّرني { إلى يوم يبعثون } يعني يوم القيامة وأراد بهذا السؤال أنه لا يموت أبداً لأنه أذا أمهل إلى يوم القيامة ، ويوم القيامة لا يموت فيه أحد لزم من ذلك أنه لا يموت أبداً ، فلهذا السبب سأل الإنظار إلى يوم يبعثون ، فأجابه الله سبحانه وتعالى بقوله : { قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم } يعني الوقت الذي يموت فيه جميع الخلائق وهو النفخة الأولى فيقال : إن مدة موت إبليس أربعون سنة ، وهو ما بين النفختين ، ولم تكن إجابة الله تعالى إياه في الإمهال إكراماً له بل كان ذلك الإمهال زيادة له في بلائه وشقائه وعذابه . وإنما سمي يوم القيامة بيوم الوقت المعلوم ، لأن ذلك اليوم لا يعلمه أحد إلا الله تعالى فهو معلوم عنده وقيل : إن جميع الخلائق يموتون فيه فهو معلوم بهذا الاعتبار وقيل لما سأل إبليس الإنظار إلى يوم يبعثون أجابه الله بقوله : فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم يعني اليوم الذي عينت وسألت الإنظار إليه { قال رب بما أغويتني } الباء للقسم في قوله بما وما ومصدرية ، وجواب القسم { لأزينن } والمعنى فبإغوائك إياي لأزينن لهم في الأرض ، وقيل هي باء السبب . يعني بسبب كوني غاوياً لأزينن { لهم في الأرض } يعني لأزينن لهم حب الدنيا ومعاصيك { ولأغوينهم أجمعين } يعني بإلقاء الوسوسة في قلوبهم ، وذلك أن إبليس لما علم أنه يموت على الكفر غير مغفور لهم حرص على إضلال الخلق بالكفر ، وإغوائهم ثم استثنى فقال { إلا عبادك منهم المخلصين } يعني المؤمنين الذين أخلصوا لك التوحيد والطاعة والعبادة ، ومن فتح اللام من المخلصين يكون المعنى إلا من أخلصته واصطفيته لتوحيدك وعبادتك .(4/146)
وإنما استثنى إبليس المخلصين لأنه علم أن كيده ووسوسته لا تعمل فيهم ، ولا يقبلون منه وحقيقة الإخلاص فعل الشيء خالصاً لله عن شائبة الغير فكل من أتى بعمل من أعمال الطاعات فلا يخلو ، إما أن مراده بتلك الطاعات وجه الله فقط ، أو غير الله أو مجموع الأمرين . أما ما كان لله تعالى فهو الخالص المقبول ، وأما ما كان لغير الله فهو الباطل المردود ، وأما من كان مراده مجموع الأمرين فإن ترجح جانب الله تعالى كان من المخلصين الناجحين وإن ترجح الجانب الآخر كان من الهالكين لأن المثل يقابله المثل فيبقى القدر الزائد ، وإلى أي الجانبين رجح أخذ به { قال } يعني قال الله تبارك وتعالى { هذا صراط علي مستقيم } قال الحسن معناه هاذا صراط إلى مستقيم . وقال مجاهد : الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج إلى شيء . وقال الأخفش : معناه على الدلالة على الصراط المستقيم . وقال الكسائي : هذا على طريق التهديد والوعيد كما يقول الرجل لمن يخاصمه : طريقك علي أي لا تنفلت مني . وقيل : معناه علي استقامته بالبيان والبرهان والتوفيق والهداية . وقيل : هذا عائد إلى الإخلاص والمعنى أن الإخلاص طريق علي وإلي يؤدي إلى كرامتي ورضواني .(4/147)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
{ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } أي قوة وقدرة وذلك أن إبليس لما قال : لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ، أوهم بهذا الكلام أن له سلطاناً على غير المخلصين فبين الله سبحانه وتعالى ، أنه ليس له سلطان على أحد من عبيده سواء كان من المخلصين ، أو لم يكن من المخلصين . قال أهل المعاني : ليس لك عليهم سلطان على قلوبهم ، وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية فقال : معناه ليس لك عليهم سلطان أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي ، وهؤلاء خاصته أي الذين هداهم ، واجتباهم من عباده { إلا من اتبعك من الغاوين } يعني إلا من اتبع إبليس من الغاوين ، فإن له عليهم سلطاناً بسبب كونهم منقادين له فيما يأمرهم به { وإن جهنم لموعدهم أجمعين } يعني موعد إبليس وأتباعه وأشياعه { لها } يعني لجهنم { سبعة أبواب } يعني سبع طبقات . قال علي بن أبي طالب : تدرون كيف أبواب جهنم هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى أي سبعة أبواب بعضها فوق بعض . قال ابن جريج : النار سبع دركات أولها جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية { لكل باب منهم جزء مقسوم } يعني لكل دركة قوم يسكنونها والجزء بعض الشيء وجزأته جعلته أجزاء ، والمعنى أن الله سبحانه وتعالى يجزىء أتباع إبليس سبعة أجزاء فيدخل كل قسم منهم في النار دركة من النار والسبب فيه أن مراتب الكفر مختلفة فلذلك اختلفت مراتبهم في النار ، قال الضحاك : في الدركة الأولى أهل التوحيد الذين أدخلوا النار يعذبون فيها بقدر ذنوبهم ثم يخرجون منها ، وفي الثانية النصارى ، وفي الثالثة اليهود ، وفي الرابعة الصابئون ، وفي الخامسة المجوس ، وفي السادسة أهل الشرك ، وفي السابعة المنافقون فذلك ، قوله سبحانه وتعالى { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي أو قال على أمة محمد صلى الله عليه وسلم » أخرجه الترمذي . وقال : حديث غريب قوله سبحانه وتعالى { إن المتقين في جنات وعيون } المراد بالمتقين الذين اتقوا الشرك في قول جمهور المفسرين وقيل : هم الذين اتقوا الشرك والمعاصي والجنات والبساتين والعيون والأنهار الجارية في الجنات ، وقيل : يحتمل أن تكون هذه العيون غير الأنهار الكبار التي في الجنة ، وعلى هذا فهل يختص كل واحد من أهل الجنة بعيون أو تجري هذه العيون من بعضهم إلى بعض؟ وكلا الأمرين محتمل فيحتمل أن كل واحد من أهل الجنة يختص بعيون تجري في جناته وقصوره ودوره فينتفع بها هون ومن يختص به من حوره وولدانه ، ويحتمل أنها تجري من جنات بعضهم إلى جنات بعض لأنهم قد طهروا من الحسد والحقد .(4/148)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
{ ادخلوها } أي يقال لهم : ادخلوها والقائل هو الله تعالى أو بعض ملائكته { بسلام آمنين } يعني ادخلوا الجنة مع السلامة والأمن من الموت ومن جميع الآفات { ونزعنا ما في صدورهم من غل } الغل الحقد الكامن في القلب . ويطلق على الشحناء والعداوة والبغضاء والحقد والحسد ، وكل هذه الخصال المذمومة داخلة في الغل لأنها كامنة في القلب يروى أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص بعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة ، وقد نقيت قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد { إخواناً } يعني في المحبة والمودة والمخالطة ، وليس المراد منه إخوة النسب { على سرر } جمع سرير . قال بعض أهل المعاني : السرير مجلس رفيع عدل مهيأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور . وقال ابن عباس : على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت والسرير مثل صنعاء إلى الجابية { متقابلين } يعني يقابل بعضهم بعضاً لا ينظر أحد منهم في قفا صاحبه ، وفي بعض الأخبار أن المؤمن في الجنة إذا أراد أن يلقى أخاه المؤمن سار سرير كل واحد منهما إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان { لايمسهم فيها } يعني في الجنة { نصب } أي تعب ولا إعياء { وما هم منها } يعني من الجنة { بمخرجين } هذا نص من الله في كتابه على خلود أهل الجنة في الجنة ، والمراد منه خلود بلا زوال وبقاء بلا فناء ، وكمال بلا نقصان وفوز بلا حرمان . قوله سبحانه وتعالى { نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم } قال ابن عباس : يعني لمن تاب منهم وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يضحكون فقال : « أتضحكون وبين أيديكم النار فنزل جبريل بهذه الآية وقال : يقول لك ربك يا محمد مم تقنط عبادي » ذكره البغوي بغير سند { وأن عذابي هو العذاب الأليم } قال قتادة بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع عن حرام ولو يعلم العبد قدر عذابه لبخع نفسه » يعني لقتل نفسه ( خ ) عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم يقول : « إن الله سبحانه وتعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة ، وأدخل في خلقه كلهم رحمة واحدة ، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار » وفي الآية لطائف منها أنه سبحانه وتعالى أضاف العباد إلى نفسه بقوله نبىء عبادي وهذا تشريف وتعظيم لهم ، ألا ترى أنه لما أراد أن يشرف محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج لم يزد على قوله(4/149)
{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } فكل من اعترف على نفسه بالعبودية لله تعالى فهو داخل في هذا التشريف العظيم ، ومنها أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة أولها قوله : أني وثانيها أنا وثالثها إدخال الألف واللام في الغفور الرحيم ، وهذا يدل على تغليب جانب الرحمة والمغفرة . ولما ذكر العذاب لم يقل إني أنا المعذب ، وما وصف نفسه بذلك . بل قال : وأن عذابي هو العذاب الأليم على سبيل الإخبار ، ومنها أنه سبحانه وتعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ عباده هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة . قوله سبحانه وتعالى : { ونبئهم عن ضيف إبراهيم } هذا معطوف على ما قبله أي وأخبر يا محمد عبادي عن ضيف أبراهيم . وأصل الضيف الميل يقال ضفت إلى كذا وإذا ملت إليه والضيف من مال إليك نزولاً بك وصارت الضيافة متعارفة في القرى وأصل الضيف مصدر ، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع في عامة كلامهم ، وقد يجمع فيقال أضياف وضيوف وضيفان وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى ، ليبشروا إبراهيم بالولد ويهلكوا قوم لوط { إذ دخلوا عليه } يعني إذ دخل الأضياف على إبراهيم عليه السلام { فقالوا سلاماً } أي نسلم سلاماً { قال } يعني إبراهيم { إنا منكم وجلون } أي خائفون وإنما خاف إبراهيم منهم لأنهم لم يأكلوا طعامه { قالوا لا توجل } يعني لا تخف { إنا نبشرك بغلام عليم } يعني أنهم بشروه بولد ذكر غلام في صغره عليم في كبره ، وقيل عليم بالأحكام والشرائع والمراد به إسحاق عليه السلام فلما بشروه بالولد عجب إبراهيم من كبره وكبر امرأته { قال أبشرتموني } يعني بالولد { على أن مسني الكبر } يعني على حالة الكبر ، قال على طريق التعجب { فبم تبشرون } يعني فبأي شيء تبشرون ، وهو استفهام بمعنى التعجب كأنه عجب من حصول الولد على الكبر { قالوا بشرناك بالحق } يعني بالصدق الذي قضاه الله بأن يخرج منك ولداً ذكراً ، تكثر ذريته وهو إسحاق { فلا تكن من القانطين } يعني فلا تكن من الآيسين من الخير . والقنوط : هو الإياس من الخير { قال } يعني إبراهيم { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } يعني من ييأس من رحمة ربه إلا المكذبون ، وفيه دليل على أن إبراهيم عليه السلام لم يكن من القانطين ، ولكنه استبعد حصول الولد على الكبر فظنت الملائكة أن به قنوطاً فنفى ذلك عن نفسه ، وأخبر أن القانط من رحمة الله تعالى من الضالين لأن القنوط من رحمة الله كبيرة ، كالأمن من مكر الله ولا يحصل إلا عند من يجهل كون الله تعالى قادراً على ما يريد ، ومن يجهل كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع المعلومات فكل هذه الأمور سبب للضلالة { قال } يعني إبراهيم { فما خطبكم } يعني فما شأنكم وما الأمر الذي جئتم فيه { أيها المرسلون } والمعنى ما الأمر الذي جئتم به سوى ما بشرتموني به من الولد { قالوا } يعني الملائكة { إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } يعني لهلاك قوم مجرمين { إلا آل لوط } يعني أشياعه وأتباعه من أهل دينه { إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته } يعني امرأة { لوط قدرنا } يعني قضينا وإنما أسند الملائكة القدر إلى أنفسهم وإن كان ذلك لله عز وجل ، لاختصاصهم بالله وقربهم منه كما تقول خاصة الملك نحن أمرنا ، ونحن فعلنا وإن كان قد فعلوه بأمر الملك { إنها لمن الغابرين } يعني لمن الباقين في العذاب والاستثناء من النفي إثبات ، ومن الإثبات نفي فاستثناء امرأة لوط من الناجين يلحقها بالهالكين .(4/150)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
{ فلما جاء آل لوط المرسلون } وذلك أن الملائكة عليهم السلام لما بشروا إبراهيم بالولد ، وعرفوه بما أرسلوا به ساروا إلى لوط وقومه فلما دخلوا على لوط { قال إنكم قوم منكرون } وإنما قال هذه المقالة لوط لأنهم دخلوا عليه وهم في زي شبان مردان حسان الوجوه ، فخاف أن يهجم عليهم قومه فلهذا السبب قال هذه المقالة . وقيل : إن النكرة ضد المعرفة فقول : إنكم قوم منكرون يعني لا أعرفكم ولا أعرف من أي الأقوام أنتم ، ولا لأي غرض دخلتم فعند ذلك { قالوا } يعني الملائكة { بل جئناك بما كانوا فيه يمترون } يعني جئناك بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه { وأتيناك بالحق } يعني باليقين الذي لا شك فيه { وإنّا لَصادقون } يعني فيما أخبرناك به من إهلاكهم { فأسر بأهلك } بقطع من الليل يعني آخر الليل ، والقطع القطعة من الشيء وبعضه { واتبع أدبارهم } يعني واتبع آثار أهلك وسر خلفهم { ولا يلتفت منكم أحد } يعني حتى لا يرى ما نزل بقومه من العذاب فيرتاع بذلك ، وقيل : المراد الإسراع في السير وترك الالتفات إلى ورائه ، والاهتمام بما خلفه كما تقول امض لشأنك ولا تعرج على شيء وقيل جعل ترك الالتفات علامة لمن ينجو من آل لوط ولئلا يتخلف أحد منهم فيناله العذاب { وامضوا حيث تؤمرون } قال ابن عباس : يعني إلى الشام وقيل : الأردن ، وقيل إلى حيث يأمركم جبريل وذلك أن جبريل أمرهم أن يسيروا إلى قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط { وقضينا إليه ذلك الأمر } يعني وأوحينا إلى لوط ذلك الأمر الذي حكمنا به على قومه ، وفرغنا منه ثم إنه سبحانه وتعالى فسر ذلك الأمر الذي قضاه بقوله { أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } يعني أن هؤلاء القوم يستأصلون عن آخرهم بالعذاب وقت الصبح وإنما أبهم الأمر الذي قضاه عليهم أولاً ، وفسر ثانياً تفخيماً له وتعظيماً لشأنه { وجاء أهل المدينة } يعني مدينة سدوم وهي مدينة قوم لوط { يستبشرون } يعني يبشر بعضهم بعضاً بأضياف لوط والاستبشار : إظهار الفرح والسرور ، وذلك أن الملائكة لما نزلوا على لوط ظهر أمرهم في المدينة وقيل إن امرأته أخبرتهم بذلك ، وكانوا شباناً مرداً في غاية الحسن ونهاية الجمال فجاء قوم لوط إلى داره طمعاً منهم في ركوب الفاحشة { قال } يعني قال لوط لقومه { إن هؤلاء ضيفي } وحق على الرجل إكرام ضيفه { فلا تفضحون } يعني فيهم يقال فضحه يفضحه إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بسببه { واتقوا الله } يعني خافوا الله في أمرهم { ولا تخزون } يعني ولا تخجلون { قالوا } يعني : قوم لوط الذين جاؤوا إليه { أولم ننهك عن العالمين } يعني أولم ننهك عن أن تضيف أحداً من العالمين . وقيل : معناه أو لم ننهك أن تدخل الغرباء إلى بيتك ، فانا نريد أن نركب منهم الفاحشة : وقيل : معناه ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من العالمين إذا قصدناه بالفاحشة .(4/151)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
{ قال } يعني لوط لقومه الذين قصدوا أضيافه { هؤلاء بناتي } أزوجكم إياهن إن أسلمتم فأتوا الحلال ودعوا الحرام وقيل : أراد بالبنات نساء قومه لأن النبي كالوالد لأمته { إن كنتم فاعلين } يعني ما آمركم به { لعمرك } الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس : معناه وحياتك يا محمد وقال ما خلق الله نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما أقسم بحياة أحد إلا بحياته والعمر واحد وهو اسم لمدة عمارة بدن الإنسان بالحياة والروح وبقائه مدة حياته . قال النحويون : ارتفع لعمرك بالابتداء والخبر محذوف والمعنى لعمرك قسمي فحذف الخبر لأن في الكلام دلالة عليه . { إنهم لفي سكرتهم } يعني في حيرتهم وضلالتهم وقيل غفلتهم { يعمهون } يعني يترددون متحيرين وقال قتادة : يلعبون { فأخذتهم الصيحة مشرقين } يعني حين أضاءت الشمس فكان ابتداء العذاب الذي نزل بهم وقت الصبح وتمامه وانتهاؤه حين أشرقت الشمس { فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } تقدم تفسيره في سورة هود { إن في ذلك } يعني الذي نزل بهم من العذاب { لآيات للمتوسمين } قال ابن عباس : للناظرين . وقال قتادة : للمعتبرين . وقال مقاتل : للمتفكرين . وقال مجاهد : للمتفرسين ويعضد هذا التأويل ما روي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب . الفراسة بالكسر اسم من قولك تفرست في فلان الخير . وهي على نوعين : أحدهما ما دل عليه ظاهر الحديث ، وهو ما يوقعه الله في قلوب أوليائه فيعلمون بذلك أحوال الناس بنوع من الكرامات ، وإصابة الحدس والنظر والظن والتثبيت ، والنوع الثاني ما يحصل بدلائل التجارب والخلق والأخلاق تعرف بذلك أحوال الناس أيضاً وللناس في علم الفراسة تصانيف قديمة وحديثه . قال الزجاج : حقيقة المتوسمين في اللغة المتثبتين في نظرهم حتى يعرفوا سمة الشيء وصفته وعلامته فالمتوسم الناظر في سمة الدلائل ، تقول توسمت في فلان كذا أي عرفت وسم ذلك وسمته { وإنها } يعني قرى قوم لوط { لبسبيل مقيم } يعني بطريق واضح . قال مجاهد : بطريق معلم ليس بخفي ولا زائل والمعنى : أن آثار ما أنزل الله بهذه القرى من عذابه وغضبه لبسبيل مقيم ثابت لم يدثر ولم يخف ، والذين يمرون عليها من الحجاز إلى الشام يشاهدون ذلك ويرون أثره { إن في ذلك } يعني الذي ذكر من عذاب قوم لوط ، وما أنزل بهم { لآية للمؤمنين } يعني المصدقين لما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم { وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين } يعني كان أصحاب الأيكة وهي الغيضة ، واللام في قوله لظالمين للتأكيد وهم قوم شعيب عليه السلام كانوا أصحاب غياض ، وشجر ملتف وكان عامة شجرهم المقل وكانوا قوماً كافرين فبعث الله عز وجل إليهم شعيباً رسولاً فكذبوه فأهلكهم الله فهو قوله تعالى { فانتقمنا منهم } يعني بالعذاب وذلك أن الله سبحانه وتعالى سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى أخذ بأنفاسهم وقربوا من الهلاك فبعث الله سبحانه وتعالى كالظلة فالتجؤوا إليها ، واجتمعوا تحتها يلتمسون الروح فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم جميعاً { وإنهما } يعني مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب الأيكة { لبإمام مبين } يعني طريق واضح مستبين لمن مر بهما ، وقيل : الضمير راجع إلى الأيكة ومدين لأن شعيباً كان مبعوثاً إليهما وإنما سمي الطريق إماماً لأنه يؤم ويتبع ، ولأن المسافر يأتّم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده .(4/152)
قوله عز وجل { وقد كذب أصحاب الحجر المرسلين } قال المفسرون : الحجر اسم واد كان يسكنه ثمود وهو معروف بين المدينة النبوية والشام وآثاره موجودة باقية يمر عليها ركب الشام إلى الحجار ، وأهل الحجاز إلى الشام وأراد بالمرسلين صالحاً وحده ، وإنما ذكره بلفظ الجمع للتعظيم أو لأنهم كذبوه ، وكذبوا من قبله من الرسل .(4/153)
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
{ وآتيناهم آياتنا } يعني الناقة وولدها والآيات التي كانت في الناقة خروجها من الصخرة وعظم جثتها وقرب ولادها وغزارة لبنها ، وإنما أضاف الآيات إليهم وإن كانت لصالح ، لأنه مرسل إليهم بهذه الآيات { فكانوا عنها } يعني عن الآيات { معرضين } يعني تاركين لها غير ملتفتين إليها { وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين } خوفاً من الخراب أو أن يقع عليهم الجبل أو السقف { فاخذتهم الصيحة } يعني العذاب { مصبحين } يعني وقت الصبح { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } يعني من الشرك والأعمال الخبيثة ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : « لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم ، إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي » قوله سبحانه وتعالى { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } يعني لإظهار الحق والعذاب ، وهو أن يثاب المؤمن المصدق ويعاقب الجاحد الكافر الكاذب { وإن الساعة لآتية } يعني : وإن القيامة لتأتي ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته { فاصفح الصفح الجميل } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي فأعرض عنهم يا محمد واعفُ عنهم عفواً حسناً . واحتمل ما تلقى من أذى قومك وهذا الصفح والإعراض منسوخ بآية القتال ، وقيل فيه بُعد لأن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ، أن يظهر الخلق الحسن وأن يعاملهم بالعفو والصفح الخالي من الجزع والخوف { إن ربك هو الخلاق العليم } يعني أنه سبحانه وتعالى خلق خلقه ، وعلم ما هم فاعلوه وما يصلحهم . قوله عز وجل { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم } قال ابن الجوزي : سبب نزولها أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد ، فيها أنواع من البز والطيب والجواهر ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فأنزل الله هذه الآية . وقال : قد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه السبع القوافل ويدل على صحة هذا قوله { لا تمدّن عينيك } الآية قال الحسن بن الفضل قلت وهذا القول ضعيف أو لا يصح لأن هذه السورة مكية ، بإجماع أهل التفسير وليس فيها من المدني شيء . ويهود قريظة والنضير ، كانوا بالمدينة وكيف يصح أن يقال إن سبع قوافل جاءت في يوم واحد ، فيها أموال عظيمة حتى تمناها المسلمون فأنزل الله هذه الآية ، وأخبرهم أن هذه السبع آيات هي خير من هذه السبع القوافل والله أعلم ، وفي المراد بالسبع المثاني أقوال أحدها أنها فاتحة الكتاب ، وهذا قول عمر وعلي وابن مسعود وفي رواية عنه وابن عباس ، وفي رواية الأكثرين عنه وأبي هريرة والحسن ، وسعيد بن جبير وفي رواية عنه ومجاهد وعطاء وقتادة في آخرين .(4/154)
يدل على صحة هذا التأويل ماروي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب ، والسبع المثاني » أخرجه أبو داود والترمذي ( ق ) عن أبي سعيد ابن المعلى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته » أخرجه البخاري . وفيه زيادة أما السبب في تسمية فاتحة الكتاب بالسبع المثاني ، فلأنها سبع آيات بإجماع أهل العلم واختلفوا في سبب تسميتها بالمثاني . فقال ابن عباس والحسن وقتادة : لأنها تثنى في الصلاة تقرأ في كل ركعة . وقيل : لأنها مقسومة بين العبد وبين الله نصفين : فنصفها الأول ثناء على الله . ونصفها الثاني : دعاء ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « يقول الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين » الحديث مذكور في فضل الفاتحة . وقيل سميت مثاني لأن كلماتها مثناة مثل قوله : { الرحمن الرحيم إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين } فكل هذه ألفاظ مثناة . وقال الحسن بن الفضل : لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة ومعها سبعون ألف ملك . وقال مجاهد : لأن الله سبحانه وتعالى استثناها وادخرها لهذه الأمة فلم يعطها لغيرهم . وقال أبو زيد البلخي : لأنها تثني أهل الشرك عن الشر من قول العرب ثنيت عناني . وقال ابن الزجاج : سميت فاتحة الكتاب مثاني لاشتمالها على الثناء على الله تعالى وهو حمد الله وتوحيده ، وملكه وإذا ثبت كون الفاتحة هي السبع المثاني دل ذلك على فضلها وشرفها وأنها من أفضل سور القرآن ، لأن إفرادها بالذكر في قوله تعالى { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم } مع أنها جزء من أجزاء القرآن وإحدى سوره لا بد . وأن يكون لاختصاصها بالشرف ، والفضيلة . القول الثاني في تفسير قوله سبعاً من المثاني أنها السبع الطوال ، وهذا قول ابن عمر وابن مسعود في رواية عنه وابن عباس وفي رواية عنه وسعيد جبير وفي رواية عنه السبع الطوال هي سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف . واختلفوا في السابعة فقيل الأنفال مع براءة لأنهما كالسورة الواحدة ، ولهذا لم يكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم . وقيل السابعة هي سورة يونس ويدل على صحة هذا القول ما روي عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله سبحانه وتعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المئتين مكان الإنجيل وأعطاني مكان الزبور المثاني ، وفضلني ربي بالمفصل » أخرجه البغوي بإسناد الثعلبي؛ قال ابن عباس : إنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود ، والأمثال والخبر والعبر ثنيت فيها ، وأورد على هذا القول أن هذه السور الطوال غالبها مدنيات فكيف يمكن تفسير هذه الآية بها ، وهي مكية وأجيب عن هذا الإيراد بأن الله سبحانه وتعالى ، حكم في سابق علمه بإنزال هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان الأمر كذلك صح أن تفسر هذه الآية بهذه السورة ، القول الثالث : أن السبع المثاني هي السور التي هي دون الطوال ، وفوق المفصل وهي المئين ، وحجة هذا القول الحديث المتقدم وأعطاني مكان الزبور المثاني ، والقول الرابع : أن السبع المثاني هي القرآن كله وهذا قول طاوس وحجة هذا القول أن الله سبحانه وتعالى قال(4/155)
{ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني } وسمي القرآن كله مثاني لأن الأخبار والقصص والأمثال ثنيت فيه فإن قلت : كيف يصح عطف القرآن في قوله { والقرآن العظيم } على قوله { سبعاً من المثاني } وهل هو إلا عطف الشيء على نفسه؟ قلت : إذا عني بالسبع المثاني فاتحة الكتاب أو السبع الطوال فما وراءهن ينطلق عليه القرآن لأن القرآن اسم يقع على البعض كما يقع على الكل ألا ترى إلى قوله بما أوحينا إليك هذا القرآن يعني سورة يوسف عليه السلام . وإذا عنى بالسبع المثاني القرآن كله كان المعنى ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ، وهي القرآن العظيم وإنما سمي القرآن عظيماً ، لأنه كلام الله ووحيه أنزله على خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم . قوله { لا تمدن عينيك } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا تمدن عينيك يا محمد { إلى ما متعنا به أزواجاً } يعني أصنافاً { منهم } يعني من الكفار متمنياً لها نهى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم عن الرغبة في الدنيا ، ومزاحمة أهله عليها والمعنى أنك قد أوتيت القرآن العظيم الذي فيه غنى عن كل شيء ، فلا تشغل قلبك وسرك بالالتفات إلى الدنيا والرغبة فيها . روي أن سفيان بن عيينة تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم « ليس منا من لم يتغن بالقرآن » يعني من لم يستغن بالقرآن فتأول هذه الآية . قيل : إنما يكون مادّاً عينيه إلى الشيء ، إذا أدام النظر إليه مستحسناً له فيحصل من ذلك تمني ذلك الشيء المستحسن ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينظر إلى شيء من متاع الدنيا ولا يلتفت إليه ولا يستحسنه { ولا تحزن عليهم } يعني ولا تغتم على ما فاتك من مشاركتهم في الدنيا وقيل ولا تحزن على إيمانهم إذا لم يؤمنوا ففيه النهي عن الالتفات إلى أموال الكفار ، والالتفات إليهم أيضاً وروى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لاتغبطن فاجراً بنعمته فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته أن له عند الله قاتلاً لا يموت قيل : وما هو؟ قال : النار »(4/156)
( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال ، والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه » لفظ البخاري ولمسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « انظروا إلى من هو أسفل منكم و لاتنظروا إلى من هو فوقكم ، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم » قال عوف بن عبد الله بن عتبة : كنت أصحب الأغنياء فما كان أحد أكثر هماً مني كنت أرى دابة خيراً من دابتي وثوباً خيراً من ثوبي ، فلما سمعت هذه الحديث صحبت الفقراء فاسترحت . وقوله سبحانه وتعالى { واخفض جناحك } يعني ليِّن جانبك { للمؤمنين } وارفق بهم لما نهاه الله سبحانه وتعالى عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار ، أمره بالتواضع واللين والرفق بفقراء المسلمين وغيرهم من المؤمنين .(4/157)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
{ وقل } أي وقل لهم يا محمد { إني أنا النذير المبين } لما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالزهد في الدنيا ، والتواضع للمؤمنين أمره بتبليغ ما أرسل به إليهم ، والنذارة تبليغ مع تخويف والمعنى : إني أنا النذير بالعقاب لمن عصاني المبين النذارة { كما أنزلنا المقتسمين } يعني أنذركم عذاباً كعذاب أنزلناه بالمقتسمين ، قال ابن عباس : أراد بالمقتسمين اليهود والنصارى . وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة : سموا بذلك لأنهم آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعضه ، فما وافق كتبهم آمنوا به وما خالف كتبهم كفروا به ، وقال عكرمة : إنهم اقتسموا سور القرآن فقال واحد منهم هذه السورة لي وقال : آخر هذه السورة لي ، وإنما فعلوا ذلك استهزاء به ، وقال مجاهد : إنهم اقتسموا كتبهم فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها ، وكفر آخرون منهم بما آمن به غيرهم . وقال قتادة وابن السائب : أراد بالمقتسمين كفار قريش سموا بذلك لأن أقوالهم تقسمت في القرآن . فقال بعضهم : إنه سحر وزعم بعضهم أنه كهانة وزعم بعضهم إنه أساطير الأولين وقال ابن السائب : سموا بالمقتسمين لأنهم اقتسموا عقاب مكة وطرقها ، وذلك أن الوليد بن المغيرة بعث رهطاً من أهل مكة . قيل ستة عشر . وقيل : أربعين . فقال لهم : انطلقوا فتفرقوا على عقاب مكة وطرقها حيث يمر بكم أهل الموسم ، فإذا سألوكم عن محمد فليقل بعضكم إنه كاهن وليقل بعضكم إنه شاعر ، وليقل بعضكم إنه ساحر فإذا جاؤوا إلي صدقتكم فذهبوا وقعدوا على عقاب مكة وطرقها يقولون لمن مر بهم من حجاج العرب : لا تغتروا بهذا الخارج الذي يدعي النبوة منا فإنه مجنون كاهن ، وشاعر . وقعد الوليد بن المغيرة على باب المسجد الحرام فإذا جاؤوا وسألوه عما قال : أولئك المقتسمون . قال : صدقوا . وقوله سبحانه وتعالى : { الذين جعلوا القرآن عضين } ( خ ) عن ابن عباس في قوله تعالى الذين جعلوا القرآن عضين . قال : هم اليهود والنصارى جزؤوه أجزاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، قيل : هو جمع عضة من قولهم عضيت الشيء إذا فرقته ، وجعلته أجزاء وذلك لأنهم جعلوا القرآن أجزاء مفرقة . فقال بعضهم : هو سحر . وقال بعضهم : هو كهانة . وقال بعضهم : هو أساطير الأولين . وقيل : هو جمع عضة . وهوالكذب والبهتان وقيل : المراد به العضة وهو السحر يعني أنهم جعلوا القرآن عضين { عما كانوا يعملون } يعني عما كانوا يقولونه في القرآن . وقيل : عما كانوا يعملون من الكفر والمعاصي . وقيل : يرجع الضمير في لنسألنهم إلى جميع الخلق المؤمن والكافر لأن اللفظ عام فحمله على العموم أولى قال جماعة من أهل العلم عن لا إله إلا الله عن أنس عن النبي صلى الله عليه سلم في قوله : لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون قال :(4/158)
« عن قول لا إله إلا الله » أخرجه الترمذي . وقال : حديث غريب وقال أبو العالية : يسأل العباد عن خلتين عما كانوا يعبدون ، وماذا أجابوا المرسلين . فإن قلت : كيف الجمع بين قوله لنسألنهم أجمعين وبين قوله { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } قلت : قال ابن عباس : لا يسألهم هل عملتم لأنه أعلم به منهم ، ولكن يقول لم عملتم كذا واعتمدوه قطرب فقال : السؤال ضربان سؤال استعلام وسؤال توبيخ فقال تعالى { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } يعني سؤال استعلام وقوله { لنسألنهم أجمعين } سؤال توبيخ وتقريع وجواب آخر ، وهو يروى عن ابن عباس أيضاً أنه قال في الآيتين : أن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف فيسألون في بعض المواقف ولا يسألون في بعضها نظيره قوله سبحانه وتعالى { هذا يوم لا ينطقون } وقال تعالى في آية أخرى { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } قوله سبحانه وتعالى { فاصدع بما تؤمر } قال ابن عباس : أظهر . ويروى عنه أمضه . وقال الضحاك : أعلم وأصل الصدع الشق والفرق أي أفرق بالقرآن بين الحق الباطل أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بإظهار الدعوة وتبليغ الرسالة إلى من أرسل اليهم قال عبد الله بن عبيدة . ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية ، فخرج هو وأصحابه { وأعرض عن المشركين } أي اكفف عنهم ولا تلتفت إلى لومهم على إظهار دينك ، وتبليغ رسالة ربك وقيل أعرض عن الاهتمام باستهزائهم ، وهو قوله سبحانه وتعالى { إنا كفيناك المستهزئين } أكثر المفسرين على أن هذا الإعراض منسوخ بآية القتال . وقال بعضهم : ما للنسخ وجه لأن معنى الإعراض ترك المبالاة بهم ، والالتفات إليهم ، فلا يكون منسوخاً ، وقوله تعالى إنا كفيناك المستهزئين يقول الله تعالى عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فاصدع بما أمرتك به ولا تخف أحداً غيري فإني أنا كافيك ، وحافظك ممن عاداك فإنا كفيناك المستهزئين وكانوا خمسة نفر من رؤساء كفار قريش ، كانوا يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وهم : الوليد بن المغيرة المخزومي وكان رأسهم ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن المطلب بن الحارث بن أسد بن عبدالعزى بن زمعة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه فقال : اللهم أعم بصره وأثكله بولده . والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة ، والحارث بن قيس ابن الطلاطلة كذا ذكره البغوي . وقال ابن الجوزي : الحارث بن قيس ابن عيطلة وقال الزهري : عيطلة أمة وقيس أبوه فهو منسوب إلى أبيه وأمة قال المفسرون : أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمستهزئون يطوفون بالبيت فقام جبريل ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه فمر به الوليد بن المغيرة فقال جبريل : يا محمد كيف تجد هذا قال بئس عبد الله فقال : قد كفيته وأومأ إلى ساق الوليد فمرّ الوليد برجل من خزاعة نبال بريش نبلاً له ، وعليه برد يماني وهو يجر إزاره فتعلقت شظية من النبل بإزار الوليد ، فمنعه الكبر أن يطأطىء رأسه فينزعها وجعلت تضربه في ساقه ، فخدشته فمرض فمات ، ومر بهما العاص بن وائل السهمي فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال : بئس عبد الله ، فأشار جبريل إلى أخمص قدمه وقال : قد كفيته .(4/159)
فخرج العاص على راحلة يتنزه ، ومعه ابناه فنزل شعباً من تلك الشعاب فوطىء شبرقة فدخل منها شوكة في أخمص رجله ، فقال : لدغت لدغت فطلبوا فلم يجدوا شيئاً وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير ، فمات مكانه . ومر بهما الأسود بن المطلب فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال : عبد سوء فأشار جبريل بيده إلى عينيه . وقال : قد كفيته فعمي . قال ابن عباس : رماه جبريل بورقة خضراء فألهب بصره ووجعت عينه فجعل يضرب برأسه الجدار ، حتى هلك وفي رواية الكلبي قال : أتاه جبريل وهو قاعد في أصل شجرة ومعه غلام له وفي رواية فجعل ينطح رأسه في الشجرة ويضرب وجهه بالشوك فاستغاث بغلامه ، فقال له غلامه : ما أرى أحداً يصنع بك شيئاً غيرك فمات ، وهو يقول قتلني محمد ومر بهما الأسود ابن عبد يغوث فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال : بئس عبد الله على أنه خالي . فقال جبريل : قد كفيته وأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات . وفي رواية الكلبي أنه خرج من أهله . فأصابه سموم فاسود وجهه حتى صار حبشياً ، فأتى أهله لم يعرفوه وأغلقوه دونه الباب فمات ، وهو يقول : قتلني رب محمد . ومر بهما الحارث بن قيس فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال : عبد سوء فأومأ جبريل إلى رأسه . وقال قد كفيته فامتخط قيحاً فقلته . قال ابن عباس : إنه أكل حوتاً مالحاً فأصابه العطش فلم يزل يشرب الماء حتى أنقد بطنه فمات . فذلك قوله تعالى { إنا كفيناك المستهزئين } يعني بك وبالقرآن .(4/160)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{ الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون } يعني إذا نزل بهم العذاب ففيه وعيد وتهديد . قوله سبحانه وتعالى { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون } يعني بسبب ما يقولون ، وهو ما كانوا يسمعونه من الاستهزاء به ، والقول الفاحش والجبلة البشرية تأبى ذلك فيحصل عند سماع ذلك ضيق الصدر ، فعند ذلك أمره بالتسبيح والعبادة وهو قوله { فسبح بحمد ربك } قال ابن عباس : فصلِّ بأمر ربك { وكن من الساجدين } يعني من المتواضعين لله ، وقال الضحاك فسبح بحمد ربك قل سبحان الله وبحمده وكن من الساجدين يعني من المصلين روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، قال بعض العارفين من المحققين : أن السبب في زوال الحزن عن القلب ، إذا أتى العبد بهذه العبادات أنه يتنور باطنه ويشرق قلبه ، وينفسح وينشرح صدره فعند ذلك يعرف قدر الدنيا وحقارتها فلا يلتفت إليها ، ولا يتأسف على فواتها فيزول الهم والغم والحزن عن قلبه . وقال بعض العلماء : إذا نزل بالعبد مكروه ففزع إلى الصلاة فكأنه يقول : يارب إنما يجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني ما أحب أو كفيتني ما أكره ، فأنا عبدك وبين يديك فافعل بي ماتشاء . قوله تعالى { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } يعني الموت وانت في عبادة ربك ، وهذا مثل قوله تعالى في سورة مريم { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً } روى البغوي بسنده عن جبير بن نفير قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم « ما أوحى الله إليّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين ، ولكن أوحى إليّ أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين » وعن عمر قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذيانه بأطيب الطعام والشراب ولقد رأيت عليه حلة شراها ، أو قال : شريت له بمائتي درهم فدعاه حب الله ، وحب رسوله إلى ما ترون » ذكره بغير سند والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .(4/161)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
قوله سبحانه وتعالى : { أتى أمر الله } يعني جاء ودنا وقرب أمر الله تقول العرب : أتاك الأمر وهو متوقع المجيء ، بعدما أتى ، ومعنى الآية أتى أمر الله وعداً { فلا تستعجلوه } يعني وقوعاً بالمراد به مجيء القيامة . قال ابن عباس : لما نزل قوله سبحانه وتعالى { اقتربت الساعة وانشق القمر } قال الكفار : بعضهم لبعض إن هذا الرجل يزعم أن القيامة قد قربت فامسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا : ما نرى شيئاً فنزل قوله تعالى { اقترب للناس حسابهم } فأشفقوا فلما امتدت الأيام ، قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزل { أتى أمر الله } فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم ، وظنوا أنها قد أتت حقيقة فنزل { فلا تستعجلوه } فاطمأنوا ، والاستعجال طلب مجيء الشيء قبل وقته ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : « بعثت أنا والساعة كهاتين ويشير بأصبعيه يمدهما » أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد ( ق ) عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم : « بعثت أنا والساعة كهاتين كفضل إحداهما على الأخرى ، وضم السبابة إلى الوسطى » وفي رواية « بعثت في نفس الساعة فسبقتها كفضل هذه على الأخرى » قال ابن عباس : كان مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ولما مر جبريل بأهل السموات مبعوثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : الله أكبر قامت الساعة قال قوم : المراد بالأمر هنا عقوبة المكذبين وهو العذاب بالقتل بالسيف وذلك أن النضر بن الحرث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية ، وقلت النضر يوم بدر صبراً { سبحانه وتعالى عما يشركون } يعني تنزه الله وتعاظم بالأوصاف الحميدة عما يصفه به المشركون . قوله سبحانه وتعالى : { ينزل الملائكة والروح } يعني بالوحي { من أمره } وإنما سمي الأمر روحاً لأنه تحيا القلوب من موت الجهالات وقال عطاء : بالنبوة . وقال قتادة : بالرحمة . وقيل : الروح هون جبريل والباء بمعنى مع يعني ينزل مع الروح وهون جبريل { على من يشاء من عباده } يعني على من يصطفيه من عباده للنبوة ، والرسالة وتبليغ الوحي إلى الخلق { أن أنذروا } يعني بأن اعلموا { أنه لا إله إلا أنا فاتقون } أي فخافون . وقيل : معناه مروا بقول لا إله إلا الله منذرين يعني مخوفين بالقرآن .(4/162)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
{ خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون } تقدم تفسيره { خلق الإنسان من نطفة فاذا هو خصيم مبين } يعني أنه جدل بالباطل بين الخصومة نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي ، وكان ينكر البعث فجاء بعظم رميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : تزعم أن الله يحيي هذا بعدما رم فنزلت فيه هذه الآية ، ونزل فيه أيضاً قوله تعالى { قال من يحيي العظام وهي رميم } والصحيح أن الآية عامة في كل ما يقع من الخصومة في الدنيا ويوم القيامة ، وحملها على العموم أولى ، وفيها بيان القدرة وأن الله خلق الإنسان من نطفة قذرة فصار جباراً كثيراً لخصومة ، وفيه كشف قبيح ما فعله الكفار من جحدهم نعم الله تعالى مع ظهورها عليهم . قوله عز وجل { والأنعام خلقها } لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض ، ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان ، ذكر بعده ما ينتفع به في سائر ضروراته . ولما كان أعظم ضرورات الإنسان إلى الأكل واللباس اللذين يقوم بهما بدن الإنسان بدأ بذكر الحيوان المنتفع به في ذلك ، وهو الأنعام . فقال تعالى { والأنعام خلقها } وهي الإبل والبقر والغنم . قال الواحدي : تم الكلام عند قوله والأنعام خلقها . ثم ابتدأ فقال تعالى { لكم فيها دفء } قال : ويجوز أيضاً أن يكون تمام الكلام عند قوله لكم ثم ابتدأ فقال تعالى : فيها دفء . قال صاحب النظم أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله خلقها ثم يبتدأ بقوله لكم فيها دفء ، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله ، ولكم فيها جمال والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال . ولما كانت منافع هذه الأنعام منها ضرورية ، ومنها غير ضرورية ، بدأ الله سبحانه وتعالى بذكر المنافع الضرورية ، فقال تعالى : لكم فيها دفء وهو ما يُستدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها ، المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار الحاصلة من النعم { ومنافع } يعني النسل والدر والركوب والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام { ومنها تأكلون } يعني من لحومها . فإن قلت : قوله تعالى { ومنها تأكلون } يفيد الحصر لأن تقديم الظرف مؤذن بالاختصاص ، وقد يؤكل من غيرها . قلت : الأكل من هذه الأنعام هو الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط والإوز وصيد البر والبحر ، فغير معتد به في الأغلب : وأكله يجري مجرى التفكه به فخرج ومنها تأكلون مخرج الأغلب في الأكل من هذه الأنعام . فإن قلت : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللباس فلم أخر منفعة الأكل وقدم منفعة اللباس؟ قلت : منفعة اللباس أكثر وأعظم من منفعة الأكل فلهذا قدم على الأكل . وقوله سبحانه وتعالى { ولكم فيها } أي في الأنعام { جمال } أي زينة { حين تريحون وحين تسرحون } الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحلها حيث تأوي إليه بالليل .(4/163)
وقال : سرح القوم إبلهم تسريحاً إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى . قال أهل اللغة : وأكثر ما تكون هذه الراحة أيام الربيع إذا سقط الغيث ، ونبت العشب والكلأ وخرجت العرب للنجعة ، وأحسن ما تكون النعم في ذلك الوقت فمن الله سبحانه وتعالى بالتجميل بها فيه كما من الانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشي بل هو من معظمها لأن الرعاة إذا سرحوا النعم بالغداة إلى المرعى ، وروحوها بالعشي إلى الأفنية والبيوت يسمع للإبل رغاء وللشاء ثغاء يجاوب بعضها بعضاً ، فعند ذلك يفرح أربابها بها وتتجمل بها الأفنية والبيوت ، ويعظم وقعها عند الناس . فإن قلت : لم قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت : لأن الجمال في الإراحة وهو رجوعها إلى البيوت أكثر منها وقت التسريح لأن النعم تقبل من المرعى ملأى البطون حافلة الضروع ، فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع من اللبن ، ثم تأخذ في التفرق والانتشار للرعي في البرية فثبت بهذا البيان أن التجمل في الإراحة ، أكثر منه في التسريح فوجب تقديمه . وقوله سبحانه وتعالى { وتحمل أثقالكم } الأثقال جمع ثقل وهو متاع السفر وما يحتاج إليه من آلات السفر { إلى بلد } يعني غير بلدكم قال ابن عباس : يريد من مكة إلى اليمن ، وإلى الشام وإنما قال ابن عباس : هذا القول لأنه خطاب لأهل مكة واكثر تجارتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وحمله على العموم أولى لأنه خطاب عام فدخول الكافة فيه أولى من تخصيصه ببعض المخاطبين { لم تكونوا بالغيه } يعني بالغي ذلك البلد الذي تقصدونه { إلا بشق الأنفس } يعني بالمشقة والجهد والعناء والتعب والشق نصف الشيء ، والمعنى على هذا لم تكونوا بالغيه إلا بنقصان قوة ، النفس وذهاب نصفها { إن ربكم لرؤوف رحيم } يعني بخلقه حيث خلق لهم هذه المنافع . قوله سبحانه وتعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها } هذه الآية عطف على ما قبلها ، والمعنى وخلق هذه الحيوانات لأجل أن تركبوها ، والخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والرهط والنساء { وزينة } يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها .
فصل
احتج بهذه الآية من يرى تحريم لحوم الخيل ، وهو قول ابن عباس وتلا هذه الآية وقال : هذه للركوب وإليه ذهب الحكم ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله ، واستدلوا أيضاً بأن منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلما لم يذكره الله تعالى ، علمنا تحريم أكله فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر ، لأن الله سبحانه وتعالى خص الأنعام بالأكل حيث قال ومنها تأكلون وخص هذه بالركوب . فقال : لتركبوها فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل وذهب مجموعة من أهل العلم إلى إباحة لحوم الخيل ، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير : وإليه ذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وأحمد وإسحاق واحتجوا على إباحة لحوم الخيل لما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت : « نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ونحن بالمدينة فأكلناه » أخرجه البخاري ومسلم ( ق ) .(4/164)
عن جابر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الخيل وحمر الوحش ونهى النبي عن الحمار الأهلي » هذه رواية البخاري ومسلم ، وفي رواية أبي داود قال : « ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير وكنا قد أصابتنا مخمصة فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل » وأجاب من أباح لحوم الخيل عن هذه الآية بأن ذكر الركوب والزينة ، لا يدل على أن منفعتها مختصة بذلك ، وإنما خص هاتان المنفعتان بالذكر لأنهما معظم المقصود ، قالوا : ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل مع قوله في الأنعام وتحمل أثقالكم ، ولم يلزم من هذا التحريم حمل الأثقال على الخيل ، وقال البغوي : ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم ، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه ، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته ، والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أن السنة مبينة للكتاب ولما كان نص الآية يقتضي أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة ، وكان الأكل مسكوتاً عنه دار الأمر فيه على الإباحة والتحريم فوردت بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير ، فأخذنا بها جمعاً بين النصين والله أعلم وقوله تعالى { ويخلق ما لا تعلمون } لما ذكر الله سبحانه وتعالى الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في جميع حالاته ، وضرورياته على سبيل التفضيل ، ذكر بعدها ما لا ينتفع به الإنسان الغالب على سبيل الإجمال لأن مخلوقات الله عز وجل في البر والبحر والسموات أكثر من أن تحصى أو يحيط بها عقل أحد أو فهمه ، فلهذا ذكرها على الإجمال ، وقال بعضهم : ويخلق ما لا تعلمون يعني مما أعد الله لأهل الجنة في الجنة ، ولأهل النار في النار مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر وقال قتادة في قوله : ويخلق ما لا تعلمون يعني السوس في النبات والدود في الفواكة . قوله سبحانه وتعالى { وعلى الله قصد السبيل } القصد استقامة الطريق ، يقال : طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك وفي الآية حذف تقديره وعلى الله بيان قصد السبيل ، وهو بيان طريق الهدى من الضلالة وقيل : معناه وعلى الله بيان طريق الحق بالآيات والبراهين { ومنها جائر } يعني ومن السبل سبيل جائر عن الاستقامة بل هو معوج فالقصد من السبيل هو دين الإسلام والجائر منها دين اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر ، وقال جابر بن عبد الله : قصد السبيل بيان الشرائع والفرائض ، وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله : قصد السبيل السنة ومنها جائر الأهواء والبدع { ولو شاء لهداكم أجمعين } فيه دليل على أن الله تعالى ما شاء هداية الكفار ، وما أراد منهم الإيمان لأن كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فقوله ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم .(4/165)
قوله عز وجل { وهو الذي أنزل من السماء ماء } لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمته على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة : عقبه بذكر إنزال المطر من السماء ، وهو من أعظم النعم على العباد فقال : هو الذي أنزل من السماء . يعني ، والله الذي خلق جميع الأشياء هو الذي أنزل من السماء ماء يعني المطر { لكم منه } يعني من ذلك الماء { شراب } يعني تشربونه { ومنه } يعني ومن ذلك الماء { شجر } الشجر في اللغة ما له ساق من نبات الأرض ، ونقل الواحدي عن أهل اللغة أنهم قالوا : الشجر أصناف ما جل وعظم وهو الذي يبقى على الشتاء وما دق وهو صنفان أحدهما تبقى له أدوحة في الشتاء وينبت في الربيع ومنها ما لا يبقى له ساق في الشتاء كالبقول وقال أبو إسحاق : كل ما ينبت على وجه الأرض فهو شجر وأنشد :
نطعمها اللحم إذا عز الشجر ... أراد أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض ، وقال ابن قتيبة : في هذه الآية يعني الكلأ ومعنى الآية أنه ينبت بالماء الذي أنزل من السماء ما ترعى الراعية من ورق الشجر لأن الإبل ترعى كل الشجر { فيه } يعني في الشجر { تسيمون } يعني ترعون مواشيكم . يقال : أسمت السائمة إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت { ينبت لكم } أي ينبت الله لكم وقرىء ينبت على التعظيم لكم { به } أي بذلك الماء { الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات } لما ذكر الله في الحيوان تفصيلاً وإجمالاً ذكر الثمار تفصيلاً وإجمالاً فبدأ بذكر الزرع وهو الحب الذي يقتات به كالحنطة والشعير وما أشبههما لأن به قوام بدن الإنسان ، وثنى بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن والبركة ، وثلث بذكر النخيل لأن ثمرتها غذاء وفاكهة ، وختم بذكر الأعناب لأنها شبه النخلة في المنفعة من التفكة ، والتعذية ، ثم ذكر سائر الثمرات إجمالاً لينبه بذلك على عظيم قدرته ، وجزيل نعمته على عباده ثم قال تعالى { إن في ذلك } يعني الذي ذكر من أنواع الثمار { لآية } يعني علامة دالة على قدرتنا ووحدانيتنا { لقوم يتفكرون } يعني فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته { وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم } تقدم تفسيره في سورة الأعراف { مسخرات } يعني مذللات مقهورات تحت قهره وإرادتهن وفيه رد على الفلاسفة والمنجمين لأنهم يعتقدون أن هذه النجوم هي الفعالة المتصرفة في العالم السفلي فأخبر الله تعالى أن هذه النجوم مسخرات في نفسها مذللات { بأمره } يعني بأمر ربها مقهورات تحت قهره يصرفها كيف يشاء ، ويختار وأنها ليس لها تصرف في نفسها فضلاً عن غيرها ، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق هذه النجوم وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم هذه الآية بقوله { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } يعني أن كل من كان له عقل صحيح سليم علم أن الله سبحانه وتعالى ، هو الفعال المختار وأن جميع الخلق تحت قدرته ، وقهره وتسخيره لما أراده منهم .(4/166)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
{ وما ذرأ لكم في الأرض } يعني وما خلق لكم في الأرض ، وسخر لأجلكم من الدواب والأنعام والأشجار والثمار { مختلفاً ألوانه } يعني في الخلقة والهيئة والكيفية واختلاف ألوان المخلوقات مع كثرتها ، حتى لا يشبه بعضها بعضاً من كل الوجوه ، فيه دليل قاطع على كمال قدرة الله ولذلك ختم هذه الآية بقوله تعالى { وهو الذي سخر لكم البحر } لما ذكر الله سبحانه وتعالى الدلائل الدالة على قدرته ، ووحدانيته من خلق السموات والأرض ، وخلق الإنسان من نطفة وخلق سائر الحيوان والنبات وتسخير الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من آثار قدرته ، وعجائب صنعته وذكر إنعامه في ذلك على عباده ، ذكر بعد ذلك إنعامه على عباده بتسخير البحر لهم نعمة من الله عليهم ، ومعنى تسخير الله البحر لعباده جعله بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به . فقال تعالى : وهو الذي سخر البحر { لتأكلوا منه لحماً طرياً } فبدأ بذكر الأكل لأنه أعظم المقصود ، لأن به قوام البدن وفي ذكر الطري مزيد فائدة دالة على كمال قدرة الله تعالى ، وذلك أن السمك لون كان كله مالحاً لما عرف به من قدرة الله تعالى ، ما يعرف بالطري لأنه لما لما خرج من البحر الملح الزعاق ، الحيوان الطري الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث بقدرة الله ، وخلقه لا بحسب الطبع وعلم بذلك أن الله قادر على إخراج الضد من الضد . المنفعة الثانية قوله تعالى { وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } يعني اللؤلؤ والمرجان ، كما قال تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأن زينة النساء بالحلي ، وإنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم . المنفعة الثالثة قوله تعالى { وترى الفلك } يعني السفن { مواخر فيه } يعني جواري فيه قال قتادة : مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين أحداهما تقبل والأخرى تدبر تجريان بريح واحدة وأصل المخر في اللغة الشق يقال : مخرت السفينة مخراً إذا شقت الماء بجؤجؤها . وقال مجاهد : تمخر الرياح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت قال أبو عبيدة : يعني من صوائح والمخر صوت هبوب الريح عند شدتها وقال الحسن : مواخر يعني مواقر أي مملوءة متاعاً { ولتبتغوا من فضله } يعني الأرباح بالتجارة في البحر { ولعلكم تشكرون } يعني إنعام الله عليكم إذا رأيتم نعم الله فيما سخر لكم { وألقى في الأرض رواسي } يعني جبالاً ثقالاً { أن تميد بكم } يعني لئلا تميل وتضطرب بكم ، والميد هو اضطراب الشيء العظيم كالأرض ، وقال وهب : لما خلق الله سبحانه وتعالى الأرض جعلت تمور وتتحرك فقالت الملائكة : إن هذه غير مقرة أحداً على ظهرها فأصبحوا ، وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال { وأنهاراً } يعني وجعل فيها أنهاراً لأن في ألقى معنى الجعل ، فقوله سبحانه وتعالى : وأنهاراً معطوف على وألقى ، ولما ذكر الله الجبال ذكر بعدها الأنهار لأن معظم عيون الأنهار ، وأصولها تكون من الجبال { وسبلاً } يعني وجعل فيها طرقاً مختلفة تسلكونها في أسفاركم ، والتردد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان { لعلكم تهتدون } يعني بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون { وعلامات } يعني وجعل فيها علامات تهتدون بها في أسفاركم قال بعضهم : تم الكلام عند قوله : وعلامات ثم ابتدأ { وبالنجم هم يهتدون } قال محمد بن كعب والكلبي : أراد بالعلامات الجبال والنجوم ، فالجبال علامات النهار ، والنجوم علامات الليل .(4/167)
وقال مجاهد : أراد بالكل النجوم فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدي به . وقال السدي : أراد بالنجم الثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي ، فهذه يهتدى بها إلى الطريق والقبلة . وقال قتادة : إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء لتكون زينة السماء ومعالم الطريق ورجوماً للشياطين فمن قال غير هذا فقد تكلف ما لا علم له به . قوله سبحانه وتعالى { أفمن يخلق كمن لا يخلق } لما ذكر الله عز وجل من عجائب قدرته وغرائب صنعته ، وبديع خلقه ما ذكر على الوجه الأحسن والترتيب الأكمل ، وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدمة كلها دالة على كمال قدرة الله تعالى ، ووحدانيته وأنه تعالى هو المنفرد بخلقها جمعياً قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ، ولا تقدر على شيء { أفمن يخلق } يعني هذه الأشياء الموجودة المرئية بالعيان ، وهو الله تعالى الخالق لها { كمن لا يخلق } يعني هذه الأصنام العاجزة التي لا تخلق شيئاً البتة ، لأنها جمادات لا تقدر على شيء ، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادتها ويترك عبادة من يستحق العبادة وهو الله خالق هذه الأشياء كلها ، ولهذا المعنى ختم هذه الآية بقوله { أفلا تذكرون } يعني أن هذا القدر ظاهر غير خافٍ على أحد فلا يحتاج فيه إلى دقيق الفكر والنظر بل مجرد التذكر فيه ، كفاية لمن فهم وعقل واعتبر بما ذكره . بقي في الآية سؤلان : الأول : قوله : كمن لا يخلق المراد به الأصنام وهي جمادات لا تعقل فكيف يعبر عنها بلفظة من وهي لمن يعقل ، والجواب عنه أن الكفار لما سموا هذه الأصنام آلة وعبدوها أجريت مجرى من يعقل في زعمهم ألا ترى إلى قوله : بعد هذا والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً فخاطبهم على قدر زعمهم ، وعقولهم . السؤال الثاني : قوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق المقصود منه إلزام الحجة على من عبد الأصنام حيث جعل غير الخالق مثل الخالق ، فكيف قال على سبيل الاستفهام أفمن يخلق كمن لا يخلق والجواب عنه أنه ليس المراد منه الاستفهام بل المراد منه أن من خلق الأشياء العظيمة وأعطى هذه النعم الجزيلة ، كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية والعبادة ، وكيف يليق بالعاقل أن يترك عبادة من يستحق العبادة لأنه خالق هذه الأشياء الظاهرة كلها ، ويشتغل بعبادة جمادات لا يخلق شيئاً البتة والله أعلم .(4/168)
وقوله تعالى { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } يعني أن نعم الله على العبد فيما خلق الله فيه من صحة البدن وعافية الجسم ، وإعطاء النظر الصحيح والعقل السليم ، والسمع الذي يفهم به الأشياء وبطش اليدين وسعي الرجلين إلى غير ذلك مما أنعم به عليه في نفسه ، وفيما أنعم به عليه مما خلق له من جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا لا تحصى حتى لو رام أحد معرفة أدنى نعمة من هذه النعم لعجز عن معرفتها وحصرها فكيف بنعمة العظام التي لا يمكن الوصول إلى حصرها لجميع الخلق فذلك قوله تعالى { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } يعني ولو اجتهدتم في ذلك وأتبعتم نفوسكم لا تقدرون عليه { إن الله لغفور } يعين لتقصيركم في القيام بشكر نعمته كما يجب عليكم { رحيم } يعني بكم حيث وسع عليكم النعم ، ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير ، والمعاصي { والله يعلم ما تسرّون وما تعلنون } يعني أن الكفار مع كفرهم كانوا يسرون أشياء . وهو ما كانوا يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وما يعلنون يعني ، وما يظهرون من إيذائه فأخبرهم الله عز وجل أنه عالم بكل أحوالهم سرها وعلانيتها لا تخفى عليه خافية وإن دقت وخفيت ، وقيل : إن الله سبحانه تعالى لما ذكر الأصنام وذكر عجزها في الآية المتقدمة ذكر في هذه الآية أن الإله الذي يستحق العبادة ، يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات سرها وعلانيتها ، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تستحق العبادة ثم وصف الله هذه الأصنام بصفات فقال تعالى { والذين تدعون من دون الله } يعني الأصنام التي تدعونها آلهة من دون الله { لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون } فإن قلت : قوله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة أفمن يخلق كمن لا يخلق ، يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئاً فقوله سبحانه وتعالى : لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون هذا هو نفس المعنى المذكور في تلك الآية فما فائدة التكرار؟ قلت : فائدته أن المعنى المذكور في الآية المتقدمة أنهم لا يخلقون شيئاً فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئاً وإنهم مخلوقون كغيرهم ، فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار { أموات } أي جمادات ميتة لا حياة فيها { غير أحياء } كغيرها ، والمعنى لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون لكانت أحياء غير جائز عليها الموت لأن الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت وهذه أموات غير أحياء ، فلا تستحق العبادة فمن عبدها فقد وضع العبادة في غير موضعها .(4/169)
وقوله { وما يشعرون } يعني هذه الأصنام { أيان يبعثون } يعني متى يبعثون وفيه دليل على أن الأصنام تجعل فيها الحياة ، وتبعث يوم القيامة حتى تتبرأ من عابديها . وقيل : معناها ما يدري الكفار الذين عبدوا الأصنام متى يبعثون . قوله سبحانه وتعالى { إلهكم إله واحد } يعني أن الذي يستحق العبادة هو إله واحد ، وهذه أصنام متعددة فكيف تستحق العبادة { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة } يعني جاحدة لهذا المعنى { وهم مستكبرون } يعني عن اتباع الحق لأن الحق إذا تبين كان تركه تكبراً { لا جرم } يعني حقاً { أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين } يعني عن اتباع الحق ( م ) عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر » فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً وفعله حسناً قال : « إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق ، وغمط الناس » قوله بطر الحق هو أن يجعل ما جعله الله حقاً من توحيده ، وعبادته باطلاً وهذا على قول من جعل أصل البطر من الباطل ، ومن جعله من الحيرة فمعناه يتحير عند سماء الحق فلا يقبله ، ولا يجعله حقاً ، وقيل : البطر التكبر يعني أنه يتكبر عند سماع الحق فلا يقبله ، وقوله : وغمط الناس يقال : غمطت حق فلان إذا احتقرته ولم تره شيئاً وكذا معنى غمصته أي انتقصت به وازدريته .(4/170)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
قوله عز وجل : { وإذا قيل لهم } يعني لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم كفار مكة الذين اقتسموا عقابها ، وطرقها إذا سألهم الحاج الذين يقدمون عليهم { ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } يعني أحاديثهم وأباطيلهم { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة } اللام في ليحلموا لام العاقبة وذلك أنهم وصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين ، كانت عاقبتهم بذلك أن يحملوا أوزارهم يعني ذنوب أنفسهم وإنما قال سبحانه وتعالى : كاملة لأن البلايا التي أصابتهم في الدنيا وأعمال البر التي عملوها في الدنيا ، لا تكفر عنهم شيئاً يوم القيام بل يعاقبون بكل أوزارهم قال الإمام فخر الدين : وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين ، إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل ، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة . وقوله سبحانه وتعالى { ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } يعني ويحصل للرؤساء الذين أضلوا غيرهم وصدوهم عن الإيمان ، مثل أجور الاتباع والسبب فيه ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً » أخرجه مسلم ومعنى الآية ، والحديث أن الرئيس أو الكبير إذا سنَّ سنه حسنة أو سنة قبيحة ، فتبعه عليها جماعة ، فعملوا بها فإن الله سبحانه وتعالى يعظم ثوابه أو عقابه حتى يكون ذلك الثواب أو العقاب مساوياً لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع ، الذين عملوا بسنته الحسنة أو القبيحة ، وليس المراد أن الله تعالى : يوصل جميع الثواب أو العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء ، لأن ذلك ليس بعدل ويدل عليه قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وقوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } قال الواحدي : ولفظة من في قوله ومن أوزار الذين يضلونهم ، بغير علم ليست للتبعيض لأنها لو كانت للتبعيض لنقص عن الأتباع بعض الأوزار ، وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام « لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً » ، ولكنها للجنس أي لحملوا من جنس أوزار الأتباع وقوله : بغير علم يعني أن الرؤساء إنما يقدمون على إضلال غيرهم ، بغير علم ، بما يستحقونه من العقاب ، على ذلك الإضلال بل يقدمون على ذلك جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد . { ألا ساء ما يزرون } يعني ألا بئس ما يحملون ففيه وعيد وتهديد . قوله سبحانه وتعالى { قد مكر الذين من قبلهم } يعني من قبل كفار قريش وهو نمروذ بن كنعان الجبار ، وكان أكبر ملوك الأرض في زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وكان من مكره أنه بنى صرحاً ببابل ليصعد إلى السماء ، ويقاتل أهلها في زعمه .(4/171)
قال ابن عباس : وكان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع . وقال كعب ومقاتل : كان طوله فرسخين فهبت ريح فقصفته وألقت رأسه في البحر وخر عليهم الباقي فأهلكهم وهم تحته ولما سقط تبلبلت ألسنة الناس من الفزع فتكلموا يومئذ بثلاثة وسبعين لساناً ، فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية قلت هكذا ذكره البغوي وفي هذا نظر لأن صالحاً عليه السلام كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية ، وكان أهل اليمن عرباً منهم جرهم الذي نشأ إسماعيل بينهم ، وتعلم منهم العربية كانت قبائل العرب قديمة قبل إبراهيم عليه السلام مثل طسم وجديس وكل هؤلاء عرب تكلموا في قدم الزمان بالعربية ، ويدل على صحة هذا قوله : ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى والله أعلم . وقيل : حمل قوله قد مكر الذين من قبلهم على العموم أولى فتكون الآية عامة في جميع الماكرين المبطلين الذي يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالغير ، وقوله سبحانه وتعالى { فأتى الله بنيانهم من القواعد } يعني قصد تخريب بنيانهم من أصوله ، وذلك بأن أتاهم بريح قصفت بنيانهم من أعلى ، وأتاهم بزلازل قلعت بنيانهم من قواعده وأساسه ، هذا إذا حملنا تفسير الأية على القول الأول ، وهو ظاهر اللفظ وإن حملنا تفسير الآية على القول الثاني : وهو حملها على العموم كان المعنى أنهم لما رتبوا منصوبات ليمكروا بها على أنبياء الله وأهل الحق من عباده أهلكهم الله تعالى ، وجعل هلاكهم مثل هلاك بنوا بنياناً وثيقاً شديداً ودعموه بالأساطين فانهدم ذلك البنيان ، وسقط عليهم فأهلكهم فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لمن مكر بآخر فأهلكه الله بمكره ، ومنه المثل السائر على ألسنة الناس : من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيه . وقوله تعالى { فخرّ عليهم السقف من فوقهم } يعني سقط عليهم السقف فأهلكهم وقوله : من فوقهم للتأكيد لأن السقف لا يخر إلا من فوقهم . وقيل : يحتمل أنهم لم يكونوا تحت السقف عند سقوطه ، فلما قال من فوقهم على أنهم كانوا تحته ، وأنه لما خر عليهم أهلكوا وماتوا تحته تحت السقف عند سقوطه ، فلما قال من فوقهم على أنهم كانوا تحته ، وأنه لما خر عليهم أهلكوا وماتوا تحته { وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } يعني في مأمنهم ، وذلك أنهم لما اعتمدوا على قوة بنيانهم ، وشدته كان ذلك البنيان سبب هلاكهم { ثم يوم القيامة يخزيهم } يعني يهينهم بالعذاب ، وفيه إشارة بأن العذاب يحصل لهم في الدنيا والآخرة لأن الخزي هو العذاب مع الهوان { ويقول } يعني ويقول : الله لهم يوم القيامة { أين شركائي } يعني في زعمكم واعتقادكم { الذين كنتم تشاقون فيهم } يعني كنتم تعادون وتخالفون المؤمنين وتخاصمونهم في شأنهم لأن المشاقة عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شق غير شق صاحبه ، والمعنى : ما لهم لا يحضرون معكم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب والهوان { قال الذين أوتوا العلم } يعني المؤمنين وقيل الملائكة { إن الخزي } يعني الهوان { اليوم } يعني في هذا اليوم وهو يوم القيامة { والسوء } يعني العذاب { على الكافرين } وإنما يقول المؤمنون : هذا يوم القيامة لأن الكفار كانوا يستهزئون بالمؤمنين في الدنيا ، وينكرون عليهم أحوالهم فإذا كان يوم القيامة ظهر أهل الحق ، وأُكرموا بأنواع الكرامات وأهين أهل الباطل وعذبوا بأنواع العذاب فعند ذلك يقول المؤمنون : إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين وفائدة هذا القول إظهار الشماتة بهم فيكون أعظم في الهوان والخزي قوله تعالى { الذين تتوفاهم الملائكة } تقبض أرواحهم الملائكة ، وهم ملك الموت وأعوانه { ظالمي أنفسهم } يعني بالكفر { فألقوا السلم } يعني أنهم استسلموا وانقادوا لأمر الله الذي نزل بهم وقالوا { ما كنا نعمل من سوء } يعني شركاً وإنما قالوا : ذلك من شدة الخوف { بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون } يعني فلا فائدة لكم في إنكاركم .(4/172)
قال عكرمة : عنى بذلك ما حصل من الكفار يوم بدر { فادخلوا } أي فيقال لهم ادخلوا { أبواب جهنم خالدين فيها } يعني مقيمين فيها لا يخروجون منها . وإنما قال ذلك لهم ليكون أعظم في الغم والحزن ، وفيه دليل على أن الكفار بعضهم أشد عذاباً من بعض { فلبئس مثوى المتكبرين } يعني عن الإيمان قوله عز وجل { وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً } وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون إلى مكة أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء الوافد سأل الذين كانوا يقعدون على طرقات مكة من الكفار فيقولون : هو ساحر كاهن شاعر كذاب مجنون وإذا لم تلقه خير لك . فيقول الوافد : أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي من دون أن أدخل مكة فألقاه فيدخل مكة ، فيرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألهم عنه فيخبرونه بصدقه ، وأمانته وأنه نبي مبعوث من الله عز وجل ، فذلك قوله سبحانه وتعالى : وقيل الذين اتقوا يعني اتقوا الشرك ، وقول الزور والكذب ماذا أنزل ربكم؟ قالوا : خيراً يعني أنزل خيراً فان قلت لم رفع الأول وهو قوله : أساطير الأولين ونصب الثاني ، وهو قوله قالوا خيراً قلت ليحصل الفرق بين الجوابين جواب المنكر الجاحد ، وجواب المقر المؤمن وذلك أنهم لما سألوا الكفار عن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأولين وليس هو من الإنزال في شيء لأنهم لم يعتقدوا كونه منزلاً ولما سألوا المؤمنين على المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم لم يتلعثموا ، وأطبقوا الجواب على السؤال بيّناً مكشوفاً معقولاً للإنزال فقالوا : خيراً أي أنزل خيراً ، وتم الكلام عند قوله خيراً فهو ، وقف تام ثم ابتدأ بقوله تعالى { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } يعني الذين أتوا بالأعمال الصالحة الحسنة ثوابها حسنة مضاعفة من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة ، وقال الضحاك : هي النصر والفتح .(4/173)
وقال مجاهد : هي الرزق الحسن . فعلى هذا يكون معنى الآية للذين أحسنوا ثواب إحسانهم في هذه الدنيا حسنة ، وهي النصر والفتح والرزق الحسن ، وغير ذلك مما أنعم الله به على عباده في الدنيا ، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى { ولدار الآخرة خير } يعني ما لهم في الآخرة مما أعد الله لهم في الجنة خير مما يحصل لهم في الدنيا { ولنعم دار المتقين } يعني الجنة وقال الحسن : هي الدنيا لأن أهل التقوى يتزودون منها إلى الآخرة والقول الأول أولى هو قول جمهور المفسرين لأن الله فسر هذه الدار بقوله { جنَّات عدن } يعني بساتين إقامة من قولهم : عدنَ بالمكان ، أي أقام به { يدخلونها } يعني تلك الجنات لا يرحلون عنها ولا يخرجون منها { تجري من تحتها الأنهار } يعني تجري الأنهار في هذه الجنات من تحت دور أهلها وقصورهم ومساكنهم { لهم فيها } يعني في الجنات { ما يشاؤون } يعني ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين مع زيادات غير ذلك ، وهذه الحالة لا تحصل لأحد إلا في الجنة لأن قوله فيها ما يشاؤون لا يفيد الحصر ، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريد في الدنيا { كذلك يجزي الله المتقين } أي هكذا يكون جزاء المتقين ، ثم عاد إلى وصف المتقين فقال تعالى { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين } يعني مؤمنين طاهرين من الشرك . قال مجاهد : زاكية أقوالهم وأفعالهم وقيل : إن قوله طيبين كلمة جامعة لكل معنى حسن فيدخل فيه أنهم ، أتوا بكل ما أمروا به من فعل الخيرات والطاعات واجتنبوا كل ما نهوا عنه من المكروهات ، والمحرمات مع الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة ، والمباعدة من الأخلاق المذمومة والخصال المكروهة القبيحة وقيل معناه إن أوقاتهم تكون طيبة سهلة لأنهم يبشرون عند قبض أرواحهم بالرضوان والجنة والكرامة ، فيحصل لهم عند ذلك الفرح والسرور والابتهاج ، فيسهل عليهم قبض أرواحهم ويطيب لهم الموت على هذه الحالة { يقولون } يعني الملائكة لهم { سلام عليكم } يعني تسلم عليهم الملائكة أو تبلغهم السلام من الله { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } يعني في الدنيا من الأعمال الصالحة . فإن قلت : كيف الجمع بين قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وبين قوله : صلى الله عليه وسلم « لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته » أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة؟ قلت : قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في شرح مسلم .(4/174)
اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب ولا غيرها إلا بالشرع ومذهب أهل السنة أيضاً أن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بل العالم كله ملكه والدنيا والآخرة في سلطانه يفعل فيهما ما يشاء فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين ، وأدخلهم النار كان ذلك عدلاً منه ، وإذا أكرمهم ورحمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه ولو نعم الكافرون ، وأدخلهم الجنة كان ذلك له ومنه فضلاً ، ولكنه سبحانه وتعالى أخبر وخبره صادق أنه لا يفعل هذا بل يغفر للمؤمنين ، ويدخلهم الجنة برحمته ويعذب الكافرين ويدخلهم النار عدلاً منه . وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالعقل ، ويوجبون ثواب الأعمال ويوجبون الأصلح في خبط طويل لهم ، تعالى الله عن اختراعاتهم الباطلة المنابذة لنصوص الشرع . وفي ظاهر الحديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته . وأما قوله سبحانه وتعالى : { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } ونحوها من الآيات التي تدل على أن الأعمال الصالحة يدخل بها الجنة ، فلا تعارض بينها ، وبين هذا الحديث بل معنى الآيات : أن دخول الجنة بسبب الأعمال والتوفيق للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله فيصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل وهو مراد الحديث ويصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة ، والفضل والمنة والله أعلم بمراده .(4/175)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
قوله تعالى : { هل ينظرون } يعني هؤلاء الذين أشركوا بالله وجحدوا نبوتك يا محمد { إلا أن تأتيهم الملائكة } يعني لقبض أرواحهم { أو يأتي أمر ربك } يعني بالعذاب في الدنيا وهو عذاب الاستئصال . وقيل : المراد به يوم القيامة { كذلك فعل الذين من قبلهم } يعني من الكفر والتكذيب { وما ظلمهم الله } يعني بتعذيبه إياهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } يعني باكتسابهم المعاصي ، والكفر والأعمال القبيحة الخبيثة ، { فأصابهم سيئات ما عملوا } يعني فأصابهم عقوبات ما اكتسبوا من الأعمال الخبيثة { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } والمعنى ونزل بهم جزاء استهزائهم { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا } يعني أن مشركي مكة قالوا هذا على طريق الاستهزاء . والحاصل أنهم تمسكوا بهذا القول في إنكار النبوة ، فقالوا : لو شاء الله منا الإيمان لحصل جئت أو لم تجىء ولو شاء الله منا الكفر لحصل جئت أو لم تجىء . وإذا كان كذلك فالكل من الله ، فلا فائدة في بعثه رسل إلى الأمم والجواب عن هذا أنهم لما قالوا : إن الكل من الله فكانت بعثة الرسل عبثاً كان هذا اعتراضاً على الله تعالى ، وهو جار مجرى طلب العلة في أحكام الله ، وفي أفعاله وهو باطل لأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا اعتراض لأحد عليه في أحكامه وأفعاله ، ولا يجوز لأحد أن يقول لو فعلت هذا ، ولم لم تفعل هذا كان في حكم الله وسنته في عباده إرسال الرسل إليهم ليأمروهم بعبادة الله تعالى ، وينهوهم عن عبادة غيره وأن الهداية والإضلال إليه فمن هداه فهو المهتدي ، ومن أضله فهو الضال وهذه سنة الله في عباده أنه يأمر الكل بالإيمان به وينهاهم عن الكفر . ثم إنه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان ويضلّ من يشاء فلا اعتراض لأحد عليه . ولما كانت سنة الله قديمة ببعثة الرسل إلى الأمم الكافرة المكذبة كان قول هؤلاء لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا جهلاً منهم ، لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثه الرسل وهذا الاعتقاد باطل فلا جرم استحقوا عليه الذم والوعيد . وأما قوله تعالى { ولا حرمنا من دونه من شيء } يعني الوصيلة والسائبة والحام . والمعنى : فلولا أن الله رضيها لنا لغير ذلك ولهدانا إلى غيره { كذلك فعل الذين من قبلهم } يعني أن من تقدم هؤلاء من كفار مكة ومن الأمم الماضية كانوا على هذه الطريقة ، وهذا الفعل الخبيث فإنكار بعثة الرسل كان قديماً في الأمم الخالية { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } يعني ليس إليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } يعني ليس إليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً } يعني كما بعثنا فيكم محمداً صلى الله عليه وسلم { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } يعني أن الرسل كانوا يأمرونهم بأن يعيدوا الله وأن يجتنبوا عبادة الطاغوت ، وهو اسم كل معبود من دون الله { فمنهم } يعني فمن الأمم الذين جاءتهم الرسل { من هدى الله } يعني هداه الله إلى الإيمان به وتصديق رسله { ومنهم من حقت عليه الضلالة } يعني ، ومن الأمم من وجبت عليه الضلالة بالقضاء السابق في الأزل حتى مات على الكفر والضلال ، وفي هذه الآية أبين دليل على أن الهادي ، والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده فيهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض لأحد عليه بما حكم به في سابق علمه { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } يعني فسيروا في الأرض معتبرين متفكرين لتعرفوا مآل من كذب الرسل ، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك ، ولتعرفوا أن العذاب نازل بكم إن أصررتم على الكفر والتكذيب كما نزل بهم .(4/176)
قوله سبحانه وتعالى { إن تحرص على هداهم } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء ، وإيمانهم وتجتهد كل الاجتهاد { فإن الله لا يهدي من يضل } قرىء بفتح الياء وكسر الدال يعني لا يهدي الله من أضله ، وقيل : معناه لا يهتدي من أضله الله وقرىء بضم الياء ، وفتح الدال ومعناه من أضله الله فلا هادي له { وما لهم من ناصرين } أي مانعين يمنعونهم من العذاب { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } قال ابن الجوزي : سبب نزولها أن رجلاً من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به المسلم : والذي أرجوه بعد الموت . فقال المشرك : إنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت ، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فنزلت هذه الآية قاله أبو العالية . وتقرير الشبهة التي حصلت للمشركين في إنكار البعث بعد الموت أن الإنسان ليس هو ، إلا هذه البنية المخصوصة ، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه لأن الشيء إذا عدم فقد فني ، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه ، فهذا هو أصل شبهتهم ومعتقدهم في إنكار البعث بعد الموت ، فذلك قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم { لا يبعث الله من يموت } فرد الله عليهم ذلك ، وكذبهم في قولهم فقال تعالى { بلى } يعني بلى يبعثهم بعد الموت لأن لفظة بلى إثبات لما بعد النفي . والجواب عن شبهتهم أن الله سبحانه وتعالى ، خلق الإنسان وأوجده من العدم ولم يك شيئاً فالذي أوجده بقدرته ثم أعدمه قادر على إيجاده بعد إعدامه لأن النشأة الثانية أهون من الأولى { وعداً عليه حقاً } يعني أن الذي وعد به من البعث بعد الموت وعد حق لا خلف فيه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يعني لايفهمون كيف يكون ذلك العود والله سبحانه وتعالى ، قادر على كل شيء .(4/177)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
{ ليبين لهم الذي يختلفون فيه } يعني من أمر البعث ويظهر لهم الحق الذي لا خلق فيه { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } يعني في قولهم لا بعث بعد الموت { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } يعني أن الله سبحانه وتعالى قادر إذا أراد أن يحيي الموتى ، ويبعثهم للحساب والجزاء فلا تعب عليه في إحيائهم وبعثهم إنما يقول لشيء أراده كن فيكون على ما أراد لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء أراده ( خ ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله تبارك وتعالى يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني ، وما ينبغي له أن يكذبني أما شتمه إياي فيقول إن لي ولداً ، وأما تكذيبه إياي فقوله ليس يعيدني كما بدأني » وفي رواية « كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ، ولم يكن له ذلك أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون من إعادته وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد » وقوله تعالى { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا } يعني أوذوا وعذبوا نزلت في بلال وصهيب وخباب وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم ليرجعوا عن الإسلام إلى الكفر وهم المستضعفون . فأما بلال فكان أصحابه يخرجونه إلى بطحاء مكة في شدة الحر ويشدونه ، ويجعلون على صدره الحجارة وهو يقول أحد أحد فاشتراه منهم أبو بكر الصديق وأعتقه واشترى معه ستة نفر آخرين ، وأما صهيب فقال لهم إني رجل كبير إن كنت معكم فلن أنفعكم وإن كنت عليكم فلا أضركم فاشترى نفسه بماله فباعوه منه فمر به أبو بكر الصديق . فقال : يا صهيب ربح البيع . وأما باقيهم فأعطونهم بعض ما يريدون ، فخلوا عنهم . وقالت قتادة : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة بالحبشة ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة ، فهاجروا إليها وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين فآووهم ونصروهم وواسوهم ، وهذه الآية تدل على فضل المهاجرين وفضل الهجرة وفيه دليل على أن الهجرة إذا لم تكن لله خالصة لم يكن لها موقع ، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى آخر ومنه حديث « الأعمال بالنيات » وفيه « فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه » الحديث أخرجاه في الصحيحين من رواية عمر بن الخطاب وقوله تعالى { لنبوأنهم في الدنيا حسنة } يعني لنبوأنهم تبوئة حسنة وهو أنه تعالى أنزلهم المدينة ، وجعلها لهم دار هجرة والمعنى لنبوأنهم في الدنيا داراً حسنة أو بلدة حسنة ، وهي المدينة روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له : خذ هذا بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل ، ثم يقول هذه الآية .(4/178)
وقيل : معناه ليحسنن إليهم في الدنيا بأن يفتح لهم مكة ، ويمكنهم من أهلها الذين ظلموهم وأخرجوهم منها ثم ينصرهم على العرب قاطبة ، وعلى أهل المشرق والمغرب وقيل المراد بالحسنة في الدنيا التوفيق والهداية في الدين { ولأجر الآخرة أكبر } يعني أعظم وأفضل وأشرف مما أعطاهم في الدنيا { لو كانوا يعلمون } قيل : الضمير يرجع إلى الكفار لأن المؤمنين يعلمون ما لهم في الآخرة ، والمعنى لو كان هؤلاء الكفار يعلمون أن أجر الآخرة أكبر مما هم فيه من نعيم الدنيا لرغبوا فيه ، وقيل : إنه راجع إلى المهاجرين والمعنى لو كانوا يعلمون ما أعد الله لهم في الآخرة ، لزادوا في الجد والاجتهاد والصبر على ما أصابهم من أذى الماكرين { الذين صبروا } يعني في الله على ما نالهم ، وبذل الأنفس والأموال في سبيل الله { وعلى ربهم يتوكلون } يعني في أمورهم كلها قال بعضهم ذكر الله الصبر والتوكيل في هذه الآية ، وهما مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه أما الصبر فهو قهر النفس وحبسها على أعمال البر وسائر الطاعات ، واحتمال الأذى من الخلق والصبر عن الشهوات المباحات والمحرمات والصبر على المصائب ، وأما التوكل فالانقطاع عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق تعالى بالكلية فالأول هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى ، والثاني هو آخر الطريق ومنتهاه { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم } نزلت هذه الآية جواباً لمشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا الله أعظم وأجل أن يكون رسوله بشراً فهلا بعث ملكاً إلينا فأجابهم الله عز وجل بقوله : وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً يعني مثلك نوحي إليهم والمعنى أن عادة الله عز وجل جارية من أول مبدأ الخلق أنه لم يبعث إلا رسولاً من البشر فهذه عادة مستمرة ، وسنة جارية قديمة { فاسألوا أهل الذكر } يعني أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ، وإنما أمرهم الله بسؤال أهل الكتاب لأن كفار مكة كانوا يعتقدون أن أهل الكتاب أهل علم ، وقد أرسل الله إليهم رسلاً منهم مثل موسى وعيسى وغيرهم من الرسل ، وكانوا بشراً مثلهم فإذا سألوهم فلا بد ، وأن يخبروهم بأن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشراً ، فإذا أخبروهم بذلك زالت الشبهة عن قلوبهم { إن كنتم لا تعلمون } الخطاب لأهل مكة يعني إن كنتم يا هؤلاء لا تعلمون ذلك { بالبينات والزبر } اختلفوا في المعنى الجالب لهذه الباء فقيل المعنى ، وما أرسلنا من قبلك بالبيِّنات والزبر إلا رجالاً يوحى إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر ، وقيل الذكر بمعنى العلم في قوله فاسألوا أهل الذكر يعني أهل العلم والمعنى فاسئلوا أهل الذكر الذي هو العلم بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون أنتم ذلك .(4/179)
والبينات والزبر اسم جامع لكل ما يتكامل به أمر الرسالة ، لأن مدار أمر الرسول على المعجزات الدالة على صدقة ، وهي بالبينات وعلى بيان الشرائع والتكاليف ، وهي المراد بالزبر يعني الكتب المنزلة على الرسل من الله عز وجل { وأنزلنا إليك الذكر } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني : وأنزلنا عليك يا محمد الذكر الذي هو القرآن وإنما سماه ذكراً لأن فيه مواعظ ، وتنبيهاً للغافلين { لتبين للناس ما نزل إليهم } يعني ما أجمل إليك من أحكام القرآن وبيان الكتاب يطلب منه السنة والمبين لذلك المجمل هو الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا قال بعضهم : متى وقع تعارض بين القرآن والحديث وجب تقديم الحديث لأن القرآن مجمل ، والحديث مبين بدلالة هذه الآية والمبين مقدم على المجمل وقال بعضهم القرآن منه محكم ، ومنه متشابه فالمحكم يجب أن يكون مبيناً والمتشابه هو المجمل ويطلب بيانه من السنة فقوله تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم محمول على ما أجمل فيه دون المحكم البين المفسر { ولعلهم يتفكرون } يعني فيما أنزل إليهم فيعلموا به { أفأمن الذين مكرو السيئات } فيه حذف تقديره المنكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه ، وبالغوا في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء ، وقيل : المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله فيكون مكرهم على أنفسهم والصحيح أن المراد بهذا المكر السعي في أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . وقيل : المراد بالذين مكروا السيئات نمروذ ، ومن هو مثله والصحيح أن المراد بهم كفار مكة { أن يخسف الله بهم الأرض } يعني كما خسف بقرون من قبلهم { أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون } يعني أن العذاب يأتيهم بغتة فيهلكهم فجأة كما أهلك قوم لوط وغيرهم { أو يأخذهم في تقلبهم } بمعنى في تصرفهم في الأسفار فإنه سبحانه وتعالى ، على إهلاكهم في السفر كما هو قادر على إهلاكهم في الحضر ، وقال ابن عباس يأخذهم في اختلافهم . وقال ابن جريج : إقبالهم وإدبارهم يعني أنه تعالى قادر على أن يأخذهم في ليلهم ونهارهم ، وفي جميع أحوالهم { فما هم بمعجزين } يعني بسابقين الله أو يفوتونه بل هو قادر عليهم { أو يأخذهم على تخوف } قال ابن عباس ومجاهد : يعني على تنقص . قال ابن قتيبة : التخوف التنقص ومثله التخون . يقال تخوفه الدهر وتخونه إذا انتقصه وأخذ ماله وحشمه ، ويقال : هذه لغة هذيل فعلى هذا القول يكون المراد به أن ينقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم وقيل هو على أصله من الخوف فيحتمل أنه سبحانه وتعالى لا يأخذهم بالعذاب أولاً ، بل يخوفهم ثم يعذبهم بعد ذلك وقال الضحاك والكلبي : هو من الخوف يعني يهلك طائفة فيتخوف الآخرون أن يصيبهم مثل ما أصابهم ، فيحتمل أنه سبحانه وتعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء ، أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات تحدث قليلاً قليلاً إلى أن يأتي الهلاك على أخرهم ثم إنه سبحانه وتعالى ، ختم الآية بقوله { فإن ربكم لرؤوف رحيم } يعني أنه سبحانه وتعالى ، لا يعجل العقوبة والعذاب .(4/180)
قوله سبحانه وتعالى { أولم يروا } قرىء بالتاء على خطاب الحاضرين وبالياء على الغيبة { إلى ما خلق الله من شيء } يعني من جسم قائم له ظل ، وهذه الرؤية لما كانت بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد منها الاعتبار ، والاعتبار لا يكون إلا بنفس الرؤية ، التي يكون معها نظر إلى الشيء ليتأمل أحواله ، ويتفكرون فيه فيعتبر به { يتفيئوا ظلاله } يعني تميل وتدور من جانب إلى جانب فهي من أول النهار على حال ثم تقلص ثم تعود في آخر النهار إلى حالة أخرى ويقال للظل بالعشي فيء ، لأنه من فاء يفيء إذا رجع من المغرب إلى المشرق ، والفيء الرجوع قال الأزهري تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار فالتفيؤ لايكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس ، والظل يكون الغداة ، وهو ما لم تنله الشمس وقوله ظلاله جمع ظل وإنما أضاف الظلال ، وهو جمع مفرد وهو قوله : من شيء لأنه يراد به الكثرة ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال { عن اليمين والشمائل } قال العلماء : إذا طلعت الشمس من المشرق وأنت متوجه إلى القبلة كان ظلك عن يمينك فإذا ارتفعت الشمس واستوت في وسط السماء كان ظلك خلفك فإذا مالت الشمس إلى الغروب كان ظلك عن يسارك . وقال الضحاك أما اليمين فأول النهار وأما الشمال فآخر النهار وإنما وحد اليمين وإن كان المراد به الجمع للإيجاز والاختصار في اللفظ وقيل اليمين راجع إلى لفظ الشيء وهو واحد والشمائل راجع إلى المعنى لأن لفظ الشيء يراد به الجمع { سجداً لله } في معنى هذا السجود قولان : أحدهما أن المراد به الاستسلام والانقياد والخضوع . يقال سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب ، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل والمعنى أن جميع الأشياء التي لها ظلال فهي منقادة لله تعالى مستسلمة لأمره غير ممتنعة عليه ، فيما سخرها له من التفيؤ وغيره وقال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله ، والقول الثاني في معنى هذا السجود أن الظلال واقعة على الأرض ، ملتصقة بها كالساجد على الأرض فلما كانت الظلال يشبه شكلها الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ وقيل ظل كل شيء ساجد لله سواء كان ذلك الشيء يسجد لله أو لا ويقال إن ظل الكافر ساجد لله وهو غير ساجد لله ، { وهم داخرون } أي صاغرون أذلاء والداخر الصاغر الذي يفعل ما تأمره به شاء أم أبى وذلك أن جميع الأشياء منقادة لأمر الله تعالى .(4/181)
فإن قلت الظلال ليست من العقلاء فكيف عبر عنا بلفظ من يعقل وجمعها بالواو والنون . قلت : لما وصفها الله سبحانه وتعالى بالطاعة والانقياد لأمره ، وذلك صفة من يعقل عبر عنها بلفظ من يعقل ، وجاز جمعها بالواو والنون ، وهو جمع العقلاء قوله عز وجل { ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة } قال العلماء : السجود على نوعين سجود طاعة ، وعبادة كسجود المسلم لله عز وجل ، وسجود انقياد وخضوع كسجود الظلال فقوله : ولله يسجد ما في السموات ، وما في الأرض من دابة يحتمل النوعين لأن سجود كل شيء بحسبه فسجود المسلمين ، والملائكة لله سجود عبادة وطاعة وسجود غيرهم سجود انقياد وخضوع وأتى بلفظ ما في قوله ما في السموات وما في الأرض للتغليب لأن ما لا يعقل أكثر ممن يعقل في العدد ، والحكم للأغلب كتغليب المذكر على المؤنث ، ولأنه لو أتى بمن التي هي للعقلاء لم يكن فيها دلالة على التغليب بل كانت متناولة للعقلاء خاصة فأتى بلفظة ما ليشمل الكل ، ولفظة الدابة مشتقة من الدبيب وهو عبارة عن الحركة الجسمانية ، فالدابة اسم يقع على كل حيوان جسماني يتحرك ويدب فيدخل فيه الإنسان ، لأنه مما يدب على الأرض ولهذا أفرد الملائكة في قوله { والملائكة } لأنهم أولو أجنحة يطيرون بها أو أفردهم بالذكر ، وإن كانوا من جملة من في السموات لشرفهم . وقيل : أراد ولله يسجد ما في السموات من الملائكة ، وما في الأرض من دابة فسجود الملائكة والمسلمين للطاعة ، وسجود غيرهم تذليلها وتسخيرها لما خلقت له وسجود ما لا يعقل ، وسجود الجمادات يدل على قدرة الصانع سبحانه وتعالى ، فيدعو الغافلين إلى السجود لله عند التأميل والتدبر { وهم لا يستكبرون } يعني الملائكة { يخافون ربهم من فوقهم } وكقوله { وهو القاهر فوق عباده } وقد تقدم تفسيره { ويفعلون ما يؤمرون } عن أبي ذر قال رسول الله عليه وسلم : « إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسعمون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا ، وملك واضع جبهته ساجداً والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدت تجأرون إلى الله تعالى » قال أبو ذر : لوددت أني كنت شجرة تعضد أخرجه الترمذي وقال عن أبي ذر موقوفاً .
فصل
وهذ السجدة من عزائم سجود القرآن ، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند قراءتها وسماعها .(4/182)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
{ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } لما أخبر الله عز وجل في الآية المتقدمة أن كل ما في السموات والأرض خاضعون لله ، منقادون لأمره عابدون له ، وأنهم في ملكه وتحت قدرته ، وقبضته نهى في هذه الآية عن الشرك ، وعن اتخاذ إلهين اثنين فقال { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } قال الزجاج : ذكر الاثنين توكيداً لقوله إلهين وقال : صاحب النظم : فيه تقديم وتأخير تقديره ، لا تتخذوا اثنين إلهين يعني أن الاثنين لا يكون كل واحد منهما إلهاً ، ولكن اتخذوا إلهاً واحداً ، وهو قوله تبارك وتعالى { إنما هو إله واحد } لأن الإلهين لا يكونان إلا متساويين في الوجود والقدم وصفات الكمال والقدره والإرادة فصارت الاثنينية منافية للإلهية ، وذلك قوله تعالى إنما هو إله واحد يعني لايجوز أن يكون في الوجود إلهان اثنان إنما هو إله واحد { فإياي فارهبون } يعني فخافون والرهب مخافة مع حزن واضطراب وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور ، وهو من طريق الالتفات لأنه أبلغ في الترهيب من قوله ، فإياه فارهبوا فهو من بديع الكلام وبليغه وقوله فإياي يفيد الحصر ، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه ولا يرغبون إلا إليه وإلى كرمه وفضله وإحسانه { وله ما في السموات والأرض } لما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أن إله العالم لا شريك له في الإلهية ، وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيداً له وفي ملكه وتصرفه ، وتحت قدرته فذلك قوله تعالى وله ما في السموات والأرض يعني ، عبيداً وملكاً { وله الدين واصباً } يعني وله العبادة والطاعة وإخلاص العمل دائماً ثابتاً والواصب : الدائم . قال ابن قتيبة : ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت ، إلا الحق سبحانه وتعالى فإن طاعته واجبه أبداً ، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائماً أبداً { أفغير الله تتقون } يعني أنكم عرفتم أن الله واحد لا شريك له في ملكه ، وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه فبعد هذه المعرفة كيف تخافون غيره ، وتتقون سواه فهو استفهام بمعنى التعجب وقيل هو استفهام على طريق الانكار قوله عز وجل { وما بكم من نعمة فمن الله } يعني من نعمة الإسلام ، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق ، وكل ما أعطاكم من مال أو ولد فكل ذلك من الله تعالى ، إنما هو المتفضل بها على عباده فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه . ولما بين في الآية المتقدمة أنه يجب على جميع العباد أن لا يخافوا إلا الله تعالى بين في هذه الآية أن جميع النعم منه لا يشكر عليها إلا إياه ، لأنه هو المتفضل بها على عباده فيجب عليهم شكره عليها { ثم إذا مسَّكم الضر } أي الشدة والأمراض والأسقام { فإليه تجأرون } يعني إليه تستغيثون ، وتصيحون وتضجون بالدعاء ليكشف عنكم ما نزل بكم من الضرر والشدة وأصل الجؤار هو رفع الصوت الشديد ، ومنه جؤار البقر .(4/183)
والمعنى أن النعم لما كانت كلها ابتداء منه فإن حصل شدة ، وضر في بعض الأوقات فلا يلجأ إلا إليه ولا داعي إلا إياه ليكشفها ، فإنه هو القادر على كشفها وهو قوله تعالى { ثم إذا كشف الضر عنكم } يعني ثم إذا أزال الشدة ، والبلاء عنكم { إذا فريق منكم } يعني طائفة وجماعة منكم { بربهم يشركون } يعني أنهم يضيفون كشف الضر إلى العوائد ، والأسباب ولا يضيفونه إلى الله عز وجل فهذا من جملة شركهم الذي كانوا عليه ، وإنما قسمهم فريقين لأن فريق المؤمنين لا يرون كشف الضر إلا من الله تعالى { ليكفروا بما آتيناهم } قيل : إن هذه اللام لام كي ويكون المعنى على هذا أنهم إنما أشركوا بالله ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر عنهم وقيل : إنها لام العاقبة والمعنى عاقبة أمرهم ، هو كفرهم بما آتيناهم من النعماء وكشفنا عنهم الضر والبلاء { فتمتعوا } لفظه أمر والمراد منه التهديد والوعيد . يعني : فعيشوا في اللذة التي أنتم فيها إلى المدة التي ضربها الله لكم { فسوف تعلمون } يعني عاقبة أمركم إلى ماذا تصير ، وهو نزول العذاب بكم . قوله سبحانه وتعالى { ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً } قيل الضمير في قوله : لما لا يعلمون عائد إلى المشركين يعني أن المشركين لا يعلمون . وقيل إنه عائد إلى الأصنام يعني أن الأصنام لا تعلم شيئاً البتة لأنها جماد والجماد لا علم له ، ومنهم من رجح القول الأول لأن نفي العلم عن الحي حقيقة ، وعن الجماد مجاز فكان عود الضمير إلى المشركين أولى ، لأنه قال لما لا يعلمون فجمعهم بالواو والنون ، وهو جمع لمن يعقل ومنهم من رجع القول الثاني . قال : لأنا إذا قلنا أنه عائد إلى المشركين احتجنا إلى إضمار فيكون المعنى : ويجعلون يعني المشركين لما لا يعلمون أنه إله ولا إله حتى نصيباً وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام لم نحتج إلى هذا الاضمار لأنها لا علم لها ، ولا فيهم وقوله { مما رزقناهم } يعني أن المشركين جعلوا للأصنام نصيباً من حروثهم وأنعامهم وأموالهم التي رزقهم الله ، وقد تقدم تفسيره في سورة الأنعام { تالله } أقسم بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة ، وهو قوله تعالى { لتسألن عما كنتم تفترون } يعني عما كنتم تكذبون في الدنيا في قولكم ، إن هذه الأصنام آلهة وإن لها نصيباً من أموالكم ، وهذا التفات من الغيبة إلى الحضور ، وهو من بديع الكلام وبليغه { ويجعلون لله البنات } هم خزاعة وكنانة قالوا : الملائكة بنات الله وإنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لاستتارهم عن العيون كالنساء ، أو لدخول لفظ التأنيث في تسميتهم { سبحانه } نزه الله نفسه عن الولد والبنات { ولهم ما يشتهون } يعني : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني البنين { وإذا بشر أحدهم بالأنثى } البشارة عبارة عن الخبر السار الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به ، ولما كان ذلك الفرح والسرور يوجبان تغير بشرة الوجه كان كذلك الحزن ، والغم يظهر أثره على الوجه وهو الكمودة التي تعلو الوجه ، عند حصول الحزن والغم فثبت بهذا أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار والخبر المحزن ، فصح قوله : وإذا بشر أحدهم بالأنثى { ظل وجهه مسوداً } يعني متغيراً من الغم والحزن والغيظ والكراهة التي حصلت له عند هذه البشارة ، والمعنى أن هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت الأنثى أن تنسب إليه فكيف يرضي أن ينسبها إلى الله تعالى ففيه تبكيت لهم وتوبيخ .(4/184)
وقوله سبحانه وتعالى { وهو كظيم } يعني أنه ظل ممتلئاً غماً وحزناً { يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به } يعني أنه يختفي من ذلك القول الذي بشر به ، وذلك أن العرب كانوا في الجاهلية إذا قربت ولادة زوجة أحدهم ، توارى من القوم إلى أن يعلم ما ولد له فإن كان ولداً ابتهج بذلك وظهر وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أياماً حتى يفكر ما يصنع بها وهو قوله تعالى { أيمسكه على هون } يعني على هوان ، وإنما ذكر الضمير في أيمسكه لأنه عائد إلى ما بشر به في قوله ، وإذا بشر أحدهم { أم يدسه في التراب } يعني أم يخفي الذي بشر به في التراب والدس إخفاء الشيء في الشيء قال أهل التفسير : إن مضر وخزاعة وتميماً كانوا يدفنون البنات أحياء ، والسبب في ذلك إما خوف الفقر وكثر العيال ولزوم النفقة أو الحمية فيخافون عليهن من الأسر ونحوه ، أو طمع غير الأكفّاء فيهن فكان الرجل من العرب في الجاهلية ، إذا ولدت له بنت أراد أن يستحييها تركها حتى إذا كبرت ألبسها جبة من صوف أو شعر ، وجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية ، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية ، قال لأمها : زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ويكون فد حفر لها حفرة في الصحراء فإذا بلغ بها تلك الحفرة قال لها : انظري إلى هذه البئر فإذا نظرت إليها دفعها من خلفها في تلك البئر ، ثم يهيل التراب على رأسها وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه بإبل إلى والد البنت حتى يحييها بذلك فقال الفرزدق يفتخر بذلك :
وعمي الذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم يوأد
عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الوائدة والمؤودة في النار » أخرجه أبو داود . وقوله تعالى { ألا ساء ما يحكمون } يعني بئس ما يصنعون ويقضون حيث يجعلون لله خلقهم البنات ، وهم يستنكفون منهن ويجعلون لأنفسهم البنين نظيره قوله سبحانه وتعالى(4/185)
{ ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمه ضيزى } وقيل : معناه ألا ساء ما يحكمون في وأد البنات { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } يعني صفة السوء من احتياجاتهم إلى الولد الذكر وكراهتهم الإناث وقتلهن خوف الفقر { ولله المثل الأعلى } أي الصفة العليا المقدسة ، وهي أن له التوحيد وأنه المنزه عن الولد وأنه لا إله إلا هو وأن له جميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء السرمدي ، وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه . وقال ابن عباس : مثل السوء النار والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله { وهو العزيز } أي الممتنع في كبريائه وجلاله { الحكيم } يعني في جميع أفعاله .(4/186)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
قوله : { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } يعني بسبب ظلمهم فيعاجلهم بالعقوبة على ظلمهم وكفرهم وعصيانهم . فإن قلت الناس اسم جنس يشمل الكل وقد قال تعالى في آية أخرى { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } فقسمهم في تلك الآية ثلاثة أقسام فجعل الظالمين قسماً واحداً من ثلاثة . قلت : قوله ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم عام مخصوص بتلك الآية الأخرى ، لأن في جنس الناس الأنبياء والصالحين ومن لا يطلق عليه اسم الظلم ، وقيل : أراد بالناس الكفار فقط بدليل قوله { إن الشرك لظلم عظيم } وقوله { وما ترك عليها } يعني على الأرض كناية عن غير مذكور لأن الدابة لا تدب إلا على الأض { من دابة } يعني أن الله سبحانه وتعالى ، لو يؤاخذ الناس بظلمهم لأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض . قال قتادة : وقد فعل الله ذلك في زمن نوح عليه السلام وروي أن أبا هريرة سمع رجلاً يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، فقال : بئس ما قلت إن الحبارى تموت هزالاً بظلم الظالم . وقال ابن مسعود : إن الجعل تعذب في جحرها بذنب ابن آدم وقيل أراد بالدابة الكافر بدليل قوله : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } وقيل في معنى الآية ولو يؤاخذ الله الآباء الظالمين بسبب ظلمهم لانقطع النسل ، ولم توجد الأبناء فلم يبق في الأرض أحد { ولكن يؤخرهم } يعني يمهلهم بفضله ، وكرمه وحلمه { إلى أجل مسمى } يعني إلى انتهاء آجالهم وانقضاء أعمارهم { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } يعني لا يؤخرون ساعة من الأجل الذي جعله الله لهم ولا ينقصون عنه . وقيل : أراد بالأجل المسمى يوم القيامة ، والمعنى ولكن يؤخرهم إلى يوم القيامة فيعذبهم فلا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون { ويجعلون لله ما يكرهون } يعني لأنفسهم وهي البنات { وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى } يعني ويقولون : إن لهم البنين وذلك أنهم قالوا : لله البنات ولنا البنون ، وهذا القول كذب منهم وافتراء على الله . وقيل : أراد بالحسنى الجنة ، والمعنى أنهم مع كفرهم ، وقولهم الكذب يزعمون أنهم على الحق وأن لهم الجنة وذلك أنهم قالوا : إن كان محمد صادقاً في البعث بعد الموت ، فإن لنا الجنة لأنّا على الحق فأكذبهم الله فقول { لا جرم أن لهم النار } يعني في الآخرة لا الجنة { وأنهم مفرطون } قرىء بكسر الراء مع التخفيف ، يعني مسرفون وقرىء بكسر الراء مع التشديد يعني مضيعون لأمر الله وقراءة الجمهور بفتح الراء مع تخفيفها أي منسيون في النار قاله ابن عباس وقال سعيد بن جبير ومقاتل : متروكون . وقال قتادة : معجلون إلى النار . وقال الفراء : مقدمون إلى النار والفرط ما تقدم إلى الماء قبل القوم .(4/187)
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « أنا فرطكم على الحوض » أي متقدمكم { تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } يعني كما أرسلناك إلى هذه الأمة لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ، فكان شأنهم مع رسلهم التكذيب ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم { فزين لهم الشيطان أعمالهم } يعني أعمالهم الخبيثة من الكفر والتكذيب ، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى هذا مذهب أهل السنة ، وإنما جعل الشيطان آلة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم ، وليس له قدرة أن يضل أحداً أو يهدي أحداً ، وإنما له الوسوسة فقط فمن أراد شقاوته سلطه عليه حتى يقبل وسوسته { فهو وليهم } أي ناصرهم { اليوم } ومن كان الشيطان وليه وناصره فهو مخذول مغلوب مقهور ، وإنما سماه ولياً لهم لطاعتهم إياه { ولهم عذاب أليم } يعني في الآخرة { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه } يعني في أمر الدين والأحكام فتبين لهم الهدى من الضلال ، والحق من الباطل والحلال من الحرام { وهدى ورحمة } يعني وما أنزلنا عليك الكتاب إلا بياناً وهدى ورحمة { لقوم يؤمنون } لأنهم هم المنتفعون به قوله سبحانه وتعالى { والله أنزل من السماء ماء } يعني المطر { فأحيا به } يعني بالماء { الأرض } يعني بالنبات والزروع { بعد موتها } يعني يبسها وجدوبتها { إن في ذلك لآية } يعني دلالة واضحة على كمال قدرتنا { لقوم يسمعون } يعني سماع إنصاف وتدبر وتفكر ، لأن سماع القلوب هو النافع لا سماع الآذان فمن سمع آيات الله ، أي القرآن بقلبه وتدبرها وتفكر فيها انتفع ، ومن لم يسمع بقلبه لم ينتفع بالآيات { وإن لكم في الأنعام لعبرة } يعني إذا تفكرتم فيها عرفتم كمال قدرتنا على ذلك { نسقيكم مما في بطونه } الضمير عائد إلى الأنعام ، وكان حقه أن يقال مما في بطونها ، واختلف النحوين في الجواب ، فقيل : إن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع فهو بحسب اللفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد ، وهو مذكر وبحسب المعنى جميع فيكون ضميره ضمير الجمع ، وهو مؤنث فلهذا المعنى . قال هنا مما في بطونه وقال في سورة المؤمنين : مما في بطونها . وهذا قول أبي عبيدة والأخفش وقال الكسائي : إنه رده إلى ما ذكر يعني مما في بطون ما ذكرنا ، وقال غيره الكناية مردودة إلى البعض وفيه إضمار كأنه قال : نسقيكم مما في بطونه اللبن فأضمر اللبن إذ ليس لكلها لبن { من بين فرث } وهو ما في الكرش من الثفل ، فإذا خرج منها لا يسمى فرثاً { ودم لبناً خالصاً } يعني من الدم والفرث ليس عليه لون الدم ولا رائحة الفرث . قال ابن عباس : إذا أكلت الدابة العلف ، واستقر في كرشها ، وطبخته كان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً فالكبد مسلطة عليه تقسمه بتقدير الله سبحانه وتعالى فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الثفل كما هو { سائغاً للشاربين } يعني هنيئاً سهلاً يجري في الحلق بسهولة .(4/188)
قيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط . هذا قول المفسرين في معنى هذه الآية . وحكى الإمام فخر الدين الرازي قول الحكماء في ذلك فقال : ولقائل أن يقول الدم واللبن لا يتولدان في الكرش البتة ، والدليل عليه الحس فان هذه الحيوانات تذبح ذبحاً متوالياً ، وما رأى أحد في كرشها دماً ولا لبناً بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء ، وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنساناً وإلى كرشه إن كان من الأنعام ، وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء ، ثم ذلك الذي حصل في الكبد ينطبخ فيها ويصير دماً وهو الهضم الثاني ، ويكون ذلك مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية فأما الصفراء فتذهب إلى المرارة وأما السوداء فتذهب إلى الطحال ، وأما المائية فتذهب إلى الكلية ومنها إلى المثانة ، وأما الدم فيذهب في الأوردة وهي العروق النابتة في الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث . وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع والضرع لحم غددي رخو أبيض ، فيقلب الله عز وجل ذلك الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض ، فيصير الدم لبناً فهذا صورة تكوَّن اللبن في الضرع فاللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم ، والدم إنما يتولد من بعض الأجزاء اللطيفة من الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش فاللبن توليد أولاً من الفرث ثم من الدم ثانياً ثم صفاه الله سبحانه وتعالى بقدرته فجعله لبناً خالصاً من بين فرث ، ودم عند تولد اللبن في الضرع يخلق الله عز وجل بلطيف حكمته في حلمة الثدي ثقباً صغيراً ومسام ضيقة فيجعلها كالمصفاة للبن فكل ما كان لطيفاً من اللبن خرج بالمص أو الحلب وما كان كثيفاً احتبس في البدن ، وهو المراد بقوله خالصاً هنيئاً مريئاً . قوله عز وجل { ومن ثمرات النخيل والأعناب } يعني ولكم أيضاً عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه { سكراً ورزقاً حسناً } قال ابن مسعود وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وإبراهيم وابن أبي ليلى والزجاج وابن قتيبة : السكر الخمر سميت بالمصدر من قولهم سكر سكراً ، وسكراً والرزق الحسن سائر ما يتخذ من ثمرات النخيل ، والأعناب مثل الدبس والتمر والزبيب والخل وغير ذلك . فإن قلت : الخمر محرمة فكيف ذكرها الله عز وجل في معرض الإنعام والامتنان؟ قلت : قال العلماء في الجواب عن هذا : إن هذه السورة مكية ، وتحريم الخمر إنما نزل في سورة المائدة وهي مدنية فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة ، وقيل : إن الله عز وجل نبه في هذه الآية على تحريم الخمر أيضاً ، لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر فوجب أن يقال الرجوع عن كونه حسناً يدل على التحريم ، وروى العوفي عن ابن عباس أن السكر هو الخل بلغة الحبشة وقال بعضهم : السكر هو النبيذ وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد ، والمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والنخعي ومن يبيح شرب النبيذ ومن يحرمه يقول المراد من الآية الإخبار لا الإحلال ، وأولى الأقاويل أن قوله تتخذون منه سكراً منسوخ .(4/189)
سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال السكر : ما حرم من ثمراتها والرزق الحسن ما حل قلت : القول بالنسخ فيه نظر لأن قوله ، ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً خبر ، والأخبار لا يدخلها النسخ ، ومن زعم أنها منسوخة رأى أن هذه الآية نزلت بمكة في وقت إباحة الخمر ثم إن الله تبارك وتعالى حرمها بالمدينة فحكم على هذه الآية بأنها منسوخة وقال أبو عبيدة في معنى الآية : السكر الطعم يقال هذا سكر لك أي طعم لك وقال غيره : السكر ما سد الجوع من قولهم سكرت النهر أي سددته والتمر والزبيب مما يسد الجوع ، وهذا شرح قول أبي عبيدة أن السكر الطعم { إن في ذلك } يعني الذي ذكر من إنعامه على عباده { لآية } يعني دلالة وحجة واضحة { لقوم يعقلون } يعني أن من كان عاقلاً استدل بهذه الآية على كمال قدرة الله تعالى ووحدانيته وعلم بالضرورة أن لهذه الأشياء خالقاً ، ومدبراً قادراً على ما يريد .(4/190)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
قوله سبحانه وتعالى : { وأوحى ربك إلى النحل } لما ذكر الله سبحانه وتعالى دلائل قدرته ، وعجائب صنعته الدالة على وحدانيته من إخراج اللبن من بين فرث ، ودم وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل ، والأعناب ذكر في هذه الآية إخراج العسل الذي جعله شفاء للناس من دابة ضعيفة ، وهي النحلة فقال سبحانه وتعالى وأوحى ربك إلى النحل الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به كل فرد من الناس ممن له عقل ، وتفكر يستدل به على كمال قدرة الله ووحدانيته وأنه الخالق لجميع الأشياء المدبر لها بلطيف حكمته ، وقدرته وأصل الوحي الإشارة السريعة وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز ، والتعريض وقد يكون بصوت مجرد ويقال للكلمة الإلهية التي يلقيها الله إلى أنبيائه وحي وإلى أوليائه إلهام وتسخير الطير لما خلق له ومنه قوله تعالى { وأوحى ربك إلى النحل } يعني أنه سخرها لما خلقها له ، وألهمها رشدها وقدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر ، وذلك أن النحل تبني بيوتاً على شكل مسدس من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها ولو كانت البيوت مدورة أو مثلثة أو مربعة ، أو غير ذلك من الأشكال لكان فيما بينها خلل ولما حصل المقصود فألهمها الله سبحانه وتعالى ، أن تبنيها على هذا الشكل المسدس الذي لا يحصل فيه خلل وفرجة خالية ضائعة وألهمها الله تعالى أيضاً أن تجعل عليها أميراً كبيراً نافذ الحكم فيها وهي تطيعه ، وتمتثل أمره ويكون هذا الأمير أكبرها جثة وأعظمها خلقة ويسمى يعسوب النحل يعني ملكها كذا حكاه الجوهري وألهمها الله سبحانه وتعالى أيضاً أنها تخرج من بيوتها ، فتدور وترعى ثم ترجع إلى بيوتها ، ولا تضل عنها . ولما امتار هذا الحيوان الضعيف بهذه الخواص العجيبة ، الدالة على مزيد الذكاء والفطنة دل ذلك على الإلهام الإلهي فكان ذلك شبيهاً بالوحي ، فلذلك قال تبارك وتعالى : وأوحى ربك إلى النحل ، والنحل زنبور العسل ويسمى الدبر أيضاً ، قال الزجاج : يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلاً لأن الله سبحانه وتعالى ، نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها بمعنى أعطاهم . وقال غيره : النحل يذكر ويؤنث وهي مؤنثة في لغة الحجاز ، وكذا أنثها الله تعالى فقال { ثم كلي من كل الثمرات } يعني من بعض الثمرات لأنه لا تأكل من جميع الثمار فلفظه كل هاهنا ليست للعموم { فاسلكي سبل ربك } يعني الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها ، وتدخلي فيها لأجل طلب الثمرات { ذللاً } قيل إنها نعت للسبل يعني أنها مذللة لكل الطرق مسهلة لك مسالكها . قال مجاهد : لا يتوعر عليها مكان تسلكه . وقيل : الذلل نعت للنحل يعني أنها مذللة مسخرة لأربابها مطيعة منقادة لهم حتى أنهم ينقلونها من مكانها إلى مكان آخر حيث شاؤوا! وأرادوا لا تستعصي عليهم { يخرج من بطونها شراب } يعني العسل { مختلف ألوانه } يعني ما بين أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل .(4/191)
وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار ، ويستحيل في بطونها عسلاً بقدرة الله تعالى ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب ، وزعم الإمام فخر الدين الرازي أنه رأى في بعض كتب الطب ، أن العسل طل من السماء ينزل كالترتجبين فيقع على الأزهار وأوراق الشجر فتجمعه النحل فتأكل بعضه ، وتدخر بعضه في بيوتها لأنفسها لتتغذى به فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير ، فذلك هو العسل وقال هذا القول أقرب إلى العقل لأن طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل ، وأيضاً فإنا نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل وأجاب عن قوله تعالى : يخرج من بطونها بأن كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً ، فقوله : يخرج من بطونها يعني من أفواهها ، وقول أهل الظاهر أولى وأصح لأنا نشاهد أنه يوجد في طعم العسل طعم تلك الأزهار التي تأكلها النحل ، وكذلك يوجد لونها وطعمها فيه أيضاً ويعضد هذا قول بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم له : أكلت مغافير؟ قال : لا . قالت : فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال : سقتني حفصة شربة عسل . قالت : جرست نحلة العرفط . العرفط شجر الطلح ، وله صمغ يقال لهم المغافير كريه الرائحة فمعنى جرست نحلة العرفط أكلت ورعت من العرفط الذي له الرائحة الكريهة ، فثبت بهذا الدليل صحة أهل الظاهر من المفسرين ، وأنه يوجد طعم العسل ، ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل ولونه وريحه لا ما قاله الأطباء من أنه طل لأنه لو كان طلاًّ لكان على لون واحد وطبيعة واحدة . وقله : إنه طبيعة العسل تقرب من طبيعة الترنجبين فيه نظر ، لأن مزاج الترنجبين معتدل إلى الحرارة ، وهو ألطف من السكر ومزاج العسل حار يابس في الدرجة الثانية فبينهما فرق كبير . وقوله : كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً فيه نظر ، لأن لفظ البطن إذا أطلق لم يرد إلا العضو المعروف مثل بطن الإنسان ، وغيره والله أعلم . وقوله تعالى { فيه } يعني في الشراب الذي يخرج من بطون النحل { شفاء للناس } وهذا قول ابن عباس وابن مسعود إذ الضمير في قوله فيه شفاء للناس ، يرجع إلى العسل ، وقد اختلفوا في هذا الشفاء هل هو على العموم لكل مرض ، أو على الخصوص لمرض دون مرض ، على قولين : أحدهما أن العسل فيه شفاء من كل داء وكل مرض ، قال ابن مسعود : « العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور » وفي رواية أخرى عنه « عليك بالشفائين القرآن والعسل » وروى نافع أن ابن عمر ما كانت تخرج به قرحة ، ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل ويقرأ { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس } ( ق ) عن أبي سعيد الخدري قال :(4/192)
« جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسقه عسلاً فسقاه ثم جاء فقال : إني سيقته عسلاً فلم يزده إلا إستطلاقاً فقال له : ثلاث مرات ثم جاء الرابعة : فقال : اسقه عسلاً ، فقال : لقد سقيته فلم يزده إلا إستطلاقاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرأ » وقد اعترض بعض الملحدين ، ومن في قلبه مرض على هذا الحديث . فقال : إن الأطباء مجمعون على أن مسهل فكيف يوصف لمن به الإسهال فنقول في الرد على هذا المعترض الملحد الجاهل بعلم الطب أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها التخم ، والهيضات ، وقد أجمع الأطباء في مثل هذا على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفعلها ، فإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية فأما حبسها فمضر عندهم ، واستعجال مرض فيحتمل أن يكون إسهال الشخص المذكور في الحديث أصابه من امتلاء أو هيضة ، فدواؤه بترك إسهاله على ما هو عليه أو تقويته فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم العسل فزاده إسهالاً فزاده عسلاً إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال و يكون الخلط الذي كان به يوافقه شرب العسل ، فثبت بما ذكرناه أن أمره صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل بشرب العسل جار على صناعة الطب ، وأن المعترض عليه جاهل لها ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء : بل لو كذبوه لكذبناهم وكفرناهم بذلك وإنما ذكرنا هذا الجواب الجاري على صناعة الطب ، دفعاً لهذا المعترض بأنه لا يحسن صناعة الطب التي اعترض بها والله أعلم وقوله صلى الله عليه وسلم : « صدق الله وكذب بطن أخيك » يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم ، علم بالوحي الإلهي أن العسل ، الذي أمره بشربه سيظهر نفعه بعد ذلك فلما لم يظهر نفعه في الحال عندهم قال : صدق الله يعني فيما وعد به من أن فيه شفاء وكذب بطن أخيك يعني باستعجالك للشفاء في أول مرة والله أعلم بمراده ، وأسرار رسوله صلى لله عليه سلم فإن قالوا : كيف يكون شفاء للناس ، وهو يضر بأصحاب الصفراء ويهيج الحرارة ويضر بالشباب المحرورين ويعطش ، قلنا : في الجواب عن هذا الاعتراض أيضاً : إن قوله فيه شفاء للناس مع أنه يضر بأصحاب الصفراء ، ويهيج الحرارة أنه خرج مخرج الأغلب ، وأنه في الأغلب فيه شفاء ، ولم يقل : إنه شفاء لكل الناس لكل داء ولكنه في الجملة دواء وإن نفعه أكثر من مضرته ، وقل معجون من المعاجين إلا وتمامه به .(4/193)
والأشربة المتخذة من العسل نافعة لأصحاب البلغم والشيوخ المبرودين ، ومنافعه كثيرة جداً ، والقول الثاني : أنه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه وهذا قول السدي وقال مجاهد : في قوله فيه شفاء للناس يعني القرآن لأنه شفاء من أمراض الشرك ، والجهالة والضلالة وهو هدى ورحمة للناس ، والقول الأول أصح لأن الضمير يجب أن يعود إلى أقرب المذكورات ، وأقربها قوله تعالى يخرج من بطونها شراب وهو العسل فهو أولى أن يرجع الضمير إليه لأنه أقرب مذكور . وقوله سبحانه وتعالى { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } يعني فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا . قوله عز وجل { والله خلقكم } يعني أوجدكم من العدم وأخرجكم إلى الوجود ولم تكونوا شيئاً { ثم يتوفاكم } يعني عند انقضاء آجالكم إما صبياناً وإما شباناً وإما كهولاً { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } يعني أراده وأضعفه وهو الهرم قال بعض العلماء : عمر الإنسان له أربع مراتب أولها من النشوء والنماء ، وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة ، وهو غاية سن الشاب وبلوغ الأشد ثم المرتبة الثانية : سن الوقوف ، وهو من ثلاث وثلاثين سنة إلى أربعين سنة ، وهو غاية القوة وكمال العقل ثم المرتبة الثالثة : سن الكهولة ، وهو من الأربعين إلى الستين ، وهذه المرتبة يشرع الإنسان في النقص لكنه يكون نقصاً خفياً لا يظهر ثم المرتبة الرابعة : سن الشيخوخة والانحطاط من الستين إلى آخر العمر ، وفيها يتبين النقص ، ويكون الهرم والخوف . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أرذل العمر خمس وسبعون سنة . وقيل ثمانون سنة وقال قتادة تسعون سنة ( ق ) عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « اللهم أني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل وأعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات » وفي رواية أخرى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الدعوات : « اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات » وقوله تعالى : { لكيلا يعلم بعد علم شيئاً } يعني الإنسان يردع إلى حالة الطفولية بنسيان ما كان علم بسبب الكبر ، وقال ابن عباس : لكي يصير كالصبي لا عقل له . وقال ابن قتيبة : معناه حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئاً لشدة هرمه . وقال الزجاج : المعنى وإن منكم من يكبر حتى يذهب عقله خرفاً فيصير بعد أن كان عالماً جاهلاً ، ليريكم الله من قدرته أنه كما قدر على إماتته وإحيائه ، أنه قادر على نقله من العلم إلى الجهل هكذا ، وجدته منقولاً عنه ولو قال : ليريكم من قدرته أنه كما قدر على نقله من العلم إلى الجهل ، أنه قادر على إحيائه بعد إماتته ليكون ذلك دليلاً على صحة هذا البعث ، بعد الموت لكان أجود .(4/194)
قال ابن عباس : ليس هذا في المسلمين لأن المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إلا كرامة عند الله وعقلاً ومعرفة . وقال عكرمة : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر حتى لا يعلم بعد علم شيئاً . وقال في قوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، هم الذين قرؤوا القرآن وقال ابن عباس في قوله تعالى : ثم رددناه أسفل سافلين يريد الكافرين ثم استثنى المؤمنين فقال تعالى إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . وقوله تعالى { إن الله عليم } يعني بما صنع بأوليائه وأعدائه { قدير } يعني على ما يريد قوله تعالى { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } يعني أن الله سبحانه وتعالى بسط على واحد وضيق وقتر على واحد وكثر لواحد وقلل على آخر ، وكما فضل بعضكم على بعض في الرزق ، كذلك فضل بعضكم على بعض في الخلق والخلق والعقل والصحة والسقم والحسن ، والقبح والعلم والجهل وغير ذلك . فهم متفاوتون ومتباينون في ذلك كله ، وهذا مما اقتضته الحكمة الإلهية والقدرة الربانية { فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم } يعني من العبيد حتى يستووا فيه هم وعبيدهم يقول الله سبحانه وتعالى هم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواء وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني يلزم بهذه الحجة المشركين حيث جعلوا الأصنام شركاء لله قال قتادة : هذا مثل ضربه الله عز وجل . يقول : هل منكم أحد يرضى أن يشركه مملوكه في جميع ماله فكيف تعدلون بالله خلقه وعباده ، وقيل : في معنى الآية أن الموالي والمماليك الله رازقهم جميعاً { فهم فيه } يعني في رزقه { سواء } فلا تحسبن أن الموالي يردون رزقهم على مماليكهم من عند أنفسهم ، بل ذلك رزق الله أجراه على أيدي الموالي للمماليك ، والمقصود منه بيان أن الرازق هو الله سبحانه وتعالى لجميع خلقه وأن الموالي والمماليك في الرزق سواء وأن المالك لا يرزق المملوك ، بل الرازق للمماليك والمالك هو الله سبحانه وتعالى . وقوله { أفبعنمة الله يجحدون } فيه إنكار على المشركين حيث جحدوا نعمته وعبدوا غيره .(4/195)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
قوله عز وجل : { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } يعني النساء فخلق من آدم حواء زوجته وقيل : جعل لكم من جنسكم أزواجاً لأنه خطاب عام يعم الكل فتخصيصه بآدم وحواء خلاف الليل { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } الحفدة جمع حافد وهو المسرع في الخدمة المسارع إلى الطاعة ومنه قوله في الدعاء « وإليك نسعى ونحفد » أي نسرع إلى طاعتك ، فهذا أصله في اللغة ثم اختلفت أقوال المفسرين فيهم فقال ابن مسعود والنخعي : الحفدة أختان الرجل على بناته وعن ابن مسعود أيضاً ، أنه أصهاره فهو بمعنى الأول فعلى هذا القول ، يكون معنى الآية وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات ، فزوجوهم فيجعل لكم بسببهم الأختان والأصهار . وقال الحسن وعكرمة والضحاك : هم الخدم . وقال مجاهد : هم الأعوان وكل من أعانك قد حفدك وقال عطاء : هم ولد الرجل الذين يعينونه ويخدمونه وقيل : هم أهل المهنة الذين يمتهنون ويخدمون من الأولاد وقال مقاتل والكلبي : البنين هم الصغار والحفدة كبار الأولاد الذي يعينون الرجل على عمله ، وقال ابن عباس : هم ولد الولد . وفي رواية آخرى عنه أنهم بنو امرأة الرجل الذين ليسوا منه وكل هذه الأقوال متقاربة لأن اللفظ يحتمل الكل بحسب المعنى المشترك ، وبالجملة فإن الحفدة هم غير البنين ، لأن الله سبحانه وتعالى قال : بنين وحفدة فجعل بينهما مغايرة { ورزقكم من الطيبات } يعني النعم التي أنعم عليكم من أنواع الثمار والحبوب والحيوان ، والأشربة المستطابة الحلال من ذلك كله { أفبالباطل يؤمنون } يعني بالأصنام وقيل : بالشيطان يؤمنون وقيل : معناه يصدقون أن لي شريكاً وصاحبة وولداً وهذا استفهام إنكار أي ليس لهم ذلك { وبنعمة الله هم يكفرون } يعني أنهم يضيفون ما أنعم الله به عليهم إلى غيره ، وقيل معناه إنهم يجحدون ما أحل الله لهم { ويبعدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض } يعني الأصنام التي لا تقدر على إنزال المطر الذي في السموات خزائنه ، ولا يقدرون على إخراج النبات الذي في الأرض معدنه { شيئاً } يعني لا يملك من الرزق شيئاً قليلاً ولا كثيراً ، وقيل معناه يعبدون ما لا يرزق شيئاً { ولا يستطيعون } يعني ولا يقدرون على شيء يذكر عجز الأصنام عن ايصال نفع أو دفع ضر .(4/196)
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
{ فلا تضربوا لله الأمثال } يعني لا تشبهوا الله بخلقه فإنه لا مثل له ولا شبيه ولا شريك من خلقه ، لأن الخلق كلهم عبيده ، وفي ملكه فكيف يشبه الخالق بالمخلوق ، أو الرازق بالمرزوق ، أو القادر بالعاجز { إن الله يعلم } يعني ما أنتم عليه من ضرب الأمثال له { وأنتم لا تعلمون } خطأ ما تضربون له من الأمثال . قوله تعالى { ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً } لما نهاهم الله سبحانه وتعالى عن ضرب الأمثال ، لقلة علمهم ضرب هو سبحانه وتعالى لنفسه مثلاً ، فقال تعالى : مثلكم في إشراككم بالله الأوثان ، كمثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف وبين حر كريم مالك قادر ، قد رزقه الله مالاً فهو يتصرف فيه ، وينفق منه كيف يشاء ، فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال ، فلما لم تجز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة البشرية ، فكيف يجوز للعقل أن يسوي بين الله عز وجل الخالق القادر على الرزق والإفضال وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء البتة؟ وقيل : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر المراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر ، لأنه لما كان محروماً من عبادة الله وطاعته صار كالعبد الذليل الفقير العاجز الذي لا يقدر على شيء ، وقيل : إن الكافر لما رزقه الله مالاً فلم يقدم فيه خيراً صار كالعبد الذي لا يملك شيئاً ، والمراد بقوله ومن رزقناه منا رزقاً حسناً ، المؤمن لأنه لما اشتغل بطاعة الله وعبوديته والإنفاق في وجوه البر والخير صار كالحر المالك الذي ينفق سراً وجهراً في طاعة الله ، وابتغاء مرضاته وهو قوله سبحانه وتعالى { فهو ينفق منه سراً وجهراً } فأثابه الله الجنة على ذلك . فإن قلت : لم قال عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ، وكل عبد هو مملوك وهو غير قادر على التصرف؟ قلت : إنما ذكر المملوك ليتميز من الحر لأن اسم العبد يقع عليهما جميعاً لأنهما من عباد الله ، وقوله : لا يقدر على شيء احترز به عن المملوك المكاتب والمأذون له في التصرف ، لأنهما يقدران على التصرف واحتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يملك شيئاً { هل يستوون } ولم يقل هل يستويان يعني هل يستوي الأحرار والعبيد ، والمعنى كما لا يستوي هذا الفقير البخيل ، والغني السخي كذلك لا يستوي الكافر العاصي ، والمؤمن الطائع ، وقال عطاء في قوله : عبداً مملوكاً هو أبو جهل بن هشام ومن رزقناه منا رزقاً حسناً ، هو أبو بكر الصديق ثم قال تعالى { الحمد لله } حمد الله نفسه لأنه المستحق لجميع المحامد لأنه المنعم المتفضل على عباده ، وهو الخالق الرازق لا هذه الأصنام التي عبدها هؤلاء ، فإنها لا تستحق الحمد لأنها جماد عاجز ، لا يد لها على أحد ولا معروف ، فتحمد عليه إنما الحمد الكامل لله لا لغيره فيعجب على جميع العباد ، حمد الله لأنه أهل الحمد والثناء الحسن { بل أكثرهم } يعني الكفار { لا يعلمون } يعني أن الحمد لله لا لهذه الأصنام { وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم } هو الذي ولد أخرس فكل أبكم أخرس وليس كل أخرس أبكم ، والأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم { لا يقدر على شيء } هو إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل ، { وهو كل على مولاه } أي ثقيل على من يلي أمره ويعوله وقيل أصله من الغلظ وهو نقيض الحدة ، يقال كل السكين إذا غلظت شفرته وكل اللسان إذا غلظ فلم يقدر على النطق ، وكل فلان عن الأمر إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه ، فقوله وهو كل على مولاه أي غليظ ثقيل على مولاه { أينما يوجهه } اي حيثما يرسله ويصرفه في طلب حاجة أو كفاية مهم { لا يأت بخير } يعني لا يأت بجنح لأنه أخرس عاجز لا يحسن ولا يفهم { هل يستوي } يعني من هذه صفته { هو } يعني صاحب هذه الصفات المذمومة { ومن يأمر بالعدل } يعني ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات ذو رشد وديانة يأمر الناس بالعدل والخير { وهو } في نفسه { على صراط مستقيم } يعني على سيرة صالحة ودين قويم ، فيجب أن يكون الآمر بالعدل ، عالماً قادراً مستقيماً في نفسه حتى يتمكن من الأمر بالعدل ، وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه ، ولما يفيض على عباده من إنعامه ويشملهم به من آثار رحمته وألطافه وللأصنام التي هي أموات جماد ، لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تنطق ولا تعقل ، وهي كل على عابديها ، لأنها تحتاج إلى كلفة الحمل والنقل والخدمة .(4/197)
وقيل : كلا المثلين للمؤمن والكافر ، والمؤمن : هو الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم . والكافر : هو الأبكم الثقيل الذي لا يأمر بخير فعلى هذا القول تكون الآية على العموم في كل مؤمن وكافر . وقيل : هي على الخصوص فالذي يأمر بالعدل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على صراط مستقيم . والذي يأمر بالظلم وهو أبكم أبو جهل . وقيل : الذي يأمر بالعدل عثمان بن عفان ، وكان له مولى يأمره بالإسلام وذلك المولى يأمر عثمان بالإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تعالى ، فهو الذي لا يأت بخير . وقيل : المراد بالأبكم الذي لا يأت بخير أبي بن خلف ، وبالذي يأمر العدل حمزة وعثمان بن عفان ، وعثمان بن مظعون { ولله غيب السموات والأرض } أخبر الله عز وجل في الآية عن كمال علمه ، وأنه عالم بجميع الغيوب ، فلا تخفى عليه خافية ولا يخفى عليه شيء منها ، وقيل الغيث هنا هو علم قيام الساعة وهو قوله { وما أمر الساعة } يعني في قيامها ، والساعة هي الوقت الذي يقوم الناس فيه لموقف الحساب { إلا كلمح البصر } يعني في السرعة ، ولمح البصر هو انطبقا جفن العين وفتحه وهو طرف العين أيضاً { أو هو أقرب } يعني أن لمح البصر يحتاج إلى زمان وحركة ، والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً قال له : كن فيكون في أسرع من لمح البصر وهو قوله { إن الله على كل شيء قدير } فيه دليل على كمال قدرة الله تعالى وأنه سبحانه وتعالى مهما أراد شيئاً كان أسرع ما يكون . قال الزجاج : ليس المراد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر ، ولكنه سبحانه وتعالى وصف سرعة القدرة على الإتيان بها متى شاء ، لا يعجزه شيء .(4/198)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
قوله عز وجل : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } تم الكلام هنا لأن الإنسان خلق في أول الفطرة ، ومبدئها خالياً عن العلم والمعرفة لا يهتدي سبيلاً ثم ابتدأ فقال تعالى { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } يعني أن الله سبحانه وتعالى إنما أعطاكم هذه الحواس لتنتقلوا بها من الجهل إلى العلم ، فجعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب ، والسنة وهي الدلائل السمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم ، وجعل لكم الأبصار لتبصروا بها عجائب مصنوعاته ، وغرائب مخلوقاته ، فتستدلوا بها على وحدانيته . وجعل لكم الأفئدة لتعقلوا بها ، وتفهموا معاني الأشياء التي جعلها دلائل وحدانيته ، وقال ابن عباس : في هذه الآية يريد لتسمعوا مواعظ الله وتبصروا ما أنعم الله به عليكم من إخراجكم من بطون أمهاتكم ، إلى أن صرتم رجالاً وتعقلوا عظمة الله ، وقيل في معنى الآية : والله خلقكم في بطون أمهاتكم وسواكم وصوركم ، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة ، وجعل لكم الحواس آلات : لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به ، من شكر المنعم وعبادته ، والقيام بحقوقه والترقي إلى ما يسعدكم به في الآخرة . فإن قلت : ظاهر الآية يدل على أن جعل الحواس الثلاث بعد الإخراج من البطون ، وإنما خلقت هذه الحواس للإنسان من جملة خلقه ، وهو في بطن أمه . قلت : ذكر العلماء أن تقديم الإخراج ، وتأخير ذكر هذه الحواس لا يدل على أن خلقها كان بعد الإخراج لأن الواو لا توجب الترتيب ولأن العرب تقدم وتؤخر في بعض كلامها . وأقول لما كان الانتفاع بهذه الحواس بعد الخروج من البطن ، فكأنما خلقت في ذلك الوقت الذي ينتفع بها فيه وإن كانت قد خلقت قبل ذلك . وقوله تعالى { لعلكم تشكرون } يعني إنما أنعم عليكم بهذه الحواس لتستعملوها في شكر من أنعم بها عليكم { ألم يروا إلى الطير مسخرات } يعني مذللات { في جو السماء } الجو الفضاء الواسع بين السماء والأرض وهو الهواء . قال كعب الأحبار : إن الطير ترتفع في الجو اثني عشر ميلاً ولا ترتفع فوق ذلك { ما يمسكهن إلا الله } يعني في حال قبض أجنحتها وبسطها واصطفاقها في الهواء ، وفي هذا حيث على الاستدلال بها على أن لها مسخراً سخرها ، ومذللاً ذللها ، وممسكاً أمسكها في حال طيرانها ووقوفها في الهواء ، وهو الله تعالى { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } إنما خص المؤمنين بالذكر ، لأنهم هم الذين يعتبرون بالآيات ويتفكرون فيها وينتفعون بها دون غيرهم . قوله سبحانه وتعالى { والله جعل لكم من بيوتكم } يعني التي هي من الحجر والمدر { سكناً } يعني مسكناً تسكنونه ، والسكن ما سكنت إليه وفيه من ألف أو بيت { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } يعني الخيام والقباب والأخبية ، والفساطيط المتخذة من الأدم والأنطاع .(4/199)
واعلم أن المساكن على قسمين : أحدهما : ما لم يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر ، وهي البيوت المتخذة من الحجارة والخشب ونحوهما ، والقسم الثاني : ما يمكن نقله من مكان إلى آخر وهي الخيام والفساطيط المتخذة من جلود الأنعام ، وإليها الإشارة بقوله تعالى { تستخفونها } يعني يخف عليكم حملها { يوم ظعنكم } يعني في يوم سيركم ورحيلكم في أسفاركم وظعن البادية هو لطلب ماء أو مرعى ، نحو ذلك { ويوم إقامتكم } يعني وتخف عليكم أيضاً في إقامتكم وحضركم ، والمعنى : لا تثقل عليكم في الحالتين { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها } الكناية عائدة إلى الأنعام ، يعني ومن أصواف الضأن ، وأوبار الإبل وأشعار المعز { أثاثاً } يعني تتخذون أثاثاً . الأثاث . متاع البيت الكبير ، وأصله من أث إذا كثر وتكاثف ، وقيل للمال أثاث إذا كثر . قال ابن عباس : أثاثاً يعني مالاً : وقال مجاهد : متاعاً . وقال القتيبي : الأثاث المال أجمع من الإبل والغنم والعبيد والمتاع . وقال غيره الأثاث هو متاع البيت من الفرش والأكسية ونحو ذلك { ومتاعاً } يعني وبلاغاً وهو ما يتمتعون به { إلى حين } يعني إلى حين يبلى ذلك الأثاث ، وقيل : إلى حين الموت . فإن قلت : أي فرق بين الأثاث والمتاع حتى ذكره بواو العطف ، والعطف يوجب المغايرة فهل من فرق؟ . قلت : الأثاث ما كثر من آلات البيت وحوائجه وغير ذلك فيدخل فيه جميع أصناف المال ، والمتاع ما ينتفع به في البيت خاصة فظهر الفرق بين اللفظتين والله أعلم .(4/200)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
{ والله جعل لكم مما خلق ظلالاً } يعني جعل لكم ما تستظلون به من شدة الحر والبرد ، وهي ظلال الأبنية والجدران والأشجار { وجعل لكم من الجبال أكناناً } جمع كن وهو ما يستكن فيه من شدة الحر والبرد ، كالأسراب والغيران ونحوها وذلك لأن الإنسان إما أن يكون غنياً أو فقيراً ، فإذا سافر احتاج في سفره ما يقيه من شدة الحر والبرد فأما الغني فيستصحب معه الخيام في سفره ، ليستكن فيها وإليه الإشاره بقوله { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } وأما الفقير فيستكن في ظلال الأشجار والحيطان والكهوف ونحوها ، وإليه الإشارة بقوله والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً ولأن بلاد العرب شديدة الحر ، وحاجتهم إلى الضلال وما يدفع شدته وقوته أكثر فلهذا السبب ذكر الله هذه المعاني في معرض الامتنان عليهم بها ، لأن النعمة عليهم فيها ظاهرة { وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر } يعني وجعل لكم قمصاً وثياباً من القطن والكتان والصوف وغير ذلك ، تمنعكم من شدة الحر قال أهل المعاني والبرد فاكتفى بذكر أحدهما لدلالة الكلام عليه { وسرابيل تقيكم بأسكم } يعني الدروع والجواشن وسائر ما يلبس في الحرب من السلاح ، والبأس الحرب يعني تقيكم في بأسكم السلاح أن يصيبكم . قال عطاء الخراساني : إنما نزل القرآن على قدر معرفتهم فقال تعالى وجعل لكم من الجبال أكناناً ، وما جعله لهم من السهول أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال كما قال ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها وما جعل لهم من القطن والكتاب أكثر ، ولكن كانوا أصحاب صوف ووبر وشعر ، وكما قال تعالى { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } وما أنزل من الثلج أكثر ، ولكنهم كانوا لا يعرفون الثلج وقال تقيكم الحر وما جعل لهم مما يقي من البرد أكثر ولكنهم كانوا أصحاب حر . وقوله سبحانه وتعالى { كذلك } يعني كما أنعم عليكم بهذه النعم { يتم نعمته عليكم } يعني نعم الدنيا والدين { لعلكم تسلمون } يعني لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الوحدانية والربوبية والعبادة والطاعة وتعلمون ، أنه لا يقدر على هذه الإنعامات إلا الله تعالى { فإن تولو } يعني فإن أعرضوا عن الإيمان بك وتصديقك يا محمد وآثروا ما هم فيه من الكفر واللذات الدنيوية ، فإنما وبال ذلك عليهم لا عليك { فإنما عليك البلاغ المبين } يعني ليس عليك في ذلك عتب ، ولا سمة تقصير إنما عليك البلاغ ، وقد فعلت ذلك ثم ذمهم الله تعالى بقوله { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها } قال السدي : نعمة الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أنكروه وكذبوه . وقيل : نعمة الله هي الإسلام لأنه من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده ، ثم إن كفار مكة أنكروه وجحدوه ، وقال مجاهد وقتادة : نعمة الله ما عدد عليهم في هذه السورة من النعم يقرون بأنها من الله ، ثم إذا قيل لهم : صدقوا وامتثلوا أمر الله فيها ينكرونها ويقولون ورثناها عن آبائنا .(4/201)
وقال الكلبي : إنه لما ذكر هذه النعم قالوا : هذه نعم كلها من الله تعالى لكنهم بشفاعة آلهتنا وقيل هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا ولولا فلان لما كان كذا وقيل إنهم يعترفون بأن الله أنعم بهذه النعم ، ولكنهم لا يستعملونها في طلب رضوانه ولا يشكرونه عليها { وأكثرهم الكافرون } إنما قال الله سبحانه وتعالى أكثرهم الكافرون مع أنهم كانوا كلهم كافرين ، لأنه كان فيهم من لم يبلغ بعد حد التكليف فعبر بالأكثر عن البالغين ، وقيل : أراد بالأكثر الكافرين الحاضرين المعاندين ، وقد كان فيهم من ليس بمعاند وإن كان كافراً وقيل إنه عبر بالأكثر عن الكل لأنه قد يذكر الأكثر ، ويراد به الجمع قوله سبحانه وتعالى { ويوم نبعث من كل أمة شهيداً } لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمه على الكافرين وإنكارهم لها ، وذكر أن أكثرهم كافرون ، أتبعه بذكر الوعيد لهم في الآخرة فقال تعالى : { ويوم نبعث من كل أمة شهيداً } يعني رسولاً وذلك اليوم ، هو يوم القيامة والمراد بالشهداء : الأنبياء يشهدون على أممهم بإنكار نعم الله عليهم وبالكفر { ثم لا يؤذن للذين كفروا } يعني في الاعتذار وقيل لا يؤذن لهم في الكلام أصلاً . وقيل لا يؤذن لهم بالرجوع إلى دار الدنيا فيعتذروا ويتوبوا وقيل : لا يؤذن لهم في معارضة الشهود بل يشهدون عليهم ويقرونهم على ذلك { ولا هم يستعتبون } الاستعتاب : طلب العتاب ، والمعتبة : هي الغلظة والموجدة التي يجدها الإنسان في نفسه على غيره ، والرجل إنما يطلب العتاب من خصمه ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة والغضب ، ويرجع إلى الرضا عنه وإذ لم يطلب العتاب منه دل ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه ، ومعنى الآية : أنهم لا يكلفون أن يرضوا ربهم في ذلك اليوم ، لأن الآخرة ليست دار غضبه عليه ، ومعنى الآية أنهم لا يكلفون أن يرضوا ربهم في ذلك اليوم لأن الآخرة ليست دار تكليف ولا يرجعون إلى الدنيا فيتوبوا ويرجعوا يرضوا ربهم فالاستعتاب : التعرض لطلب الرضا ، وهذا باب مسند على الكفار في الآخرة { وإذا رأى الذين ظلموا } يعني ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي { العذاب } يعني عذاب جهنم { فلا يخفف عنهم } يعني العذاب { ولا هم ينظرون } يعني لا يؤخرون ولايمهلون { وإذا رأى الذين أشركوا } يعني يوم القيامة { شركاءهم } يعني أصنامهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا { قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك } يعني أرباباً وكنا نعبدهم ونتخذهم آلهة { فألقوا } يعني الأصنام { إليهم } يعني إلى عابديها { القول إنكم لكاذبون } يعني أن الأصنام قالت للكفار : إنكم لكاذبون يعني في تسميتنا آلهة وما دعوناكم إلى عبادتنا .(4/202)
فإن قلت : الأصنام جماد لا تتكلم فكيف يصح منها الكلام؟ . قلت : لا يبعد أن الله سبحانه وتعالى لما بعثها ، وأعادها في الآخرة ، خلق فيها الحياة والنطق والعقل حتى قالت ذلك . والمقصود من إعادتها وبعثها ، أن تكذب الكفار ويراها الكفار وهي في غاية الذلة والحقارة ، فيزدادون بذلك غماً وحسرة { وألقوا } يعني المشركين { إلى الله يؤمئذ السلم } يعني أنهم استسلموا له ، وانقادوا لحكمه فيهم ولم تغن عنهم آلهتهم شيئاً { وضل عنهم } يعني وزال عن المشركين { ما كانوا يفترون } يعني ما كانوا يكذبون في الدنيا في قولهم ، إن الأصنام تشفع لهم { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } يعني ضموا مع كفرهم أنهم منعوا الناس عن الدخول في الإيمان بالله ورسوله { زدناهم عذاباً فوق العذاب } يعني زدناهم هذه الزيادة بسبب صدهم عن سبيل الله مع ما يستحقونه من العذاب على كفرهم الأصلي ، واختلفوا في هذه الزيادة ما هي فقال عبد الله بن مسعود : عقارب لها أنياب ، كأمثال النخل الطوال . وقال سعيد بن جبير : حيات كالبخت وعقارب أمثال البغال ، تلسع إحداهن اللسعة ، فيجد صاحبها ألمها أربعين خريفاً . وقال ابن عباس ومقاتل : يعني خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار تسيل يعذبون بها ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار ، وقيل : إنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار مستغيثين بها وقيل : يضاعف لهم العذاب ضعفاً بسبب كفرهم وضعفاً بسبب صدهم الناس عن سبيل الله { بما كانوا يفسدون } يعني أن الزيادة إنما حصلت لهم بسبب صدهم عن سبيل الله ، وبسبب ما كانوا يفسدون مع ما يستحقونه من العذاب على الكفر .(4/203)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
{ ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم } قال ابن عباس : يريد الأنبياء . قال المفسرون : كل نبي شاهد على أمته وهو أعدل شاهد عليها { من أنفسهم } يعني منهم لأن كل نبي إنما بعث من قومه الذين بعث إليهم ليشهدوا عليهم وبما فعلوا من كفر وإيمان وطاعة وعصيان { وجئنا بك } يا محمد { شهيداً على هؤلاء } يعني على قومك وأمتك وتم الكلام هنا ثم قال تبارك وتعالى { ونزلنا عليك الكتاب } يعني القرآن { تبياناً لكل شيء } اسم من البيان قال مجاهد : يعني لما أمر به وما نهى عنه . وقال أهل المعاني : تبياناً لكل شيء يعني من أمور الدين إما بالنص عليه أو بالإحالة على ما يوجب العلم به من بيان النبي صلى الله عليه سلم لأن النبي صلى الله عليه سلم بيَّن ما في القرآن من الأحكام والحدود والحلال والحرام ، وجميع المأمورات والمنهيات وإجماع الأمة فهو أيضاً أصل ومفتاح لعلوم الدين { وهدى } يعني من الضلالة { ورحمة } يعني لمن آمن به وصدقه { وبشرى للمسلمين } يعني وفيه بشرى للمسلمين من الله عز وجل . وقوله سبحانه وتعالى { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } قال ابن عباس : العدل شهادة أن لا إله إلا الله والإحسان أداء الفرائض . وفي رواية عنه قال : العدل خلع الأنداد ، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وأن تحب للناس ما تحب لنفسك إن كان مؤمناً تحب أن يزداد إيماناً ، وإن كان كافراً تحب أن يكون أخاك في الإسلام . وقال في رواية أخرى عنه : العدل التوحيد والإحسان الإخلاص ، وأصل العدل في اللغة المساواة في كل شيء من غير زيادة في شيء ولا غلو ولا نقصان فيه ، ولا تقصير فالعدل هو المساواة في المكافأة إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر والإحسان أن تقابل الخير بأكثر منه والشر بأن تعفوا عنه : وقيل : العدل الإنصاف ولا إنصاف أعظم من الاعتراف للمنعم بإنعامه ، والإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ، وقيل يأمر بالعدل في الأفعال والإحسان في الأقوال فلا يفعل إلا ما هو عدل ، ولا يقول إلا ماهو حسن { وإيتاء ذي القربى } يعني ويأمر بصلة الرحم وهم القرابة الأدنون والأبعدون منك فيستحب أن تصلهم من فضل ما رزقك الله فإن لم يكن لك فضل فدعاء حسن وتودد { وينهى عن الفحشاء } قال ابن عباس : يعني الزنا . وقال غيره الفحشاء ، وما قبح من القول والفعل فيدخل فيه الزنا وغيره من جميع الأقوال والأفعال المذمومة { والمنكر } قال ابن عباس : يعني الشرك والكفر . وقال غيره : المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة { والبغي } يعني الكبر والظلم . وقيل : البغي هو التطاول على الغير على سبيل الظلم والعدوان .(4/204)
قال بعضهم : إن أعجل المعاصي البغي ولو أن جبلين بغى أحدهما على الآخر لدك الباغي . وقال ابن عيينة في هذه الآية : العدل استواء السر والعلانية ، والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته والفحشاء والمنكر البغي ، أن تكون علانتيه أحسن من سريريته ، وقال بعضهم : إن الله سبحانه وتعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء ، ومن المنهيات ثلاثة أشياء ، فذكر : العدل وهو الإنصاف ، والمساواة في الأقوال والأفعال وذكر في مقابلته الفحشاء ، وهي ما قبح من الأقوال والأفعال وذكر الإحسان ، وهو أن تعفو عمن ظلمك وتحسن إلى من أساء إليك وذكر في مقابلته المنكر ، وهو أن تنكر إحسان من أحسن إليك ، وذكر إيتاء ذي القربى والمراد به صلة القرابة والتودد إليهم ، والشفقة عليهم وذكر في مقابلته البغي ، وهو أن يتكبر عليهم أو بظلمهم حقوقهم ثم قال تعالى { يعظكم لعلكم تذكرون } يعني إنما أمركم بما أمركم به ونهاكم عما نهاكم عنه ، لكي تتعظوا وتتذكروا فتعملوا ، بما فيه رضا الله تعالى . قال ابن مسعود : إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية . وقال أهل المعاني : لما قال الله تعالى في الآية الأولى ، ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء بيَّن في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه على سبيل الإجمال ، فما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ، مما يجب أن يؤتى أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية وروى عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قرأ على الوليد بن المغيرة أنّ الله يأمر بالعدل إلى آخر والآية ، فقال له : « يا ابن أخي أعد عليّ » فأعادها عليه فقال له الوليد : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر . قوله عز وجل { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة المأمورات والمنهيات على سبيل الإجمال ، ذكر هذه الآية بعض ذلك الإجمال على التفصيل فبدأ بالأمر بالوفاء بالعهد ، لأنه آكد الحقوق فقال تعالى { وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم } نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، فأمرهم بالوفاء بهذه البيعة ، وقيل : المراد منه كل ما يلتزمه الإنسان باختياره ، ويدخل فيه الوعد أيضاً لأن الوعد من العهد ، وقيل : العهد هاهنا اليمين . قال القتيبي : العهد يمين وكفارته كفارة يمين فعلى هذا يجب الوفاء إذا كان فيه صلاح أما إذا لم يكن فيه صلاح ، فلا يجب الوفاء به لقوله صلى الله عليه وسلم : « من حلف يميناً ثم رأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ، وليكفّر عن يمينه » فيكون قوله وأفوا بعهد الله من العام الذي خصصته السنة . وقال مجاهد وقتادة : نزلت في حلف أهل الجاهلية ، ويشهد لهذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم :(4/205)
« كل حلف كان في الجاهلية ، لم يزده الإسلام إلا شدة » { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } يعني تشديدها فتحنثوا فيها وفيه دليل على أن المراد بالعهد غير اليمين لأنه أعم منها { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } يعني شهيداً بالوفاء بالعده { إن الله يعلم ما تفعلون } يعني من وفاء العهد ونقضه ثم ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً لنقض العهد فقال تعالى { ولا تكونوا } يعني في نقض العهد { كالتي نقضت غزلها من بعد قوة } يعني من بعد إبرامه وإحكامه . قال الكلبي ومقاتل : هذه امرأة من قريش يقال لها ربطة بن عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم وكانت خرقاء حمقاء بها وسوسة ، وكانت قد اتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل الإصبع وفلكه عظيمة على قدرها ، وكانت تغزل الغزل من الصوف ، أو الشعر أو الوبر وتأمر جواريها بالغزل فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار ، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن ، فكان هذا دأبها . والمعنى : أن هذه المرأة ، لم تكف عن العمل ولا حين عملت كفت عن النقض فكذلك من نقض العهد لا تركه ولا حين عاهد وفى به { أنكاثاً } جمع نكث وهو ما ينقض من الغزل أو الحبل بعد القتل { تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم } يعني دغلاً وخيانة وخديعة والدخل ما يدخل في الشيء على سبيل الفساد ، وقيل : الدخل والدغل أن يظهر الرجال الوفاء بالعهد ويبطن نقضه { أن تكون } يعني لأن تكون { أمة هي أربى من أمة } يعني أكثر وأعلى من أمة . قال مجاهد : وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجدوا قوماً أكثر من أولئك وأعز نقضوا حلف هؤلاء ، وحالفوا الأكثر . والمعنى : أنكم طلبتم العز بنقض العهد لأن كانت أمة أي جماعة أكثر من جماعة فنهاهم الله عن ذلك ، وأمرهم بالوفاء بالعهد لمن عاهدوا وحالفوا ، { إنما يبلوكم الله به } يعني يختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهد وهو أعلم بكم { وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } يعني في الدنيا فيثيب الطائع المحق ، ويعاقب المسيء الخالف قوله سبحانه وتعالى { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } يعني على ملة واحدة ودين واحد ، وهو دين الإسلام { ولكن يضل من يشاء } يعني بخذلانه إياه عدلاً منه { ويهدي من يشاء } بتوفيقه إياه فضلاً منه وذلك مما اقتضته الحكمة الإلهية لا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون ، وهو قوله تعالى { ولتسألن عما كنتم تعملون } يعني في الدنيا فيجازى المحسن بإحسانه ، ويعاقب المسيء بإساءته أو يغفر له . قوله عز وجل { ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم } يعني خديعة وفساداً بينكم فتغروا بها الناس فيسكنوا إلى أيمانكم ، ويأمنوا إليكم ثم تنقضونها . وإنما كرر هذا المعنى تأكيداً عليهم وإظهاراً لعظم أمر نقض العهد .(4/206)
قال المفسرون : وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام نهاهم عن نقض عهده ، لأن الوعيد الذي بعده وهو قوله سبحانه وتعالى : فنزل قدم بعد ثبوتها لا يليق بنقض عهد غيره ، إنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وبشريعته وقوله { فتزل قدم بعد ثبوتها } مثل يذكر لكل من وقع في بلاء ومحنة بعد عافية ونعمة أو سقط في ورطة بعد سلامة . تقول العرب لكل واقع في بلاء بعد عافية : زلت قدمه ، والمعنى : فتزل أقدامكم عن محجة الإسلام ، بعد ثبوتها عليها { وتذوقوا السوء } يعني العذاب { بما صددتم عن سبيل الله } يعني بسبب صدكم غيركم عن دين الله وذلك لأن من نقض العهد ، فقد علّم غيره نقض العهد فيكون هو أقدمه على ذلك { ولكم عذاب عظيم } يعني بنقضكم العهد { ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً } يعني ولا تنقضوا عهودكم وتطلبوا بنقضها عوضاً من الدنيا قليلاً ، ولكن أوفوا بها { إنما عند الله } يعني فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بالعهد { هو خير لكم } يعني من عاجل الدنيا { إن كنتم تعلمون } يعني فضل ما بين العوضين ثم بين ذلك فقال تبارك وتعالى { ما عندكم ينفد } يعني من متاع الدنيا ، ولذاتها يفنى ويذهب { وما عند الله باق } يعني من ثواب الآخرة ونعيم الجنة { ولنجزين الذين صبروا } يعني على الوفاء بالعهد على السراء والضراء { أجرهم } يعني ثواب صبرهم { بأحسن ما كانوا يعملون } عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى » وقوله سبحانه وتعالى { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن } فإن قلت : من عمل صالحاً يفيد العموم فما فائدة الذكر والأنثى؟ قلت : هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر وأطلق ، كان الظاهر تناوله للذكر دون الأنثى فقيل من ذكر أو أنثى على التبيين ، ليعلم الوعد للنوعين جميعاً وجواب آخر وهو أن الآية واردة بالوعد بالثواب والمبالغة في تقرير الوعد ، من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتاً للتأكد وإزالة لِوَهْمِ التخصيص وقوله : وهو مؤمن ، جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح موجباً للثواب { فلنحيينه حياة طيبة } قال سعيد بن جبير وعطاء : هي الرزق الحلال ، وقال مقاتل : هي العيش في الطاعة ، وقيل : هي حلاوة الطاعة . وقال الحسن هي القناعة وقيل رزق يوم بيوم ، واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا ، وإن كان فقيراً أطيب من عيش الكافر وإن كان غنياً لأن المؤمن لما علم أن رزقه من عند الله ، وذلك بتقديره وتدبيره وعرف أن الله محسن كريم متفضل لا يفعل إلا الصواب ، فكان المؤمن راضياً عن الله وراضياً بما قدره الله له ورزقه إياه ، وعرف أنه له مصلحة في ذلك القدر الذي رزقه إياه فاستراحت نفسه من الكد والحرص فطاب عيشه بذلك وأما الكافر أو الجاهل بهذه الأصول الحريص على طلب الرزق فيكون أبداً في حزن وتعب وعناء وحرص وكد ولا ينال من الرزق إلا ما قدر له فظهر بهذا أن عيش المؤمن القنوع أطيب من غيره .(4/207)
وقال السدي : الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر لأن المؤمن يستريح بالموت من نكد الدنيا وتعبها . وقال مجاهد وقتادة : في قوله فلنحيينه حياة طيبة هي الجنة . وروى العوفي عن الحسن ، قال : لا تطيب لأحد الحياة إلا في الجنة لأنها حياة بلا موت ، وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم وملك بلا هلك وسعادة بلا شقاوة ، فثبت بهذا أن الحياة الطيبة لا تكون إلا في الجنة ، ولقوله في سياق الآية { ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } لأن ذلك الجزاء إنما يكون في الجنة .(4/208)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
قوله عز وجل : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من أمته ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان غير محتاج إلى الاستعاذة ، وقد أمر بها فغيره أولى بذلك ، ولما كان الشيطان ساعياً في إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم وكانت الاستعاذة بالله مانعة من ذلك ، فلهذا السبب أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستعاذة عند القراءة ، حتى تكون مصونة من وسواس الشيطان عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة ، قال عمر : ولا أدري أي صلاة هي . قال : الله أكبر كبيراً ثلاثاً والحمد لله كثيراً ثلاثاً وسبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخته ونفثته وهمزته . قال : نفخته الكبر ونفثته السحر وهمزته المونة أخرجه أبو داود . المونة الجنون والفاء في قوله فاستعذ بالله للتعقيب . فظاهر لفظ الآية يدل على أن الاستعاذة بعد القراءة ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو قول أبي هريرة وإليه ذهب مالك وجماعة وداود الظاهري . قالوا : لأن قارىء القرآن يستحق ثواباً عظيماً وربما حصلت الوساوس في قلب القارىء هل حصل له ذلك الثواب أم لا؟ فإذا استعاذ بعد القراءة اندفعت تلك الوساوس وبقي الثواب مخلصاً فأما مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار ، فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة ، قالوا : ومعنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله ومثله قوله سبحانه وتعالى { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } الخ ومثله من الكلام إذا أردت أن تأكل فقل : بسم الله وإذا أردت أن تسافر فتأهب ، وأيضاً فإن الوسوسة إنما تحصل في أثناء القراءة فتقديم الاستعاذة على القراءة ، لتذهب الوسوسة عنه أولى من تأخيرها عن وقت الحاجة إليها ، ومذهب عطاء أنه تجب الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت في الصلاة أو في غيرها ، واتفق سائر الفقهاء على أن الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت في الصلاة أو في غيرها ، واتفق سائر الفقهاء على أن الاستعاذة سنة في الصلاة وغيرها ، وقد تقدمت هذه المسألة والخلاف فيها في أول سورة الفاتحة ، والاستعاذة : الاعتصام بالله والالتجاء إليه من شر الشيطان ووسوسته . والمراد من الشيطان إبليس . وقيل : هو اسم جنس يطلق على المردة من الشياطين ، لأن لهم قدرة على إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم بإقدار الله إياهم على ذلك { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } لما أمر الله رسوله صلى الله عليه سلم بالاستعاذة من الشيطان فكأن ذلك أوهم أن له سلطان يعني ليس له قدرة ، ولا ولاية على الذين آمنوا ، وعلى ربهم يتوكلون ، قال سفيان ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر ويظهر من هذا أن الاستعاذة ، إنما تفيد إذا حضر بقلب الإنسان كونه ضعيفاً ، وأنه لا يمكنه التحفظ من وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله ولهذا قال المحققون : لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة إلا بتوفيق الله ثم قال تعالى { إنما سلطانه على الذين يتولونه } يعني يطيعونه ويدخلون في ولايته يقال : توليته إذا أطعته وتوليت عنه إذا أعرضت عنه { والذين هم به مشركون } يعني بالله ، وقيل : الضمير في به راجع إلى الشيطان ، والمعنى هم من أهله مشركون بالله وقوله سبحانه وتعالى { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل } وذلك أن المشركين من أهل مكة قالوا : إن محمداً يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً ، ماهو إلا مفترٍ يتقوله من تلقاء نفسه فأنزل الله هذه الآية .(4/209)
والمعنى : وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكماً آخر والله أعلم بما ينزل اعتراض دخل في الكلام ، والمعنى والله أعلم بما ينزل من الناسخ وبما هو أصلح لخلقه ، وبما يغير ويبدل من أحكامه أي هو أعلم بجميع ذلك مما هو من مصالح عباده ، وهذا نوع من توبيخ وتقريع للكفار على قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى { قالوا إنما أنت مفتر } أي تختلقه من عندك ، والمعنى : إذا كان الله تعالى أعلم بما ينزل فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء والكذب لأجل التبديل والنسخ؟ وإنما فائدة ذلك ترجع إلى مصالح العباد ، كما يقال : إن الطبيب يأمر المريض بشرب دواء ثم بعد ذلك ينهاه عنه ويأمر بغيره لما يرى فيه من المصلحة { بل أكثرهم لا يعلمون } يعني لا يعلمون فائدة الناسخ وتبديل النسوخ { قل } أي قل لهم يا محمد { نزله } يعني القرآن { روح القدس } يعني جبريل صلى الله عليه وسلم أضيف إلى القدس وهو الطهر كما يقال حاتم الجود وطلحة الخير ، والمعنى الروح المقدس المطهر { من ربك } يعني أن جبريل نزل بالقرآن من ربك يا محمد { بالحق ليثبت الذين آمنوا } يعني ليثبت بالقرآن قلوب المؤمنين فيزدادوا إيماناً ويقيناً { وهدى وبشرى } يعني وهو هدى وبشرى { للمسلمين } .(4/210)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
قوله عزو جل : { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر } وذلك أن كفار مكة قالوا : إنما يتعلم هذه القصص وهذه الأخبار من إنسان آخر وهو آدمي مثله ، وليس هو من عند الله كما يزعم فأجابهم الله بقوله ولقد نعلم أنهم يقولون : إنما يعلمه بشر واختلفوا في ذلك البشر من هو فقال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قيناً بمكة اسمه بلعام وكان نصرانياً أعجمي اللسان فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده ، فكانوا يقولون إنما يعلمه بلعام . وقال عكرمة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرىء غلاماً لبني المغيرة يقال له يعيش فكان يقرأ الكتب؟ فقالت قريش : إنما يعلمه يعيش ، وقال محمد بن إسحاق : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني عبد لبعض بني الحضرمي يقال له : جبر وكان يقرأ الكتب . وقال عبيد الله بن مسلمة : كان لنا عبدان من أهل عين التمر يقال لأحدهما : يسار ويكنى أبا فكيهة ، ويقال للآخر : جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة ، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل بمكة فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن فيقف ويستمع قال الضحاك : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا آذاه الكفار يقعد إليهما فيتروح بكلامهما ، فقال المشركون إنما يتعلم محمد منهما . وقال الفراء : قال المشركون إنما يتعلم محمد من عائش المملوك كان لحويطب بن عبد العزى كان نصرانياً ، وقد أسلم وحسن إسلامه وكان أعجمياً ، وقيل : هو عداس غلام عتبة بن ربيعة ، والحاصل أن الكفار اتهموا رسول الله صلى الله عليه سلم وقالوا إنما يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يضيفها لنفسه ويزعم أنه وحي من الله عز وجل وهو كاذب في ذلك فأجاب الله عنه ، وأنزل هذه الآية تكذيباً لهم فيما رموا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب فقال تعالى { لسان الذي يلحدون إليه } يعني يميلون ، ويشيرون إليه { أعجمي } يعني هو أعجمي والأعجمي هو الذي لا يفصح في كلامه ، وإن كان يسكن البادية ومنه سمي زياد الأعجم لأنه كان في لسانه عجمة مع أنه كان من العرب ، والعجمي منسوب إلى العجم ، وإن كان فصيحاً بالعربية والأعرابي الذي يسكن البادية ، والعربي الذي يسكن الأمصار من بلاد العرب وهو منسوب إلى العرب { وهذا لسان عربي مبين } يعني بين الفصاحة والبلاغة ووجه الجواب ، هو أن الذي يشيرون إليه رجل أعجمي في لسانه عجمة تمنعه من الإتيان بفصيح الكلام ومحمد صلى الله عليه وسلم جاءكم بهذا القرآن الفصيح الذي عجزتم أنتم عنه ، وأنتم أهل الفصاحة والبلاغة ، فكيف يقدر من هو أعجمي على مثله وأين فصاحة هذا القرآن من عجمة هذا الذي يشيرون إليه ، فثبت بهذا البرهان ، أن جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وحي أوحاه الله إليه وليس هو من تعليم الذي يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه { إن الذين لا يؤمنون بآيات الله } يعني لا يصدقون أنه من عند الله { لا يهديهم الله } يعني لا يرشدهم ولا يوفقهم للإيمان { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله } يعني إنما يقدم على فرية الكذب من لا يؤمن بآيات الله فهو رد لقول كفار قريش إنما أنت مفترٍ { وأولئك هم الكاذبون } يعني في قولهم ، إنما يعلمه بشر لا محمد صلى الله عليه وسلم .(4/211)
فإن قلت : قد قال تبارك وتعالى إنما يفترى الكذب فما معنى قوله تعالى وأولئك هم الكاذبون والثاني هو الأول؟ قلت : قوله سبحانه وتعالى إنما يفترى الكذب أخبار عن حال قولهم ، وقوله : وأولئك الكاذبون نعت لازم لهم كقول الرجل لغيره كذبت وأنت كاذب ، أي كذبت في هذا القول ومن عادتك الكذب وفي الآية دليل على أن الكذب من أفحش الذنوب الكبار لأنه الكذاب المفتري ، هو الذي لا يؤمن بآيات الله . روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عبد الله بن جراد قال : « قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال : قد يكون ذلك . قلت : المؤمن يسرق؟ قال : قد يكون ذلك . قلت : المؤمن يكذب قال : لا قال الله تعالى إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله » .(4/212)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } نزلت في عمار بن ياسر وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم ليرجعوا عن الإسلام فأما سمية أم عمار فإنها ربطت بين بعيرين ووجىء قلبها بحربة ، فقتلت ، وقتل زوجها ياسر فهما أول قتيلين قتلا في الإسلام وأما عمار فإنه أعطاهم بعض ما أرادوا بلسانه مكرهاً . قال قتادة أخذ بنو المغيرة عمار وغطوه في بئر ميمون وقالوا له : اكفر بمحمد فبايعهم على ذلك وقلبه كاره ، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عماراً كفر . فقال « كلا إن عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما وراءك قال : شر يا رسول الله نلت منك وذكرت . فقال : كيف وجدت قلبك قال : مطمئناً بالإيمان فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه . وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت » فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد : نزلت في أناس من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن هاجروا إلينا فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا ، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم عن دينهم فكفروا كارهين ، وهذا القول ضعيف لأن الآية مكية وكان هذا في أول الإسلام قبل أن يؤمروا بالهجرة ، وقال مقاتل : نزلت في جبر مولى عامر ابن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر ، فكفر مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان ثم أسلم عامر بن الحضرمي مولى جبر ، وحسن إسلامه وهاجر إلى المدينة والأولى أن يقال إن الآية عامة في كل من أكره على الكفر ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، وإن كان السبب خاصاً . فإن قلت : المكره على الكفر ليس بكافر فلا يصح استثناؤه من الكافر ، فما معنى هذا الاستثناء لهذه المشابهة والمشاكلة والله أعلم .
فصل في حكم الآية
قال العلماء : يجب أن يكون الإكراه الذي يجوز له أن يتلفظ معه بكلمة الكفر أن يعذب بعذاب لا طاقة له به ، مثل التخويف بالقتل والضرب الشديد والإيلامات القوية ، مثل التحريق بالنار ونحوه . قال العلماء : أول من أظهر الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة : أبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وأبوه ياسر وأمه سمية فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله من أذى المشركين بعمه أبي طالب وأما أبو بكر ، فمنعه قومه وعشيرته وأخذ الآخرون ، وألبسوا أدراع الحديد وأجلسوا في حر الشمس بمكة ، فأما بلال فكانوا يعذبونه وهو يقول أحد أحد حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه وقتل ياسر وسمية كما تقدم .(4/213)
وقال خباب : لقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري . وأجمعوا على أن من أكره على الكفر لا يجوز له أن يتلفظ بكلمة تصريحاً بل يأتي بالمعاريض ، وبما يوهم أنه كفر ، فلو أكره على التصريح يباح له ذلك بشرط طمأنينة القلب على الإيمان غير معتقد ، ما يقوله من كلمة الكفر ولو صبر حتى قتل كان أفضل لأن ياسراً وسمية قتلا ولم يتلفظا بكملة الكفر ، ولأن بلالاً صبر على العذاب ولم يلم على ذلك . قال العلماء : من الأفعال ما يتصور الإكراه عليها كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، والميتة ونحوها فمن أكره بالسيف أو القتل على أن يشرب الخمر أو يأكل الميتة أو لحم الخنزير أو نحوها ، جاز له ذلك لقوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وقيل : لا يجوز له ذلك ولو صبر كان أفضل ، ومن الأفعال ما لا يتصور الإكراه عليه كالزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد ، وذلك يمنع انتشار الآلة فلا يتصور فيه الإكراه واختلف العلماء في طلاق المكره ، فقال الشافعي رضي الله تعالى عنه واكثر العلماء : لا يقع طلاق المكره . وقال أبو حنيفة : يقع . حجة الشافعي ومن وافقه قوله سبحانه وتعالى : { لا إكراه في الدين } ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته ، لأن ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره والمعنى أنه لا أثر له ولا عبرة به ، وقوله تعالى { وقلبه مطمئن بالإيمان } فيه دليل على أن محل الإيمان هو القلب { ولكن من شرح بالكفر صدراً } يعني فتحه ووسعه لقبول الكفر واختاره ورضي به { فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } يعني في الآخرة { ذلك بأنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة } يعني يكون ذلك الإقدام على الارتداد إلى الكفر ، لأجل أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة { وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } يعني لا يرشدهم إلى الإيمان ولا يوفقهم للعمل به { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم } تقدم تفسيره { وأولئك هم الغافلون } يعني عما يراد بهم من العذاب في الآخرة وهو قوله سبحانه وتعالى { لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون } يعني أن الإنسان إنما يعمل في الدنيا ، ليربح في الآخرة فإذا دخل النار بان خسرانه وظهر غبنه لأنه ضيع رأس ماله ، وهو الإيمان ومن ضيع رأس ماله فهو خاسر . قوله عز وجل { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } يعني عذبوا ومنعوا من الدخول في الإسلام فتنهم المشركون { ثم جاهدوا وصبروا } على الإيمان والهجرة والجهاد { إن ربك من بعدها } يعني من بعد الفتنة التي فتنوها { لغفور رحيم } نزلت هذه الآية في عياش بن ربيعة وكان أخا أبي جهل من الرضاعة ، وقيل كان أخاه لأمه وفي أبي جندل بن سهيل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة ، وسلمة بن هشام وعبد الله ابن أسد الثقفي فتنهم المشركون ، وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا .(4/214)
وقال الحسن وعكرمة : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سرح كان قد أسلم ، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فاستنزله الشيطان ، فارتد ولحق بدار الحرب فلما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فاستجاره عثمان ، وكان أخاه لأمه فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه وهذا القول إنما يصح إذا قلنا : إن هذه الآية مدنية نزلت بالمدينة فتكون من الآيات المدنيات في السور المكيات ، والله أعلم بحقيقة ذلك قوله سبحانه وتعالى { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } يعني تخاصم وتحتج عن نفسها أي بما أسفلت من خير وشر ، واشتغلت بالمجادلة لا تتفرغ إلى غيرها . فإن قلت : النفس هي نفس واحدة ، وليس لها نفس أخرى فما معنى قوله كل نفس تجادل عن نفسها؟ قلت : إن النفس قد يراد بها بدن الإنسان ، وقد يراد بها مجموع ذاته وحقيقته فالنفس الأولى هي مجموع ذات الإنسان وحقيقته والنفس الثانية ، هي بدنه فهي عينها وذاتها أيضاً ، والمعنى : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ، ولا يهمه غيره ومعنى هذه المجادلة الاعتذار بما لا يقبل منه كقولهم والله ربنا ما كنا مشركين ، ونحو ذلك من الاعتذارات { وتوفى كل نفس ما عملت } يعني جزاء ما عملت في الدنيا من خير أو شر { وهم لا يظلمون } يعني لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئاً ، بل يوفون ذلك كاملاً من غير زيادة ولا نقصان . روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار : خوفنا فقال يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو وافيت القيامة بمثل عمل سبعين نبياً ، لأتت عليك ساعات وأنت لا يهمك إلا نفسك وإن جهنم لتزفر زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه حتى إبراهيم خليل الرحمن يقول : يا رب لا أسألك إلا نفسي ، وإن تصديق ذلك فيما أنزل الله تعالى يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها . وروىعكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد ، فتقول الروح : يا رب لم تكن لي أيدٍ أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ، ويقول الجسد : يا رب خلقتني كالخشبة ، ليست لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها فجاء هذا الروح كشعاع النور فيه نطق لساني ، وبه أبصرت عيناني وبه مشت رجلاي فضرب الله لهما مثلاً أعمى ومقعد دخلا حائطاً ، يعني بستاناً فيه ثمار فالأعمى لا يبصر الثمار والمقعد لا يناله فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر فعليهما العذاب .(4/215)
قوله عز وجل { وضرب الله مثلاً قرية } المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً من شيء آخر بينهما مشابهة ، ليبين أحدهما الآخر ويصوره ، وقيل : هو عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة ، قال الإمام فخر الدين الرازي : المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء ، كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن وقد يضرب بشيء موجود معين ، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئاً مفروضاً ، ويحتمل أن تكون قرية معينة ، وعلى التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها والأكثر من المفسرين على أنها مكة ، والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلاً لمكة ومثل مكة يكون غير مكة ، وقال الزمخشري في كتابه الكشاف : وضرب الله مثلاً قرية أي جعل القرية التي هذه حالها ، مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته ، فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضرب الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها وقال الواحدي : ضرب المثل ببيان المشبه والمشبه به ، وهاهنا ذكر المشبه به ولم يذكر المشبه لوضوحه عند المخاطبين ، والآية عند عامة المفسرين نازلة في أهل مكة وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن ، والنعمة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم فتقدير الآية ضرب الله مثلاً لقريتكم أي بين الله لها شبهاً ثم قال : قرية فيجوز أن تكون القرية بدلاً من مثلاً لأنها هي الممثل بها ، ويجوز أن يكون المعنى ضرب الله مثلاً ، مثل قرية فحذف المضاف هذا قول الزجاج والمفسرون كلهم قالوا : أراد بالقرية مكة يعنون أنه أراد مكة في تمثيلها بقرية صفتها ما ذكر . وقال ابن الجوزي : في هذه القرية قولان : أحدهما أنها مكة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور وهو الصحيح ، والثاني أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز فبعث الله عليهم الجوع ، قاله الحسن . وأقول : هذه الآية نزلت بالمدينة في قول مقاتل وبعض المفسرين ، وهو الصحيح لأن الله سبحانه وتعالى وصف هذه القرية بصفات ستة كانت هذه الصفات موجودة في أهل مكة ، فضربها الله مثلاً لأهل المدينة يحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم ، فيصيبهم ما أصابهم من الجوع والخوف ، ويشهد لصحة ما قلت إن الخوف المذكور في هذه الآية في قوله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف هو البعوث والسرايا التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعثها في قول جميع المفسرين لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالقتال ، وهو بمكة وإنما أُمر بالقتال لما هاجر إلى المدينة ، فكان يبعث البعوث والسرايا إلى حول مكة يخوّفهم بذلك ، وهو بالمدينة والله أعلم بمراده ، وأما تفسير قوله تعالى : وضرب الله مثلاً قرية يعني مكة { كانت آمنة } يعني ذات أمن لا يهاج أهلها ولا يغار عليهم { مطمئنة } يعنى قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها للانتجاع كما كان يحتاج إليه سائر العرب { يأتيها رزقها رغداً } يعني واسعاً { من كل مكان } يعني يحمل إليها الرزق والميرة من البر والبحر .(4/216)
نظيره قوله سبحانه وتعالى تجبى إليه ثمرات كل شيء وذلك بدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو قوله { وارزق أهله من الثمرات } { فكفرت } يعني هذه القرية والمراد أهلها { بأنعم الله } جمع نعمة والمراد بها سائر النعم التي أنعم الله بها على أهل مكة فلما قابلوا نعم الله التي أنعم بها عليهم بالجحود والكفر ، لا جرم أن الله تعالى انتقم منهم فقال تعالى { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } وذلك أن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بالجوع سبع سنين ، فقطع عنهم المطر وقطعت عنهم العرب الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة والجيف الكلاب والميتة والعهن ، وهو الوبر يعالج بالدم ويخلط به حتى يؤكل ، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وقالوا : ما هذا هبك عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان ، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون . والخوف يعني خوف بعوث النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه التي كان يبعثها للإغارة فكانت تطيف بهم وتغير على من حولهم من العرب فكان أهل مكة يخافونهم . فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما ، والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحة أيقاعها عليه ، وهو أن اللباس لايذاق بل يلبس ، فيقال كساهم الله لباس الجوع أو يقال فأذاقهم الله طعم الجوع قلت : قال صاحب الكشاف : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد ، وما يمس الناس منها فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر ، والألم بما يدرك من طعم المر البشع وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الأنسان ، والتبليس به من بعض الحوادث وأما ايقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكأنه قيل فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ، ثم ذكر بعده من علم المعاني والبيان ما يشهد لصحة ما قال . وقال الإمام فخر الدين الرازي : جوابه من وجوه ، الأول ، أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان : أحدهما أن المذوق هو الطعام فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع .(4/217)
والثاني ، أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس ، والحاصل أنه حصل لهم في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق ، وحالة تشبه الملبوس فاعتبر الله كلا الاعتبارين فقال فأذاقهما الله لباس الجوع والخوف ، الوجه الثاني : أن التقدير أن الله عرفها أثر لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة ، وأصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فوضع موضع التعرف ، وهو الاختبار تقول ناظر فلاناً وذاق ما عنده :
ومن يذق الدنيا طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها
ولباس الجوع والخوف ما ظهر عليهم من الضمور ، وشحوب اللون ونهكة البدن وتغيير الحال وكسوف البال ، كما تقول : تعرفت سوء أثر الجوع والخوف على فلان ، كذلك يجوز أن تقول : ذقت لباس الجوع والخوف على فلان . الوجه الثالث : أن يحمل لفظ الذوق واللبس على المماسة ، فصار التقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف ثم قال تعالى { بما كانوا يصنعون } ولم يقل بما صنعت لأنه أراد أهل القرية ، والمعنى : فعلنا بهم ما فعلنا بسبب ما كانوا يصعنون وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عز وجل عليهم بالنعمة العظيمة وهي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وهو منهم فكفروا به وكذبوه وبالغوا في إيذائه ، وأرادوا قتله فأخرجه الله من بينهم وأمره بالهجرة إلى المدينة وسلط على أهل مكة البلاء والشدائد والجوع والخوف كل ذلك بسبب تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجه من بين أظهرهم . قوله سبحانه وتعالى { ولقد جاءهم } يعني أهل مكة { رسول منهم } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يعرفون نسبه ، ويعرفونه قبل النبوة وبعدها { فكذبوه فأخذهم العذاب } يعني الجوع والخوف وقيل القتل يوم بدر ، والقول الأول أولى لما تقدم في الآية { وهم ظالمون } يعني كافرون { فكلوا مما رزقكم الله } في المخاطبين بهذا قولان : أحدهما ، أنهم المسلمون ، وهو قول جمهور المفسرين ، والثاني ، أنهم هم المشركون من أهل مكة . قال الكلبي : لما اشتد الجوع بأهل مكة كلم رؤساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنك إنما عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملوا الطعام إليهم حكاه الواحدي وغيره والقول الأول هو الصحيح . قال ابن عباس فكلوا يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله يريد الغنائم { حلالاً طيباً } يعني أن الله سبحانه وتعالى أحل الغنائم لهذه الأمة وطيبها لهم ولم تحل لأحد قبلهم { واشكروا نعمة الله } يعني التي أنعم بها عليكم { إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم } تقدم تفسير هذه الآية وأحكامها في سورة البقرة فلم نعده هنا ، وقوله تعالى { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب } يعني ولا تقولوا لأجل وصفكم الكذب { هذا حلال وهذا حرام } يعني أنكم تحلون وتحرمون لأجل الكذب لا لغيره فليس لتحليلكم وتحريمكم معنى وسبب إلا الكذب فقط ، فلا تفعلوا ذلك .(4/218)
قال مجاهد : يعني البحيرة والسائبة . وقال ابن عباس : يعني قولهم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ، ومحرم على أزواجنا وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يحلون أشياء ويحرمون أشياء من عند أنفسهم ، وينسبون ذلك إلى الله تعالى وهو قوله تعالى { لتفتروا على الله الكذب } يعني لا تقولوا إن الله أمرنا بذلك فتكذبوا على الله لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله ثم توعد المفترين للكذب فقال سبحانه وتعالى { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } يعني : لا ينجون من العذاب ، وقيل : لا يفوزون بخير لأن الفلاح هو الفوز بالخير والنجاح ثم بين أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم عن قريب فقال تعالى { متاع قليل } يعني متاعهم في الدنيا قليل فإنه لا بقاء له { ولهم عذاب إليم } يعني في الآخرة .(4/219)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{ وعلى الذين هادوا } يعني اليهود { حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } يعني ما سبق ذكره وبيانه في سورة الأنعام وهو قوله تعالى { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } الآية { وما ظلمناهم } يعني بتحريم ذلك عليهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } يعني إنما حرمنا عليهم ما حرمنا بسبب بغيهم وظلمهم أنفسهم ونظيره قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم . وقوله تعالى { ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة } المقصود من هذه الآية بيان فضل الله وكرمه وسعة مغفرته ورحمته ، لأن السوء لفظ جامع لكل فعل قبيح فيدخل تحته الكفر وسائر المعاصي وكل ما لا ينبغي وكل من عمل السوء فإنما يفعله بجهالة ، لأن العاقل لا يرضى بفعل القبيح فمن صدر عنه فعل قبيح من كفر أو معصية ، فإنما يصدر عنه بسبب جهله إما لجهله بقدر ما يترتب عليه من العقاب أو لجهله بقدر من يعصيه ، فثبت بهذا أن فعل السوء إنما يفعل بجهالة ثم إن الله تعالى وعد من عمل سوءاً بجهالة ثم تاب ، وأصلح العمل في المستقبل أن يتوب عليه ويرحمه وهو قوله تعالى ثم تابوا من بعد ذلك ، يعني من بعد عمل ذلك السوء { وأصلحوا } يعني أصلحوا العمل في المستقبل ، وقيل معنى الإصلاح الاستقامة على التوبة { إن ربك من بعدها } يعني من بعد عمل السوء بالجهالة والتوبة منه { لغفور } يعني لمن تاب وآمن { رحيم } يعني بجميع المؤمنين والتائبين . قوله سبحانه وتعالى { إن إبراهيم كان أمة } حكى ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال : هذا مثل قول العرب : فلان رحمة وفلان علامة ونسابة يقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه به . والعرب توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد كقوله تبارك وتعالى { فنادته الملائكة } وإنما ناداه جبريل وحده ، وإنما سمي إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمة لأنه اجتمع فيه من صفات الكمال وصفات الخير الأخلاق الحميدة ما اجتمع في أمة . ومنه قول الشاعر :
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
ثم للمفسرين في معنى اللفظة أقوال أحدها : قول ابن مسعود : الأمة معلم الخير يعني أنه كان معلماً للخير يأتّم به أهل الدنيا . والثاني قال مجاهد : إنه كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار فلهذا المعنى كان أمة واحدة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل « يبعثه الله أمة واحدة » وإنما قال فيه المقالة لأنه كان فارق الجاهلية وما كانوا عليه من عبادة الأصنام . والثالث قال قتادة : ليس من أهل دين إلا وهم يتلونه ويرضونه ، وقيل : الأمة فعلة بمعنى مفعولة ، وهو الذي يؤتم به وكان إبراهيم عليه السلام إماماً يقتدى به دليله قوله سبحانه وتعالى(4/220)
{ إني جاعلك للناس إماماً } وقيل إنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ومن تبعه ممتازين عمن سواهم بالتوحيد لله والدين الحق وهو من باب إطلاق المسبب على السبب ، وقيل : إنما سمي إبراهيم عليه السلام أمة لأنه قام مقام أمة في عبادة الله { قانتاً لله } يعني مطيعاً لله وقيل هو القائم بأوامر الله { حنيفاً } مسلماً يعني مقيماً على دين الإسلام لا يميل عنه ولا يزول . وهو أو من اختتن وضحّى ، وأقام مناسك الحج { ولم يك من المشركين } يعني أنه عليه السلام كان من الموحدين المخلصين من صغره إلى كبره { شاكراً لأنعمه } يعني أنه كان شاكراً لله على أنعمه التي أنعم بها عليه { اجتباه } أي اختاره لنبوته واصفطاه لخلته { وهداه إلى صراط مستقيم } يعني هداه إلى دين الإسلام لأنه الصراط المستقيم والدين القويم { وآتيناه في الدنيا حسنة } يعني الرسالة والخلة . وقيل : هي لسان الصدق والثناء الحسن والقبول العام في جميع الأمم فإن الله حببه إلى جميع خلقه فكل أهل الأديان يتلونه المسلمون واليهود والنصارى ، ومشركو العرب وغيرهم ، وقيل : هو قول المصلي في التشهد : اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم . وقيل إنه آتاه أولاداً أبراراً على الكبر { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } يعني في أعلى مقامات الصالحين في الجنة . وقيل : معناه وإنه في الآخرة لمن الصالحين يعني الأنبياء في الجنة فتكون من بمعنى مع ولما وصف الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات الشريفة العالية ، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه سلم باتباعه فقال تعالى { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم } يعني دينه وما كان عليه من الشريعة والتوحيد . قال أهل الأصول : كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ منها وما لم ينسخ صار شرعاً له ، وقال أبو جعفر الطبري أمره باتباعه في التبري من الأوثان والتدين بدين الإسلام وهو قوله { حنيفاً } مسلماً { وما كان من المشركين } تقدم تفسيره .(4/221)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
وقوله تعالى : { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } يعني إنما فرض تعظيم السبت على الذين اختلفوا فيه وهم اليهود . روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : أمرهم موسى بتعظيم يوم الجمعة فقال : تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً فاعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئاً من صنعتكم وستة أيام لصنعتكم ، فأبوا عليه وقالوا لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق ، وهو يوم السبت فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضاً بيوم الجمعة . فقالت النصارى لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا يعنون اليهود فاتخذوا الأحد فأعطى الله عز وجل الجمعة لهذه الأمة فقبلوها ، فبورك لهم فيها ( ق ) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا فاختلفوا فيه ، وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم ، فاختلفوا فيه فهدانا الله له فهم لنا فيه تبع فغداً لليهود ، وبعد غد للنصارى » وفي رواية لمسلم « نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أو من يدخل الجنة » وفي رواية أخرى له قال « أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم لنا تبع يوم القيامة نحن الآخرون في الدنيا ، والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق » قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم : قال العلماء في معنى الحديث : نحن الآخرون في الزمان والوجود السابقون في الفضل ودخول الجنة فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم . وقوله بيد أنهم يعني غير أنهم أو إلا أنهم . وقوله فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له قال : القاضي عياض الظاهر أنهم فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين ووكل إلى اجتهادهم لإقامة شرائعهم فيه ، فاختلف أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله له وفرضه على هذه الأمة مبيناً ، ولم يكلهم إلى اجتهادهم ففازوا بفضيلته قال : يعني القاضي عياضاً وقد جاء أن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة ، وأعلمهم بفضله فناظروه أن السبت أفضل . فقيل له دعهم . قال القاضي : ولو كان منصوصاً عليه لم يصح اختلافهم فيه بل كان يقول : خالفوه فيه . قال الشيخ محيي الدين النووي : ويمكن أن يكونوا أمروا به صريحاً ونص على عينه فاختلفوا فيه هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله فأبدلوه ، وغلطوا في إبداله . قال الإمام فخرالدين الرازي في قوله تعالى { على الذين اختلفوا فيه } يعني على نبيهم موسى ، حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت فاختلافهم في السبت كان اختلافاً على نبيهم في ذلك اليوم ، أي لأجله وليس معنى قوله اختلفوا فيه أن اليهود اختلفوا ، فمنهم من قال بالسبت ، ومنهم من لم يقل به ، لأن اليهود اتفقوا على ذلك .(4/222)
وزاد الواحدي على هذا فقال : وهذا مما أشكل على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم : معنى الاختلاف في السبت أن بعضهم قال : هو أعظم الأيام حرمة لأن الله فرغ من خلق الأشياء ، وقال الآخرون بل الأحد أفضل لأن الله سبحانه وتعالى ، ابتدأ فيه بخلق الأشياء ، وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فريقين في السبت ، وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان طويل . فان قلت إن اليهود إنما اختاروا السبت ، لأن أهل الملل اتفقوا على أن الله خلق الخلق في ستة أيام وبدأ الخلق والتكوين في يوم الأحد ، وتم الخلق يوم الجمعة وكان يوم السبت يوم فراغ فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك العمل في هذا اليوم ، فاختاروا السبت لهذا المعنى وقالت النصارى : إنما بدأ بخلق الأشياء في يوم الأحد فنحن نجعل هذا اليوم عيداً لنا ، وهذان الوجهان معقولان فما وجه فضل يوم الجمعة حتى جعله أهل الإسلام عيداً؟ قلت : يوم الجمعة أفضل الأيام لأن كمال الخلق وتمامه كان فيه وحصول التمام والكمال يوجب الفرح والسرور فجعل يوم الجمعة عيداً بهذا الوجه وهو أولى . ووجه آخر وهو أن الله عز وجل خلق فيه أشرف خلقه ، وهو آدم عليه السلام وهو أبو البشر وفيه تاب عليه فكان يوم الجمعة أشرف الأيام لهذا السبب ، ولأن الله سبحانه وتعالى اختار يوم الجمعة لهذه الأمة وادخره لهم ولم يختاروا لأنفسهم شيئاً ، وكان ما اختاره الله لهم أفضل مما اختاره غيرهم لأنفسهم ، وقال بعض العلماء : بعث الله موسى بتعظيم يوم السبت ثم نسخ بيوم الأحد في شريعة عيسى عليه السلام ثم نسخ يوم السبت ، ويوم الأحد بيوم الجمعة في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فكان أفضل الأيام يوم الجمعة كما أن محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء . وفي معنى الآية قول آخر قال قتادة : الذي اختلفوا فيه اليهود استحله بعضهم ، وحرمه بعضهم فعلى هذا القول يكون معنى قوله إنما جعل السبت أي وبال السبت ولعنته على الذين اختلفوا فيه ، وهم اليهود فأحله بعضهم فاصطادوا فيه فلُعنوا ومسخوا قردة وخنازير في زمن داود عليه السلام ، وقد تقدمت القصة في تفسير سورة الأعراف وبعضهم ثبت على تحريمه ، فلم يصطد فيه شيئاً وهم الناهون والقول الأول أقرب إلى الصحة . وقوله تعالى { وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } يعني في أمر السبت فيحكم الله بينهم يوم القيامة فيجازي المحقيين بالثواب المبطلين بالعقاب .(4/223)
قوله عز وجل { ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } يعني ادع إلى دين ربك يا محمد ، وهو دين الإسلام بالحكمة يعني بالمقالة المحكمة الصحيحة ، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة والموعظة الحسنة ، يعني وادعهم إلى الله بالترغيب والترهيب وهو أنه لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصد ما ينفعهم { وجادلهم بالتي هي أحسن } يعني بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة في الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف . وقيل : إن الناس اختلفوا وجعلوا ثلاثة أقسام : القسم الأول هم العلماء والكاملون أصحاب العقول الصحيحة والبصائر الثاقبة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها ، فهؤلاء المشار إليهم بقوله { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } يعني ادعهم بالدلائل القطيعة اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها حتى ينتفعوا وينفعوا الناس وهم خواص العلماء من الصحابة وغيرهم . القسم الثاني : هم أصحاب الفطرة السليمة ، والخلقة الأصيلة وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حدّ الكمال ، ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوساط الأقسام ، وهم المشار إليهم بقوله : والموعظة الحسنة أي ادع هؤلاء بالموعظة الحسنة . القسم الثالث : هم أصحاب جدال وخصام ومعاندة ، وهؤلاء المشار إليهم بقوله : وجادلهم بالتي هي أحسن حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه . وقيل : المراد بالحكمة القرآن يعني ادعهم بالقرآن الذي هو حكمة وموعظة حسنة ، وقيل : المراد بالحكمة النبوة أي ادعهم بالنبوة والرسالة والمراد بالموعظة الحسنة الرفق واللين في الدعوة ، وجادلهم بالتي هي أحسن أي أعرض عن أذاهم ولا تقصر في تبليغ الرسالة ، والدعاء إلى الحق فعلى هذا القول قال بعض علماء التفسير : هذا منسوخ بآية السيف { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } يعني إنما عليك يا محمد تبليغ ما أرسلت به إليهم ودعاؤهم بهذه الطرق الثلاثة وهو أعلم بالفريقين الضال والمهتدي فيجازي كل عامل بعمله قوله سبحانه وتعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } نزلت هذه الآية بالمدينة في سبب شهداء أحد وذلك أن المسليمن لما رأوا ما فعل المشركون بقتلى المسلمين يوم أحد من تبقير البطون ، والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظلة بن أبي عامر الراهب ، وذلك أن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا الله عليهم ، لنربين على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد . ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وآذانه وقطعوا مذاكيره ، وبقروا بطنه وأخذت هند بن عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تنزل في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « أما إنها لو أكلتها لم تدخل النار أبداً حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئاً من جسده النار »(4/224)
فلما نظر رسول الله إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رحمة الله عليك فإنك ما علمنا ما كنت إلا فعّالاً للخيرات ، وصولاً للرحم ولو كان حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك » فأنزل الله عز وجل { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بل نصبر وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه » عن أبي بن كعب قالك لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم فقال الأنصار : لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم . قال : فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله عز وجل { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } فقال رجل : لا قريش بعد اليوم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كفروا عن القوم إلا أربعة » أخرجه الترمذي . وقال حديث حسن غريب وأما تفسير الآية فقوله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة في الكلام ، والمعنى إن صنع بكم سوء من قتل أو مثلة ونحوها ، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه فهو كقوله { وجزاء سيئة سيئة مثلها } أمر الله برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية في باب استيفاء الحقوق . يعني : إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقتصوا بالمثل ، ولا تزيدوا عليه فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله وشرعه ورحمته ، وفي الآية دليل على أن الأولى ترك استيفاء القصاص وذلك بطريق الإشارة والرمز والتعريض ، بأن الترك أولى فإن كان لا بد من استيفاء القصاص فيكون من غير زيادة عليه بل يجب مراعاة المماثلة ثم انتقل من طريق الإشارة إلى طريق التصريح فقال تعالى { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } يعني ولئن عفوتم ، وتركتم استيفاء القصاص وصبرتم كان ذلك العفو ، والصبر خيراً من استيفاء القصاص وفيه أجر للصابرين والعافين .
فصل
اختلفت العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا ، على قولين : أحدهما أنها نزلت قبل براءة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال ثم نسخ ذلك وأمر بالجهاد وهذا قول ابن عباس والضحاك ، فعلى هذا يكون معنى قوله ولئن صبرتم عن القتال ، فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد ، ونسخ هذا بقوله : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية ، القول الثاني : أنها أحكمت ، وأنها نزلت فيمن ظلم ظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال منها الظالم وهذا قول مجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والثوري .(4/225)
قال بعضهم : الأصح أنها محكمة لأن الآية واردة في تعليم حسن الأدب في كيفية استيفاء الحقوق وفي القصاص وترك التعدي وهو طلب الزيادة ، وهذه الأشياء لا تكون منسوخة فلا تعلق لها بالنسخ والله أعلم . قوله عز وجل { واصبر وما صبرك إلا بالله } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر ، وأعلمه أن صبره بتوفيقه ومعونته { ولا تحزن عليهم } يعني على الكافرين ، وإعراضهم عنك وقيل : معنى الآية ولا تحزن على قتلى أحد وما فعل بهم فإنهم أفضوا إلى رحمة الله ورضوانه { ولا تك في ضيق مما يمكرون } يعني : ولا يضيقن صدرك يا محمد بسبب مكرهم ، فإن الله كافيك وناصرك عليهم . قرىء في ضيق بفتح الضاد وكسرها ، فقيل لغتان . وقال أبو عمر : والضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة ، وقال أبو عبيدة الضيق بالكسر في قلة المعاش وفي المسكين وإما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح ، وقال القتيبي : الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين فعلى هذا يكون صفة كأنه قال سبحانه وتعالى : ولا تك في أمر ضيق من مكرهم . قال الإمام فخر الدين الرازي : وهذا الكلام من المقلوب ، لأن الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف ، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى لا يكن الضيق حاصلاً فيك إلا أن الفائدة في قوله : ولا تك في ضيق ، هي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل جانب ، كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ بهذا المعنى { إن الله مع الذين اتقوا } أي اتقو المثلة والزيادة في القصاص وسائر المناهي { والذين هم محسنون } يعني بالعفو عن الجاني ، وهذه المعية بالعون والفضل والرحمة يعني إن أردت أيها الإنسان أن أكون معك بالعون والفضل والرحمة ، فكن من المتقين المحسنين ، وفي هذا إشارة إلى التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله . قال بعض المشايخ : كمال الطريق صدق مع الحق ، وخلق مع الخلق وكمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به ، وقيل لهرم ابن حيان عند الموت : أوص . فقال : إنما الوصية في المال ولا مال لي ، ولكني أوصيك بخواتيم سورة النحل . والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .(4/226)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
قوله عز وجل { سبحان الذين أسرى بعبده ليلاً } روى ابن الجوزي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن تفسير سبحان الله فقال : « تنزيه الله عن كل شيء » هكذا ذكره بغير سند وقال النحويون : سبحان اسم علم على التسبيح يقال سبحت الله تسبيحاً فالتسبيح هو المصدر وسبحان الله علم للتسبيح وتفسير سبحان الله ، تنزيه الله عن كل سوء ونقيصة وأصله في اللغة التباعد فمعنى سبحان الله بعده ونزاهته عن كل ما لا يبغي { الذي أسرى } يقال سري به وأسري به لغتان { بعده } أجمع المفسرون والعلماء والمتكلمون ، أن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلف أحد من الأمة في ذلك ، وقوله بعبده إضافة تشريف وتعظيم وتبجيل وتفخيم وتكريم ومنه قول بعضهم .
لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي
قيل : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الدرجات العالية والرتب الرفيعة ليلة المعراج ، أوحى الله عز وجل إليه يا محمد بم شرفتك؟ قال : رب حيث نسبتني إلى نفسك بالعبودية . فانزل الله سبحانه وتعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً . فإن قلت : الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل . قلت : أراد بقوله ليلاً بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسري به في بعض ليلة من مكة إلى الشام مسيرة شهر أو أكثر ، فدل تنكير الليل على البعضية { من المسجد الحرام } قيل كان الإسراء من نفس مسجد مكة وفي حديث مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر » وذكر حديث المعراج ، وسيأتي بكماله فيما بعد وقيل عرج به من دار أم هانىء بنت أبي طالب وهي بنت عمه أخت علي رضي الله تعالى عنه ، فعلى هذا أراد بالمسجد الحرام الحرم { إلى المسجد الأقصى } يعني إلى بيت المقدس سمي أقصى لبعده عن المسجد الحرام أو لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد { الذي باركنا حوله } يعني الأنهار والأشجار والثمار ، وقيل سماه مباركاً لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي وقبلة الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإليه تحشر الخلق يوم القيامة . فإن قلت : ظاهر الآية يدل على أن الإسراء كان إلى بيت المقدس والأحاديث الصحيحة تدل على أنه عرج به إلى السماء فكيف الجمع بين الدليلين ، وما فائدة ذكر المسجد الأقصى فقط؟ قلت : قد كان الإسراء على ظهر البراق إلى المسجد الإقصى ، ومنه كان عروجه إلى السماء على المعراج وفائدة ذكر المسجد الأقصى فقط أنه صلى الله عليه وسلم لو أخبر بصعوده إلى السماء أولاً لاشتد إنكارهم لذلك فلما أخبر أنه أسرى به إلى بيت المقدس ، وبان لهم صدقه فيما أخبر به من العلامات التي فيه وصدقوه عليها أخبر بعد ذلك بعروجه إلى السماء ، فجعل الإسراء إلى المسجد الأقصى كالتوطئة لمعراجه إلى السماء .(4/227)
وقوله تعالى : { لنريه من آياتنا } يعني من عجائب قدرتنا فقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الأنبياء وصلى بهم ورأى الآيات العظام . فإن قلت لفظة من قوله من آياتنا تقتضي التبعيض وقال في حق إبراهيم عليه السلام وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض ، وظاهر هذا يدل على فضيلة إبراهيم عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم ولا قائل به فما وجهه . قلت : ملكوت السموات والأرض من بعض آيات الله أيضاً ولآيات الله أفضل من ذلك وأكثر والذي أراه محمداً صلى الله عليه وسلم من آياته وعجائبه تلك الليلة كان أفضل من ملكوت السموات والأرض ، فظهر بهذا البيان فضل محمد صلى الله عليه وسلم على إبراهيم صلى الله عليه وسلم { إنه هو السميع } لأقواله ودعائه { البصير } لأفعاله الحافظة له في ظلمة الليل وقت إسرائه وقيل إنه هو السميع لما قالته له قريش حين أخبرهم بمسراه إلى بيت المقدس { البصير } بما ردوا عليه من التكذيب . وقيل : إنه هو السميع لأقوال جميع خلقه البصير بأفعالهم فيجازي كل عامل بعمله . وحمله على العموم أولى .
فصل
في ذكر حديث المعراج وما يتعلق به من الأحكام ، وما قال العلماء فيه ( ق ) حدثنا قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال : « بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضطجعاً ، ومنهم من قال بين النائم واليقظان إذ أتاني آت فقد قال وسمعته يقول : فشق ما بين هذه إلى هذه فقلت للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به قال من ثغرة نحره إلى شعرته سمعته يقول من قصته إلى شعرته ، فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيماناً ، فغسل قلبي ثم حشى ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض فقال له الجارود : أهو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس : نعم يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه ، فانطلق بي جبريل عليه السلام حتى أتى المساء الدنيا فاستفتح فقيل : من هذا؟ قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل : وقد أرسل إليه قال : نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال : هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح . قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال : محمد قيل : وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة قال : هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت فردا ثم قالا : مرحباً بالأخ الصالح ، والنبي الصالح . ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل : ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال : نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت إذا يوسف ، قال : هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل : ومن معك؟ قال : محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت ، فإذا إدريس قال : هذا إدريس فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحباً فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا هارون قال : هذا هارون فسلم عليه فسلمت فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قال مرحباً فنعم المجيء فلما خلصت فإذا موسى قال : هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزت بكى قيل له : ما يبكيك؟ قال : أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل : ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء لما خلصت فإذا إبراهيم قال : هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة قال : هذه سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران ، فقلت : ما هذان يا جبريل قال : أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ، ثم رفع لي البيت المعمور ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن فقال : هي الفطرة أنت عليها وأمتك ثم فرضت على الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت ، فمررت على موسى فقال بم أمرت قلت : أمرت بخمسين صلاة كل يوم . قال : إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإني والله قد جربت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فرجعت فوضع عني عشراً ، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشراً ، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشراً ، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم ، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم فرجعت إلى موسى ، قال : بم أمرت؟ قلت : بخمس صلوات كل يوم قال : إن أمتك لا تستييع خمس صلوات كل يوم وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال سألت : ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم قال : فلما جاوزت نادى منادي أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي »(4/228)
زاد في رواية أخرى « وأجزي بالحسنة عشراً » وفي رواية أخرى « بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وفيه ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملىء إيماناً وحكمة ، وفيه فرفع إلى البيت المعمور فسألت جبريل فقال هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، إذا خرجوا لم يعودوا مرة أخرى » ( ق ) « عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ، ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيماناً ، فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء الدنيا : افتح قال من هذا قال هذا جبريل قيل هل معك أحد قال : نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم قال : فأرسل إليه قال نعم فافتح ففتح قال : فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال فإذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح ، قال : قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم ، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله أهل النار ، فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى ، قال : ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية فقال لخازنها : افتح . فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح . قال أنس بن مالك : فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وعيسى وموسى وإبراهيم ، ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه قد وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة ، قال : لما مر جبريل ورسول الله بإدريس قال مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح ، قال : ثم مر فقلت من هذا قال هذا إدريس قال : ثم مررت بموسى فقال مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح قال : فقلت من هذا قال : هذا موسى . قال ثم مررت بعيسى فقال مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا قال : عيسى ابن مريم قال ثم مررت بإبراهيم فقال مرحباً بالنبي الصالح والإبن الصالح قال فقلت من هذا قال هذا إبراهيم . قال ابن شهاب : وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام . قال ابن حزم وأنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ففرض الله على أمتي خمسين صلاة قال : فرجعت بذلك حتى مررت بموسى فقال موسى : ما فرض ربك على أمتك؟ قلت : فرض عليهم خمسين صلاة . قال لي موسى : فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال فراجعت ربي فوضع شطرها . قال فرجعت إلى موسى فأخبرته قال : راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال : فراجعت ربي فقال : هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي قال فرجعت إلى موسى فقال : راجع ربك فقلت قد استحييت من ربي قال : ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما ماهي؟ قال : ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك »(4/229)
( ق ) عن شريك بن أبي نمر « أنه سمع أنس بن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام . فقال أولهم : أيهم هو؟ فقال أوسطهم هو خيرهم فقل آخرهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ، ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشواً إيماناً ، وحكمة فحشا به صدره ولغاد يده يعني عروق حلقه ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء من هذا فقال جبريل قالوا : ومن معك قال معي محمد قالوا : وقد بعث إليه قال نعم قالوا : مرحباً به وأهلاً يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء ما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم فوجد في السماء الدنيا آدم عليه السلام فقال له جبريل : هذا أبوك آدم فسلم عليه ورد عليه السلام وقال : مرحباً وأهلاً اي بني نعم الابن أنت فإذا هو في السماء الدنيا ، بنهرين يطردان فقال : ما هذان النهران يا جبريل؟ قال : هذان النيل والفرات عنصر هما ثم مضى به في السماء ، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر قال ما هذا يا جبريل قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ثم عرج إلى السماء الثانية فقالت الملائكه له مثل ما قالت له الأولى من هذا؟ قال جبريل قالوا : ومن معك قال محمد قالوا : وقد بعث إليه قال : نعم قالوا : مرحباً به وأهلاً ثم عرج به إلى السماء الثالثة . وقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية . ثم عرج به إلى الرابعة فقالوا له مثل ذلك . ثم عرج به إلى السماء الخامسة . فقالوا له مثل ذلك . ثم عرج به إلى السماء السادسة . فقالوا له مثل ذلك . ثم عرج به إلى السماء السابعه . فقالوا له مثل ذلك . كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة ، وآخر في الخامسة ولم أحفظ أسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله فقال موسى : رب لم أظن أن يرفع علي أحد ، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى فكان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة ، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال : يا محمد ماذا عهد إليك ربك قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة قال : إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار تعالى ، فقال : وهو مكانه يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت خمس صلوات ، ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال : يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا ، فضعفوا فتركوه فأمتك أضعف أجساداً وقلوباً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً ، فارجع فليخفف عنك ربك كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام ليشير عليه ، فلا يكره ذلك جبريل فرفعه عند الخامسة فقال : يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم ، فخفف عنا . فقال الجبار : يا محمد . قال : لبيك وسعديك قال : إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب قال : فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك فرجع إلى موسى فقال : كيف فعلت؟ قال : خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها . قال موسى : قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا موسى قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه . قال : فاهبط بسم الله فاستيقظ وهو في المسجد الحرام »(4/230)
هذا لفظ حديث البخاري وأدرج مسلم حديث شريك بن أنس الموقوف عليه في حديث ثابت البناني المسند ، فذكر من أول حديث شريك طرفاً ثم قالك وساق الحديث نحو حديث ثابت قال مسلم ، وقدم وأخر وزاد ونقص وليس في حديث ثابت من هذه الألفاظ إلا ما نورده على نصه ، أخرجه مسلم وحده وهو حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عن منتهى طرفه . قال : فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل عليه السلام اخترت الفطرة قال ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل : من أنت؟ قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ، قال : قد بعث إليه ففتح لنا ، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا فرحبا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ، فاسستفتح جبريل فقيل من أنت قال جبريل ، قيل ومن معك قال محمد ، قيل : وقد بعث إليه ، قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام فإذا هو قد أعطى شطر الحسن ، قال : فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة . فاستفتح جبريل فقيل : من هذا؟ قال جبريل قيل : ومن معك؟ قال : محمد قيل وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب ودعا لي بخير ، قال الله تعالى ورفعناه مكاناً علياً ثم عرج بنا إلى الخامسة . فاستفتح جبريل فقيل : من هذا قال : جبريل قيل : ومن معك قال محمد قيل : وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل ، فقيل من هذا قال جبريل قيل : ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل : من هذا قال : جبريل قيل : ومن معك؟ قال محمد قيل : وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كأذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلائل فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، فأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى فقال : ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال : فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب خفف على أمتي فحط عني خمساً فرجعت إلى موسى فقلت : قد حط عني خمساً قال : إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال : فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى حتى قال يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً ، فإن عملها كتبت واحدة قال فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقلت قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه »(4/231)
هذه رواية مسلم وأخرجه الترمذي مختصراً وفيه « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسرى به ملجماً مسرجاً ، فاستصعب عليه فقال له جبريل أبمحمد تفعل هكذا ما ركبك أحد أكرم على الله منه فارفض عرقاً » وأخرجه النسائي مختصراً ، والمعنى واحد وفي آخره قال : فرجعت إلى ربي فسألته التخفيف فقال إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك فعرفت أن أمر الله جرى بقول حتم فلم أرجع .
فصل
قال البغوي : قال بعض أهل الحديث ما وجدنا للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلا حديث شريك بن أبي نمر عن أنس ، وأحال الأمر فيه على شريك وذلك أنه ذكر فيه إن ذلك كان قبل الوحي ، واتفق أهل العلم على أن المعراج كان بعد الوحي بنحو من اثنتي عشرة سنة وفيه أن الجبار تبارك وتعالى دنا فتدلى وذكرت عائشة أن الذي دلى هو جبريل عليه السلام . قال البغوي : وهذا الاعتراض عندي لا يصح لأن هذا كان رؤيا في النوم أراه الله ذلك قبل أن يوحى إليه بدليل آخر الحديث ، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي ، وقبل الهجرة بسنة تحقيقاً لرؤياه التي رآها من قبل كما أنه رأى فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ثم كان تحقيقها سنة ثمان ، ونزل قوله سبحانه وتعالى : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق .(4/232)
وقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في كتابه شرح مسلم : قد جاء في رواية شريك في هذا الحديث أوهام أنكرها عليه العلماء وقد نبه مسلم على ذلك بقوله قدم وأخر وزاد ونقص منه قوله وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه فإنه الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر شهراً . وقال الحربي : كانت ليلة الإسراء ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة ، وقال الزهري : كان ذلك بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمس سنين . وقال ابن إسحاق : أسري به صلى الله عليه وسلم وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل . قال الشيخ محيي الدين : وأشبه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق وأما قوله في رواية شريك وهو نائم وفي الرواية الأخرى بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ، فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم ، ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك حالة أو وصول الملك إليه ، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائماً في القصة كلها هذا كلام القاضي عياض ، وهذا الذي قاله في رواية شريك وأن أهل العلم قد أنكروها قد قاله غيره ، وقد ذكر البخاري في رواية شريك هذه عن أنس في كتاب التوحيد من صحيحه ، وأتى بالحديث مطولاً . قال الحافظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس قد زاد فيه زيادة مجهولة ، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين ، والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى شريك ، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث قال : والأحاديث التي تقدمت قبل هذا هي المعمول عليها .
فصل
في شرح بعض ألفاظ حديث المعراج وما يتعلق به ، كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة يقال كانت في رجب ويقال في رمضان وقد تقدم زيادة على هذا القدر في الفصل الذي قبل هذا واختلف الناس في الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : إنما كان ذلك في المنام والحق الذي عليه أكثر الناس ، ومعظم السلف وعامة الخلف من المتأخرين والفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسري بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } ولفظ العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد ، والأحاديث الصحيحة التي تقدمت تدل على صحة هذا القول لمن طالعها ، وبحث عنها وحكى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن حذيفة أنه قال : كل ذلك كان رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أسري بروحه .(4/233)
وحكي هذا القول عن عائشة أيضاً وعن معاوية ونحوه والصحيح ما عليه جمهور العلماء من السلف والخلق والله أعلم قوله صلى الله عليه سلم أتيت بالبراق هو اسم للدابة التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به واشتقاقه من البرق لسرعته ، أو لشدة صفائه وبياضه ولمعانه وتلألؤه ونوره والحلقة باسكان اللام ، ويجوز فتحها والمراد بربط البراق بالحلقة الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب ، وإن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى وقوله جاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فيه اختصار والتقدير ، قال لي اختر فاخترت اللبن وهو قول جبريل اخترت الفطرة يعني فطرة الإسلام ، وجعل اللبن علامة للفطرة الصحيحة السليمة لكونه سهلاً طيباً سائغاً للشاربين وأنه سليم العاقبة ، بخلاف الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع الشر . قوله : ثم عرج بي حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل : من أنت قال : جبريل فيه بيان الأدب لمن استأذن وأن يقول : أنا فلان ولا يقول : أنا فإنه مكروه وفيه أن للسماء أبواباً وبوابين وأن عليها حرساً وقول بواب السماء وقد أرسل إليه ، وفي الرواية الأخرى وقد بعث إليه معناه للإسراء وصعوده السماء وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة ، فإن ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدة هذا هو الصحيح في معناه ، وقيل غيره وقوله فإذا أنا بآدم وذكر جماعة من الأنبياء فيه استحباب لقاء أهل الفضل والصلاح بالبشر والترحيب والكلام اللين الحسن ، وإن كان الزائر أفضل من المزور وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه من الإعداب وغيره من أسباب الفتنة وقوله فإذا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور فيه دليل على جواز الاستناد إلى القبلة ، وتحويل ظهره إليها . وقوله ثم ذهب بي إلى السدرة هكذا ، وقع في هذه الرواية السدرة الألف واللام وفي باقي الروايات إلى سدرة المنتهى قال ابن عباس وغيره من المفسرين : سميت بذلك لأن علم الملائكة ينتهي إليها . ولم يجاوزها أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن مسعود : سميت بذلك لكونها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها ، وما يصعد من تحتها من أمر الله عز وجل وقوله وإذا ثمرها كالقلال ، هو بكسر القاف جمع قلة بضمها ، وهي الجرة الكبيرة التي تسع قربتين أو أكثر قوله فرجعت إلى ربي . قال الشيخ محيي الدين النووي : معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته فيه أولاً فناجيته فيه ثانياً وقوله : فلم أزل أرجع بين موسى وبين ربي معناه وبين موضع مناجاة ربي عز وجل .(4/234)
قلت : وأما الكلام على معنى الرؤية وما يتعلق بها فإنه سيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة النجم ، عند قوله تعالى ثم دنا فتدلى قوله ففرض الله سبحانه وتعالى على أمتي خمسين صلاة إلى قوله فوضع شطرها وفي الرواية الأخرى فوضع عني عشراً وفي الأخرى خمساً ليس بين هذه الرواية منافاة ، لأن المراد بالشطر الجزء وهو الخمس ، وليس المراد منه التصنيف ، وأما رواية العشر فهي رواية شريك ورواية الخمس رواية ثابت البناني وقتادة ، وهما أثبت من شريك فالمراد حط عني خمساً إلى آخره ثم قال : خمس وهن خمسون يعني خمسين في الأجر والثواب لأن الحسنة بعشر أمثالها ، واحتج العلماء بهذا الحديث على جواز نسخ الشيء قبل فعله وفي أول الحديث أنه شق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، وقد شق أيضاً في صغره وهو عند حليمة التي كانت ترضعه ، فالمراد بالشق الثاني زيادة التطهير لمن يراد به من الكرامة ليلة المعراج . وقوله : أتيت بطست من ذهب ، قد يتوهم متوهم أنه يجوز استعمال إناء الذهب لنا وليس الأمر كذلك لأن هذا الفعل من فعل الملائكة ، وهو مباح لهم استعمال الذهب أو يكون هذا قد كان قبل تحريمه وقوله ممتلىء إيماناً وحكمة فأفرغها في صدري . فان قلت الحكمة والإيمان معان والإفراغ صفة الإجسام ، فما معنى ذلك؟ قلت : يحتمل أنه جعل في الطست شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما ، فسمي إيماناً وحكمة لكونه سبباً لهما وهذا من أحسن المجاز . وقوله في صفة آدم عليه السلام : فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة هو جمع سواد ، وقد فسره في الحديث بأنه نسم بنيه يعني أرواح بنيه وقد اعترض على هذا ، بأن أرواح المؤمنين في السماء وأرواح الكفار تحت الأرض السفلى فكيف تكون في السماء والجواب عنه أنه يحتمل أن أرواح الكفار ، تعرض على آدم عليه السلام ، وهو في السماء فوافق وقت عرضها على آدم مرور النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر بما رأى . وقوله : فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر عن شماله بكى فيه شفقة الوالد على أولاده وسروره وفرحه بحسن حال المؤمن منهم ، وحزنه على سوء حال الكفار منهم . وقوله في إدريس مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح قد اتفق المؤرخون على إن إدريس ، هو أخنوخ وهو جد نوح عليهما السلام فيكون جد النبي صلى الله عليه وسلم كما أن إبراهيم جده ، فكان ينبغي أن يقول بالنبي الصالح والابن الصالح كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام : فالجواب عن هذا أنه قيل : إن إدريس المذكور هنا هو إلياس ، وهو من ذرية إبراهيم فليس هو جد نوح هذا جواب القاضي عياض .(4/235)
قال الشيخ محيي الدين : ليس في الحديث ما يمنع كون إدريس أباً لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإن قوله : الأخ الصالح يحتمل إن يكون قاله تلطفاً وتأدباً ، وهو أخ وإن كان أباً لأن الأنبياء إخوة المؤمنون إخوة والله أعلم .
فصل
في ذكر الآيات التي ظهرت بعد المعراج الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وسياق أحاديث تتعلق بالإسراء قال البغوي؛ روي أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به وكان بذي طوى قال : يا جبريل إن قومي لا يصدقون . قال : يصدقك أبو بكر وهو الصديق . قال ابن عباس وعائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لما كانت ليلة أسري بي إلى السماء أصبحت بمكة فضقت بأمري وعرفت أن الناس يكذبوني فروي أنه صلى الله عليه وسلم قعد معتزلاً حزيناً ، فمر به أبو جهل فجلس إليه فقال كالمستهزىء هل استفدت من شيء؟ قال : نعم أسري بي الليلة قال إلى إين قال إلى بيت المقدس قال : ابو جهل : ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال : نعم فلم يرد أبو جهل أن ينكر ذلك مخافة أن يجحده الحديث ، ولكن قال : أتحدث قومك بما حدثتني به . قال : نعم . قال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا ، فانقضت المجالس وجاؤوا حتى جلسوا إليهما قال : حدث قومك بما حدثتني قال : نعم أسري بي الله قالوا إلى أين؟ قال : إلى بيت المقدس قالوا ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال : نعم قال فبقي الناس بين مصفق وبين واضع يده على رأسه متعجباً وارتد أناس ممن كان قد آمن به وصدقه ، وسعى رجل من المشركين إلى أبي بكر فقال له هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس قال : أو قد قال ذلك قال نعم قال لئن كان قال ذلك لقد صدق قالوا : أو تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء في ليلة قبل أن يصبح؟ قال : نعم إني أصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبو بكر الصديق . قال : وكان في القوم من أتى المسجد الأقصى . قالوا : هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد قال : نعم قال فذهبت أنعت حتى التبس علي قال فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل فنعت المسجد وأنا أنظر إليه ، فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب فيه ثم قالوا يا محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا هل لقيت منها شيئاً؟ قال : نعم مررت بعير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيراً وهم في طلبه ، وفي رحالهم قدح من ماء فعطش فأخذته فشربته ، ثم وضعته كما كان فسلوا هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا قالوا : هذه آية قال ومررت بعير بني فلان وفلان راكبان قعوداً لهما بذي طوى فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان فانكسرت يده فسلوهما عن ذلك قالوا وهذه آية أخرى قالوا : فأخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدتها وأحمالها وهيئتها؟ فقال : كنت في شغل عن ذلك ثم مثلت له بعدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها وكانوا بالحزورة قال : نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم عند طلوع الشمس »(4/236)
قالوا : وهذه آية . ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون والله لقد قص محمد شيئاً وبينه حتى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه إذ قال قائل منهم : هذه الشمس قد طلعت . وقال آخر : وهذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق فيه فلان وفلان كما قال : فلم يؤمنوا وقالوا : هذا سحر مبين ( م ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط . قال : فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعداً كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني به نفسه صلى الله عليه سلم فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل : يا محمد يا محمد هذا مالك صاحب النار ، فسلم عليه فالتفتُّ إليه فبدأني بالسلام » ( ق ) عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لما كذبتني قريش قمت إلى الحجر فجلى الله إلي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه زاد البخاري في رواية : لما كذبني قريش حين أسري بي إلى المقدس » وذكر الحديث ( م ) عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر ، فإذا هو قائم يصلي في قبره » عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل كذا بأصبعه فخرق به الحجر وشد به البراق » أخرجه الترمذي . فإن قلت : كيف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى يصلي في قبره وكيف صلى بالأنبياء في بيت المقدس ثم وجدهم على مراتبهم في السموات ، وسلموا عليه وترحبوا به وكيف تصح الصلاة من الأنبياء بعد الموت ، وهم في الدار الآخرة؟ قلت أما صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في بيت المقدس يحتمل أن الله سبحانه وتعالى ، جمعهم له ليصلي بهم ويعرفوا فضله وتقدمه عليهم ثم إن الله سبحانه وتعالى ، أراه إياهم في السموات على مراتبهم ليعرف هو مراتبهم وأما مروره بموسى ، وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر ، فيحتمل أنه كان بعد رجوعه من المعراج ، وأما صلاة الأنبياء وهم في الدار الآخرة فهم في حكم الشهداء بل أفضل منهم ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء فالأنبياء أحياء بعد الموت ، وأما حكم صلاتهم فيحتمل أنها الذكر والدعاء وذلك من أعمال الآخرة فإن الله تعالى قال(4/237)
{ دعواهم فيها سبحانك اللهم } وورد في الحديث أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ، ويحتمل أن الله سبحانه وتعالى خصّهم بخصائص في الآخرة كما خصهم في الدنيا بخصائص لم يخص بها غيرهم . منها أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه رآهم يلبون ، ويحجون ، فكذلك الصلاة والله أعلم بالحقائق .(4/238)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
{ وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً }
{ وآتينا موسى الكتاب } يعني التوراة { هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا } يعني وقلنا لهم : لا تتخذوا { من دوني وكيلاً } يعني رباً كفيلاً { ذرية } يعني يا ذرية { من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً } يعني أن نوحاً كان كثير الشكر ، وذلك أنه كان إذا أكل طعاماً أو شرب شراباً ولبس ثوباً قال : الحمد لله فسماه الله عبداً شكوراً لذلك . وقوله عز وجل { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } : يعني أعلمناهم وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتاب أنهم سيفسدون وهو قوله تعالى { لتفسدن في الأرض مرتين } وقال ابن عباس : وقصينا عليهم في الكتاب فإلى بمعنى على ، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ واللام في لتفسدن لام القسم تقديره والله لتفسدن في الأرض يعني بالمعاصي والمراد بالأرض أرض الشام ، وبيت المقدس { ولتعلن } يعني ولتستكبرن ولتظلمن الناس { علواً كبيراً فإذا جاء وعد أولاهما } يعني أولى المرتين قيل : إفسادهم في المرة الأولى هو ما خالفوا من أحكام التوراة ، وركبوا من المحارم وقيل : إفسادهم في المرة الأولى قتلهم شعياء في الشجرة وارتكابهم المعاصي { بعثنا عليكم عباداً لنا } يعني جالوت وجنوده ، هو الذي قتله داود وقيل : هو سنحاريب وهو من أهل نينوى وقيل هو بختنصر البابلي وهو الأصح { أولي بأس شديد } يعني ذوي بطش وقوة في الحرب { فجاسوا خلال الديار } يعني طافوا بين الديار وسطها يطلبونكم ليقتلونكم { وكان وعداً مفعولاً } يعني قضاء كائناً لازماً لا خلف فيه { ثم رددنا لكم الكرة عليهم } يعني رددنا لكم الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم ، وحين تبتم من ذنوبكم ورجعتم عن الفساد { وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً } يعني أكثر عدداً { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } يعني لها ثواباً وجزاء إحسانها { وإن أسأتم فلها } يعني فعليها إساءتها { فإذا جاء وعد الآخرة } يعني المرة الآخرة من إفسادكم وهو قصدكم قتل عيسى فخلصه الله منهم ، ورفعه إليه ، وقتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام ، فسلط عليهم الفرس والروم فسبوهم وقتلوهم وهو قوله تعالى { ليسوءوا وجوهكم } يعني ليحزنوكم وقرىء بالنون أي ليسوء الله وجوهكم { وليدخلوا المسجد } يعني بيت المقدس ونواحيه { كما دخلوه أول مرة } يعني وقت إفسادهم الأول { وليتبروا ما علوا تتبيراً } يعني وليهلكوا ما غلبوا عليه من بلاد بني إسرائيل إهلاكاً .
ذكر القصة في هذه الآية
قال محمد بن إسحاق : كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزاً عنهم ومحسناً إليهم وكان أول ما نزل بسبب ذنوبهم أن ملكاً منهم كان يدعى صديقة وكان الله إذا ملّك عليهم الملك بعث معه نبياً ليسدده ويرشده ، ولا ينزل عليهم كتاباً إنما يؤمرون اتباع التوراة والأحكام التي فيها ، فلما ملك صديقة بعث الله معه شعياء وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وشعياء هو الذي بشر بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فقال : أبشري أورشليم الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير .(4/239)
فملك ذلك الملك يعني صديقة بني إسرائيل وبيت المقدس زماناً ، فلما انقضى ملكه عظمت الأحداث فيهم وكان معه شعياء فبعث الله سنجاريب ملك بابل ومعه ستمائة ألف راية ، فلم يزل سائراً حتى نزل حول بيت المقدس ، والملك مريض من قرحة كانت في ساقه ، فجاء شعياء النبي إليه ، وقال : يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل ، قد نزل بك هو وجنوده؟ بستمائة ألف راية ، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم فكبر ذلك على الملك وقال : يا نبي الله هل أتاك من الله وحي فيما حدث فتخبرنا به وكيف يفعل الله بنا وبسنجاريب وجنوده فقال شعياء : لم يأتني وحي في ذلك فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعياء النبي ، أن أئت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته ، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته فأتى شعياء ملك بني إسرائيل وقال : إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت ، فلما قال ذلك شعياء لصديقة الملك أقبل على القبلة فصلى ودعا فقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله تعالى بقلب مخلص : اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس يا متقدس يا رحمن يا رحيم يا رؤوف ، يا من لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل ، وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك . فاستجاب الله له وكان عبداً صالحاً فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه ، وأخر أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سنجاريب فأتاه شعياء فأخبره ، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجداً لله وقال : إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكبرت وعظمت أن الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء وتذل من تشاء على الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن ، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي ، فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبداً من عبيده ، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى فيصبح وقد برأ ففعل ذلك فشفي فقال الملك لشيعاء : سل ربك أن يجعل لنا علماً بما هو صانع بعدونا هذا .(4/240)
قال الله لشعياء : قل له إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم ، وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب ، وخمسة نفر من كتابه أحدهم بختنصر . فلما أصبحوا جاء صارخ يصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن الله كفاك عدوك ، فاخرج فإن سنحاريب ومن معه هلكوا فخرج الملك ، والتمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مفازة ومعه خمسة نفر من كتابه ، أحدهم بختنصر فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم الملك فلما رآهم خر ساجداً لله تعالى ، من حين طلعت الشمس إلى العصر ثم قال لسنحاريب : كيف رأيت فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنجاريب : قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشداً ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم فقال الملك صديقة : الحمد لله رب العالمين الذي كفاناكم بما شاء ، وإن ربنا لم يمتعك ومن معك لكرامتك عليه ، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذاباً في الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم ، فتنذروا من بعدكم ولولا ذلك لقتلك ومن معك ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت . ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه أن يقذف في رقابهم الجوامع ، ففعل وطاف بهم سبعين يوماً حول بيت المقدس وإيلياء ، وكان يرزقهم في كل يوم خبزين من شعير لكل رجل منهم فقال سنحاريب للملك صديقة : القتل خير مما نحن فيه وما تفعل بنا فأمر بهم إلى السجن فأوحى الله إلى شعياء النبي أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم . فبلغ ذلك شعياء للملك ففعل وخرج سنحاريب ومن معه ، حتى قدموا بابل فلما قدم جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله تعالى بجنوده فقال له كهانه وسحرته : يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم ، فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم وكان أمر سنحاريب تخويفاً لبني إسرائيل ، ثم كفاهم الله تعالى ذلك تذكره وعبرة ثم إن سنحاريب لبث بعد ذلك سبع سنين ، ثم مات ، واستخلف على ملكه بختنصر ابن عمه فعمل بعمله وقضى بقضائه فلبث سبع عشر سنة ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضاً ، وشعياء نبيهم معهم لا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك ، قال الله لشعياء : قم في قومك حتى أوحي على لسانك . فلما قام أطلق الله لسانه بالوحي فقال : يا سماء استمعي ويا أرض أنصتي ، فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته واصطفاهم لنفسه وخصهم بكرامته ، وفضلهم على عباده وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها ، فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها ، وأسمن مهزولها وحفظ سمينها ، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضاً ، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر ، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لايدرون أنى جاءهم الحين .(4/241)
إن البعير مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الخير ، وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمير وإني ضارب لهم مثلاً فليسمعوه ، قل كيف ترون في أرض كان خراباً زماناً لا عمران فيها ، وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة ، وكره أن تخرب أرضه وهو قوي أو يقال : ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جداراً وشيد فيها قصراً وأنبط فيها نهراً وصفّ فيه غراساً من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها ، وولى ذلك واستحفظه قيّماً ذا رأي وهمة حفيظاً قوياً فلما أطلعت جاء طلعها خروباً . فقالوا : بئست الأرض هذه فنرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها ، ويقبض قيّمها ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أول مرة خراباً مواتاً ، لا عمران فيها قال الله تعالى : قل لهم الجدار ديني والقصر شريعتي وإن النهر كتابي وأن القيّم نبيي وأن الغراس هم ، وأن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم ، وأنه مثل ضربته لهم يتقربون إليّ بذبح البقر والغنم ، وليس ينالني اللحم و لا آكله ويدّعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها ، وأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملات بدمائها يشيدون لي البيوت مساجد ، ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ، ويدنسونها ويزوقون لي المساجد ويزينونها ، ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها ، وأي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها . يقولون : صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا ، وتصدقنا فلم تزكَّ صدقتنا ، ودعونا بمثل حنين الحمام وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا ، قال الله : فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ألست أسمع السامعين ، وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ، ويتقوون عليه بطعمة الحرام أم كيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي ، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم إنما آجر عليها أهلها المغصوبين أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قولهم بألسنتهم ، والفعل من ذلك بعيد وإنما أستجيب للداعي اللين ، وإنما أستمع قول المستضعف المستكين ، وان من علامة رضاي رضى المساكين يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي : إنها أقاويل منقولة ، وأحاديث متواترة وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة ، وزعموا أنهم لو شاؤوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا ، ولو شاؤوا أن يطلعوا على علم الغيب بما توحي إليهم الشياطين اطلعوا ، وإني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلاً مؤجلاً لا بد أنه واقع فإن صدقوا فيما ينتحلون من علم الغيب ، فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون وإن كانوا يقدرون على أن يأتو بما يشاؤون فليأتوا بمثل هذه القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاؤون فيؤلفوا مثل هذه الحكمة التي أدبر بها ذلك القضاء ، إن كانوا صادقين وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض ، أن أجعل النبوة في الأجراء ، وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء ، والعلم في الجهلة والحكمة في الأميين فسلهم متى هذا ومن القائم بهذا ، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون وإني باعث لذلك نبياً أمياً ليس أعمى من عميان ، ولا ضالاً من ضالين وليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا مترين بالفحش ، ولا قوال للخنا أسدده بكل جميل وأهب له كل خلق كريم أجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقولة والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه ، والعدل سيرته والحق شريعته والهدى إمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة ، وأكثر به القلة وأغني به بعد العيلة ، وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر توحيداً لي وإيماناً بي وإخلاصاً لي يصلون قياماً وقعوداً ، وركعاً وسجوداً ، ويقاتلون في سبيلي صفوفاً وزحوفاً ، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي ألهمهم التكبير ، والتوحيد والتسبيح والتحميد والتهليل والمدحة والتمجيد لي في مسيرهم ومجالسهم ، ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأشراف يطهرون لي ، الوجوه والأطراف ويعقدون لي الثياب على الأنصاف قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم في صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار ذلك فضلي أوتيه من أشاء أنا ذو الفضل العظيم .(4/242)
فلما فرغ شعياء من مقالته عدوا عليه ليقلتوه فهرب منهم فلقيته شجرة ، فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان ، فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها ، وقطعوه في وسطها واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلاً منهم يقال : ناشة بن أموص وبعث لهم أرمياء بن حلقيا نبياً ، وكان من سبط هرون بن عمران ، وذكر ابن إسحاق أنه الخضر واسمه أرمياء الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء ، فقام عنه وهي تهتز خضراء فبعث الله أرمياء إلى ذلك الملك ليسدده ويرشده ، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم فأوحى الله إلى أرمياء ، أن ائت قومك من بني إسرائيل فاقصص عليهم ما آمرك به وذكرهم نعمي وعرفهم بأحداثهم .(4/243)
فقال أرمياء : يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخذول إن لم تنصرني قال الله تعالى : أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي وأن القلوب والألسنة بيدي ، أقلبها كيف شئت إني معك ، ولن يصل إليك شيء معي فقام أرمياء فيهم ، ولم يدر ما يقول فألهمه الله عز وجل في الوقت خطبة بليغة بين لهم فيها ثواب الطاعة ، وعقاب المعصية وقال في آخرها : عن الله عز وجل حلفت بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم ، ولأسلطن عليهم جباراً قاسياً ألبسه الهيبة ، وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم ، ثم أوحى الله إلى أرمياء أني مهلك بني إسرائيل بيافث ويافث من أهل بابل فسلط عليهم بختنصر فخرج من ستمائة ألف راية ودخل بيت المقدس بجنوده ووطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس وأمر جنده أن يملأ كل رجل منهم ترسه تراباً ، يقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملؤوه . ثم أمرهم أن يجمعوا من بلدان بيت المقدس كلهم ، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي ، فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمها فيهم ، قالت له الملوك الذين كانوا معه : أيها الملك لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذي اخترتهم من بني إسرائيل ، فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان ، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق ثلثاً أقرهم بالشام وثلثاً سباهم وثلثاً قتلهم وذهب باناث بيت المقدس ، وبالصبيان السبعين ألفاً حتى أقدمهم بابل فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله عز وجل ببني إسرائيل بظلمهم فذلك قوله سبحانه وتعالى :
{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } .
{ فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عباداً لنا أولي بأس شديد } يعني بختنصر وأصحابه ، ثم إن يختنصر أقام في سلطانه ما شاء ثم رأى رؤيا عجيبة إذا رأى شيئاً أصابه فأنساه الذي رأى فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا ومشائيل وكانا من ذراري الأنبياء ، وسألهم عنها فقالوا : أخبرنا بها نخبرك بتأويلها فقال : ما أذكرها ولئن لم تخبرني بها وبتأويلها لأنزعن أكتافكم فخرجوا من عنده ، فدعوا الله وتضرعوا إليه فأعلمهم الله بالذي سألهم عنه فجاؤوه فقالوا : رأيت تمثالاً قدماه وساقاه من فخار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من ذهب ، ورأسه وعنقه من حديد قال : صدقتم قالوا : فبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل الله صخرة من السماء فدقته فهي التي أنستكها قال : صدقتم فما تأويلها قالوا : تأويلها أنك رأيت الملوك بعضهم كان ألين ملكاً ، وبعضهم ، كان أحسن ملكاً وبعضهم كان أشد ملكاً ، والفخار أضعفه ثم فوقه النحاس أشد منه ثم فوق النحاس الفضة أحسن من ذلك وأفضل والذهب أحسن من الفضة ، وأفضل ثم الحديد ملكك فهو أشد وأعز مما قبله ، والصخرة التي رأيت أرسل الله من السماء فدقته فنبي يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه ، ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر : أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين سألناك أن تعطيناهم ففعلت فإنا قد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا ، لقد رأينا نساءنا انصرفت وجوههن عنا إليهم فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم فقال شأنك بهم فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده ، فليفعل فلما قربوهم للقتل بكوا وتضرعوا إلى الله عز وجل ، وقالوا : يا ربنا أصابنا البلاء بذنوب غيرنا فوعدهم الله أن يحييهم فقتلوا إلا من كان منهم مع بختنصر منهم دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل ، ثم لما أراد الله هلاك بختنصر انبعث فقال لمن في يده من بني إسرائيل : أرأيتم هذا البيت الذي خربت والناس الذي قتلت منكم ، وما هذا البيت؟ قالوا هو بيت الله وهؤلاء أهله كانوا من ذراري الأنبياء فظلموا وتعدوا فسلطت عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السموات والأرض ورب الخلائق كلهم يكرمهم ويعزهم ، فلما فعلوا أهلكهم وسلط عليهم غيرهم فاستكبر وتجبر ، وظن أنه بجبروته فعل ذلك ببني إسرائيل ، قال فأخبروني كيف لي أن أطلع إلى السماء العليا ، فأقتل من فيها وأتخذها لي ملكاً فإني قد فرغت من أهل الأرض ، قالوا : ما يقدر عليها أحد من الخلائق قال : لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم فبكوا وتضرعوا إلى الله تعالى فبعث الله عز وجل عليه بقدرته بعوضة ، فدخلت منخره حتى عضت أم دماغه فما كان يقر ولا يسكن ، حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه ، ليري العباد قدرته ونجى الله من بقي من بني إسرائيل في يده ، وردهم إلى الشام فبنوا فيه وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه ، ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى أحيا أولئك الذين قتلوا فلحقوا بهم ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها ، وليس معهم من الله عهد .(4/244)
كانت التوراة قد احترقت وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل ، فلما رجع إلى الشام جعل يبكي ليله ونهاره ، وخرج عن الناس فبينما هو كذلك إذ جاءه رجل فقال له : يا عزير ما يبكيك؟ قال : أبكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا الذي لا يصلح ديننا وآخرتنا غيره . قال : أفتحب أن يرد إليك قال : نعم قال : ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك ثم موعدك هذا المكان غداً فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه ثم عمد إلى المكان الذي وعده ، فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء وكان ملكاً بعثه الله إليه فسقاه من ذلك الإناء ، فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة ، فأحبوه حباً لم يحبوا حبه شيئاً قط ، ثم قبضه الله تعالى وجعلت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث ، ويعود الله عليهم ، ويبعث فيهم الرسل فريقاً يكذبون وفريقاً يقتلون حتى كان آخر من بعث إليهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ، وكانوا من بيت آل داود فزكريا مات ، وقيل قتل وقصدوا عيسى ليقتلوه فرفعه الله من بين أظهرهم وقتلوا يحيى ، فلما فعلوا ذلك بعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوش ، فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام ، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤساء جنوده يقال له بيورزاذان صاحب القتل فقال له : إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظفرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى يسيل الدم في وسط عسكري ، إلا أن لا أجد أحداً أقتله فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم ، ثم إن بيورزاذان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم ، فوجد فيها دماً يغلي فسألهم عنه فقال : يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره . فقالوا : هذا دم قربان لنا قرّبناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي ولقد قربنا القربان من ثمانمائة سنة ، فتقبل منا إلا هذا فقال : ما صدقتموني فقالوا لو كان كأول زمانننا لتقبل منا ، ولكن قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يقبل منا فذبح بيورزاذان منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحاً ، من رؤوسهم فلم يهدأ الدم فأمر سبعمائة غلام من غلمانهم ، فذبحهم على الدم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يهدأ ، فلما رأى بيورزاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم : يا بني إسرائيل ويلكم أصدقوني وأصبروا على أمر ربكم فقد طالما ملكتم في الأرض تفعلون ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار من ذكر ولا أنثى إلا قتلته ، فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر فقالوا : إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله تعالى فلو كنا أطعناه كنا أرشدنا .(4/245)
وكان يخبرنا عن أمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه فقال لهم بيورزاذان ما كان اسمه قالوا : يحيى بن زكريا قال : الآن صدقتموني لمثل هذا ينتقم ربكم منكم فلما علم بيورزاذان أنهم صدقوه خر ساجداً وقال لمن حوله : أغلقوا ابواب المدينة ، وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش ، وخلا في بني إسرائيل ثم قال : يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك ، ومن قتل منهم فاهدأ باذن ربك قبل أن لا أبقي من قومك أحداً إلا قتلته فهدأ الدم باذن الله تعالى ، ورفع بيورزاذان عنهم القتل وقال : آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل ، وأيقنت أنه لا رب غيره . وقال لبني إسرائيل : إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره ، وإني لا أستطيع أن أعصيه قالوا له افعل ما أمرت به ، فأمرهم فحفروا خندقاً ، وأمرهم بأموالهم من الخيل والبغال الحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم في العسكر ، وأمر بالقتلى الذي قتلوا قبل ذلك فطرحوه على ما قتل من المواشي ، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من دماء بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره ، أرسل إلى بيورزاذان أن ارفع عنهم القتل ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد يفنيهم ونهى الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله لتفسدن في الأرض مرتين فكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده ، والأخرى خردوش وجنوده وكانت أعظم الوقعتين ، فلم تقم لهم بعد ذلك راية وانتقل الملك بالشام ونواحيها إلى الروم اليونايين ، إلا أن بقايا بني إسرائيل كثروا وكانت لهم الرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك ، وكانوا في نعمة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططوس المقدس ابن أسبيانيوس الرمي ، فخرب بلادهم وطردهم عنها ، ونزع الله عنهم الملك والرياسة وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، فما لبثوا في أمة إلا وعليهم الصَّغار والجزية وبقي بيت المقدس خراباً إلى خلافة عمر بن الخطاب فعمره المسلمون بأمره ، وقيل في سبب قتل يحيى عليه السلام : أن ملك بني إسرائيل كان يكرمه ويدني مجلسه ، وأن الملك هوى بنت امرأته ، وقال ابن عباس ابنة أخيه فسأل يحيى تزويجها فنهاه عن نكاحها ، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى وعمدت حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثياباً رقاقاً حمراً وطيبتها وألبستها الحلي ، وأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه فإن هو راودها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته فإذا أعطاها ما سألت سألت رأس يحيى بن زكريا ، وأن يؤتى به في طست ففعلت فلما راودها قالت : لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك قال فما تسأليني قالت : رأس يحيى بن زكريا في هذا الطست فقال ويحك سليني غير هذا . قالت : ما أريد غير هذا فلما أبت عليه ، بعث فأتي برأسه حتى وضع بين يديه والرأس يتكلم يقول : لا يحل لك فلما أصبح إذا دمه يغلي ، فأمر بتراب فألقي عليه فرقى الدم يغلي فلا زال يغلي ، ويلقى عليه التراب ، وهو يغلي حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يرقى ويغلي وسلط الله عليهم ملك بابل فخرب بيت المقدس ، وقتل سبعين ألفاً حتى سكن دمه .(4/246)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
{ عسى ربكم أن يرحمكم } يعني يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم فيرد الدولة إليكم { وإن عدتم } أي إلى المعصية { عدنا } أي إلى العقوبة . قال قتادة فعادوا فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم : فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً } أي سجناً ومحبساً من الحصر الذي هو مجلس الحبس ، و قيل : فراشاً من الحصير الذي يبسط ويفترش . قوله تعالى { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } أي إلى الطريقة التي هي أصوب وقيل : إلى الكلمة التي هي أعدل وهي شهاة أن لا إله إلا الله { ويبشر } يعني القرآن { المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً } يعني الجنة { وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً } يعني النار في الآخرة { ويدع الإنسان } أي على نفسه وولده وماله { بالشر } يعني قوله عند الغضب : اللهم أهلكه اللهم العنه ونحو ذلك { دعاءه بالخير } أي كدعائه ربه أن يهب له النعمة والعافية ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك ، ولكن الله لا يستجيب بفضله وكرمه { وكان الإنسان عجولاً } أي بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه ، وقال ابن عباس : ضجراً لا صبر له على سّراء ولا ضراء . قوله تعالى { وجعلنا الليل والنهار آيتين } أي علامتين دالتين على وحدانيتنا وقدرتنا وفي معنى الآية قولان : أحدهما : أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار ، وهو أنه جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدنيا والدين ، أما في الدين فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير مع كونهما متعاقبين على الدوام ففيه أقوى دليل على أن لهما مدبراً يدبرهما ، ويقدرهما بالمقادير المخصوصة وأما في الدنيا ، فلأن مصالح العباد لا تتم إلا بهما ففي الليل يحصل السكون ، والراحة وفي النهار يحصل التصرف في المعاش والكسب . والقول الثاني : أن يكون المراد وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين يريد الشمس والقمر { فمحونا آية الليل } أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموساً مظلماً لا يستبان فيه شيء { وجعلنا آية النهار مبصرة } أي تبصر فيه الأشياء رؤية بينة . قال ابن عباس : جعل الله نور الشمس سبعين جزءاً ونور القمر كذلك فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءاً ، فجعلها مع نور الشمس وحكي أن الله أمر جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات ، فطمس عليه الضوء وبقي فيه النور وسأل ابن الكواء علياً عن السواد الذي في القمر ، فقال هو أثر المحو { لتبتغوا فضلاً من ربكم } أي لتتوصولوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم ، والتصرف في معايشكم { ولتعلموا } أي باختلاف الليل والنهار { عدد السنين والحساب } أي ما يحتاجون إليه ولولا ذلك ، لما علم أحد حساب الأوقات ولتعطلت الأمور ، ولو ترك الله الشمس والقمر ، كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولم يدر الصائم متى يفطر ، ولم يعرف وقت الحج ولا وقت حلول الديون المؤجلة .(4/247)
واعلم أن الحساب يبنى على أربع مراتب : الساعات والأيام والشهور والسنين ، فالعدد للسنين والحساب لما دونها من الشهور والأيام والساعات ، وليس بعد هذه المراتب الأربعة إلا التكرار { وكل شيء فصلناه تفصيلاً } يعني وكل شيء تفتقرون إليه من أمر دينكم ودنياكم قد بينّاه بياناً شافياً واضحاً غير ملتبس قيل : إنه سبحانه وتعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ومن وجه آخر نعمتان من الله تعالى على أهل الدنيا ، وكل ذلك تفضل منه فلا جرم قال ، وكل شيء فصلناه تفصيلاً قوله عز وجل { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } قال ابن عباس : عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان . وقيل : خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به . وقيل : ما من مولود إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد ، وقيل : أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله وما هو صائر إليهم من سعادة أو شقاوة ، وقيل : هو من قولك طار له سهم إذا خرج يعني ألزمناه ما طار له من عمله لزوم القلادة أو الغل ، لا ينفك عنه والعنق في قوله في عنقه كناية عن اللزم كما يقال : جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل ، وألزمتك الاحتفاظ به وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق والغل مما يزين أو يشين فإن كان عمله خيراً كان له كالقلادة أو الحلي في العنق وهو ما يزينه ، وإن كان عمله شراً كان له كالغلّ في عنقه وهو ما يشينه و يخرج له بقول تبارك وتعالى { ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً } قيل : بسطت للإنسان صحيفتان وووكل به ملكان يحفظان عليه حسناته وسيئاته . فإذا مات طويت الصحيفتان ، وجعلتا معه في عنقه فلا ينشران إلا يوم القيامة { اقرأ كتابك } أي يقال له : اقرأ كتابك قيل يقرأ يوم القيامة من لم يكن قارئاً { كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } أي محاسباً قال الحسن : لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك ، وقيل : يقول الكافر إنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي . فيقال له اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً . قوله سبحانه وتعالى { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله ، وعقاب الذنب مختص بفاعله أيضاً ، ولا يتعدى منه إلى غيره وهو قوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى من الآثام ، ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد بل كل أحد مختص بذنبه { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } لإقامة الحجة وقطعاً للعذر وفيه دليل على أن ما وجب إنما وجب بالسمع لا بالعقل .(4/248)
قوله سبحانه وتعالى { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها } في معنى الآية قولان : أحدهما : أن المراد منه الأمر بالفعل ، ثم إن لفظ الآية يدل على أنه تعالى بماذا أمرهم فقال أكثر المفسرين : معناه أنه تعالى أمرهم بالأعمال الصالحة ، وهي الإيمان والطاعة وفعل الخير والقوم خالفوا ذلك الأمر وفسقوا . والقول الثاني : أمرنا مترفيها أي كثرنا فساقها . يقال أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم ، ومنه الحديث « خير المال مهرة مأمورة » أي كثيرة النتاج والنسل فعلى هذه قوله تعالى أمرنا ليس من الأمر بالفعل . والمترف هو الذي أبطرته النعمة وسعة العيش { ففسقوا فيها } أي خرجوا عما أمرهم الله به من الطاعة { فحق عليها القول } أي وجب عليها العقاب { فدمرناها تدميراً } أي أهلكناها إهلاك استئصال والدمار الهلاك والخراب ( ق ) ، عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول : « لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها . قالت زينب : قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث » قوله : ويل للعرب . ويل كلمة تقال : لمن وقع في هلكة ، أو أشرف أن يقع فيها وقوله إذا كثر الخبث أي الشر قوله تعالى { وكم أهلكنا من القرون } أي المكذبة { من بعد نوح } وهم عاد وثمود وغيرهم من الأمم الخالية يخوف الله بذلك كفار قريش . قال عبد الله بن أبي أوفى : القرن عشرون ومائة سنة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول قرن ويزيد بن معاوية في آخره . وقيل : القرن مائة سنة وروي عن محمد بن القاسم بن عبد الله بن بشر المازني أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال : « سيعيش هذا الغلام قرناً » قال محمد ابن القاسم : ما زلنا نعد له حتى تمت له مائة سنة ثم مات . وقيل : القرن ثمانون سنة . وقيل : أربعون { وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً } يعني أنه عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات لا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق . قوله عز وجل { من كان يريد العاجلة } أي الدار العاجلة يعني الدنيا { عجلنا له فيها ما نشاء } أي من البسط أو التقتير { لمن نريد } أن نفعل به ذلك أو إهلاكه ، وقيل في معنى الآية . عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد أي القدر الذي نشاء نعجله له في الدنيا ، الذي يشاء هو ولمن نريد أن نعجل له شيئاً ، قدرناه له هذا ذم لمن أراد بعمله ظاهر الدنيا ومنفعتها وبيان أن من أرادها لا يدرك منها إلا ما قدر له ، { ثم جعلنا له } أي في الآخرة { جهنم يصلاها } أي يدخلها { مذموماً مدحوراً } أي مطروداً مباعداً .(4/249)
قوله سبحانه وتعالى { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } أي عمل لها عملها { وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً } أي مقبولاً قيل : في الآية ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً إرادة الآخرة بعمله بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور ، والسعي فيما كلف من الفعل والترك ، والإيمان الصحيح الثابت ، وعن بعض السلف الصالح . من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله ، إيمان ثابت ، ونية صادقة ، وعمل مصيب .(4/250)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
قوله عز وجل : { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء } أي نمد كلا الفريقين من يريد الدنيا ، ومن يريد الآخرة { من عطاء ربك } يعني يرزقها جميعاً ثم يختلف الحال بهما في المآل { وما كان عطاء ربك محظوراً } أي ممنوعاً عن عباده والمراد بالعطاء العطاء في الدنيا إذ لا حظ للكافر في الآخرة { انظر } يا محمد { كيف فضلنا بعضهم على بعض } أي في الرزق والعمل يعني طالب العاجلة وطالب الآخرة { وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً } يعني أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا ، كنسبة الآخرة إلى الدنيا فإذا كان الإنسان تشتد رغبته في طلب الدنيا فلأن تقوى وتشتد رغبته في طلب الآخرة أولى ، لأنها دار المقامة . قوله تعالى { لا تجعل مع الله إلهاً آخر } الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره وقيل معناه لا تجعل أيها الإنسان مع الله إلهاً آخر وهذا أولى { فتقعد مذموماً } أي من غير حمد { مخذولاً } أي بغير ناصر . قوله سبحانه وتعالى : { وقضى ربك } أي وأمر ربك . قاله ابن عباس : وقيل معناه وأوجب ربك . وقيل : معناه الحكم والجزم . وقيل : ووصى ربك . وحكي عن الضحاك أنه أنه قرأها ووصى ربك وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصار قافاً وهي قراءة علي وابن مسعود . قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير هذا القول بعيد جداً لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان على القرآن ، وذلك يخرجه عن كونه حجة ، ولا شك أنه طعن عظيم في الدين { ألاَّ تعبدوا إلا إياه } فيه وجوب عبادة الله ، والمنع من عبادة غيره وهذا هو الحق لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم ، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده ولا منعم إلا الله ، فكان هو المستحق للعبادة لا غيره { وبالوالدين إحساناً } أي وأمر بالوالدين إحساناً أي براً بهما وعطفاً عليهما وإحساناً إليهما { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } معناه أنهما يبلغان إلى حالة الضعف ، والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر هذه الجملة ، كلف الإنسان في حق الوالدين خمسة أشياء : الأول قوله تعالى { فلا تقل لهما أف } وهي كلمة تضجَّر وكراهية ، وقيل : إن أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد ، ونفخت فيه تزيله تقول : أف ثم إنهم توسعوا بذكر هذه الكلمة إلى كل مكروه يصل إليهم . والثاني : قوله { ولا تنهرهما } أي تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك يقال : نهره وانتهره بمعنى .(4/251)
فإن قلت : المنع من التأفيف أبلغ من المنع من الانتهار فما وجه الجمع قلت : المراد من قوله ولا تقل لهما أف المنع من إظهار الضجر بالقليل والكثير ، والمراد من قوله ولا تنهرهما ، المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليها . الثالث : قوله { وقل لهما قولاً كريماً } أي حسناً جميلاً ليناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما ، وقيل : هو يا أماه يا أبتاه وقيل : لا يكنيهما وقيل : هو أن يقول لهم كقول العبد الذليل المذنب للسيد الفظ الغليظ . الرابع : قوله عز وجل { واخفض لهما جناح الذل } أي ألن لهما جناحك واخفضه لهما حتى لا تمتنع عن شيء أحباه { من الرحمة } أي من الشفقة عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إليك ، كما كنت في حال الصغر مفتقراً إليهما . الخامس : قوله سبحانه وتعالى { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } أي وادع الله لهما أن يرحمهما برحمته الباقية ، وأراد به إذا كانا مسلمين فأما إذا كانا كافرين فإن الدعاء منسوخ في حقهما بقوله سبحانه وتعالى { ما كان للنبي والذين أمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } وقيل : يجوز الدعاء لهما بأن يهديهما الله إلى الإسلام فإذا هداهما فقد رحمهما . وقيل في معنى هذه الآية : إن الله سبحانه وتعالى بالغ في الوصية بهما حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته ، ثم شفعه بالإحسان إليهما ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تسوؤهما وأن يذل ، ويخضع لهما ثم ختمها بالأمر بالدعاء لهما والترحم عليهما .
فصل
في ذكر الأحاديث التي وردت في بر الوالدين ، ( ق ) عن أبي هريرة قال : « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال : أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فأدناك » ( م ) عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « رغم أنفه ، رغم أنفه قيل من يا رسول الله؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة » ( م ) عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه » ( ق ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد : فقال : أحيّ والداك قال : نعم قال ففيهما فجاهد » وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « رضا الرب من رضا الوالدين وسخط الرب في سخط الوالدين » أخرجه الترمذي مرفوعاً وموقوفاً قال : هو أصح عن أبي الدرداء قال « فإن شئت فضيع ذلك الباب أو احفظه »(4/252)
أخرجه الترمذي . وقال حديث صحيح ( م ) « عن عبد الله بن مسعود قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى قال الصلاة لوقتها قلت ، ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله تعالى » قوله سبحانه وتعالى { ربكم أعلم بما في أنفسكم } أي من بر الوالدين ، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير ، عدم عقوقهما { إن تكونوا صالحين } أي أبراراً مطيعين قاصدين الصلاح والبر بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين ، أو غيرهما أو قبل فرط منكم في حال الغضب ، وعن حرج الصدر وما لا يخلو منه البشر مما يؤدي إلى أذاهما ثم أنبتم إلى الله ، واستغفرتم مما فرط منكم { فإنه كان للأوابين } للتوابين { غفوراً } قال سعيد بن جبير في هذه الآية : هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ بهما . وقال سعيد بن المسيب : الأواب الذي يذنب ثم يتوب وعنه أنه الرجاع إلى الخير . وقال ابن عباس : الأواب الرجاع إلى الله فيما يحزنه ، وينوبه وعنه أنهم المسبحون . وقيل : هم المصلون وقيل هم الذين يصلون صلاة الضحى يدل عليه ما روي عن زيد بن أرقم . قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال « صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال » أخرجه مسلم قوله : إذا رمضت الفصال يريد ارتفاع الضحى وأن تحمى الرمضاء وهو الرمل بحر الشمس فتبرك الفصال من الحر وشدة إحراقه أخفافها . والفصال جمع فصيل وهي أولاد الإبل الغار وقيل : الأوّاب الذي يصلي بين المغرب والعشاء يدل عليه ما روي عن ابن عباس : إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوّابين .(4/253)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
قوله سبحانه وتعالى : { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } قيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمره الله سبحانه وتعالى أن يؤتي أقاربه حقوقهم وقيل : إنه خطاب للكل وهو أنه سبحانه وتعالى ، وصى بعد بر الوالدين بالقرابة أن يؤتوا حقهم من صلة الرحم والمودة ، والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك وقيل إن كانوا محاويج ، وهو موسر لزمه الإنفاق عليهم وهو مذهب أبي حنيفة . وقال الشافعي رضي الله عنه : لا تلزم النفقة إلا لوالد على ولده أو ولد على والديه فحسب وقيل : أراد بالقرابة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم الكلام على المسكين وابن السبيل { ولا تبذر تبذيراً } أي لاتنفق مالك في المعصية . وقيل : لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً ولو أنفق درهماً أو مداً في باطل كان مبذراً . وسئل ابن مسعود عن التبذير فقال : إنفاق المال في غير حقه . وقيل : هو إنفاق المال في العمارة على وجه السرف وقيل : إن بعضهم أنفق نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } يعني أولياءهم وأصدقاءهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف ، وقيل : أمثالهم في الشر وهذا غاية المذمة لأنه أشر من الشياطين ، والعرب تقول لكل من هو ملازم سنة قوم : هو أخوهم { وكان الشيطان لربه كفوراً } أي جحوداً للنعمة فما ينبغي أن يطاع لأنه يدعو إلى مثل عمله . قوله عز وجل { وإما تعرضن عنهم } نزلت في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه ، ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك عن القول فنزلت هذه الآية . والمعنى : وإن تعرض عن هؤلاء الذي أمرت أن تؤتيهم { ابتغاء رحمة من ربك ترجوها } أي انتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك { فقل لهم قولاً ميسوراً } أي ليناً جميلاً أي عدهم وعداً طيباً ، تطيب به قلوبهم . وقيل : هو أن يقول رزقنا الله وإياكم من فضله . قوله سبحانه وتعالى { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } قال جابر : أتى صبي فقال يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعاً ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه فقال للصبي : من ساعة إلى ساعة يظهر كذا فعد إلينا وقتاً آخر فعاد إلى أمه فقالت : قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً فأذن بلال بالصلاة ، وانتظره فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عرياناً فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ، ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك أي لا تمسك يدك عن النفقة في الحق والخير كالمغلولة يده لا يقدر على مدها { ولا تبسطها } أي بالعطاء { كل البسط } أي فتعطي جميع ما عندك .(4/254)
وقيل : هذا تمثيل لمنع الشحيح ، وإعطاء المسرف أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير { فتقعد ملوماً } أي عند الله لأن المسرف غير مرضي عنده ، وقيل ملوماً عند نفسك وأصحابك أيضاً يلومونك على تضييع المال بالكلية وقيل : يلومك سائلوك على الإمساك إذا لم تعطهم { محسوراً } أي منقطعاً لا شيء عندك تنفقه وقيل : محسوراً أي نادماً على ما فرط منك . ثم سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة بأن ذلك ليس لهوان بك عليه ولا لبخل منه عليك فقال تعالى { إن ربك يبسط } أي يوسع { الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يقتر ويضيق ، وذلك لمصلحة العباد { إنه كان بعباده خبيراً بصيراً } يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأحوال جميع عباده ، وما يصلحهم فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية مصالح العباد . قوله عز وجل { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } أي فاقة وفقر { نحن نرزقهم وإياكم } وذلك أن أهل الجاهلية ، كانوا يئدون بناتهم خشية الفاقة أو يخافون عليهم من النهب والغارات ، أو أن ينكحوهن لغير أكفاء لشدة الحاجة وذلك عار شديد عندهم فنهاهم الله عن قتلهن وقال نحن نرزقهم وإياكم ، يعني أن الأرزاق بيد الله فكما أنه فتح أبواب الرزق على الرجال فكذلك يفتحه على النساء { إن قتلهم كان خطئاً كبيراً } أي إثماً كبيراً { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة } أي قبيحة زائدة على حد القبح { وساء سبيلاً } أي بئس طريقاً طريقه ، وهو أن تغصب امرأة غيرك أو أخته أو بنته من غير سبب والسبب ممكن وهو الصهر الذي شرعه الله تعالى قيل : إن الزنا يشتمل على أنواع من المفاسد منه المعصية وإيجاب الحد على نفسه ومنها اختلاط الأنساب فلا يعرف الرجل ولد من هو ولا يقوم أحد بتربيته وذلك يوجب ضياع الأولاد ، وانقطاع النسل وذلك يوجب خراب العالم . قوله عز وجل { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة ، وحل القتل إنما ثبت بسبب عارض ، فلما كان كذلك نهى الله عن القتل على حكم الأصل ثم استثنى الحالة التي يحصل فيها حل القتل ، وهي الأسباب العرضية فقال إلا بالحق أي إلا بإحدى ثلاث كما روي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة »(4/255)
أخرجاه في الصحيحين { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سطاناً } أي قوة وولاية على القاتل بالقتل وقيل : سطانه هو أنه يتخير فإن شاء استقاد منه وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا { فلا يسرف في القتل } أي الولي قال بان عباس : لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتل أشرف منه . وقيل معناه إذا كان القتيل واحداً فلا يقتل به جماعة بل بواحد وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفاً فلا يرضون بقتل القاتل وحده حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه ، وقيل معناه أن لا يمثل بالقاتل { إنه كان منصوراً } قيل الضمير راجع للمقتول ظلماً يعني أنه منصور في الدنيا بايجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه وايجاب النار لقاتله ، وقيل : الضمير راجع إلى ولي المقتول معناه : إنه كان منصوراً على القاتل باستيفاء القصاص منه أو الدية وقيل في قوله : فلا يسرف في القتل أراد به القاتل المعتدي بالقتل بغير الحق فإنه إن فعل ذلك فولي القتيل منصور عليه باستيفاء القصاص منه . قوله سبحانه وتعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } أي الطريقة التي هي أحسن ، وهي تنميته وحفظه عليه { حتى يبلغ أشده } وهو بلوغ النكاح والمراد ببلوغ الأشد كمال عقله ورشده بحيث يمكنه القيام بمصالح ماله ، وإلا لم ينفك عنه الحجر { وأوفوا بالعهد } أي الإتيان بما أمر الله والانتهاء عما نهي عنه وقيل : أراد بالعهد ما يلتزمه الإنسان على نفسه { إن العهد كان مسؤولاً } أي عنه وقيل مطلوباً وقيل : العهد يسأل فيقال فيم نقضت كالموؤدة تسأل فيم قتلت . قوله عز وجل { وأفوا الكيل إذا كلتم } المراد منه إتمام الكيل { وزنوا بالقسطاس المستقيم } قيل هو ميزان صغيراً كان أو كبيراً ، من ميزان الدراهم إلى ما هو أكبر منه وقيل : هو القبان قيل هو رومي وقيل : سرياني والأصح أنه عربي مأخوذ من القسط وهو العدل أي وزنوا بالعدل المستقيم ، واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم ، فوجب على العاقل الاحتراز عنه وإنما الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء ، فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان ، سعياً في إبقاء الأموال على أربابها { ذلك خير وأحسن تأويلاً } أي أحسن عاقبة من آل إذا رجع ، وهو ما يؤول إليه أمره . قوله سبحانه وتعالى { ولا تقفُ } أي ولا تتبع { ما ليس لك به علم } أي لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم . وقيل : معناه لا ترم أحداً بما ليس لك به علم وقيل لا يتبعه بالحدس والظن وقيل : هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور ، ويتتبعها ويتعرفها والمراد أنه لا يتكلم في أحد بالظن { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً } معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده ، وقيل يسأل السمع البصر والفؤاد ، عما فعله المرء فعلى هذا ترجع الإشارة في أولئك إلى الأعضاء ، وعلى القول الأول ترجع إلى أربابها .(4/256)
عن شكل بن حميد قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا نبي الله علمني تعويذاً أتعوذ به قال : فأخذ بيدي ثم قال : « قل أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر فؤادي وشر لساني وشر قلبي وشر منيي قال فحفظتها » أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي . وقال حديث حسن غريب . قوله : وشر منيي يعني ماءه وذكره . قوله عز وجل { ولا تمش في الأرض مرحاً } أي بطراً وكبراً وخيلاء { إنك لن تخرق الأرض } أي لن تقطها بكبرك حتى تبلغ آخرها { ولن تبلغ الجبال طولاً } أي لا تقدر أن تطاول الجبال ، وتساويها بكبرك والمعنى أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئاً كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال ، لا يحصل على شيء . وقيل : إن الذي يمشي مختالاً يمشي مرة على عقبيه ، ومرة على صدور قدميه فقيل له : إنك لن تنقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولاً إن مشيت على صدور قدميك . عن علي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب . أخرجه الترمذي في الشمائل . قوله تكفؤاً : التكفوء التمايل في المشي إلى قدام ، وقوله كأنما ينحط من صبب هو قريب من التكفوء أي كأنه ينحدر من موضع عال ، عن أبي هريرة قال : ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحداً أسرع من مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا . وإنه لغير مكترث . أخرجه الترمذي . قوله : لغير مكترث أي شاق والاكتراث الأمر الذي يشق على الإنسان { كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهاً } أي ما ذكر من الأمور التي نهى الله عنها فيما تقدم . فإن قلت : كيف قيل : سيئة مع قوله مكروهاً؟ قلت : قيل فيه تقديم وتأخير تقديره كل ذلك كان مكروهاً سيئة عند ربك وقوله : مكروهاً على التكرير لا على الصفة أي كل ذلك كان سيئة وكان مكروهاً وقيل إنه يرجع إلى المعنى دون اللفظ ، لأن السيئة الذنب وهو مذكر .(4/257)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
قوله سبحانه وتعالى : { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه الآيات { مما أوحى إليك ربك من الحكمة } أي إن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل لا تقبل النسخ والإبطال فكانت محكمة وحكمة بهذا الاعتبار . وقيل : إن حاصل هذه الآيات يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع البر والطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة وذلك من الحكمة . قيل : إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها : ولا تجعل مع الله إلهاً آخر . قال الله سبحانه وتعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة ، واعلم أن الله سبحانه وتعالى : افتتح هذه الآيات بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك وختمها به ، والمقصود منه التنبيه على أن كل قول وعمل يجب أن يكرر في التوحيد لأنه رأس كل حكمة ، وملاكها ومن عدمه لم ينفعه شيء ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يجب أن يكون صاحبه مذموماً مخذولاً وقال في هذه الآية { ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً } والفرق بين المذموم والملوم أما كونه مذموماً فمعناه ، أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر فهذا معنى كونه مذموماً ثم يقال له : لم فعلت هذا الفعل القبيح وما الذي حملك عليه ، وهذا هو اللوم والفرق بين المخذول والمدحور أن المخذول هو الضعيف الذي لا ناصر له ، والمدحور هو المبعد المطرود عن كل خير . قوله سبحانه وتعالى { أفأصفاكم ربكم } يعني أفخصكم واختاركم فجعل لكم الصفوة ولنفسه ما ليس بصفوة { بالبنين } يعني اختصكم بأفضل الأولاد وهم البنون { واتخذ من الملائكة إناثاً } لأنهم كانوا يقولون : الملائكة بنات الله مع علمهم بأن الله سبحانه وتعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له وهذا يدل على نهاية جعل القائلين بهذا القول { إنكم لتقولون قولاً عظيماً } يخاطب مشركي مكة يعني بإضافتهم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام ، ثم إنهم يفضلون عليه أنفسهم حيث يجعلون له ما يكرهون لأنفسهم يعني البنات . قوله سبحانه وتعالى { ولقد صرفنا في هذا القرآن } يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام والتشديد في صرفنا للتكثير والتكرير { ليذكروا } أي ليتعظوا ويعتبروا { وما يزيدهم } أي تصريفنا وتذكيرنا { إلا نفوراً } أي تباعداً عن الحق { قل } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين { لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا } أي لطلبوا يعني هؤلاء الآلهة { إلى ذي العرش سبيلاً } أي بالمبالغة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض . وقيل : معناه لتقربوا إليه . وقيل : معناه لتعرفوا إليه فضله فابتغوا ما يقربهم إليه والأول أصح ، ثم نزه نفسه فقال عز وجل { سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً } معنى وصفه بذلك المبالغة في البراءة والبعد عما يصفونه .(4/258)
قوله عز وجل { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن } يعني الملائكة والإنس والجن { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } قال ابن عباس : وإن من شيء حي إلا يسبح . وقيل : جميع الحيوانات والنباتات . قيل : إن الشجرة تسبح والاسطوانة لا تسبح . وقيل : إن التراب يسبح ما لم يبتل ، فإذا ابتل ترك التسبيح ، وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها ، فإذا رفعت تركت التسبيح . وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة ، فإذا سقطت تركت التسبيح ، وإن الماء يسبح ما دام جارياً فإذا ركد ترك التسبيح وإن الثوب يسبح ما دام جديداً فإذا اتسخ ترك التسبيح وإن الوحش والطير لتسبح إذا صاحت ، فإذا سكتت تركت التسبيح وإن من شيء جماد أو حيّ إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف وقيل : كل الأشياء تسبح الله حيواناً كان أو جماداً وتسبيحها : سبحان الله وبحمده ، ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود قال : كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفاً كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال : « اطلبوا فضلة من ماء فجاؤوا بإناء فيه قليل ، فأدخل يده صلى الله عليه وسلم في الإناء ثم قال : حي على الطهور المبارك ، والبركة من الله » فقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل . أخرجه البخاري ( م ) عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إن بمكة حجراً كان يسلم علي ليالي بعثت وإني لأعرفه الآن » ( خ ) عن ابن عمر قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح بيده عليه » وفي رواية « فنزل فاحتضنه وسارَّه بشيء » ففي هذه الأحاديث دليل على أن الجماد يتكلم وأنه يسبح ، وقال بعض أهل المعاني : تسبيح السموات والأرض ، والجمادات والحيوانات سوى العقلاء بلسان الحال ، بحيث تدل على الصانع وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك ، ويصير لها بمنزلة التسبيح والقول الأولاد أصح كم دلت عليه الأحاديث ، وأنه منقول عن السلف . واعلم أن لله تعالى علماً في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن نكل علمه إليه . وقوله تعالى { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } أي لا تعلمون ولا تفهمون تسبيحهم ، ما عدا من يسبح بلغتكم ولسانكم { إنه كان حليماً غفوراً } أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وجهلكم بالتسبيح . قوله عز وجل { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً } أي يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به ، وقيل : معناه مستوراً عن أعين الناس فلا يرونه كما روي عن سعيد بن جبير أنه قال : « لما نزلت تبت يدا أبي لهب جاءت امرأة أبي لهب معها حجر والنبي صلى لله عليه وسلم مع أبي بكر فلم تره فقالت لأبي بكر : أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني فقال لها أبو بكر والله ما ينطق بالشعر ، ولا يقوله فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ رأسه فقال أبو بكر : ما رأتك يا رسول الله .(4/259)
قال : « لا لم يزل ملك بين وبينها » { وجعلنا على قلوبهم أكنة } أي أغطية { أن يفقهوه } أي لئلا يفهموه { وفي آذانهم وقراً } أي ثقلاً لئلا يسمعوه { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده } يعني إذا قلت لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن { ولَّوا على أدبارهم نفوراً } جمع نافر .(4/260)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
{ نحن أعلم بما يستمعون به } أي من الهزء بك وبالقرآن وقيل : معناه نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو التكذيب { إذ يستمعون إليك } أي وأنت تقرآ القرآن { وإذا هم نجوى } أي بما يتناجون به في أمرك ، وقيل : معناه ذوو نجوى بعضهم يقول : هو مجنون وبعضهم يقول هو كاهن وبعضهم يقول ساحر أو شاعر { إذ يقول الظالمون } يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه { إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } أي مطبوباً وقيل مخدوعاً وقيل : معناه أنه سحر فجن . وقيل : هو من السحر وهو الرئة ، ومعناه أنه بشر مثلكم يأكل ويشرب قال الشاعر :
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسخر بالطعام وبالشراب
أي يغذى بهما { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } أي الأشباه فقالوا : ساحر شاعر كاهن مجنون { فضلّوا } أي في جميع ذلك وحاروا { فلا يستطيعون سبيلاً } أي إلى طريق الحق { وقالوا أئذا كنا عظاماً } أي عبد الموت { ورفاتاً } أي تراباً وقيل : الرفات هي الأجزاء المتفتتة من كل شيء تكسر { أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً } فيه أنهم اسعبدوا الإعادة بعد الموت والبلى . فقال سبحانه وتعالى رداً عليهم { قل } أي قل يا محمد { كونوا حجارة } أي في الشدة { أو حديداً } أي في القوة وليس هذا بأمر إلزام بل هو أمر تعجيزي أي استشعروا في قلوبكم ، أنكم حجارة أو حديد في القوة { أو خلقاً مما يكبر في صدوركم } قيل : يعني السماء والأرض والجبال لأنها أعظم المخلوقات . وقيل : يعني به الموت لأنه لا شيء في نفس ابن آدم أكبر من الموت ، ومعناه لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم { فسيقولون من يعيدنا } أي من يبعثنا بعد الموت { قل الذي فطركم } أي خلقكم { أول مرة } فمن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة { فسينغضون إليك رؤوسهم } أي يحركونها إذا قلت لهم ذلك مستهزئين بما تقول { ويقولون متى هو } يعني البعث والقيامة { قل عسى أن يكون قريباً } أي هو قريب { يوم يدعوكم } أي من قبوركم إلى موقف القيامة { فتستجيبون بحمده } قال ابن عباس : بأمره وقيل بطاعته وقيل مقرين بأنه خالقهم وباعثهم ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد ، وقيل : هذا خطاب مع المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين { وتظنون إن لبثتم } أي في الدنيا وقيل في القبور { إلا قليلاً } وذلك لأن الإنسان لو مكث في الدنيا وفي القبر ألوفاً من السنين ، عد ذلك قليلاً بنسبة مدة القيامة والخلود في الآخرة ، وقيل : إنهم يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة . قوله سبحانه وتعالى { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } وذلك أن المشركين كانوا يؤذون المسلمين ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل . وقل لعبادي يقولوا يعني للكفار التي هي أحسن ، أي لا يكافئوهم على سفههم بل يقولون لهم يهديكم الله وكان هذا قبل الإذن في القتال والجهاد .(4/261)
وقيل : نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أنه شتمه بعض الكفار ، فأمره الله بالعفو . وقيل : أمر الله المؤمنين أن يقولوا ويفعلوا الخلة التي هي أحسن وقيل الأحسن كلمة الإخلاص لا إله إلا الله { إن الشيطان ينزغ بينهم } أي يفسد ويلقي العداوة بينهم { إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً } أي ظاهر العداوة . قوله عز وجل : ربكم أعلم بكم { إن شاء يرحمكم } أي يوفقكم للإيمان فتؤمنوا { أو إن يشأ يعذبكم } أي يميتكم على الشرك فتعذبوا ، وقيل معناه إن يشأ يرحمكم فينجيكم من أهل مكة ، وإن يشأ يعذبكم أي يسلطهم عليكم { وما أرسلناك عليهم وكيلاً } أي حفيظاً وكفيلاً قيل : نسختها آية القتال { وربك أعلم بمن في السموات والأرض } يعني أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ومتعلق بجميع ذات الأرضين والسموات ، ويعلم حال كل أحد ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد وقيل : معناه أنه عالم بأحوالهم واختلاف صورهم وأخلاقهم ومللهم وأديانهم { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } وذلك أنه اتخذ إبراهيم خليلاً وكلم موسى تكليماً ، وقال لعيسى : كن فكان وآتى سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وآتى داود زبوراً وذلك قوله تعالى { وآتينا داود زبوراً } وهو كتاب أنزله الله على داود يشتمل على مائة وخمسون سورة ، كلها دعاء وثناء على الله تعالى وتحميد وتمجيد ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود ولا أحكام . فإن قلت : لم خص داود في هذه الآية بالذكر دون غيره من الأنبياء؟ قلت : فيه وجوه : أحدها أن الله ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض ثم قال تعالى : وآتينا داود زبوراً وذلك أن داود أعطي من النبوة الملك ، فلم يذكره بالملك وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيهاً على أن الفضل المذكور في هذه الآية المراد به العلم لا الملك والمال . الوجه الثاني : أن الله سبحانه وتعالى كتب له في الزبور أن محمداً خاتم الأنبياء ، وأن أمته خير الأمم فلهذا خصه بالذكر . الوجه الثالث : أن اليهود زعمت أن لا نبي بعد موسى ، ولا كتاب بعد التوراة فكذبهم الله بقوله : وآتينا داود زبوراً ومعنى الآية أنكم لن تنكروا تفضيل النبيين ، فكيف تنكرون تفضيل النبي صلى الله عليه سلم وإعطاءه القرآن وأن الله آتى موسى التوراة ، وداود الزبور وعيسى الأنجيل فلم يبعد أن يفضل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } وهذا خطاب مع من يقر بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . قوله عز وجل { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه } وذلك أن الكفار أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف ، فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم فقال الله عز وجل : قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه { فلا يملكون كشف الضر عنكم } أي الجوع والقحط { ولا تحويلاً } أي إلى غيركم أو تحويل الحال من العسر إلى اليسر ، ومقصود الآية الرد على المشركين ، حيث قالوا ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله فنحن المقربين إليه ، وهم الملائكة .(4/262)
ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالاً وصورة وقد اشتغلوا بعبادته فاحتج على بطلان قولهم بهذه الآية وبين عجز آلهتهم ثم قال تعالى { أولئك الذين يدعون } أي الذين يدعون المشركون آلهة { يبتغون إلى ربهم الوسيلة } أي القربة والدرجة العليا . قال ابن عباس : هم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم . وقال عبد الله بن مسعود : نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم أولئك الجن ، ولم يعلم الإنس بذلك فتمسكوا بعبادتهم فعيرهم الله وأنزل هذه الآية . قوله تعالى { أيهم أقرب } معناه ، ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به ، وقيل : أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله ، ويتقرب إليه بالعمل الصالح وازدياد الخير والطاعة { ويرجون رحمته } أي جنته { ويخافون عذابه } وقيل : معناه يرجون ويخافون كغيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة { إن عذاب ربك كان محذوراً } أي حقيقاً بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب ، ونبي مرسل فضلاً عن غيرهم من الخلائق .(4/263)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
قوله سحانه وتعالى : { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة } أي بالموت والخراب { أو معذبوها عذاباً شديداً } أي بالقتل وأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا ، وقيل : الإهلاك في حق المؤمنين الإماتة وفي حق الكفار العذاب قال عبد الله بن مسعود : إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله في هلاكها { كان ذلك في الكتاب } أي في اللوح المحفوظ { مسطوراً } أي مكتوباً مثبتاً . عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إن أو ما خلق الله القلم فقال له : اكتب فقال : ما أكتب : قال : القدر وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد » أخرجه الترمذي . قوله سبحانه وتعالى { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } قال ابن عباس « سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وفضة وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما سألوا فعلت ، فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا بل تستأني بهم » فأنزل الله عز وجل { وما منعنا أن نرسل الآيات } أي التي سألها الكفار قومك { إلا أن كذب بها الأولون } أي فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك بعد إرسال الآيات أهلكناهم ، لأن من سنتنا في الأمم إذا سألوا الآيات ثم لم يؤمنوا بعد إتيانها أن نهلكهم ولا نمهلهم وقد حكمنا بإمهال هذه الأمة إلى يوم القيامة ، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا فقال تعالى { وآتينا ثمود الناقة مبصرة } أي بينة ، وذلك لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم { فظلموا بها } أي جحدوا أنها من عند الله . وقيل : فظلموا أنفسهم بتكذيبها فعاجلناهم بالعقوبة { وما نرسل بالآيات } المقترحة { إلا تخويفاً } أي وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً من العذاب ، فإن لم يخافوا وقع عليهم . وقيل : معناه وما نرسل بالآيات يعني العبر والدلالات ، إلا تخويفاً إي إنذاراً بعذاب الآخرة إن لم يؤمنوا فإن الله سبحانه وتعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يرجعون . قوله عز وجل { وإذ قلنا لك } أي واذكر يا محمد إذ قلنا لك { إن ربك أحاط بالناس } أي إن قدرته محيطة بهم فهم في قبضته وقدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته وإذا كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره وهو حافظك ومانعك منهم ، فلا تهبهم وامض لما أمرك من التبليغ للرسالة ، فهو ينصرك ويقويك على ذلك { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } الأكثرون من المفسرين على أن المراد ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من العجائب والآيات .(4/264)
قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه سلم ليلة المعراج وهي ليلة أسري به إلى بيت المقدس أخرجه البخاري . وهو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وغيرهم . والعرب تقول : رأيت بعيني رؤية ورؤيا فلما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أنكر بعضهم ذلك وكذبوا فكانت فتنة للناس ، وازداد المخلصون إيماناً . وقال قوم : أسري بروحه دون جسده وهو ضعيف . وقال قوم كان له معراجان : معراج رؤية عين في اليقظة ومعراج رؤيا منام . وقيل : أراد بهذه الرؤيا ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، أنه دخل مكة هو وأصحابه فعجل المسير إلى مكة قبل الأجل ، فصده المشركون فرجع إلى المدينة فكان رجوعه في ذلك العام بعدما أخبر أنه يدخلها فتنة لبعضهم ، ثم دخل مكة في العام المقبل وأنزل الله عز وجل لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ، وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن ولد الحكم بن أمية يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة فساءه ذلك . فإن اعترض معترض على هذا التفسير وقال السورة مكية وهاتان الواقعتان كانتا بالمدينة أجيب بأنه لا إشكال فيه فإنه لا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ذلك بمكة ، ثم كان ذلك حقيقة بالمدينة { والشجرة الملعونة في القرآن } يعني شجرة الزقوم التي وصفها الله تعالى في سورة الصافات والعرب تقول لكل طعام كريه : طعام ملعون والفتنة فيها أن أبا جهل قال : إن ابن أبي كبشة يعني النبي صلى الله علي وسلم توعدكم بنار تحرق الحجارة ، ثم يزعم أنه تنبت فيها شجرة وتعلمون أن النار تحرق الشجر . وقيل : إن عبد الله بن الزبعري قال : إن محمداً يخوفنا بالزقوم ولا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر ، فقال أبو جهل : يا جارية تعالي فزقمينا فأتت بزبد وتمر فقال يا قوم فإن هذا ما يخوفكم به محمد ، فأنزل الله سبحانه وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر { إنا جعلناها فتنة للظالمين } الآيات . فإن قلت : أين لعنت شجرة الزقوم في القرآن ، قلت : لعنت حيث لعن الكفار الذين يأكلونها لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن ، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز . وقيل وصفها الله تعالى باللعن لأن اللعن الإبعاد من الرحمة ، وهي في أصل جهنم في أبعد مكان من الرحمة ، وقال ابن عباس : في رواية عنه إن الشجرة الملعونة هي الكشوث الذي يلتوي على الشجر والشوك فيجففه { ونخوفهم فما يزيدهم } أي التخويف { إلا طغياناً كبيراً } أي تمرداً وعتواً عظيماً قوله سبحانه وتعالى { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً } أي من طين وذلك أن آدم خلق من تراب الأرض من عذبها وملحها ، فمن خلق من العذب فهو سعيد ومن خلق من الملح فهو شقي { قال } يعني إبليس { أرأيتك } الكاف للمخاطب والمعنى أخبرني { هذا الذي كرمت علي } أي فضلته { لئن أخرتن } أي أمهلتني { إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته } أي لأستأصلنهم بالاضلال .(4/265)
وقيل : معناه لأقودنهم كيف شئت . وقيل : لأستولين عليهم بالإغواء { إلا قليلاً } يعني المعصومين الذي استثناهم الله تعالى في قوله { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } { قال } الله تعالى { اذهب } أي امض لشأنك وليس هو من الذهاب الذي هو ضد المجيء { فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم } أي جزاؤك وجزاء أتباعك { جزاء موفوراً } أي مكملاً . قوله سبحانه وتعالى { واستفزز } أي استخفف واستزل واستعجل وأزعج { من استعطت منهم } أي من ذرية آدم { بصوتك } قال ابن عباس : معناه بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية الله فهو من جند إبليس . وقيل : أراد بصوتك الغناء والمزامير واللهو واللعب { واجلب عليهم بخيلك ورجلك } أي أجمع عليهم مكايدك وحبائلك ، واحثثهم على الإغواء . وقيل : معناه استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم . يقال : إن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس فكل من قاتل أو مشى في معصية الله ، فهو من جند إبليس . وقيل : المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك { وشاركهم في الأموال والأولاد } أما المشاركة في الأموال فكل مال أصيب من حرام أو أنفق في حرام ، وقيل هو الربا ، وقيل : هو ما كانوا يذبحونه لآلهتهم ويحرمونه كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وأما المشاركة في الأولاد فروي عن ابن عباس أنها الموؤدة ، وقيل : أولاد الزنا . وعن ابن عباس أيضاً هي تسميتهم أولادهم بعبد العزى ، وعبد الحارث وعبد شمس ونحوه ، وقيل : هو أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة الكاذبة ، كاليهودية والنصرانية والمجوسية ونحوها . وقيل إن الشيطان يقعد على ذكر الرجل وقت الجماع فإذا لم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما نزل الرجل . وروي في بعض الأخبار أن فيكم مغربين قال : ما المغربون قال : الذين شارك فيهم الجن . وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال : إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار قال : ذلك من وطء الجن { وعدهم } أي منهم الجميل في طاعتك ، وقيل : قل لهم لا جنة ولا نار ولا بعث ، وذلك أن الشيطان إذا دعا المعصية فلا بد أن يقرر أولاً أنه لا مضرة في فعلها البتة ، وذلك لا يمكن إلا إذا قال له لا معاد ولا جنة ولا نار ولا حياة بعد هذه الحياة ، فيقرر عند المدعو أنه لا مضرة في هذه المعاصي وإذا فرغ من هذا النوع قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في الدنيا إلا به ، فهذا طريق الدعوة إلى المعصية ثم ينفره عن فعل الطاعات وأنه يقرر عنده أن لا جنة ولا نار ولا عقاب فلا فائدة فيها .(4/266)
وقيل معنى عدهم أي شفاعة الأصنام عند الله وإيثار العاجل على الأجل . فإن قلت : كيف ذكر الله هذه الأشياء بصيغة الأمر ، والله سبحانه وتعالى يقول : إن الله لا يأمر بالفحشاء؟ قلت : هذا على طريق التهديد كقوله تعالى : اعلموا ما شئتم . وكقول القائل اجتهد جهدك فسترى ما ينزل بك . وقوله سبحانه وتعالى { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } أي يزين الباطل بما يظن أنه حق واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما قال : وعدهم ، أردفه بما هو زاجر عن قبول وعده بقوله : ما يعدهم الشيطان إلا غرورا والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى قضاء الشهوة وطلب الرياسة ونحو ذلك ، ولا يدعو إلى معرفة الله تعالى ، ولا إلى عبادته وتلك الأشياء التي يدعو إليها خيالية لا حقيقة لها ولا تحصل إلا بعد متاعب ومشاق عظيمة ، وإذا حصلت كانت سريعة الذهاب والانقضاء وينغصها الموت والهرم وغير ذلك ، وإذا كانت هذه الأشياء بهذه الصفة كانت الرغبة فيها غروراً .(4/267)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
{ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } يعني بعبادة الأنبياء وأهل الفضل الصلاح لأنه لا يقدر على إغوائهم { وكفى بربك وكيلاً } أي حافظاً . والمعنى : أنه سبحانه وتعالى لما أمكن إبليس أن يأتي بما يقدر عليه من الوسوسة كان ذلك سبباً لحصول الخوف في قلب الإنسان ، قال تعالى { وكفى بربك وكيلاً } أي فالله سبحانه وتعالى أقدر منه وأرحم بعباده فهو يدفع عنهم كيد الشيطان ووساوسه ، ويعصمهم من إغوائه وإضلاله . وفي بعض الآثار أن إبليس لما خرج إلى الأرض قال : يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذريته قال : أنت مسلط . قال : لا أستطيعه إلا بك فزدني . قال : استفزز من استطعت منهم الآية . فقال آدم : يا رب سلطت إبليس علي وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك قال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه قال رب زدني قال الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها قال رب زدني قال : التوبة معروضة ما دام الروح في الجسد قال رب زدني فقال يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية . وفي الخبر قال إبليس : يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتباً فما قراءتي؟ قال : الشعر . قال : فما كتابي؟ قال : الوشم ، قال : ومن رسلي؟ قال الكهنة . قال : أي شيء مطعمي؟ قال ما لم يذكر عليه اسمي قال فما شرابي قال كل مسكر قال : وأين مسكني؟ قال الحمامات قال وأين مجلسي؟ قال في الأسواق قال : وما حبائلي قال : النساء قال : وما أذاني؟ قال المزمار . قوله { ربكم الذين يزجي } أي يسوق ويجري { لكم الفلك } أي السفن { في البحر لتبتغوا من فضله } أي لتطلبوا من رزقه بالأرباح في التجارة وغيرها { إنه كان بكم رحيماً } أي حيث يسر لكم هذه المنافع ، والمصالح وسهلها عليكم { وإذا مسكم الضر في البحر } أي الشدة وخوف الغرق في البحر { ضل من تدعون } أي ذهب من أوهامكم وخواطركم كل من تدعون في حوادثكم من الأصنام وغيرها { إلا إياه } أي أجاب دعاءكم لا تذكرون سواه ولا يخطر ببالكم غيره لأنه القادر على إعانتكم ونجاتكم { فلما نجاكم } أي أجاب دعاءكم وأنجاكم من هول البحر وشدته وأخرجكم { إلى البر أعرضتم } أي عن الإيمان والإخلاص والطاعة ، وكفرتم النعمة وهو قوله تعالى { وكان الإنسان كفوراً } أي جحوداً { أفأمنتم } أي بعد إنجائكم { أن يخسف بكم جانب البر } أي تغوره . والمعنى : أن الجهات كلها له ، وفي قدرته براً كان أو بحراً بل إن كان الغرق في البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه يغيب تحت الثرى كما أن الغرق يغيب تحت الماء { أو يرسل عليكم حاصباً } أي نمطر عليكم حجارة من السماء ، كما أمطرناها على قوم لوط { ثم لا تجدوا لكم وكيلاً } أي مانعاً وناصراً { أم أمنتم أن يعيدكم فيه } أي في البحر { تارة } أي مرة { أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح } قال ابن عباس : أي عاصفاً وهي الريح الشديدة .(4/268)
وقيل : الريح التي تقصف كل شيء من شجر وغيره { فيغرقكم بما كفرتم } أي بكفرانكم النعمة وإعراضكم حين أنجيناكم { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً } التبيع المطالب . والمعنى : أنا نفعل ما نفعل بكم ثم لا تجدون لكم أحداً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً لكم ودركاً للثأر من جهتنا . وقيل : معناه من يتبعنا بالإنكار علينا .(4/269)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
قوله تعالى : { ولقد كرمنا بني آدم } قال ابن عباس : هو أنهم يأكلون بالأيدي وغير الآدمي يأكل بفيه من الأرض وقال أيضاً بالعقل وقيل بالنطق والتمييز والخط والفهم ، وقيل باعتدال القامة وامتدادها وقيل بحسن الصورة وقيل : الرجل باللحى والنساء بالذوائب . وقيل : بتسليطهم على جميع ما في الأرض وتسخيره لهم وقيل : بحسن تدبيرهم أمر المعاش والمعاد . وقيل بأن منهم خير أمة أخرجت للناس { وحملناهم في البر } أي على الإبل والخيل والحمير { والبحر } أي وحملناهم في البحر على السفن ، وهذا من مؤكدات التكريم لأن الله تعالى سخر لهم هذه الأشياء لينتفعوا بها ، ويستعينوا بها على مصالحهم { وزرقناهم من الطيبات } يعني لذيذ المطاعم والمشارب وقيل الزبد والتمر والحلواء ، وجعل رزق غيرهم مما لا يخفى ، وقيل : إن جميع الأغذية إما نباتية وإما حيوانية ولا يتغذى الإنسان إلا بأطيب القسمين بعد الطبخ الكامل والنضج التام ولا يحصل هذا لغير الإنسان { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } واعلم أن الله تعالى قال في أول الآية : ولقد كرمنا بني آدم وفي آخرها وفضلناهم ، ولا بد من الفرق بين التكريم والتفضيل والإلزام التكرار والأقرب أن يقال : إن الله تعالى كرم الإنسان على سائر الحيوان بأمور خلقية ذاتية طبيعية ، مثل العقل والنطق والخط وحسن الصورة ، ثم إنه سبحانه وتعالى عرفه بواسطة ذلك العقل والفهم اكتساب العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة ، فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل . ثم قال سبحانه وتعالى : على كثير ممن خلقنا تفضيلاً . ظاهر الآية يدل على أنه فضل بني آدم على كثير ممن خلق لا على الكل فقال : قوم فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة وهذا مذهب المعتزلة . وقال الكلبي : فضلوا على الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزائيل وأشباههم . وقيل : فضلوا على جميع الخلائق وعلى الملائكة كلهم . فإن قلت : كيف تصنع بكثير؟ قلت : يوضع الأكثر موضع الكل كقوله تعالى { يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } أراد كلهم وفي الحديث عن جابر يرفعه قال : « لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا ، ولنا الآخرة فقال : لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان » وقيل بالتفضيل وهو الأولى والراجح أن خواص بني آدم وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة ، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر من بني آدم ، وهذا التفضيل إنما هو بين الملائكة والمؤمنين من بني آدم لأن الكفار لا حرمة لهم قال الله سبحانه وتعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : المؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة الذين عنده .(4/270)
وقوله عز وجل { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } أي بنبيهم وقيل بكتابهم الذي أنزل عليهم ، وقيل بكتاب أعمالهم وعن ابن عباس : إمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إما إلى هدى وإما إلى ضلالة وذلك أن كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر . وقيل : بمعبودهم وقيل بإمامهم جمع أم يعني بأمهاتهم والحكمة فيه رعاية حق عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما ، وأن لا يفتضح أولاد الزنا { فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم } فإن قلت : لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم ، مع أن أصحاب الشمال يقرؤونه أيضاً . قلت : الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم ، وجدوه مشتملاً على مشكلات عظيمة فيستولي عليهم الخجل والدهشة فلا يقدرون على إقامة حروفه فتكون قراءتهم كلا قراءة ، وأصحاب اليمين إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملاً على الحسنات والطاعات فيقرؤونه أحسن قراءة وأبينها { ولا يظلمون فتيلاً } أي ولا ينقصون من ثواب أعمالهم أدنى شيء .(4/271)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
{ ومن كان في هذه أعمى } المراد عمى القلب والبصيرة لا عمى البصر . والمعنى : ومن كان في هذه الدنيا أعمى ، أي عن هذه النعم التي قد عدها في هذه الآيات { فهو في الآخرة } أي التي لم تعاين ولم تر { أعمى وأضل سبيلاً } قاله ابن عباس : وقيل معناه ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب عن رؤية قدرة الله وآياته ورؤية الحق فهو في الآخرة أعمى أي أشد عمى وأضل سبيلاً ، أي أخطأ طريقاً . وقيل : معناه ومن كان في الدنيا كافراً ضالاً ، فهو في الآخرة أعمى لأنه في الدنيا تقبل توبته ، وفي الآخرة لا تقبل تبوته ، قوله سبحانه وتعالى { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك } قيل في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الحجر الأسود ، فمنعته قريش وقالوا : لا ندعك حتى تلم بآلهتنا وتمسها فحدث نفسه ما علي أن أفعل ذلك ، والله يعلم إني لها كاره بعد أن يدعوني أستلم الحجر . وقيل طلبوا منه أن يذكر آلهتهم حتى يسلموا ، ويتبعوه فحدث نفسه فأنزل الله هذه الآية . وقال ابن عباس : قد وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال . قال : وما هن؟ قالوا : لا نحبي في الصلاة أي لا ننحني و لا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود ، وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم ، فذلك لكم وأما الطاغية يعني اللات والعزى فإني غير ممتعكم بها » قالوا : يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرها فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فأنزل الله تعالى وإن كادوا أي هموا ليفتنونك أي ليصرفونك عن الذي أوحينا إليك { لتفتري } أي لتختلق وتبتعث { علينا غيره } ما لم تقله { وإذاً } أي لو فعلت ما دعوك إليه { لاتخذوك خليلاً } أي والوك ووافوك وصافوك { ولولا أن ثبتناك } أي على الحق بعصمتنا إياك { لقد كدت تركن } أي تميل { إليهم شيئاً قليلاً } أي قربت من الفعل . فإن قلت كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوماً فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه . قلت : كان ذلك خاطر قلب ولم يكن عزماً وقد عفا الله تعالى عن حديث النفس وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين »(4/272)
والجواب الصحيح هو أن الله سبحانه وتعالى قال ولولا أن ثبتناك وقد ثبته الله فلم يركن إليهم { إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات } أي لو فعلت لأذقناك عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني ضعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة { ثم لا تجد لك علينا نصيراً } أي ناصراً يمنعك من عذابنا . قوله سبحانه وتعالى { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها } قيل : هذه الآية مدنية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كره اليهود مقامه بالمدينة ، وذلك حسداً فأتوه فقالوا : يا أبا القاسم لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء ، وإن أرض الأنبياء الشام ، وهي الأرض المقدسة وكان بها إبراهيم والأنبياء عليهم السلام ، فإن كنت نبياً مثلهم فأت الشام ، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافة الروم ، وإن الله سيمنعك من الروم إن كنت رسوله فعسكر النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أميال من المدينة وفي رواية إلى ذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ، فيخرج فأنزل الله هذه الآية فالأرض هنا أرض المدينة ، وقيل الأرض أرض مكة والآية مكية والمعنى : همّ المشركون أن يخرجوه منها فكفهم الله عنه حتى أمره بالخروج للهجرة فخرج بنفسه وهذا أليق بالآية لأن ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية . وقيل : همّ المشركون كلهم وأرادوا أن يستفزوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله رسوله ولم ينالوا منه ما أملوه والاستفزاز الازعاج { وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً } إي لا يبقون بعد إخراجك إلا زماناً قليلاً حتى يهلكوا .(4/273)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
قوله سبحانه وتعالى : { سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا } يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن يهلكهم وأن لا يعذبهم مادام نبيهم بينهم فإذا خرج من بين أظهرهم عذبهم { ولا تجد لسنتنا تحويلاً } أي تبديلاً . قوله سبحانه وتعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس } وروي عن ابن معسود أنه قال الدلوك الغروب وهو قول النخعي ومقاتل والضحاك والسدي . قال ابن عباس وابن عمر وجابر : هو زوال الشمس . وهو قول عطاء وقتادة ومجاهد والحسن وأكثر التابعين . ومعنى اللفظ : يجمعهما ، لأن أصل الدلوك الميل والشمس : تميل إذا زالت وإذا غربت والحمل على الزوال أولى القولين : لكثرة القائلين به وإذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها فدلوك الشمس يتناول صلاة الظهر والعصر { إلى غسق الليل } أي ظهور ظلمته وقال ابن عباس : بدو الليل وهذا بتناول المغرب والعشاء { وقرآن الفجر } يعني صلاة الفجر سمى الصلاة قرآنا لأنها لا تجوز إلا بالقرآن { إن قرآن الفجر كان مشهوداً } أي يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ( خ ) . عن أبي هريرة قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءاً وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر » ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم إن قرآن الفجر كان مشهوداً . قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره : هذا دليل قاطع قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان ، إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين ، ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القرآن وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء ، وحضرت ملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت الإسفار فهناك لم يبق أحد من ملائكة الليل ، فلا يحصل المعنى المذكور في الآية فثبت أن قوله تعالى { إن قرآن الفجر كان مشهوداً } دليل على أن الصلاة في أول وقتها أفضل . قوله سبحانه وتعالى { ومن الليل فتهجد به } أي قم بعد نومك ، والتهجد لا يكون إلا بعد القيام من النوم . والمراد من الآية قيام الليل للصلاة ، وكانت صلاة الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة في الابتداء لقوله تعالى { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه } ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخاً في حق الأمة بالصلوات الخمس ، وبقي قيام الليل على الاستحباب بدليل قوله تعالى { فاقرؤوا ما تيسر منه } وبقي الوجوب ثابتاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى { نافلة لك } أي زيادة لك يريد فريضة زائدة على سائر الفرائض التي فرضها الله عليك روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(4/274)
« ثلاث هن عليّ فريضة وهن سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل » وقيل : إن الوجوب صار منسوخاً في حقه كما في حق الأمة : فصار قيام الليل نافلة لأن الله سبحانه وتعالى قال : نافلة لك ولم يقل عليك . فإن قلت : ما معنى التخصيص إذا كان زيادة في حق المسلمين كما في حقه صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : فائدة التخصيص أن النوافل كفارات لذنوب العباد والنبي صلى الله عليه وسلم ، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكانت له نافلة وزيادة في رفع الدرجات .
فصل
في الأحاديث الواردة في قيام الليل ( ق ) عن المغيرة بن شعبة قال : « قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انفتحت قدماه فقيل له أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : أفلا أكون عبداً شكوراً » ( م ) عن زيد بن خالد الجهني : قال لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقال فصلى ركعتين خفيفتين ، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلَّى ركعتين دون اللتين قبلهما ، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة لفظ أبي داود ( ق ) ، « عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت : ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على أكثر من أحدى عشر ركعة يصلي أربعاً ، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً ، قالت عائشة : فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة : إنّ عيني تنامان ولا ينام قلبي » ( ق ) عنها قالت « كان رسول الله صلى الله عليه سلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشر ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة ، ويسجد سجدتين قدر ما يسجد ، ويقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر ، وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة » ( خ ) عنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين » عن عوف بن مالك الأشجعي قال : « قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرآ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ولا يمر بآية عذاب ، إلا وقف وتعوذ ثم ركع بقدر قيامه ، يقول في ركوعه .(4/275)
سبحانه ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ، ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ثم قام فقرأ بآل عمران ثم قرآ سورة النساء « أخرجه أبو داود النسائي . » عن عائشة قالت : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة « أخرجه الترمذي ( ق ) عن الأسود قال : » سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل قالت كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه ، فإذا أذن المؤذن وثب ، فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج « عن أنس قال : » ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصلياً إلا رأيناه ولا نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه « أخرجه النسائي . زاد في رواية غيره قال : » وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئاً ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئاً « وقوله عز وجل : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } أجمع المفسرون على أن عسى من الله واجب وذلك لأن لفظه عيسى تفيد الإطماع ومن أطمع إنساناً في شيء ثم أحرمه كان ذلك عاراً عليه والله أكرم من أن يطمع أحداً ثم لا يعطيه ما أطمعه فيه . والمقام المحمود هو مقام الشفاعة لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبات دعوتي شفاة لأمتي ، فهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً « ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ فمن صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تبتغى إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة « ( م ) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة « ( ع ) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك وفي رواية فيلهمون لذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا ، فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ، وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول : لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها ، ولكن ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحاً فيقول لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً فيأتون إبراهيم ، فيقول : لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها ، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله ، وأعطاه التوراة قال فيأتون موسى فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها ، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته فيأتون عيسى روح الله وكلمته فيقول : لست هناكم ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عبداً قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فيأتوني فأستأذن على ربي تعالى فيؤذن لي فإذا أنا رأيته ، وقعت ساجداً فيدعني ما شاء فيقول : يا محمد ارفع رأسك قل تسمع سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرجهم من النار ، وأدخلهم الجنة ثم أعود فأقع ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال لي : ارفع يا محمد رأسك قل تسمع ، سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرجهم من النار ، وأدخلهم الجنة قال فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي من وجب عليه الخلود «(4/276)
وفي رواية البخاري ثم تلا هذه الآية عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ، قال وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم زاد في رواية « فقال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة ، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة » قال يزيد بن زريع في حديث شعبة ذرة وفي رواية من إيمان مكان خير ، وفي حديث معبد بن هلال العنزي عن أنس في حديث الشفاعة ، وذكر نحوه وفيه فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فانطلق فافعل قال فلما خرجنا من عند أنس ، مررنا بالحسن فسلمنا عليه فحدثناه بالحديث إلى هذا الموضع فقال : هيا ، فقلنا : لم يزدنا على هذا فقال لقد حدثني ، وهو يومئذ جميع منذ عشرين سنة كما حدثكم ، ثم قال : ثم أعود في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجداً فيقال لي يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال : ليس ذلك لك أو قال ليس ذاك إليك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي ، لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله .(4/277)
قوله : وهو يومئذ جميع أي مجتمع الذهن والرأي . عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيد لواء الحمد ، ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ، ولا فخر قال فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا اشفع لنا إلى ربك فيقول : إني أذنبت ذنباً عظيماً فأهبطت به إلى الأرض ولكن ائتوا نوحاً فيأتون نوحاً فيقول : إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول : إني كذبت ثلاث كذبات ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دينه الله ولكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول قد قتلت نفساً ولكن ائتوا عيسى فيأتون عيسى فيقول : إني عبدت من دون الله ولكن ائتوا محمداً فيأتوني فأنطلق بهم » قال : ابن جدعان : قال أنس فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه سلم قال فآخذ بحلقة باب فأقعقعها ، فيقال من هذا؟ فيقال : محمد فيفتوحون لي ويقولون مرحباً فأخرج ساجداً فيلهمني الله من الثناء والحمد فيقال لي ارفع رأسك وسل تعط ، واشفع تشفع وقل يسمع لقولك وهو المقام المحمود الذي قال الله سبحانه وتعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً . قال سفيان : ليس عن أنس غير هذه الكلمة فآخذ بحلقة باب الجنة فاقعقعها فيقال : من هذا فيقال محمد فيفتحون لي ويرحبون فيقولون : مرحباً فأخر ساجداً فيلهمني الله من الثناء والحمد « أخرجه الترمذي . قوله : ماحل المماحلة : المخاصمة المجادلة . والمعنى : أنه عليه الصلاة والسلام خاصم وجادل عن دين الله بتلك الألفاظ التي صدرت منه . قوله : فاقعقعها أي أحركها حركة شديدة والقعقعة حكاية أصوات الترس وغيره مما له صوت . عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا ولواء حمد يومئذ بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر « أخرجه الترمذي زاد في رواية غير الترمذي : وأنا مستشفعهم إذا حبسوا الكرامة ، والمفاتيح يومئذ بيدي يطوف علي خدم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور » ( م ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(4/278)
« أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع وأول مشفع » زاد الترمذي ، قال : « أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكس حلقة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش فليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري » عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه قال : إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك ، استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، فيشفع ليقضي بين الخلائق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب ، فيؤمئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده فيه أهل الجمع كلهم ( م ) عن يزيد بن صهيب قال : كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس قال : فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله جالس إلى سارية يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا هو قد ذكر الجهنميين فقلت يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا الذي تحدثونه والله يقول إنك من تدخل النار فقد أخزيته وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ، فما هذا الذي تقولون قال : أتقرأ القرآن؟ قلت : نعم . قال : فاقرأ ما قبله إنه في الكفار ثم قال فهل سمعت بمقام محمد الذي يبعثه الله فيه قلت : نعم قال فإن مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار قال ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه ، قال وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك . قال غيره أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها . قال : يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم قال فيدخلون نهراً من أنهار الجنة فيغتسلون فيه ، فيخرجون منه كأنهم القراطيس فرجعنا فقلنا ويحكم أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجعنا فلا والله ما خرج غير رجل واحد أو كما قال ، والأحاديث في الشفاعة كثيرة وأول من أنكرها عمرو ابن عبيد وهو مبتدع باتفاق أهل السنة . وروى أبو وائل عن ابن مسعود أنه قال : إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً وإن صاحبكم خليل الله وأكرم الخلق عليه . ثم قرأ عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً قال يقعده على العرش . وعن مجاهد مثله وعن عبد الله بن سلام قال يقعد على الكرسي .(4/279)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
قوله عز وجل : { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق } المراد منهما الإدخال والإخراج قال ابن عباس : معناه أدخلني مدخل صدق المدينة وأخرجني مخرج صدق من مكة نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة . وقيل : معناه أخرجني من مكة آمناً من المشركين ، وأدخلني مكة ظاهراً عليها بالفتح ، وقيل : أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مدخل صدق ، وأخرجني من الدنيا ، وقد قمت بما وجب علي من حق النبوة مخرج صدق وقيل : معناه أدخلني في طاعتك مدخل صدق وأخرجني من المناهي مخرج صدق وقيل : معناه أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق ، وأخرجني بالصدق ولا تجعلني ممن يخرج بوجه ويدخل بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون آمناً عند الله { واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً } أي حجة بينة وقيل : ملكاً قوياً تنصرني به على من عاداني وعزاً ظاهراً أقيم به دينك فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرهما ويجعله له ، وأجاب دعاءه فقال له والله يعصمك من الناس ، وقال يظهره على الدين كله وقال : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية . قوله تعالى { وقل جاء الحق } يعني الإسلام والقرآن { وزهق الباطل } أي الشرك والشيطان { إن الباطل كان زهوقاً } أي مضمحلاً غير ثابت ، وذلك أن الباطل وإن كان له دولة وصولة في وقت من الأوقات فهو سريع الذهاب والزوال ( ق ) . عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها يعود في يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً جاء الحق ، وما يبدىء الباطل وما يعيد .(4/280)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
قوله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء } من في قوله تعالى من القرآن لبيان الجنس والمعنى : ننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن ما هو شفاء أي بيان من الضلالة الجهالة ، يتبين به المختلف فيه ويتضح به المشكل ، ويستشفى به من الشبهة ويهتدى به من الحيرة وهو شفاء القلوب بزوال الجهل عنها . وقيل : هو شفاء للأمراض الباطنة والظاهرة ، وذلك لأنها تنقسم إلى نوعين أحدهما الاعتقادات الباطلة ، والثاني الأخلاق المذمومة أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فساداً والاعتقادات الفاسدة في الذات والصفات والنبوات والقضاء والقدر والبعث بعد الموت ، فالقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه الأشياء وابطال المذاهب الفاسدة ، لا جرم ، كان القرآن شفاء لما في القلوب من هذا النوع . وأما النوع الثاني : وهو الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على التنفير منها ، والإرشاد إلى الأخلاق المحمودة والأعمال الفاضلة ، فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الباطنة وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية ، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض . يدل عليه ما روي عن البني صلى الله عليه وسلم في فاتحة الكتاب ، « وما يدريك أنها رقية » { ورحمة للمؤمنين } لما كان القرآن شفاء للأمراض الباطنة والظاهرة ، فهو جدير بأن يكون رحمة للمؤمنين { ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } لأن الظالم لا ينتفع به ، والمؤمن ينتفع به فكان رحمة للمؤمنين وخساراً للظالمين ، وقيل : لأن كل آية تنزل يتجدد لهم تكذيب بها فيزداد خسارهم قال قتادة : لم يجالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضاه الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً . قوله سبحانه وتعالى : { وإذا أنعمنا على الإنسان } أي بالصحة والسعة { أعرض } أي عن ذكرنا ودعائنا { ونأى بجانبه } أي تباعد منا بنفسه وترك التقرب إلينا بالدعاء وقيل : معناه تكبر وتعظيم { وإذ مسه الشر } إي الشدة والضر { كان } أي يائساً قنوطاً ، وقيل : معناه إنه يتضرع ويدعو عند الضر والشدة ، فإذا تأخرت الإجابة يئس فلا ينبغي للمؤمن أن يدع الدعاء ولو تأخرت الإجابة . قوله عز وجل { قل كل } أي كل أحد { يعمل على شاكلته } قال ابن عباس : على ناحيته . وقيل : الشاكلة الطريقة أي على طريقته التي جبل عليها ، وفيه وجه آخر وهو أن كل إنسان يعمل على حسب جوهر نفسه ، فإن كانت نفسه شريفة طاهرة ، صدرت عنه أفعال جميلة وأخلاق زكية طاهرة وإن كانت نفسه كدرة خبيثة صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة رديئة { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً } أي أوضح طريقاً وأحسن مذهباً واتباعاً للحق .(4/281)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
قوله سبحانه وتعالى : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } ( ق ) عن عبد الله بن مسعود قال : بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوكاً على عسيب معه فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح . وقال بعضهم : لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون فقاموا إليه ، وفي رواية ، فقام إليه رجل منهم فقال : يا ابا القاسم ما الروح؟ فسكت وفي رواية ، فقالوا حدثنا عن الروح ، فقام ساعة ينتظر الوحي ، وعرفت أنه يوحى إليه فتأخرت حتى صعد الوحي قال : ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر بي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً . فقال بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه . وفي رواية وما أتوا من العلم إلا قليلاً . قال الأعمش هكذا في قراءتنا . العسيب : جريد النخل وسعفه . وقال ابن عباس : إن قريشاً اجتمعوا وقالوا إن محمداً نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب قط ، وقد ادعى ما ادعى فابعثوا نفراً إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب ، فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها ، أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي وإن أجاب عن اثنتين ولم يجب عن واحد فهو نبي فسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان شأنهم ، فإنه كان لهم حديث عجيب ، وعن رجل بلغ مشرق الأرض ومغربها ما خبره وعن الروح قال فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أخبركم بما سألتم غداً ، ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي . قال مجاهد : اثني عشر يوماً وقيل : خمسة عشر يوماً وقيل أربعين يوماً وأهل مكة يقولون : قد وعدنا محمداً غداً وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء ، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } ونزل في الفتية { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً } نزل فيم بلغ المشرق والمغرب ، قوله { ويسألونك عن ذي القرنين } ونزل في الروح { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } واختلفوا في الذي وقع السؤال عنه ، فروي عن ابن عباس أنه جبريل وعن علي أنه ملك له سبعن ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بكلها . وقال مجاهد : خلق على صورة بني آدم ، لهم أيد وأرجل ورؤوس ليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام . وقال سعيد بن جبير لم يخلق الله خلقاً أعظم من الروح غير العرش لو شاء أن يبتلع السموات والأرض ومن فيها بلقمة واحدة لفعل ذلك صورة خلقه على صورة الملائكة ، وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين ، يقوم يوم القيامة على يمين العرش ، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى اليوم عند الحجب السبعين وأقرب الخلق إلى الله يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد ، ولولا أن بينه وبين الملائكة ستراً من نور لاحترق أهل السموات من نوره .(4/282)
وقيل : الروح هو القرآن لأن الله سماه روحاً ولأن به حياة القلوب . وقيل : هو الروح المركب في الخلق الذي به يحيى الإنسان وهو أصح الأقوال . وتكلم قوم في ما هية الروح فقال بعضهم : هو الدم ألا ترى أن الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم . وقال قوم : هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس . وقال قوم : هو عرض . وقال قوم : هو جسم لطيف يحيا به الإنسان . وقيل : الروح معنى اجتمع فيه النور الطيب والعلم والعلو والبقاء ، إلا ترى أنه إذا كان موجوداً يكون الإنسان موصوفاً بجميع هذه الصفات إذا خرج منه ذهب الكل . وأقاويل الحكماء والصوفية في ما هية الروح كثيرة ، وليس هذا موضع استقصائها وأولى الأقاويل أن يوكل علمه إلى الله عز وجل هو قول أهل السنة قال عبد الله بن بريدة : إن الله لم يطلع على الروح ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً بدليل قوله : قل الروح من أمر ربي أي من علم ربي الذي استؤثر به { وما أوتيتم من العلم } من علم ربي { إلا قليلاً } أي في جنب علم الله عز وجل الخطاب عام . وقيل : هو خطاب لليهود فإنهم كانوا يقولون : أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير ، فقيل لهم : إن علم التوراة قليل في جنب علم الله . وقيل إن القلة والكثرة تدوران مع الإضافة فوصف الشيء بالقلة مضافاً إلى ما فوقه ، وبالكثرة مضافاً إلى ما تحته وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم علم معنى الروح ولكن لم يخبر به لأن ترك الإخبار به كان علماً لنبوته . والقول الأصح هو أن الله عز وجل استأثر بعلم الروح . قوله عز وجل { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } ومعناه أنا كما منعنا علم الروح عنك وعن غيرك ، إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف ، فلم نترك له أثراً وبقيت كما كنت ما تدري ما الكتاب { ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً } معناه لا تجد بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده عليك ، وإعادته محفوظاً مستوراً { إلا رحمة من ربك } معناه إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك وقيل هو على الاستثناء المنقطع . معناه لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به ، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً ، فإن قلت كيف يذهب بالقرآن وهو كلام الله عز وجل؟ قلت : المراد منه محو ما في المصاحف وإذهاب ما في الصدور وقال عبد الله بن مسعود : « اقرؤوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع » قيل : هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الناس قال : يسرى عليه ليلاً فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئاً ، ولا يجدون مما في المصاحف شيئاً ثم يفيضون في الشعر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال « لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل .(4/283)
له دوي حول العرش كدوي النحل ، فيقول الرب : ما لك؟ فيقول : يارب أُتلى ولا يُعمل بي « { إن فضله كان عليك كبيراً } أي بسبب بقاء العلم والقرآن عليك وجعلك سيد ولد آدم ، وختم النبيين بك وإعطائك المقام المحمود . قوله سبحانه وتعالى { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتو بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } أي لا يقدرون على ذلك { ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } أي عوناً . نزلت حين قال المشركون : لو نشاء لقلنا مثل هذا فكذبهم الله عز وجل ، فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب ، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق لأنه كلام الخالق وهو غير مخلوق ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله .(4/284)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
قوله عز وجل : { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } أي رددنا وكررنا من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه . وقيل : معناه من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد والقصص وغيره { فإبى أكثر الناس إلا كفوراً } أي جحوداً . قوله سبحانه وتعالى { وقالوا لن نؤمن لك } أي لن نصدقك { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } لما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه معجزات أخر وبينات ، ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتغالون باقتراح الآيات ، فقالوا : لن نؤمن لك . روى عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام والأسود بن عبد المطلب ، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ، ونبيهاً ومنبهاً أبني الحجاج اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إليّ محمداً فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدء ، وكان حريصاً يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا : « يا محمد إن بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك . لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وسفهت الأحلام ، وشتمت الآلهة ، وفرقت الجماعة ، ما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جعلنا لك من أموالنا حتى أكثرنا مالاً وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي بك رئي تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه ونعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ، ولا للشرف عليكم ولا للملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليّ كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن ترده عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم فقالوا : يا محمد إن كنت غير قابل منّا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق بلاداً ولا أشد عيشاً منا ، فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، ويبسط لنا بلادنا ويفجر لنا فيها الأنهار كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك صدقناك . فقال رسول الله صلى الله عليه سلم : ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به ، فإن تقبلوه فهو حظكم وإن تردوه أصبر لأمر الله تعالى . قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكاً يصدقك ، وسله أن يجعل لك جنات وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يعينك بها على ما تريد ، فإنك بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه فقال : ما بعثت بهذا ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً . قالوا : فأسقط السماء كما زعمت إن ربك إن شاء فعل . فقال : ذلك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم »(4/285)
وقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبدالله بن أبي أمية ، هو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفهسم أموراً يعرفون بها منزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تجعل ما تخوفهم به من العذاب ، فلم تفعل فوالله ما أؤمن لك أبداً حتى تتخذ إلى السماء مرقى ترقى فيه ، وأنا أنظر حتى تأتيها فتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول ، وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً من مباعدتهم فأنزل الله تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض } يعني أرض مكة { ينبوعاً } أي عيوناً أو { أو تكون لك جنة من نخيل وعنب } أي بستان فيه نخيل وعنب { فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً } أي تشقيقاً { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } أي قطعاً { أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً } قال ابن عباس : كفيلاً أي يكفلون بما تقول . وقيل هو جمع القبيلة أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة ، يشهدون لك بصحة ما تقول . وقيل : معناه تراهم مقابلة عياناً { أو يكون لك بيت من زخرف } أي من ذهب وأصله الزينة { أو ترقى } أي تصعد { في السماء ولن نؤمن لرقيك } أي لأجل رقيك { حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } أمرنا فيه باتباعك وهذا قول عبد الله بن أبي أمية { قل } أي قل يا محمد { سبحان ربي } أمره بتنزيهه وتمجيده وفيه معنى التعجب { هل كنت إلا بشراً رسولاً } أي كسائر الرسل لأممهم وكان الرسل لا يؤتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات ، فليس أمر الآيات إليهم إنما هو إلى الله تعالى ، ولو أراد أن ينزل ما طلبوا لفعلن ولكن لا ينزل الآيات على ما اقترحه البشر وما أنا إلا بشر ، وليس ما سألتم في طرق البشر واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله ، مثل القرآن وانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وما أشبهها من الآيات ، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم مما اقترحوه والقوم عامتهم كانوا متعنتينن ولم يكن قصدهم طلب الدليل ليؤمنوا فرد الله تعالى عليهم سؤالهم .(4/286)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
قوله عز وجل : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى } أي الحي . والمعنى : وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم هي إنكارهم أن يرسل الله البشر وهو قوله تعالى { إلا أن قالوا } أي جهلاً منهم { أبعث الله بشراً رسولاً } وذلك أن الكفار كانوا يقولون لن نؤمن لك لأنك بشر وهلا بعث الله إلينا ملكاً فأجابهم الله بقوله : { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين } أي مستوطنين مقيمين فيها { لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } أي من جنسهم لأن الجنس إلى الجنس أميل { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم } أي على أني رسوله إليكم وإني قد بلغت ما أرسلت به إليكم ، وأنكم كذبتم وعاندتم { إنه كان بعباده } يعني المنذرين والمنذرين { خبيراً بصيراً } أي عالماً بأحوالهم ، فهو مجازيهم وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد الكفار { ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه } أي يهدونهم وفيه أيضاً تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أن الذين حكم لهم بالإيمان والهداية وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل استحال أن ينقلبوا عن ذلك { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } ( ق ) « عن أنس أن رجلاً قال : يا رسول الله قال الله الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أيحشر الكافر على وجهه قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا ، قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟ قال قتادة حين بلغه بلى وعزة ربنا » وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفاً مشاة ، وصنفاً ركباناً ، وصنفاً على وجوههم . قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك » أخرجه الترمذي الحدب كل ما ارتفع من الأرض { عمياً وبكماً وصماً } أي لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون . فإن قلت : كيف وصفهم بأنهم عمي وبكم وصم وقد قال الله تعالى { ورأى المجرمون النار } وقال { دعوا هنالك ثبوراً } وقال { سمعوا لها تغيظاً وزفيراً } فأثبت لهم الرؤية والكلام والسمع . قلت فيه أوجه : أحدهما قال ابن عباس معناه عمياً لا يبصرون ما يسرهم بكماً لا ينطقون بحجة صماً لا يسمعون ما يسرهم . الوجه الثاني : قيل معناه يحشرون على ما وصفهم الله وتعالى : ثم تعاد إليهم هذه الأشياء . الوجه الثالث : قيل معناه هذا حين يقال لهم اخسئوا فيها ، ولا تكلمون فيصيرون بأجمعهم عمياً وبكماً وصماً لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون { مأواهم جهنم كلما خبت } اي سكن لهيبها . وقيل : ضعفت وهدأت من غير أن يوجد نقصان في إيلام الكفار ، لأن الله سبحانه وتعالى قال : لا يفتر عنهم وقيل معناه أرادت أن تخبو { زدناهم سعيراً } أي وقوداً وقيل معناه خبت أي نضجت جلودهم واحترقت أعيدوا إلى ما كانوا عليه ، وزيد في سعير النار لتحرقهم .(4/287)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
{ ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا } لما ذكر الوعيد المتقدم قال : ذلك جزاؤهم بما كفروا يعني ذلك العذاب جزاؤهم بسبب كفرهم بآياتنا { وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً } أجابهم الله ورد عليهم بقوله { أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض } أي في عظمها وشدتها { قادر على أن يخلق مثلهم } أي في صغرهم وضعفهم { وجعل لهم أجلاً } أي وقتاً لعذابهم { لا ريب فيه } أي لا شك فيه أنه يأتيهم قبل الموت ، وقيل يوم القيامة { فأبى الظالمون إلا كفوراً } أي جحوداً وعناداً { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } أي خزائن نعمه ورزقه وقيل : إن خزائن الله غير متناهية . والمعنى : لو أنكم ملكتم من النعم خزائن لا نهاية لها { إذاً لأمسكتم } أي لبخلتم وحبستم { خشية الإنفاق } والفقر والنفاد وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشيء { وكان الإنسان قتوراً } أي ممسكاً بخيلاً . فان قلت : قد يوجد في جنس الإنسان من هو جواد كريم ، فكيف وصفه بالبخل؟ قلت : الأصل في الإنسان البخل ، لأن خلق محتاجاً والمحتاج لا بد وأن يحب ما يدفع به عنه ضرر الحاجة ، ويمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود لأسباب خارجة مثل أن يحب المدحة أو رجاء ثواب ، فثبت بها أن الأصل في الإنسان البخل . قوله تعالى { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } أي دلالات واضحات . قال ابن عباس : هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه ، فحلها وفلق البحر والطوفان والجواد والقمل والضفادع والدم وقيل عرض فلق البحر ، واليد والسنون نقص من الثمرات وقيل : الطمس والبحر بدل السنين والنقص . قيل كان الرجل منهم مع أهله في الفراش وقد صارا حجرين والمرأة قائمة تخبز ، وقد صارت حجراً وقد روي أن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب القرظي عن الآيات فذكر منها الطمس فقال عمر : هذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال يا غلام اخرج ذلك الجراب فأخرجه . فإذا فيه بيض مكسر نصفين ، وجوز مكسر نصفين وثوم وحمص وعدس كلها حجارة . وقيل : التسع آيات هي آيات الكتاب وهي الأحكام يدل عليه ما روي عن صفوان بن غسان أن يهودياً قال لصاحبه : تعالى حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر : لا تقل نبي . فإنه لو سمع صارت له أربع أعين ، فأتياه فسألاه عن هذه الآية . ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فقال : « لا تشركوا بالله شيئاً ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا ، ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله ولا تسرفوا ولا تقذفوا المحصنات ولا تفروا من الزحف ، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبلا يده وقالا : نشهد إنك نبي قال : فما يمنعكم أن تتبعوني » قالا إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي ، وإنا نخاف إنا اتبعناك أن تقتلنا اليهود { فاسأل } يا محمد { بني إسرائيل } يجوز الخطاب معه والمراد غيره ويجوز أن يكون خاطبه وأمره بالسؤال ليتبين كذبهم مع قومهم { إذا جاءهم } يعني جاء موسى إلى فرعون بالرسالة من عند الله عز وجل { فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحوراً } قال ابن عباس : مخدوعاً وقيل : مطبوباً اي سحروك وقيل معناه ساحراً معطى علم السحر ، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك .(4/288)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
{ قال } موسى { لقد علمت } خطاباً لفرعون . قال ابن عباس : علمه فرعون ولكنه عانده { ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض } يعني الآيات التسع { بصائر } أي بينات يبصر بها { وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً } قال ابن عباس : ملعوناً . وقيل : هالكاً . وقيل : مصروفاً عن الخير { فأراد أن يستفزهم من الأرض } معناه أراد فرعن أن يخرج موسى وبين إسرائيل من أرض مصر { فأغرقناه ومن معه جميعاً } أي أغرقنا فرعون وجنوده ونجينا موسى وقومه { وقلنا من بعده } أي من بعد هلاك فرعون { لنبي إسرائيل اسكنوا الأرض } يعني أرض مصر والشام { فإذا جاء وعد الآخرة } يعني القيامة { جئنا بكم لفيفاً } أي جميعاً إلى موقف القيامة ، واللفيف : الجمع الكثير إذا كانوا مختلفين من كل نوع فيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر وقيل : أراد بوعد الآخرة نزول عيسى من السماء .(4/289)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
قوله سبحانه وتعالى : { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل } يعني أنا ما أردنا بإنزال القرآن إلا تقريره للحق فلما أردنا هذا المعنى فكذلك وقع وحصل . وقيل : معناه وما أنزلنا القرآن إلا بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبساً بالحق لاشتماله على الهداية إلى كل خير { وما أرسلناك إلا مبشراً } يعني بالجنة للمطيعين { ونذيراً } أي مخوفاً بالنار للعاصين . قوله عز وجل { وقرآناً فرقناه } أي فصلناه وبيناه وقيل فرقنا به بين الحق الباطل ، وقيل : معناه أنزلنا نجوماً لم ينزل مرة واحدة بدليل قوله تعالى { لتقرأه على الناس على مكث } أي على تؤده وترسل في ثلاث وعشرين سنة { ونزلناه تنزيلاً } أي على حسب الحوادث { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } فيه وعيد وتهديد { إن الذين أوتوا العلم من قبله } قيل : هم مؤمنوا أهل الكتاب الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أسلموا بعد مبعثه مثل زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبي ذر وغيرهم { إذا يتلى عليهم } يعني القرآن { يخرون للأذقان } قال ابن عباس : أراد بها الوجوه { سجداً } أي يقعون على الوجوه سجداً { ويقولون سبحان ربنا } أي تعظيماً لربنا لإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة ، من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم { إن كان وعد ربنا لمفعولاً } أي كائناً واقعاً { ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً } أي خضوعاً لربهم وقيل يزيدهم القرآن لين قلب ، ورطوبة عين فالبكاء مستحب عند قراءة القرآن . عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ، ولا اجتمع على عبدي غبار في سبيل الله ودخان جنهم » أخرجه الترمذي والنسائي . وزاد النسائي « في منخري مسلم أبداً » الولوج الدخول والمنخر الأنف عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله يقول « عينان لا تسمهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله » أخرجه الترمذي .(4/290)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
قوله عز وجل : { قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن } قال ابن عباس : سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فجعل يقول في سجوده : يا الله يا رحمن فقال أبو جهل : إن محمداً ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية ومعناه أنهما اسمان لله تعالى فسموه بهذا الاسم أو بهذا الاسم { أيّاً ما تدعوا } ما صلة ومعناه أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم ، أو من جميع أسمائه { فله الأسماء الحسنى } يعني إذا حسنت أسماؤه كلها فهذان الاسمان منها ومعنى كونها حسنى أنها مشتملة على معاني التقديس ، والتعظيم والتمجيد { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } ( ق ) عن ابن عباس في قوله : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قال : نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه سلم : ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم وابتغ بين ذلك سبيلاً زاد في رواية وابتغ بين ذلك سبيلاً أسمعهم ، ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن وقيل نزلت الآية في الدعاء وهو قول عائشة والنخعي ومجاهد ومكحول . ( ق ) عن عائشة « ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها » قالت : نزل ذلك في الدعاء . وقيل : كان أعراب من بني تميم إذا سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهم ارزقنا مالاً وولداً يجهرون بذلك فأنزل الله عز وجل « ولا تجهر بصلاتك أي لا ترفع صوتك بقراءتك ودعائك ولا تخافت بها » المخافتة خفض الصوت ، والسكوت { وابتغ } أي اطلب { بين ذلك سبيلاً } أي طريقاً وسطاً بين الجهر والاخفاء . عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : « مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت تخفض من صوتك فقال إني أسمعت من ناجيت فقال ارفع قليلاً وقال لعمر مررت بك ، وأنت تقرأ وأنت ترفع من صوتك فقال إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال : أخفض قليلاً » أخرجه الترمذي { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا } أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يحمده على وحدانيته . وقيل : معناه الحمد لله الذي عرفني أنه لم يتخذ ولداً وقيل إن كل من له ولد فهو يمسك جميع النعم لولده وإذا لم يكن له ولد أفاض نعمه على عبيده . وقيل : إن الولد يقوم مقام والده بعد انقضائه والله عز وجل يتعالى عن جميع النقائص فهو المستحق لجميع المحامد { ولم يكن له شريك في الملك } والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك ، لم يكن مستحقاً للحمد والشكر وكذا قوله { ولم يكن له ولي من الذل } ومعناه أنه لم يذل فيحتاج إلى ناصر يتعزز به { وكبره تكبيراً } أي وعظمه عن أن يكون له ولد أو شريك أو ولي .(4/291)
وقيل : إذا كان منزهاً عن الولد والشريك والولي كان مستوجباً لجميع أنواع المحامد . عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة ، الذين يحمدون الله في السراء والضراء » عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الحمد لله رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده » عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله » أخرجه الترمذي . وقال حديث حسن غريب عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أحب الكلام إلى الله لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت » أخرجه مسلم . والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .(4/292)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
قوله عز وجل : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } أثنى الله سبحانه وتعالى على نفسه بإنعامه على خلقه وعلم عباده كيف يثنون عليه ، ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي الإسلام وما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر لأن إنزال القرآن كان نعمة عليه على الخصوص وعلى سائر الناس على العموم { ولم يجعل له عوجاً } أي لم يجعل له شيئاً من العوج قط ولعوج في المعاني ، كالعوج في الأعيان والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معاينة وقيل معناه لم يجعله مخلوقاً روي عن ابن عباس في قوله تعالى : { قرآناً عربياً غير ذي عوج } قال غير مخلوق .(4/293)
قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
{ قيماً } أي مستقيماً وقال ابن عباس : عدلاً ، وقيل قيماً على الكتب كلّها مصدقاً لها وناسخاً لشرائعها { لينذر بأساً شديداً } معناه لينذر الذين كفروا بأساً شديداً وهو قوله سبحانه وتعالى بعذاب بئيس { من لدنه } أي من عنده { ويبشر المؤمنين الذي يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً } يعني الجنة { ماكثين فيه } أي مقيمين فيه { أبداً وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً ما لهم به من علم } أي بالولد وباتخاذه يعني أن قولهم لم يصدر عن علم بل عن جهل مفرط . فإن قلت اتخاذ الله ولداً في نفسه محال فكيف قيل ما لهم به من علم . قلت انتفاء العلم يكون للجهل بالطريق الموصل إليه وقد يكون في نفسه محالاً لا يستقيم تعلق العلم به { ولا لآبائهم } أي ولا لأسلافهم من قبل { كبرت } أي عظمت { كلمة تخرج من أفواههم } أي هذا الذي يقولونه لا تحكم به عقولهم وفكرهم البتة لكونه في غاية الفساد والبطلان فكأنه يجري على لسانهم على سبيل التقليد { إن يقولون إلا كذباً } أي ما يقولون إلا كذباً قيل حقيقة الكذب أنه الخبر الذي لا يطابق المخبر قولهم عنه وزاد بعضهم مع علم قائله أنه غير مطابق وهذا القيل باطل لأن الله سبحانه وتعالى وصف قولهم بإثبات الولد بكونه كذباً مع أن الكثير منهم يقولون ذلك ولا يعلمون كونه باطلاً فعلمنا أن كل خبر لا تطابق الخبر عنه فهو كذب والكذب خلاف الصدق ، وقيل : هو الانصراف عن الحق إلى الباطل ورجل كذاب وكذوب إذا كان كثير الكذب . قوله عز وجل { فلعلك باخع نفسك } أي قاتل نفسك { على آثارهم } أي من بعدهم { إن لم يؤمنوا بهذا الحديث } يعني القرآن { أسفاً } أي حزناً وقيل غيظاً { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } أي مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها ، وقيل يعني النبات والشجر والأنهار ، وقيل أراد به الرجال خاصة فهم زينة الأرض ، وقيل أراد به العلماء والصلحاء وقيل جميع ما في الأرض هو زينة لها . فإن قلت أي زينة في الحيات والعقارب والشياطين . قلت زينتها كونها تدل على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته ، وقيل إن جميع ما في الأرض ثلاثة معدن ونبات وحيوان وأشرف أنواع الحيوان الإنسان ، قيل الأولى أن لا يدخل في هذه الزينة المكلف ، بدليل قوله تعالى : { لنبلوهم } فمن يبلو يجب أن لا يدخل في ذلك ومعنى لنبلوهم نختبرهم { أيهم أحسن عملاً } أي أصلح عملاً وقيل أيهم أترك للدنيا وأزهد فيها . { وإنا لجاعلون ما عليها } أي من الزينة ، { صعيداً جرزاً } يعني مثل أرض لا نبات فيه شيء ، قوله سبحانه وتعالى { أم حسبت } أي أظنتت يا محمد { أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً } أي هم عجب من آياتنا وقيل معناه أنهم ليسوا بأعجب آياتنا ، فإن خلقنا من السموات والأرض وما فيهم من العجائب أعجب منهم والكهف الغر الواسع في الجبل ، الرقيم هو لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم ثم وضع على باب الكهف وكان اللوح من رصاص وقيل من حجارة ، وعن ابن عباس أن الرقيم اسم الوادي الذي فيه أصحاب الكهف وقال كعب الأحبار : هو اسم للقرية التي خرج منها أصحاب الكهف وقيل اسم للجبل الذي فيه أصحاب الكهف ثم ذكر الله عز وجل قصة أصحاب الكهف فقال عز وجل من قائل { إذ أوى الفتية إلى الكهف } أي صاروا إليه ، وجعلوه مأواهم ، والفتية جمع فتى وهو الطري من الشباب { فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة } أي رحمة من خزائن رحمتك وجلائل فضلك وإحسانك وهب لنا الهداية والنصر والأمن من الأعداء { وهيىء لنا } أي أصلح لنا { من أمرنا رشداً } أي حتى نكون بسببه راشدين مهديين وقيل معناه واجعل أمرنا رشداً كله .(4/294)
ذكر قصة الكهف وسبب خروجهم إليه :
قال محمد بن إسحاق ومحمد بن يسار مرج أمر أهل الإنجيل ، وعظمت فيهم الخطايا وطغت الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكون بعبادة الله وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه وكان ينزل قرى الروم فلا يترك في قرية نزلها أحد إلا فتنه عن دينه حتى يعبد الأصنام أو يقتله . فلما نزل مدينة أصحاب الكهف واسمها أفسوس استخفى منه أهل الإيمان وهربوا في كل وجه فاتخذ شرطاً من الكفار وأمرهم أن يتبعوهم بين القتل وبين عبادة الأصنام ، فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل ، فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل فيقتلون ويقطعون ويجعل ما قطع من أجسادهم على أسوار المدينة وأبوابها فلما عظمت الفتنة وكثرت ورأى ذلك الفتية حزنوا حزناً شديداً فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والصدقة والتسبيح والدعاء ، وكانوا من أشراف الروم وهم ثمانية نفر وبكوا وتضرعوا إلى الله عز وجل وجعلوا يقولون : { ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططاً } اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وارفع عنه البلاء حتى يعلنوا عبادتك؛ فبينما هم على ذلك وقد دخلوا مصلاهم أدركهم الشرط فوجدوهم سجوداً يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل فقال لهم الشرط ما خلفكم عن أمر الملك ، ثم انطلقوا إلى الملك فأخبروه خبر الفتية فبعث إليهم فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة ، وجوههم بالتراب فقال لهم ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم أسوة أهل مدينتكم اختاروا إما أن تذبحوا لآلهتنا وإما أن أقتلكم ، فقال مكسلينا وهو أكبرهم : إن لنا إلهاً ملء السموات والأرض عظمته لن ندعوا من دونه إلهاً أبداً له الحمد والتكبير من أنفسنا خالصاً أبداً ، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير فأما الطواغيت فلن نعبدها أبداً اصنع بنا ما بدا لك .(4/295)
وقال أصحابه مثل ذلك فلما سمع الملك كلامهم أمر بنزع ثيابهم وحلية كانت عليهم من الذهب والفضة وقال سأفرغ لكم وأنجز لكم ما أوعدتكم من العقوبة وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شباناً حديثة أسنانكم فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكرون فيه فترجعون إلى عقولكم . ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده ، وانطلق دقيانوس إلى مدينة أخرى قريبة منه لبعض أموره فلما رأى الفتية خروجه بادروا وخافوا إذا قدم أن يذكرهم ، فأتمروا بينهم واتفقوا على أن يأخذ كل واحد منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها ويتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له ينجلوس ، فيمكثوا فيه ويعبدوا الله حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فيصنع بهم ما يشاء فلما اتفقوا على ذلك عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فأخذ نفقة فتصدق منها وانطلقوا بما بقي معهم ، وأتبعهم كلب كان لهم حتى أتوا ذلك الكهف فمكثوا فيه . وقال كعب الأحبار : مرو بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مراراً فقال لهم الكلب : ما تريدون مني لا تخشوا مني أنا أحب أحباب الله عز وجل فناموا حتى أحرسكم . وقال ابن عباس : هربوا من دقيانوس وكانوا سبعة فمروا براعٍ معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعهم الكلب فخرجوا من البلد إلى الكهف . قال ابن عباس : فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتحميد ابتغاء لوجه الله عز وجل وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم اسمه تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سراً وكان أجملهم وأجلدهم وكان إذا دخل المدينة لبس ثياباً رثة كثياب المسلمين ثم يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاماً وشراباً ، ويتجسس لهم الخبر هل ذلك هو وأصحابه بشيء ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا بذلك ما شاء الله أن يلبثوا . ثم قدم دقيانوس المدينة وأمر عظماء أهلها أن يذبحوا للطواغيت ففزع من ذلك أهل الإيمان وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم ، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل فأخبرهم أن الجبار قد دخل المدينة وأنهم قد ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ففزعوا ووقعوا سجداً يدعون الله ويتضرعون إليه ويتعوذون من الفتنة فقال لهم تمليخا : يا أخوتاه ارفعوا رؤوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع وذلك عند غروب الشمس ، ثم جلسوا يتحدثون ويذكر بعضهم بعضاً فبينما هم على ذلك إذ ضرب الله عز وجل على آذانهم في الكهف ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فأصابه ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم فلما كان من الغد تفقدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم فقال لبعض عظماء المدينة لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا لقد ظنوا أن بي غضباً عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ما كنت لأجهل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي فقال عظماء المدينة ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة ، قد كنت أجلت لهم أجلاً ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا ، فلما قالوا ذلك غضب غضباً شديداً ثم أرسل إلى آبائهم فأتى بهم فقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني ، فقالوا : أما نحن لم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة إنهم ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ، ثم انطلقوا إلى جبل يدعى ينجلوس فلما قالوا له ذلك خلى سبيلهم ، وجعل ما يدري ما يصنع بالفتية فألقى الله سبحانه وتعالى في نفسه أن يأمر بسد باب الكهف عليهم وأراد الله عز وجل أن يكرمهم بذلك ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم ، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور .(4/296)
فأمر دقيانوس بالكهف فسد عليهم وقال دعوهم كما هم في كهفهم يموتون جوعاً وعطشاً ويكون كهفهم الذي اختاروه قبراً لهم ، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم وقد توفى الله عز وجل أرواحهم وفاة نوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال . ثم إن رجلين مؤمنين من بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما ، اسم أحدهما بيدروس واسم الآخر روناس اهتما أن يكتبا شأن هؤلاء الفتية ، وأسمائهم وأنسابهم وأخبارهم في لوحين من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان ، وقالا : لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عليهم خبرهم حين يقرأ الكتاب ففعلا ذلك وبنيا عليه وبقي دقيانوس ما بقي ثم مات هو وقومه ، وقرون بعده كثيرة وخلفت الملوك بعد الملوك وقال عبيد بن عمير : كان أصحاب الكهف فتياناً مطوقين مسورين ذوي ذوائب فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها وكان معهم كلب صيد لهم ، وكان أحدهم وزير الملك فقذف الله سبحانه وتعالى الإيمان في قلوبهم فآمنوا وأخفى كل واحد إيمانه وقال في نفسه أخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لئلا يصيبني عقاب بجرمهم ، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده فرجا أن يكون على مثل أمره وجلس إليه من غير أن يظهره على أمره ثم خرج آخر فخرجوا جميعاً فاجتمعوا فقال بعضهم لبعض ما جمعكم وكل واحد يكتم إيمانه من صاحبه مخافة على نفسه ، ثم قالوا ليخرج كل فتيين فيخلوا ويفشي كل واحد سره إلى صاحبه ففعلوا ذلك فإذا هم جميعاً على الإيمان وإذا الكهف في جبل عظيم قريب منهم فقال بعضهم لبعض فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته .(4/297)
فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيد فناموا ثلاثمائة سنين وازداد تسعاً ، وفقدهم قومهم وطلبوهم فعمى الله عليه آثارهم وكهفهم فكتبوا أسمائهم وأنسابهم في لوح فلان وفلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان ابن فلان الملك ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا ليكون لهؤلاء شأن وما ذلك الملك ، وجاء قرن بعد قرن . قال محمد بن إسحاق : ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له بيدروس فلما ملك بقي ملكه ثماني وستين سنة ، فتحزب الناس في ملكه فكانوا أحزاباً منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق ، ومنهم من يكذب بها فكبر ذلك على الملك الصالح وتضرع إلى الله وحزن حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون لا حياة إلا حياة الدنيا وإنما تبعث الأرواح دون الأجساد . وجعل بيدروس الملك يرسل إلى من يظن فيهم خيراً وأنهم أئمة في الخلق فلم يقبلوا منه وجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يخرجون الناس عن الحق وملة الحواريين ، فلما رأى ذلك الملك الصالح دخل بيته وأغلق بابه عليه ، ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً فجلس عليه فدأب ليله ونهاره يتضرع إلى الله تعالى ويبكي ويقول رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم بطلان ما هم عليهم . ثم إن الله سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة عباده أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليم ليعلموا أن الساعة آتية فيها ، ويستجيب لعبده الصالح بيدروس ويتم نعمته عليه وأن يجمع من كان تبدد من المؤمنين ، فألقى الله سبحانه وتعالى في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي فيه ذلك الكهف وكان اسمه أولياس أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف ويبني به حظيرة لغنمه ، فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة وبينيان بها تلك الحظيرة حتى نزعا ما كان على باب الكهف ، وفتحا باب الكهف وحجبهم الله تعالى عن الناس بالرعب فلما فتح باب الكهف أذن الله سبحانه وتعالى ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف ، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض كأنما اسيتقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون منها إذا أصبحوا من ليلتهم .(4/298)
ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كما كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولا ألوانهم شيء ينكرونه وأنهم كهيئتهم حين رقدوا وهم يرون أن دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخاً صاحب نفقتهم : أنبئنا بما قال الناس في شأننا عشية أمس عند هذا الجبار ، وهم يظنون أنهم قد رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون وقد خيل إليهم أنهم كانوا ينامون حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض كم لبثتم نياماً قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم ، قالوا ربكم أعلم بما لبثتم وكل ذلك في أنفسهم يسير فقال لهم تمليخا : قد التمستم في المدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت أو يقتلكم ، فما شاء الله بعد ذلك فعل فقال لهم مكسلمينا : يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله ، ثم قالوا لتمليخا انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال لنا بها وما الذي يذكر فينا عند دقيانوس وتلطف ولا تشعرن بك أحداً ، وابتع لنا طعاماً فأتنا به وزدنا على الطعام الذي جئتنا به فقد أصبحنا جياعاً ، ففعل تمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وأخذ ورقاً من نفقتهم التي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس وكانت كخفاف الربع ، فانطلق تمليخا خارجاً فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منه ثم مر ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفياً يصد عن الطريق تخوفاً أن يراه أحد من أهلها فيعرفه ، ولا يشعر أن دقيانوس وأهله هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة . فملا أتى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة كانت لأهل الإيمان . إذ كان أمر الإيمان ظاهراً فيهما فلما رآها عجب وجعل ينظر إليها يميناً وشمالاً ثم ترك ذلك الباب ومضى إلى باب آخر فرأى مثل ذلك فخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى أشخاصاً كثيرة محدثين لم يكن رآهم من قبل ذلك ، فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منهم فجعل يتعجب بينه وبين نفسه ويقول يا ليت شعري ما هذا أما عشية أمس كان المسلمون يخفون هذه العلامة في هذه المدينة ويستخفون بها واليوم ظاهرة لعلي نائم حالم ثم يرى أنه ليس بنائم فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة فجعل يمشي في أسواقها فسمع ناساً يحلفون باسم عيسى ابن مريم ، فزاده ذلك تعجباً ورأى أنه حيران فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة وهو يقول في نفسه والله ما أدري ما هذا أما عشية أمس فليس كان على الأرض من يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل وأما اليوم فأسمع كل إنسان يذكر عيسى ابن مريم لا يخاف ، ثم قال في نفسه : لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف والله ما أعلم مدينة بقرب مدينتنا فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له ما اسم هذه المدينة يا فتى فقل له أفسوس ، فقال في نفسه لعل بي مساً أو أمراً أذهب عقلي والله يحق لي أن أسرع الخروج قبل أن يصيبني فيها شر فأهلك .(4/299)
فمضى إلى الذين يبتاعون الطعام فأخرج لهم الورق التي كانت معه وأعطاها رجلاً منهم وقال له بعني بهذه الورق طعاماً ، فأخذها الرجل ونظر ألى ضرب الورق ونقشها فعجب منها فناولها رجلاً آخر من أصحابه فنظر ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ويتعجبون منها ويتشاورون بينهم ، ويقول بعضهم لبعض : إن هذا أصاب كنزاً خبيئاً في الأرض منذ زمن طويل فلما رآهم تمليخاً يتحدثون فيه فرق فرقاً شديداً وخاف وجعل يرعد ويظن أنهم قد فطنوا به وعرفوه وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس ، وجعل أناس يأتونه وتعرفونه فلا يعرفونه فقال لهم وهو شديد الخوف منهم : أفضلوا علي قد أخذتم ورقي فأمسكوها وأما طعامك فلا حاجة لي به ، فقالوا له يا فتى من أنت وما شأنك والله لقد وجدت كنزاً من كنوز الأولين وأنت تريد أن تخفيه منا انطلق معنا وأرناه وشاركنا فيه نخفف عليك ما وجدت ، وإنك إن لم تفعل نحملك إلى السلطان فنسلمك إليه فيقتلك فلما سمع قولهم قال والله قد وقعت في كل شيء كنت أحذر منه ، فقالوا له يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت وجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم وخاف حتى لم يجر على لسانه إليهم شيء ، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطرحوه في عنقه وجعلوا يسحبونه في سكك المدينة حتى سمع به من فيها ، وقيل قد أخذ رجل معه كنز فاجتمع عليه أهل المدينة وجعلوا ينظرون إليه ويقولون والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة وما رأيناه فيها قط وما نعرفه ، وجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم ، وكان متيقناً أن أباه وإخوته بالمدينة وأنه من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به فبينما هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من أيديهم إذا اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها ، اللذين يدبران أمرها وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أريوس واسم الآخر طنطيوس ، فلما انطلقوا به إليهما ظن تمليخا أنه إنما ينطلق به إلى دقيانوس الجبار فجعل يلتفت يميناً وشمالاً ، وهو يبكي والناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إله السماء وإله الأرض أفرغ علي اليوم صبراً وأولج معي روحاً منك تؤيدني به عند هذا الجبار ، وجعل يقول في نفسه فرقوا بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ويا ليتهم يأتونني فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار فإنا قد كنا تواثقنا على الإيمان بالله وأن لا نشرك به أحداً أبداً ولا نفترق في حياة ولا موت فلما انتهى إلى الرجلين الصالحين أريوس وطنطيوس ورأى أنه لم يذهب إلى دقيانوس ، أفاق وذهب عنه البكاء وأخذ أريوس وطنطيوس الورقة ونظرا إليها وعجبا منها وقال أين الكنز الذي وجدت يا فتى فقال تمليخا : ما وجدت كنزاً ولكن هذا ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن والله ما أدري ما شأني وما أوقول لكم فقال له أحدهما : ممن أنت فقال تمليخا أما أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة فقيل له : ومن أبوك ومن يعرفك بها فأخبرهم بأسم أبيه ، فلم يوجد من يعرفه ولا أباه فقال له أنت كذاب لا تنبئنا بالحق فلم يدر تمليخا ما يقول غير أنه نكث بصره إلى الأرض فقال بعض من حوله هذا رجل مجنون ، وقال بعضهم ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمداً لكي ينفلت منكم ، فقال له أحدهما ونظر إليه نظراً شديداً أتظن إنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذه المدينة وضربها ولهذه الورقة أكثر من ثلاث مائة سنة وأنت غلام شاب أتظن أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شيوخ شمط وحولك سراة هذه المدينة وولاة أمرها وخزائن هذه المدينة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار ، وإنني لأظنني سآمر بك فتعذب عذاباً شديداً ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته .(4/300)
فقال لهم تمليخا : أخبروني عما أسألكم عنه فإن أنتم فعلتم صدقتكم عما عندي ، فقالوا له سل لا نكتمك شيئاً قال : فما فعل الملك دقيانوس فقال : ما نعرف على وجه الأرض من اسمه دقيانوس ولم يكن إلا ملك هلك في الزمان الأول وله دهر طويل وهلك بعده قرون كثيرة ، فقال تمليخا : إني إذاً لحيران وما يصدقني أحد من الناس فيما أقول لقد كنا فتية على دين الواحد وأن الملك أكرهنا على عبادة الأصنام والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس ، فأتينا إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس فنمنا فيه فلما انتهينا خرجت لأشتري لأصحابي طعاماً وأتجسس الأخبار فإذا أنا معكم كما ترون فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي ، فلما سمع أريوس قول تمليخا قال يا قوم لعل هذه آية من آيات الله جعلها الله عز وجل لكم على يد هذا الفتى فانطلقوا بنا معه حتى يرينا أصحابه . فانطلق أريوس وطنطيوس ومعهما جميع أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم فلما رأى الفتية أصحاب الكهف تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي فيه ظنوا أنه أخذ وذهب به إلى ملكهم دقيانوس فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث بهم إليهم ليؤتى بهم فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض وأوصى بعضهم بعضاً وقالوا انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار وهو ينتظرنا حتى نأتيه .(4/301)
فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس على هذه الحالة إذ هم بأريوس وأصحابه وقوفاً على باب الكهف فسبقهم تمليخا ودخل وهو يبكي فلما رأوه يبكي بكوا معه ثم سألوه عن خبره فقص عليه الخبر كله ، فعرفوا أنهم كانوا نياماً بأمر الله ذلك الزمن الطويل وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقاً للبعث وليعلموا أن الساعة لا ريب فيها . ثم دخل على أثر تمليخا أريوس فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم فضة فوقف على الباب ودعا جماعة من عظماء أهل المدينة وأمر بفتح التابوت بحضرتهم فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوباً فيهما مكسلمينا ومخشلمينا وتمليخا ومرطونس وكشطونس وبيرونس وديموس وبطيوس وقالوس والكلب اسمه قطمير . كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس مخافة أن يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف فلما أخبر بمكانهم أمر الكهف فسد عليهم بالحجارة وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر بهم فلما قرأوه عجبوا وحمدوا الله سبحانه وتعالى الذي أراهم آية تدلهم على البعث ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ، ثم دخلوا على الفتية الكهف فوجودهم جلوساً مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فخر أريوس وأصحابه سجداً لله وحمدوا الله سبحانه وتعالى الذي أراهم آية من آياته ثم كلم بعضهم بعضاً وأخبرهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس ثم أريوس وأصحابه بعثوا بريداً إلى ملكهم الصالح بيدروس أن عجل لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله على ملكك للناس آية لتكون لهم نوراً وضياء وتصديقاً للبعث ، وذلك أن فتية بعثهم الله وقد كان توفاهم منذ ثلاث مائة سنة وأكثر ، فلما أتى الملك الخبر رجع عقله إليه وذهب همه وقال : أحمدك اللهم رب السموات والأرض وأعبدك وأسبح لك تطولت علي ورحمتني ولم تطفىء النور الذي جعلته لآبائي وللعبد الصالح بيدروس الملك ثم أخبر بذلك أهل مدينته فركب وركبوا معه حتى أتوا مدينة أفسوس ، فتلقاهم أهلها وساروا معه نحو الكهف فلما صعد الجبل ورأى الفتية بيدروس فرح بهم وخرا ساجداً على وجهه وقام بيدروس الملك قدامهم ثم اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون لله ويحمدونه . ثم قال الفتية لبيدروس الملك نستودعك الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته حفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شر الإنس والجن . فبينما الملك قائم إذا هم رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله أنفسهم ، فقام الملك إليهم وجعل ثيابهم عليهم وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من ذهب فلما أمسى ونام أتوه في منامه فقالوا له إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله تعالى منه ، فأمر الملك عند ذلك بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب ، ولم يقدر أحد أن يدخل عليهم وأمر الملك أن يتخذوا على باب الكهف مسجداً يصلى فيه وجعل لهم عيداً عظيماً وأمر أن يؤتى كل سنة .(4/302)
وقيل إن تمليخا حمل إلى الملك الصالح فقال له الملك من أنت قال أنا رجل من أهل هذه المدينة ، وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواماً لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أن فتية قد فقدوا في الزمان الأول وإن أسماءهم مكتوبة على لوح في خزانته فدعا اللوح ونظر في أسمائهم فإذا اسمه مكتوب وذكر أسماء الآخرين فقال تمليخا : هم أصحابي فلما سمع الملك ركب ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال تمليخا : دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم فدخل تمليخا فبشرهم فقبض الله روحه وأرواحهم وأعمى على الملك وأصحابه أثرهم فلم يهتدوا إليهم فذلك قوله عز وجل { إذ أوى الفتية إلى الكهف } أي صاروا إلى الكهف واسمه خيرم { فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة } أي هداية في الدين { وهيىء لنا } أي يسر لنا { من أمرنا رشداً } أي ما نلتمس منه رضاك وما فيه رشدنا ، وقال ابن عباس : أي مخرجاً من الغار في سلامة .(4/303)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
قوله سبحانه وتعالى : { فضربنا على أذانهم } أي ألقينا عليهم النوم ، وقيل منعنا نفوذ الأصواب إلى مسامعهم فإن النائم إذا سمع الصوت ينتبه { في الكهف سنين عدداً } أي أنمناهم سنين كثيرة فإن العدد يدل على الكثرة { ثم بعثناهم } أي من نومهم { لنعلم } أي علم مشاهدة وذلك أن الله عز وجل لم يزل عالماً ، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيماناً واعتباراً { أي الحزبين } أي الطائفتين { أحصى لما لبثوا أمداً } أي أحفظ لما مكثوا في كهفهم نياماً وذلك أن أهل المدينة تنازعوا في مدة لبثهم في الكهف . قوله تعالى { نحن نقص عليك نبأهم بالحق } أي نقرأ عليك خبر أصحاب الكهف بالحق أي بالصدق { إنهم فتية } أي شبان { آمنوا بربهم وزدناهم هدى } أي إيماناً وبصيرة { وربطنا على قلوبهم } أي شددنا على قلوبهم بالصبر والتثبيت وقويناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم ، ومفارقة ما كانوا عليه من خفض العيش وفروا بدينهم إلى الكهف { إذ قاموا } يعني بين يدي دقيانوس الجبار حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام { فقالوا } أي الفتية { ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً } إنما قالوا ذلك لأن قومهم كانوا يعبدون الأصنام { لقد قلنا إذاً شططاً } قال ابن عباس : يعني جوراً وقيل كذباً يعني إن دعونا غير الله { هؤلاء قومنا } يعني أهل بلدهم { اتخذوا من دونه } أي من دون الله { آلهة } يعني أصناماً يعبدونها { لولا } أي هلا { يأتون عليهم } أي على عبادة الأصنام { بسلطان بين } أي بحجة واضحة وفيه تبكيت لأن الإتيان بحجة على عبادة الأصنام محال { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } أي وزعم أنه له شريكاً أو ولداً ثم قال بعضهم لبعض { وإذ اعتزلتموهم } يعني قومكم { وما يعبدون إلا الله } وذلك أنهم كانوا يعبدون الله ، ويعبدون معه الأصنام والمعنى وإذا اعتزلتموهم وجميع ما يعبدون إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادته { فأووا إلى الكهف } أي الجؤوا إليه { ينشر لكم } أي يبسط لكم { ربكم من رحمته ويهيىء } أي يسهل { لكم من أمركم مرفقاً } أي ما يعود إليه يسركم ورفقكم . قوله سبحانه وتعالى { وترى الشمس إذا طلعت تزاور } أي تميل وتعدل { عن كهفهم ذات اليمين } أي جانب اليمين { وإذا غربت تقرضهم } أي تتركهم وتعدل عنهم { ذات الشمال وهم في فجوة منه } أي متسع من الكهف { ذلك من آيات الله } أي من عجائب صنعه ودلالات قدرته وذلك أن ما كان في ذلك السمت تصيبهم الشمس ولا تصيبهم اختصاصاً لهم بالكرامة ، وقيل إن باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش فهم في مقنأة أبداً لا تقع الشمس عليهم عند الطلوع ولا عند الغروب ولا عند الاستواء فتؤذيهم بحرها ، ولكن اختار الله لهم مضجعاً في متسع ينالهم فيه برد الريح ونسيمها ويدفع عنهم كرب الغار وغمه ، وعلى هذا القول يكون معنى قوله ذلك من آيات الله أي إن شأنهم وحديثهم من آيات الله { من يهد الله فهو المهتد } يعني مثل أصحاب الكهف وفيه ثناء عليهم { ومن يضلل } أي ومن يضلله الله ولم يرشده { فلن تجد له ولياً } أي معيناً { مرشداً } أي يرشده .(4/304)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
قوله سبحانه وتعالى : { وتحسبهم } خطاب لكل أحد { أيقاظاً } أي منتبهين لأن أعينهم مفتحة { وهم رقود } أي نيام { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } قال ابن عباس : كانوا يقلبون في السنة مرة من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم ، قيل كانوا يقلبون في عاشوراء وقيل كانوا لهم في السنة تقلبتان { وكلبهم باسط ذراعيه } قال ابن عباس : كان كلباً أغر وعنه أنه كان فوق القلطي ودون الكرزي . والقلطي كلب صيني وقيل كان أصفر وقيل كان شديد الصفرة يضرب إلى حمرة ، وقال ابن عباس : كان اسمه قطمير وقيل ريان وقيل صهبان قيل ليس في الجنة دواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعام { بالوصيد } أي فناء الكهف ، وقيل عتبة الباب وكان الكلب قد بسط ذراعيه وجعل وجهه عليهم ، قيل كان ينقلب مع أصحابه فإذا انقلبوا ذات اليمين كسر الكلب أذنه اليمنى ورقد عليها ، وإذا انقلبوا ذات الشمال كسر أذنه اليسرى ورقد عليها { لو اطلعت عليهم } يا محمد { لوليت منهم فراراً } وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيوقظهم الله من رقدتهم { ولملئت منهم رعباً } أي خوفاً من وحشة المكان . وقيل لأن أعينهم مفتحة كالمتيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام وقيل لكثرة شعورهم ، وطول أظافرهم ولتقلبهم من غير حس ولا إشعار وقيل إن الله سبحانه وتعالى منعهم بالرعب لئلا يراهم أحد . قال ابن عباس : غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فقال معاوية : لو كشف الله عن هؤلاء لنظرنا إليهم ، فقال ابن عباس : قد منع ذلك من هو خير منك فقيل له لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً . فبعث معاوية ناساً فقال اذهبوا فانظروا ، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحاً فأحرقهم . قوله سبحانه وتعالى { وكذلك بعثناهم } يعني كما أنمناهم في الكهف وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان بعثناهم من النومة التي تشبه الموت { ليتساءلوا بينهم } أي ليسأل بعضهم بعضاً { قال قائل منهم } وهو رئيسهم وكبيرهم مكسلمينا { كم لبثتم } أي في نومكم وذلك ، أنهم استنكروا طول نومهم وقيل إنهم راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك { قالوا لبثنا يوماً } ثم نظروا فوجدوا الشمس قد بقي منها بقية فقالوا { أو بعض يوم } فلما نظروا إلى طول شعورهم وأظافرهم علموا أنهم لبثوا أكثر من يوم { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } وقيل إن مكسلمينا لما سمع الاختلاف بينهم قال دعوا الاختلاف ربكم أعلم بما لبثتم { فابعثوا أحدكم } يعني تمليخا { بورقكم } هي الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة { هذه إلى المدينة } قيل هي ترسوس وكان أسمها في الزمن الأول قبل الإسلام أفسوس { فلينظر أيها أزكى طعاماً } أي أحلى طعاماً وقيل أمروه أن يطلب ذبيحة مؤمن ، ولا تكون من ذبح من يذبح لغير الله وكان فيهم مؤمنون يخفون إيمانهم ، وقيل أطيب طعاماً وأجود وقيل أكثر طعاماً وأرخصه { فليأتكم برزق منه } أي قوت وطعام تأكلونه { وليتلطف } أي وليترفق في الطريق وفي المدينة وليكن في ستر وكتمان { ولا يشعرن } أي ولا يعلمن { بكم أحداً } أي من الناس { إنهم إن يظهروا عليكم } أي يعلموا بمكانكم { يرجموكم } قيل معناه يشتموكم ويؤذوكم بالقول وقيل يقتلوكم ، وكان من عادتهم القتل بالحجارة وهو أخبت القتل وقيل يعذبكم { أو يعيدوكم في ملتهم } أي الكفر { ولن تفلحوا إذاً أبداً } أي إن عدتم إليه .(4/305)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
قوله عز وجل : { وكذلك أعثرنا عليهم } أي أطلعنا الناس عليهم { ليعلموا أن وعد الله حق } يعني قوم بيدروس الذين أنكروا البعث { وأن الساعة لا ريب فيها } أي لا شك فيها أنها آتية { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } . قال ابن عباس : في البنيان فقال المسلمون نبني عليهم مسجداً يصلي فيه الناس لأنهم على ديننا وقال المشركون نبني بنياناً لأنهم على ملتنا وقيل كان يتنازعهم في البعث فقال المسلمون تبعث الأجساد والأرواح وقال قوم تبعث الأرواح فأراهم الله آية وأن البعث للأرواح والأجساد وقيل تنازعوا في مدة لبثهم وقيل في عددهم { فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم } يعني بيدروس وأصحابه { لنتخذن عليهم مسجداً } قوله تعالى { سيقولون ثلاثة رابعهم } روي أن السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف عندهم فقال السيد وكان يعقوبياً كانوا ثلاثة رابعهم { كلبهم ويقولون } أي وقال العاقب وكان نسطورياً { خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون } وقال المسلمون { سبعة وثامنهم كلبهم } فحقق الله قول المسلمين وإنما عرفوا ذلك بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان جبريل صلى الله عليه سلم بعدما حكى قول النصارى أولاً ، ثم أتبعه بقوله سبحانه وتعالى رجماً بالغيب أي ظناً وحدساً من غير يقين ولم يقل ذلك في السبعة وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن لحال في الباقي بخلافه ، فوجب أن يكون المخصوص بالظن هو قول النصارى وأن يكون قول المسلمين مخالفاً لقول النصارى في كونه رجماً بالغيب وظناً ، ثم أتبعه بقوله سبحانه وتعالى { قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل } هذا هو الحق لأن العلم بتفاصيل العوالم والكائنات فيه في الماضي والمستقبل لا يكون إلا لله تعالى أو من أخبره الله سبحانه وتعالى بذلك . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا من أولئك القليل كانوا سبعة وهم مكسلمينا وتمليخا ومرطونس وبينونس وسارينوس ودنوانس وكشفيططنونس وهو الراعي واسم كلبهم قطير { فلا تمار فيهم } .
أي لا تجادل ولا تقل في عددهم وشأنهم { إلا مراء ظاهراً } أي إلا بظاهر ما قصصنا عليك فقف عنده ولا تزد عليه { ولا تستفت فيهم } أي في أصحاب الكهف { منهم } أي من أهل الكتاب { أحداً } أي لا ترجع إلى قول أحد منهم بعد أن أخبرناك قصتهم . قوله سبحانه وتعالى { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } يعني إذا عزمت على فعل شيء غداً فقل إن شاء الله ولا تقله بغير استثناء وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه سلم عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فقال أخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي أياماً ثم نزلت هذه الآية وقد تقدمت القصة في سورة بني إسرائيل { واذكر ربك إذا نسيت } قال ابن عباس : معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن وجوز ابن عباس الاستثناء المنقطع ، وإن كان بعد سنة وجوزه الحسن ما دام في المجلس وجوزه بعضهم إذا قرب الزمان ، فإن بعد لم يصح ولم يجوزه جماعة حتى يكون الكلام متصلاً بالاستنثاء وقيل في معنى الآية واذكر ربك إذا غضبت قال وهب مكتوب في التوراة والإنجيل ابن آدم « اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب » ، وقيل الآية في الصلاة يدل عليه ما روي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/306)
« من نسي صلاة فليصلها إذ ذكرها قال تعالى { أقم الصلاة لذكري } » متفق عليه زاد مسلم أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً } أي يثبتني على طريق هو أقرب إليه وأرشد ، وقيل إن الله سبحانه وتعالى أمره أن يذكره إذا نسي شيئاً ويسأله أن يذكره أو يهديه لما هو خير له من أن يذكر ما نسي وقيل إن القوم لما سألوه عن قصة أصحاب الكهف على وجه العناد أمره الله سبحانه وتعالى أن يخبرهم أن الله سبحانه وتعالى سيؤتيه من الحجج على صحة نبوته ما هو أدل لهم من قصة أصحاب الكهف وقد فعل حيث أتاه من علم غيب المرسلين وقصصهم مما هو أوضح وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف . وقيل هذا شيء أمره الله أن يقوله إن شاء الله إذا ذكر الاستثناء بعد النسيان وإذا نسي الإنسان قوله إن شاء الله فتوبته من ذلك أن يقول مع قوله إن شاء الله عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً . قوله عز وجل { ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً } قيل هذا خبر عن قول أهل الكتاب ولو كان خبراً من الله عن قدر لبثهم لم يكن لقوله قل الله أعلم بما لبثوا وجه ولكن الله رد قولهم .(4/307)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
قوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } والأصح أنه إخبار من الله تعالى عن قدر لبثهم في الكهف ويكون معنى قوله قل الله أعلم بما لبثوا ، يعني إن نازعوك في مدة لبثهم في الكهف فقل أنت الله أعلم بما لبثوا أي هو أعلم منكم وقد أخبر بمدة لبثهم وقيل إن أهل الكتاب قالوا إن المدة من حين دخلوا الكهف إلى يومنا هذا وهو اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة سنين فرد الله عليهم بذلك وقال قل الله أعلم بما لبثوا يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله . فإن قلت لم قال سنين ولم يقل سنة ، قلت قيل لما نزل قوله سبحانه وتعالى { ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة } فقالوا أياماً أو شهوراً أو سنين فنزلت سنين على وفق قولهم وقيل هو تفسير لما أجمل في قوله فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا وازدادوا تسعاً وقيل قالت نصارى نجران أما ثلاثمائة فقد عرفنا وأما التسع فلا علم لنا بها . فنزلت قل الله أعلم بما لبثوا . وقيل إن عند أهل الكتاب لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية والله سبحانه وتعالى ذكر ثلاثمائة سنة وتسع سنين قمرية والتفاوت بين القمرية والشمسية في كل مائة سنة ثلاث سنين فتكون الثلاثمائة الشمسية ثلاث مائة وتسع سنين قمرية { له غيب السموات والأرض } يعني أنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال أهلها فإنه العالم وحده به فكيف يخفى عليه حال أصحاب الكهف { أبصر به وأسمع } معناه ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه بكل مسموع لا يغيب عن سمعه وبصره شيء يدرك البواطن كما يدرك الظواهر والقريب والبعيد والمحجوب وغيره لا تخفى عليه خافية { ما لهم } أي ما لأهل السموات والأرض { من دونه } أي من دون الله { من ولي } أي ناصر { ولا يشرك في حكمه أحداً } قيل معناه لا يشرك الله في علم غيبه أحداً وقيل في قضائه . قوله تعالى { واتل } أي واقرأ يا محمد { ما أوحي إليك من كتاب ربك } يعني القرآن واتبع ما فيه واعمل به { لا مبدل لكلماته } أي لا مغير للقرآن ولا يقدر أحد على التطرق إليه بتغيير أو تبديل . فإن قلت موجب هذا أن لا يتطرق النسخ إليه . قلت النسخ في الحقيقة ليس بتبدليل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلاً . وقيل معناه لا مغير لما أوعد الله بكلماته أهل معاصيه { ولن تجد من دونه } أي من دون الله إن لم تتبع القرآن { ملتحداً } أي ملجأ وحرزاً تعدل إليه . قوله عز وجل { وأصبر نفسك } الآية نزلت في عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء ومنهم سلمان وعليه صوف قد عرق فيها وبيده خوص يشقه وينسجه فقال عيينة للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها إن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلساً فأنزل الله عز وجل واصبر نفسك أي احبس يا محمد نفسك { مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } يعني طرفي النهار { يريدون وجهه } أي يريدون وجه الله لا يريدون عرض الدنيا ، وقيل نزلت في أصحاب الصفة وكانوا سبعمائة رجل فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى تجارة ولا زرع ولا ضرع يصلون صلاة وينتظرون أخرى فلما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى الله عليه وسلم(4/308)
« الحمد الله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم » { ولا تعد } أي لا تصرف ولا تجاوز { عيناك عنهم } إلى غيرهم { تريد زينة الحياة الدنيا } أي تطلب مجالسه الأغنياء والأشراف وصحبة أهل الدنيا { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } أي جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا يعني عيينة بن حصن وقيل أمية بن خلف { واتبع هواه } أي في طلب الشهوات { وكان أمره فرطاً } ضياعاً ضيع أمره وعطل أيامه ، وقيل ندماً وقيل سرفاً وباطلاً وقيل مخالفاً للحق { وقل الحق من ربكم } أي قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا من ربكم الحق وإليه التوفيق والخذلان وبيده الهدى والضلال ليس إلى من ذلك شيء { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } هذا على طريق التهديد والوعيد كقوله { اعملوا ما شئتم } وقيل معنى الآية وقل الحق من ربكم أي لست بطارد المؤمنين لهواكم فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا ، فإن كفرتم فقد أعد لكم ربكم ناراً وإن آمنتم فلكم ما وصف الله لأهل طاعته ، وعن ابن عباس في معنى الآية : من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر { إنا أعتدنا } أي هيأنا من العتاد وهو العدة { للظالمين } أي الكافرين { ناراً أحاط بهم سرادقها } السرادق الحجزة التي تطيف بالفساطيط عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم « قال سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار أربعون سنة » أخرجه الترمذي قال ابن عباس : هو حائط نار وقيل هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة وقيل هو دخان يحيط بالكفار { وإن يستغيثوا } أي من شدة العطش { ثغاثوا بماء كالمهل } قال ابن عباس : هو ماء غليظ مثل دردي الزيت ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في قوله سبحانه وتعالى بماء كالمهل قال : « كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه منه » أخرجه الترمذي . وقال رشدين أحد رواة الحديث قد تكلم بفيه من قبل حفظة الفروة جلدة الوجه وقيل المهل الدم والقيح وقيل هو الرصاص والصفر المذاب { يشوي الوجوه } أي ينضج الوجوه من حره { بئس الشراب } أي ذلك الذي يغاثون به { وساءت } أي النار { مرتفقاً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : منزلاً وقيل مجتمعاً وأصل المرتفق المتكأ وإنما جاء كذلك لمشاكلة قوله وحسنت مرتفقاً وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا متكأ .(4/309)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
قوله عز وجل : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } أي لا نترك أعمالهم الصالحة وقيل إن قوله إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً كلام معترض وتقديره إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات { أولئك لهم جنات عدن } أي دار إقامة سميت عدناً لخلود المؤمنين فيها { تجري من تحتهم الأنهار } وذلك لأن أفضل المساكن ما كان يجري فيه الماء { يحلون فيها من أساور من ذهب } قيل يحلى كل إنسان منهم ثلاثة أساور سوار من ذهب لهذه الآية وسوار من فضة لقوله تعالى { وحلوا وأساور من فضة } وسوار من لؤلؤ لقوله { ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير } { ويلبسون ثياباً خضراً من سندس } هو الديباج الرقيق { وإستبرق } هو الديباج الصفيق الغليظ وقيل السندس المنسوج بالذهب { متكئين } خص الاتكاء لأنه هيئة المتنعمين والملوك { فيها } أي في الجنة { على الأرائك } جمع أريكة وهي السرر في الحجال ولما وصف الله سبحانه وتعالى هذه الأشياء قال { نعم الثواب } أي نعم الجزاء { وحسنت } أي الجنات { مرتفقاً } أي مقراً ومجلساً ، والمراد بقوله وحسنت مرتفقاً مقابلة ما تقدم ذكره من قوله سبحانه وتعالى وساءت مرتفقاً . قوله عز وجل { واضرب لهم مثلاً رجلين } قيل نزلت في أخوين من أهل مكة من بين مخزوم وهما أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل وكان مؤمناً وأخوه الأسود بن عبد الأسود وكان كافراً وقيل هذا مثل لعيينة بن حصن وأصحابه وسلمان وأصحابه وشبههما برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه قطروس وهما اللذان وصفهما الله سبحانه وتعالى في سورة الصافات وكانت قصتهما على ما ذكره عطاء الخراساني قال : كان رجلان شريكان لهما ثمانية آلاف دينار ، وقيل كانا أخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فاشترى أحدهما أرضاً بألف دينار فقال صاحبه اللهم إن فلاناً قد شترى أرضاً بألف وإني قد اشتريت منك أرضاً في الجنة بألف دينار فتصدق بها ، ثم إن صاحبه بنى داراً بألف دينار فقال اللهم إن فلاناً بنى داراً بألف دينار وإني اشتريت منك داراً في الجنة بألف دينار فتصدق بها ، ثم تزوج صاحبه امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال اللهم إني أخطب إليك امرأة من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بها ، ثم اشترى خدماً ومتاعاً بألف دينار فقال اللهم إني اشتريت منك خدماً ومتاعاً بألف دينار في الجنة فتصدق بها ، ثم أصابته حاجة شديدة فقال لو أتيت صاحبي لعل ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في خدمه وحشمه فقام إليه فنظر إليه صاحبه فعرفه فقال فلان ، قال نعم قال ما شأنك قال أصابتني حاجة بعدك فأتيتك لتعينني بخير قال فما فعلت بمالك وقد قاسمتك مالاً وأخذت شطره ، فنص عليه قصته فقال وإنك لمن المصدقين بهذا اذهب فلا أعطيك شيئاً فطرده ، فقضي لهما فتوفيا فنزل فيهما قوله(4/310)
{ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين } وروي أنه لما أتاه أخذ بيده وجعل يطوف به ويريه أمواله فنزل فيهما { واضرب لهم مثلاً رجلين } { جعلنا لأحدهما جنتين } أي وجعلنا بساتين { من أعناب وحففناهما } أي أطفناهما من جوانبهما { بنخل وجعلنا بينهما زرعاً } أي بين النخل والأعناب الزرع وقيل بينهما أي بين الجنتين ، يعني لم يكن بين الجنتين خراب بغير زرع { كلتا الجنتين آتت } أي أعطت كل واحدة من الجنتين { أكلها } أي ثمرها تماماً { ولم تظلم منه شيئاً } أي ولم تنقص منه شيئاً { وفجرنا خلالهما } شققنا وسطهما { نهراً } .(4/311)
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
{ وكان له } أي لصاحب البستان { ثمر } قرىء بالفتح جمع ثمرة وقرىء بالضم وهو الأموال الكثيرة المثمرة من كل صنف من الذهب والفضة وغيرهما { فقال } يعني صاحب البستان { لصاحبه } يعني المؤمن { وهو يحاوره } أي يخاطبه { أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً } أي عشيرة ورهطاً وقيل خدماً وحشماً { ودخل جنته } يعني الكافر أخذاً بيد أخيه المؤمن يطوف به فيها ويريه إياها { وهو ظالم لنفسه } أي بكفره فتوهم أنها لا تفنى أبداً وأنكر البعث فقال { وما أظن الساعة قائمة } أي كائنة { ولئن رددت إلى ربي } فإن قلت كيف قال ولئن رددت إلى ربي وهو منكر للبعث قلت معناه ولئن رددت إلى ربي على ما نزعم من أن الساعة آتية { لأجدن خيراً منها منقلباً } أي يعطيني هناك خيراً منها لأنه لم يعطني الجنة في الدنيا إلا ليعطيني في الآخرة أفضل منها { قال له صاحبه } يعني المؤمن { وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب } أي خلق أصلك من تراب لأن خلق أصله سبب في خلقه فكان خلقاً له { ثم من نطفة ثم سواك رجلاً } أي عداك بشراً سوياً وكملك إنساناً ذكراً بالغ مبلغ الرجال { لكنا هو الله ربي } مجازه لكن أنا هو الله ربي { ولا أشرك بربي أحداً ولولا } أي هلا { إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله } والمعنى هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها ما شاء الله اعترافاً بأنها وكل خير فيها إنما حصل بمشيئة الله تعالى وفضله وأن أمرها بيده وأنه إن شاء تركها عامرة وإن شاء تركها خراباً { لا قوة إلا بالله } أي وقلت لا قوة إلا بالله إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها بمعونة الله وتأييده ولا أقدر على حفظ مالي ودفع شيء عنه إلا بالله . روي عن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى من ماله شيئاً يعجبه أو دخل حائطاً من حيطانه قال ما شاء الله لا قوة إلا بالله الحائط البستان { إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً } أي لأجل ذلك تكبرت علي وتعظمت { فعسى ربي } أي فلعل ربي { أن يؤتين } أي يعطيني { خيراً من جنتك } يعني في الآخرة { ويرسل عليها } أي على جنتك { حسباناً } قال ابن عباس : ناراً ، وقيل مرامي { من السماء } وهي الصواعق فتهلكها { فتصبح صعيداً زلقاً } أي أرضاً جرداء ملساء لا نبات فيها وقيل تزلق فيها الأقدام وقيل رملاً هائلاً { أو يصبح ماؤها غوراً } غائراً ذاهباً لا تناله الأيدي ولا الدلاء { فلن تستطيع له طلباً } يعني إن طلبته لم تجده { وأحيط بثمره } يعني أحاط العذاب بثمر جنته وذلك أن الله تعالى أرسل عليها من السماء ناراً فأهلكها وغار ماؤها { فأصبح } يعني صاحبها الكافر { يقلب كفيه } يصفق بكف على كف ويقلب كفيه ظهراً لبطن تأسفاً وتلهفاً { على ما أنفق فيها } المعنى فأصبح يندم على ما أنفق في عمارتها { وهي خاوية على عروشها } أي ساقطة سقوفها وقيل إن كرومها المعرشة سقطت عروشها في الأرض { ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً } يعني أنه تذكر موعظة أخيه المؤمن فعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركاً { ولم تكن له فئة } أي جماعة { ينصرونه من دون الله } أي يمنعونه من عذاب الله { وما كان منتصراً } أي ممتنعاً لا يقدر على الانتصار لنفسه وقيل معناه لا يقدر على رد ما ذهب منه .(4/312)
وقوله سبحانه وتعالى { هنالك الولاية } قرىء بكسر الواو يعني السلطان في القيامة { لله الحق } وقرىء بفتحها من الموالاة والنصرة ، يعني أنهم يتولونه يومئذٍ ويتبرؤون مما كانوا يعبدون من دونه في الدنيا { هو خير ثواباً } أي أفضل جزاء لأهل طاعته لو كان غيره يثيب { وخير عقباً } يعني عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره فهو خير إثابة وعاقبة .(4/313)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
قوله عز وجل : { واضرب لهم } أي اضرب يا محمد لقومك { مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } يعني المطر { فاختلط به نبات الأرض } أي خرج منه كل لون وزهرة { فأصبح } أي عن قريب { هشيماً } قال ابن عباس : يابساً { تذروه الرياح } قال ابن عباس : تذريه تفرقه وتنسفه { وكان الله على كل شيء مقتدراً } أي قادراً قوله سبحانه وتعالى { المال والبنون } يعني التي يفتخر بها عيينة وأصحابه الأغنياء { زينة الحياة الدنيا } يعني ليست من زاد الآخرة ، قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : المال والبنون حرث الدنيا والأعمال الصالحة حرث الآخرة وقد يجمعهما لأقوام { والباقيات الصالحات } قال ابن عباس : هي قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ( م ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لأن أقول سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلى مما طلعت الشمس » عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله علي وسلم أنه قال « استكثروا من قول الباقيات الصالحات . قيل : وما هن يا رسول الله؟ قال : التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا مررتم برياض الجنة فارتفعوا . قلت : يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال : المساجد . قلت : وما الرتع؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر » أخرجه الترمذي . وقال حديث غريب عن سعيد بن المسيب أن الباقيات الصالحات هي قول العبد الله أكبر وسبحان الله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله أخرجه مالك في الموطأ موقوفاً عليه وعن ابن عباس أن الباقيات الصالحات الصلوات الخمس وعنه أنها الأعمال الصالحة { خير عند ربك ثواباً } أي جزاء { وخير أملاً } أي ما يؤمله الإنسان . قوله سبحانه وتعالى { ويوم نسير الجبال } أي نذهب بها وذلك أن تجعل هباء منثوراً كما يسير السحاب { وترى الأرض بارزة } أي ظاهرة ليس عليها شجر ولا جبل ولا بناء وقيل هو بروز ما في بطنها من الموتى وغيرهم فيصير باطن الأرض ظاهرها { وحشرناهم } يعني جميعاً إلى موقف الحساب { فلم نغادر منهم أحداً } أي لم نترك منهم أحداً { وعرضوا على ربك صفاً } أي صفاً صفاً وفوجاً فوجاً لأنهم صف واحد وقيل قياماً كل أمة وزمرة صف ثم يقال لهم { لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } يعني أحياء وقيل حفاة عراة غرلاً { بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً } يعني القيامة يقول ذلك لمنكر البعث ( ق ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال :(4/314)
« أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين إلا إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي ، فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم قال : فيقال لي إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم . زاد في رواية فأقول سحقاً سحقاً » قوله غرلاً أي قلفاً والغرلة القلفة التي تقع من جلد الذكر وهو موضع الختان ، وقوله سحقاً أي بعداً ، قال بعض العلماء : إن المراد بهؤلاء أصحاب الردة الذين ارتدوا من العرب ومنعوا الزكاة بعد ( ق ) عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يحشر الناس حفاة عراة غرلاً . قالت عائشة : فقلت الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض قال : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك » زاد النسائي في رواية { لكل امرىء يومئذٍ شأن يغنيه . }(4/315)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
قوله عز وجل : { ووضع الكتاب } يعني صحائف أعمال العباد توضع في أيدي الناس في أيمانهم وشمائلهم ، وقيل توضع بين يدي الله تعالى { فترى المجرمين مشفقين } أي خائفين { مما فيه } يعني من الأعمال السيئة { ويقولون } يعني إذا رأوها { يا وليتنا } أي يا هلاكنا وكل من وقع في هلكة دعا بالويل { مال هذا الكتاب لا يغادر } أي لا يترك { صغيرة ولا كبيرة } إي من ذنوبنا الصغيرة { إلا أحصاها } أي عدها وكتبها وأثبتها فيه وحفظها ، قال ابن عباس : الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة . وقال سعيد بن جبير : الصغيرة اللمم واللمس والقبلة والكبيرة الزنا عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا في بطن واد فجاء هذا بعود وجاء هذا بعود فانضجوا خبزهم وإن محقرات الذنوب لموبقات » الحقير الشيء الصغير التافه وقوله لموبقات أي مهلكات . { ووجدوا ما عملوا حاضراً } أي مكتوباً أي مثبتاً في كتابهم { ولا يظلم ربك أحداً } أي لا ينقص ثواب أحد عمل خيراً ولا يؤاخذ أحداً بجرم لم يعمله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم : « يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله » أخرجه الترمذي . وقال لا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى . قوله سبحانه وتعالى { وإذ قلنا } أي واذكر يا محمد إذ قلنا { للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن } قال ابن عباس : كان من حي من الملائكة يقال لهم الجن ، خلقوا من نار السموم وقال الحسن : كان من الجن ولم يكن من الملائكة فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجن بدليل قوله سبحانه تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ، وذلك أن قريشاً قالت الملائكة بنات الله ، فهذا يدل على أن الملك يسمى جناً ويعضده اللغة لأن الجن مأخوذ من الاجتنان ، وهو الستر فعلى هذا تدخل الملائكة فيه فكل الملائكة جن لاستتارهم وليس كل جن ملائكة ، ووجه كونه من الملائكة أن الله سبحانه وتعالى استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل ويصح دخوله وذلك يوجب كونه من الملائكة ووجه من قال إنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة قوله كان من الجن والجن جنس مخالف للملائكة قوله أفتتخذونه وذريته فأثبت له ذرية والملائكة لا ذرية لهم ، وأجيب عن الاستثناء أنه استثناء منقطع وهو مشهور في كلام العرب قال الله سبحانه وتعالى(4/316)
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني } وقال تعالى { لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً } قيل إنه كان من الملائكة فلما خالف الأمر مسخ وغير وطرد ولعن . وقوله تعالى { ففسق عن أمر ربه } أي خرج عن طاعة ربه { أفتتخذونه } يعني يا بني آدم أفتتخذون إبليس { وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو } يعني أعداء روي مجاهد عن الشعبي قال : إني لقاعد يوماً إذ أقبل رجل فقال أخبرني هل لإبليس زوجة قلت إن ذلك العرس ما شهدته ثم ذكرت قول الله عز وجل { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني } فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة فقلت نعم ، قيل يتوالدون كما يتوالد ابن آدم . وقيل إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين . قال مجاهد : من ذرية إبليس لا قيس وولها وهو صاحب الطهارة والصلاة والهفاف ومره وبه يكنى ، وزلنبور وهو صاحب الأسواق يزين اللغو والحلف الكاذب ومدح السلع وبتر وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب ، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل ا لرجل وعجيزة المرأة ، ومطموس وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلاً ، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر الله بصره من المتاع ما لم يرفع أو يحسن موضعه وإذا أكل ولم يسم أكل معه ، قال الأعمش : ربما دخلت البيت ولم أذكر أسم الله ولم أسلم فرأيت مطهرة فقلت ارفعوا هذه وخاصمتهم ثم أذكر فأقول داسم داسم أعوذ بالله منه ، روى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء » أخرجه الترمذي . ( م ) عن عثمان بن أبي العاص قال : قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بين وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ذلك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثاً » قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني ( م ) عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئاً ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت » قال الأعمش أراه قال فليتزمه . وقوله { بئس للظالمين بدلاً } يعني بئس ما استبدلوا طاعة إبليس وذريته بعبادة ربهم وطاعته . قوله سبحانه وتعالى { ما أشهدتهم } أي ما أحضرتهم يعني إبليس وذريته وقيل الكفار وقيل الملائكة { خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم } والمعنى ما أشهدتهم خلقها فأستعين بهم على خلقها وأشاورهم فيها { وما كنت متخذ المضلين } يعني الشياطين الذين يضلون الناس { عضداً } يعني أنصاراً وأعواناً .(4/317)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
قوله عز وجل : { ويوم يقول نادوا } يعني يقول الله تعالى يوم القيامة نادوا { شركائي } يعني الأصنام { الذين زعمتم } يعني أنهم شركائي { فدعوهم } أي فاستغاثوا بهم { فلم يستجيبوا لهم } أي فلم يجيبوهم ولم ينصروهم { وجعلنا بينهم } يعني بين الأصنام وعبدتها وقيل بين أهل الهدى وبين أهل الضلال { موبقاً } يعني مهلكاً قال ابن عباس : هو واد في النار وقيل نهر تسيل منه نار وعلى حافتيه حيات مثل البغال الدهم وقيل كل حاجز بين شيئين فهو موبق وأصله الهلاك { ورأى المجرمون } أي المشركون { النار فظنوا } أي أيقنوا { أنهم مواقعوها } أي داخلوها وواقعون فيها { ولم يجدوا عنها مصرفاً } أي معدلاً لأنها أحاطت بهم من كل جانب وقيل لأن الملائكة تسوقهم إليها . قوله سبحانه وتعالى { ولقد صرفنا } أي بينا { في هذا القرآن للناس من كل مثل } أي ليتذكروا ويتعظوا { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } أي خصومة في الباطل قال ابن عباس : أراد النضر بن الحارث وجداله في القرآن وقيل أراد به أبي بن خلف وقيل أراد به جميع الكفار وقيل الآية على العموم وهو الأصح ( ق ) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلاً فقال : « ألا تصليان » فقلت يا رسول الله أنفسنا بيد الله تعالى فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت ذلك ولم يرجع إلى شيئاً ثم سمعته يقول وهو مول يضرب فخذه بيده { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } قوله عز وجل { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى } يعني القرآن وأحكام الإسلام والبيان من الله تعالى وقيل إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم { ويستغفروا ربهم } والمعنى أنه لا مانع من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة والتخلية حاصلة والأعذار زائلة فلم لم يقدموا على الإيمان والاستغفار { إلا أن تأتيهم سنة الأولين } يعني سنتنا بإهلاك الأولين إن لم يؤمنوا وهو عذاب الاستئصال { أو يأتيهم العذاب قبلاً } قال ابن عباس : أي عياناً من المقابلة وقيل فجأة . قوله سبحانه وتعالى { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين } أي بالثواب على الطاعة { ومنذرين } بالعقاب لمن عصى { ويجادل الذين كفروا بالباطل } هو قولهم { أبعث الله بشراً رسولاً } وقولهم للرسل { ما أنتم إلا بشر مثلنا } وشبه ذلك { ليدحضوا } أي ليبطلوا { به الحق } ويزيلوه { واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً } فيه إضمار يعني اتخذوا ما أنذروا به وهو القرآن استهزاء . قوله عز وجل { ومن أظلم ممن ذكر } أي وعظ { بآيات ربه فأعرض عنها } أي تولى عنها وتركها ولم يؤمن بها { ونسي ما قدمت يداه } أي ما عمل من المعاصي من قبل { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة } أي أغطية { أن يفقهوه } يريد لئلا يفهموه { وفي آذانهم وقراً } أي ثقلاً وصماً { وإن تدعهم } يا محمد { إلى الهدى } أي الدين { فلن يهتدوا إذاً أبداً } وهذا في أقوام علم الله منهم أنهم لا يؤمنون { وربك الغفور } أي البليغ المغفرة { ذو الرحمة } أي الموصوف بالرحمة { لو يؤآخذهم } أي يعاقب الكفار { بما كسبوا } من الذنوب { لعجل لهم العذاب } أي في الدنيا { بل لهم موعد } يعني البعث والحساب { لن يجدوا من دونه موئلاً } أي ملجأ { وتلك القرى } قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم { أهلكناهم لما ظلموا } أي كفروا { وجعلنا لمهلكهم موعداً } أي أجلاً لإهلاكهم .(4/318)
قوله سبحانه وتعالى { وإذ قال موسى لفتاه } الآيات أكثر العلماء على أن موسى المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران من سبط لاوي بن يعقوب صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة . وعن كعب الأحبار أنه موسى بن ميشا من أولاد يوسف بن يعقوب وكان قد تنبأ قبل موسى بن عمران . والقول الأول أصبح بدليل أن الله سبحانه وتعالى في كتابه لم يذكر العزيز موسى إلا أراد به صاحب التوراة فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه ولو أراد شخصاً آخر لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز بينهما وتزيل الشبهة فلما لم يميزه بصفة علمنا أنه موسى بن عمران صاحب التوراة وأما فتاه فالأصح أنه يوشع ابن نون بن أفراً ثم ابن يوسف وهو صاحب موسى وولي عهده بعد وفاته ، وقيل إنه أخو يوشع وقيل فتاة يعني بده بدليل قوله صلى الله عليه وسلم « لا يقل أحدكم عبده وأمتي وليقل فتاي وفتاتي » ( ق ) عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس أن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بين إسرائيل فقال ابن عباس : كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل فسأل أي الناس أعلم فقال أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك ، قال موسى : يا رب فكيف لي به قال : فخذ معك حوتاً فاجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما ، فاضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سرباً وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق ، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت وانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كانا من الغد قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به .(4/319)
فقال له فتاه { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً } قال فكان للحوت سرباً ولموسى ولفتاه عجباً فقال موسى { ذلك ما كنا نبغ فارتدا على أثارهما قصصاً } قال رجعا فقصا آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوب أبيض فسلم عليه موسى فقال الخضر وأنى بأرضك السلام فقال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم أتيتك لتعلمني ما علمت رشداً ، قال : إنك لن تستطيع معي صبراً ، يا موسى إني على علم من علم الله عملنيه لا تعلمه وأنت على علم من علم الله لا أعلمه فقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً . فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول ، فلما ركبا السفينة لم يفجأ موسى إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها « لقد جئت شيئاً إمراً قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً : قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كانت الأولى من موسى نسياناً قال وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى : » أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً « قال وهذه أشد من الأولى قال » إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً . فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض « أي مائلا فقال الخضر بيده هكذا فأقامه فقال موسى قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا » لو شئت لاتخذت عليه أجراً قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطيع عليه صبراً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحم الله موسى ، لوددت أنه صبر يقص علينا من أخبارهما « قال سعيد بن جبير فكان ابن عباس يقرأ : وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً ، وكان يقرأ وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين .(4/320)
وفي رواية عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قام موسى عليه السلام ذكر الناس يوماً حتى إذا ما فاضت العيون ورقت القلوب ولى فأدركه رجل فقال : أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك؟؟ قال : لا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله تعالى . فقال بلى قال أي رب وأين هو قال بمجمع البحرين قال خذ حوتاً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح . وفي رواية تزود حوتاً مالحاً فإنه حيث يفقد الحوت زاد في رواية وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حي فأصاب الحوت من ماء تلك العين فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر ورجعنا إلى التفسير . قوله سبحانه وتعالى { لا أبرح } أي لا أزال أسير { حتى أبلغ مجمع البحرين } قيل أراد بحر فارس والروم مايلي المشرق وقيل طنجة وقيل إفريقية { أو أمضي حقباً } يعني أو أسير دهراً طويلاً . والحقب ثمانون سنة فحمل خبزاً وسمكة مالحة في المكتل وهو الزنبيل الذي يسع خمسة عشر صاعاً ومضيا حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين وعندها عين تسمى عين الحياة لا تصيب شيئاً إلا حيي فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وهاجت ودخلت في البحر .(4/321)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
{ فلما بلغا } يعني موسى وفتاه { مجمع بينهما } أي بين البحرين { نسيا } أي تركا { حوتهما } . وإنما كان الحوت مع يوشع بن نون ، وهو الذي نسيه وإنما أضاف النسيان إليهما تزواده لسفرهما وقيل المراد من قوله نسيا حوتهما أي نسيا كيفيه الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول للمطلوب . { فاتخذ } أي الحوت { سبيله في البحر سرباً } أي مسلكاً . وروى أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه سلم أنه قال « أنجاب الماء عن مسلك الحوت فصار كوة لم يلتئم فدخل موسى الكوة على أثر الحوت فإذا هو بالخضر » قال ابن عباس : جعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس حتى صخرة ، وقد روينا أنهما لما انتهيا إلى الصخرة وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت فخرج فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سرباً فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره فانطلقا حتى إذا كان من الضد وهو قوله سبحانه وتعالى { فلما جاوزوا } يعني ذلك الموضع وهو مجمع البحرين { قال } يعني موسى { لفتاه آتنا غداءنا } أي طعامنا { لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً } أي تعباً وشدة وذلك أنه ألقي على موسى الجوع بعد ما جاوز الصخرة ليتذكر الحوت ويرجع في طلبه .(4/322)
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
{ قال } يعني يوشع { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة } وهي صخرة كانت بالموضع الموعود { فإني نسيت الحوت } أي تركته وفقدته ، وذلك أن يوشع حين رأى من الحوت ذلك قام ليدرك موسى فيخبره فنسي أن يخبره ، فمكثا يومهما حتى صليا الظهر من الغد ثم قال { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } أي وما أنساني أن أذكر لك أمر الحوت إلا الشيطان ، قيل المراد من النسيان شغل قلب الإنسان بوساوس الشيطان التي هي فعله دون النسيان الذي يضاد الفكر لأن ذلك لا يصح إلا من قبل الله تعالى { واتخذ سبيله في البحر عجباً } قيل هذا من قول يوشع بن نون يعني وقع الحوت في البحر فاتخذ سبيله فيه مسلكاً . وروي في الخبر كان للحوت سرباً ولموسى ولفتاه عجباً وقيل أي شيء أعجب من حوت يؤكل منه دهراً ثم صار حياً بعد ما أكل بعضه . قوله عز وجل { قال } يعني موسى { ذلك ما كنا نبغ } نطلب { فارتدا على أثارهما قصصاً } أي رجعا يقصان الذي جاءا منه ويتبعانه { فوجدوا عبداً من عبادنا } قيل كان ملكاً من الملائكة والصحيح الذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء في التواريخ أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان وكنيته أبو العباس ، قيل كان من بني إسرائيل وقيل كان من أبناء الملوك الذين تزهدوا وتركوا الدنيا والخضر لقب له ، سمي به لأنه جلس على فروة بيضاء فاخضرت . ( خ ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إنما سمي خضراً لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء » ، الفروة قطعة نبات مجتمعة يابسة وقيل سمي خضراً لأنه كان إذا صلّى اخضر ما حوله . وروينا أن موسى رأى الخضر مسجى بثوب فسلم عليه ، فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام قال أنا موسى أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً . ومعنى مسجى أي مغطى بثوب وقوله وأنى بأرضك السلام معناه من أين بأرضك التي أنت فيها الآن السلام . وروي أنه لقيه على طنفسه خضراء على جانب البحر فذلك قوله سبحانه وتعالى { فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة } أي نعمة { من عندنا وعلمناه من لدنا علماً } أي علم الباطن إلهاماً ولم يكن الخضر نبياً عند أكثر أهل العلم . فإن قلت ظاهر الآيات يدل على أن الخضر كان أعلى شأناً من موسى وكان موسى يظهر التواضع له والتأدب معه . قلت لا يخلو إما أن يكون الخضر من بني إسرائيل أو من غيرهم فإن كان من بني إسرائيل فهو من أمة موسى ، ولا جائز أن يكون أحد الأمة أفضل من نبيها أو أعلى شأناً منه ، وإن كان من غير بني إسرائيل فقد قال الله تعالى لبني إسرائيل(4/323)
{ وإني فضلتكم على العالمين } أي على عالمي زمانكم { قال له موسى هل أتبعك } معناه جئت لأصحبك وأتبعك { على أن تعلمن مما علمت رشداً } أي صواباً وقيل علماً ترشدني به . وفي بعض الأخبار قال الخضر لموسى : كفى بالتوراة علماً وبني إسرائيل شغلاً ، فقال له موسى : إن الله أمرني بهذا فحينئذٍ { قال } الخضر لموسى { إنك لن تستطيع معي صبراً } وإنما قال ذلك لأنه علم أنه يرى أموراً منكرة ولا يجوز للأنبياء الصبر مع المنكرات ثم بين عذره في ترك الصبر فقال { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً } أي علماً { قال } موسى { ستجدني إن شاء الله صابراً } إنما استثنى لأنه لم يثق من نفسه بالصبر { ولا أعصي لك أمراً } أي أخالفك فيما تأمرني به قال { فإن اتبعتني } إي فإن صحبتني ولم يقل اتبعني ولكن جعل الاختيار إليه شرط عليه ثم شرطاً فقال { فلا تسألني عن شيء } أي مما أعلمه مما تنكره ولا تعترض عليه { حتى أحدث لك منه ذكراً } معناه حتى أبتدأ بذكره فأبين لك شأنه . قوله سبحانه وتعالى { فانطلقا } أي يمشيان على الساحل يطلبان سفينة يركبانها ، فوجدا سفينة فركباها فقال أهل السفينة هؤلاء لصوص ، وأمروهما بالخروج فقال صالح السفينة ما هم بلصوص ولكن أرى وجوه الأنبياء . وروينا عن أبي بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم « مرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول ، أي بغير عوض ولا عطاء ، فلما لججوا في البحر أخذ الخضر فأسا فخرق لوحاً من ألواح السفينة فذلك » قوله تعالى { حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال } يعني موسى له { أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً } أي أتيت شيئاً عظيماً منكراً . روي أن الخضر لما خرق السفينة لم يدخلها الماء وروي أن موسى لما رآى ذلك أخذ ثوبه فحشا به الخرق .(4/324)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
{ قال } العالم وهو الخضر { ألم أقل أنك لن تستطيع معي صبراً قال } يعني موسى { لا تؤاخذني بما نسيت } . قال ابن عباس : لم ينس ولكنه من معاريض الكلام فكأنه نسي شيئاً آخر . وقيل معناه بما تركت من عهدك النيسان الترك وقال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم « كانت الأولى من موسى نسياناً والثانية شرطاً والثالثة عمداً » { ولا ترهقني } أي لا تغشني { من أمري عسراً } والمعنى لا تعسر علي متابعتك وسيرها بالأغضاء وترك المناقشة وقيل لا تكلفني مشقة ولا تضيق علي أمري . { فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله } في القصة أنهما خرجا من البحر يمشيان فمرا بغلمان ، يلعبون فأخذ الخضر غلاماً ظريفاً وضيء الوجه كان وجهه يتوقد حسناً فأضجعه ثم ذبحه بالسكين ، وروينا أنه أخذ برأسه فاقتلعه . وروى عبد الرزاق هذا الخبر وفيه أشار بأصابعه الثلاث الإبهام والسبابة والوسطى وقلع رأسه . وروي أن رضخ رأسه بحجر وقيل ضرب رأسه بالجدار فقتله . قال ابن عباس : كان غلاماً لم يبلغ الحنث ولم يكن نبي الله موسى يقول أقتلت نفساً زاكية ، إلا وهو صبي لم يبلغ الحنث ، وقيل : كان رجلاً وقيل كان اسمه حيسور وقيل كان فتى يقطع الطريق ويأخذ المتاع ويلجأ إلى أبويه . وقيل كان غلاماً يعمل بالفساد ويتأذى منه أبواه . ( ق ) عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً » لفظ مسلم { قال } يعني موسى { أقتلت نفساً زكية } أي لم تذنب قط وقرىء زكية وهي التي أذنبت ثم تابت { بغير نفس } أي لم تقتل نفساً حتى يجب عليها القتل { لقد جئت شيئاً نكراً } أي منكراً عظيماً ، وقيل النكر أعظم من الأمر لأنه حقيقة الهلاك ، وفي خرق السفينة خوف الهلاك ، وقيل الأمر أعظم لأن فيه تغريق جمع كثير ، وقيل معناه لقد جئت شيئاً أنكر من الأول لأن ذاك كان خرقاً يمكن تداركه بالسد وهذا لا سبيل إلى تداركه { قال } يعني الخضر { ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً } قيل زاد في هذه الآية قوله لك لأنه نقض العهد مرتين ، وقيل إن هذه اللفظة توكيد للتوبيخ فعند هذا { قال } موسى { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } قيل إن يوشع كان يقول لموسى يا نبي الله اذكر العهد الذي أنت عليه ، قال موسى إن سألتك عن شيء بعد هذه المرة فلا تصاحبني ، أي فارقني لا تصاحبني { قد بلغت من لدني عذراً } قال ابن عباس : أي قد أعذرت فيما بيني وبينك ، وقيل معناه اتضح لك العذر في مفارقتي والمعنى أنه مدحه بهذه الطريقة من حيث أنه احتمله مرتين أولاً وثانياً مع قرب المدة ( ق ) عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/325)
« رحمة الله علينا وعلى وموسى وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه لولا أنه عجل لرأى العجب ، ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة فقال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً فلو صبر لرأى العجب » قوله ذمامة هو بذال معجمة أي حياء وإشفاق من الذم واللوم ، يقال ذممته ذمامة لمته ملامة ويشهد له قول الخضر هذا فراق بيني وبينك .
قوله سبحانه وتعالى { فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية } قال ابن عباس : يعني أنطاكية وقيل الأيلة وهي أبعد الأرض من السماء وقيل هي بلدة بالأندلس { استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما } قال أبي بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم « أتيا أهل قرية لئاماً فطافا في المجلس فاستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما » وروي أنهما طافا في القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافاهم فلم يضيفوهما . وعن أبي هريرة قال : أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعا لنسائهم ولعن رجالهم . وعن قتادة قال : شر القرى التي لا تضيف الضيف { فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض أي يسقط وهذا من مجاز الكلام لأن الجدار لا إرادة له ، وإنما معناه قرب ودنا من السقوط كما تقول داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها ، فاستعير لها النظر كما أستعير للجدار الإرادة . { فأقامه } أي سواه ، وفي حديث أبي بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم « فقال الخضر بيده هكذا فأقامه » وقال ابن عباس : هدمه وقعد يبنيه . { قال } يعني موسى { لو شئت لاتخذت عليه أجراً } يعني على إصلاح الجدار جعلاً والمعنى أنك قد علمت أنا جياع ، وأن أهل القرية لم يطعمونا فلو اتخذت على عملك أجراً .(4/326)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
{ قال } يعني الخضر { هذا فراق بيني وبينك } يعني هذا وقت فراق بيني وبينك وقيل إن هذا الإنكار على ترك أخذ الأجر هو المفرق بيننا { سأنبئك } أي سوف أخبرك { بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً } وقيل إن موسى أخذ بثوب الخضر وقال أخبرني بمعنى ما عملت قبل أن تفارقني فقال الخضر { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } قيل كانت لعشرة إخوة خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر ، أي يؤجرونها ويكتسبون بها ، وفي دليل على أن المسكين وإن كان يملك شيئاً لا يزول عنه اسم المسكنة إذا لم يقم ما يملكه بكفايته ، وإن حال الفقير في الضر والحاجة أشد من حال المسكين ، لأن الله تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة { فأردت أن أعيبها } أي أجعلها ذات عيب { وكان وراءهم ملك } أي أمامهم وقيل خلفهم وكان رجوعهم في طريقهم عليه والأول أصح . { يأخذ كل سفينة غصباً } أي كل سفينة صالحة فخرقتها وعبتها حتى لا يأخذها الملك الغاصب وكان اسمه الجلندي والأزدي وكان كافراً وقيل اسمه هدد بن بدد ، روي أن الخضر اعتذر إلى القوم وذكر لهم شأن الملك الغاصب ولم يكونوا يعلمون بخبره وقال أردت إذا هي تمر به أن يدعها لعيبها فإذا جاوزوا أصلحوها وانتفعوا بها . قوله عز وجل { وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا } أي خفنا والخشية خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون عن علم بما يخشى منه ، وقيل معناه فعلمنا { أن يرهقهما } أي يغشيهما وقيل يكلفهما { طغياناً وكفراً } قيل معناه فخشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه على دينه { فأردنا أن يبدلهما ربهما } الإبدال رفع الشيء ووضع أخر مكانه { خيراً منه زكاة } أي صلاحاً وتقوى ، وقيل هو في مقابلة قوله تعالى { أقتلت نفساً زكية } فقال الخضر أردنا أن يرزقهما الله خيراً منه زكاة { وأقرب رحماً } أي ويكون المبدل منه أقرب عطفاً ورحمة لأبويه ، بأن يبرهما ويشفق عليهما قيل أبدلهما جارية فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبياً فهدى الله على يديه أمة من الأمم وقيل ولدت سبعين نبياً ، وقيل أبدلهما بغلام مسلم وقيل إن الغلام الذي قتل فرح به أبواه حين ولد وحزن عليه حين قتل ولو بقي لكان فيه هلاكهما ، فليرض العبد بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله سبحانه وتعالى للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب .
قوله سبحانه وتعالى { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } قيل كان أسمهما أصرم وصريم { وكان تحته كنز لهما } روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « كان الكنز ذهباً وفضة » أخرجه الترمذي . وقيل كان الكنز صحفاً فيهم علم .(4/327)
وقال ابن عباس : كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه عجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجباً لمن أيقن بالقدر كيف يغضب ، عجباً لمن أيقن بالرزق كيف يتعب عجباً لمن أيقن بالحساب كيف يغفل عجباً لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله وفي الجانب الآخر مكتوب أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر ، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه . وقيل الكنز إذا أطلق يراد به المال ومع التقييد يراد به غيره ، يقال عند فلان كنز علم وكان هذا اللوح جامعاً لهما { وكان أبوهما صالحاً } قيل إن إسمه كاشح وكان من الأتقياء ، وقال ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ، وقيل كان بينهما وبين الأب الصالح سبع آباء ، قال محمد بن المنكدر : إن الله سبحانه وتعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله ، فلا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم وقال سعيد بن المسيب : إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي . { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما } أي يدركا ويعقلا قوتهما وهو البلوغ وقيل ثمان عشرة سنة . فإن قلت كيف قال في الأولى فأردت وفي الثانية فأردنا وفي الثالثة فأراد ربك وما وجه كل واحدة في هذه الألفاظ . قلت إنه لما ذكر العيب أضافة إلى نفسه على سبيل الأدب مع الله تعالى ، فقال فأردت أن أعيبها ولما قتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العلماء العظماء في علم الباطن وعلوم الحكمة ، وأنه لم يقدم على مثل هذا القتل إلا بحكمة عالية ، ولما ذكر عليه المصالح في مال اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله سبحانه وتعالى لأن حفظ الأبناء وصلاح أحوالهم لرعاية حق الآباء ليس إلا لله سبحانه وتعالى ، فلأجل ذلك أضافه إلى الله تعالى { ويستخرجا كنزهما } يعني إذا بلغا وعقلا وقويا { رحمة من ربك } أي نعمة من ربك { وما فعلته عن أمري } أي باختياري ورأيي بل فعلته بأمر والله وإلهامه إياي لأن تنقيض أموال الناس وإراقة دمائهم وتغيير أصولهم ، لايكون إلا بالنص وأمر الله تعالى . واستدل بعضهم بقوله سبحانه وتعالى وما فعلته عن أمري على أنه الخضر كان نبياً لأن هذا يدل على الوحي وذلك للأنبياء ، والصحيح أنه ولي الله وليس بنبي ، وأجيب عن قوله سبحانه وتعالى وما فعلته عن أمري إنه إلهام من الله سبحانه وتعالى له بذلك ، وهذه درجة الأولياء . وقيل معناه إنما فعلت هذه الأفعال لغرض أن تظهر رحمة الله لأنهما بأسرها ترجع إلى معنى واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى .
{ ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } أي لم تطق أن تصبر عليه .(4/328)
روي أن موسى عليه السلام لما أراد أن يفارق الخضر قال : أوصني قال : لا تطلب العلم لتحدث به واطلب العلم لتعمل به . واختلف العلماء في أن الخضر حي أم ميت فقيل إنه حي وهو قول الأكثرين من العلماء وهو متفق عليه عند مشايخ الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة والحكايات في رؤيته والاجتماع به ، ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر ، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاواه : هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة . هذا آخر كلامه ، وقيل إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم وكان السبب في حياة الخضر فيما حكي أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذو القرنين دخل الظلمة لطلب عن الحياة ، وكان الخضر على مقدمته فوقع الخضر على العين فاغتسل وشرب منها وصلى شكراً لله تعالى وأخطأ ذو القرنين الطريق ، فرجع وذهب أخرون إلى أنه ميت لقوله سبحانه وتعالى وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة « أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ولو كان الخضر حياً لكان لا يعيش بعده » .(4/329)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
وقوله عز وجل { ويسألونك عن ذي القرنين } قيل اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح وقيل اسمه الاسكندر بن فيلفوس كذا صح الرومي ، وكان ولد عجوز ليس لها ولد غيره ونقل الإمام فخر الدين في تفسيره عن أبي الريحان السروري المنجم في كتابه المسمى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أنه من حمير واسمه أبو كرب سمي ابن عير بن أبي أفريقيس الحميري وهو الذي افتخر به أحد شعراء حمير حيث يقول
قد كان ذو القرنين جدي مسلماً ... ملكاً علا في الأرض غير مفند
بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب ملك من كريم مرشد
فرآى مآب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأطه حرمد
قوله فرأى مآب الشمس ، أي ذهاب الشمس وقوله في عين ذي خلب أي حمأة ، والثأطة الحمأة أيضاً والجمع ثأط والحرمد الطين الأسود . وقيل سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها ، وقيل لأنه ملك فارس والروم وقيل لأنه دخل النور والظلمة ، وقيل لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشمس وقيل لأنه كان له ذؤابتان حسنتان ، وقيل كان له قرنان تورايهما العمامة ، وروي عن علي أنه أمر قومه بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيمن فمات فأحياه الله ثم بعثه فأمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات فأحياه الله . واختلفوا في نبوته فقيل كان نبياً ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى قلنا يا ذا القرنين وخطاب الله لا يكون إلا مع الأنبياء وقيل لم يكن نبياً . قال أبو الطفيل : سئل علي عن ذي القرنين أكان نبياً فقال : لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان عبداً أحب الله فأحبه الله وناصح الله ، فناصحه الله . وروي أن عمر سمع رجلاً يقول لآخر يا ذا القرنين فقال تسميتم بأسماء الأنبياء ، فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة والأصح الذي عليه الأكثرون أنه كان ملكاً صالحاً عادلاً وأنه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال والجنوب وهذا هو القدر المعمور من الأرض وذلك أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن دان له طوائف ثم مضى إلى ملوك العرب وقهرهم ، ومضى حتى أنتهى إلى البحر الأخضر ، ثم رجع إلى مصر وبنى الإسكندرية ، وسماها باسمه ثم دخل الشام وقصد بيت المقدس وقرب فيه القربان ، ثم انعطف إلى أرمينية وبوب الأبواب وبنى السد ودانت له ملوك العراق والنبط والبربر . واستولى على ممالك الفرس ثم مضى إلى الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ثم رجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها وحمل إلى حيث هو مدفون وقيل إن عمره كان ألفاً وثلاثين سنة ومثل هذا الملك البسيط الذي هو على خلاف العادات وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الأرض فذلك قوله سبحانه وتعالى { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكراً } أي خبراً يتضمن حاله .(4/330)
قوله سبحانه وتعالى { إنا مكنا له في الأرض } أي وطأنا له والتمكين تمهيد الأسباب ، قال علي سخر الله له السحاب فحمل عليه ومد له في الأسباب ، وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء وسهل عليه السير في الأرض وذلك له طريقها . { وآتيناه من كل شيء } ما يحتاج إليه الخلق وكل ما يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء { سبباً } أي علماً يسبب به إلى كل ما يريده ويسير به في أقطار الأرض وقيل بلاغاً إلى حيث أراد ، وقيل قربنا له أقطار الأرض { فأتبع سبباً } أي سلك طريقاً { حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة } أي ذات حماة وهي الطينة السوداء ، وقرىء حامية اي حارة ، وسأل معاوية كعباً : كيف تجد في التوراة تغرب الشمس وأين تغرب؟ قال : نجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين . وقيل يجوز أن يكون معنى في عين حمئة أي عندها عين حمئة ، أو في رأي العين ، وذلك أنه بلغ موضعاً من المغرب لم يبق بعده شيء من العمران فوجد الشمس كأنها تغرب في وهذه مظلمة . كما أن راكب البحر يرى أن الشمس كأنها تغيب في البحر { ووجد عندها قوماً } أي عند العين أمة ، قال ابن جريج : مدينة لها أثنا عشر ألف باب يقال إنها الجاسوس واسمها بالسريانية حريحسا سكنها قوم من نسل ثمود الذين آمنوا بصالح لولا ضجيج أهلها ، لسمع الناس وجبة الشمس حين تجب أن تغيب { قلنا يا ذا القرنين } يستدل بهذا من يزعم أنه كان نبياً فإن الله خاطبه من قال إنه لم يكن نبياً قال المراد منه الإلهام وقيل يحتمل أن يكون الخطاب على لسان غيره { إما أن تعذب } يعني تقتل من لم يدخل في الإسلام .
{ وإما أن تتخذ فيهم حسنا } يعني تعفو وتصفح وقيل تأسرهم فتعلمهم الهدى ، خيره الله سبحانه وتعالى بين الأمرين { قال أما من ظلم } أي كفر { فسوف نعذبه } أي نقتله { ثم يرد إلى ربه } أي في الآخرة { فيعذبه عذاباً نكراً } أي منكراً يعني بالنار لأنها أنكر من القتل { وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى } أي جزاء أعماله الصالحة { وسنقول له من أمرنا يسراً } أي نلين له القول نعامله باليسر من أمرنا { ثم أتبع سبباً } أي سلك طريقاً ومنازل { حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً } قيل إنهم كانوا في مكان ليس بينهم وبين الشمس ستر من جبل ولا شجر ولا يستقر عليهم بناء ، فإذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب لهم تحت الأرض ، فإذا زالت الشمس عنهم خرجوا إلى معايشهم وحروثهم .(4/331)
وقيل إنهم كانوا إذا طلعت الشمس نزلوا في الماء فإذا ارتفعت عنهم خرجوا فرعوا كالبهائم ، وقيل هم قوم عراة يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحق بالأخرى وقيل إنهم من قوم من نسل مؤمني قوم هود واسم مدينتهم جابلق واسمها بالسريانية مرقيسيا وهم مجاورون يأجوج ومأجوج . قوله سبحانه وتعالى { كذلك } أي كما بلغ مغرب الشمس كذلك بلغ مطلعها ، وقيل معناه أنه حكم في القوم الذين هم عند مطلع الشمس كما حكم في القوم الذين هم عند مغربها وهو الأصح .
{ وقد أحطنا بما لديه خبراً } أي علماً بما عنده ومن معه من الجند والعدة وآلات الحرب ، وقيل معناه وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية بذلك الملك والاستقلال به والقيام بأمره .(4/332)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
قوله عز وجل : { ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين } هما هنا جبلان في ناحية الشمال في منقطع أرض الترك حكي أن الواثق بعث بعض من يثق به من أتباعه إليه ليعاينوه ، فخرجوا من باب من الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل { وجد من دونهما قوماً } أي أمام السدين قيل هم الترك { لا يكادون يفقهون قولاً } قال ابن عباس : لا يفهمون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم { قالوا يا ذا القرنين } فإن قلت كيف أثبت لهم القول وهم لا يفهمون . قلت تكلم عنهم مترجم ممن هو مجاورهم ويفهم كلامهم ، وقيل معناه لا يكادون يفقهون قولاً إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها كما يفهم الخرس { إن يأجوج ومأجوج } أصلهما من أجيج النار وهو ضوؤها وشررها شبهوا به لكثرتهم وشدتهم ، وهم من أولاد يافت بن نوح والترك منهم قيل إن طائفة منهم خرجت تغير فضرب ذو القرنين السد فبقوا خارجه فسموا الترك لأنهم تركوا خارجين . قال أهل التواريخ : أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث فسام أبو العرب والعجم والروم وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ويافث أبو الترك والخزر والصقالية ويأجوج ومأجوج قال ابن عباس « هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء » وروى حذيفة مرفوعاً « أن يأجوج ومأجوج أمة ، وكل أمة أربعة آلاف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر ألف ذكر من صلبه قد حمل السلاح ، وهم من ولد آدم يسيرون إلى خراب الدنيا ، وقال هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون مائة ذراع في السماء ، وصنف منهم عرضه بالأخرى وطوله سواء عشرون مائة ذراع وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد ، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه ويلتحق بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه ، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية .
وعن علي : منهم من طوله شبر ، ومنهم من هو مفرط في الطول . وقال كعب : هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم أحتلم ذات يوم ، وامتزجت نطفته بالتراب ، فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم ، وذكر وهب بن منبه أن ذا القرنين كان رجلاً من الروم ابن عجوز . فلما بلغ كان عبداً صالحاً قال الله سبحانه وتعالى إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس . يقال له ناسك ، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك وأمتان بينهما عرض الأرض احداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل ، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها تأويل ، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج .(4/333)
فقال ذو القرنين بأي قوة أكابدهم وبأي جمع أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم؟ فقال الله تعالى إني سأقويك وأبسط لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شيء ، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك ، فالنور يهديك من أمامك والظلمة تحوطك من ورائك . فانطلق حتى مغرب الشمس ، فوجد جمعاً وعدداً لا يحصيهم إلا الله تعالى فكاثرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد ، فدعاهم إل الله تعالى وعبادته فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه ، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب جنداً عظيماً وانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم ، حتى أتى هاويل ففعل فيهم كفعله في ناسك ثم مضى حتى منسك ففعل فيهم كفعله في الأمتين ، وجند منهم جنداً عظيماً ثم أخذ ناحية اليسرى فأتى تاويل ففعل بهم كفعله فيما قبلها ثم عمد إلى الأمم التي في وسط الأرض . فلما كان فيما يلي منقطع الترك مما يلي المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقاً أشباه البهائم يفترسون الدواب والوحوش والسباع ويأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلق في الأرض ، وليس يزداد خلق كزيادتهم فلا شك أنهم يتملكون الأرض ويظهرون عليها ويفسدون فيها فهل نجعل لك خرجاً ، على أن تجعل بيننا وبينهم سداً؟ قال : { ما مكَّنيّ فيه ربي خير } وقال أعدو إلى الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم .
فانطلق حتى توسط بلادهم ، فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا ، لهم مخالب وأضراس كالسباع ، ولهم هدب شعر يواري أجسادهم ، ويتقون به من الحر والبرد ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى ، يصيف في واحدة ويشتي في واحدة يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا فلما عاين ذو القرنين ذلك انصرف إلى مابين الصدفين فقاس ما بينهما وحفر له الأساس حتى بلغ الماء فذلك قوله تعالى { قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } قيل فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا حملوه وأدخلوه أرضهم ، فلقوا منهم أذىً شديداً وقيل فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس ، وقيل معناه أنهم سيفسدون عن خروجهم { فهل نجعل لك خرجاً } أي جعلاً وأجراً من الأموال { على أن تجعل بيننا وبينهم سداً } أي حاجزاً فلا يصلون إلينا .(4/334)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
{ قال } لهم ذو القرنين { ما مكني فيه ربي خير } أي ما قواني به ربي خير من جعلكم { فأعينوني } يعني لا أريد منكم المال بل أعينوني بأبدانكم وقوتكم { أجعل بينكم وبينهم ردماً } أي سداً قالوا وما تلك القوة؟ قال فعلة وصناع يحسنون البناء والآله . قالوا وما تلك الآلة؟ قال : { آتوني } أي أعطوني وقيل جيئوني { زبر الحديد } أي قطع الحديد فأتوه بها ، وبالحطب فجعل الحطب على الحديد والحديد على الحطب { حتى إذا ساوى بين الصدفين } أي بين طرفي الجبلين { قال انفخوا } يعني في النار { حتى إذا جعله ناراً } أي صار ناراً { قال آتوني أفرغ عليه } أي أصيب عليه { قطراً } أي نحاساً مذاباً فجعلت النار تأكل الحطب وجعل النحاس يسيل مكانه حتى لزم الحديد النحاس قيل إن السد كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء ، وقيل إن عرضه خمسون ذراعاً وارتفاعه مائة ذراع وطوله فرسخ ، واعلم أن هذا السد معجزة عظيمة ظاهرة لأن الزبرة الكبيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر أحد على القرب منها ، والنفخ عليها لا يمكن إلا بالقرب منها . فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين حتى تمكنوا من العمل فيه { فما استطاعوا أن يظهروه } أي يعلو عليه لعلوه وملاسته { وما استطاعوا له نقباً } أي من أسفله لشدته وصلابته { قال } يعني ذو القرنين { هذا } أي السد { رحمة من ربي } أي نعمة من ربي { فإذا جاء وعد ربي } قيل يعني القيامة وقت خروجهم { جعله دكاء } أي أرضاً ملساء وقيل مدكوكاً مستوياً مع الأرض { وكان وعد ربي حقاً } . ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد بيده تسعين » قوله وعقد بيده تسعين هو من موضوعات الحساب ، وهو أن تجعل رأس أصبعك السبابة في وسط الإبهام من باطنها شبه الحلقة ، لكن لا يتبين لها إلا خلل يسير وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « في السد يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال بعضهم ارجعوا فستحفرونه غداً قال فيعيده الله كأشد ما كان حتى إذا بلغوا مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً ، إن شاء الله تعالى ، واستثنى قال فيرجعون فيجدونه على هيئته حين تركوه فيخرقونه فيخرجون على الناس فيستقون المياه وتفر منهم الناس » وفي رواية « تتحصن الناس في حصونهم منهم فيرمون بسهام إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء فيزدادون قسوة وعتواً ، فيبعث الله عليهم نغفاً في رقابهم فيهلكون ، فوالذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكراً » أخرج الترمذي . وقوله قسوة وعتواً أي غلظة وفظاظة وتكبراً ، والنغف دود يكون في أنوف الإبل والغنم وقوله وتشكر يقال شكرت الشاة تشكر شكراً ، إذا امتلأ ضرعها لبناً ، والمعنى أنها تمتلي أجسامها لحماً وتسمن . ( خ ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج » .(4/335)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
قوله عز وجل : { وتركنا بعضهم يومئذٍ يموج في بعض } قيل هذا عند فتح السد ، يقول تركنا يأجوج ومأجوج يموج أي يدخل بعضهم في بعض كموج الماء ، ويختلط بعضهم في بعض لكثرتهم ، وقيل هذا عند قيام الساعة يدخل الخلق بعضهم في بعض لكثرتهم ويختلط إنسهم بجنهم حيارى { ونفخ في الصور } فيه دليل على أن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة { فجمعناهم جمعاً } أي في صعيد واحد { وعرضنا } أي أبرزنا { جهنم يومئذ للكافرين عرضاً } ليشاهدوها عياناً { الذين كانت أعينهم في غطاء } أي غشاء وستر { عن ذكري } أي عن الإيمان والقرآن والهدى والبيان وقيل عن رؤية الدلائل وتبصرها { وكانوا لا يستطيعون سمعاً } أي سمع قبول الإيمان والقرآن لغلبة الشقاء عليهم ، وقيل معناه لا يستطيعون أن يسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة عداوتهم له . قوله تعالى { أفحسب } أي أفظن { الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء } يعني أرباباً يريد عيسى والملائكة ، بل هم لهم أعداء يتبرؤون منهم . وقال ابن عباس : يعني الشياطين أطاعوهم من دون الله ، والمعنى أفظن الذين كفروا أن يتخذوا غيري أولياء وإني لا أغضب لنفسي فلا أعاقبهم وقيل معناه أفظنوا أنه ينفعهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء { إنا أعتدنا } أي هيأنا { جنهم للكافرين نزلاً } أي منزلاً .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي مثواهم وقيل معدة لهم عندنا كالنزل للضيف . قوله تعالى { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً } يعني الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلاً ونوالاً فنالوا هلاكاً وبواراً ، قال ابن عباس : هم اليهود والنصارى ، وقيل هم الرهبان الذي حبسوا أنفسهم في الصوامع وقال علي بن أبي طالب : هم أهل حوراء يعني الخوارج { الذين ضل سعيهم } أي بطل عملهم واجتهادهم { في الحياة الدنيا وهم يحسبون } أي يظنون { أنهم يحسنون صنعاً } أي عملاً ثم وصفهم فقال تعالى { أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه } يعني أنهم جحدوا دلائل توحيده وقدرته ، وكفروا بالبعث والثواب والعقاب ، وذلك لأنهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن فصاروا كافرين بهذه الأشياء { فحبطت أعمالهم } أي بطلت { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } . قيل لا تقيم لهم ميزاناً ، لأن الميزان إنما توضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ليتميزوا مقدار الطاعات ومقدار السيئات . قال أبو سعيد الخدري « يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم من العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئاً فذلك قوله تعالى { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } وقيل معناه نزدري بهم فليس لهم عندنا شيئاً ذلك قوله تعالى { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } وقيل معناه نزدري بهم فليس لهم عندنا حظ ولا قدر ولا وزن ( ق ) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال » إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرؤوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً « .(4/336)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
{ ذلك } إشارة إلى ما ذكر من حبوط أعمالهم وخسة قدرهم ، ثم ابتدأ فقال تعالى { جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً } يعني سخرية واستهزاء . قوله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً } . عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة » قال كعب : ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس ، فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها . وقيل : الفردوس هو البستان الذي فيه الأعناب . وقيل : هي الجنة الملتفة بالأشجار التي تنبت ضروباً من النبات . وقيل : الفردوس البستان بالرومية . وقيل : بلسان الحبش منقولاً إلى العربية نزولاً هو ما يهيأ للنازل على معنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس ونعيمها نزلاً . وقيل في معنى كانت لهم أي في علم الله تعالى قبل أن يخلقوا { خالدين فيها لا يبغون } أي لا يطلبون { عنها حولاً } أي تحولاً إلى غيرها ، قال ابن عباس : لا يريدون أن يتحولوا عنها ، كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى .
قوله تعالى { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي } قال ابن عباس : قالت اليهود يا محمد تزعم أننا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } ثم تقول وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ، فأنزل الله تعالى وقيل لما نزل { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } قالت اليهود أوتينا علم التوراة وفيها علم كل شيء .
فأنزل الله تعالى { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي } ما يستمده الكتاب ويكتب به ، وأصله من الزيادة قال مجاهد : لو كان البحر مداداً للقلم يكتب قيل والخلائق يكتبون { لنفد البحر } أي لنفد ماؤه { قبل أن تنفد كلمات ربي } أي علمه وحكمه { ولو جئنا بمثله مداداً } والمعنى ولو كان الخلائق يكتبون والبحر يمدهم فني ماء البحر ولم تفن كلمات ربي ، ولو جئنا بمثل ماء البحر في كثرته مدداً وزيادة . قوله تعالى { قل إنما أنا بشر مثلكم } قال ابن عباس : علم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم التواضع لئلا يزهى على خلقه ، فأمره أن يقرأ فيقول آنا آدمي مثلكم إلا أني خصصت بالوحي وأكرمني الله به وهو قوله تعالى { يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } لا شريك له في ملكه { فمن كان يرجو لقاء ربه } أي يخاف المصير إليه وقيل يؤمل رؤية ربه { فليعمل عملاً صالحاً } أي من حصل له رجاء لقاء الله تعالى والمصير إليه فليستعمل نفسه في العمل الصالح { ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } أي لا يرائي بعمله ولما كان العمل الصالح قد يراد به وجه الله سبحانه وتعالى وقد يراد به الرياء والسمعة اعتبر فيه قيدان ، أحدهما : يراد به سبحانه وتعالى والثاني : أن يكون مبرأ من جهات الشرك جميعها ( ق ) عن جندب بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/337)
« من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به » قوله من سمع سمع الله به أي من عمل عملاً مراآة للناس يشتهر بذلك شهرة الله يوم القيامة ، وقيل سمع الله به أي أسمعه المكروه ( م ) عن أبي هريرة قال « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله تبارك وتعالى يقول » أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه ولغير مسلم فأنا منه بريء هو والذي عمله « عن سعيد بن أبي فضالة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول » إذا جمع الناس ليوم لا ريب فيه نادى منادٍ من كان يشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه منه فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك « أخرجه الترمذي . وقال حديث غريب وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال » أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر؟ قالوا وما الشرك الأصغر قال الرياء « ( م ) عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال » من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال « وفي رواية من آخرها والله أعلم بمراده وأسراره كتابه .(4/338)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
{ كهيعص } قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ هو اسم من أسماء الله تعالى ، وقيل اسم القرآن ، وقيل للسورة ويل هو قسم أقسم الله تعالى به . عن ابن عباس قال؛ الكاف من كريم وكبير ، والهاء من هاد ، والياء من رحيم ، والعين من عليم ، والصاد من صادق ، وقيل معناه كاف لخلقه هاد لعباده يده فوق أيديهم عالم ببريته صادق في وعده .
{ ذكر } أي هذا الذي نتلو عليك ذكر { رحمة ربك عبده زكريا } قيل معناه ذكر ربك عبده زكريا برحمته { إذ نادى } اي دعا { ربه } في المحراب { نداء خفياً } أي دعاء سراً من قيامه في جوف الليل ، وقيل راعى سنة الله في إخفاء دعائه لأن الجهر والإسرار عند الله تعالى سيان ، ولكن الإخفاء أولى ، وقيل خفت صوته لضعفه سقوط الأضراس { واشتعل الرأس } أي ابيض الشعر { شيباً } أي شمطاً { ولم أكن بدعائك رب شقياً } أي عودتني الإجابة فما مضى ولم تخيبني ، وقيل معناه لما دعوتني إلى الإيمان آمنت ولم اشق بترك الإيمان { وإني خفت الموالي من ورائي } أي من بعد موتي والموالي هم بنو العم وقيل العصبة وقيل الكلالة وقيل جميع الورثة { وكانت امرأتي عاقراً } أي لا تلد { فهب لي من لدنك ولياً } أي أعطني من عندك ولداً مرضياً { يرثني ويرث من آل يعقوب } أي ولياً ذا رشاد ، وقيل أراد به يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة والعلم ، وقيل أراد به الحبورة ، لأن زكريا كان رأس الأحبار ، والأولى أن يحمل على ميراث غير المال لأن الأنبياء لم يرثوا المال وإنما يورثون العلم ، ويبعد عن زكريا وهو نبي من الأنبياء أن يشفق على ماله أن يرثه بنو عمه ، وإنما خاف أن يضيع بنو عمه دين الله ويغيروا أحكامه ، وذلك لما أن شاهد من بني إسرائيل تبديل الدين وقتل الأنبياء . فسأل ربه ولداً صالحاً يأمنه على أمته ويرث نبوته وعلمه لئلا يضيع وهذا قول ابن عباس { واجعله رب رضياً } أي براً تقياً مرضياً .
قوله تعالى { يا زكريا } المعنى استجاب الله له دعائه فقال يا زكريا { إنا نبشرك بغلام } أي بولد ذكر { اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً } أي لم يسم أحد قبله يحيى وقيل معناه لم نجعل له شبهاً مثلاً ، وذلك لأنه لم يعص الله ولم يهم بمعصية قط وقال ابن عباس : لم تلد العواقر مثله ولداً ، قيل لم يرد الله تعالى بذلك اجتماع الفضائل كلها ليحيى ، وإنما أراد بعضها لأن الخليل والكليم كانا قبله وهما أفضل منه { قال رب أنى يكون لي } أي من أين يكون لي { غلام وكانت امرأتي عاقراً } أي وامرأتي عاقر { وقد بلغت من الكبر عتياً } أي يأساً يريد بذلك نحول الجسم ودقة العظام ونحول الجلد { قال كذلك قال ربك هو علي هين } أي يسير { وقد خلقتك من قبل } أي من قبل يحيى { ولم تك شيئاً وقال رب اجعل لي آية } أي دلالة على حمل امرأتي { قال آيتك } أي علامتك { أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً } أي صحيحاً سليماً من غير بأس ولا خرس ، وقيل ثلاث ليال متتابعات والأول أصح قيل إنه لم يقدر فيها أن يتكلم مع الناس فإذا أراد ذكر الله انطلق لسانه .(4/339)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
قوله عز وجل : { فخرج على قومه من المحراب } أي من الموضع الذي كان يصلي فيه وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه حتى يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلون ، إذ خرج إليهم زكريا متغيراً لونه فأنكروا ذلك عليه ، وقالوا له ما لك { فأوحى } أي فأوما وأشار { إليهم } وقيل كتب لهم في الأرض { أن سبحوا } أي صلوا لله { بكرة وعشيا } المعنى أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشياً فيأمرهم بالصلاة ، فلما كان وقت حمل امرأته ومنع من الكلام خرج إليهم فأمرهم بالصلاة إشارة . قوله عز وجل { يا يحيى } فيه إضمار ومعناه وهبنا له يحيى وقلنا له يا يحيى { خذ الكتاب } أي التوراة { بقوة } أي بجد واجتهاد { وآتيناه الحكم } قال ابن عباس : يعني النبوة { صبياً } وهو ابن ثلاث سنين وذلك أن الله تعالى حكم عقله وأوحى إليه ، فإن قلت كيف يصح حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا . قلت لأن أصل النبوة مبني على خرق العادات ، إذا ثبت هذا فلا تمنع صيرورة الصبي نبياً ، وقيل أراد بالحكم فهم الكتاب فقرأ التوراة وهو صغير وعن بعض السلف قال من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو من أوتي الحكم صبياً { وحناناً من لدناً } أي رحمة من عندنا قال الحطيئة يخاطب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه :
تحنن علي هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا
أي ترحم علي { وزكاة } قال ابن عباس : يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص ، وقيل هي العمل الصالح ، ومعنى الآية وآتيناه رحمة من عندنا وتحننا على العباد ليدعوهم إلى طاعة ربهم وعملاً صالحاً في أخلاصه { وكان تقياً } أي مسلماً مخلصاً مطيعاً ، وكان من تقواه إنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها قط { وبراً بوالديه } أي باراً لطيفاً بهما محسناً إليهما لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى أعظم من بر الوالدين يدل عليه قوله تعالى { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً } الآية { ولم يكن جباراً } الجبار المتكبر وقيل الذي يقتل ويضرب على الغضب ، وقيل الجبار الذي لا يرى لأحد على نفسه حقاً وهو التعظيم بنفسه يرى أن لا يلزمه قضاء لأحد { عصياً } قيل هو أبلغ من المعاصي والمراد وصف يحيى بالتواضع ولين الجانب وهو من صفات المؤمنين { وسلام عليه يوم ولد ويوم يوم يموت ويوم يبعث حياً } معناه وأمان له من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم وأمان له يوم يموت من عذاب القبر ويوم يبعث حياً من عذاب يوم القيامة ، وقيل أوحش ما يكون الخلق في ثلاث مواطن يوم يولد لأنه يرى نفسه خارجاً من مكان قد كان فيه ، ويوم يموت لأنه يرى قوماً ما شاهدهم قط ، ويوم يبعث لأنه يرى مشهداً عظيماً فأكرم الله تعالى يحيى في هذه المواطن كلها فخصه بالسلامة فيها .(4/340)
قوله عز وجل { واذكر في الكتاب } أي في القرآن { مريم إذا انتبذت } أي تنحت واعتزلت { من أهلها } أي من قومها { مكاناً شرقياً } أي مكاناً في الدار ما يلي المشرق ، وكان ذلك اليوم شاتياً شديد البرد فجلست في مشرقه تفلي رأسها وقيل إن مريم كانت قد طهرت من الحيض فذهبت تغتسل ، قيل ولهذا المعنى اتخذت النصارة المشرق قبلة { فاتخذت } أي فضربت { من دونهم حجاباً } قال ابن عباس أي ستراً وقيل جلست وراء جدار ، وقيل إن مريم كانت تكون في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ، حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينما هي تغتسل من الحيض قد تجردت ، إذ عرض لها جبريل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه سوي الخلق فذلك .
قوله تعالى { فأرسلنا إليها روحنا } يعني جبريل { فتمثل لها بشراً سوياً } أي سوي الخلق لم ينقص من الصورة الآدمية شيئاً ، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه ، وقيل المراد من الروح روح عيسى جاءت في صورة بشر فحملت به والقول الأول أصح ، فلما رأت مريم جبريل عليه السلام يقصد نحوها بادرته من بعيد { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً } أي مؤمناً مطيعاً لله تعالى ، دل تعوذها من تلك الصورة الحسنة على عفتها وروعها . فإن قلت إنما يستعاذ من الفاجر فكيف قالت إن كنت تقياً . قلت هذا كقول القائل إن كنت مؤمناً فلا تظلمني أي ينبغي أن يكون إيمانك مانعاً من الظلم ، كذلك ها هنا معناه ينبغي أن تكون تقواك مانعة لك من الفجور { قال } لها جبريل عليه السلام { إنما أنا رسول ربك لأهب } أسند الفعل إليه وإن كانت الهبة من الله تعالى لأنه أرسل به { لك غلاماً زكياً } قال ابن عباس ولداً صالحاً طاهراً من الذنوب { قالت } مريم { أنى يكون لي } أي من أين يكون لي { غلام ولم يمسسني بشر } أي ولم يقربني زوج { ولم أك بغياً } أي فاجرة تريد أن الولد إنما يكون من نكاح أو سفاح ولم يكن ها هنا واحد منهما { قال } جبريل { كذلك قال ربك } أي هكذا قال ربك { هو علي هين } أي خلق ولدك بلا أب { ولنجعله آية للناس } أي علامة لهم ودلالة على قدرتنا { ورحمة منا } أي ونعمة لمن تبعه على دينه إلى بعثه محمد صلى الله عليه وسلم { وكان أمراً مقضياً } أي محكوماً مفروغاً من لا يرد ولا يبدل . قوله عز وجل { فحملته } قيل إن جبريل رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبست الدرع ، وقيل مد جيب درعها بأصبعه ثم نفخ في الجيب ، وقيل نفخ في كمها وقيل في ذيلها ، وقيل في فيها ، وقيل نفخ من بعيد فوصل النفخ إليها فحملت بعيسى عليه السلام في الحال { فانتبذت به } أي فلما حملته تنحت بالحمل وانفردت { مكاناً قصياً } أي بعيداً من أهلها .(4/341)
قال ابن عباس : أقصى الوادي ، وهو بيت لحم فراراً من أهلها وقومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج . قال ابن عباس : كان الحمل الولادة في ساعة واحدة وقيل حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها ، وقيل كانت مدته تسعة أشهر كحمل سائر الحوامل من النساء ، وقيل كانت مدة حملها ثمانية أشهر ، وذلك آية أخرى له لأنه لا يعيش من ولد لثمانية أشهر وولد عيسى لهذه المدة وعاش ، وقيل ولد لستة أشهر وهي بنت عشر سنين وقيل ثلاث عشرة سنة وقيل ستة عشر سنة وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى ، وقال وهب : إن مريم لما حملت بعيسى كان معها ابن عم لها يقال له يوسف النجار ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي يمنة جبل صهيون ، وكانا يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم من أهل زمانها أحد أشد عبادة واجتهاداً منها وأول من علم بحمل مريم يوسف ، فبقي متحيراً في أمرها كلما أراد أن يتهمها ذكر عباتها وصلاحها وأنها لم تغب عنه ، وإذا أراد أن يبرئها رأى ما ظهر منها من الحمل فأول ما تكلم به أن قال إنه وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه فغلبني ذلك فرأيت أن أتكلم به أشفي صدري ، فقالت : قل قولاً جميلاً ، قال أخبريني يا مريم هل ينبت زرع بغير بذر وهل ينبت شجر بغير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت نعم ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تر أن الله أنبت الشجر بالقدرة من غير غيث أو تقول إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجر حتى استعان بالماء ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها قال يوسف : لا أقول هذا ولكن أقول إن الله تعالى يقدر على كل شيء يقول له كن فيكون ، قالت له مريم : ألم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى . فعند ذلك زال ما عنده من التهمة وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل . فلما دنت ولادتها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك فذلك قوله تعالى { فانتبذت به مكاناً قصياً } .(4/342)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
قوله عز وجل : { فأجاءها المخاض } أي ألجأها وجاء بها والمخاض وجع الولادة { إلى جذع النخلة } وكانت نخلة يبست في الصحراء في شدة البرد ولم يكن لها سعف ، وقيل التجأت إليها تستند إليها وتستمسك بها من شدة الطلق ، ووجع الولادة { قالت يا ليتني مت قبل هذا } تمنت الموت استحياء من الناس وخوفاً من الفضيحة { وكنت نسياً منسياَ } يعني شيئاً حقيراً متروكاً لم يذكر ، ولم يعرف لحقارته وقيل جيفة ملقاة ، وقيل معناه أنها تمنت أنها لم تخلق { فناداها من تحتها } قيل إن مريم كانت على أكمة وجبريل وراء الأكمة تحتها ، وقيل ناداها من سفح الجبل وقيل هو عيسى وذلك أنه لما خرج من بطن أمه ناداها { أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً } أي نهراً .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ضرب جبريل عليه السلام ، وقيل عيسى عليه السلام برجله في الأرض فظهرت عين ماء عذبة ، وجرت وقيل كان هناك نهر يابس فجرى فيه الماء بقدرة الله سبحانه وتعالى وجنت النخلة اليابسة ، فأورقت وأثمرت وأرطبت وقيل معنى تحتك تحت أمرك إن أمرته أن يجري جرى ، وإن أمرته بالإمساك أمسك وقيل معنى سرياً أي عيسى وكان عبداً سرياً رفيعاً { وهزي إليك } أي حركي إليك { بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً } قيل الجنى الذي بلغ الغاية جاء أوان اجتنائه . قال الربيع بن خيثم : ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل { فكلي واشربي } أي مريم كلي من الرطب واشربي من النهر { وقري عيناً } أي طيبي نفساً ، وقيل قري عيناً بولدك عيسى ، يقال أقر الله عينك أي صادف فؤادك ما يرضيك فتقر عينيك عن النظر إلى غيره { فإما ترين من البشر أحداً } معناه يسألك عن ولدك { فقولي إني نذرت للرحمن صوماً } أي صمتاً ، قيل كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام فلا يتكلم حتى يمسي ، وقيل إن الله أمرها أن تقول هذا إشارة وقيل أمرها أن تقول هذا القول نطقاً ثم تمسك عن الكلام بعده وإنما منعت من الكلام لأمرين أحدهما : أن يكون عيسى عليه السلام هو المتكلم عنها ليكون أقوى لحجتها في أزالة التهمة عنها وفيه دلالة على أن تفويض الكلام إلى الأفضل أولى . والثاني : كراهة مجادلة السفهاء وفيه السكوت عن السفيه واجب { فلن أكلم اليوم إنسياً } يقال إنها كانت تكلم الملائكة ولا تكلم الإنس .
قوله تعالى { فأتت به قومها تحمله } قيل إنها لما ولدت عيسى عليه السلام حملته في الحال إلى قومها وقيل إن يوسف النجار احتمل مريم وابنها عيسى إلى غار فمكث فيه أربعين يوماً حتى طهرت من نفاسها ، ثم حملته إلى قومها فكلمها عيسى في الطريق فقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه ، فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين { قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً } أي عظيماً منكراً وقيل معناه جئت بأمر عجيب وبديع { يا أخت هارون } أي شبيهة هارون قيل كان رجلاً صالحاً في بني إسرائيل شبهت به في عفتها وصلاحها وليس المراد الأخوة في النسب ، قيل إنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألف من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون سوى سائر الناس ( م ) عن المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت خراسان سألوني فقالوا : إنكم تقرؤون يا أخت هارون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال :(4/343)
« إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم » .
وقيل كان هارون أخا مريم لأبيها ، وقيل كان من أمثل رجل في بني إسرائيل وقيل إنما عنوا هارون أخا موسى لأنها كانت من نسله كما يقال للتميمي يا أخا تميم ، وقيل كان هارون في بني إسرائيل فاسقاً أعظم الفسق فشبهوها به { ما كان أبوك } يعني عمران { امرأ سوء } قال ابن عباس : زانياً { وما كانت أمك } يعني حنة { بغياً } أي زانية فمن أين لك هذا الولد .(4/344)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
{ فأشارت إليه } أي أشارت مريم إلى عيسى أن كلمهم ، قال ابن مسعود : لما لم يكن لها حجة أشارت إليه ليكون كلامه حجة لها ، وقيل لما أشارت إليه غضب القوم وقالوا مع ما فعلت أتسخرين بنا { قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً } قيل أراد بالمهد الحجر وهو حجرها ، وقيل هو المهد بعينه قيل لما سمع عيسى كلامهم ترك الرضاع وأقبل عليهم ، وقيل لما أشارت إليه ترك الرضاع واتكأ على يساره وأقبل عليهم وجعل يشير بيمينه { قال إني عبد الله } قال وهب : أتاها زكرياء عند مناظرتها اليهود ، فقال لعيسى : انطق بحجتك إن كنت أمرت بها ، فقال عند ذلك عيسى وهو ابن أربعين يوماً ، وقيل : بل يوم ولد إني عبد الله أقر على نفسه بالعبودية لله تعالى أول ما تكلم لئلا يتخذ إلهاً . فإن قلت إن الذي اشتدت إليه الحاجة في ذلك الوقت نفي التهمة عن أمه وأن عيسى لم ينص على ذلك ، وإنما نص على إثبات عبوديته لله تعالى .
قلت كأنه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن أمه ، فلهذا أول ما تكلم باعترافه على نفسه بالعبودية لتحصل إزالة التهمة عن الأم ، لأن الله تعالى لم يختص بهذه المرتبة العظيمة من ولد في زنا ، والتكلم بإزالة التهمة عن أمه لا يفيد إزالة التهمة عن الله سبحانه وتعالى فكان الاشتغال بذلك أو { آتاني الكتاب وجعلني نبياً } قيل معناه سيجعلني نبياً ويؤتيني الكتاب وهو الإنجيل وهذا إخبار عما كتب له في اللوح المحفوظ وهو كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم متى كنت نبياً قال : « كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد » وقال الأكثرون إنه أوتي الإنجيل ، وهو صغير وكان يعقل عقل الرجال الكمل وعن الحسن أنه ألهم التوراة وهو في بطن أمه { وجعلني مباركاً أينما كنت } معناه أني نفاع أينما توجهت ، وقيل معلماً للخير أدعوا إلى الله وإلى توحيده وعبادته وقيل مباركاً على من يتبعني { وأوصاني بالصلاة والزكاة } أي أمرني بهما وكلفني فعلهما . فإن قلت كيف يؤمر بالصلاة والزكاة ، في حال طفوليته وقد قال صلى الله عليه وسلم « رفع القلم عن ثلاث الصبي حتى يبلغ » الحديث . . . قلت إن قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل المراد أوصاه بأدائهما في الوقت المعين لهما وهو البلوغ ، وقيل إن الله تعالى صيره حين انفصل عن أمه بالغاً عاقلاً وهذا القول أظهر في سياق قوله { ما دمت حياً } فإنه يفيد أن هذا التكليف متوجه إليه في زمان جميع حياته حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل الأرض بعد رفعه { وبراً بوالدتي } أي جعلني براً بوالدتي { ولم يجعلني جباراً شقياً } أي عاصياً لربي متكبراً على الحق بل ، وأنا خاضع متواضع وروي أنه قال : قلبي لين وأنا صغير في نفسي ، وقال بعض العلماء لا تجد العاق إلا جباراً شقياً وتلا هذه الآية ، وقيل الشقي الذي يذنب ولا يتوب .(4/345)
{ والسلام علي يوم ولدت } أي السلامة عند الولادة من طعن الشيطان { ويوم أموت } أي عند الموت من الشرك { ويوم أبعث حياً } أي من أهوال يوم القيامة فلما كلمهم عيسى بذلك علموا براءة مريم ثم سكت عيسى فلم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الأطفال { ذلك عيسى ابن مريم } أي ذلك الذي قال إني عبد الله هو عيسى بن مريم { قول الحق } أي هذا الكلام هو القول الحق أضاف القول إلى الحق ، وقيل هو نعت لعيسى يعني بذلك عيسى بن مريم كلمة الله الحق والحق هو الله { الذي فيه يمترون } أي يشكون ويختلفون فقائل يقول هو ابن الله وقائل يقول ثالث ثلاثة تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ثم نزه نفسه عن اتخاذ الولد ونفاه عنه فقال تعالى { ما كان لله أن يتخذ ولد } أي ما كان من صفاته اتخاذ الولد لا ينبغي له ذلك { سبحانه إذا قضى أمراً } أي إذا أراد أن يحدث أمراً { فإنما يقول له كن فيكون } أي لا يتعذر عليه اتخاذه على الوجه الذي أراده { وإن الله ربي وربكم فاعبدوه } هذا إخبار عن عيسى أنه قال ذلك يعني لأن الله ربي وربكم لا رب للمخلوقات سواه { هذا صراط مستقيم } أي هذا الذي أخبرتكم به أن الله أمرني به هو الصراط المستقيم الذي يؤدي إلى الجنة { فاختلف الأحزاب من بينهم } يعني النصارى سموا أحزاباً لأنهم تحزبوا ثلاث فرق في أمر عيسى النسطورية والملكانية واليعقوبية { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عيظم } يعني يوم القيامة حين .(4/346)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
{ أسمع بهم وأبصر } أي ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة حين لا ينفعهم السمع والبصر أخبر أنهم يسمعون ويبصرون في الآخرة ما لم يسمعوا ويبصروا في الدنيا ، وقيل معناه التهديد بما يسمعون ويبصرون مما يسوءهم ويصدع ويصدع قلوبهم { يوم يأتوننا } أي يوم القيامة { لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين } قيل أراد باليوم الدنيا ، يعني أنهم في الدنيا في خطأ بين وفي الآخرة يعرفون الحق ، وقيل : معناه لكن الظالمون في الآخرة في ضلال عن طريق الجنة بخلاف المؤمنين .
قوله تعالى { وأنذرهم يوم الحسرة } يعني خوف يا محمد كفار مكة يوم الحسرة ، سمي بذلك لأن المسيء يتحسر هلا أحسن العمل والمحسن هلا زاد في الإحسان ، يدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « ما من أحد يموت إلا ندم قالوا ما ندمه يا رسول الله قال : إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نزع » أخرجه الترمذي . قوله أن لا يكون نزع النزع عن الشيء : الكف عنه ، وقال أكثر المفسرين يعني بيوم الحسرة حين يذبح الموت . ( ق ) عن أبي سعيد الخدري قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم « يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرفون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ، ثم ينادي مناد آخر يا أهل النار فيشرفون وينظرون ، فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه فيذبح بين الجنة والنار ، ثم يقول يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت » ثمر قرأ .
{ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون } وأشار بيده إلى الدنيا وزاد الترمذي فيه « فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة ولو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار » قوله كهيئة كبش أملح والأملح : المختلط بالبياض والسواد ، قوله فيشرفون يقال إلى الشيء إذا تطلع ينظر إليه ومالت نحوه نفسه . قوله فيذبح بين الجنة والنار اعلم أن الموت عرض ليس بجسم في صورة كبش أو غيره فعلى هذا يتأول الحديث ، على أن الله تعالى يخلق هذا الجسم وهو حيوان فيذبح فيموت فلا يبقى يرجى له حياة ولا وجود ، وكذلك حال أهل الجنة والنار بعد الاستقرار فيهما لا زوال لهما ولا انتقال ( ق ) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار ، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار فيذبح ثم ينادي مناد يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم »(4/347)
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يدخل الجنة أحد إلا رأى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً ولا يدخل النار أحد إلا رأى مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة » أخرجه البخاري .
وقوله تعالى { إذا قضي الأمر } أي فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت { وهم في غفلة } أي عما يراد بهم في الآخرة { وهم لا يؤمنون } أي لا يصدقون { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } أي نميت سكان الأرض جميعاً ويبقى الله سبحانه وتعالى وحده فيرثهم { وإلينا يرجعون } فنجزيهم بأعمالهم . قوله عز وجل ويبقى { واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً } أي كثير الصدق وهو مبالغة في كونه صديقاً ، وقيل الصدِّيق الكثير التصديق قيل من صدق الله في وحدانيته وصدق أنبياءه ورسله وصدق بالبعث بعد الموت وقام بالأوامر فعمل بها فهو صديق ، ولما قربت رتبة الصديق من رتبة النبي انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبياً ، والنبي العالي في الرتبة بإرسال الله إياه وإي رتبة أعلى من رتبة من جعله الله تعالى واسطة بينه وبين عباده { إذ قال لأبيه } يعني آزر وهو يعبد الأصنام { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع } يعني صوتاً { ولا يبصر } لا ينظر شيئاً { ولا يغني عنك } أي يكفيك { شيئاً } وصف الأصنام بثلاثة أشياء كل واحد منها قادح في الإلهية ، وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم للمعبود فلا يستحقها إلا من له ولاية الإنعام وله أوصاف الكمال وهو الله تعالى فلا يستحق العبادة إلا هو { يا أبت إني قد جاءني من العلم } يعني بالله والمعرفة { ما لم يأتك فاتبعني } أي على ديني { أهدك صراطاً سوياً } أي مستقيماً { يا أبت لا تعبد الشيطان } أي لاتطعه فيما يزين لك من الكفر والشرك .
{ إن الشيطان كان للرحمن عصياً } أي عاصياً { يا أبت إني أخاف } أي أعلم ، وقيل هو على ظاهره لأنه يمكن أن يؤمن فيكون من أهل الجنة ، أو يصر على الكفر فيكون من أهل النار فحمل الخوف على ظاهره أولى . واعلم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن مقروناً بالتلطف والرفق ، فإن قوله في مقدمة كلامه يا أبت دليل على شدة الحب والرغبة في صرفه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب ، لأنه نبه أولاً على ما يدل على المنع من عبادة الأصنام ثم أمره باتباعه في الإيمان ، ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي بقوله إني أخاف { أن يَمَسَّك } أي يصيبك { عذاب من الرحمن } أي إن أقمت على الكفر { فتكون للشيطان ولياً } أي قريناً في النار ، وقيل صديقاً له في النار ، وإنما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذا مع أبيه لأمور أحدها : لشدة تعلق قلبه بصلاحية أبيه وأداء حق الأبوة والرفق به ، وثانيها : أن النبيّ الهادي إلى الحق لا بد أن يكون رفيقاً لطيفاً حتى يقبل منه كلامه ، وثالثها : النصح لكل أحد فالأب أولى { قال } يعني أباه مجيباً له { أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم } أي أتاركها أنت وتارك عبادتها { لئن لم تتنه } أي ترجع وتسكت عن عيبك آلهتنا وشتمك إياها { لأرجمنك } قال ابن عباس : معناه لأضربنك ، وقيل لأقتلنك بالحجارة ، وقيل لأشتمنك ، وقيل لأبعدنك عني بالقول القبيح والقول الأول هو الصحيح { واهجرني } أي اجتنبني قال ابن عباس : اعتزلني سالماً لا يصيبنك مني معرة { مليئاً } أي دهراً طويلاً .(4/348)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
{ قال } يعني إبراهيم { سلام عليك } أي سلمت مني لا أصيبك بمكروه وذلك لأنه لم يؤمن بقتاله على كفره ، وقيل هذا سلام هجران ومفارقة ، وقيل هو سلام بر ولطف وهو جواب الحليم للسفيه { سأستغفر لك ربي } ، قيل إنه لما أعياه أمره وعده أن يراجع الله فيه فيسأله أن يرزقه التوحيد ويغفر له ، وقيل معناه سأسأل لك ربي توبة تنال بها المغفرة { إنه كان بي حفياً } أي براً لطيفاً والمراد أنه يستجيب لي إذا دعوته لأنه عودني الإجابة لدعائي { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } أي أفارقكم وأفارق ما تعبدون من دون الله وذلك أنه فارقهم وهاجر إلى الأرض المقدسة { وأدعو ربي } أي أعبد ربي الذي خلقني وأنعم علي { عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً } أي أرجو أن لا أشقى بدعاء ربي وعبادته كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام ، ففيه التواضع له مع التعريض بشقاوتهم . قوله عز وجل { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله } أي ذهب مهاجراً { وهبنا له } أي بعد الهجرة { إسحاق ويعقوب } أي آنسنا وحشته من فراقهم بأولاد أكرم على الله من أبيه { وكلاًّ جعلنا نبياً } أي أنعمنا عليهما بالنبوة { ووهبنا لهم من رحمتنا } أي مع ما وهبنا لهم من النبوة وهبنا لهم المال والولد وذلك أنه بسط لهم في الدنيا من سعة الرزق وكثرة الأولاد { وجعلنا لهم لسان صدق علياً } يعني ثناء حسناً رفيعاً في أهل كل دين حتى دعا لهم أهل الأديان كلهم فهم يتولونهم ويثنون عليهم .
قوله عز وجل { واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً } قرىء بكسر اللام أي أخلص العبادة ، والطاعة لله تعالى ولم يراء وقرىء بالفتح أي مختاراً اختاره الله تعالى ثم استخلصه واصطفاه { وكان رسولاً نبياً } فهذان وصفان مختلفان فكل رسول نبي ولا عكس { وناديناه من جانب الطور الأيمن } أي من ناحية يمين موسى ، والطور جبل معروف بين مصر ومدين ويقال إن اسمه الزبير ، وذلك حين أقبل من مدين ورأى النار فنودي يا موسى إنى أنا رب العالمين { وقربناه } قال ابن عباس : قربه وكلمه ومعنى التقريب إسماعه كلامه وقيل رفعه على الحجب حتى سمع صرير الأقلام ، وقيل معناه رفع قدره ومنزلته أي وشرفناه بالمناجاة وهو قوله تعالى { نجياً } أي مناجياً { ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً } وذلك أن موسى دعا ربه فقال واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي فأجاب الله دعوته ، وأرسل إلى هارون ولذلك سماه هبة له وكان هارون أكبر من موسى .
قوله عز وجل { واذكر في الكتاب إسماعيل } هو إسماعيل بن إبراهيم وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم { إنه كان صادق الوعد } قيل إنه لم يعد شيئاً إلا وفى به وقيل إنه وعد رجلاً أن يقوم مكانه حتى يرجع الرجل فوقف إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد ، حتى رجع إليه الرجل وقيل إنه وعد نفسه الصبر على الذبح فوفى به ، فوصفه الله بهذا الخلق الحسن الشريف ، سئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاداً إلى أي وقت ينتظر فقال إن وعده نهاراً فكل النهار وإن وعده ليلاً فكل الليل ، وسئل بعضهم عن مثل ذلك فقال إن وعده في وقت صلاة ينتظر إلى وقت صلاة أخرى { وكان رسولاً } إلى جرهم ، وهم قبيلة من عرب اليمن نزلوا على هاجر أم أسماعيل بوادي مكة حين خلفهم إبراهيم ، وجرهم هو جرهم بن قحطان بن عابر بن شالخ وقحطان أبو قبائل اليمن { نبياً } أي مخبراً عن الله تعالى { وكان يأمر أهله } أي قومه وجميع أمته { بالصلاة والزكاة } قال ابن عباس : يريد الصلاة المفروضة عليهم وهي الحنيفية التي افترضت علينا ، وقيل كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاة والعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم { وكان عند ربه مرضياً } أي قائماً لله بطاعته وقيل رضيه لنبوته ورسالته وهذا نهاية في المدح لأن المرضي عند الله هو الفائز في كل طاعة بأعلى الدرجات .(4/349)
قوله عز وجل { وإذكر في الكتاب إدريس } هو جد أبي نوح واسمه أخنوخ ، سمي إدريس لكثرة دراسة الكتب وكان خياطاً وهو أول من خط بالقلم ، وأول من خاط الثياب وليس المخيط وكانوا من قبل يلبسون الجلود وهو أول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار ، وأول من نظر في علم الحساب .
{ إنه كان صديقاً نبياً } وذلك أن الله تعالى شرفه بالنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة { ورفعناه مكاناً علياً } قيل هي الرفعة بعلو المرتبة في الدنيا ، وقيل إنه رفع إلى السماء . وهو الأصح يدل عليه ما روى أنس بن مالك بن صعصعة « عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج » متفق عليه وكان سبب رفع إدريس إلى السماء الرابعة على ما قاله كعب الأحبار وغيره : أنه سار يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال : يا رب إني مشيت يوماً فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها ، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف فقال يا رب خلقتني لحر الشمس فما الذي قضيت فيه؟ قال إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها ، فأجبته قال يا رب فاجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه خلة فأذن له حتى أتى إدريس ، فكان إدريس يسأله ما سأله أن قال إني أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي لعلي ازداد شكراً وعبادة فقال الملك(4/350)
{ ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها } وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس ، ثم أتى ملك الموت فقال له إليك حاجة صديق لي من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله ، فقال ملك الموت ليس لي ذلك ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيقدم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال : إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبداً .
قال وكيف ذلك فقال لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس . قال إني أتيتك وتركته هناك قال انطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من عمر إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتاً وقال وهب : كان يرفع لإدريس فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر ، فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى الطعام فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال ، فأنكره إدريس وقال له في الليلة الثالثة : إني أريد أن أعلم من أنت قال : أنا ملك الموت ، استأذنت ربي أن أصحبك فقال لي إليك حاجة قال وما هي قال تقبض روحي . فأوحى الله إليه أن اقبض روحه وردها الله إليه بعد ساعة فقال له ملك الموت ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال لأذوق كرب الموت وغمه فأكون أشد استعداداً له . ثم قال له إدريس لي إليك حاجة أخرى . قال وما هي قال ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار فأذن الله له فرفعه فلما قرب من النار قال لي إليك حاجة قال وما هي قال أريد أن أسأل مالكاً أن يرفع أبوابها فأراها .
ففعل قال فكما أريتني النار فأرني الجنة . فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت أبوابها فأدخله الجنة ثم قال له ملك الموت اخرج لتعود إلى مقرك فتعلق بشجرة ، وقال ما أخرج منها فبعث الله إليه ملكاً حكماً بينهما قال له الملك ما لك لا تخرج؟ قال لأن الله تعالى قال { كل نفس ذائقة الموت } وقد ذقته ثم قال { وإن منكم إلا واردها } فأنا وردتها وقال { وما هم منها بمخرجين } فلست أخرج فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبأمري لا يخرج فهو حي هناك فذلك قوله تعالى { ورفعناه مكاناً علياً } واختلفوا في أنه حي في السماء أم ميت . فقال قوم هو ميت واستدل بالأول . وقال قوم هو حي واستدل بهذا . وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء أثنان في الأرض وهما الخضر وإلياس . وإثنان في السماء وهما إدريس وعيسى .(4/351)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
قوله عز وجل : { أولئك الذي أنعم الله عليهم من النبيين } أولئك إشارة إلى المذكورين في هذه السورة أنعم الله عليهم بالنبوة وغيرها ما تقدم وصفه { من ذرية آدم } يعني إدريس ونوحاً { وممن حملنا مع نوح } أي ومن ذرية من حملنا مع نوح في السفينة يريد إبراهيم لأنه ولد سام بن نوح { ومن ذرية إبراهيم } يعني إسحاق وإسماعيل ويعقوب { وإسرائيل } أي ومن ذرية إسرائيل وهو يعقوب وهم موسى ويحيى وهارون وزكريا وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم فرتب الله تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب منها بذلك على أنهم كما شرفوا بالنسب ثم قال تعالى { ومن هدينا واجتبينا } أي هؤلاء من أرشدنا واصطفينا وقيل من هدينا إلى الإسلام واجتبينا على الأنام { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً } جمع ساجد { وبكياً } جمع باك ، أخبر الله تعالى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا إذا سمعوا آيات الله سجدوا وبكوا خضوعاً وخشوعاً وخوفاً حذراً . والمراد من الآيات ما خصهم به من الكتب المنزلة عليهم ، وقيل المراد من الآيات ذكر الجنة والنار والوعد والوعيد ففيه استحباب البكاء خشوع القلب عند سماع القرآن .
( فصل )
وسجدة سورة مريم من عزائم سجود القرآن ، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند تلاوة هذه السجدة ، وقيل يستحب لمن قرأ آية سجدة فسجد أن يدعو بما يناسب تلك السجدة ، فإن قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك والخاشعين لك . وإن قرأ سجدة مريم قال اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك . وإن سجد سجدة ألم السجدة قال اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك .
قوله تعالى { فخلف من بعدهم } أي من بعد النبيين المذكورين { خلف } أي قوم سواء أراد بهم اليهود ومن لحق بهم وتابعهم وقيل هم في هذه الأمة { أضاعوا الصلاة } أي تركوا الصلاة المفروضة . وقيل أخروها عن وقتها وهو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ولا العصر حتى تأتي المغرب { واتبعوا الشهوات } أي آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله وقيل اتبعوا المعاصي وشرب الخمور ، وقيل هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان بنزو بعضهم على بضع في الأسواق والأزقة { فسوف يلقون غياً } قال ابن عباس : الغي واد في جهنم ، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد للزاني المصر عليه ، ولشارب الخمر المدمن له ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولأهل العقوق ، ولشاهد الزور وقيل هو وادٍ في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه يسيل قيحاً ودماً ، وقيل : واد في جهنم أبعدها قعراً وأشدها حراً فيه بئر تسمى الهيم كلما خبت جهنم فتح الله تلك البئر فتستعر بها جهنم وقيل معنى غياً خسراناً وقيل هلاكاً وعذاباً ، وليس معنى يلقون يرون فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية .(4/352)
قوله تعالى { إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً } يعني إلا من تاب من التقصير في الصلوات والمعاصي وآمن من الكفر وعمل صالحاً بطاعة الله تعالى { فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً } أي لا ينقصون شيئاً ثم وصف الجنة فقال تعالى { جنات عدن } أي بساتين إقامة وصفها بالدوام بخلاف جنات الدنيا فإنها لا تدوم { التي وعد الرحمن عباده بالغيب } أي إنهم لا يرونها فهي غائبة عنهم وهم غائبون عنها { إنه كان وعده مأتياً } أي آتياً وقيل معنى وعده موعود وهو الجنة مأتياً أي يأتيه أولياء الله وأهل طاعته { لا يسمعون فيها لغواً } أي باطلاً وفحشاً وهو فضول الكلام { إلا سلاماً } يعني بل يسمعون فيها سلاماً والسلام اسم جامع للخير لأنه يتضمن معنى السلامة ، وذلك أن أهل الجنة لا يسمعون فيها ما يؤلمهم ، وإنما يسمعون تسليمهم ، وقيل هو تسليم بعضهم على بعض وتسليم الملائكة عليهم ، وقيل هو تسليم الله عليهم { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } قال أهل التفسير : يؤتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار كعادتهم في الدنيا وقيل إنهم يعرفون وقت النهار برفع الحجب ، ووقت الليل بإرخاء الحجب ، وقيل المراد منه رفاهية العيش وسعة الرزق من غير تضييق ولا تقتير ، وقيل : كانت العرب لا تعرف أفضل من الرزق الذي يؤتى به البكرة والعشي ، فوصف الله تعالى الجنة بذلك .(4/353)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
وقوله تعالى : { تلك الجنة التي نورث من عبادنا } أي نعطي وننزل وقيل يورث عباده المؤمنين المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا { من كان تقياً } أي المتقين من عباده عز وجل { وما نتنزل إلا بأمر ربك } ( خ ) عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر ما تزرونا فنزلت وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا » الآية قال فكان هذا جواب جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم « وقيل احتبس جبريل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين سأله اليهود عن أمر الروح وأصحاب الكهف ، ثم نزل بعد أيام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم » أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك ، فقال له جبريل وإني كنت أشوق إليك ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا احبست احتبست « فأنزل الله تعالى وما نتنزل إلا بأمر ربك وأنزل الله تعالى { والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى } وقوله { له ما بين أيدنا وما خلفنا } أي له علم ما بين أيدينا وما خلفنا ، وقيل أكد ذلك بقوله ما بين أيدينا وما خلفنا أي هو المدبر لنا في كل الأوقات الماضي والمستقبل ، وقيل معناه له ما بين أيدينا من أمر الآخرة والثواب والعقاب وما خلفنا أي ما مضى من الدنيا { وما بين ذلك } أي من هذا الوقت إلى أن تقوم الساعة ، وقيل ما بين ذلك أي ما بين النفختين وهو مقدار أربعين سنة ، وقيل ما بين أيدينا ما بقي من الدنيا وما خلفنا ما بقي منها وما بين ذلك مدة حياتنا { وما كان ربك نسياً } أي ناسياً أي ما نسيك ربك وما تركك { رب السموات والأرض وما بينهما } اي من يكون كذلك لا يجوز عليه النيسان لأنه لا بد أن يدبر أحوالها كلها ، وفيه دليل على أن فعل العبد خلق الله لأنه حاصل بين السموات والأرض فكان لله تعالى { فاعبده واصطبر لعبادته } أي اصبر على أمره ونهيه { هل تعلم له سمياً } قال ابن عباس : مثلاً وقيل هل تعلم أحداً يسمى الله غير الله .
قوله تعالى { ويقول الإنسان } أي جنس الإنسان والمراد به الكفار الذين أنكروا البعث ، وقيل هو أبي بن خلف الجمحي وكان منكراً للبعث { أئذا ما مت لسوف أخرج حياً } قاله استهزاءً وتكذيباً للبعث قال الله تعالى { أولا يذكر الإنسان } أي يتذكر ويتفكر يعني منكر البعث { أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً } والمعنى أولاً يتفكر هذا الجاحد في بدء خلقه فيستدل به على الإعادة .(4/354)
قال بعض العلماء : لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه ، إذ لا شك أن الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً ثم أقسم بنفسه فقال تعالى { فو ربك } وفيه تشريف للنبيّ صلى الله عليه وسلم { لنحشرنهم } أي لنجمعنهم في المعاد يعني المشركين المنكرين للبعث { والشياطين } أي مع الشياطين ، وذلك أنه يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة { ثم لنحضرنهم حول جهنم جثياً } قال ابن عباس : جماعات وقيل جاثين على الركب لضيق المكان ، وقيل إن البارك على ركبتيه صورته كصورة الذليل . فإن قلت هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى { وترى كل أمة جاثية } قلت وصفوا بالجثو على العادة المعهودة في مواقف المقالات والمناقلات ، وذلك لما فيه من القلق مما يدهمهم من شدة الأمور التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجثون على ركبهم جثواً { ثم لننزعن } أي لنخرجن { من كل شيعة } أي من كل أمة وأهل دين من الكفار { أيهم أشد على الرحمن عتياً } قال ابن عباس : يعني جرأة وقيل فجوراً وتمرداً ، وقيل قائدهم رئيسهم في الشرك ، والمعنى أنه يقدم في إدخال النار الأعتى ممن هو أكبر جرماً وأشد كفراً . وفي بعض الأخبار أنهم يحضرون جميعاً حول جهنم مسلسلين مغلولين ، ثم يقدم الأكفر فالأكفر فمن كان أشد منهم تمرداً في كفره خص بعذاب أعظم وأشد لأن عذاب الضال المضل واجب أن يكون فوق عذاب الضال التابع لغيره في الضلال . وفائدة هذا التمييز التخصيص بشدة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب فلذلك قال في جمعيهم { ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً } ولا يقال أولى إلا مع اشتراك القوم في العذاب وقيل معنى الآية أنهم أحق بدخول النار .
قوله عز وجل { وإن منكم إلا واردها } أي وما منكم إلا واردها وقيل القسم فيه مضمر أي والله ما منكم من أحد إلا واردها والورود هو موافاة المكان ، واختلفوا في معنى الورود ها هنا وفيما تنصرف إليه الكناية في قوله واردها فقال ابن عباس الأكثرون : معنى الورود هنا الدخول ، والكناية راجعة إلى النار ، فيدخلها البر والفاجر ثم ينجي الله الذين اتقوا منها ، يدل عليه ما روي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس في الورود فقال ابن عباس : هو الدخول فقال نافع : ليس الورود الدخول فقرأ ابن عباس { إنك وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } أدخلها هؤلاء أم لا ثم قال يا نافع والله أنا وأنت سنردها وأنا أرجو أن يخرجني الله منها وما أرى الله أن يخرجك منها بتكذيبك فمن قال بدخول المؤمنين النار يقول من غير خوف ولا ضرر ولا عذاب البتة بل مع الغبطة والسرور لأن الله تعالى أخبر عنهم لا يحزنهم الفزع الأكبر .(4/355)
فإن قلت كيف يدفع عن المؤمنين حر النار وعذابها ، قلت يحتمل أن الله تعالى يخمد النار فتعبرها المؤمنون ، ويحتمل أن الله تعالى يجعل الأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار من النار محرقة والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين تكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت في حق إبراهيم عليه السلام ، وكما أن الملائكة الموكلين بها لا يجدون ألمها فإن قلت إذا لم يكن على المؤمنين عذاب فما فائدة دخولهم النار .
قلت فيه وجوه ، أحدها : أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه ، وثانيها : أن فيه مزيد غم على أهل النار ، حيث يرون المؤمنين يتخلصون منها وهم باقون فيها ، وثالثها : أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب الذي على الكفار صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة . وقال قوم ليس المراد من الورود الدخول ، وقالوا لا يدخل النار مؤمن أبداً لقوله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها } فعلى هذا يكون المراد من الورود الحضور والرؤية ، لا الدخول كما قال تعالى { ولما ورد ماء مدين } أراد به الحضور ، وقال عكرمة الآية في الكفار فإنهم يدخلونها ولا يخرجون منها وروي عن ابن مسعود أنه قال وإن منكم إلا واردها ، يعني القيامة والكناية راجعة إليها والقول الأول أصح وعليه أهل السنة فإنهم جميعاً يدخلون النار ثم يخرج الله منها أهل الإيمان بدليل قوله تعالى { ثم ننجي الذين اتقوا } أي الشرك وهم المؤمنون والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه ، يدل ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يموت لأحد من المؤمنين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم » وفي رواية « فيلج النار إلا تحلة القسم » أخرجاه في الصحيحين ، اراد بالقسم قوله تعالى { وإن منكم إلا واردها } ( م ) عن أم مبشر الأنصارية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة « لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها قالت بلى يا رسول الله فانتهزها فقالت حفصة وإن منكم إلا واردها فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد قال الله تعالى { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً } » .
وقال خالد بن معدان يقول أهل الجنة ألم يعدنا ربنا أن نرد النار ، فيقال بلى ولكنكم مررتم بها وهي خامدة وفي الحديث « تقول النار للمؤمنين جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي » وروي عن مجاهد في قوله تعالى { وإن منكم إلا واردها } قال من حم المسلمين فقد وردها « وفي الخبر » الحمى كير من جهنم وهي حظ المؤمن من النار « ( ق ) عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال » الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء « قوله جهنم وهجها وحرها . وقوله تعالى { كان على بك حتماً مقضياً } أي كان ورود جهنم قضاء لازماً قضاء الله تعالى عليكم وأوجبه .(4/356)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
{ ثم ننجي الذين اتقوا } أي الشرك { ونذر الظالمين فيها جثياً } اي جميعاً ، وقيل جاثين على الركب قالت المعتزلة في الآية دليل على صحة مذهبهم ، وفي أن صاحب الكبيرة والفاسق يخلد في النار بدليل أن الله بين أن الكل يردونها ثم بين صفة من ينجو منها ، وهم المتقون والفاسق لا يكون متقياً فبقي في النار أبداً . وأجيب عنه بأن المتقي هو الذي يتقي الشرك بقول لا إله إلا الله ويشهد لصحة ذلك أن من آمن بالله ورسوله ، صح أن يقول إنه متق من الشرك ومن صدق عليه أنه متق من الشرك صح أنه متق لأن المتقي جزء من المتقي من الشرك ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد ، فثبت أن صاحب الكبيرة متق وإذا ثبت ذلك وجب أن يخرج من النار بعموم قوله تعالى { ثم ننجي الذين اتقوا } فصارت الآية التي توهمها دليلاً لهم من أقوى الدلائل على الفساد قولهم ، وهذا من حيث البحث وأما من حيث النص فقد وردت أحاديث تدل على إخراج المؤمن الموحد من النار ( خ ) عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال « يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير » وفي رواية « من إيمان » ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال : « هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا لا . يا رسول الله . قال هل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا لا يا رسول الله .
قال فإنكم ترونه كذلك يحشر الناس يوم القيامة ، فيقول الله من كان يعبد شيئاً فليتبعه فمنهم من يتبع الشمس ، ومنهم من يتبع القمر ومنهم من يتبع الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا . فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ، فيدعوهم فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ، ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل وكلام الرسل يومئذٍ اللهم سلم سلم ، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا نعم . قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى تخطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوبق بعمله ، ومنهم من ينجدل ثم ينجون حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجوهم ويعرفونهم بآثار السجود وحرم الله على النار أن تأكل أعضاء السجود ، فيخرجون من النار وقد امتحشوا ، فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، ثم يفرغ من القضاء بين العباد ويبقى رجل بين الجنة والنار ، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة مقابل بوجهه قبل النار فيقول يا رب اصرف وجهي عن النار فقد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها ، فيقول هل عيست إن فعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك فيقول لا وعزتك فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق .
فيصرف الله وجهه عن النار ، فإذا أقبل به على الجنة رأى نكهتها وبهجتها سكت ما شاء الله تعالى أن يسكت ، ثم يقول يا رب قدمني عند باب الجنة فيقول الله أليس قد أعطيت المواثيق والعهود أن لا تسأل غير الذي كنت سألت فيقول يا رب لا أكون أشقى خلقك فيقول فما عسيت أن أعطيت ذلك أن لا تسأل غيره فيقول وعزتك لا أسأل غير ذلك فيعطى ربه ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا بلغ بابها رأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور ، فيسكت ما شاء الله أن يسكت ، فيقول يا رب أدخلني الجنة . فيقول الله تبارك وتعالى ويحك يا ابن آدم ما أغدرك أليس قد أعطيت العهد والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فيضحك الله عز وجل منه ثم يؤذن له في دخول الجنة فيقول له تمنى فيتمنى . حتى إذا انقطعت أمنيته قال الله تمن كذا وكذا أقبل يذكره ربه حتى إذا انتهت به الأماني قال الله لك ذلك ومثله معه »(4/357)
قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة « وعشرة أمثاله » قال أبو هريرة لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله لك ذلك ومثله معه . قال أبو سعيد رضي الله عنه : سمعته يقول « لك ذلك وعشرة أمثاله » . وفي رواية للبخاري قال « فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفونها فيقول أنا ربكم ، فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا أتانا عرفناه . فيأتيهم الله من الصورة التي يعرفونها فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه » قلت أما ما يتعلق بمعاني الحديث والكلام على الرؤية فسيأتي في تفسير سورة ن والقيامة ونتكلم ها هنا على شرح غريب ألفاظه ، قوله مثل شوك السعدان هو نبت ذو شوك معقف وهو من أجود مراعي الإبل .
وقوله فمنهم من يوبق بعمله يقال أوبقته الذنوب أي أهلكته . والمنجدل المرمى المصورع وقيل هو المقطع .(4/358)
والمعنى أنه تقطعه كلاليب الصراط حتى يقع في النار . قوله وقد امتحشوا أي احترقوا ، وقيل هو أن تذهب النار الجلد وتبدي العظم . قوله كما تنبت الحبة في حميل السيل ، الحبة بكسر الحاء وهي البذورات جميعاً وحميل السيل هو الزبد وما يلقيه الماء على شاطئه ، قوله قشبني ريحها أي آذاني والقشب السم فكأنه قال قد سمني ريحها . قوله وأحرقني ذكاؤها أي اشتعالها ولهبها قوله رأى زهرتها الزهرة الحسن والنضارة والبهجة . ( ق ) عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها ، وآخر أهل الجنة دخولاً للجنة رجل يخرج من النار حبواً ، فيقول الله له اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى ، فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملأى . فيقول الله تعالى له اذهب فادخل فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها ، أو أن لك مثل عشرة أمثال الدنيا ، فيقول أتسخر بي وأنت الملك فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه » فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة قوله حتى بدت نواجذه أي أضراسه وأنيابه ، وقيل هي آخر الأسنان .
عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمماً ثم تدركهم الرحمة ، قال فيخرجون فيطرحون على أبواب الجنة ، قال فيرش عليهم أهل الجنة من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حمالة السيل » أخرجه الترمذي الحمم الفحم والحمالة كل ما جاء به السيل ، فدلت الآية الأولى على أن الكل دخلوا النار ودلت الآية الثانية والأحاديث أن الله تعالى أخرج منها المتقين وجميع الموحدين وترك فيها الظالمين وهم المشركون .(4/359)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
قوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } أي دلائل واضحات { قال الذين كفروا } يعني النضر بن الحارث ومن دونه من كفار قريش { للذين آمنوا } يعني فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة ، وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون أفخر ثيابهم { أي الفريقين خير مقاماً } أي منزلاً ومسكناً وهو موضع الإقامة { وأحسن ندياً } أي مجلساً فأجابهم الله تعالى بقوله { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً } أي متاعاً وأموالاً وقيل أحسن ثياباً ولباساً { ورئياً } أي منظراً من الرؤية { قل من كان في ضلالة فليمدد له الرحمن مداً } هذا أمر بمعنى الخبر معناه يدعه في طغيانه ويمهله في كفره { حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب } أي الأسر والقتل في الدنيا { وإما الساعة } يعني القيامة فيدخلون النار { فسيعلمون } أي عند ذلك { من هو شر مكاناً } أي منزلاً { وأضعف جنداً } أي أقل ناصراً والمعنى فيسعلمون أهم خير وهم في النار أم المؤمنون وهم في الجنة وهذا رد عليهم في قولهم أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً ، قوله تعالى { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } أي إيماناً وإيقاناً على يقينهم { والباقيات الصالحات } أي الأذكار والأعمال الصالحة التي تبقى لصاحبها { خير عند ربك ثواباً وخير مرداً } أي عاقبة ومرجعاً . قوله تعالى { أفرأيت الذي كفر بآياتنا } الآية ، ( ق ) عن خباب بن الأرت قال كنت رجلاً قيناً في الجاهلية ، وكان لي على العاص بن وائل السهمي دين فأتيته أتقاضاه ، وفي رواية فعملت للعاص بن وائل السهمي سيفاً فجئته أتقاضاه ، فقال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد . فقلت لا أكفر حتى يميتك الله ثم تبعث . قال وإني لميت ثم مبعوث . قلت بلى دعني حتى أموت وأبعث فسأوتي مالاً وولداً فأقضيك . فنزلت { أفرأيت الذي كفر بآياتنا } .(4/360)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
{ أم اتخذ عند الرحمن عهداً } يعني قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وقيل يعني عمل عملاً صالحاً قدمه ، وقيل عهد إليه أنه يدخله الجنة { كلا } رد عليه يعني لم يفعل ذلك { سنكتب } سنحفظ عليه ما يقول فنجازيه به في الآخرة ، وقيل يأمر الملائكة حتى يكتبوا { ما يقول ونمد له من العذاب مداً } أي نزيده عذاباً فوق العذاب ، وقيل نطيل مدة عذابه { ونرثه ما يقول } معناه أي ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطال ملكه ، وقيل يزول عنه ما عنده من مال وولد فيعود الإرث إلى من خلفه وإذا سلب ذلك بقي فرداً فذلك قوله { ويأتينا } يعني يوم القيامة { فرداً } بلا مال ولا ولد فلا يصح أن يبعث في الآخرة بمال وولد . قوله تعالى { واتخذوا من دون الله آلهة } يعني مشركي قريش اتخذوا الأصنام آلهة يعبدونها { ليكونوا لهم عزاً } أي منعة يعني يكونوا شفعاء يمنعوهم من العذاب { كلا } أي ليس الأمر كما زعموا { سيكفرون بعبادتهم } يعني تحجد الأصنام والآلهة التي كانوا يعبدونها عبادة المشركين ويتبرؤون منهم { ويكونون عليهم ضداً } أي أعواناً عليهم يكذبونهم ويلعنونهم وقيل أعداء لهم و كانوا أولياءهم في الدنيا . قوله عز وجل { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين } أي سلطانهم عليهم { تؤزهم أزاً } أي تزعجهم إزعاجاً من الطاعة إلى المعصية والمعنى تحثهم وتحرضهم على المعاصي تحريضاً شديداً وفي الآية دليل على أن الله تعالى مدبر لجميع الكائنات { فلا يتعجل عليهم } أي لا تعجل بطلب عقوبتهم { إنا نعد لهم عداً } يعني الليالي والأيام والشهور والأعوام ، وقيل الأنفاس التي يتنفسونها في الدنيا إلى الأجل الذي أجل لعذابهم . قوله تعالى { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً } أي اذكر لهم يا محمد اليوم الذي يجتمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته إلى جنته وفداً أي جماعات . قال ابن عباس : ركباناً قال أبو هريرة : على الإبل . وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رحالها من الذهب ونجائب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن هموا بها طارت . { ونسوق المجرمين } أي الكافرين { إلى جهنم ورداً } أي مشاة عطاشاً قد تقطعت أعناقهم من العطش ، والورد جماعة يردون الماء ولا يرد أحد إلا بعد العطش وقيل يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر معهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمضي معهم حيث أمسوا »(4/361)
قول تقيل معهم حيث قالوا من القيلولة وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفاً مشاة وصنفاً ركباناً وصنفاً على وجوههم . قيل يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدث وشوك » أخرجه الترميذي .
قوله عز وجل { لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً } يعني لا إله إلا الله وقيل لا يشفع الشافعون إلا للمؤمنين ، وقيل لا يشفع إلا لمن قال لا إله إلا الله ، أي لا يشفع إلا للمؤمنين { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً } يعني اليهود والنصارى ، ومن زعم أن الملائكة بنات الله من العرب { لقد جئتم شيئاً إداً } قال ابن عباس منكراً ، وقيل معناه لقد قلتم قولاً عظيماً { تكاد السموات يتفطرن منه } من الانفطار وهو الشق { وتنشق الأرض } أي تخسف بهم { وتخر الجبال هداً } أي تسقط وتنطبق عليهم { أن دعوا } أي من أجل أن جعلوا { للرحمن ولداً } فإن قلت ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال ومن أين تؤثر هذه الكلمة في هذه الجمادات . قلت فيه وجهان أحدهما : أن الله تعالى يقول كدت أن أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوه بها لولا حلمي وإني لا أعجل بالعقوبة . الثاني : أن يكون استعظاماً للكلمة وتهويلاً من فظاعتها وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده . قال ابن عباس فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا اتخذ الله ولداً ثم نزه الله نفسه عن اتخاذ الولد ونفاه عنه .(4/362)
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
فقال تعالى { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً } أي ما يليق به اتخاذ الولد ولا يوصف به لأن الولد لا بد أن يكون شبيهاً بالوالد ، ولا شبيه لله تعالى ولأن اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض لا تصح في الله تعالى من سرور به واستعانة وذكر جميل بعده وكل ذلك لا يليق بالله تعالى { إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً } أي آتيه يوم القيامة عبداً ذليلاً خاضعاً ، والمعنى أن الخلائق كلهم عبيده { لقد أحصاهم وعدهم عداً } أي عد أنفاسهم وأيامهم وآثارهم فلا يخفى عليه شيء من أمورهم وكلهم تحت تدبيره وقهره وقدرته { وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً } أي وحيداً ليس معه من أحوال الدنيا شيء .
قول عز وجل { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً } أي محبة قيل يحبهم الله تعالى ويحببهم إلى عباده المؤمنين ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال « إذا أحب الله سبحانه وتعالى عبداً دعا جبريل عليه السلام إن الله تعالى يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض » وفي رواية لمسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض الله عبداً دعا جبريل عليه السلام فيقول إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه ، ثم يوضع له البغضاء في الأرض » قال هرم بن حيان : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم . وقال : كعب مكتوب في التوراة لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله عز وجل ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض وتصديق ذلك في القرآن { سيجعل لهم الرحمن وداً } .
قوله تعالى { فإنما يسرناه } أي سهلنا القرآن { بلسانك } يا محمد { لتبشر به المتقين } يعني المؤمنين { وتنذر به } أي القرآن { قوماً لداً } أي شداداً في الخصومة . وقيل صماً عن الحق ، وقيل الألد الظالم الذي لا يستقيم ولا يقبل الحق ويدعي الباطل { وكم أهلكنا قبلهم من قرن } ختم الله تعالى هذه السورة بموعظة بليغة لأنهم إذا علموا وأيقنوا أنه لا بد من زوال الدنيا بالموت خافوا ذلك وخافوا سوء العاقبة في الآية فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب . ثم أكد ذلك فقال تعالى { هل تحس منهم } أي هل ترى ، تجد منهم أي من القرون { من أحد أو تسمع لهم ركزاً } أي صوتاً خفياً قال الحسن : بادوا جميعاً لم يبق منهم عين ولا أثر والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .(4/363)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
قوله عز وجل { طه } قيل هو قسم أقسم الله بطوله وهدايته ، وقيل هو من أسماء الله فالطاء افتتاح اسمه طاهر والهاء افتتاح اسمه هاد . وقيل معناه يا رجل والمراد به النبيّ صلى الله عليه وسلم وكذلك يا إنسان ، وقيل هو بالسريانية ، وقيل بالقبطية ، فعلى هذا يكون قد وافقت لغة العرب هذه اللغات في هذه الكلمة ، وقيل هو يا إنسان بلغة عك وعك قبيله من قبائل العرب ، وقيل معناه طا الأرض بقدميك يريد به في التهجد وذلك لما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة اجتهد في العبادة حتى يراوح بين قدميه في الصلاة لطول قيامه ، وكان يصلي الليل كله فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمره أن يخفف على نفسه فقال تعالى { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } .
وقيل لما رأى المشركون اجتهاده في العبادة قالوا ما أنزل عليك القرآن يا محمد إلا لشقائك فنزلت { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } أي لتتعنى وتتعب { إلا تذكرة لمن يخشى } أي لكن أنزلناه عظة لمن يخشى وإنما خص من يخشى بالتذكرة لأنهم هم المنتفعون بها { تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى } أي من الله الذي خلق الأرض والسموات العلية الرفيعة التي لا يقدر على خلقها في عظمتها وعلوها إلا الله تعالى { الرحمن على العرش استوى } تقدم الكلام عليه في سورة الأعراف مستوفى { له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما } يعني الهواء { وما تحت الثرى } أي إنه مالك لجميع ما في الأربعة الأقسام ، والثرى هو التراب الندي وقيل معناه ما وراء الثرى من شيء . وقال ابن عباس : إن الأرضين على ظهور النون والنون على بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش ، والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي الصخرة التي ذكرها الله تعالى في قصة لقمان ، والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى ولا يعلم ما تحت ذلك الثرى إلا الله تعالى ، وذلك الثور فاتح فاه فإذا جعل الله البحار بحراً واحداً سالت في جوف ذلك الثور فإذا وقعت في جوفه يبست .(4/364)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
قوله تعالى : { وإن تجهر بالقول } أي تعلن به { فإنه يعلم السر وأخفى } قال ابن عباس : السر ما تسر في نفسك وأخفى من السر ما يلقيه الله في قلبك من بعد ولا تعلم أنك ستحدث به نفسك لأنك لا تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غداً والله يعلم ما أسررت به اليوم وما تسر به غداً ، وعنه أن السر ما أسر به ابن آدم في نفسه وأخفى ما هو فاعله قبل أن يعلمه ، وقيل السر ما أسره الرجل إلى غيره وأخفى من ذلك ما أسره في نفسه ، وقيل السر هو العمل الذي يسر من الناس وأخفى هو الوسوسة ، وقيل السر أن يعلم الله تعالى أسرار العباد وأخفى هو سره من عباده فلا يعلم أحد سره ، وقيل : مقصود الآية زجر المكلف عن القبائح ظاهرة كانت أو باطنة والترغيب في الطاعات ظاهرة كانت أو باطنة ، فعلى هذا الوجه ينبغي أن يحمل السر والإخفاء على ما فيه ثواب أو عقاب ، فالسر هو الذي يسره المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها والإخفاء هو الذي يبلغ حد العزيمة ثم وحد نفسه فقال تعالى { الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى } تأنيث الأحسن والذي فضلت به أسماؤه في الحسن دون سائر الأسماء ، دلالتها على معنى التقديس والتحميد والتعظيم والربوبية ، والأفعال التي هي النهاية في الحسن .
قوله عز وجل { وهل أتاك حديث موسى } أي وقد أتاك لما قدم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قفاه بقصة موسى عليه الصلاة والسلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد ، حتى ينال عند الله الفوز والمقام المحمود { إذ رأى ناراً } وذلك أن موسى استأذن شعيباً في الرجوع من مدين إلى مصر ليزور والدته وأخاه فأذن له ، فخرج بأهله وماله وكانت أيام الشتاء فأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام ، وامرأته حامل في شهرها لايدري أليلاً تضع أم نهاراً ، فسار في البرية غير عارف بطرقها فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن ، وذلك في ليلة مظلمة مثلجة شاتية شديدة البرد لما أراد الله من كرامته فأخذ امرأته الطلق فأخذ زنده فجعل يقدح فلا يورى فأبصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطور { فقال لأهله امكثوا } أي أقيموا { إني أنست ناراً } أي أبصرت ناراً { لعلي أتيكم منها بقبس } أي شعلة من نار في طرف عود { أو أجد على النار هدى } أي أجد عند النار من يدلني على الطريق { فلما أتاها } أي أتى النار ورأى شجرة خضراء من أعلاها إلى أسفلها أطافت بها ناراً بيضاء تتقد كأضوء ما يكون ، فلا ضوء النار يغير خضرة الشجرة ولا خضرة الشجرة تغير ضوء النار ، قيل كانت الشجرة ثمرة خضراء وقيل كانت من العوسج ، وقيل كانت من العليق وقيل كانت شجرة من العناب ، روي ذلك عن ابن عباس وقال أهل التفسير لم يكن الذي رآه موسى ناراً بل كان نوراً ذكر بلفظ النار لأن موسى عليه الصلاة والسلام حسبه ناراً .(4/365)
قال ابن عباس : هو من نور الرب سبحانه وتعالى ، وقيل هي النار بعينها وهي إحدى حجب الرب تبارك وتعالى ، يدل عليه ما روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « حجابه النار لو كشفها لأهلكت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » أخرجه مسلم قيل إن موسى أخذ شيئاً من الحشيش اليابس وقصد الشجرة فكان كلما دنا نأت عنه ، وإذا نأى دنت منه ، فوقف متحيراً وسمع تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة فعند ذلك { نودي يا موسى إني أنا ربك } قال وهب : نودي من الشجرة فقيل يا موسى فأجاب سريعاً وما يدري من دعاه فقال إني أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت؟ فقال أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك منك فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لله تعالى فإيقن به ، وقيل إنه سمعه بكل أجزائه حتى إن كل جارحة منه كانت أذناً وقوله { فاخلع نعليك } كان السبب فيه ما روي عن ابن مسعود مرفوعاً في قوله فاخلع نعليك قال كانتا من جلد حمار ميت .
ويروى غير مدبوغ وإنما أمر بخلعها صيانة للوادي المقدس ، وقيل أمر بخلعهما ليباشر بقدميه تراب الأرض المقدسة لتناله بركتها فإنها قدست مرتين فخلعها موسى فألقاهما من وراء الوادي { إنك بالواد المقدس } أي المطهر { طوى } اسم للوادي الذي حصل فيه وقيل طوى واد مستدير عميق مثل المطوي في استدارته { وأنا اخترتك } اصفيتك برسالاتي وبكلامي { فاستمع لما يوحى } فيه نهاية الهيبة والجلال له فكأنه قال له لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له { إنني إنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } ولا تعبد غيري { وأقم الصلاة لذكري } أي لتذكرني فيها وقيل لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري ، وقيل لإخلاص ذكري وطلب وجهي ولا ترائي فيها ولا تقصد بها غرضاً آخر ، وقيل معناه إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها ، ( ق ) عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك » وتلا قتادة { وأقم الصلاة لذكري } وفي رواية : « إذا رقد أحدكم في الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول { وأقم الصلاة لذكري } » .(4/366)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
{ إن الساعة آتية أكاد أخفيها } قال أكثر المفسرين : معناه أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق وكيف أظهرها لكم ، ذكر ذلك على عادة العرب إذا بالغوا في الكتمان للشيء يقولون كتمت سرك في نفسي أي أخفيته غاية الإخفاء ، والله تعالى لا يخفى عليه شيء . والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف لأنهم إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت وكذلك المعنى في إخفاء وقت الموت على الإنسان لأنه إذا عرف وقت موته وانقضاء أجله اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب من ذلك الوقت فيتوب ويصلح العمل فيتخلص من عقاب المعاصي بتعريف وقت الموت ، وأنه إذا لم يعرف وقت موته لا يزال على قدم الخوف والوجل فيترك المعاصي أو يتوب منها في كل وقت مخافة معاجلة الأجل .
قوله تعالى { لتجزى كل نفس بما تسعى } أي بما تعمل من خير وشر { فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها } أي فلا يصرفك عن الإيمان بالساعة ومجيئها من لا يؤمن بها { واتبع هواه } أي مراده وخالف أمر الله { فتردى } أي فتهلك . قوله عز وجل { وما تلك بيمينك يا موسى } سؤال تقرير والحكمة فيه تنبيه على أنها عصا حتى إذا قلبها حية علم أنها معجزة عظيمة { قال هي عصاي } قيل كان لها شعبتان وفي أسفلها سنان ولها محجن واسمها نبعة { أتوكأ عليها } أي أعتمد عليها إذا مشيت وإذا عييت وعند الوثبة { وأهش بها على غنمي } أي أضرب بها الشجرة اليابسة ليسقط ورقها فترعاه الغنم { ولي فيها مآرب أخرى } أي حاجة ومنافع أخرى ، وأراد بالمآرب ما كان يستعمل فيه العصا في السفر فكان يحمل بها الزاد ويشد بها الحبل ويستقي بها الماء من البئر ويقتل بها الحيات ويحارب بها السباع ويستظل بها إذا قعد وروي عن ابن عباس أن موسى كان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه وتحدثه ، وكان يضرب بها الأرض فيخرج له ما يأكل يومه ، ويركزها فيخرج الماء فإذا رفعها ذهب الماء وكان إذا اشتهى ثمرة ركزها فتصير غصن تلك الشجرة وتورق وتثمر ، وإذا أراد الاستقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كدلو حتى يستقي وكانت تضيء بالليل كالسراج وإذا ظهر له عدو كانت تحارب وتناضل عنه { قال } الله تعالى { ألقها يا موسى } أي انبذها واطرحها .
قال وهب : ظن موسى أنه يقول ارفضها { فألقاها } أي فطرحها على وجه الرفض ثم حانت منه نظرة { فإذا هي حية } صفراء من أعظم ما يكون من الحيات { تسعى } أي تمشي بسرعة على بطنها وقال في موضع آخر كأنها جان ، وهي الحية الصغيرة الجسم الخفيفة وقال في موضع آخر ثعبان وهو أكبر ما يكون من الحيات ووجه الجمع أن الحية اسم جامع للكبير والصغير والذكر والأنثى فالجان عبارة عن ابتداء حالها فإنها كانت حية على قدر العصا ، ثم كانت تتورم وتنتفخ حتى صارت ثعباناً وهو انتهاء حالها ، وقيل إنها كانت في عظم الثعبان وسرعة الجان ، قال محمد بن إسحاق : نظر موسى فإذا العصا حية من أعظم ما يكون من الحيات ، وصارت شعبتاها شدقين لها ، والمحجن عنقاً وعرفاً يهتز كالنيازك ، وعيناها تتقدان كالنار تمر بالصخرة العظيمة مثل الخفة من الإبل ، فتلقمها وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ويسمع لأنيابها صريفاً عظيماً ، فلما عاين ذلك موسى ولّى مدبراً وهرب ، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ثم نودي موسى أقبل وارجع حيث كنت ، فرجع وهو شديد الخوف { قال خذها } يعني بيمينك { ولا تخف } قيل كان خوفه لما عرف ما لقي آدم من الحية ، وقيل لما قال له ربه لا تخف بلغ من طمأنينة نفسه وذهاب الخوف عنه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها { سنعيدها سيرتها الأولى } أي إلى هيئتها فنردها عصاً كما كانت ، وقيل كان على موسى مدرعة صوف قد خللها بعود فلما قال الله تعالى خذها لف طرف المدرعة على يده فأمره الله تعالى أن يكشف يده فكشفها .(4/367)
وذكر بعضهم أنه لما لف كم المدرعة على يده قال له ملك أرأيت لو أمر الله بما تحاذره أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً؟؟ قال : لا ولكني ضعيف من ضعف خلقت . قال فكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ويده في شعبتيها في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ . قال المفسرون :
أراد الله تعالى أن يري موسى ما أعطاه من الآية التي لا يقدر عليها مخلوق ولئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون قوله تعالى { واضمم يدك إلى جناحك } يعني إلى إبطك وقيل تحت عضدك { تخرج بيضاء } يعني نيرة مشرقة { من غير سوء } يعني من غير عيب والسوء ها هنا بمعنى البرص قال ابن عباس : كان ليده نور ساطع يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر { آية أخرى } أي دلالة أخر على صدقك سوى العصا { لنريك من آياتنا الكبرى } قال ابن عباس : كانت يد موسى أكبر آياته .(4/368)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
قوله عز وجل : { أذهب إلى فرعون إنه طغى } يعني جاوز الحد في العصيان والتمرد وإنما خص فرعون بالذكر مع أن موسى كان معبوثاً إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبر متبوعاً فكان ذكره الأولى قال وهب : قال الله تعالى لموسى اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي وإنك بعيني وسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبسك حلة من سلطاني تستكمل بها القوة في أمري بعثتك بعزتي لولا الحجة التي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان علي وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي { وقولا له قولاً ليناً } لا يغتر بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي ولا يتنفس إلا بعلمي قال فسكت موسى فجاء ملك وقال له أجب ربك { قال } . يعني موسى { رب اشرح لي صدري } يعني وسعه للحق ، قال ابن عباس : يريد حتى لا أخاف غيرك ، وذلك أن موسى كان يخاف فرعون خوفاً شديداً لشدة شوكته وكثرة جنوده ، فكان يضيق بما كلف من مقاومة فرعون وحده ، فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه للحق حتى يعلم أن أحداً لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله تعالى ، وإذ علم ذلك لم يخف من فرعون وشدة شوكته وكثرة جنوده { ويسر لي أمري } أي سهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون { واحلل عقدة من لساني } وذلك أن موسى كان في حجرة فرعون ذات يوم في صغره فلطم فرعون لطمة وأخذ بلحيته ، فقال فرعون لامرأته آسية إن هذا عدوي وأراد أن يقتله ، فقالت له آسية إنه صبي لا يعقل ، وقيل إن أم موسى لما فطمته ردته إلى فرعون فنشأ في حجره وحجر أمراته يربيانه واتخذاه ولداً ، فبينما هو يلعب بين يدي فرعون وبيده قضيب إذ رفعه فضرب به رأس فرعون فغضب فرعون وتطير منه حتى همَّ بقتله ، فقالت آسية : أيها الملك إنه صبي لا يعقل جربه إن شئت ، فجاءت بطشتين في أحدهما جمر وفي الآخر جوهر فوضعها بين يدي موسى ، فاراد أن يأخذ الجوهر فأخذ جبريل يد موسى فوضعها على الجمر فأخذ جمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه وصارت فيه عقدة { يفقهوا قولي } يعني احلل العقدة كي يفهموا قولي { واجعل لي وزيراً من أهلي } يعني معيناً وظهيراً ، والوزير من يوازرك ويحتمل عنك بعض ثقل عملك ثم بين من هو فقال { هارون أخي } وكان هارون أكبر من موسى وأفصح لساناً وأجمل وأوسم وكان أبيض اللون وكان موسى آدم أقنى جعداً { اشدد به أزري } يعني قو به ظهري { وأشركه في أمري } يعني في أمر النبوة وتبليغ الرسالة { كي نسبحك كثيراً } يعني نصلي كثيراً { ونذكرك كثيراً } يعني نحمدك ونثني عليك بما أوليتنا من جميل نعمك { إنك كنت بنا بصيراً } يعني خبيراً عليماً { قال } الله تعالى { قد أوتيت سؤلك يا موسى } أي أعطيت جميع ما سألته { ولقد مننا عليك مرة أخرى } يعني قيل هذه المرة بين تلك المنة بقوله تعالى { إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى } يعني ما يلهم ثم فسر ذلك الإلهام وعدد نعمه عليه فقال { أن اقذفيه في التابوت } يعني ألهمناها أن اجعليه في التابوت { فاقذفيه في اليم } يعني نهر النيل { فليلقه اليم بالساحل } يعني شاطىء البحر { يأخذه عدو لي وعدو له } يعني فرعون .(4/369)
فأخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً ووضعت فيه موسى وقيرت رأسه وشقوقه ثم ألقته في النيل . وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون . فبينما فرعون جالس على البركة مع امرأته آسية ، إذ هو بتابوت يجيء به الماء فأمر الغلمان والجواري بإخراجه ، فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا بصبي من أصبح الناس وجهاً ، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك نفسه وعقله فذلك قوله تعالى { وألقيت عليك محبة مني } قال ابن عباس : أحبه وحببه إلى خلقه ، قيل ما رآه أحد إلا أحبه لملاحة كانت في عيني موسى { ولتصنع على عيني } لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك مراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به ونظر إليه { إذ تمشي أختك } واسمها مريم متعرفة خبره { فتقول هل أدلكم على من يكفله } أي على امرأة ترضعه وتضمه إليها ، وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فلما قالت لهم أخته ذلك قالوا نعم . فجاءت بالأم فقبل ثديها فذلك قوله تعالى { فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها } أي بلقائك ورؤيتك { ولا تحزن } أي وليذهب عنها الحزن { وقتلت نفساً } .
قال ابن عباس : كان قتل قبطياً كافراً قيل كان عمره إذ ذاك اثنتي عشر سنة { فنجيناك من الغم } أي من غم القتل وكربه { وفتناك فتوناً } قال ابن عباس : اختبرناك اختباراً وقيل ابتليناك ابتلاء ، قال ابن عباس : الفتون وقوعه في محنة بعد محنة وخلصه الله تعالى ، منها أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم أخذه بلحية فرعون حتى هم قتله ، ثم ناوله الجمرة بدل الجوهرة ، ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفاً { فلبثت } أي مكثت { سنين في أهل مدين } هي بلدة شعيب على ثمان مراحل من مصر ، هرب إليها موسى قال وهب : لبث موسى عند شعيب . ثمانياً وعشرين سنة عشر سنين منها يرعى الغنم مهر زوجته صفوراء ابنة شعيب وثمان عشرة سنة أقام عنده بعد ذلك حتى ولد له وخرج من مصر ابن اثنتي عشرة سنة هارباً { ثم جئت على قدر يا موسى } أي جئت على القدر الذي قدرت أن تجيء فيه . قيل على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحى إلى الأنبياء فيه .(4/370)