ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
وجل : { ثم أنزل عليكم } يا معشر المسلمين { من بعد الغم } الذي أصابكم { أمنة نعاساً } يعني أمناً والأمنة والأمن واحد وقيل الأمن يكون مع زوال الخوف والأمنة مع بقاء سبب الخوف . وكان سبب الخوف يعد باقياً ، والنعاس أخف من النوم والمعنى أعقبكم بما نالكم من الخوف والرعب أن أمنكم أمناً تنامون معه لأن الخائف لا يكاد ينام فأمّنهم بعد خوفهم { يغشى طائفة منكم } قال ابن عباس : أمّنهم يومئذٍ بنعاس يغشاهم وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام ( خ ) عن أنس عن أبي طلحة قال : كنت فيمن يغشاهم النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً يسقط وآخذه ويسقط فآخذه . وأخرجه الترمذي عنه قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد وذكر نحو رواية البخاري وزاد والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعبه وأخذ له للحق . وفي رواية أخرى له قال رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أراهم وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قوله تعالى ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً . وقال الزبير بن العوام لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف أرسل الله تعالى علينا النوم والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم يقول لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلناها هنا فقوله تعالى : { يغشى طائفة منكم } يعني المؤمنين { وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم } يعني المنافقين أراد الله يميز المؤمنين فأوقع النعاس على المؤمنين حتى أمنوا ولم يوقع النعاس على المنافقين فبقوا في الخوف . وفي إلقاء النعاس على المؤمنين كان سبب خوفهم وهو قوله تعالى : { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم } يعني حملتهم أنفسهم على الهم لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة عندهم { يظنون بالله غير الحق } يعني يظنون أن الله لا ينصر محمداً وأصحابه وقيل إن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل وإن أمره يضمحل والمعنى يظنون بالله غير الظن الحق الذي أن يظن به { ظن الجاهلية } أي كظن أهل الجاهلية { يقولون } يعني المنافقين { هل لنا } أي مالنا { من الأمر شيء } وذلك أنه لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أبيّ ابن سلول رأس المنافقين في هذه الواقعة وأشار عليه أن لا يخرج من المدينة فلما خالفه النبي صلى الله عليه وسلم وخرج وقتل من قتل قيل لعبدالله بن أبيّ قد قتل بنو الخزرج قال هل لنا من الأمر شيء وهو استفهام على سبيل الإنكار أي ما لنا أمر يطاع . وقيل المراد بالأمر النصر والظفر يعني ما لنا من هذا الذي يعدنا محمد به من النصر والظفر من شيء إنما هو للمشركين { قل } يا محمد لهؤلاء المنافقين { إن الأمر كله لله } يعني النصر والظفر والقضاء والقدر كله لله وبيده يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف أحب { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } يعني من الكفر والشك في وعد الله عز وجل وقيل يخفون الندم على خروجهم مع المسلمين وقيل الذي أخفوه وهو قوله تعالى حكاية عنهم : { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا } وذلك أن المنافقين قال بعضهم لبعض لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولم تقتل رؤساؤنا .(1/479)
وقيل كانوا يقولون لو كنا على الحق ما قتلنا هاهنا . وعن ابن عباس في قوله تعالى : { يظنون بالله غير الحق } يعني التكذيب بالقدر وهو قولهم : « لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا » قيل إن الذي قال هل لنا من الأمر من شيء هو عبدالله بن أبيّ ابن سلول المنافق والذي قال لو كان لنا من الأمر شيء هو معتب بن قشير { قل } أي قل يا محمد لهؤلاء المنافقين { لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل } أي قضى عليهم القتل وقدر عليهم { إلى مضاجعهم } يعني مصارعهم التي يصرعون بها وقت القتل ومعنى الآية أن الحذر لا ينفع مع القدر والتدبير لا يقاوم . التقدير فالذين قدر عليهم القتل وقضاه وحكم به عليهم لا بد وأن يقتلوا والمعنى لو جلستم في بيوتكم لخرج منها ولظهر الذين قضى الله عليهم بالقتل وقضاه وحكم به عليهم لا بد وأن يقتلوا والمعنى لو جلستم في بيوتكم لخرج منها ولظهر الذين قضى الله عليهم بالقتل وقضاه إلى حيث يقتلون فيه { وليبتلي الله ما في صدوركم } أي وليختبر ما في صدوركم ليعلّمه مشاهدةً ، كما علمه غيباً لأن المجازاة إنما تقع على ما علمه مشاهدة وقيل معناه ليعاملكم معاملة المبتلي المختبر لكم وقيل معناه ليبتلي أولياء الله ما في صدوركم فأضاف الابتلاء إليه تعظيماً لشأن أوليائه المؤمنين { وليمحص الله ما في قلوبكم } قال قتادة أي يطهرها من الشك والارتياب بما يريكم من عجائب صنعه في إلقاء الأمنة وصرف العدو وإظهار سرائر المنافقين فعلى هذا يكون الخطاب للمؤمنين خاصة . وقيل معناه وليبين ويظهر ما في قلوبكم يعني من الاعتقاد لله ولرسوله وللمؤمنين من العداوة فعلى هذا يكون الخطاب للمنافقين خاصة { والله عليم بذات الصدور } يعني بالأشياء الموجودة في الصدور وهي الأسرار والضمائر لأنه عليم بجميع المعلومات .(1/480)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
قوله عز وجل : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } أي انهزموا وهربوا منكم يا معشر المسلمين فهو خطاب لمن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين يوم أحد بأحد وكان قد انهزم أكثر المسلمين ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر رجلاً وقيل أربعة عشر من المهاجرين سبعة من الأنصار سبعة ، فمن المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة بن عبيدالله وعبدالرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم { إنما استزلهم الشيطان } أي طلب زلتهم كما يقال استعجله أي طلب عجلته وقيل حملهم على الزلة وهي الخطيئة وذلك بإلقاء الوسوسة في قلوبهم لا أنه أمرهم بها { ببعض ما كسبوا } يعني بمعصيتهم النبي صلى الله عليه وسلم وتركهم المركز . وقيل استزلهم الشيطان بتذكير خطايا سبقت لهم فكرهوا أن يقتلوا قبل إخلاص التوبة منها وهذا اختيار الزجاج لأنه قال لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على الفرار من الزحف رغبة في الدنيا وإنما ذكرهم الشيطان خطايا سلفت لهم فكرهوا إلقاء الله إلا على حالة يرضاها { ولقد عفا الله عنهم } يعني ولقد تجاوز الله عن الذين تولّوا يوم التقى الجمعان فلم يعاقبهم بذلك وغفر لهم وقيل إن عثمان عوتب في هزيمة يوم أحد فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن الله قد عفا عنه وقرأ هذه الآية { إن الله غفور } يعني لمن تاب وأناب { حليم } لا يعجل العقوبة ولا يستأصلهم بالقتل . قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } يعني المنافقين عبدالله بن أبيّ وأصحابه { وقالوا لإخوانهم } يعني في النفاق والكفر وقيل لإخوانهم في النسب وكانوا مسلمين { إذا ضربوا في الأرض } يعني إذا سافروا في الأرض لتجارة وغيرها { أو كانوا غزى } جمع غاز أي غزاة ، في الكلام حذف دل المعنى على ذلك الحذف وهو إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزى فقتلوا { لو كان عندنا } يعني مقيمين { ما ماتوا وما قلتوا ليجعل الله ذلك } يعني قولهم وظنهم { حسرة في قلوبهم } يعني غماً وتأسفاً { والله يحيي ويميت } هذا رد لقول المنافقين لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا والمعنى أن الأمر بيد الله وأن المحيي والمميت هو الله تعالى فقد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد عن الغزو كما يشاء فكيف ينفع الجلوس في البيت وهل يحمي أحد من الموت { والله بما تعملون بصير } يعني أنه تعالى مطلع على ما تعملون من خير أو شر فيجازيكم به فاتقوه ولا تكونوا مثل المنافقين لأن مقصدوهم تنفير المؤمنين عن الجهاد بقولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فإن الله تعالى هو المحيي المميت ، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد ومن قدر له الموت لم يبق وإن أقام ببيته عند أهله فلا تقولوا أنتم أيها المؤمنون لمن يريد الخروج للجهاد لا تخرج فتقتل فلان يموت في الجهاد فيستوجب الثواب فإن ذلك خير له من أن يموت لمن يريد في بيته بلا فائدة .(1/481)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
قوله تعالى : { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة } يعني في العاقبة { خير مما تجمعون } يعني من الغنائم والمعنى ولئن تم عليكم ما تخافونه من القتل في سبيل الله أو الهلاك بالموت فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت والقتل في سبيل الله خير مما تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا { ولئن متم أو فعلتم لإلى الله تحشرون } يعني لألى الله الرحيم الواسع الرحمة والمغفرة المثيب العظيم الثواب تحشرون في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم . وقد قسم بعض مقامات العبودية ثلاثة أقسام فمن عبد الله خوفاً من ناره أمنه الله مما يخاف وإليه الإشارة بقوله تعالى لمغفرة من الله ومن عبد الله تعالى شوقاً إلى جنته أناله ما يرجو . وإليه الإشارة بقوله تعالى لمغفرة من الله ومن عبد الله تعالى شوقاً إلى جنته أناله ما يرجو وإليه الإشارة بقوله تعالى ورحمة لأن الرحمة من أسماء الجنة ومن عبد الله شوقاً إلى وجه الكريم لا يريد غيره فهذا هو العبد المخلص الذي يتجلى له الحق سبحانه وتعالى في دار كرامته . وإليه الإشارة بقوله لإلى الله تحشرون . قوله عز وجل : { فبما رحمة من الله لنت لهم } أي فبرحمة من الله وما صلة لنت لهم أي سهلت لهم أخلاقك وكثرة احتمالك ولم تسرع إليهم بتعنيف على ما كان يوم أحد منهم ومعنى فبما رحمة من الله هو توفيق الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم للرفق والتلطف بهم وإن الله تعالى ألقى في قلب نبيه صلى الله عليه وسلم داعية الرحمة واللطف حتى فعل ذلك معهم { ولو كنت فظاً } يعني جافياً { غليظ القلب } يعني قاسي القلب سيئ الخلق قليل الاحتمال { لانفضوا من حولك } أي لنفروا عنك وتفرقوا حتى لا يبقى منهم أحد عندك { فاعف عنهم } أي تجاوز عن زلاتهم وما أتوا يوم أحد { واستغفر لهم } أي واسأل الله المغفرة لهم حتى يشفعك فيهم وقيل فاعف عنهم فيما يختص بك واستغفر لهم فيما يختص بحقوق الله وذلك من تمام الشفقة عليهم { وشاورهم في الأمر } أي استخرج آراءهم واعلم ما عندهم . واختلف العلماء في المعنى الذي من أجله أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة لهم مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ووجوب طاعته وعلى كافة الخلق فيما أحبوا أو كرهوا . فقيل هو عام مخصوص والمعنى وشاورهم فيما ليس عندك من الله فيه عهد وذلك في أمر الحرب ونحوه من أمور الدنيا لتستظهر برأيهم فيما تشاورهم فيه . وقيل أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورتهم تطييباً لقلوبهم فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمور شق ذلك عليهم .(1/482)
وقال الحسن قد علم الله تعالى أن ما به إلى مشاورتهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده من أمته ، وقيل إنما أمر بمشاورتهم ليعلم مقادير عقولهم وأفهامهم لا ليستفيد منهم رأياً وروى البغوي بسنده عن عائشة أنها قالت ما رأيت رجلاً أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفق العلماء على أن كل ما نزل فيه وحي من الله تعالى لم يجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم . أن يشاور فيه الأمة وإنما أمر أن يشاور فيما سوى ذلك من أمر الدنيا ومصالح الحرب ونحو ذلك وقيل أن يشاورهم في أمر الدين والدنيا فيما لم ينزل عليه فيه شيء لأن النبي صلى الله عليه وسلم شاورهم في أسارى بدر وهو من أمر الدين قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه والتدبر قبل العمل يؤمنك من الندم . وقال بعض الحكماء ما استنبط الصواب بمثل المشاورة ومن فوائد المشاورة أنه قد يعزم الإنسان على أمر فيشاور فيه فيتبين له الصواب في قول غيره فيعلم بذلك عجز نفسه عن الأحاطة بفنون المصالح ومنها أنه إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محض قدر فلم يلم نفسه وقال بعضهم في مدح المشاورة :
وشاور إذا شاورت كل مهذب ... لبيب أخي حزم لترشد في الأمر
ولا تك ممن يستبد برأيه ... فتعجز أو لا تستريح من الفكر
ألم تر أن الله قال لعبده ... وشاورهم في الأمر حتماً بلا نكر
قوله تعالى : { فإذا عزمت } يعني على المشاورة { فتوكل على الله } أي فاستعن بالله في أمورك كلها وثق به ولا تعتمد إلا عليه فإنه ولي الإعانة والعصمة والتسديد والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله تعالى في جميع أموره وأن المشاورة لا تنافي التوكل { إن الله يحب المتوكلين } يعني المتوكلين عليه في جميع أمورهم .(1/483)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
قوله عز وجل : { إن ينصركم الله } يعني إن يعنكم الله بنصره ويمنعكم من عدوكم كما فعل يوم بدر { فلا غالب لكم } يعني من الناس لأن الله تعالى هو المتولي نصركم { وإن يخذلكم } كما فعل يوم أحد فلم ينصركم ووكلكم إلى أنفسكم لمخالفتكم أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } أي من بعد خذلانه { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } لا على غيره لأن الأمر كله لله ولا راد لقضائه ولا دافع لحكمه فيجب أن يتوكل العبد في كل الأمور على الله تعالى لا على غيره . وقيل التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك ولا تطلب لنفسك ناصراً غيره ولا لعملك شاهداً سواه ( م ) عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب قالوا ومن هم يا رسول الله صلى الله قال هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ، فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم فقام آخر فقال يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة » عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو أنكم تتوكلون على الله حقّ تولكه لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن . قوله عز وجل : { وما كان لنبي أن يغل } قال ابن عباس نزلت هذه الاية وما كان لنبي أن يغل في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض القوم لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله تعالى هذه الاية إلى آخرها . أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن غريب وروي عن الضحاك قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلائع فغنم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقسم الطلائع فأنزل الله تعالى وما كان لنبي أن يغل وروى ابن جرير الطبري عن ابن عباس في قوله تعالى وما كان لنبي أن يغل يقول ما كان لنبي أن يقسم إلى طائفة من المؤمنين ويترك طائفة ويجوز في القسم ولكن يقسم بالعدل ويأخذ فيه بأمر الله ويحكم فيه بما أنزل الله يقول ما كان الله ليجعل نبياً يغل من أصحابه فإذا فعل ذلك النبي استنوا به وقال مقاتل والكلبي نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة . وقالوا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم : من أخذ شيئاً فهو له وأن لا تقسم الغنائم كما لم تقسم يوم بدر فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم :(1/484)
« ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري قالوا تركنا بقية أخواننا وقوفاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل ظننتم أنا نغل فلا نقسم » فأنزل الله هذه الآية وقال قتادة ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه وقيل إن الأقوياء ألحوا عليه يسألونه من المغنم فأنزل الله تعالى { وما كان لنبي أن يغل } يعني فيعطي قوماً ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بينهم بالسوية وقال محمد بن كعب القرظي ومحمد بن إسحاق بن يسار هذا في شأن الوحي يقول وما كان لنبي أن يكتم شيئاً من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة والغلول هو الخيانة . وأصله أخذ الشيء في خفية يقال غل فلان يغل قرئ بفتح الياء وضم الغين أي وما كان لنبي أن يخون لأن النبوة والخيانة لا يجتمعان لأن منصب النبوة أعظم المناصب وأشرفها وأعلاها لا تليق به الخيانة لأنها في نهاية الدناءة والخسة والجمع بين الضدين محال فثبت بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخن أمته في شيء لا من الغنائم ، ولا من الوحي . وقيل المراد به الأمة لأنه قد ثبت براءة ساحة النبي صلى الله عليه وسلم من الغلول والخيانة فدل ذلك على أن المراد بالغلول غيره وقيل اللام فيه منقولة معناه ما كان النبي ليغل على نفي الغلول عن الأنبياء وقيل معناه ما كان لبني الغلول أراد ما غل نبي قط فنفى عن الأنبياء : الغلول وقيل معناه وما كان يحل لنبي الغلول وإذا لم يحل له لم يفعله وحجة هذه القراءة أنهم نسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغلول . في بعض الروايات فبين الله تعالى بهذه الاية أن هذه الخصلة لا تليق به ونفى عنه ذلك بقوله وما كان لنبي أن يغل وقرئ يغل بضم الياء وفتح الغين ولها معنيان أحدهما أن يكون من الغلول أيضاً ومعناه وما كان لنبي أن يخان أي تخونه أمته والثاني أن يكون من الإغلال ومعناه وما كان لنبي أن يخون أي ينسب إلى الخيانة { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } يعني بالشيء الذي غله بعينه يحمله على ظهره يوم القيامة ليزداد فضيحة بما يحمله يوم القيامة وقيل يمثل ذلك الشيء في النار ثم يقال له أنزل فخذه فينزل فيحمله على ظهره يوم القيامة ليزداد فضيحة بما يحمله يوم القيامة وقيل يمثل ذلك الشيء في النار ثم يقال له انزل فخذه فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ موضعه وقع ذلك الشيء في النار فيكلف أن ينزل إليه ليخرجنه يفعل به ذلك ما شاء الله وقيل معناه أنه يأتي بإثم ما غله فيجازي به يوم القيامة وهو قوله تعالى : { ثم توفى كل نفس ما كسبت } يعني من خير أو شر والمعنى أن كل كاسب خيراً كان ذلك الكسب أو شراً فهو مجزى به يوم القيامة وهو في جزاء عمله { وهم لا يظلمون } يعني بل يعدل بينهم يوم القيامة في الجزاء فيجازى كل على عمله .(1/485)
فصل في ذكر أحاديث وردت في الغلول ووعيد الغال
وقد تقدم أن أصل الغلول هو أخذ الشيء في خفية وأنه الخيانة إلا إنه قد صار في العرف مخصوصاً بالخيانة في الغنيمة وبهذا وردت الأحاديث ( ق ) عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال : « لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني وأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك » لفظ مسلم . الرغاء صوت البعير والثغاء صوت الشاة والرقاع الثياب والصامت الذهب والفضة ( ق ) عن أبي هريرة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ففتح الله علينا فلم نغنم ذهباً ولا ورقاً غنمنا المتاع والطعام والثياب ثم انطلقنا إلى الوادي يعني وادي القرى ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له وهبه له رجل من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رحله فرمى بسهم فكان فيه حتفه فقلنا هنيئاً له شملته الشهادة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه ناراً أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم » قال ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال : أصبتها يوم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شرك من نارٍ أو شراكان من نار وفي رواية نحوه وفيه ومعه عبد يقال له مدعم أهداه له أحد بني الضبيب وفيه إذ جاءه سهم عائر إشراك سير النعل الذي يكون على ظهر القدم ومثله شسع النعل والسهم العائر هو السهم الذي لا يدرى من رماه ( خ ) عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : رجل يقال له كركرة فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها عن زيد بن خالد الجهني أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلّوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال أن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين .(1/486)
أخرجه أبو داود والنسائي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من غل فاحرقوا متاعه واضربوه » أخرجه أبو داود والترمذي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال وضربوه زاد في رواية ومنعوه سهمه أخرجه أبو داود .(1/487)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
قوله عز وجل : { أفمن اتبع رضوان الله } يعني فترك الغلول فلم يغل { كمن باء } أي رجع { بسخط من الله } يعني بغضب من الله والمعنى فغل والسخط الغضب الشديد المفضي للعقوبة وهو من الله إنزال العقوبة بمن سخط عليه وقيل في معنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر المسلمين باتباعه والخروج معه يوم أحد اتبعه المؤمنون وتخلف عنه جماعة من جماعة المنافقين فأخبرنا الله تعالى بحال من اتبعه بقوله { أفمن اتبع رضوان الله } وبحال من تخلف عنه بقوله : { كمن باء بسخط من الله } { ومأواه جهنم وبئس المصير } يعني الغال أو المتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم { هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون } يعني هم ذوو درجات عند الله قال ابن عباس : يعني من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله مختلفو المنازل عند الله فلمن اتبع رضوان الله الثواب العظيم ولمن باء بسخط من الله ليسوا سواء بل هم درجات عند الله على حسب أعمالهم . وقيل الضمير في قوله هم درجات عائد على قوله أفمن اتبع رضوان الله فقط لأن الغالب في العرف استعمال الدرجات لأهل الثواب والدركات لأهل النار ولأن الله وصف من باء بسخط من الله إن مأواه جهنم وبئس المصير فدل على أن الضمير في قوله هم درجات عند الله راجع للأول وفيه تحريض على العمل بطاعته وتحذير عن العمل بمعاصيه . قوله عز وجل : { لقد منّ الله على المؤمنين } يعني أحسن إليهم وتفضل عليهم والمنة النعمة العظيمة وذلك في الحقيقة لا يكون إلا من الله ومنه قوله تعالى لقد منّ الله على المؤمنين { إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } يعني من جنسهم عربياً مثلهم ولد ببلدهم ونشأ بينهم يعرفون نسبه وليس حي من أحياء العرب إلا وقد ولده وله فيهم نسب . إلا بني تغلب فإنهم كانوا نصارى وقد ثبتوا على النصرانية فطهر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يكون له فيهم نسب وقيل أراد بالمؤمنين جميع المؤمنين ومعنى قوله تعالى من أنفسهم أي بالإيمان والشفقة لا بالنسب ومن جنسهم ليس بملك ولا أحد من غير بني آدم وقيل من أنفسهم يعني أنه من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام ووجه المنّة والإنعام على المؤمنين ببعث الرسول صلى الله عليه وسلم لكونه داعياً لهم إلى ما يخلصهم من العذاب الأليم ويوصلهم إلى الثواب في جنات النعيم وكونه من أنفسهم ومن جنسهم لأنه إذا كان اللسان واحداً سهل الأخذ عنه فيما يجب عليهم ، وكانوا واقفين على جميع أحواله وأفعاله يعرفون صدقه وأمانته فكان ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به ، وفي كونه من أنفسهم شرف لهم وكان فيما خطب به أبو طالب حين زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها وقد حضر ذلك بنو هاشم ورؤساء مضر قوله الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ معد وعنصر مضر وجعلنا سدنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمنا وجعلنا الحكام على الناس وإن ابني هذا محمد بن عبدالله لا يوزن به فتى إلا رجح وهو الله بعد هذا له نبأ عظيم وخطب جليل .(1/488)
وقيل في وجه المنّة ببعثة الرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخلق جبلوا على الجهل ونقصان العقل وقلة الفهم وعدم الدراية فمنّ الله تعالى على خلقه وأنعم عليهم وأحسن إليهم بأن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم أنقذهم به من الضلالة وبصرهم به من الجهالة وهداهم به إلى صراط مستقيم وإنما خص المؤمنين بالذكر لأنهم هم المنتفعون بما جاء به دون غيرهم { يتلو عليهم آياته } يعني يقرأ عليهم كتابه الذي أنزل عليه بعد أن كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي السماوي { ويزكيهم } أي ويطهرهم من دنس الكفر ونجاسة المحرمات والخبائث { ويعلمهم الكتاب والحكمة } يعني القرآن والسنّة التي سنها لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم { وان كانوا من قبل } يعني من قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم { لفي ضلال مبين } يعني لفي جهالة وحيرة عن الهدى عمياً لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً فهداهم الله بنبيّه صلى الله عليه وسلم . قوله تعالى : { أو لما أصابتكم مصيبة } يعني ما أصابهم يوم أحد { قد أصبتم مثليها } يعني ببدر وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين وقتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين وقيل إن المسلمين هزموا المشركين يوم بدر وهزمهم في أول الأمر يوم أحد ولما عصوا الله ورسوله هزمهم المشركون فحصل انهزام المشركين مرتين وانهزام المسلمين مرة واحدة { قلتم أنى هذا } أي من أين لنا هذا القتل والهزيمة ونحن المسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا وهو استفهام إنكار { قل هو من عند أنفسكم } يعني إنما وقعتم فيما وقعتم فيه بشؤم ذنوبكم وهو مخالفتكم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه صلى الله عليه وسلم اختار الإقامة في المدينة على الخروج إلى العدو واختاروا هم الخروج إليه وأيضاً أمر الرماة بالإقامة في الموضع الذي عينه لهم فخالفوا وتركوا المركز لأجل الغنيمة فكان ذلك سبب القتل والهزيمة . وروى عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى أهل بدر لم يسنده البغوي وأسنده ابن جرير الطبري فذلك معنى قوله { قل هو من عند أنفسهم } يعني بأخذكم الفداء واختياركم القتل لأنفسكم { إن الله على كل شيء قدير } يعني من نصركم مع الطاعة وترك نصركم مع المخالفة .(1/489)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
قوله عز وجل : { وما أصابكم } يعني من القتل والجراح والهزيمة { يوم التقى الجمعان } يعني جمع المؤمنين وجمع المشركين وذلك بأحد يوم أحد { فبإذن الله } يعني فبعلمه وقضائه وقدره وحكمه وفيه تسلية للمؤمنين بما حصل لهم يوم أحد من القتل والهزيمة ولا تقع التسلية إلا إذا علموا أن ذلك كان واقعاً بقضاء الله وقدره فحينئذٍ يرضون بما قضى الله عليهم { وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا } أي ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على مالهم ويظهر نفاق المنافقين بقلة صبرهم على ما نزل بهم فالمراد من العلم المعلوم والتقدير ليتبين المؤمن من المنافق وليتميز أحدهما من الآخر والمنافق هو الذي أظهر الإيمان بلسانه وأضمر خلافه واشتقاقه من النفق وهو السرب في الأرض النافذ ، ومننه نافقاً اليربوع لأن له حجراً في الأرض له بابان إذا طلب من أحدهما خرج من الآخر فكذلك المنافق صنع له طريقين أحدهما إظهار الإيمان بلسانه والآخر إضمار الكفر بقلبه من أيهما طلب خرج من الآخر . وقيل لأنه دخل في الإيمان من باب وخرج من باب آخر والنفاق اسم إسلامي لم تك العرب تعرفه قبل الإسلام { وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } المقول له عبدالله بن أبي ابن سلول المنافق وأصحابه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد في ألف رجل حتى إذا كان بالشوط بين أحد والمدينة انخذل عبدالله بن أبي ابن سلول بثلث الناس وقال ما ندري علام نقتل أنفسنا فرجع بمن معه من المنافقين فتبعهم جابر بن عبدالله بن عمر بن حرام الإنصاري أخو بني سلمة وهو يقول : يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم عند حضور عدوه فذلك قوله تعالى وقيل لهم يعني المنافقين عبدالله بن أبي ابن سلول وأصحابه تعالوا قاتلوا في سبيل الله أي لأجل دين الله وطاعته أو ادفعوا يعني عن أموالكم وأهليكم وقيل معناه تعالوا كثروا سواد المسلمين إن لم تقاتلوا ليكون ذلك دفعاً وقمعاً للعدو { قالوا } يعني المنافقين { لو نعلم قتالاً لاتبعناكم } أي لو نعلم أن اليوم يجري فيه قتال لاتبعناكم ولم نرجع ولو عملوا ما تبعوهم . وقيل معناه لو نحسن قتالاً لاتبعناكم { هم للكفر } يعني المنافقين إلى الكفر { يومئذٍ أقرب منهم للإيمان } أي الإيمان وإنما قال تعالى يومئذٍ لأنهم قبل ذلك اليوم لم يظهروا ما أظهروه من المعاندة والرجوع عن المسلمين وقولهم لو لم نعلم قتالاً لاتبعانكم وإنما كانوا قبل ذلك يظهرون كلمة الإسلام ويخفون الكفر { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } يعني يظهرون بألسنتهم الإيمان وليس هو في قلوبهم إنما في قلوبهم الكفر والنفاق وهذه صفة المنافقين لا صفة المؤمنين لأن صفة المؤمن المخلص موطأة القلب للسان على شيء واحد وهو التوحيد { والله أعلم مبا يكتمون } يعني من النفاق { الذين قالوا لأخوانهم } نزلت في عبدالله بن أبي المنافق وأصحابه وفي المراد بإخوانهم قولان : أحدهما أن المراد بإخوانهم الذين استشهدوا بأحد فيكون إخوانهم في النسب لا في الدين والقول الثاني إن المراد بإخوانهم المنافقون فعلى القول الأول يكون معنى الآية الذين قالوا في إخوانهم أو عن إخوانهم الذين قتلوا بأحد لو أطاعونا ما قتلوا لأنهم بعد أن قتلوا لا يخاطبون وعلى القول الثاني يكون معنى الآية الذين قالوا وهم عبدالله بن أبيّ وأصحابه لأخوانهم يعني في النفاق { وقعدوا } يعني عن الجهاد { لو أطاعونا } يعني هؤلاء الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أطاعونا يعني في القعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الانصراف عنه { ما قتلوا } يومئذٍ فرد الله تعالى عليهم بقوله { قل } يعني قل لهم يا محمد { فادرؤوا } أي فادفعوا { عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } يعني أن الحذر لا ينفع من القدر وفي الآية دليل على أن المقتول يموت بأجله خلافاً لمن يزعم أن القتل قطع على المقتول أجله { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } قيل نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار .(1/490)
وقال أكثر المفسرين إنها نزلت في شهداء أحد ويدل على ذلك ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معقلة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم . قالوا من يبلغ أخواننا عنا أننا أحياء في الجنة لئلا يزهدوا في الجنة ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } إلى آخر الآية أخرجه أبو داود ( م ) عن مسروق قال سألنا عبدالله عن هذه الآية : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } فقال إما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال « أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فأطلع إليهم ربهم إطلاعه فقال : هل تشتهون شيئاً قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا » ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا .(1/491)
( ذكر ما يتعلق بهذا الحديث ) قول مسروق سألنا عبدالله كذا جاء عبدالله غير منسوب وقد نسبه بعض الناس فقال عبدالله بن عمر قد ذكره أبو مسعود الدمشقي والحميدي في مسنده عن عبدالله بن مسعود وهو الصحيح وهذا الحديث مرفوع لقوله أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال يعني النبي صلى الله عليه وسلم وفي الحديث دليل عن أن الجنة مخلوقة الآن خلافاً للمعتزلة لقوله صلى الله عليه وسلم تسرح من الجنة حيث شاءت وهو مذهب أهل السنة وفيه دليل على أن الأرواح باقية لا تفنى بفناء الجسد لأن المحسن ينعم ويجازى بالثواب وأن المسيء يعذب ويجازى بالعقاب قبل يوم القيامة وهو مذهب أهل السنة أيضاً قوله أرواحهم في جوف طير خضر أي يجعل الله أرواح الشهداء في جوف طير خضر وهذا ليس ببعيد لا سيما مع القول بأن الأرواح أجسام لطيفة . وقيل إن المنعم والمعذب من الأرواح والأجساد جزء من الجسد تبقى فيه الروح وهو الذي يتلذذ بالنعيم ويتألم بالعذاب فغير مستحيل أن يصور الله تعالى ذلك الجزء طائراً ويجعل في جوف طير فتسرح في الجنة وتأوي إلى تلك القناديل وقد تعلق بهذا الحديث من يقول بالتناسخ من المبتدعة ويقول بانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة وتعذيبها في الصور القبيحة المسخرة ويزعمون أن هذه هو الثواب والعقاب وهذا ضلال بيّن وقول سخيف وبدعة باطلة لما في هذا القول من إبطال ما جاءت به الشرائع من الحشر والنشر والمعاد والجنة والنار وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث ما يرد عليهم وهو قوله حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه يعني يحيي جميع جسده يوم يبعثه وهو يوم القيامة والله أعلم . عن جابر قال لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مهتم فقال ما لي أراك منكسراً قلت يا رسول الله استشهد أبي يوم أحد وترك عيالاً وديناً فقال ألا أبشرك بما لقي الله به أباك قلت بلى قال ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب وإنه أحيا أباك وكلمه كفاحاً وقال يا عبدي تمنّ علي أعطك قال : يا رب تحييني فأقتل ثانية قال سبحانه إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون فنزلت : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } الآية أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وقيل إن الآية نزلت في شهداء بئر معونة وهي بئر بين مكة وعسفان وأرض هذيل قال محمد بن إسحاق عن أشياخه من أهل العلم قالوا : قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة وكان سيد بني عامر بن صعصعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له هدية فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها وقال إني لا أقبل هدية مشرك ثم عرض عليه الإسلام وأخبره بما له فيه وما أعد الله للمؤمنين وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يبعد وقال يا محمد إن الذي تدعو إليه حسن جميل فلو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أخشى عليهم أهل نجد فقال أبو براء نالهم جار فأبعثهم فليدعو الناس إلى أمرك فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلاً من خيار المسلمين .(1/492)
وكان يقال لهم القراء منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت ونافع بن يزيد بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر . وذلك في سفر سنة أربع من الهجرة بعد أحد بأربعة أشهر فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم فلما نزلوها قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء فقال حرام بن ملحان : أنا فخرج بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء فلما أتاهم حرام بن ملحان : لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حرام بن ملحان يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضربه به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا لا نخفر أبا براء فقد عقد لهم عقداً وجواراً فاستصرخ عليهم قبائل بني سليم عصية ورعلا وذكران فأجابوه فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتث بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم يعلمها بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا : والله إن لهذا الطير لشأناً فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية ماذا ترى قال نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ونخبره فقال الأنصاري لكن لا أرغب عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ثم قاتل القوم حتى قتل وأخذ عمرو بن أمية الضمري أسيراً فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمة فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى لله عليه وسلم وأخبره الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/493)
« هذا عمل أبي براء وقد كنت لهذا كارهاً متخوفاً » فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه أخفار عامر بن الطفيل إياه وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره . وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق فروى محمد بن أسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه قالوا هو عامر بن فهيرة قالوا : وبلغ ربيعة بن أبي براء أن عامر بن الطفيل أخفر ذمة أبيه فحمل على عامر بن الطفيل فطعنه فخر عن فرسه .
قلت ذكر ابن الأثير الجزري في كتاب جامع الأصول له في قسم الأسماء في ترجمة عامر بن الطفيل أن عامر بن الطفيل قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن بضع وثمانين سنة ولم يسلم وعاد من عنده فخرج له خراج في أصل أذنه أخذه منه مثل النار فاشتد عليه ومات منه ( ق ) عن أنس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواماً من بني سليم إلى بني عامر في سبعين وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خاله أخاً لأم سليم واسمه حرام في سبعين راكباً فلما قدموا قال لهم خالي أتقدمكم فإن أمنوني حتى أبلغكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلاّ كنتم مني قريباً فتقدم فأمنوه فبينما هو يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أمنوا إلى رجل منهم فطعنه فأنقذه فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلاّ رجلاً أعرج صعد الجبل قال همام وأراه آخر معه فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم إنهم قد لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم . قال فكنا نقرأ أن فكنا نقرأ أن بلغوا قومنا إن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ بعد فدعا عليهم أربعين صباحاً على رعل وذكوان وبني عصية الذين عصوا الله ورسوله وفي رواية إن رعلاً وذكوان وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمدهم بسبعين رجلاً من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل حتى إذا كان ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقنت عليهم شهراً يدعو في الصبح على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان قال أنس : فقرأنا فيهم قرآناً ثم إن ذلك رفع بلغوا قومنا إن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ولمسلم قال : جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه أن أبعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار وذكر نحو ما تقدم وقيل إن أولياء الشهداء وأهليهم كانوا إذا أصابتهم نعمة وخير تحسروا على الشهداء وقالوا نحن في النعمة والرخاء وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور فأنزل الله تعالى هذه الآية تطييباً لقلوبهم وتنفيساً عنهم وإخباراً عن حال قتلاهم فقال تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } أي ولا تظنن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل أحد من أمته والمعنى لا يظن ظان إن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً يعني كأموات غيرهم ممن لم يقتل في سبيل الله { بل أحياء } أي بل هم أحياء وظاهر الآية يدل على كون من قتل في سبيل الله حياً فأما أن يكون المراد أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة أو يكون المراد إنهم أحياء في الحال وعلى تقدير أنهم أحياء في الحال يكون المراد إثبات الحياة الروحانية او إثبات الحياة الجثمانية .(1/494)
فهذه ثلاثة أوجه في معنى احتمال الحياة فيمن قال بالوجه الأول هو أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة قال معنى الآية بل هم أحياء في الذكر : وأنهم يذكرون بخير أعمالهم وأنهم استشهدوا في سبيل الله وقيل بل هم أحياء في الدين وهذا القول ليس بصواب لأن الله تعالى أثبت لهم الحياة في الحال بقوله بل أحياء يعني في حال ما يقتلون فإنهم يحيون وهو الاحتمال الثاني . واختلفوا في معنى هذه الحياة هل هي للروح أو للجسم والروح معاً فمن أثبت الحياة للروح دون الجسم يقال يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم أرواح الشهداء في حواصل طير خضر فخص الأرواح دون الأجساد وقال بعض المفسرين إنّ أرواح الشهداء تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة . ومن أثبت الحياة الروح والجسم معاً قال : يدل عليه سياق الآية وهو قوله عند ربهم يرزقون فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون كالأحياء وقيل إن الشهيد لا يبلى في قبره ولا تأكله الأرض كغيره . وروي أنه لما أراد معاوية أن يجري الماء على قبور الشهداء أمر أن ينادي من كان له قتيل فليخرجه وليحوله من هذا الموضع قال جابر : فخرجنا إليهم فأخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فأنبعث دماً وذكر البغوي بغير سند عن عبيدالله بن عمير قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم فالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلاّ ردوا عليه » قوله تعالى : { عند ربهم } يعني في محل كرامته وفضله { يرزقون } يعني من ثمار الجنة وتحفها .(1/495)
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
{ فرحين بما آتاهم الله من فضله } يعني بما أعطاهم من الثواب والكرامة والإحسان والإفضال في دار النعيم { ويستبشرون } أي يفرحون والاستبشار هو الفرح والسرور الذي يحصل للإنسان عند البشارة { بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } يعني من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على منهج الإيمان والجهاد لعلمهم بأنهم إذا استشهدوا سألوا الله عز وجل أن يخبر إخوانهم بما ناولوا من الخير والكرامة ليرغبوا في الجهاد فأخبرهم الله عز وجل إني قد أنزلت على نبّي محمد صلى الله عليه وسلم وأخبرته بحالكم وما صرتم إليه من الكرامة وأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أخبر إخوانكم بذلك ففرحوا بذلك واستبشروا { أن لا خوف عليهم } يعني في الآخرة { ولا هم يحزنون } يعني على ما فاتهم من نعيم الدنيا .(1/496)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
{ يستبشرون بنعمة من الله وفضل } لمّا بيّن الله تعالى أن الشهداء يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم في خلفهم ذكر أنهم أيضاً يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم والفضل فالاستبشار الأول كان لغيرهم والاستبشار الثاني لأنفسهم خاصة { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } يعني كما أنه تعالى لا يضيع أجر المجاهدين والشهداء كذلك لا يضيع أجر المؤمنين .
فضل في فضل الجهاد في سبيل الله
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلاّ جهاد في سبيل وإيمان بي وتصديق برسلي فهو على ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة . والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلاّ جاء يوم القيامة كهيئته حين يكلم لونه لون دم وريحه ريح مسك . والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني . والذي نفس محمد بيده لوددت اني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم اغزوا فأقتل » لفظ ( ق ) عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها » ( ق ) عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها » عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كل ميت يختم على عمله إلاّ المرابط في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر » أخرجه أبو داود والترمذي عن معاذ بن جبل أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ومن سأل الله القتل في سبيل الله صادقاً من نفسه ثم مات أو قتل كان له أجر شهيد ، ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك ومن خرج به خراج في سبيل الله فإن عليه طابع الشهداء » أخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه الترمذي مفرقاً في موضعين ( ق ) عن أبي سعيد قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أي الناس أفضل؟ قال : مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال ثم من قال رجل في شعب من الشعاب يعبد الله »(1/497)
وفي رواية يتقي الله ويدع الناس من شره ( خ ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً وتصديقاً فإن شعبه وريه وروثه وبوله في ميزانة يوم القيامة يعني حسنات » ( ق ) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما أحد يدخل الجنة فيحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلاّ الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة وفي رواية لما يرى من فضل الشهادة » ( م ) عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يغفر للشهيد كل ذنب إلى الدين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما يجد الشهيد من مس القتل إلاّ كما يجد أحدكم من القرصة » أخرجه الترمذي؛ وللنسائي نحوه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته » أخرجه أبو داود : قوله عز وجل : { الذين استجابوا لله والرسول } الآية قال أكثر المفسرين أن أبا سفيان وأصحابه لمّا انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم وتلاوموا فقالوا : لا محمداً قتلتم ولا الكواكب أردفتم قتلتموهم حتى إذا لم يبق الشريد تركتموهم ارجعوا فاستأصلوهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من ألم الجراح والقرح الذي أصابهم يوم أحد وناد مناد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا يخرجن معنا أحد إلاّ من حضرنا بالأمس فكلمه جابر بن عبدالله فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال لي بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم فينصرفوا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبدالرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وعبدالله بن مسعود وحذيفة بن اليمان في سبعين رجلاً من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثماينة أميال ، ( ق ) عن عائشة في قوله الذين استجابوا الله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ، الذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم .(1/498)
قالت لعروة : يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف المشركون خاف أن يرجعوا فقال من يذهب في أثرهم فانتدب منهم سبعون رجلاً كان فيهم أبو بكر والزبير قال : فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم الخزاعي بحمراء الأسد كانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئاً كان بها ومعبد يومئذٍ مشرك فقال يا محمد والله لقد عز وعلينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله كان قد أعفاك فيهم . ثم خرج معبد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا قد أصبنا جل أصحابه وقادتهم لنكرن على بقيتهم ولنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبداً قال له : ما وراءك يا معبد قال محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قد يتحرقون عليكم تحرقاً وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم ، وفيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط قال أبو سفيان : ويلك ما تقول؟ قال : والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل قال فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم فقال والله إني أنهاك عن ذلك فوالله لقد حملني ما رأيت على إن قلت أبياتاً قال وما قلت قال قلت :
كادت تهدي من الأصوات راحلتي ... إذ سألت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل
فقلت ويل ابن حرب من لقائكمو ... إذا تغطغطت البطحاء بالخيل
إني نذير لأهل السبل ضاحية ... لكل ذي أربة منهم ومعقول
من جيش احمد لا وحش يقابله ... وليس يوصف ما أنذرت بالفيل
قالوا فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ومر ركب من عبد القيس فقال : أين تريدون؟ قولوا نريد المدينة لأجل الميرة قال : فهل أنتم مبلغون عنا محمداً رسالة وأحمل لكم إبلكم زبيباً بعكاظ إذا وفيتموها قالوا : نعم إذا وافيتموه فأخبروه إنا أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم وانصرف أبو سفيان إلى مكة ومر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه : « حسبنا الله ونعم الوكيل » ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة بعد ثالثة وقال مجاهد وعكرمة نزلت هذه الآية في غزوة بدر الصغرى وذلك أن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بيننا وبينك إن شاء الله فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل بمجنة من ناحية مر الظهران ثم ألقي الله الرعب في قلبه فبدى له الرجوع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال له أبو سفيان : يا نعيم إني قد واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم الصغرى وهذا عام جدب ولا يصلحنا إلاّ عام نرعى فيه الشجر ونشرب اللبن ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيذهم ذلك جراءة ولا أن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي فألحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنا في جمع كثير لا طاقة لهم بنا ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يد سهيل بن عمرو ويضمنها لك قال وجاء سهيل فقاله له نعيم : يا أبا يزيد أتضمن لي هذه القلائص وانطلق إلى محمد فاثبته قال : نعم ، قال : فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال نعيم : أين تريدون؟ قالوا : واعدنا أبا سفيان أن نلتقي بموسم بدر الصغرى فقال نعيم بئس الرأي رأيتم أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلاّ الشريد أفتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم عند الموسم والله لا يفلت منكم أحد فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج فقال رسول الله صلىلله عليه وسلم :(1/499)
« والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي فأما الجبان فإنه رجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل » فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى وافوا بدر الصغرى وكانوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون بذلك أن يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون حسبنا الله ونعم الوكيل . حتى بلغوا بدر الصغرى وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبا سفيان من مجنة إلى مكة فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحداً من المشركين ووافوا السوق وكان معهم تجارات ونفقات فباعوا فأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين فذلك قوله تعالى الذين استجابوا لله والرسول أي أجابوا الله وأطاعوه في جميع أوامره وأطاعوا الرسول أيضاً { من بعدما أصابهم القرح } يعني من بعد ما نالهم من ألم الجراح { للذين أحسنوا منهم واتقوا } يعني أحسنوا بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجابوه إلى الغزو واتقوا معصيته والتخلف عنه { أجر عظيم } يعني لهم ثواب جزيل وهو الجنة .(1/500)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
قوله عز وجل : { الذين قال لهم الناس } هذه الآية متعلقة بالآية التي قبلها لأن المراد بالذين من تقدم ذكره وهم الذين استجابوا لله والرسول وفي المراد بالناس وجوه أحدها : أنه نعيم بن مسعود الأشجعي فيكون اللفظ عاماً أريد به الخاص وإنما جاز إطلاق لفظ الناس على الإنسان الواحد لأن ذلك الواحد إذا فعل فعلاً أو قال قولاً ورضي به غيره حسن إضافة ذلك الفعل والقول إلى الجماعة وإن كان الفاعل واحداً فهو كقوله تعالى : { وإذ قتلتم نفساً } والقاتل واحد والوجه الثاني أن المراد بالناس الركب من عبد القيس قاله ابن عباس ومحمد بن إسحاق . الوجه الثالث أن المراد بالناس المنافقون وذلك أنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يتجهز لميعاد أبي سفيان نهوا أصحابه عن الخروج معه وقالوا لهم أن القوم قد أتوكم في دياركم فقتلوا الأكثر منكم فإن خرجتم إليهم لم يبق أحد منكم { إن الناس } يعني أبا سفيان وأصحابه من رؤساء المشركين { قد جمعوا لكم } يعني الجموع الكثيرة لأن العرب تسمى الجيش جمعاً ويجمعونه جموعاً { فاخشوهم } أي فخافوهم واحذروهم فإنه لا طاقة لكم بهم { فزادهم إيماناً } يعني فزاد المسلمين ذلك التخويف تصديقاً ويقيناً وقوة في دينهم وثبوتاً على نصر نبيهم صلى الله عليه وسلم وفي هذه الآية دليل لمن يقول بزيادة الإيمان ونقصانه لأن الله تعالى نص على وقوع الزيادة في الإيمان { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } أي كافينا الله هو يكفينا أمرهم فهو كقول امرئ القيس . وحسبك من غني شبع . وروي أي يكفيك الشبع والري ونعم الوكيل يعني ونعم الموكول إليه في الأمور كلها وقيل الوكيل هو الكافي يكفينا الله ونعم الكافي هو . وقيل الوكيل هو الكفيل ووكيل الرجل في ماله هو الذي كفله وقام به والوكيل في صفة الله تعالى هو الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم وأنه الذي يستقل بأمورهم كلها ( خ ) عن ابن عباس قال في قوله تعالى : { إن الناس قد جمعوا لكم } إلى قوله { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم . قوله تعالى : { فانقلبوا } أي فانصرفوا ورجعوا بعد خروجهم والمعنى وخرجوا فانقلبوا فحذف الخروج لأن الانقلاب يدل عليه { بنعمة من الله } أي بعافية لم يلقوا عدواً { وفضل } أي تجارة وربح وهو ما أصابوا في سوق بدر من الربح وقيل النعمة منافع الدنيا والفضل ثواب الآخرة { لم يمسسهم سوء } أي لم يصيبهم أذى ولا مكروه من قتل وجراح { واتبعوا رضوان الله } يعني في طاعة الله وطاعة رسوله وقيل إنهم قالوا هل يكون هذا غزواً فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم بمجرد خروجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { والله ذو فضل عظيم } يعني أنه تعالى تفضل عليهم بالتوفيق لما فعلوا وقيل تفضل عليهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين حتى رجعوا .(2/1)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
قوله عز وجل : { وإنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } يعني إنما ذلكم المخوف والمثبط هو الشيطان يخوف بالوسوسة بأن ألقى ذلك في أفواههم ليرهبوا المؤمنين ويخوفوهم ويجبنوهم قوله أولياءه يعني الشيطان يخوفكم يا معشر المؤمنين بأوليائه . وقيل معناه أولياءه في صدوركم لتخافوهم وقيل معناه يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين وأولياء الشيطان هم الكفار والمنافقون الذين يطيعونه ويؤثرون أمره وأولياء الله هم المؤمنون الذين لا يخافون الشيطان إذا خوفهم ولا يطيعونه إذا أمرهم { فلا تخافوهم } يعني فلا تخافوا أولياء الشيطان ولا تقعدوا عن قتلهم ولا تجبنوا عنهم { وخافون } أي فجاهدوا في سبيلي مع رسولي فإني وليكم وناصركم { إن كنتم مؤمنين } أي مصدقين بوعدي إني متكفل لكم بالنصر والظفر . قوله تعالى : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } قيل هم كفار قريش وقيل هم المنافقون ورؤساء اليهود وقيل هم كفار قريش وقيل هم المنافقون ورؤساء اليهود وقيل هم قوم ارتدوا عن الإسلام والمعنى ولا يحزنك يا محمد من يسارع في الكفر ويجمع الجموع لمحاربتك فإن هذا المقصود لا يحصل له وقيل مسارعتهم في الكفر ومظاهرتهم الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى يسارعون في نصرة الكفر فلا يحزنك فعلهم فإنك منصور عليهم { إنهم لن يضروا الله شيئاً } يعني بمسارعتهم في الكفر إنما يضرون أنفسهم بذلك وقيل معناه لن يضروا أولياء الله شيئاً { يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة } يعني لا يجعل لهم نصيباً في ثواب الآخرة فلذلك خذلهم حتى سارعوا في الكفر . وفي الآية دليل على أن الخير والشرّ بإرادة الله تعالى وفيه رد على القدرية والمعتزلة { ولهم عذاب عظيم } يعني في الآخرة { إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان } يعني المنافقين آمنوا ثم كفروا والمعنى أنهم استبدلوا الكفر بالإيمان فكأنهم أعطوا الإيمان وأخذوا الكفر كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلاً عنه { لن يضروا الله شيئاً } يعني باستبدالهم الكفر وإنما ضروا أنفسهم بذلك { ولهم عذاب أليم } يعني في الآخرة .
قوله عز وجل : { ولا يحسبن الذين كفروا } قرئ تحسبن بالتاء والياء فمن قرأ بالتاء فمعناه ولا تحسبن يا محمد إملاءنا للكفار خير لأنفسهم ومن قرأ بالياء قال : معناه ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيراً نزلت في مشركي مكة وقيل نزلت في يهود بني قريظة والنضير { أنما نملي لهم } الإملاء الإمهال والتأخير وأصله من الملوءة وهي المدة من الزمان والمعنى ولا يظنن الذين كفروا إن أمهالنا إياهم بطول العمر والإنساء في الأجل { خير لأنفسهم } ثم قال تعالى : { أنما نملي لهم } ليزدادوا إثماً يعني إنما نمهلهم ونؤخر في آجالهم ليزدادا إثماً { ولهم عذاب مهين } يعني في الآخرة روى البغوي بسنده عن عبدالرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ الناس خير؟ قال : من طال عمره وحسن عمله قيل فأيّ الناس شرّ؟ قال : من طال عمره وساء عمله وروى ابن جرير الطبري بسنده عن الأسود قال : قال عبدالله : ما من نفس برة ولا فاجرة إلاّ والموت خير لها .(2/2)
وقرأ : { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } وقرأ { نزلاً من عند الله وما عند الله خير للأبرار } وقال ابن الأنباري قال جماعة من أهل العلم أنزل الله عز وجل هذه الآية في قوم يعاندون الحق سبق في علمه أنهم لا يؤمنون فقال إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً بمعاندتهم الحق وخلافهم الرسول وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله لخلقه ثم تلا هذه الآية وقال الزجاج هؤلاء قوم أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم لا يؤمنون أبداً وأن نفاقهم يزيدهم كفراً وإثماً وهذه الآية حجة ظاهرة على القدرية حيث أخبر الله تعالى أنه يطيل أعمار قوم ويمهلهم ليزدادوا كفراً وإثماً وغياً .(2/3)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
قوله تعالى : { ما كان الله لينذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية فقال الكلبي قالت قريش يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان وإن من أطاعك وتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال السدي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عرضت على أمتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر بي » فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء زغم محمداً أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ونحن معه وما يعرفنا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : « ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلاّ نبأتكم به » فقام عبدالله بن حذافة السهمي فقال من أبي يا رسول الله فقال حذافة فقام عمر فقال يا رسول الله رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبك نبيّاً فاعفُ عنا عفا الله عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم « فهل أنتم منتهون فهل أنتم منتهون » ثم نزل عن المنبر فأنزل الله هذه الآية . وقيل إن المؤمنين سألوا أن يعطوا آية يفرقون بها بين المؤمن والكافر فنزلت هذه الآية وقيل إن قوماً من المنافقين ادعوا أن إيمانهم كإيمان المؤمنين فأظهر الله نفاقهم يوم أحد وأنزل هذه الآية واختلفوا في معنى الآية وحكمها فقال ابن عباس وأكثر المفسرين الخطاب للكفار والمنافقين والمعنى ما كان ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه يا معشر الكفار والمنافقين من الكفر والنفاق حتى يميز الخبيث من الطيب وقيل الخطاب للمؤمنين والمعنى ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق والتباس بعضهم ببعض حتى يميز الخبيث من الطيب يعني المنافق من المؤمن الخالص فيميز الله المؤمنين من المنافقين يوم أحد فأظهر المنافقون النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : إنما حصل التميز يوم أحد بإلقاء الجميع في الخوف والقتل والهزيمة فمن كان مؤمناً ثبت على إيمانه وتصديقه ولم يتزلزل ومن كان منافقاً ظهر نفاقه وكفره وقيل في معنى الآية حتى يميز المؤمن من الكافر بالجهاد والهجرة . وقيل في معنى الآية ما كان الله ليذر المؤمنين في أصلاب الرجال المشركين وأرحام النساء المشركات . والمعنى ما كان الله ليدع أولادكم الذين جرى لهم الحكم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يميز الخبيث من الطيب يعني يفرق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين فيحكم لأهل الإيمان بالجنة ولأهل الشرك والكفر والنفاق بالنار { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } الخطاب في قوله ليطلعكم لكفار قريش الذين قالوا يا محمد أخبرنا عمن يؤمن بك ومن لا يؤمن والمعنى وما كان الله ليبين لكم أيها الكفار المؤمن من الكافر فيقول فلان مؤمن وفلان كافر أو منافق لأنه لا يعلم الغيب أحد غيره وإن سنة الله جارية أنه لا يطلع على غيبة أحاد الناس فلا سبيل إلى معرفة المؤمن من الكافر والمنافق إلاّ بالامتحان بالآفات والمصائب فيتميز المؤمن المخلص بثباته على إيمانه ويتزلزل المنافق عن المحن والبلايا .(2/4)
وقيل في معنى الآية وما كان الله ليطلع محمداً على الغيب فيخبركم بالمؤمن من الكافر { ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } يعني ولكن الله يصطفى ويختار من رسله من يشاء فيطلعه على ما يشاء من غيبه { فآمنوا بالله ورسله } يعني أنه لما قالت الدلائل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلاّ الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وإنما قال ورسله على الجمع ولم يقل ورسوله على التوحيد لقوله ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ولأنه إذا أقر بجميع الرسل كان مقراً بأحدهم وهذه صفة المؤمنين لأنهم آمنوا بجميع الرسل { وإن تؤمنوا وتتقوا } يعني وأن تصدقوا أجتبيته برسالتي واطلعته على ما أشاء من غيبي وأعلمته بالمنافق منكم والمؤمن المخلص وتتقوا ربكم فيما أمركم به ونهاكم عنه { فلكم أجر عظيم } يعني فلكم بأيمانكم واتقائكم ثواب جزيل وهو الجنة .(2/5)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
قوله عز وجل : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم } يعني ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيراً لهم { بل هو } يعني البخل { شر لهم } والبخل هو إمساك المقتنيات عما لا يستحق حبسها عنه والبخيل هو الذي يكثر منه البخل والآية دالة على ذم البخل عن عبدالله بن عمر قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح » أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالفجور أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « خصلتان لا يجتمعان في مؤمن : البخل وسوء الخلق » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية فقال عبدالله بن مسعود وأبو هريرة وابن عباس في رواية أبي صالح عنه والشعبي ومجاهد نزلت هذه الآية في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم ووجه هذا القول أن أكثر العلماء ذهبوا إلى أن البخل عبارة عن منع الواجب وأن من منع التطوع لا يكون بخيلاً ويدل عليه الوعيد الشديد في سياق الآية . وهو قوله تعالى سيطوقون ما بخلوا به وهذا لا يكون إلاّ في ترك الواجب لا في التطوع وقال ابن عباس في رواية عطية عنه وابن جريج عن مجاهد أنها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وهذا القول هو اختيار الزجاج ووجه هذا القول أن البخل عبارة عن منع الخير والنفع ويدخل فيه العلم كما يقال بخل فلان بعلمه وصحح الطبري القول الأول واختياره وقوله { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق فإن حملنا معنى الآية على منع الزكاة والبخل بها فقد قال ابن مسعود وابن عباس يجعل ما منعه من الزكاة حية تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فرقه إلى قدمه ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من آتاه الله مالاً فلم يود زكاته مثل له يوم القيام شجاع أقوع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم أخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم » أخرجه البخاري قوله زبيبتان قيل هما النكتتان السودان فوق عيني الحية وقيل هما نقطتان يكتنفان فاها وقيل هما زبيبتان في شدقيها وقد جاء في الحديث تفسير لهزمتيه بأنهما شدقاه وقيل إنهما مضغتان في أصل الحنك وقيل هما منحنى اللحيين أسفل من الأذنين وكله متقارب . ( ق ) عن أبي ذر قال : انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال :(2/6)
« هم الأخسرون ورب الكعبة قال : فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال هم الأكثرون أموالاً إلاّ من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقيل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلاّ جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفذت أخراها عادت عليه أولادها حتى يقضي بين الناس » لفظ مسلم وفرقه البخاري ، بمعناه في موضعين . وقيل في معنى الآية أنه يجعل في أعناقهم أطواق من النار وقيل يكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به من أموالهم في الدنيا وإن حملنا تفسير البخل بالعلم وكتمانه فقد قال ابن عباس في قوله سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة أي يحملون وزره وإثمه فيكون على طريق التمثيل كما يقال قلدتك هذا الأمر وجعلته في عنقك وقيل يجعل في رقابهم طوق من نار ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من سئل علماً يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار » أخرجه الترمذي وفي رواية أبي داود « من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة » قيل في معنى الحديث إنهم لما سألوا عن العلم فكتموه ولم ينطقوا به بألسنتهم ولم يخرجوه من أفواههم عوضوا عن ذلك بلجام من نار في أفواههم عقوبة لهم والله أعلم .
قوله تعالى : { ولله ميراث السموات والأرض } يعني أنه سبحانه وتعالى الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون وتبقى أملاكهم فيرثها سبحانه والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جميع المالكين ويبقى الملك لله تعالى وقيل في معنى الآية وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغير ذلك ذلك فما لهؤلاء البخلاء يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله { والله بما تعملون خبير } قرئ يعملون الياء على الغيبة على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد والمعنى والله بما يعملون يعني البخلاء من منعهم الحقوق خبير فيجازيهم عليهم وقرئ بالتاء على خطاب الحاضرين(2/7)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
قوله عز وجل : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } قال الحسن وقتادة لما نزلت هذه الآية من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً قالت اليهود إن الله فقير يستقرض منا ونحن أغنياء وذكر الحسن أن القائل هذه المقالة هو حيي بن أخطب وقال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناساً كثيراً قد اجتمعوا على فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له أسبيع فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة فآمن وصدق وأقرض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب . فقال فنحاص : يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض إلاّ الفقير من الغنى فإن كان ما تقول حقاً فإن الله إذاً فقير ونحن أغنياء فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ما حملك على ما صنعت فقال يا رسول الله إن هذا عدو الله قال قولاً عظيماً زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فغضبت لله وضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص فأنزل الله تصديقاً لأبي بكر وتكذيباً لفنحاص ورداً عليهم : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } وهذه المقالة وإن كانت قد صدرت من واحد من اليهود لكنهم يرضون بمقالته هذه فنسبت إلى جميعهم ولا يخلوا أن يكونوا قالوا هذه المقالة عن اعتقاد لذلك القول أو قالوها استهزاء وأيهما كان فهذه المقالة عظيمة القبح لا تصدر عن عاقل وإنما صدرت عن كافر متمرد في كفره وضلاله { سنكتب ما قالوا } يعني قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء لأن ذلك كذب وافتراء والمعنى سنحفظ عليهم ما قالوا وقيل : سنثبت ذلك القول في صحائف أعمالهم التي تكتبها الحفظة عليهم حتى يوافوا بها يوم القيامة فهو وعيد وتهديد لهم { وقتلهم الأنبياء بغير حق } قيل معناه سنكتب ما قال هؤلاء اليهود ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي كلا الفريقين بما هو أهله وإنما نسب قتل الأنبياء إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما فعله أسلافهم وأوائلهم لأنهم رضوا بفعلهم فنسب إليهم .(2/8)
وقيل في معنى الآية سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم ونكتب عليهم أيضاً رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء والفائدة في ضم قتلهم الأنبياء إلى ما وصفوا الله تعالى بالفقر الإعلام بذلك أنهما أخوان في العظم وإن هذا القول منهم ليس بأول ما ارتكبوه من العظائم وأنهم أصلاء في الكفر والجهل والضلال ولهم في ذلك سوابق ، وأن من قتل الأنبياء لا يبعد منه الإجتراء على مثل هذا القول العظيم الفحش والقبح { ونقول } يعني لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة { ذوقوا عذاب الحريق } أي ننتقم منهم بأن نقول لهم يوم القيامة ذوقوا عذاب الحريق كما أذقتم المسلمين الغصص في الدنيا { ذلك } أي ذلك العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم الله بالفقر وأقدمتم على قتل الأنبياء { بما قدمت أيديكم } إنما ذكر الأيدي على سبيل المجاز لأن الفاعل هو الإنسان لا اليد إلاّ أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل إليها ولأن أكثر الأعمال يكون باليد فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب { وأن الله ليس بظلام للعبيد } فيعذب بغير ذنب بل هو سبحانه وتعالى عادل ومن العدل أن يعاقب المسيء ويثبت المحسن .(2/9)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
قوله عز وجل : { الذين قالوا إن الله عهد إلينا } قال الكلبي نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن صيفي ووهب بن يهوذا وزيد بن تابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد تزعم أن الله بعثك إلينا رسولاً وأنزل عليك كتاباً وإن الله عهد في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار فإن جئتنا به صدقناك فأنزل الله تعالى { الذين قالوا } يعني قد سمع الله قول الذين { إن الله عهد إلينا } يعني أمرنا وأوصاناً في كتبه { أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } يعني فيكون ذلك دليلاً على صدقه . وذكر الواحدي عن السدي أنه قال إن الله تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار . حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان . زاد غير الواحدي عنه قال : وكانت هذه العادة باقية فيهم إلى مبعث المسيح عليه السلام ثم ارتفعت وزالت وقيل إن ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة وهو من كذب اليهود وتحريفهم ويدل على ذلك أن المقصود في الدلالة على صدق النبي هو ظهور المعجزة الخارقة للعادة فأي معجزة أتى بها النبي قبلت منه وكانت دليلاً على صدقه . وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه فوجب على كافة الخلق اتباعه وتصديقه والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل من أعمال البر من نسك وصدقة وذبح وكل عمل صالح ، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم الصوم جنة والصلاة قربان يعني انها مما يتقرب بها إلى الله عز وجل . وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل وكانوا إذا قربوا قرباناً أو غنموا غنيمة جمعوا ذلك وجاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي حفيف فتأكل ذلك القربان أو الغنيمة وتحرقه فيكون ذلك دليلاً وعلامه على القبول وإذا لم يقبل بقي على حاله ولم تنزل نار . وقال عطاء كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت والسقف مكشوف فيقوم نبيهم عليه السلام في البيت ويناجي ربه عز وجل وبنو إسرائيل خارجون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف ولا دخان لها فتأكل ذلك القربان ثم قال الله عز وجل مجيباً عن هذه الشبهة التي ذكرها هؤلاء اليهود وإقامة للحجة عليهم { قل } يعني قل يا محمد لهؤلاء اليهود { قد جاءكم } يا معشر اليهود { رسل من قبلي } يعني مثل زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام { بالبينات } يعني بالدلات الواضحات الدالة على صدقهم { وبالذي قلتم } يعني ما طلبوا من القربان { فلم قتلتموهم } عني فلم قتلتم الأنبياء الذين أوتوا بنا طلبتمم منهم مثل زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء وأراد بذلك فعل أسلافهم وإنما خاطب بذلك اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا راضين بفعل أسلافهم { إن كنتم صادقين } يعني في دعواكم ومعناه تكذيبهم إياك يا محمد مع علمهم بصدقك كقتل آبائهم الأنبياء مع إتيانهم بالقربان ثم قال تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم { فإن كذبوك } يعني هؤلاء اليهود { فقد كذب رسل من قبلك } يعني مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم من الرسل { جاؤو بالبينات } يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات { والزبر } أي الكتب واحدها زبور وكل كتاب فيه حكمة فهو زبور وأصله من الزبر وهو الزجر وسمي الكتاب الذي فيه الحكمة زبوراً لأنه يزبر عن الباطل ويدعو إلى الحق { والكتاب المنير } أي الواضح المضيء وإنما عطف الكتاب المنير على الزبر لشرفه وفضله وقيل أراد بالزبر الصحف وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل .(2/10)
قوله عز وجل : { كل نفس ذائقة الموت } يعني أن كل نفس مخلوقة ذائقة الموت ولا بد لها منه . قيل لما نزل { قل يتوفاكم ملك الموت } يا رسول الله إنما نزلت في بني آدم فأين ذكر الموت للجن والأنعام والوحوش والطير؟ فنزلت هذه الآية وقيل لما خلق الله آدم عليه السلام اشتكت الأرض إلى ربها عز وجل مما أخذ منها فوعدها أن يرد فيها ما أخذ منها فما أحد يموت إلاّ ويدفن في التربة التي خلق منها . فإن قلت الحور والولدان نفوس مخلوقة في الجنة لا تذوق الموت فما حكم لفظ كل في قوله كل نفس ذائقة الموت؟ قلت لفظة كل لا تقتضي الشمول والإحاطة بدليل قوله تعالى وأوتيت من كل شي ولم تؤت ملك سليمان فتكون الآية من العام المخصوص ويحتمل أن يكون المراد بهم المكلفين بدليل سياق الآية وهو قوله تعالى : { وإنما توفون أجوركم } يعني توفون جزاء أعمالكم { يوم القيامة } إن خيراً فخير وإن كان شراً فشر { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } يعني فمن نجا وأبعد من النار وأدخل الجنة فقد ظفر بالنجاة ونجا من الخوف { وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور } يعني أن العيش في هذه الدار الفانية يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء وسينقطع عن قريب فوصفت بأنها متاع الغرور لأنها تغر ببذل المحبوب . وتخيل للإنسان أنه يدوم وليس بدائم والمتاع كل ما استمتع به الإنسان من مال وغيره وقيل المتاع كالفارس والقدر والقصعة ونحوها والغرور ما يغر الإنسان مما لا يدوم وقيل الغرور الباطل .(2/11)
ومعنى الآية أن منفعة الإنسان بالدنيا كمنفعته بهذه الأشياء التي يستمتع بها ثم تزول عن قريب . وقيل متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم . قال سعيد بن جبير هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة فأما من اشتغل بطلب الآخرة فهي له متاع وبلاغ إلى ما هو منها ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل : « أعدت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر » واقرؤوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين . زاد الترمذي : « وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها » واقرؤوا إن شئتم : « وظل ممدود ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها » واقرؤوا إن شئتم : { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور } .(2/12)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
قوله عز وجل : { لتبلون } اللام لام القسم تقديره والله لتبلون أي لتختبرن فتوقع عليكم المحن ليعلم المؤمن من غيره والاختبار طلب المعرفة ليعرف الجيد من الرديء وذلك في وصف الله محال لأن الله تعالى عالم بحقائق الأشياء كلها قبل أن يخلقها فعلى هذا يكون معنى الاختبار في وصف الله تعالى أنه يعامل العبد معاملة المختبر { في أموالكم } يعني بالابتلاء في الأموال بالنقصان منها وقيل بأداء ما فرض فيها من الحقوق { وأنفسكم } يعني بالمصائب والأمراض والقتل وفقد الأقارب والعشائر خوطب بهذه الآية المسلمون ليوطنوا أنفسهم على احتمال الأذى وما سيلقون من الشدائد والمصائب ليصبروا على ذلك حتى إذ لقوها لقوها وهم مستعدون بالصبر لها لا يرهقهم ما يرهق غيرهم ممن تصيبه الشدة بغتة فينكرها ويشمئز منها { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً } قال عكرمة نزلت في أبي بكر الصديق وفنحاص بن عازوراء وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص سيد بني قينقاع يستمده وكتب إليه معه كتاباً وقال لأبي بكر : لا تفتأتن علي بشيء حتى ترجع فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف إلى فنحاص وأعطاه الكتاب فلما قرأه قال فنحاص قد احتاج ربك حتى نمده فهم أبو بكر أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تفتأتن علي بشيء حتى ترجع فنزلت الآية وقال الزهري نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وكعب بن الأشرف اليهودي وذلك أنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسب المسلمين ويحرض المشركين على قتالهم في شعره . ( ق ) عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله قال محمد بن مسلمة أتحب أن أقتله قال نعم قال ائذن لي فالأقل قال فأتاه فقال له وذكر ما بينهم وقال إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وقد عنانا فلما سمعه قال وأيضاً والله لتملنه قال إنا قد ابتعناه ونكره الآن أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره قال : وقد أردت أن تسلفني سلفاً قال فما ترهنني أترهنني نساءكم؟ قال أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا قال له ترهنون أولادكم قال يسب ابن أحدكم فيقال رهن في وسقين من تمر ولكن نرهنك اللأمة يعني السلاح قال : نعم . وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عيسى بن جبر وعباد بن بشر قال فجاؤا فدعوه ليلاً إليهم قالت امرأته إني لأسمع صوتاً كأنه صوت دم قال إنما هو محمد ورضيعي أبو نائلة أن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلاً لأجاب قال محمد : إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال فلما نزل نزل وهو متوشح فقالوا : نجد منك ريح الطيب قال : نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب قال فتأذن لي أن أشم منه قال نعم فتناول فشم ثم قال : أتأذن لي أن أعوذ فاستمكن من رأسه ثم قال دونكم فقتلوه »(2/13)
زاد في رواية ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه وزاد أصحاب السير والمغازي فاختلف عليهم أسيافهم فلم تغن شيئاً قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولاً في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا إلاّ وأوقدت عليه نار قال فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث ونزفه الدم فوقفنا له ساعة حتى أتانا يتبع آثارنا فحملناه وجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج علينا فأخبرناه بقتل كعب بن الأشرف وجئنا برأسه إليه وتفل على جرح صاحبنا فرجعنا إلى أهلنا وأصبحنا وقد خافت اليهود وقعتنا بعدو الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظفرتم به من رجال اليهود فاقتلوه وأنزل الله عز وجل في شأن الأشرف اليهودي { لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } يعني اليهود والنصارى { ومن الذين أشركوا } يعني مشركي العرب { أذى كثيراً } يعني بالأذى قول اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء وما أشبه ذلك من افترائهم وكذبهم على الله ورسوله وما كان كعب بن الأشرف يهجو به النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فهذا هو الأذى الكثير { وإن تصبروا وتتقوا } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين يعني وإن تصبروا على أذاهم وتتقوا فيما أمركم به ونهاكم عنه لأن الصبر عبارة عن احتمال الأذى والمكروه والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي { فإن ذلك من عزم الأمور } أي من صواب التدبير الذي لا شك أن الرشد فيه ولا ينبغي لعاقل تركه وأصله من قولك عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمتك أن تفعله لا محالة ولا تتركه وقيل معناه فإن ذلك مما قد عزم عليكم فعله أي ألزمتم الأخذ به .(2/14)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
قوله تعالى : { وإذ أخذ الله } أي واذكر يا محمد وقت إذ أخذ الله { ميثاق الذين أوتوا الكتاب } يعني اليهود والنصارى ، والمراد منهم العلماء خاصة وقيل المراد بالذين أوتوا العلماء والأحبار من اليهود خاصة وأخذ الميثاق هو التوكيد والإلزام لبيان ما أوتوه من الكتاب وهو قوله تعالى : { لتبيننه للناس } يعني لتبينن ما في الكتاب ولتظهرنه للناس حتى يعلموه وذلك أن الله أوجب على علماء التوراة والإنجيل أن يشرحوا للناس ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { ولا تكتمونه } يعني ولا يخفون ذلك عن الناس { فنبذوه } يعني الكتاب وقيل الميثاق { وراء ظهورهم } أي فطرحوه وضيعوه وتركوا العمل به { واشتروا به ثمناً قليلاً } يعني المآكل والرشا التي كانوا يأخذونها من عوامهم وسفلتهم { فبئس ما يشترون } ذمهم الله تعالى على فعلهم ذلك . واعلم أن ظاهر هذه الآية وإن كان مخصوصاً بعلماء أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فلا يبعد أن يدخل فيه علماء أن ظاهر هذه الأمة الإسلامية لأنهم أهل كتاب وهو القرآن وهو أشرف الكتب . قال قتادة : هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئاً فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة وقال أيضاً مثل علم لا يقال له كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم لا يأكل ولا يشرب وقال أيضاً طوبي لعالم ناطق ومستمع واعٍ هذا علم علماً فبذله وهذا سمع خيراً فقبله ووعاه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من سئل علماً يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار » أخرجه الترمذي ولأبي داود « من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة » وقال أبو هريرة لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الاية { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } الآية وقال الحسن بن عمارة أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت أريد أن تحدثني ، فقال : أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت : إما أن تحدثني وإما أن أحدثك قال : حدثني فقلت : حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخزار قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال : فحدثني أربعين حديثاً .
قوله عز وجل : { لا تحسبن الذين يفرحون } قرئ بالتاء على الخطاب أي لا تحسبن يا محمد الفارحين الذين يفرحون ، وقرئ بالياء على الغيبة يعني ولا يحسبن الفارحون والمعنى لا يحسبن الذين يفرحون فرحهم منجياً لهم من العذاب نزلت هذه الآية في المنافقين ( ق ) عن أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا له وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا { لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا } الآية وقيل نزلت في اليهود ( ق ) عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف أن مروان قال اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل لئن كان كل امرئ مما فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذبن أجمعون .(2/15)
قال ابن عباس : مالكم . ولهذه الآية إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب ثم تلا ابن عباس : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس } الآية وتلا ابن عباس : { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } وقال ابن عباس سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا إليه بذلك وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه { بما أتوا } يعني يفرحون بما فعلوا { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } أي ويحبون أن يحمدهم الناس على شيء لي يفعلوه قيل عنى بذلك قوماً من أحبار اليود كانوا يفرحون بأضلالهم الناس ونسبة الناس إياهم إلى العلم قال ابن عباس : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب إلى قوله ولهم عذاب أليم } يعني فنحاص وأسبيع وأشباههما من الأحبار الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا أي بقول الناس لهم علماء وليسوا بأهل علم . وقيل هم فرحوا باحتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم . وذلك أنهم كتبوا إلى يهود العراق والشام واليمن ومن يبلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها أن محمداً ليس ببني فاثبتوا على دينكم فاجتمعت كلمتهم على الكفر ففرحوا بذلك ، وقالوا : نحن أهل الصوم والصلاة وأحبوا أن يحمدوا على ذلك . وقيل فرحوا بما أوتوا من تبديلهم التوراة وأحبوا أن يحمدهم الناس على ذلك . وقيل أن يهود خيبر أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا نحن نعرفك ونصدقك وقالوا لأصحابه نحن على رأيكم نحن لكم ردء وليس ذلك في قلوبهم وأحبوا أن يحمدهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون على ذلك { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } أي فلا تظنهم بمنجاة من العذاب الذي أعده الله لهم في الدنيا من القتل والأسر وضرب الجزية والذلة والصغار { ولهم عذاب أليم } يعني في الآخرة وهذه الآية وإن كانت قد نزلت في اليهود أو المنافقين خاصة فإن حكمها عام في كل من أحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والصلاح أو ينسب إلى العلم وليس هو كذلك .(2/16)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
قوله عز وجل : { ولله ملك السموات والأرض } يعني أنه تعالى مالك لما فيهما جميعاً يتصرف فيه كيف يشاء وفيه تكذيب لمن قال إن الله فقير ونحن أغنياء يقول الله عز وجل : إن من له جميع ما حوته السموات والأرض من شيء كيف يكون فقيراً { والله على كل شيء قدير } يعني أنه تعالى قادر على تعجيل العقوبة لهم على ذلك القول لكنه تفضل على خلقه بإمهالهم . قوله عز وجل :
{ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } قال ابن عباس إن أهل مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية فنزلت هذه الآية والمعنى تفكروا واعتبروا أيها الناس فيما خلقته وأنشأته من السموات والأرض لمعاشكم وأرزاقكم وفيما عقبت من ذلك بين الليل والنهار ، واختلافهما في الطول والقصر ، فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم لكي تتصرفوا فيهما لمعاشكم تطبلون أرزاقكم في النهار وتسكنون في الليل لراحة أجسادكم ، فاعتبروا وتفكروا يا أولي الألباب يعني يا ذوي العقول الصافية . يعني الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال . والاعتبار لا ينظرون إليهما نظر البهائم غافلين عما فيهما من عجائب مخلوقاته وغرائب مبتدعاته ( ق ) عن ابن عباس أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين وهي خالته قال : فقلت : لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطرحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر آيات الخواتيم من سورة آل عمران . ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام يصلي . قال عبدالله بن عباس فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى إلى رأسي وأخذ بأذني ففتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر اضطجع حتى جاء المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح وفي رواية فقمت عن يساره فأخذني فجعلني عن يمينه وفي رواية قال بت في بيت خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الأخير قعد فنظر إلى السماء فقال : { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } ذكره .(2/17)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
قوله تعالى : { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } قال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وقتادة هذا في الصلاة . يعني الذين يصلون قياماً فإن عجزوا فقعوداً فإن عجزوا فعلى جنوبهم والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في حال من الأحوال بل يصلون في كل حال ( خ ) عن عمران بن حصين قال كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال : « صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب » أخرجه الترمذي . وقال فيه سألته عن صلاة المريض وذكره نحوه قال الشافعي رضي الله عنه إذا صلى المريض مضطجعاً وجب عليه أن يصلي على جنب ويومئ برأسه إيماء . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : بل يصلي مستلقياً على ظهره فإن وجد خفة قعد وحجة الشافعي ظاهر الآية وهو قوله تعالى وعلى جنوبهم وقوله صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين فإن لم تستطع فعلى جنب فنص على الجنب دون غيره . وقال أكثر المفسرين المراد به المداومة على الذكر في غالب الأحوال لأن الإنسان قل أن يخلو من إحدى هذه الثلاث حالات وهي : القيام والقعود وكونه نائماً على جنبه ( م ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله عز وجل في كل أحيانه وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ومن اضطجع مضطجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة وما مشى أحد ممشى لا يذكر الله فيه إلاّ كانت عليه من الله ترة » أخرجه أبو داود والترة النقص وقيل هي هنا التبعة .
وقوله تعالى : { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } أصل الفكر إعمال الخاطر في الشيء وتردد القلب في ذلك الشيء وهو قوة متطرفة للعلم إلى المعلوم والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل . ولا يمكن التفكر إلاّ فيما له صورة في القلب ولهذا قيل تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله إذ الله منزه أن يوصف بصورة . فلذلك أخبر عن عباده الصالحين بأنهم يتفكرون في خلق السموات والأرض وما أبدع الله فيهما من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى ويعلموا أن لهما خالقاً قادراً مدبراً حكيماً لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها سبحانه وتعالى كما قيل :
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وقيل : إن الفكر مقلوب عن الفرك لأن الفكر مستعمل في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلباً للوصول إلى حقيقتها .(2/18)
وقيل الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النماء وما جليت القلوب بمثل الأحزان ، ولا استنارت بمثل الفكرة { ربنا } أي ويقولون ربنا وقيل معناه ويتفكرون في خلق السموات والأرض قائلين ربنا { ما خلقت هذا باطلاً } يعني وهزلاً بل خلقته دليلاً على وحدانيتك وكمال قدرتك { سبحانك } تنزيهاً لك عن أن تخلق شيئاً عبثاً لغير حكمة { فقنا عذاب النار } يعني إنا قد صدقنا بوحدانيتك وإن لك جنة وناراً فقنا عذاب النار والمقصود من قوله سبحانك فقنا عذاب النار تعليم عباده كيفية الدعاء ويدل عليه قوله فقنا عذاب النار { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } أي أهنته وأذللته وقيل أهلكته وقيل فضحته وأبلغت في إيذائه والخزي ضرب من الاستخفاف أو انكسار يلحق الإنسان وهو الحياء المفرط . فإن قلت قد تمسكت المعتزلة بهذه الآية وقالوا قد أخبرنا الله أنه لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه فوجب أن كل من يدخل النار لا يكون مؤمناً لقوله إنك من تدخل النار فقد أخزيته والمؤمن لا يخزي . قلت قد ذكر العلماء في الجواب وجوهاً أحدها ما روي عن أنس في تفسير قوله تعالى إنك من تدخل النار فقد أخزيته قال من يخلده وروي نحوه عن سعيد بن المسيب قال هي خاصة لمن لا يخرج منها وهذا الجواب إنما يصح على مذهب أهل السنة الذين يرون إخراج الموحدين من النار أما على مذهب المعتزلة فلا يصح هذا الجواب لأن مذهبهم أن الفاسق مخلد في النار فهو داخل في قوله تعالى فقد أخزيته ، الوجه الثاني في الجواب ان المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها ومعنى الاية على هذا فقد أخزيته بدخوله فيها وتعذيبه بها ويدل على صحة هذا المعنى ما روي عن عمرو بن دينار قال قدم علينا جابر بن عبدالله في عمرة فانتهيت إليه أنا وعطاء فسألته عنه هذه الآية : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } فقال وما أخزاه حين أحرقه بالنار إن دون ذا لخزيا . وهذا الوجه هو اختيار ابن جرير الطبري لأن من أدخل النار فقد أخزي بدخوله إياها وإن خرج منها وذلك الخزي هو هتك المخزي وفضيحته . وقال ابن الأنباري حمل الآية على العموم أولى من نقلها إلى الخصوص إذ لا دليل عليه ، الوجه الثالث في الجواب ما قاله أهل المعاني وهو أن الخزي يحتمل معاني منها الإهانة والإهلاك الإبعاد . وهذا للكفار ومنها الإخجال يقال خزي خزاية إذا استحى وإذا عمل عملاً يستحيي منه ويخجل فيكون خزي المؤمن الذي يدخل النار الحياء من المؤمنين بدخوله النار إلى أن يخرج منها . وخزي الكافر والهلاك بالخلود في النار وحاصل هذا الجواب أن لفظ الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك .(2/19)
واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي الإثبات على معنييه جميعاً وهذا يسقط الاستدلال ، الوجه الرابع في الجواب وهو الذي اختاره الفخر الرازي وصححه أن قوله تعالى : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقاً وإنما يقتضي أن لا يحصل الإخزاء حال ما يكونون مع النبي وهذا النفي لا يناقضه إثبات الإخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الإثبات في وقت آخر والله أعلم وقوله تعالى { وما للظالمين } يعني المشركين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها { من أنصار } يعني ينصرونهم يوم القيامة ويمنعونهم من العذاب .(2/20)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
قوله عز وجل : { ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان } قال ابن وأكثر المفسرين المنادي هو محمد صلى الله عليه وسلم ويدل على صحة هذا قوله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } وقوله : { وداعياً إلى الله بإذنه } وقال محمد بن كعب القرظي المنادي هو القرآن قال إذ ليس كل أحد لقي النبي صلى الله عليه وسلم ووجه هذا لقول أن كل أحد يسمع القرآن ويفهمه فإذا وفقه الله تعالى للإيمان به فقد فاز به . وذلك لأن القرآن مشتمل على الرشد والهدى وأنواع الدلائل الدالة على الوحدانية فصار كالداعي إليها واللام في للإيمان بمعنى إلى يعني ينادي إلى الإيمان { أن آمنوا بربكم فآمنا } أي فصدقنا { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } أي كبائر ذنوبنا { وكفر عنا سيئاتنا } أي صغائر ذنوبنا وقيل أن الغفر هو الستر والتغطية وكذلك التفكير فهماً بمعنى واحد وإنما ذكرهما للتأكيد لأن الإلحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب إليه وقيل معناه اغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا في المستقبل وقيل يريد بالغفران ما يزول بالتوبة من الذنوب وبالتفكير ما يكفر بالطاعات من الذنوب { وتوفنا مع الأبرار } يعني في جملتهم وزمرتهم والأبرار هم الأنبياء والصالحون والمعنى توفنا على مثل أعمالهم حتى نكون في درجتهم يوم القيامة وقيل توفنا في جملة أتباعهم وأشياعهم { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } يعني على ألسنة رسلك وقيل معناه وآتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك . فإن قلت كيف سألوا الله إنجاز ما وعد الله لا يخلف المعياد . قلت معناه أنهم طلبوا من الله تعالى التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد . وقيل هو من باب اللجأ إلى الله تعالى والتذلل له وإظهار الخضوع والعبودية . كما أن الأنبياء عليهم السلام يستغفرون الله مع علمهم أنهم مغفرون لهم يقصدون بذلك التذلل لربهم سبحانه وتعالى والتضرع إليه واللجأ إليه الذي هو سيما العبودية . وقيل معناه ربنا واجعلنا ممن يستحق ثوابك وتؤتيهم ما وعدتهم على ألسنة رسلك لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة فسألوه ان يجعلهم مستحقين لها . وقيل إنما سألوه تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء وقالوا قد علمنا أنك لا تخلف الميعاد ولكن لا صبر لنا على حلمك فعجل هلاكهم وانصرنا عليهم { ولا تخزنا يوم القيامة } يعني ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنا في ذلك اليوم فإن قلت قوله وآتنا ما وعدتنا على رسلك يدل على طلب الثواب ومتى حصل الثواب اندفع العقاب لا محالة فما معنى قوله ولا تخزنا وهو طلب دفع العقاب عنهمم قلت المقصود من الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن فعل المعصية كأنهم قالوا وفقنا للطاعات وإذا وفقنا لها فاعصمنا عن فعل ما يبطلها ويوقعنا في الخزي وهو الهلاك ويحتمل أن يكون قوله ولا تخزنا يوم القيامة سبباً لقوله تعالى :(2/21)
{ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } فإنه ربما يظن الإنسان أنه على عمل صالح فإذا كان يوم القيامة ظهر أنه على غير ما يظن فيحصل الخجل والحسرة والندامة في موقف فسألوا الله تعالى أن يزيل ذلك عنهم فقالوا { ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد } .
قوله تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } يعني أجاب دعاءهم وأعطاهم ما سألوه { أني } أي وقال لهم أني { لا أضيع عمل عامل منكم } يعني لا أحبط عملكم أيها المؤمنون بل أثيبمك عليه { من ذكر أو أثنى } يعني لا أضيع عمل عامل منكم ذكراً أو أنثى عن أم سلمة قالت قلت يا رسول الله ما أسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى : { أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض إلى - والله عنده حسن الثواب } أخرجه الترمذي وغيره .
وقوله تعالى : { بعضكم من بعض } يعني في الدين والنصرة والموالاة . وقيل كلكم من آدم وحواء وقيل بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية فهو كما يقال : فلان يعني على خلقي وسيرتي وقيل إن الرجال والنساء في الطاعة على شكل واحد { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي } يعني المهاجرين الذين هجروا أوطانهم وأهليهم وأذاهم المشركون بسبب إسلامهم ومتابعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا مهاجرين إلى الله ورسوله وتركوا أوطانهم وعشائرهم لله ورسوله ومعنى { في سبيلي } في طاعتي وديني وابتغاء مرضاتي وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة فهاجر طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد هجرته فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة رجع إليه من كان هاجر إلى الحبشة من المسلمين { وقاتلوا وقتلوا } يعني وقاتلوا العدو واستشهدوا في جهاد الكفار { لأكفرن عنهم سيئاتهم } يعني لأمحون عنهم ذنوبهم ولأغفرنها لهم { ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله } يعني ذلك الذي أعطاهم من تكفير سيئاتهم وإدخالهم الجنة ثواباً من فضل الله وإحسانه إليهم { والله عنده حسن الثواب } وهذا تأكيد لكون ذلك الثواب الذي أعطاهم من فضله وكرمه لأنه جواد كريم روى ابن جرير الطبري بسنده عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن أول ثلة تدخل الجنة فقراء المهاجرين الذين يتقى بهم المكاره إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تقض له حتى يموت وهي في صدره » فإن الله عز وجل يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي ، ادخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك؛ من هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول الرب عز وجل : هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار .(2/22)
قال بعضهم في هذه الاية تعليم من الله تعالى لعباده كيف يدعى وكيف يبتهل إليه ويتضرع وتكرير ربنا من باب الابتهال وإعلام بما يوجب حسن الإجابة . وقال جعفر الصادق من حزبه أمر فقال خمس مرات : ربنا نجّاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الاية وقال الحسن حكى الله عنهم أنهم قالوا خمس مرات ربنا ثم أخبر أنه استجاب لهم .(2/23)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
قوله عز وجل : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } نزلت في المشركين وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله فيما نرى من الخير ونحن في الجهد فأنزل الله تعالى هذه الآية لا يغرنك الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره من الأمة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يغتر قط والمعنى لا يغرنك أيها السامع تقلب الذين كفروا في البلاد يعني ضربهم في الأرض وتصرفهم في البلاد للتجارات وطلب الأرباح والمكاسب { متاع قليل } أي ذلك متاع قليل وبلغة فانية ونعمة زائلة { ثم مأواهم } يعني مصيرهم في الآخرة { جهنم وبئس المصير } أي وبئس الفراش هي : قوله تعالى : { لكن الذين اتقوا ربهم } فيما أمرهم به من العمل بطاعته واتباع مرضاته واجتناب ما نهاهم عنه من معاصيه { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً } أي جزاء وثواباً والنزل ما يهيأ للضيف عند قدومه { من عند الله } يعني من فضل الله وكرمه وإحسانه { وما عند الله } يعني من الخير والكرامة والنعيم الدائم الذي لا ينقطع { خير للأبرار } يعني ذلك الفضل والنعمة التي أعدها الله للمطيعين الأبرار خير مما يتقلّب فيه هؤلاء الكفار من نعيم الدنيا ومتاعها فإنه قليل زائل ( ق ) عن عمر بن الخطاب قال : جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو في مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجليه قرظ مصبور وعند رأسه أهب معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال : ما يبكيك؟ قلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم وأنت رسول الله فقال أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة . لفظ البخاري المشربة الغرفة والعلية والمشارب العلالي .(2/24)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
قوله عز وجل : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم } قال ابن عباس نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة ومعناه بالعربية عطية وذلك إنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم النجاشي . فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي فصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدقوه . وقيل نزلت في عبدالله بن سلام وأصحابه الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقيل نزلت في جميع مؤمني أهل الكتاب وهذا القول أولى لأنه لما ذكر أحوال الكفار وأحوال أهل الكتاب وأن مصيرهم إلى النار ذكر حال من آمن من أهل الكتاب وأن مصيرهم إلى الجنة فقال تعالى : { وإن من أهل الكتاب } يعني بعض اليهود والنصارى أهل التوراة والإنجيل لمن يؤمن بالله يعني من يقر بوحدانية الله وما أنزل إليكم يعني ويؤمن بما أنزل إليكم أيها المؤمنون يعني القرآن وما أنزل إليهم يعني من الكتب المنزلة مثل التوراة والإنجيل والزبور { خاشعين لله } يعني خاضعين لله متواضعين له غير مستكبرين { لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً } يعني لا يغيرون كتبهم ولا يحرفونها ولا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الرياسة والمأكل والرشى كا يفعله غيرهم من رؤساء اليهود { أولئك } إشارة إلى أن من هذه صفته من أهل الكتاب { لهم أجرهم عند ربهم } يعني لهم ثواب أعمالهم التي عملوها لله ذلك الثواب لهم ذخر عند الله يوفيه إليهم يوم القيامة { إن الله سريع الحساب } يعني إنه تعالى عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده فيجازي كل أحد على قدر عمله لأنه سريع الحساب قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا } يعني على دينكم الذي أنتم عليه ولا تدعوه لشدة ولا لغيرها وأصل الصبر حبس النفس عما لا يقتضيه شرع ولا عقل . والصبر لفظ عام تحته أنواع من المعاني قال بعض الحكماء : الصبر على ثلاثة أقسام ترك الشكوى وقبول القضاء وصدق الرضا . وقيل في معنى الآية اصبروا على طاعة الله وقيل على أداء الفرائض وقيل على تلاوة القرآن وقيل اصبروا على أمر الله وقيل اصبروا على البلاء وقيل اصبروا على الجهاد وقيل اصبروا على أحكام الكتاب والسنة { وصابروا } يعني الكفار والأعداء وجاهدوهم .(2/25)
{ ورابطوا } يعني وداموا على جهاد المشركين واثبتوا عليه . وأصل المرابطة أن يربط هؤلاء خيولهم . وهؤلاء خيولهم ، بحيث يكون كل من الخصمين مستعداً لقتال الآخر . ثم قيل لكل مقيم بثغر يدفع عمن وراءه مرابط ، وإن لم يكن له مركب مربوط ( ق ) عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما عليها » ( م ) عن سلمان الخير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه وأمن الفتان » وقيل المراد بالمرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة قال أبو سلمة بن عبدالرحمن : لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة خلف ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة . فذلكم الرباط فذلكم الرباط » أخرجه مسلم { واتقوا الله لعلكم تفلحون } قال محمد بن كعب القرظي يقول الله عز وجل : « واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون » غداً إذا لقيتموني وقال أهل المعاني في معنى هذه الآية يا أيها الذين آمنوا اصبروا على بلائي وصابروا على نعمائي ورابطوا على مجاهدة أعدائي واتقوا محبة سوائي لعلكم تفلحون بلقائي وقيل اصبروا على النعماء وصابروا على البأساء الضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء وقيل اصبروا على الدنيا ومحنها رجاء السلامة وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة ورابطوا على مجاهدة النفس اللوامة واتقوا الندامة لعلكم تفلحون غداً في دار الكرامة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .(2/26)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
قوله عز وجل : { يا أيها الناس } خطاب للكافة فهو كقوله يا بني آدم { اتقوا ربكم } أي احذروا أمر ربكم أن تخالفوه فميا أمركم به أو نهاكم عنه ثم وصف نفسه بكمال القدرة فقال تعالى { الذي خلقكم من نفس واحدة } يعني من أصل واحد وهو آدم أبو البشر عليه السلام وإنما أنث الوصف على لفظ النفس وإن كان المراد به الذكر فهو كما قال بعضهم :
أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال
فإنما قال ولدته أخرى لتأنيث { وخلق منها زوجها } يعني حواء وذلك أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام ألقى عليه النوم ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى ، وهو قصير . فلما استيقظ رآها جالسة عند رأسه فقال لها : من أنت؟ قال : امرأة قال : لماذا خلقت قالت خلقت لتسكن إليّ فمال إليها وألفها لأنها خلقت منه واختلفوا في أي وقت خلقت حواء . فقال كعب الأحبار ووهب وابن إسحاق خلقت قبل دخوله الجنة وقال ابن مسعود وابن عباس إنما خلقت في الجنة بعد دخوله إياها { وبث منهما } يعني نشر وأظهر من آدم وحواء { رجالاً كثيراً ونساء } إنما وصف الرجال بالكثرة دون النساء لأن حال الرجال أتم وأكمل وهذا كالتنبيه عن أن اللائق بحال الرجال الظهور والاستشهار وبحال النساء الاختفاء والخمول { واتقوا الله الذي تساءلون به } إنما كرر التقوى للتأكيد وأنه أهل أن يتقى والتساؤل بالله هو كقولك أسألك بالله واحلف عليك بالله واستشفع إليك بالله { والأرحام } قرئ بفتح الميم ومعناه واتقوا الأرحام أن تقطعوها وقرئ بكسر الميم فهو كقولك سألتك بالله وبالرحم وناشدتك بالله وبالرحم لأن العرب كان من عادتهم أن يقولوا ذلك والرحم القرابة . وإنما استعير اسم الرحم للقرابة لأنهم خرجوا من رحم واحدة وقيل هو مشتق من الرحمة لأن القرابة يتراحمون ويعطف بعضهم على بعض . وفي الآية دليل على تعظيم حق الرحم والنهي عن قطعها ويدل على ذلك أيضاً الأحاديث الواردة في ذلك ( ق ) عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله » ( ق ) عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من سره أن يبسط عليه من رزقه وينسأ في أثره فليصل رحمه » قوله وينسأ في أثره أي يؤخر له في أجله . ( ق ) عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يدخل الجنة قاطع » قال سفيان في روايته يعني قاطع رحم وعن الحسن قال من سألك بالله فأعطه ومن سألك بالرحم فأعطه وعن ابن عباس قال : الرحم معلقة بالعرش فإذا أتاها الواصل بشت به وكلمته وإذا أتاها القاطع احتجبت عنه { إن الله كان عليكم رقيباً } يعني حافظاً والرقيب في صفة الله تعالى هو الذي لا يغفل عما خلق فليحقه نقص ويدخل عليه خلل وقيل هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء من أمر خلقه فبيّن بقوله : { إن الله كان عليكم رقيباً } إنه يعلم السر وأخفى ، وإذا كان كذلك فهو جدير بأن يخاف ويتقى .(2/27)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
قوله عز وجل : { وآتوا اليتامى أموالهم } نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم كان في حجره فلما بلغ اليتيم طلب المال الذي له فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فلما سمعها العم قال : « أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير ودفع إلى اليتيم ماله » فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره » يعني جنته فلما قبض الصبي أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ثبت الأجر وبقي الوزر فقالوا كيف ثبت الأجر وبقي الوزر؟ قال ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على أبيه » والخطاب في قوله تعالى { وآتوا } خطاب للأولياء والأوصياء واليتامى جمع يتيم وهو الصبي وصار الذي مات أبوه واليتيم في اللغة الانفراد ومن الدرة اليتيمة لانفرادها واسم اليتيم يقع على الصغير والكبير لغة لبقاء معنى الانفراد عن الآباء لكن في العرف اختص اسم اليتيم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال . فإذا بلغ الصبي وصار يستغني بنفسه عن غيره زال عنه اسم اليتم وسئل ابن عباس اليتيم متى ينقطع عنه اسم اليتم؟ قال إذا أونس منه الرشد وإنما سماهم يتامى بعد البلوغ على مقتضى اللغة أو لقرب عهدهم باليتم وإن كان قد زال عنهم بالبلوغ وقيل المراد باليتامى الصغار الذين لم يبلغوا والمعنى { وآتوا اليتامى أموالهم } بعد البلوغ وتحقق الرشد وقيل معناه وآتوا اليتامى الصغار ما يحتجون إليه من نفقة وكسوة والقول الأول هو الصحيح إذا المراد باليتامى البالغون لأنه لأنه لا يجوز دفع المال إلى اليتيم إلا بعد بلوغ وتحقق الرشد { ولا تتبدلوا } أي ولا تستبدلوا { الخبيث بالطيب } يعني الخبيث الذي هو حرام عليكم بالحلال من أموالكم واختلفوا في هذا التبديل فقال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي كان أولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ويجعلون مكانه الرديء ، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة ويجعل مكانها الهزيلة ويأخذ الدرهم الجيد ويجعل مكانه الزيف ويقول شاة بشاة ودرهم بدرهم فذلك تبديلهم فنهوا عنه وقال عطاء هو الربح في مال اليتيم وهو صغير لا علم له بذلك . وقيل إنه ليس بإبدال حقيقة . وإنما هو أخذه مستهلكاً وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء والصغار وإنما كان يأخذ الميراث الأكابر من الرجال وقيل هو أكل مال اليتيم عوضاً عن أكل أموالهم فنهوا عن ذلك { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } يعني مع أموالكم وقيل معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الإنفاق واعلم أن الله تعالى نهى عن أكل مال اليتيم وأراد به جميع التصرفات المهلكة للمال وإنما ذكر الأكل لأنه معظم المقصود { إنه كان حوباً كبيراً } يعني أن أكل مال اليتيم من غير حق إثم عظيم والحوب الإثم .(2/28)
قوله عز وجل : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } يعني وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن فانكحوا غيرهن من الغرائب ( ق ) عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء إلى قوله أو ملكت أيمانكم } قالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينتقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن قالت عائشة رضي الله عنها فاستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فأنزل الله عز وجل { ويستفتونك في النساء } إلى { وترغبون أن تنكحوهن } فبيّن الله لهم هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها في إكمال الصداق وإن كانت مرغوبة عنها قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء قال فكلما يتركونها حين يرغبونها عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق . وقال الحسن كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه كراهية أن يدخل غريب فيشاركه في مالها ثم يسيء صحبتها ويتربص بها إلى أن تموت فيورثها فعاب الله ذلك عليهم وأنزل هذه الآية . وقال عكرمة في روايته عن ابن عباس كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء أو أكثر فإذا صار معدماً من نساء مال إلى مال يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم : لا تزيدوا على أربع حتى لا يحوجكم إلى أخذ مال اليتامى وقيل كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء فيتزوجون ما شاؤوا فربما عدلوا وربما لم يعدلوا فلما أنزل الله تعالى في أموال اليتامى { وآتوا اليتامى أموالهم } أنزل هذه الآية { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } يقول فكلما خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء ألا تعدلوا فيهن فلا تتزوجوا أكثر مما يمكنكم القيام بحقهن ، لأن النساء في الضعف كاليتامى . وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي : ثم رخص الله تعالى في نكاح أربع فقال تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } يعني ما حل لكم من النساء واستدلت الظاهرية بهذه الآية على وجوب النكاح قالوا لأن قوله فانكحوا أمر والأمر للوجوب . وأجيب عنه بأن قوله تعالى فانكحوا إنما هو بيان لم يحل من العدد في النكاح وتمسك الشافعي في بيان أن النكاح ليس بواجب بقوله(2/29)
{ ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح } إلى قوله { ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم } الآية فحكم في هذه السورة بأن ترك النكاح خير من فعله وذلك يدل على أنه ليس بواجب ولا مندوب وقوله تعالى : { مثنى وثلاث ورباع } معناه اثنين اثنين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً وهو غير منصرف لأنه اجتمع فيه أمران : العدل والوصف والواو بمعنى أو في هذا الفصل لأنه لما كانت أو بمنزلة واو النسق جاز أن تكون الواو بمنزلة أو . وقيل إن الواو أفادت أنه يجوز لكل أحد أن يختار لنفسه قسماً من هذه الأقسام بحسب حاله فإن قدر على نكاح اثنتين فاثنتان . وإن قدر على ثلاث فثلاث وإن قدر على أربع فأربع إلا أنه يضم عدداً وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز لأحد أن يزيد على أربع نسوة وأن الزيادة على أربع من خصائص رسول الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها أحد من الأمة ويدل على أن الزيادة على أربع غير جائزة وأنها حرام ما روي عن الحارث بن قيس الحارث قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال « اختر منهن أربعاً » أخرجه أبو داود . عن ابن عمران غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً . أخرجه الترمذي قال العلماء : فيجوز للحر أن يجمع بين أربع نسوة حرائر ولا يجوز للعبد أن ينكح أكثر من امرأتين وهو قول أكثر العلماء لأنه خطاب لمن ولي وملك وذلك للأحرار دون العبيد . وقال مالك في إحدى الروايتين عنه وربيعة : يجوز للعبد أن يتزوج بأربع نسوة واستدل بهذه الآية وأجاب الشافعي بأن هذه الآية مختصة بالأحرار ويدل عليه آخر الآية وهو قوله : { فإن خفتم } ألاّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم أو العبد لا يملك شيئاً فثبت بذلك أن المراد من حكم الآية الأحرار دون العبيد . وقوله تعالى : { فإن خفتم } يعني فإن خشيتم وقيل فإن علمتم { ألاّ تعدلوا } يعني بين الأزواج الأربع { فواحدة } يعني فانكحوا واحدة { أو ما ملكت أيمانكم } يعني وما ملكتم من السراري لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق مثل ما يلزم في الحرائر ولا قسم لهن { ذلك أدنى } أي أقرب { أن لا تعولوا } معناه أقرب من أن لا تعولوا فحذف لفظة من لدلالة الكلام عليه ومعنى أن لا تعولوا أي لا تميلوا ولا تجوروا وهو قول أكثر المفسرين لأن أصل العول الميل يقال : عال الميزان إذا مال وقيل معناه لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم ومنه عول الفرائض إذا جاوزت سهامها وقيل معناه ذلك أدنى لا تضلوا .(2/30)
وقال الشافعي رحمه الله تعالى معناه أن لا تكثر عيالكم وقد أنكر على الشافعي من ليس له إحاطة بلغة العرب . فقال إنما يقال من كثرة العيال أعال الرجل يعيل إعالة إذا كثر عياله . قال وهذا من خطأ الشافعي لأنه انفرد به ولم يوافقه عليه أحد وإنما قال هذه المقالة من أنكر على الشافعي وخطأه من غير علم له بلغة العرب فقد روى الأزهري في كتابه تهذيب اللغة عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في قوله الفصحاء ألا تعولوا أي لا تكثر عيالكم . وروى الأزهري عن الكسائي قال عال الرجل إذا افتقر وأعال إذا كثر عياله قال ومن العرب الفصحاء من يقول عال يعول إذا كثر عياله قال الأزهري وهذا يقوي قول الشافعي لأن الكسائي لا يحكي عن العرب إلا ما حفظه وضبطه وقول الشافعي نفسه حجة لأنه عربي فصيح والذي اعترض عليه وخطأه عجل ولم يثبت فيما قال ولا ينبغي للحضري أن يعجل إلى إنكار ما لا يحفظه من لغات العرب هذا آخر كلام الأزهري . وبسط الإمام فخرالدين الرازي في هذا الموضع من تفسيره ورد على أبي بكر الرازي ثم قال الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة . وحكى البغوي عن أبي حاتم قال كان الشافعي أعلم بلسان العرب منا ولعله لغة ويقال هي لغة حمير وقرأ طلحة بن مصرف ألا تعيلوا بضم التاء وهو حجة للشافعي .(2/31)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
{ وآتوا النساء صدقاتهن } قال الكلبي وجماعة هذا خطاب للأولياء قال أبو صالح كان الرجل إذا تزوج أيمة أخذ صداقها دونها فنهاهم الله عن ذلك . وقيل إن ولي المرأة كان إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها لا قليلاً ولا كثيراً ، وإن كان زوجها غريباً حملوها إليه على بعير ولا يعطيها من مهرها غير ذلك فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله . وقال الحضرمي كان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته ولا مهر بينهما وهذا هو الشغار فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بتسمية المهر في العقد ( ق ) عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار في العقد والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الرجل ابنته وليس بينهما صداق . وقيل الخطاب للأزواج وهذا أصح وهو قول الأكثرين لأن الخطاب فيما قبل مع الناكحين وهم الأزواج أمرهم الله تعالى بإتيان نسائهم الصداق والصداق المهور واحدها صدقة بفتح الصاد وضم الدال { نحلة } يعني فريضة مسماة وقيل عطية وهبة . وقيل نحلة يعني عن طيب نفس وأصل النحلة العطية على سبيل التبرع وهي أخص من الهبة وسمي الصداق نحلة من حيث إنه لا يجب في مقابلته غير التمتع دون عرض مالي ( ق ) عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج » وقوله تعالى : { فإن طبن } يعني النساء المتزوجات { لكم } يعني للأزواج { عن شيء منه } يعني من الصداق ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض لأنها لو وهبت المرأة لزوجها جميع صداقها جاز { نفساً } نصب على التمييز والمعنى فإن طابت نفوسهن عن شيء من ذلك الصداق المبين فوهبن ذلك لكم فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها فخرجت النفس مفسراً فلذلك وحد النفس وقيل لفظة واحد ومعناه الجمع { فكلوه } يعني ما وهبنه لكم { هنيئاً مريئاً } يعني طيباً سائغاً وقيل الهنيء الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء والمريء المحمود العاقبة وفي الآية دليل على إباحة هبة المرأة صداقها وأنها تملكه ولا حق للوالي فيه .(2/32)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } اختلفوا في هؤلاء السفهاء من هم فقيل هم النساء نهى الله الرجال أن يؤتوا النساء أموالهم سواء كن أزواجاً أو بنات أو أمهات وقيل هم الأولاد خاصة يقول لا تعط ولدك السفيه مالك الذي هو قيامك فيفسده عليك وقيل امرأتك وابنك السفيه . قال ابن عباس لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وابنك فيكونوا هم الذين يقومون عليك ثم تنظر إلى ما بين أيديهم أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في رزقهم ومؤنتهم . وقال الكلبي : إذا علم الرجل إن امرأته سفيهة مفسدة وإن ولده سفيه مفسد لا ينبغي له أن يسلط واحداً منهما على ماله فيفسده . وقال سعيد بن جبير هو مال اليتيم يكون عندك يقول لا تؤته إياه وأنفق عليه منه حتى يبلغ وإنما أضاف المال على الأولياء لأنهم قوامها ومدبروها . وأصل السفه الخفة واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل في الأمور الدنيوية والدينية والسفيه المستحق الحجر هو الذي يكون مبذراً في ماله ومفسداً في دينه فلا يجوز لوليه أن يدفع إليه ماله . وقيل إن السفه المذكور في هذه الآية ليس هو صفة ذم لهؤلاء وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم وضعفهم عن القيام بحفظ المال فقوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء } يعني الجهال بموضع الحق أموالكم { التي جعل الله لكم قياماً } يعني قوام معايشكم يقول المال هو قوام الناس وقوام معايشهم كن أنت قيم أهلك أنفق عليهم ولا تؤت مالك امرأتك وولدك فيكونوا هم الذين يقومون عليك . ولما كان المال سبباً للقيام بالمعاش سمي به إطلاقاً لاسم المسبب على السبب على المبالغة لأنه به يقام الحج والجهاد وأعمال البر وفكاك الرقاب من النار { وارزقوهم فيها } أي أطعموهم { واكسوهم } يعني لمن يجب عليكم رزقه وكسوته لما نهى الله عن إيتاء المال للسفيه أمر أن يجري رزقه وكسوته وإنما قال : وارزقوهم فيها ولم يقل منها لأنه أراد اجعلوا لهم فيها رزقاً والرزق من الله تعالى هو العطية من عير حد ولا قطع ومعنى الرزق من العباد هو الأجر الموظف المعلوم لوقت معلوم محدود { وقولوا لهم قولاً معروفاً } يعني قولاً جميلاً لأن القول الجميل يؤثر في القلب ويزيل السفه وقيل معناه عدوهم عدة جميلة من البر والصلة . قال عطاء يقول : إذا ربحت أعطيتك وإن غنمت قسمت لك حظاً وقيل معناه الدعاء أي ادعوا لهم . قال ابن زيد إن لم يكن ممن تجب عليك نفقته فقل له عافانا الله وإياك بارك الله فيك . وقيل معناه قولوا لهم قولاً تطيب به أنفسهم وهو أن يقول الولي لليتيم السفيه : مالك عندي وأنا أمين عليه فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك . وقال الزجاج معناه علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياههم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل .(2/33)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
قوله عز وجل : { وابتلوا اليتامى } الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه وذلك أن رفاعة مات وترك ابنه ثابتاً وهو صغير فجاء عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له إن ابن أخي يتيم في حجري فيما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية { وابتلوا اليتامى } يعني اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحقوق أموالهم { حتى إذا بلغوا النكاح } أي مبلغ الرجال والنساء { فإن آنستم } أي أبصرتم وعرفتم { منهم رشداً } يعني عقلاً وصلاحاً في الدين وحفظاً للمال وعلماً بما يصلحه .
فصل في أحكام تتعلق بالحجر وفيه مسائل
المسألة الأولى : الابتلاء يختلف باختلاف أحوال اليتامى فإن كان ممن يتصرف بالبيع والشراء في الأسواق يدفع إليه شيئاً يسيراً من المال ، وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في الأسواق فيختبر بنفقته على أهله وعبيده وأجرائه وتصرفه في أموال داره ، وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذا رأى حسن تدبير اليتيم وحسن تصرفه في الأمور مرار أو غلب على الظن رشده دفع إليه ماله بعد بلوغه ولا يدفع إليه ماله وإن كان شيخاً يغلب عليه السفه حتى يؤنس منه الرشد .
المسألة الثانية : قال الإمام أبو حنيفة : تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة . وقال الشافعي هي غير صحيحة . واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وذلك لأن قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح يقتضي أن هذا الابتلاء إنما يحصل قبل البلوغ والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في جميع تصرفاته فثبت أن قوله وابتلوا اليتامى أمر للأولياء بالإذن لهم في البيع والشراء قبل البلوغ أجاب الشافعي بأن قال ليس المراد وابتلوا اليتامى الإذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله فإن آنستم منهم رشداً { فادفعوا إليهم أموالهم } وإنما تدفع إليهم أموالهم بعد البلوغ وإيناس الرشد فثبت بموجب هذه الآية أنه لا يدفع إليه ماله حال الصغر فوجب إن لا يصح تصرفه حال الصغر وإنما المراد من الابتلاء هو اختبار عقله واستكشاف حاله في معرفة المصالح والمفاسد .
المسألة الثالثة : في بيان البلوغ وذلك بأربعة أشياء اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء . واثنان يختصان بالنساء أما اللذان يشترك فيهما الرجال والنساء فأحدهما بالسن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة . حكم ببلوغه غلاماً كان أو جارية . ويدل عليه ما روى عن ابن عمر قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني . ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني . أخرجاه في الصحيحين وهذا قول أكثر أهل العلم .(2/34)
وقال أبو حنيفة بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة والثاني الاحتلام وهو إنزال المني الدافق سوا أنزل باحتلام أو جماع فإذا وجد ذلك من الصبي أو الجارية حكم ببلوغه لقوله تعالى { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } ولقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : « خذ من كل حالم ديناراً أما نبات الشعر الخشن حول الفرج فهو يدل على البلوغ » في أولاد المشركين لما روى عن عطية القرظي قال : كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل . فكنت ممن لم ينبت وهل يكون ذلك علامة عن البلوغ في أولاد المسلمين؟ فيه قولان : أحدهما أنه يكون بلوغاً كما في أولاد المشركين والثاني لا يكون ذلك بلوغاً في حق أولاد المسلمين لأنه يمكن الوقوف على مواليد أولاد المسلمين والرجوع إلى قول آبائهم بخلاف الكفار فإنه لا يوقف على مواليدهم ولا يقبل في ذلك قول آبائهم لكفرهم فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغاً في حقهم . وأما الذي يختص بالنساء فهو الحيض والحبل فإذا حاضت الجارية بعد استكمال تسع سنين حكم ببلوعها وكذلك إذا ولدت حكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل .
المسألة الرابعة : في بيان الرشد وهو أن يكون مصلحاً في دينه وماله فالصلاح في الدين هو اجتناب الفواحش والمعاصي التي تسقط بها العدالة والصلاح في المال هو أن لا يكو مبذراً والتبذير أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية أو لا يحسن التصرف فيغبن في البيع والشراء . فإذا بلغ الصبي وهو مفسد لماله ودينه لم ينفك عنه الحجر ولا ينفذ تصرفه في ماله . وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا كان مصلحاً لماله زال عنه الحجر وإن كان مفسداً لدينه وإذا كان لما له مفسداً لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسة وعشرين سنة غير أنه ينفذ تصرفه قبله والقرآن حجة الشافعي في استدامة الحجر عليه لأن الله تعالى قال { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } أمر بدفع المال بعد البلوغ وإيناس الرشد والفاسق لا يكون رشيداً وبعد بلوغه خمساً وعشرين سنة وهو مفسد لماله بالإنفاق غير رشيد فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن .
المسألة الخامسة : إذا بلغ الصبي أو الجارية وأونس منه الرشد زال عنه الحجر ودفع إليه ماله سواء تزوج أو لم يتزوج وقال مالك إن كانت امرأة لا يدفع إليها المال ما لم تتزوج دفع إليها مالها ولا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ما لم تكبر وتجرب .
المسألة السادسة : إذا بلغ الصبي رشيداً زال عنه الحجر فلو عاد سفيهاً ينظر فإن كان مبذراً لماله حجر عليه وإن كان مفسداً في دينه فعلى وجهين : إحدهما أن يعاد عليه الحجر كما يستدام إذا بلغ وهو بهذه الصفة .(2/35)
والثاني لا يحجر عليه لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء . وعند أبي حنيفة لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبدالله بن جعفر ابتاع أرضاً سبخة بستين ألف درهم فقال علي : لآتين عثمان ولأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك فقال الزبير أنا شريكك في بيعك فأتى علي عثمان فقال احجر على هذا فقال الزبير أنا شريكه فقال عثمان كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير فكان اتفاقاً منهم على جواز الحجر حتى حتى احتال الزبير لدفعه وقوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } الخطاب للأولياء يعني يا معشر الأولياء لا تأكلوا أموال اليتامى بغير حق { وبداراً أن يكبروا } يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم فتفرطوا في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبروا فيلزمكم تسليمها إليهم . ثم بيّن تعالى حال الأولياء وقسمهم قسمين فقال تعالى : { ومن كان غنياً فليستعفف } أي فليمتنع من أكل مال اليتيم ولا يرزأه قليلاً ولا كثيراً { ومن كان فقيراً } يعني محتاجاً إلى مال اليتيم وهو يحفظه { فليأكل بالمعروف } روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إني فقير وليس لي ولي يتيم فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل » واختلف العلماء في حكم هذه الاية فروي عن عمر وان عباس وابن جبير وأبي العالية وعبيدة السلماني وأبي وائل ومجاهد ومقاتل أنه يأخذ من مال اليتيم على وجه القرض . واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء فذهب قوم إلى أن يلزمه القضاء إذا أيسر وهو المراد من قوله تعالى فليأكل بالمعروف والمعروف القرض أي يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه ، فإذا أيسر قضاه وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير قال عمر بن الخطاب : إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيت . وقال قوم لا ضمان عليه ولا قضاء بل يكون ما يأكله كالأجرة له على عمله وهو قول الحسن والشعبي والنخعي وقتادة قال الشعبي لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة ثم القائلون بجواز الأكل من مال اليتيم اختلفوا في قوله فليأكل بالمعروف . فقال عطاء وعكرمة يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف ولا يكتسي منه ولا يلبس الكتان ولا الحلل لكن يأكل ما يسد به الجوع ويلبس ما يستر به العورة . وقال الحسن يأكل من تمر نخلة ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه فأما الذهب الفضة فلا يأخذ منه شيئاً فإن أخذ وجب عليه رده .(2/36)
وقال الكلبي المعروف هو ركوب الدابة وخدمة الخادم ، وليس له أن يأكل من ماله شيئاً وروي أن رجلاً قال لابن عباس إن لي يتيماً وإن له إبلاً أفأشرب من لبن إبله فقال ابن عباس إن كنت تبغي ضالة إبل وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضر نسل ولا ناهك في الحلب وقال قوم المعروف أن يأخذ من ماله بقدر قيامه وأجره عمله ولا قضاء عليه وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم وقوله تعالى : { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } هذا أمر إرشاد وليس بواجب أمر الله تعالى الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصوصة لأنه إذا كانت عليه بينة كان أبعد من أن يدعى عدم القبض وتظهر بذلك أمانة الوصي وتسقط عنه اليمين عند أنكار اليتيم القبض { وكفى بالله حسيباً } يعني محاسباً ومجازياً وشاهداً به .(2/37)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
قوله تعالى : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } نزلت هذه الآية في أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأته ويقال لها أم كحة وثلاث بنات منها فقام رجلان هما ابن عم الميت ووصياه يقال لهما سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً من ماله . وذلك أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير من الذكور وإنما يورثون الرجال يقولون لا يعطى الإرث إلاّ من قاتل وحاز الغنيمة وحمى الحوزة فجاءت أم كحة امرأة أوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله مات أوس بن ثابت وترك ثلاثة بنات وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهن مالاً حسناً وهو عند سويد وعرفجة ولم يعطياني ولا بناته منه شيئاً وهن في حجري ولا يطعمن ولا يسقين فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله إن ولدها لا يركبن فرساً ولا يحملن كلأ ولا ينكبن عدواً فأنزل الله هذه الآية وبين أن الإرث ليس مختصاً بالرجال بل هو أمر يشترك فيه الرجال والنساء . فقال تعالى للرجال يعني الذكور من أولاد الميت وعصبته نصيب أي حظ مما تترك الوالدن والأقربون يعني من لميراث { وللنساء نصيب } يعني وللإناث من أولاد الميت حظ { مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر } يعني من المال المخلف عن الميت { نصيباً مفروضاً } يعني معلوماً والفرض ما فرضه الله تعالى وهو آكد من الواجب فلما نزلت هذه الآية مجملة ولم يبين كم هو النصيب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة لا تفرقا من المال شيئاً فإن الله تعالى قد جعل لبناته نصيباً مما ترك ولم يبين من هو حتى أنظر فيهن فأنزل الله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } الآية فلما نزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة أن ادفعا ألى أم كحة الثمن مما ترك وإلى بناته الثلثين ولكما باقي المال .(2/38)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
قوله عز وجل : { وإذا حضر القسمة } يعني قسمة الميراث فعلى هذا القول يكون الخطاب للوارثين { أولو القربى } يعني القرابة الذين لا يرثون { واليتامى والمساكين } إنما قدم اليتامى لشدة ضعفهم وحاجتهم { فارزقوهم منه } أي فارضخوا لهم من المال قبل القسمة . واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هذه الآية منسوخة بآية المواريث وهذا قبل نزول آية المواريث فلما نزلت آية المواريث جعلت لأهلها ونسخت هذه الآية وهي رواية مجاهد عن ابن عباس وقول سعيد بن المسيب وعكرمة والضحاك وقتادة وقال قوم هي محكمة غير منسوخة . وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس وهو قول أبي موسى الأشعري والحسن وأبي العالية والشعبي وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد والنخعي والزهري ثم اختلف العلماء بعد القول بأنها محكمة هل هذا الأمر أمر وجوب أو ندب على قولين : أحدهما أنه واجب فقيل إن كان لوارث كبيراً وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئاً من المال بقدر تطيب به نفسه وأن الوارث صغيراً وجب على الولي أن يعتذر إليهم ويقول إني لا أملك هذا المال وهو لهؤلاء الضعفاء . قال ابن عباس إن كان الورثة كباراً رضخوا لهم وإن كان الورثة صغاراً اعتذر إليهم فيقول الولي أو الوصي إني لا أملك هذا المال وإنما هو للصغار ولو كان لي منه شيء لأعيتطم وإن يكبروا فسيعرفوا حقكم هذا هو القول المعروف وقال بعضهم : هذا حق واجب في مال الصغار والكبار فإن كان الورثة كباراً تولوا إعطاءهم بأنفسهم وإن كانوا صغاراً أعطى وليهم . وروى محمد بن سيرين أن عبيدة السلماني قسم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت وصنعت طعاماً لأجل هذه الآية وقال لولا هذه الاية لكان هذا من مالي ، وقال الحسن والنخعي هذا الرضخ مختص بقسمة الأعيان فإذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك فقولوا لهم قولاً معروفاً وقيل كانوا يعطون التابوت والأواني ورث الثياب والمتاع الذي يستحي من قسمته والقول الثاني إن هذا الأمر ندب واستحباب لا على سبيل الفرض والإيجاب وهذا القول هو الأصح الذي عليه العمل اليوم واحتجوا لهذا القول بأنه لو كان لهؤلاء حق معين لبينه الله تعالى كما بين سائر الحقوق فحيث لم يبين علمنا أن ذلك غير واجب وقيل في معنى الآية أن المراد بالقسمة الوصية فإذا حضر الوصية من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين أمر الله الوصي أن يجعل لهم نصيباً من تلك الوصية ويقول لهم مع ذلك قولاً معروفاً وقوله : { وقولوا لهم قولاً معروفاً } هو أن لا يتبع العطية بالمن والأذى .(2/39)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
قوله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً } يعني أولاداً صغاراً { وخافوا عليهم } يعني الفقر قيل هذا خطاب للذين يجلسون عند المريض وقد حضره الموت فيقول له انظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئاً قدم لنفسك أعتق وتصدق وأعط فلا يزالون به حتى يأتي على عامة ماله فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بأن يأمروه بالنظر لولده ولا يزيد على الثلث في وصيته ولا يجحف . والمعنى كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الصغار من ماله وحاصل هذا الكلام كما أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك فلا ترضه لأخيك المسلم . وكما أنه لو كان هذا القائل هو الموصي لسره أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالى يتكففون الناس مع ضعفهم وعجزهم . وقيل هو الرجل يحضره الموت ويريد أن يوصي بشيء فيقول له من حضره من الرجال اتق الله وامسك أموالك لولدك فيمنعونه من الوصية لأقاربه المحتاجين وقيل الآية يحتمل أن تكون خطاباً لمن حضر أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته فقراء ضعافاً ضائعين بعد موته . ثم إن كانت هذه الآية نزلت قبل تقدير الثلث كان المراد منها أن لا يجعل الوصية مستغرقة للتركة وإن كانت قد نزلت بعد تقدير الثلث كان المراد منها أن يوصي بالثلث أو بأقل منه إذا خاف عل ورثته كما روى عن كثير من الصحابة أنهم أوصوا بالقليل لأجل ذلك وكانوا يقولون الخمس في الوصية أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث . وقد ورد في الصحيح الثلث والثلث كثير لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس يعني يسألونهم بأكفهم وقيل هو خطاب لأولياء اليتامى والمعنى وليخش من خاف على ولده من بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره والمقصود من الآية أن من كان في حجره يتيم فليحسن إليه وليه أو وصيه وليفعل به ما يحب أن يفعل بأولاده من بعده { فليتقوا الله } يعني في الأمر الذي تقدم ذكره { وليقولوا قولاً سديداً } يعني عدلاً وصواباً فالقول السديد من الجالسين عند المريض هو أن يأمروه أن يتصدق بدون الثلث ويترك الباقي لولده ورثته وأن لا يحيف في وصيته . والقول السديد من الأوصياء وأولياء اليتامى أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم ولا يؤذوهم بقول ولا فعل قوله عز وجل : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } قال مقاتل وابن حبان نزلت في رجل من غطفان يقاله له مرثد بن زيد ولي مال يتيم وكان اليتيم ابن أخيه فأكله فأنزل الله هذه الآية { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } يعني حراماً بغير حق { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } يعني سيأكلون يوم القيامة فسمي الذين يأكلون ناراً بما يؤول إليه أمرهم يوم القيامة .(2/40)
قال السدي يبعث آكل مال اليتيم ظلماً يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأذنيه وعينيه وأنفه يعرفه من رآه بآكل مال اليتيم . وفي حديث أبي سعيد الخدري قال حدثني النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار يخرج من أسافلهم قلت يا جبريل من هؤلاء قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً . وقيل إنما ذكر أكل النار على سبيل التمثيل والتوسع في الكلام والمراد أن أكل مال اليتيم ظلماً يفضي به إلى النار وإنما خص الأكل بالذكر وإن كان المراد سائر أنواع الإتلافات وجميع التصرفات الرديئة المتلفة للمال لأن الضرر يحصل لكل ذلك لليتيم . فعبر عن جميع ذلك بالأكل لأنه معظم المقصود وإنما ذكر البطون للتأكيد فهو كقولك رأيت بعيني وسمعت بأذني { وسيصلون سعيراً } يعني بأكلهم أموال اليتامى ظلماً والسعير النار الموقدة المسعرة . ولما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا من مخالطة اليتامى وأموالهم بالكلية فشق ذلك على اليتامى فنزل قوله تعالى : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } وقد توهم بعضهم أن قوله وإن تخالطوهم ناسخ لهذه الآية وهذا غلط ممن توهمه لأن هذه الآية واردة في المنع من أكل أموال اليتامى ظلماً وهذا لا يصير منسوخاً لأن أكل مال اليتيم بغير حق من أعظم الآثام وقوله : وإن تخالطوهم فإخوانكم وارد على سبيل الإصلاح في أموال اليتامى والأحسان إليهم وهو من أعظم القرب .(2/41)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية فروي عن جابر قال مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما يمشيان فوجداني أغمي عليّ فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه عليّ فأفقت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم جالس فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي كيف أقضى في مالي فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث ، وفي رواية فقلت لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض وفي رواية أخرى فنزلت : { يوصيكم الله في أولادكم } وفي رواية أخرى فلم يرد على شيئاً حتى نزلت آية الميراث يستفتونك قل الله يفتيكم أخرجه البخاري ومسلم وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كحة امرأة أوس بن ثابت وبناته . وقال عطاء نزلت في سعد بن الربيع النقيب استشهد يوم أحد وترك بنتين وامرأة وأخاً ( ق ) عن جابر رضي الله عنه قال جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلىلله عليه وسلم فقالت : « يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً وأن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً ولا ينكحان إلا ولهما مال قال : يقضي الله في ذلك » فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال أعطِ ابنتي سعد الثلثين وأعطِ أمهما الثمن وما بقي فهو لك أخرجه الترمذي . وقال السدي : كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلماء لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال فمات عبدالرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة وخمس بنات فجاء الورثة وأخذوا ماله فشكت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة وقبل الشروع في تفسر هذه الآية الكريمة . نقدم فصولاً تتضمن أحكام الفرائض وأصول قواعدها .
فصل في الحث على تعليم الفرائض
اعلم أن الفرائض من أعظم العلوم قدراً وأشرفها ذخراً وأفضلها ذكراً وهي ركن من أركان الشريعة وفرع من فروعها في الحقيقة اشتغل الصدر الأول من الصحابة بتحصيلها وتكلموا في فروعها وأصولها ويكفي في فضلها أن الله عز وجل تولى قسمتها بنفسه وأنزلها في كتابه مبينة من محل قدسه وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعليمها فيما رواه أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تعلموا الفرائض والقرآن وعلموا الناس فإني مقبوض » أخرجه الترمذي وقال فيه اضطراب وأخرجه أحمد بن حنبل وزاد فيه فإني امرؤ مقبوض والعلم مرفوع ويوشك أن يختلف اثنان في الفريضة فلا يجدان أحداً يخبرهما .(2/42)
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تعلموا الفرائض وعلموها فإنه نصف العلم » وهو أول علم ينسى وهو أول شيء ينزع من أمتي « أخرجه ابن ماجه والدارقطني .
فصل في بيان أحكام الفرائض
إذا مات الميت وله يبدأ بتجهيزه من ماله ثم تقضي ديونه إن كان عليه دين ثم تنفذ وصاياه وما فضل بعد ذلك من ماله يقسم بين ورثته والوارثون من الرجال عشرة : الابن وابن الابن وإن سفل الأب والجد وإن علا والأخ سواء كان لأب وأم أو لأب أو لأم وابن الأخ للأب والأم أو للأب وإن سفل والعم للأب والأم أو للأب وابناهما وإن سفلوا والزوج والمعتق . والوارثات من النساء سبع : البنت وبنت الابن وإن سفلت . والأم والجدة وإن علت . والأخت من كل الجهات . والزوجة والمعتقة وستة من هؤلاء لا يلحقهم حجب الحرمان بالغير وهم : الأبوان والوالدان والزوجان لأنه ليس بينهم وبين الميت واسطة ثم الورثة ثلاثة أصناف : صنف يرث بالفرض المجرد وهم الزوجان والبنات والأخوات والأمهات والجدات وأولاد الأم وصنف يرث بالتعصيب وهم : البنون والإخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم وصنف يرث بالتعصيب تارة وبالفرض أخرى وهما : الأب والجد فيرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد فإن كان له ابن ورث الأب بالفرض السدس وإن كانت بنت ورث السدس بالفرض وأخذ الباقي بالتعصيب والعصبة اسم لمن يأخذ جميع المال إذا انفرد ويأخذ ما فضل عن أصحاب الفرائض .
فصل
وأسباب الإرث ثلاثة : نسب ونكاح وولاء فالنسب القرابة يرث بعضهم بعضاً والنكاح هو أن يرث أحد الزوجين من صاحبه بسبب النكاح والولاء هو أن المعتق وعصباته يرثون المعتق والأسباب التي تمنع الميراث أربعة : اختلاف الدين فالكافر لا يرث المسلم ولا المسلم يرث الكافر لما روي من أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم « أخرجاه في الصحيحين . فأما الكفار فيرث بعضهم بعضاً مع اختلاف مللهم وأديانهم لأن الكفر كله ملة واحدة فذهب بعضهم إلى أن اختلاف الملل والكفر يمنع التوارث أيضاً حتى لا يرث اليهودي من النصراني ولا النصراني من المجوسي وإلى هذا ذهب الزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق لما روي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال » لا توارث أهل ملتين « أخرجه الترمذي وقال حديث غريب . عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » لا يتوارث أهل ملتين شتى « أخرجه أبو داود وحمله الآخرون على الإسلام والكفر لأن الكفر عندهم ملة واحدة فتوريث بعضهم من بعض لا يكون فيه إثبات التوارث بين ملتين شتى والرق يمنع الإرث لأن الرقيق ملك ولا ملك له فلا يرث ولا يورث والقتل يمنع الإرث عمداً كان القتل أو خطأ لما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(2/43)
« القاتل لا يرث » أخرجه الترمذي وقال : هذا حديث لا يصح والذي عليه العمل عند أهل العلم أن القاتل لا يرث سواء كان القتل عمداً أو خطأ . وقال بعضهم إذا كان القتل خطأ فإنه يرث وهو قول مالك وعمى الموت وهو أن يخفى موت المتوارثين وذلك بأن غرقاً أو انهدم عليهما بناء فلم يدر أيهما سبق موته فلا يرث أحدهما الآخر بل يكون إرث كل واحد منهما لما كانت حياته يقيناً بعد موته من ورثته .
فصل : السهام المحدودة
والسهام المحدودة في الفرائض المذكورة في كتاب الله عز وجل ستة : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس فالنصف فرض خمسة : فرض خسمة : فرض الزوج عند عدم الولد وفرض البنت الواحدة للصلب أو بنت الابن عند عدم بنت الصلب وفرض الأخت الواحدة للأب والأم وفرض الأخت الواحدة للاب والأم وفرض الأخت الواحدة للأب إذا لم يكن ولد لأب وأم والربع فرض الزوج من الولد وفرض الزوجة مع عدم الولد والثمن فرض الزوجة مع الولد والثلثان فرض البنتين فصاعداً أو بنات الابن عند عدم بنات الصلب وفرض الأختين فصاعداً للأب والأم أو للأب والثلث فرض ثلاثة : فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا اثنان من الإخوة والأخوات إلاّ في مسألتين : إحداهما زوج وأبوان والأخرى زوجة وأبوان فإن للأم فيهما ثلث الباقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة وفرض الاثنين فصاعداً من أولاد ذكرهم وأنثاهم فيه سواء وفرض الجد مع الإخوة إذا لم يكن في المسألة صاحب فرض وكان الثلث للجد خيراً من المقاسمة مع الإخوة والسدس فرض سبعة : فرض الأب إذا كان للميت ولد وفرض الأم إذا كان للميت ولد أو ولد ابن أو اثنان من الإخوة والأخوات وفرض الجد إذا كان للميت ولد مع الإخوة إذا كان في المسألة صاحب فرض وكان السدس خير للجد من المقاسمة مع الإخوة وفرض الجدة والجدات ، وفرض الواحد من أولاد الأم ذكراً كان أم أنثى وفرض بنات الابن مع بنت الصلب تكلمة الثلثين وفرض الأخوات للأب مع الأخت للأب والأم تكلمة الثلثين ( ق ) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي لأولى رجل ذكر » ( خ ) عن ابن عباس قال كان المال للولد والوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك من أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع ا ه .(2/44)
فصل
روي عن زيد بن ثابت قال : ولد الأبناء بمنزلة إذا لم يكن دونهن ابن ذكرهمم كذكرهم وأنثاهم كأنثاهم يرثون ويحجبون كما يحجبون ولا يرث ولد ابن مع ابن ذكر فإن ترك ابنة وابن ابن ذكر كان للبنت النصف ولابن الابن ما بقي لقوله صلى الله عليه وسلم : « ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر » ففي هذا الحديث دليل على أن بعض الورثة يحجب البعض والحجب حجبان : حجب نقصان وحجب حرمان . أما الأول وهو حجب النقصان فهو أن الولد وولد الابن يحجب الزوج من النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن والأم من الثلث إلى السدس وكذلك الاثنان من الإخوة والأخوات يحجبون الأم من الثلث إلى السدس . وأما الثاني وهو حجب الحرمان فهو أن الأم تسقط الجدات وأولاد الأم وهم الإخوة للأم يسقطون بأربعة بالأب والجد وإن علا وبالولد وولد الابن وأولاد الأب والأم وهم الإخوة للأب والأم يسقطون بثلاثة بالأب والابن وابن الابن وإن سفلوا ولا يسقطون بالجد على مذهب زيد بن ثابت . وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وبه قال مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وأولاد الأب يسقطون بهؤلاء الثلاثة وبالأخ للأب والأم وذهب قوم إلى أن الإخوة يسقطون جميعاً بالجد كما يسقطون بالأب . وهو قول أبي بكر الصديق وابن عباس ومعاذ وأبي الدرداء وعائشة . وبه قال الحسن وعطاء وطاوس وأبو حنيفة والأقرب من العصبات يسقط الأبعد منهم فاقربهم الابن ثم ابن الابن وإن سفل ثم الأب ثم الجد وإن علا فإن كان مع الجد أحد من الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب يشتركان في الميراث فإن لم يكن جد فالأخ للأب والأم ثم الأخ للأب ثم بنو الإخوة يقدم أقربهم سواء كان لأب وأم أو لأب فإن استويا في الدرجة فالذي هو لأب وأم ثم العم لأب وأم ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة ثم عم الأب ثم عم الجد على الترتيب فإن لم يكن أحد من عصابات النسب وعلى الميت ، ولا فالميراث للمعتق فإن لم يكن حياً فلعصبات المعتق وأربعة من الذكور يعصبون الإناث : الابن وابن الابن والأخ للأب والأم والأخ للأب فلو مات عن ابن أو وبنت أو عن أخ وأخت لأب وأم أو لأب يكون المال . بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ولا يفرض للبنت والأخت ، وكذلك ابن الابن يعصب من في درجته من الإناث ومن فوقه إذا لم يأخذ من الثلثين شيئاً حتى لو مات عن بنتين وبنت ابن فللبنتين الثلثان لوا شيء لبنت الابن فإن كان في درجتها ابن ابن أو أسفل منها ابن ابن ابن كان الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين والأخت للأب والأم أو للأب تكون مع البنت عصبة حتى لو مات عن بنت وأخت كان للبنت النصف والباقي وهو النصف للأخت ولو مات عن بنتين وأخت كان للبنتين الثلثان والباقي للأخت ويدل على ذلك ما روي عن هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن أخت فقال : للابنة النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود .(2/45)
فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال ابن مسعود : لقد ضللت وما أنا من المهتدين ثم قال اقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم أخرجه البخاري . وأما تفسير فقوله تعالى يوصيكم الله أي يعهد إليكم ويفرض عليكم في أولادكم يعني في أمر من أولادكم إذا متم والوصية من الله إيجاب وإنما بدأ الله تعالى يذكر ميراث الأولاد لأن تعلق قلب الإنسان بولده أشد من تعلقه بغيره فلهذا قدم الله ذكر ميراثهم للذكر مثل حظ الأنثيين يعني أن الولد الذكر له من الميراث ضعفا سهام الأنثى فللذكر سهمان وللأنثى سهم فلو حصل مع الأولاد غيرهم من الورثة من أهل الفروض كالأبوين أخذوا فروضهم وما بقي بعد ذلك كان بين الأولاد للذكر مثل حظ الانثيين { فإن كن } يعني المتروكات من الأولاد { نساء فوق اثنتين } يعني بنتين فصاعداً { فلهن ثلثا ما ترك } وأجمعت الأمة على أن للبنتين الثلثين إلاّ ما روي عن ابن عباس أنه ذهب إلى ظاهر الآية وقال : الثلثان فرض الثلاث من البنات لأن الله تعالى قال : { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } فجعل الثلثين للنساء إذا زدن على الثنتين . وعنده أن فرض الثنتين النصف كفرض الواحدة وأجيب عنه بوجوده فيها حجة لمذهب الجمهور أيضاً : الوجه الأول أن الله تعالى قال : { وإن كانت واحدة فلها النصف فجعل للواحدة } وذلك ينفي حصول النصف نصيباً للبنتين . الوجه الثاني في الآية تقديماً وتأخيراً والتقدير : فإن كن نساء اثنتين فما فوقها فلهن الثلثان . والوجه الثالث أن لفظة فوق ها هنا صلة والتقدير فإن كن نساء اثنتين فهو كقوله : { فاضربوا فوق الأعناق } يعني فاضربوا الأعناق وإنما سمى الاثنتين نساء بلفظ الجمع ، لأن العرب تطلق على الاثنين جماعة بدليل قوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } الوجه الرابع قال علماء الجمهور : وإنما أعطينا البنتين الثلثين بتأويل القرآن لأن الله تعالى جعل للبنت الواحدة النصف بقوله تعالى : { وإن كانت واحدة فلها النصف } وجعل للأخت الواحدة النصف بقوله : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } ثم جعل للأختين الثلثين بقوله : { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان } فلما جعل للأختين الثلثين علمنا أن للبنتين الثلثين قياساً على الأختين . الوجه الخامس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالثلثين لابنتي سعد بن الربيع وهذا نص واضح في المسألة .(2/46)
قوله تعالى : { وإن كانت واحدة } يعني البنت واحدة { فلها النصف } يعني فرضاً لها { ولأبويه } يعني أبوي الميت كناية عن غير مذكور وهما والده { لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } يعني أن للأب والأم مع وجود الولد أو ولد الابن لكل واحد منهما سدس الميراث . واعلم أن اسم الولد يقع على الذكر والأنثى فإذا مات الميت وترك أبوين وولداً ذكراً واحداً كان أو أكثر أو ترك بنات فإن للأم السدس بالفرض وللأب السدس مع الولد بالذكر بالفرض ومع البنات له السدس بالتعصيب وهو الباقي من التركة وله مع البنت الواحدة السدس بالفرض والباقي بالتعصيب { فإن لم يكن له ولد } يعني للميت { وورثه أبواه فلأمه الثلث } يعني أن الميت إذا مات عن أبوين وليس له وارث سواهما فإن الأم تأخذ الثلث بالفرض ويأخذ الأب باقي المال بالفرض والتعصيب . فيكون المال بينهما أثلاثاً للذكر مثل حظ الانثيين فإن كان مع الأبوين أحد الزوجين فيفرض للأم ثلث الباقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة { فإن كان له } يعني للميت { إخوة } يعني ذكوراً أو إناثاً { فلأمه السدس } يعني لأم الميت سدس للتركة إذا كان معها أب وأجمع العلماء على أن الثلاثة يحجبون الأم من الثلث السدس وأن الأخ الواحد والأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس . واختلفوا في الأخوين فالأكثرون من الصحابة يقولون الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس وهذا قول عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت والجمهور . وقال ابن عباس : لا تحجب الإخوة الأم من الثلث إلى السدس إلاّ أن يكونوا ثلاثة . قال ابن عباس لعثمان : لم صار الأخوين يردان الأم من الثلث إلى السدس ، وإنما قال الله تعالى : { فإن كان له إخوة } والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة فقال عثمان : يا بني إن قومك حجبوها بأخوين ولا أستطيع نقد أمر قد كان قبلي وإنما نشأ هذا الاختلاف لأنهم اختلفوا في أقل الجمع وفيه قولان : أحدهما أن أقل الجمع اثنان وهو قول أبي بكر الباقلاني . وحجة هذا القول أنك إذا جمعت واحد إلى واحداً فهما جماعة لأن أصل الجمع ضم شيء . وقال ابن الأنباري : التثنية عند العرب أول الجمع مشهور في كلامهم إيقاع الجمع على التثنية فمن ذلك قوله تعالى : { وكنا لحكمهم شاهدين } وهما داود وسليمان عليهما السلام ومنه قوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } يريد قلباكما . والقول الثاني أن أقل الجمع ثلاثة وهو قول الجمهور العلماء وهو الأصح . إنما حجب العلماء الأم بالأخوين لدليل اتفقوا عليه وهو أن لفظ الاخوة يطلق على الأخوين فما زاد وذلك جائز في اللغة كما تقدم ثم إن الإخوة إذا حجبوا الأم من الثلث إلى السدس فإنهم لا يرثون شيئاً البتة بل يأخذ الأب الباقي كرجل مات عن أبوين وأخوين فإن للأم السدس والباقي وهو خمسة أسداس للأب سدس بالفريضة والباقي بالتعصيب قال قتادة : وإنما حجب الأخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب شيئاً معونة للأب لأنه يقوم بشأنهم وينفق عليهم دون الأم { من بعد وصية يوصي بها أو دين } يعني أن هذه الأنصباء والسهام إنما تقسيم بعد قضاء الدين وانفاذ وصية الميت في ثلثه وذكر الوصية مقدم على الدين في اللفظ لا في الحكم لأن لفظه أو لا توجب الترتيب .(2/47)
وإنما هي لأحد الشيئين كأنه قال من بعد أحد هذين مفرداً أو مضموناً إلى الآخر قال علي رضي الله عنه : إنكم تقرؤون الوصية قبل الدين . وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية وهذا إجماع على أن الدين مقدم على الوصية والإرث مؤخر عنهما لأن الدين حق على الميت والوصية حق له وهما يتقدمان على حق الورثة .
قوله تعالى : { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } قيل هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله فريضة من الله ولا تعلق لمعناه بمعنى الآية ومعنى هذا الكلام في قول ابن عباس : إن الله عز وجل يشفع المؤمنين بعضهم في بعض فأطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة ، فإن كان الوالد أرفع درجة من ولده رفع الله درجة ولده إليه وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه لتقر بذلك أعينهم فقال تعالى : { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } لأن أحدهما لا يعرف منفعة صاحبه له في الجنة وسبقه إلى منزلة عالية تكون سبباً لرفعته إليها ، وقيل إن هذا الكلام ليس معترضاً بينهما ومعناه متعلق بمعنى الآية يقول آباؤكم وأبناؤكم يعني الذين يرثونكم أيهم أقرب لكم نفعاً أي لا تعلمون أيهم أنفع لكم في الدين والدنيا . فمنكم من يظن أن الأب أنفع له فيكون الابن أنفع له ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له ولكن الله هو الذي دبر أمركم على ما فيه المصلحة لكم فاتبعوه ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فتعطون من لا يستحق ما لا يستحق من الميراث وتمنعون منم يستحق الميراث { فريضة من الله } يعني ما قدر من المواريث لأهلها فريضة واجبة { إن الله كان عليماً حكيماً } يعني كان عليماً بالأشياء قبل خلقها حكيماً فيما قدر من الفرائض وفرض من الأحكام ، وقيل معناه عليماً بخلقه قبل أن يخلقهم حكيماً حيث فرض للصغار مع الكبار ولم يخص الكبار بالميراث كما كانت العرب تفعل وفي معنى لفظة كان ثلاثة أقوال : أحدها أن الله تعالى كان عليماً بالأشياء قبل خلقها ولم يزل كذلك ، والثاني حكى الزّجاج عن سيبويه أنه قال : إن القول لما شاهدوا علماً وحكمة ومغفرة وفضلاً قيل لهم إن الله كان كذلك ولم يزل الله على ما شاهدتم . الثالث قال الخليل الخبر عن الله عزّ وجلّ بمثل هذه الأشياء كالخبر بالحال والاستقبال لأن صفات الله تعالى لا يجوز عليها الزوال والتقلب .(2/48)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
قوله عز وجل : { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين } هذا ميراث الأزواج من الزوجات . وقال تعالى في ميراث الزوجات من الأزواج { ولهن } يعني للزوجات { الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين } لما جعل الله في الموجب النسبي حظ الرجل مثل حظ الأنثيين جعل الله في الموجب السبي للرجل مثل حظ الأنثيين واعلم أن الواحدة من النساء لها الربع أو الثمن وكذلك لو كن أربع زوجات فإنهن يشتركن في الربع أو الثمن واسم الولد يطلق على الذكر والأنثى . ولا فرق بين الولد وولد الابن وولد البنت في ذلك وسواء كان الولد للرجل من الزوجة أو من غيرها .
قوله تعالى : { وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة } تقدير الآية وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة واختلفوا في الكلالة فذهب أكثر الصحابة إلى أن الكلالة من لا ولد له ولا والد روى الشعبي قال : سئل أبو بكر الصديق عن الكلالة فقال : سأقول فيها قولاً برأيي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد فلما استخلف عمر قال : إني لا أستحيي من الله أن أراد شيئاً قاله أبو بكر وهذا قول علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وإحدى الروايتين عن عمر وابن عباس وهذا القول هو الصحيح المختار ويدل على صحته أن اشتقاق الكلالة من كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة بينهم فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه ، وقيل إن الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الإحاطة ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس . فمن عد الوالد والولد من القرابة إنما سموا كلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان أما نسبة الولادة فليست كذلك لأن فيه تنوع البعض عن البعض وتولد البعض من البعض فهو كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد . فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة وهم الإخوة والأخوات والأعمام والعمات وغيرهم فإنما محصل نسبهم اتصال إحاطة بالمنسوب إليه فثبت بذلك أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالد والولد والرواية الأخرى عن عمر وابن عباس ان الكلالة من لا ولد له . وبه قال طاوس واحتج لهذا القول بقوله تعالى : { قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤا هلك ليس له ولد } وبيانه عند عامة العلماء مأخوذ من حديث جابر بن عبدالله لأن الآية نزلت فيه ولم يكن له يوم نزولها أب ولا ابن لأن أباه قتل يوم أحد وآية الكلالة نزلت في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم فصار شأن جابر بياناً لمراد الآية التي نزلت في آخر السورة لنزولها فيه واختلفوا في أن الكلالة اسم لمن؟ فمنهم من قال هو اسم للميت ، وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس لأنه مات عن ذهاب طرفيه فكل عمود نسبه وقيل هو اسم للحي من الورثة وهو قول أبي بكر الصديق .(2/49)
وعليه جمهور العلماء الذين قالوا : إن الكلالة من دون الوالد والولد ويدل عليه حديث لجابر إنما يرثني كلالة أي يرثني ورثة ليسوا بولد ولا والد فإن كان المراد بالكلالة الميت الموروث فالمراد يرثه غير الوالد والولد وإن كان المراد الوارثين فهم غير الوالد والولد وقال ابن زيد : الكلالة الذي لا ولد له ولا والد والحي الميت كلهم كلالة هذا يرث بالكلالة هذا يرث بالكلالة وهذا يورث بالكلالة . وقال أبو الخبير : سأل رجل عقبة عن الكلالة فقال ألا تعجبون من هذا يسألني عن الكلالة وما أعضل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة ( ق ) عن عمر قال : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهد انتهى إليه الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا وهذا طرف حديث ذكر في الخمر ( ق ) عن معدان بن أبي طلحة قال خطب عمر بن الخطاب : فقال إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة ، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ في الكلالة حتى طعن بأصبعيه في صدري وقال : يا عمر ألا يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن . لفظ مسلم قوله : ألا يكفيك آية الصيف أراد أن الله عز وجل أنزل في الكلالة آيتين : إحداهما في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء والآية الأخرى في الصيف وهي التي آخر السورة وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء فلذلك أحاله عليها .
وقوله تعالى : { وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس } أراد به الأخ والأخت للأم باتفاق العلماء وقرأ سعد بن أبي وقاص وله أخ أو أخت من أم . فأن قلت إن الله تعالى قال وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ثم قال تعالى وله أخ فذكر الرجل ولم يذكر المرأة فما السبب فيه . قلت هذا على عادة العرب فإنهم إذا ذكروا اسمين ثم أخبروا عنهما وكان في الحكم سواء ربما أضافوا أحدهما إلى الآخر وربما أضافوا إليهما فهو كقوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة ، ثم قال تعالى وإنها لكبيرة وقال الفراء إذا جاء حرفان بمعنى واحد جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد ويجوز إسناده إليهما أيضاً { فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } وهذا إجماع العلماء أن أولاد الأم إذا كانوا اثنين فصاعداً يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم فيه سواء قال أبو بكر الصديق في خطبته : إلاّ أن الآية التي أنزل الله في أول سورة النساء من شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد والأم والآية الثانية في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية الثالثة التي ختم الله بها سورة النساء في الإخوة والأخوات من الأب والأم والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها الله في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله .(2/50)
وقوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } تقدم تفسيره وبقي شيء من الأحكام يذكر هنا وذلك أن ظاهر الآية يدل على جواز الوصية بكل المال وببعضه وفي معنى الآية ما روي عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به » وفي رواية له شيء يريد أن يوصي به أن يبيت ليلتين وفي رواية ثلاث ليال إلاّ ووصيته مكتوبة عنده . قال نافع : سمعت عبدالله بن عمر يقول ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلىلله عليه وسلم يقول ذلك إلاّ وعندي وصيتي مكتوبة أخرجاه في الصحيحين ، ففي ظاهر الآية والحديث ما يدل على إطلاق الوصية لكن ورد في السنة ما يدل على تقييد هذا المطلق وتخصيصه وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص قال : « الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء أخير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس » أخرجاه في الصحيحين . ففي هذا الحديث دليل على أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث وأن النقصان عن الثلث جائز ولا تجوز الوصية لوارث ويدل عليه ما روي عن عمرو بن خارجة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله عزّ وجلّ أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر » أخرجه الترمذي والنسائي عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث » أخرجه أبو داود .
وقوله تعالى : { غير مضار } يعني غير مدخل الضرر على الورثة بمجاوزة الثلث في الوصية وهو أن يوصي بأكثر من الثلث وقيل هو أن يوصي بدين ليس عليه أو يقر بماله أو أكثر ماله لأجنبي ويترك ورثته عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار »(2/51)
، ثم قرأ أبو هريرة من بعد وصية يوصي بها أو دين إلى قوله وذلك هو الفوز العظيم أخرجه أبو داود والترمذي . وقال قتادة : كره الله تعالى الضّرار في الحياة وعند الموت فنهى عنه وقدم فيه وقيل : إن الإضرار في الوصية من الكبائر لأن مخالفة أمر الله عز وجل كبيرة وقد نهى الله عن الإضرار في الوصية فدل على أن ذلك من الكبائر ، واعلم أن الأولى بالإنسان أن ينظر عند الموت في قدر ما يخلف من الورثة ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فإن كان ماله قليلاً ، وفي الورثة كثرة فالأولى به أن لا يوصي بشيء لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص : « إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس » وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب الورثة وحاجتهم بعده في القلة والكثرة .
وقوله تعالى : { وصية من الله } أي فريضة من الله وقيل عهداً من الله إليكم فيما يجب لكم من ميراث من مات منكم { والله عليم } يعني أنه عالم بمصالح عباده ومضارهم وبما يفرض عليهم من الأحكام وقيل عليم بمن يجوز في وصيته وبمن لا يجوز { حليم } يعني أنه تعالى ذو حلم وذو أناة في ترك العقوبة عمن جار في وصيته وقال أبو سليمان الخطابي : الحليم ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب ولا يستخفه جهل جاهل والحليم هو الصفوح مع القدرة المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة .(2/52)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
{ تلك حدود الله } يعني الأحكام التي تقدم ذكرها في هذه السورة من مال اليتامى والوصايا والأنكحة والمواريث وإنما سماها حدوداً لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزوها وقال ابن عباس يريد ما حد الله من فرائضه { ومن يطع الله ورسوله } يعني في شأن المواريث ورضي بما قسم الله له وحكم عليه { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله } يعني في شأن المواريث ولم يرض بقسمة الله ورسوله { ويتعد حدوده } يعني ويتجاوز ما أمر الله تعالى به { يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين } فإن قلت كيف قطع للعاصي بالخلود في النار في هذه الآية وهل فيها دليل للمعتزلة على قولهم إن العصاة والفساق من أهل الإيمان يخلدون في النار . قلت قال الضحاك المعصية هنا الشرك وروى عكرمة عن ابن عباس في معنى الآية من لم يرض بقسمة الله ويتعد ما قال الله يدخله ناراً وقال الكلبي : يكفر بقسمة المواريث ويتعد حدود الله استحلالاً إذا ثبت ذلك فمن رد حكم الله ولم يرض بقسمته كفر بذلك وإذا كفر كان حكمه حكم الكفار في الخلود في النار إذا لم يتب قبل وفاته إذا مات وهو مصر على ذلك كان مخلداً في النار بكفره فلا دليل في الآية للمعتزلة والله أعلم .
قوله تعالى : { واللاتي } هو جمع التي وهي يخبر بها عن المؤنثة خاصة { يأتين الفاحشة } يعني يفعلن الفاحشة يقال أتيت أمراً قبيحاً إذا فعلته والفاحشة في اللغة الفعلة القبيحة ، وقيل الفاحشة عبارة عن كل فعل أو قول يعظم قبحه في النفوس ويقبح ذكره في الألسنة حتى يبلغ الغاية في جنسه وذلك مخصوص بشهوة الفرج الحرام ولذلك أجمعوا على أن الفاحشة ها هنا هي الزنا وإنما سمي الزنى فاحشة لزيادة قبحه { من نسائكم } قيل هن الزوجات وقيل المراد بهن جنس النساء { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } يعني من المسلمين وهذا خطاب للأزواج أي اطلبوا أربعة من الشهود ليشهدوا عليهن وقيل هو خطاب للحكام اي استمعوا شهادة أربع عليهن . ويشترط في هذه الشهادة العدالة والذكورة قال عمر بن الخطاب : إنما جعل الله الشهود أربعة ستراً يستركم به دون فواحشكم { فإن شهدوا } يعني الشهود الزنا { فأمسكوهن في البيوت } أي فاحبسوهن في البيوت والحكمة في حبسهن أن المرأة إنما تقع في الزنى عند الخروج والبروز للرجال فإذا حبست في البيت لم تقدر على الزنى { حتى يتوفاهن الموت } يعني تتوفاهن ملائكة الموت عند انقضاء آجالهن { أو يجعل الله لهن سبيلاً } وهذا الحكم كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ثم نسخ الحبس بالحدود وجعل الله لهن سبيلاً ( م ) عن عبادة بن الصامت قال : « كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه حكم كرب لذلك وتربد وجهه فأنزل الله عليه ذات يوم فبقي كذلك فلما سري عنه قال :(2/53)
« خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب جلد مائة والرجم » .
فصل
اتفق العلماء على أن هذه الآية منسوخة ثم اختلفوا في ناسخها فذهب بعضهم إلى أن ناسخها هو حديث عبادة بن الصامت المتقدم وهذا على مذهب من يرى نسخ القرآن بالسنة وذهب بعضهم إلى أن الآية الحد التي في سورة النور وقيل إن هذه الآية منسوخة الصامت المتقدم وهذا على مذهب من يرى نسخ القرآن بالنسة بالحديث والحديث منسوخ بآية الجلد وقال أبو سلمان الخطابي : لم يحصل النسخ في هذه الآية ولا في الحديث وذلك لأن وقوله تعالى : { فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً } يدل على إمساكهن في البيوت ممدوداً إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلاً وأن ذلك السبيل كان مجملاً فلما قال صلى الله عليه وسلم : « خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً » الحديث صار هذا الحديث بياناً لتلك الآية المجملة لا ناسخاً لها . وأجمع العلماء على جلد البكر الزاني مائة ورجم المحصن وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف البلوغ والعقل والحرية والإصابة في نكاح صحيح وهو الثيب واختلفوا في جلد الثيب ورجمه فذهب طائفة إلى أنه يجب الجمع بينهما وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه . والحسن وإسحاق بن راهويه وداود وأهل الظاهر وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة . وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال جماهير العلماء الواجب على المحصن الزاني الرجم وحده لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية ولم يجلدهما . وأما تغريب البكر والزاني ونفيه سنة فمذهب الشافعي وجماهير العلماء وجوب ذلك وقال أبو حنيفة وحماد لا يقضى بالنفي أحد إلاّ أن يراه الحاكم تعزيراً ، وقال مالك والأوزاعي : لا نفي على النساء ويروى مثله عن علي قال لأن المرأة عورة وفي نفيها تضييع لها وتعريض للفتنة وحجة الشافعي وجماهير العلماء ظاهر حديث عبادة بن الصامت وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة » وروى نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وأن أبا بكر ضرب وغرب وإن عمر ضرب وغرب وإن كان الزاني عبداً فعليه جلد خمسين وفي تغريبه قولين . فإن قلنا إنه يغرب ففيه قولان أصحهما أنه يغرب سنة قياساً على حده وأن كان الزاني مجنوناً أو أنه يغرب ففيه قولان : أصحهما أنه يغرب نصف سنة قياساً على حده وإن كان الزاني مجنوناً أو غير بالغ فلا جلد عليه .(2/54)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
قوله عز وجل : { واللذان } هو تثنية الذي { يأتيانها } يعني يأيتان الفاحشة { منكم } من رجالكم ونسائكم وقيل هما البكران اللذان لم يحصنا وهما غير المعنيين بالآية الأولى وقيل المراد بمن ذكر في الأولى النساء وهذه للرجال لأن الله تعالى حكم في الآية بالحبس في البيت على النساء وهو اللائق بحالهن لأن المرأة إنما تفعل الفاحشة عند الخروج فإذا حبست في البيت انقطعت مادة المعصية ، وأما الرجل فلا يمكن حبسه في البيت لأنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه واكتساب قوت عياله فجعلت عقوبة الرجل الزاني الأذية بالقول والفعل { فآذوهما } يعني عيروهما بالقول باللسان وهو أن يقال له أما خفت الله أما استحيت من الله حين زنيت وقال ابن عباس : سبوهما واشتموهما وفي رواية عنه قال : هو باللسان واليد يؤذي بالتعبير ويضرب بالنعال { فإن تابا } يعني من الفاحشة { وأصلحا } يعني العمل فيما يأتي { فأعرضوا عنهما } أي اتركوهما ولا تؤذوهما { إن الله كان تواباً } يعني أنه تعالى يعود على عبده بفضله ومغفرته ورحمته إذا تاب إليه وهذا الحكم كان في ابتداء الإسلام كان حد الزاني الأذى بالتوبيخ والتعبير بالقول باللسان فلما نزلت الحدود وثبتت الأحكام نسخ ذلك الأذى بالآية التي في سورة النور وهي قوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } الآية فثبت الجلد على البكر بنص الكتاب وثبت الرجم على الثيب المحصن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً وكان قد أحصن وسواء في هذا الحكم المسلم واليهودي لأنه ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا وقال أبو حنيفة : لا رجم على اليهودي لأن المشرك ليس بمحصن وأجيب عنه بأن المراد بهذا الإحصان إحصان العفاف لا إحصان الفرج .(2/55)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
قوله تعالى { إنما التوبة على الله } يعني التوبة التي يقبلها الله تعالى فيكون على بمعنى عند وقيل على بمعنى من أي من الله وقال أهل المعاني إن الله تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين في قوله كتب ربكم على نفسه الرحمة وإذا وعد الله شيئاً أنجز ميعاده وصدق فيه فمعنى قوله على الله أوجب على نفسه من إيجاب أحد عليه لأنه تعالى يفعل ما يريد { للذين يعلمون السوء } يعني الذنوب والمعاصي سميت سوءاً لسوء عاقبتها إذا لم يتب منها { بجهالة } قال قتادة أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شيء عصى الله به فهو جهالة عمداً كان أو غيرهن وكل من عصى الله فهو جاهل . وقال ابن عباس : من عمل السوء فهو جاهل من جهالته عمل السوء فكل من عصى الله سمي جاهلاً وسمي فعله جهالة وإنما سمي من عصى الله جاهلاً لأنه لم يستعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب وإذا لم يستعمل ذلك سمي جاهلاً وسمي فعله جهالة وإنما سمي من عصى الله جاهلاً لأنه لم يستعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب وإذا لم يستعمل ذلك سمي جاهلاً بهذا الاعتبار وقيل معنى الجهالة أن يأتي الإنسان بالذنب مع العلم بأنه ذنب لكنه يجهل عقوبته وقيل معنى الجهالة هو اختيار اللذة الفانية على اللذة الباقية { ثم يتوبون من قريب } يعني يتوبون بعد الإقلاع عن الذنب بزمان قريب لئلا يعد زمرة المصرين وقيل القريب أن يتوب في صحته قبل مرض موته وقيل قبل موته وقيل قبل معاينة ملك الموت ومعاينة أهوال الموت وإنما سميت هذه المدة قريبة لأن كل ما هو آت قريب وفيه تنبيه على أن عمر الإنسان وإن طال فهو قليل وأن الإنسان يتوقع في كل ساعة ولحظة نزول الموت به عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » أخرجه الترمذي . الغرغرة أن يجعل المشروب في فم المريض فيردده في الحلق ولا يصل إليه ولا يقدر على بلعه وذلك عند بلوغ الروح إلى الحلقوم . وروى البغوي بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم » فقال الرب تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي وارتفاعي في مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني وقيل في معنى الآية إن القريب هو أن يتوب الإنسان قبل أن يحيط السوء بحسناته فيحبطها { فأولئك يتوب الله عليهم } يعني يقبل توبتهم { وكان الله عليماً حكيماً } قال ابن عباس : علم ما في قلوب عباده المؤمنين من التصديق واليقين فحكم بالتوبة قبل الموت ولم بقدر فواق ناقة وقيل في معنى الآية علم أنه إنما أتى بتلك المعصية باستيلاء الشهوة والجهالة عليه فحكم بالتوبة لمن تاب عنها وأناب عن قريب .(2/56)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
قوله عز وجل : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات } قال ابن عباس : يريد الشرك وقال أبو العالية وسعيد بن جبير : هم المنافقون وقال سفيان الثوري هم المسلمون ألا ترى أنه قال ولا والذين يموتوا وهم كفار { حتى إذا حضر أحدهم الموت } يعني وقع في النزاع وعاين ملائكة الموت وهو حالة السوق حين تساق الروح للخروج من جسده { قال إني تبت الآن } قال المحققون قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة بل المانع من قبولها مشاهدة الأحوال لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا بحال ولذلك لم تقبل توبة فرعون ولا إيمانه وهو قوله تعالى : إذا أدركه الغرق . قال : آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } فإن قلت قد تعلقت الوعيدية بهذه الآية وقالوا أخبر الله تعالى إن عصاة المؤمنين إذا هملوا أمرهم إلى انقضاء آجالهم حصلوا على عذاب الآخرة مع الكفار لأن الله تعالى جمعهم في قوله أولئك اعتدنا لهم عذاباً أليماً ، وأيضاً أنه تعالى أخبر أنه لا توبة لهم عند معاينة الموت وأسبابه . قلت ليس الأمر على ما زعموا فقد روي عن ابن عباس في قوله وليست التوبة للذين يعملون السيئات يريد الشرك وقال سعيد بن جبير : نزلت الآية الأولى في المؤمنين يعني قوله : إنما التوبة على الله والوسطى في المنافقين يعني قوله وليست التوبة والأخرى في الكافرين يعني قوله ولا الذين يموتون وهم كفار وإذا كانت الاية نازلة في المنافقين والكفار فلا وجه لحملها على المؤمنين وعلى تقدير أن تكون الآية نازلة في عصاة المؤمنين فقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات الآية ، ثم أنزل الله تعالى بعد ذلك إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون لك لمن يشاء فحرم الله المغفرة على من مات وهو كافر وارجأ أهل التوحيد إلى مشيئته ولم يؤيسهم من المغفرة فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة في حق المؤمنين .
وقوله تعالى : { ولا الذين يموتون وهم كفار } معناه لا توبة للكفار إذا ماتوا على كفرهم وإنما لم تقبل توبتهم في الآخرة لرفع التكليف في الآخرة ومعاينة ما وعدوا به من العقاب { أولئك أعتدنا لهم } أي هيأنا لهم { عذاباً أليماً } قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } نزلت في أهل المدينة وذلك أنهم كانوا في الجاهلية في أول الإسلام إذا مات الرجل وخلف امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبة من ذوي عصبته ، فألقى ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها فصار أحق بها من نفسها ومن غيره فإن شاء تزوجها بغير صداق إلاّ الصداق الأول الذي أصدقها الميت وأن شاء زوجها غيره وأخذ هو صداقها وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضراها بذلك لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت هي فيرثها فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه كانت أحق بنفسها وكانوا على ذلك حتى توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية فقام ابن له من غيرها يقال له حصن ، وقيل اسمه قيس بن أبي قيس فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ثم تركها فلم ينفق عليها يضارها بلك لتفتدي منه فأتت كبيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه فلا هو ينفق عليّ ولا هو يدخل بي ولا يخلي سبيلي ، فقال اقعدي في بيتك حتى يأتي أمر الله فيك فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } يعني ميراث نكاح النساء وقيل في معناه أن ترثوا أموالهن كرهاً يعني وهن كارهات { ولا تعضلوهن } أي ولا تمنعوهن من الأزواج وأصل العضل المنع { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } يعني لتضجر فتفتدي ببعض مالها قيل هو خطاب للأزواج قال ابن عباس : هذا في الرجل تكون له امرأة وهو كاره لها ولصحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي منه وترد إليه ما ساق إليها من المهر فنهى الله عن ذلك وقيل كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها ثم يطلقها يضارها بذلك فنهوا عن ذلك وهو خطاب لأولياء الميت فنهاهم الله عن عضل المرأة ثم قال تعالى : { إلاّ أن يأتين بفاحشة مبينة } يعني فحينئذٍ يحل لكم إضرارهن ليفتدين منكم واختلفوا في الفاحشة المبينة فقيل هي النشوز وسوء الخلق وإيذاء الزوج وأهله ، وقيل الفاحشة هي الزنى يعني أن المرأة إذا نشزت أو زنت حلّ للزوج أن يسألها الخلع وقيل كانت المرأة إذا أصابت فاحشة أخذ منها زوجها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ الله ذلك بالحدود { وعاشروهن بالمعروف } قيل هو راجع للكلام الذي قبله والمعنى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة وعاشروهن بالمعروف هو الإجمال في القول والمبيت والنفقة وقيل هو أن تصنع لها كما تحب أن تصنع لك { فإن كرهتموهن } يعني فإن كرهتم عشرتهن وصحبتهن وآثرتم فراقهن { فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } قال ابن عباس : ربما رزق منها ولداً صالحاً فجعل الله في ولدها خيراً كثيراً فتنقلب تلك الكراهة محبة والنفرة رغبة ، وقيل في الآية ندب إلى إمساك المرأة مع والكراهية لها لأنه إذا كره صحبتها وتحمل ذلك المكروه طلباً للثواب وأنفق عليها وأحسن هو صحبتها استحق الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى وقيل في معنى الآية إنكم إن كرهتموهن ورغبتم في فراقهن فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيراً كثيراً وذلك بأن تخلص من هذا الزوج الكاره لها وتتزوج غيره خيراً منه .(2/57)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
قوله عز جل : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج } الخطاب للرجال وأراد بالزوج الزوجة قال المفسرون : لما ذكر الله في الآية الأولى مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة وهي إما النشوز أو الزنا بيّن في هذه الآية تحريم المضارة إن لم يكن من قبلها نشوز ولا زنى عن بخس الرجل حق المرأة إذا أراد طلاقها واستبدال غيرها { وآتيتم إحداهن قنطاراً } يعني وكان ذلك الصداق مالاً كثيراً ، وفي الآية دليل على جواز المغالاة في المهور روي أن عمر قال على المنبر : ألا لا تغالوا في مهور نسائكم فقامت امرأة فقالت يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنعنا وتلت الآية . فقال كل الناس أفقه منك يا عمر وفي رواية امرأة أصابت وأمير أخطأ ورجع عن كراهة المغالاة وقد تغالى الناس في صدقات النساء حتى بلغوا الألوف وقيل إن خير المهور أيسرها وأسهلها { فلا تأخذوا منه شيئاً } يعني من القنطار الذي آتيتموهن لو جعلتم ذلك القدر لهن صداقاً فلا تأخذوا منه شيئاً وذلك أن سوء العشرة إما أن يكون من قبل الزوج أو من قبل الزوجة فإن كان من قبل الزوج وأراد طلاق المرأة فلا يحل له أن يأخذ شيئاً من صداقها وإن كان النشوز من قبل المرأة جاز له ذلك { أتأخذونه } استفهام بمعنى التوبيخ { بهتاناً } يعني ظلماً وقيل باطلاً { وإثماً مبيناً } يعني أتأخذونه مباهتين آثمين فلا تفعلوا مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل ثم قال تعالى : { وكيف تأخذونه } كلمة تعجب والمعنى لأي وجه تفعلون مثل هذا الفعل ويكيف يليق بالعاقل أن يسترد شيئاً بذله لزوجته عن طيب نفس وقيل هو استفهام معناه التوبيخ والتعظيم لأخذ المهر بغير حقه ثم ذكر السبب في ذلك فقال تعالى { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } أصل الإفضاء في اللغة الوصول يقال أفضى إليه أي وصل إليه ثم للمفسرين في معنى الإفضاء في هذه الآية قولان : أحدهما أنه كناية عن الجماع وهو قول ابن عباس ومجاهد والسدي واختيار الزجاج وابن قتيبه ومذهب الشافعي لأن عنده أن الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع بنصف المهر وإن خلا بها والقول الثاني في معنى الإفضاء هو أن يخلو بها وإن لم يجامعها وقال الكلبي الإفضاء أن يكون معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها وهذا القول هو اختيار الفراء ومذهب أبي حنيفة أن الخلوة الصحيحة عنده تقرر المهر { وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } قيل هو العاقد عند العقد زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقيل هي كلمة النكاح المعقودة على الصداق وهي الكلمة التي تستحل بها فروج النساء ويدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(2/58)
« اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله » .
قوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } قال المفسرون كان أهل الجاهلية يتزوجون أزواج آبائهم فنهاهم الله عن ذلك بهذه الآية روي أنه لما توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار خطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت إني اتخذتك ولداً وأنت من صالحي قومك ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأستأمره فأتته فأخبرته فأنزل الله عز وجل { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلاّ ما قد سلف } يعني إلاّ ما مضى في الجاهلية قبل نزول التحريم فإنه معفو عنه { إنه كان فاحشة } إنما سماه فاحشة لأن زوجة الأب في منزلة الألم ونكاح الأمهات حرام فلما كان ذلك كذلك سماه الله فاحشة لأنه من أقبح المعاصي { ومقتاً } يعني أنه يورث المقت من الله وهو أشد الغضب وغاية الخزي والخسارة { وساء سبيلاً } أي وبئس طريقاً لأنه يؤدي إلى مقت الله والعرب تسمي ولد الرجل من امرأة أبيه مقيتاً وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية روى البغوي بسنده عن البراء بن عازب قال : مر بي خالي ومعه لواء فقلت أين تذهب؟ قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه .(2/59)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
قوله عز وجل : { حرمت عليكم أمهاتكم } بيّن الله عزّ وجلّ في هذه الآية المحرمات من النساء بسبب الوصلة إما بسبب أو نسب ( خ ) عن ابن عباس قال حرم من النساء سبع ومن الصهر سبع ، ثم قرأ حرمت عليكم أمهاتكم الآية فجملة المحرمات من النساء بنص الكتاب أربعة عشر صنفاً ، فأما المحرمات بالنسب فقوله حرمت عليكم أمهاتكم جمع أم وأصل أمهات أمات وإنما زيدت الهاء للتوكيد والأم هي الوالدة القريبة ويدخل في حكمها كل امرأة رجع النسب إليها من جهة الأب أو من جهة الأم بدرجة أو بدرجات وهي جميع الجدات وإن علون فيحرم الأم وجميع الجدات { وبناتكم } والبنت عبارة عن كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث كبنت البنت وإن سفلت وكذا بنت الابن { وأخواتكم } جمع أخت وهي عبارة عن كل امرأة شاركتك في أصلك فتدخل فيه الأخوات من الأب والأم والأخوات من الأب والأخوات من الأم { وعماتكم } جمع عمة وهي كل امرأة شاركت أباك في أصله وهن جميع أخوات الأب وأخوات آبائه وإن علون وقد تكون العمة من جهة الأم أيضاً وهي أخت أبي الأم { وخالاتكم } جمع خالة وهي كل امرأة شاركت الأم في أصلها فيدخل فيه جميع أخوات الأم وأخوات أمهاتها ، وقد تكون الخالة من جهة الأب أيضاً وهي أخت أم الأب { وبنات الأخ وبنات الأخت } وهي عبارة عن كل امرأة لأخيك أو لأختك عليها ولادة يرجع نسبها إلى الأخ أو الأخت فيدخل فيهن جميع بنات أولاد الأخ والأخت وإن سفلن فهذه الأصناف السبعة محرمة بسبب النسب بنص الكتاب وجملته أنه يحرم على الرجل أصوله وفصوله وفصول أول أصوله ، وأول فصل من كل أصل بعده أصل فالأصول هن الأمهات والجدات ، والفصول هن البنات وبنات الأولاد وفصول أول أصوله هن الأخوات وبنات الإخوة والأخوات وأول فصل من كل أصل بعده أصل هن العمات والخالات وإن علون . قال العلماء : كل امرأة حرم الله نكاحها بالنسب والرحم فحرمتها مؤبدة لا تحل يوجه من الوجوه . الصنف الثاني المحرمات بالسبب وهن سبع الأول والثاني المحرمات بالرضاع وذلك في قوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } كل أنثى انتسبت باللبن إليها فهي أمك وبنتها أختك وإنما نص الله على ذكر الأم والأخت ليدل بذلك على جميع الأصوال والفروع فنبه بذلك أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب ويدل على ذلك ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة » أخرجاه في الصحيحين ( ق ) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/60)
« في بنت حمزة إنها لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » وإنها ابنة أخي من الرضاعة فكل من حرمت بسبب النسب حرم نظيرها بسبب الرضاعة ، وإنما سمى الله تعالى المرضعات أمهات لأجل الحرمة فيحرم عليه نكاحها ويحل له النظر إليها والخلوة بها والسفر معها ولا يترتب عليه جميع أحكام الأمومة من كل وجه فلا يتوارثان ولا تجب على كل واحد منهما نفقة الآخر وغير ذلك من الأحكام ، وإنما ثبتت حرمة الرضاع بشرطين : أحدهما أن يكون إرضاع الصبي في كل حال الصغر وذلك إلى انتهاء سنتين من ولادته لقوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } وقوله تعالى : { وفصاله في عامين } عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحرم من الرضاع إلاّ من فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام » أخرجه الترمذي عن ابن مسعود قال : لا رضاعة إلاّ ما كان في الحولين أخرجه مالك في الموطأ بأطول من هذا وأخرجه أبو داود مختصراً قال : قال عبدالله بن مسعود لا رضاع إلاّ ما شد اللحم . وقال أبو حنيفة مدة الرضاع ثلاثون شهراً لقوله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } وحمله الجمهور على أقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع لأن مدة الحمل داخلة فيه وأقله ستة أشهر . الشرك الثاني أن يوجد خمس رضعات متفرقات . روي ذلك عن عائشة وبه قال عبدالله بن الزبير ، وإليه ذهب الشافعي ويدل على ذلك ما روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تحرم المصة ولا المصتان » أخرجه مسلم ( م ) عن أم الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان » وفي رواية : « أن رجلاً من بني عامر بن صعصعة قال يا نبي الله هل تحرم الرضعة الواحدة قال لا » ( م ) عن عائشة قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخت بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن قولها فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن يحتمل أنه لم يبلغها نسخ ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى فهو مما نسخ تلاوته وبقي حكمه ، وذهب جمهور العلماء إلى أن قليل الإرضاع وكثيره يحرم وهو قول ابن عباس وابن عمر وبه قال سعيد بن المسيب وإليه ذهب الثوري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه والرواية الأخرى كمذهب الشافعي واحتج مذهب الجمهور بمطلق الآية لأنه عمل بعموم القرآن وظاهره ولم يذكر عدداً وأجاب الشافعي ومن وافقه في هذه المسألة بأن السنة مبينة للقرآن مفسرة له .
وقوله تعالى : { وأمهات نسائكم } يعني إذا تزوج الرجل بامرأة حرمت عليه أمها الأصلية وجميع جداتها من قبل الأب والأم كما في النسب والرضاع أيضاً ومذهب أكثر الصحابة وجميع التابعين وكل العلماء أن من تزوج امرأة حرمت عليه أمها بنفس العقد سواء دخل بها أو لم يدخل بها وذهب جمع من الصحابة إلى أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بابنتها وهو قول علي وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وجابر وأظهر الروايات عن ابن عباس والعمل اليوم على القول الأول هو مذهب الجمهور ويدل على ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(2/61)
« أيما رجل نكح امرأة فلا يحل له نكاح ابنتها . وإن لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها وأيما رجل نكح امرأة فلا يحل له أن ينكح امرأة دخل بها أو لم يدخل » أخرجه الترمذي وقوله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } الربائب جمع ربيبة وهي بنت المرأة من رجل آخر سميت ربيبة لتربيتها في حجر الرجل ، وقوله دخلتم بهن كناية عن الجماع لا نفس العقد فيحرم على الرجل بنات امرأته وبنات أولادها وأن سفلن من النسب والرضاع بعد الدخول بالزوجة . فلو فارق زوجته قبل الدخول بها أو ماتت قبل دخوله بها جاز أن يتزوج بنتها ولا يجوز له أن يتزوج أمها لأن الله تعالى أطلق تحريم الأمهات ، وعلق تحريم البنات بالدخول بالأم وقوله تعالى : { وحلائل أبنائكم } يعني أزواج أنبائكم واحدتها حليلة والرجل حليل سميا بذلك لأن كل واحد منهما يحل لصاحبه وقيل لأن كل واحد منهما يحل حيث يحل صاحبه في إزار واحد قيل لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه من الحل بفتح الحاء وجملته أنه يحرم على الرجل أزواج أبنائه وأبناء أولاده وإن سفلوا من النسب والرضاع وذلك بنفس العقد { الذين من أصلابكم } إنما قال من أصلابكم احترازاً من التبني ليعلم أن زوجة المتبنى لا تحرم على الرجل الذي تبناه لأنه كان في صدر الإسلام بمنزلة الابن فنسخ الله ذلك وقال تعالى : { ادعوهم لآبائهم } وتزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة زيد بن حارثة وكان قد تبناه فقال المشركون تزوج زوجة ابنه فأنزل الله تعالى وما جعل أدعياءكم ابناءكم وقال تعالى لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم وقوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين } يعني لا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في نكاح واحد سواء كانت الأخوة بينهما أخوة نسب أو رضاع والجمع بين الأختين يقع على ثلاثة أوجه : أحدهما أن يجمع بينهما بعقد واحد فهذا العقد فاسد لا يصح فلو تزّوج إحدى الأختين ثم تزوّج الأخرى بعدها فها هنا يحكم ببطلان نكاح الثانية فلو طلق الأولى طلاقاً بائناً جاز له نكاح أختها ، الوجه الثاني من صور الجمع بين الأختين هو أن يجمع بينهما بملك اليمين فلا يجوز له أن يجمع بينهما في الوطء فإذا وطئ إحداهما حرمت عليه الثانية حتى يحرم الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة ، الوجه الثالث من صور الجمع بين الأختين هو أن يتزوج إحداهما ويشتري الأخرى فيملكها بملك اليمين فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما لأن ظاهر هذه الآية يقتضي تحريم الجمع مطلقاً فوجب أن يحرم الجمع بينهما على جميع الوجوه وذهب بعضهم إلى جوازه والقول الأول أصح ، وأولى لما روى قبيصة بن ذؤيب أن رجلاً سأل عثمان عن أختين مملوكتين لرجل هل يجمع بينهما فقال عثمان : أحلتهما آية وحرمتهما آية فأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك فخرج من عنده فلقي رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عنه فقال أما أنا فلو كان لي من الأمر شيء لم أجد أحد فعل ذلك إلاّ جعلته نكالاً قال ابن شهاب : أراه علي بن أبي طالب قال مالك أنه بلغه عن الزبير بن العوام مثل ذلك أخرجه مالك في الموطأ وقوله تعالى : { إلا ما قد سلف } يعني لكن ما قد مضى فإنه معفو عند بدليل قوله تعالى : { إن الله كان غفوراً رحيماً } وقيل إن فائدة هذا الاستثناء أن أنكحه الكفار صحيحة فلو أسلم عن أختين قيل له أختر أيتهما شئت .(2/62)
ويدل على ذلك ما روي عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال قلت يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان قال طلق أيتهما شئت أخرجه أبو داود .
فروع تتعلق بحكم الآية . الأول : لا يجوز الجمع بين المرأة ولا بين المرأة وخالتها ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها » أخرجه في الصحيحين قال بعض العلماء في حد ما يحرم الجمع كل امرأتين بينهما قرابة أو لبن لو كان ذلك بينك وبين المرأة لم يجز لك نكاحها لم يجز لك الجمع بينهما .
الفرع الثاني : المحرمات بالنسب سبعة أصناف ذكرت في الآية نسقاً والمحرمات بالسبب صنفان : صنف يحرم بالرضاع وهن الأمهات والأخوات على ما تقدم ذكره وصنف يحرم بالمصاهرة وهي أم المرأة وحليلة الابن وزوجة الأب وقد تقدم ذكرها في قوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } الآية والربائب على التفصيل المذكور والجمع بين الأختين .
الفرع الثالث : التحريم الحاصل بسبب المصاهرة إنما حصل بنكاح صحيح فلو زنى بامرأة لم تحرم عليه أمها ولا بنتها لو أراد أن يتزوج بهن وكذلك لا تحرم المزني بها على آباء الزاني ولا أبنائه إنما تتعلق الحرمة بنكاح صحيح أو بنكاح فاسد يجب لها به الصداق وتجب عليها العدة ويلحق به الولد .(2/63)
وهذا قول علي وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب وعروة بين الزبير والزهري وإليه ذهب مالك والشافعي وفقهاء الحجاز . وذهب قوم إلى أن الزنى يتعلق به تحريم المصاهرة يروى ذلك عن عمران بن حصين وأبي هريرة وبه قال جابر بن زيد والحسن وأهل العراق . ولو لمس امرأة أجنبية بشهوة أو قبلها هل يجعل ذلك كالدخول في إثبات تحريم المصاهرة وكذلك لو مس أمراة بشهوة هل يجعل ذلك كالوطء في تحريم الربيبة؟ فيه قولان : أصحهما أنه تثبت به حرمة المصاهرة وهو قول أكثر أهل العلم والثاني لا تثبيت به كما لا تثبت بالنظرة بشهوة .(2/64)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
قوله تعالى : { والمحصنات } يعني حرمت المحصنات { من النساء } وأصل الإحصان في اللغة المنع والحصان بالفتح المرأة العفيفة ويطلق الإحصان على المرأة ذات الزوج والحرة والعفيفة والمرأة المسلمة والمراد من الإحصان في قوله والمحصنات ذوات الأزواج من النساء فلا يحل لأحد نكاحهن قبل مفارقة أزواجهن وهذه هي السابعة من النساء التي حرمن بالسبب . قال أبو سعيد الخدري : نزلت هذه الآية في نساءكن هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواج فتزوجن ببعض المسلمين ثم قدم أزواجهن مهاجرين فنهي الله المسلمين عن نكاحهن ثم استثنى فقال تعالى : { إلا ما ملكت أيمانكم } يعني السبايا اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الحرب ، فيحل لمالكهن وطؤهن بعد الاستبراء لأن السبي يرتفع به النكاح بينهما وبين زوجها قال أبو سعيد الخدري : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى أوطاس فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين فكرهوا غشيانهن فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال ابن مسعود : أراد أنه إذا باع الجارية المزوجة فتقع الفرقة بينها وبين زوجها ويكون بيعها طلاقاً فيحل للمشتري وطؤها . وقال عطاء : أراد بقوله إلا ما ملكت أيمانكم أن تكون أمته في نكاح عبده فيجوز له أن ينتزعها منه وقيل أراد بالمحصنات من النساء الحرائر ومعناه أن ما فوق الأربع منهن فإنه عليكم حرام إلا ما ملكت أيمانكم فإنه لا عدد عليكم في الجواري ولا حصر { كتاب الله عليكم } يعني حرمت عليكم أمهاتكم وكتب عليكم هذا كتاباً وقيل معناه الزموا كتاب الله وقيل معناه كتاباً من الله عليكم بمعنى كتب الله تحريم ما حرم عليكم من ذلك وتحليل ما حلل كتاباً { وأحل لكم ما وراء ذلكم } يعني وأحل الله لكم ما سوى ذلكم الذي ذكر من المحرمات . وظاهر هذه الآية يقتضي حل ما سوى المذكورين من الأصناف المحرمات ، لكن قد دل الدليل من السنة بتحريم أصناف أخر سوى ما ذكر فمن ذلك أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ومن ذلك المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الأول حتى تنكح زوجاً غيره ومن ذلك نكاح المعتدة فلا تحل للأزواج حتى تنقضي عدتها ومن ذلك أن من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتنزوج بأمة والقادر على طول الحرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة ومن ذلك من كان عنده أربع نسوة حرم عليه أن يتزوج بخامسة ومن ذلك الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن بالتأبيد فهذه أصناف من المحرمات سوى ما ذكر في الآية فعلى هذا يكون قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ورد بلفظ العموم لكن العموم دخله التخصيص فيكون عاماً مخصوصاً .(2/65)
وقوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } فيه إضمار تقديره وأحل لكم أن تبتغوا أي تطلبوا بأموالكم أن تنكحوا بصداق أو تشتروا بثمن . وفي الآية دليل على أن الصداق لا يتقدر بشيء فيجوز على القليل والكثير لإطلاق قوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم محصنين } يعني متزوجين وقيل متعففين { غير مسافحين } يعني غير زانين والسفاح الفجور وأصله من السفح وهو الصب وإنما سمي الزنى سفاحاً لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقط . قوله تعالى : { فما استمتعتم به منهن } اختلفوا في معناه فقال الحسن ومجاهد : أراد ما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بنكاح صحيح لأن أصل الاستمتاع في اللغة الانتفاع وكل ما انتفع به فهو متاع { فآتوهن أجورهن } يعني مهورهن وإنما سمي المهر أجراً لأنه بدل المنافع ليس بدل الأعيان كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجراً . وقال قوم المراد من حكم الآية وهو نكاح المتعة وهو أن ينكح امرأة إلى مدة معلومة بشيء معلوم فإذا انقضت تلك المدة بانت منه بغير طلاق ويستبرئ رحمها وليس بينهما ميراث وكان هذا في ابتداء الإسلام ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة فحرمها ( م ) عن سبرة بن معبد الجهني أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فقال يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً » وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم أي أن نكاح المتعة حرام والآية منسوخة واختلفوا في ناسخها فقيل نسخت بالسنة وهو ما تقدم من حديث سبرة الجهني ( ق ) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية » وهذا على مذهب من يقول إن السنة تنسخ القرآن ومذهب الشافعي في أن السنّة لا تنسخ القرآن فعلى هذا يقول : إن ناسخ هذه الآية قوله تعالى في سورة المؤمنون : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } والمنكوحة في المتعة ليست بزوجة ولا ملك يمين واختلفت الروايات عن ابن عباس في المتعة فروي عنه أن الآية محكمة وكان يرخص في المتعة . قال عمارة سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ فقال لا سفاح ولا نكاح . قلت : فما هي؟ قال متعة؟ قال الله تعالى فما به منهن قلت هل لها عدة قال نعم؟ حيضة قلت هل يتوارثان؟ قال لا وروى أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس بالمتعة قال : قاتلهم الله أنا ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق لكن قلت إنما تحل للمضطر كما تحل الميتة له وروي أنه رجع عنه .(2/66)
وقال بتحريمها وروى عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله فما استمتعتم به منهن إنها صارت منسوخه وبقوله : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } وروى سالم بن عبدالله بن عمر أن عمر بن الخطاب صعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال ما بال أقوام ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها لا أجد رجلاً نكحها إلا رجمته بالحجارة وقال هدم المتعة : النكاح والطلاق والعدة والميراث قال الشافعي : لا أعلم في الإسلام شيئاً أحل ثم حرم ثم أحل ثم حرم غير المتعة . وقال ابو عبيد : المسلمون اليوم مجمعون على أن متعة النساء قد نسخت بالتحريم نسخها الكتاب والسنّة هذا قول أهل العلم جميعاً من أهل : الحجاز الشام والعراق من أصحاب الأثر والرأي وأنه لا رخصة فيها لمضطر ولا لغيره قال ابن الجوزي في تفسيره : وقد تكلف قوم من مفسري القرآن فقالوا : المراد بهذه الآية نكاح المتعة ثم نسخت بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن متعة النساء وهذا تكلف لا يحتاج إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز المتعة ثم منع منها فحرمها فكان قوله منسوخاً بقوله وأما الآية فإنها لم تتضمن جواز المتعة لأنه تعالى قال فيها إن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فدل ذلك على النكاح الصحيح . قال الزّجاج ومعنى قوله فما استمتعتم به منهن فما نكحتموه على الشرائط التي جرت وهو قوله محصنين غير مسافحين أي عاقدين التزويج . وقال ابن جرير الطبري : أولى التاويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله فما نكحتموه منهن فجامعتموهن فآتوهن أجورهن لقيام الحجة بتحريم الله تعالى متعة النساء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى : { فآتوهن أجورهن } يعني مهورهن { فريضة } يعني لازمة وواجبة { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } اختلفوا فيه فمن حمل ما قبله على نكاح المتعة قال : أراد إنهما إذا عقد عقداً إلى أجل على مال فإذا تم الأجل فإن شاءت المرأة زادت في الأجل وزاد الرجل في الأجر ، وإن لم يتراضيا فارقها وقد تقدم أن ذلك كان جائزاً ثم نسخ وحرم ومن حمل الآية على الاستمتاع بالنكاح الصحيح . قال المراد بقوله ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به يعني من الإبراء من المهر والافتداء والاعتياض . وقال الزّجاج معناه لا جناح عليكم أن تهب المرأة للزوج مهرها وأن يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه { إن الله كان عليماً } يعني بما يصلحكم أيها الناس في مناكحكم وغيرها من سائر أموركم { حكيماً } يعني فيما دبر لكم من التدبير وفيما يأمركم به وينهاكم عنه ولا يدخل حكمه خلل ولا زلل .(2/67)
فصل في قدر الصداق وما يستحب منه
اعلم أنه لا تقدير لأكثر الصداق لقوله تعالى : { وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً } والمستحب أن لا يغالي فيه قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ألا لا تغالوا في صدقة النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئاً من نسائه ولا أنكح شيئاً من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية أخرجه الترمذي ولأبي داود نحوه ( م ) عن أبي سلمة قال : سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : كان صداقة لأزواجه اثنتي عشر أوقية ونشا قالت : أتدري ما النش؟ قلت : لا قالت : نصف أوقية فذلك خمسمائة درهم واختلف العلماء في أقل الصداق فذهب جماعة إلى أنه لا تقدير لأقله بل كل ما جاز أن يكون مبيعاً أو ثمناً جاز أن يكون صداقاً وهو قول ربيعة وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وقال قوم يتقدر الصداق بنصاب السرقة وهو قول مالك وأبي حنيفة . غير ان نصاب السرقة عند مالك ثلاث دراهم وعند أبي حنيفة عشرة دراهم والدليل على أن الصداق لا يتقدر ما روي عن سهل بن سعد الساعدي قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله قد وهبت نفسي لك فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال فهل عندك من شيء؟ فقال لا والله يا رسول الله فقال اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً؟ فذهب ثم رجع فقال : لا والله ما وجدت شيئاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « انظر ولو خاتماً من حديد » فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد ولكن إزاري هذا . قال سهل ما له رداء فيها نصفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها من شيء وإن لبسته لم يكن عليك من منه شيء » فجلس الرجل حتى طال مجلسه قام فرآه النبي صلى الله عليه وسلم مولياً فأمر به فدعا له فلما جاء قال ماذا معك من القرآن قال معي سورة كذا وسورة كذا عددها قال تقرأهن عن ظهر قلب قال نعم قال : اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن وفي رواية فقد زوجتكها تعلمها من القرآن وفي رواية فقد أنكحناكها بما معك من القرآن .(2/68)
أخرجاه في الصحيحين وهذا لفظ الحميدي . ففي هذا الحديث دليل على أنه لا تقدير لأقل الصداق لأنه هل تجد شيئاً فهذا يدل على جواز أي شيء كان من المال ثم قال ولو خاتماً من حديد ولا قيمة له إلا القليل التافه وفيه دليل على أنه يجوز أن يجعل تعليم القرآن صداقاً وهو قول الشافعي ومنعه أصحاب الرأي عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من أعطى من صداق امرأة ملء كفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل » أخرجه أبو داود عن عبدالله بن عامر عن أبيه ان امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم « أرضيت من نفسك ومالك بنعلين قالت نعم فأجازه » أخرجه الترمذي وقال عمر بن الخطاب : ثلاث قبضات من زبيب مهر .(2/69)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
قوله عز وجل : { ومن لم يستطع منكم طولاً } يعني فضلاً وسعة وإنما سمي الغني طولاً لأنه ينال به من المراد ما لا ينال مع الفقر والطول هنا كناية عما يصرف إلى المهر والنفقة { أن ينكح المحصنات } يعني الحرائر { المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم } يعني جارية أخيك المؤمن فإن الإنسان لا يجوز له أن يتزوج بجارية نفسه { من فتياتكم المؤمنات } المعنى من لم يقدر على مهر الحرة المؤمنة فليتزوج الأمة المؤمنة والفتيات الجواري المملوكات جمع فتاة يقال للأمة فتاة والعبد فتى . وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين : أحدهما أن لا يجد مهر حرة لأنه جرت العادة في الإماء بتخفيف مهورهن ونفقتهن وسبب ذلك اشتغالهن بخدمة ساداتهن . والشرط الثاني وهو خوف العنت على نفسه وهو قوله تعالى ذلك لمن خشي العنت منكم . قال ابن عباس : هو الزنا وهذا قول جابر وابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومسروق ومكحول وعمرو بن دينار وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد . وروي عن علي والحسن البصري وابن المسيب ومجاهد والزهري أنه يجوز للحر أن ينكح الأمة وإن كان موسراً وهو مذهب أبي حنيفة إلا أن يكون في نكاح حرة والسبب مع منع الحر من نكاح الأمة إلا عند خوف العنة إن الولد يتبع الأم في الرق والحرية ، وإذا كانت الأم رقيقة كان الولد رقيقاً وذلك نقص في حق الحر وفي حق ولده ولأن حق السيد أعظم من حق الزوج فربما احتاج الزوج إليها فلا يجد إليها سبيلاً لأن للسيد حبسها لخدمته ولأن مهرها ملك السيد فلا تقدر على هبته من زوجها ولا أن تبرئه منه بخلاف الحرة فلهذا السبب منع الله من نكاح الأمة إلاعلى سبيل الرخصة والاضطرار ويجوز للعبد نكاح الأمة وإن كان في نكاحه حرة . وعند أبي حنيفة لا يجوز له إذا كانت تحته حرة كما يقول في الحر وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للمسلم حراً كان أو عبداً نكاح الأمة الكتابية لقوله تعالى : { من فتياتكم المؤمنات } يفيد جواز نكاح الأمة المؤمنة دون الكتابية لأن فيها نوعين من النقص وهما : الرق والكفر بخلاف الأمة المؤمنة لأن فيها نقصاً واحداً وهو الرق وهذا قول مجاهد والحسن وإليه ذهب مالك والشافعي وقال أبو حنيفة : يجوز التزويج بالأمة الكتابية وبالاتفاق يجوز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وقوله تعالى : { والله أعلم بأيمانكم } قال الزّجاج أي اعملوا على الظاهر في الإيمان فإنكم متعبدون بما ظهر والله يتولى السرائر والحقائق وقيل معناه لا تتعرضوا للباطن في الإيمان وخذوا بالظاهر فإن الله أعلم بإيمانكم { بعضكم من بعض } يعني أنكم كلكم من نفس واحدة فلا تستنكفوا من نكاح الإماء عند الضرورة وإنما قيل لهم ذلك لأن العرب كانت تفتخر بالأنساب والأحساب ويسمون ابن الأمة الهجين فأعلم الله تعالى أن ذلك أمر لا يلتفت إليه فلا يتداخلنكم شموخ وأنفة من التزويج بالإماء ، فإنكم متساوون في النسب إلى آدم وقيل إن معناه إن دينكم واحد وهو الإيمان وأنتم مشتركون فيه فمتى وقع لأحدكم الضرورة جاز له أن يتزوج بالأمة عند خوف العنت .(2/70)
وقال ابن عباس : يريد أن المؤمنين بعضهم أكفاء بعض { فانكحوهن بإذن أهلهن } يعني اخطبوا الإماء إلى ساداتهن واتفق العلماء على أن نكاح الأمة بغير إذن سيدها باطل لأن الله تعالى جعل إذنه السيد شرطاً في جواز نكاح الأمة { وآتوهن أجورهن } يعني مهورهن { بالمعروف } يعني من غير مطل ولا ضرر . وقيل معناه وآتوهن مهور أمثالهن وأجمعوا على أن المهر للسيد لأنه ملكه وإنما أضيف إيتاء المهر إلى الإماء لأنه ثمن بضعهن { محصنات } يعني عفائف { غير مسافحات } يعني غير زانيات { ولا متخذات أخدان } جمع خدن وهو الصاحب الذي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن وأكثر ما يستعمل فيمن يصاحب بشهوة يقال خدن المرأة وخدينها يعني حبها الذي يزني به في السر . قال الحسن : المسافحة هي التي كل من دعاها تبعته وذات الأخذان هي التي تختص بواحد ولا تزني مع غيره وكانت العرب في الجاهلية تحرم الأولى وتجوز الثانية فلما كان الفرق معتبراً عندهم لا جرم أن الله تعالى أفرد كل واحد من هذين القسمين بالذكر ونص على تحريمهما معاً { فإذا أحصن } قرئ بفتح الألف والصاد ومعناه حفظن فروجهن ، وقيل معناه أسلمن وقرأ حفص بضم الألف وكسر الصاد ومعناه زوجن { فإن أتين بفاحشة } يعني بزنى { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } يعني فعلى الإماء اللاتي زنين نصف ما على الحرائر الأبكار إذا زنين من الجلد ويجلد العبد الزنا إذا زنا خمسين جلدة ولا فرق بين المملوك المتزوج وغير المتزوج فإنه يجلد خمسين ولا رجم عليه هذا قول أكثر العلماء ويروى عن ابن عباس وقال طاوس : أنه لا حد على من لم يتزوج من المماليك إذا زنى لأن الله تعالى قال فإذا أحصن والذي لم يتزوج ليس بمحصن وأجيب عنه بأن معنى الإحصان عند الأكثرين الإسلام ، وإن كان المراد منه التزويج فليس المراد منه أن التزويج شرط لوجوب الحد عليه بل المراد منه التنبيه على أن المملوك وإن كان محصناً فلا رجم عليه إنما حده الجلد ، بخلاف الحر فحد الأمة ثابت بهذه الآية وبيان أنه بالجلد لا بالرجم ثابت بالحديث وهو ما روي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر »(2/71)
أخرجاه في الصحيحين قوله ولا يثرب عليها أي لا يعيرها والتثريب التأبين والتعبير والاستقصاء في اللوم قال الشيخ محيي الدين النواوي : وهذا البيع المأمور به في الحديث مستحب وليس بواجب عندنا وعند الجمهور وقال داود وأهل الظاهر هو واجب وفيه جواز بيع الشيء الثمين بالثمن الحقير وهذا البيع المأمور به يلزم صاحبه أن يبين حالها للمشتري لأنه عيب والإخبار بالعيب واجب . فإن قيل كيف يكره شيئاً ويرتضيه لأخيه المسلم . فالجواب لعلها تستعف عند المشتري بأن يعفها بنفسه أو يصونها بهيبته أو بالإحسان إليها أو يزوجها أو غير ذلك والله أعلم . { ذلك } إشار إلى نكاح الأمة { لمن خشي العنت منكم } يعني الزنا والمعنى ذلك لمن خاف أن تحمله شدة الشبق والغلمة وشدة الشهوة على الزنى وإنما سمي الزنى بالعنت لما يعقبه من المشقة وهي شدى العزوبة فأباح الله تعالى نكاح الإماء بثلاثة شروط : عدم القدرة على نكاح الحرة وخوف العنت وكون الأمة مؤمنة { وأن تصبروا } يعني عن نكاح الإماء متعففين { خير لكم } يعني كيلا يكون الولد عبداً رقيقاً { والله غفور رحيم } وهذا كالتوليد لما تقدم يعني أنه تعالى غفر لكم ورحمكم حيث أباح لكم ما أنتم محتاجون إليه .(2/72)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } اللام في قوله ليبين معناه أن يبين وقيل معناه يريد إنزال هذه الآيات من أجل أن يبين لكم ديتكم ويوضح لكم شرعكم ومصالح أموركم وقيل يبين لكم ما يقربكم منه وقيل يبين أن الصبر على نكاح الإماء خير لكم { ويهديكم } أي ويرشدكم { سنن الذين من قبلكم } أي شرائع من قبلكم في تحريم الأمهات والبنات والأخوات فإنها كانت محرمة على من قبلكم وقيل معناه يرشدكم إلى ما لكم فيه مصلحة كما بينه لمن كان قبلكم ، وقيل معناه ويهديكم إلى الملة الحنيفية وهي ملة إبراهيم عليه السلام و { يتوب عليكم } يعني ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم ويرجع بكم عن المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته ، وقيل لما بين لنا أمر الشرائع والمصالح وأرشدنا إلى طاعته فربما وقع منا تقصير وتفريط فيما أمر به وبينه فلا جرم أنه تعالى قال ويتوب عليكم { والله عليم } يعني بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم { حكيم } يعني فيما دبر من أمورهم . { والله يريد أن يتوب عليكم } قال ابن عباس معناه يريد أن يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى . وقيل معناه يدلكم على ما يكون سبباً لتوبتكم التي يغفر لكم ما سلف من ذنوبكم وقيل معناه إن وقع منكم تقصير في دينه فيتوب عليكم ويغفر لكم { ويريد الذين يتبعون الشهوات } قيل هم اليهود والنصارى وقيل هم اليهود خاصة لأنهم يقولون إن نكاح بنت الأخت من الأب حلال . وقيل هم المجوس لأنهم يستحلون نكاح الأخوات وبنات الإخوة فلما حرمهن الله قالوا إنكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة والخالة والعمة عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت هذه الآية . وقيل هم الزناة يريدون أن تكونوا مثلهم { أن تميلوا } يعني عن الحق وقصد السبيل بالمعصية { ميلاً عظيماً } يعني بإتيانكم ما حرم الله عليكم { يريد الله أن يخفف عنكم } يعني ليسهل عليكم أحكام الشرائع فهو عام في كل أحكام الشرع وجميع ما يسره لنا وسهله علينا إحساناً منه إلينا وتفضلاً ولطفاً علينا ، ولم يثقل التكاليف علينا كما ثقلها على بني إسرائيل فهو كقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وكما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « بعثت بالحنيفية السهلة السمحة » وقوله تعالى : { وخلق الإنسان ضعيفاً } يعني في قلة الصبر عن النساء فلا صبر له عنهن وقيل إنه لضعفه يستميله هواه فهو ضعيف العزم عن قهر الهوى وقيل هو ضعيف في أصل الخلقة لأنه خلق من ماء مهين . قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } يعني بالحرام الذي لا يحل في الشرع كالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة ونحو ذلك .(2/73)
وإنما خص الأكل بالذكر ونهى عنه تنبيهاً على غيره من جميع التصرفات الواقعة على وجه الباطل لأن معظم المقصود من المال الأكل ، وقيل يدخل فيه أكل ماله نفسه بالباطل ومال غيره أما أكل ماله بالباطل فهو إنفاقه في المعاصي ، وأما أكل مال غيره فقد تقدم معناه وقيل يدخل في أكل المال الباطل جميع العقود الفاسدة . وقوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } هذا الاستثناء منقطع لأن التجارة عن تراض ليست من جنس أكل المال بالباطل فكان إلا ها هنا بمعنى لكن يحل أكله بالتجارة عن تراض يعني بطيبة نفس كل واحد منكم . وقيل هو أن يخير كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد البيع فيلزم وإلاّ فلهما الخيار ما لم يتفرقا لما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك منهما البيع فقد وجب البيع » أخرجاه في الصحيحين . قوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } أي لا يقتل بعضكم بعضاً وإنما قال أنفسكم لأنهم أهل دين واحد فهم كنفس واحدة وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع « ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض » وقيل إن هذا نهي للإنسان عن قتل نفسه ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم مخلداً يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ به في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً » قوله يتردى التردي هو الوقوع من موضع عال إلى أسفل قوله يتوجأ يقال وجأته بالسكين إذا ضربته بها وهو يتوجأ أي يضرب بها نفسه ( ق ) عن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « كان برجل جراح فقتل نفسه فقال الله تبارك وتعالى : بدرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة » وفي رواية قال : « كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً فحزبها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله تعالى : بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة » وقيل في معنى قتل الإنسان نفسه أن لا يفعل شيئاً يستحق به القتل مثل أن يقتل فيقتل به فيكون هو الذي تسبب في قتل نفسه ، وقيل معناه ولا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل وقيل معناه ولا تهلكوا أنفسكم بأن تعملوا عملاً ربما أدى إلى قتلها { إن الله كان بكم رحيماً } يعني أنه تعالى من رحمته بكم نهاكم عن كل شيء تستوجبون به مشقة أو محنة وقيل إنه تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم ليكون ذلك توبة لهم وكان بكم يا أمة محمد رحيماً حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الشاقة الصعبة .(2/74)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
{ ومن يفعل ذلك } يعني ما سبق ذكره من قتل النفس المحرمة لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وقيل : إنه يعود إلى قتل النفس وأكل المال بالباطل لأنهما مذكوران في آية وقيل أنه يعود إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هنا { عدواناً وظلماً } يعني يتجاوز الحد فيضع الشيء في غير موضعه فلذلك قيده بالعدوان والظلم لأنه قد يكون القتل بحق ، وهو القصاص وكذلك قد يكون أخذ المال بحق فلهذا السبب قيده بالوعيد وما كان على وجه العدوان والظلم وهو قوله تعالى : { فسوف نصليه ناراً } أي ندخله في الآخرة ناراً يصلى فيها { وكان ذلك على الله يسيراً } أي هيناً قادراً على ما يريد . قوله عز وجل : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } اجتناب الشيء المباعدة عنه وتركه جانباً والكبيرة ما كبر وعظم من الذنوب وعظمت عقوبته وقبل ذكر التفسير نذكر الأحاديث الواردة في الكبائر فمن ذلك ما روي عن أبي بكرة قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً قلنا بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين ألا وشهادة الزور وقول الزور وكان متكئاً فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت » أخرجاه في الصحيحين ( ق ) عن أنس بن مالك قال : « ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر فقال : الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال شهادة الزور » ( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اجتنبوا السبع الموبقات » قيل يا رسول الله وما هن؟ قال : « الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق وأكل مال اليتيم والزنى والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » ( خ ) عن ابن مسعود قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال : « أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت إن ذلك لعظيم ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت ثم أي قال تزاني بحيلة جارك » ( ق ) عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الكبائر : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس » وفي رواية أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما الكبائر؟ قال : « الإشراك بالله قال ثم ماذا قال اليمين الغموس قلت وما اليمين الغموس قال الذي يقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها كاذب » ( ق ) عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(2/75)
« إن من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا : وهل يشتم الرجل والديه؟ قال نعم : يسب الرجل أبا الرجل أو أمه : فيسب أباه أو أمه » وفي رواية من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه وذكر الحديث . وقال عبدالله بن مسعود : أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله وعند سعيد بن جبير أن رجلاً سأل ابن عباس عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعمائة أقرب وفي رواية إلى السبعين أقرب إلا أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار وقال كل شيء عصي الله به فهو كبيرة فمن عمل شيئاً منها فليستغفر الله فإن الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا من كان راجعاً عن الإسلام أو جاحداً فريضة أو مكذباً بقدر وقال علي بن أبي طالب : كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب فهو كبيرة . وقال سفيان الثوري : الكبائر ما كان فيه المظالم فيما بينك وبين العباد والصغائر ما كان بينك وبين الله تعالى لأن الله تعالى كريم يغفر ويعفو واحتج لذلك بما روي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ينادي مناد من بطنان العرش يوم القيامة يا أمة محمد إن الله قد عفا عنكم جميعاً المؤمنين والمؤمنات تواهبوا المظالم وأدخلوا الجنة برحمتي » وقال مالك بن مغول : الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل السنة ، وقيل الكبائر ذنوب العبد والسيئات الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وحديث النفس المرفوع عن هذه الأمة وقال السّدي : الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب والسيئات مقدماتها وتوابعها للتي يقع فيها المصالح والفاسق مثل النظرة واللمسة والقبلة واشباه ذلك ( ق ) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطأ والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه » لفظ مسلم ، وقيل الكبائر الشرك وما يؤدي إليه وما دونه فهو من السيئات فقد ثبت بما تقدم من الأدلة أن من الذنوب كبائر وصغائر إلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف . وثبت بدلائل الكتاب والسنة وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر فقوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر تنهون عنه هي كل ذنب عظم قبحه وعظمت عقوبته إما في الدنيا بالحدود وإما في الآخرة بالعذاب عليه { نكفر عنكم سيئاتكم } يعني نسترها عليكم حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل لأن أصل التكفير الستر والتغطية فصغار الذنوب تكفر بالحسنات ولا تكفر كبارها إلا بالتوبة والإقلاع عنها كما ورد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن » زاد في رواية ما لم تغش الكبائر وزاد في رواية أخرى ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر أخرجه مسلم . وقوله تعالى : { وندخلكم مدخلاً كريماً } يعني حسناً شريفاً وهو الجنة والمعنى إذا اجتنبتم الكبائر وأتيتم الطاعات ندخلكم مدخلاً تكرمونه فيه .(2/76)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
قوله عز وجل : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } أصل التمني إرادة الشيء وتشهي حصول ذلك الأمر المرغوب فيه ومنه حديث النفس بما يكون وبما لا يكون وقيل التمني تقدير الشيء في النفس وتصويره فيها وذلك قد يكون عن تخمين وظن ، وقد يكون عن رؤية وأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له وقيل التمني عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون ، عن مجاهد عن أم سلمة قالت : قلت يا رسول الله يغزوا الرجال ولا تغزوا النساء وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض قال مجاهد : وأنزل إن المسلمين والمسلمات وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة أخرجه الترمذي . وقال هذا حديث مرسل وقيل لما جعل الله للذكر مثل حظ الأنثيين من الميراث قالت النساء نحن أحق إلى زيادة من الرجال لأنا ضعيفات وهو أقوى وأقدر على طلب المعاش منا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل لما نزله قوله للذكر مثل حظ الأنثيين قالت الرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الحسنات في الآخرة فيكون لنا أجرنا على ضعف أجر النساء كما فضلنا عليهن في الميراث ، وقالت النساء إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كما لنا في الميراث النصف من نصيبهم : فنزلت هذه الآية والتمني على قسمين : أحدهما أن يتمنى الإنسان أن يحصل له مال غيره مع زوال تلك النعمة عن ذلك الغير فهذا القسم هو الحسد وهو مذموم لأن الله تعالى يفيض نعمه على من يشاء من عباده وهذا الحاسد يعترض على الله تعالى فيما فعل وربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعمة من ذلك الإنسان أيضاً فهذا اعتراض على الله أيضاً وهو مذموم . القسم الثاني أن يتمنى مثل مال غيره ولا يحب إن يزول ذلك المال عن الغير وهذا هو الغبطة وهذا ليس بمذموم . ومن الناس من منع منه أيضاً قال لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين والدنيا . قال الحسن : لا تتمنى مال فلان ولا تدري لعل هلاكك في ذلك المال فيعلم العبد أن الله عزّ وجلّ أعلم بمصالح عباده فليرضَ بقضائه ولتكن أمنيته الزيادة من عمل الآخرة وليقل : اللّهم اعطني ما يكون صلاحاً في ديني ودنياي ومعادي . قوله تعالى : { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } قال ابن عباس : يعني مما ترك الوالدان والأقربون من الميراث يقول للذكر مثل حظ الأنثيين وقيل هذا الاكتساب في الآخرة يعني أن الرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء لأن الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها يستوي في ذلك الرجال والنساء وإن فضل الرجال في الدنيا على النساء وقيل للرجال نصيب مما اكتسبوا من أمر الجهاد وللنساء نصيب مما اكتسبن يعني من طاعة الأزواج وحفظ الفروج { واسألوا الله من فضله } قال ابن عباس : يعني من رزقه وقيل من عبادته وهو سؤال التوفيق للعبادة وقيل لم يأمر الله عباده بالمسألة إلا ليعطيهم وفيه تنبيه على أن العبد لا يعين شيئاً في الدعاء والطلب لكن يطلب من الله فضل الله ما يكون سبباً لصلاح دينه ودنياه وآخرته وقيل لما تمنى النساء أن يكن رجالاً وأن يكون لهن مثل ما للرجال نهاهن الله عن ذلك وأمرهن أن يسألوه من فضله فإنه أعلم بمصالح عباده { إن الله كان بكل شيء عليماً } يعني أنه تعالى عليم بما يكون صلاحاً للسائلين فليقتصر السائل على المجمل في الطلب فإن الله تعالى عليم بما يصلحه فلا يتمنى غير الذي قدر له .(2/77)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
قوله تعالى : { ولكل } يعني من الرجال والنساء { جعلنا موالي } يعني ورثة من بني عم وإخوة سائر العصبات { مما ترك } يعني يرثون مما ترك { الوالدان والأقربون } من ميراثهم فعلى هذا الولدان والأقربون هم المورثون وقيل معناه ولكل جعلنا موالي أي ورثة مما ترك وتكون ما بمعنى يعني من من تركهم الميت ثم فسر الموالي فقال الوالدان والأقربون هم الوارثون . والمعنى ولكل شخص جعلنا ورثة ممن تركهم وهم والداه وأقربوه والقول الأول أصح لأنه مروي عن ابن عباس وغيره { والذين عاقدت أيمانكم } وقرئ عقدت بغير ألف مع التخفيف والمعاقدة المحالفة والمعاهدة والأيمان جمع يمين يحتمل أن يراد بها القسم أو اليد أو هما جميعاً وذلك أنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد منهم بيد صاحبه وتحالفوا على الوفاء بالعهد والتمسك بذلك العقد . وكان الرجل يحالف الرجل في الجاهلية ويعاقده فيقول دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وثأري ثأرك وحربي حربك ، وسلمي سلمك ترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون لكل واحد من الحليفين السدس في مال الآخر وكان الحكم ثابتاً في الجاهلية وابتداء الإسلام فذلك قوله تعالى :
{ فآتوهم نصيبهم } يعني أعطوهم حظهم من الميراث ثم نسخ الله هذا الحكم بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله . وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار لما قدموا المدينة وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة دون النسب والرحم ، فلما نزلت ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان نسختها ثم قال والذين عاقدت أيمانكم من النصر والرفادة والنصحية وقد ذهب الميراث ويوصي له وفي رواية أخرى عنه . قال والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما كالآخر فنسخ ذلك بسورة الأنفال فقال { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } وقال سعيد بن المسيب : كانوا يتوارثون بالتبني بهذه الآية ثم نسخ ذلك وذهب قوم إلى أن الآية ليست بمنسوخة بل حكمها باقٍ والمراد بقوله والذين عاقدت أيمانكم الحلفاء والمراد من قوله فآتوهم نصيبهم يعني من النصرة والنصيحة والموافاة والمصافاة ونحو ذلك فعلى هذا لا تكون منسوخة وقيل نزلت في عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق عن داود بن الحصين قال : كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع وكانت يتيمة في حجر أبي بكر الصديق ، فقرأت والذين عاقدت أيمانكم فقالت : لا تقرأ والذين عقدت أيمانكم إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى الإسلام فحلف أبو بكر أن لا يورثه فلما أسلم أمره الله أن يؤتيه نصيبه أخرجه أبو داود على هذا فلا نسخ أيضاً فمن قال إن حكم الآية باق قال : إنما كانت المعاقدة في الجاهلية على النصرة لا غير والإسلام لم يغير ذلك ويدل عليه ما روي عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/78)
« لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة » أخرجه مسلم . وقوله تعالى : { إن الله كان على شيء شهيداً } قال عطاء : يريد أنه لم يغب عنه علم ما خلق وبرأ فعلى هذا الشهيد بمعنى الشاهد والمراد منه علمه بجميع الأشياء وقيل الشهيد على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه فعلى هذا الشاهد بمعنى المخبر وفيه وعد للطائعين ووعيد للعصاة المخالفين .(2/79)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
قوله عز وجل : { الرجال قوامون على النساء } نزلت في سعد بن الربيع وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، ويقال امرأته بنت محمد بن مسلمة وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم « لتقتص من زوجها » فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم « ارجعوا هذا جبريل أتاني » فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم « أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير ورفع القصاص » فقوله تعالى : { الرجال قوامون على النساء } أي متسلطون على تأديب النساء والأخذ على أيديهن قال ابن عباس : أمروا عليهن فعلى المرأة أن تطيع زوجها في طاعة الله والقوام هو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب فالرجل يقوم بأمر المرأة ويجتهد في حفظها ولما أثبت القيام للرجال على النساء بيّن السبب في ذلك فقال تعالى : { بما فضل الله بعضهم على بعض } يعني أن الله تعالى فضل الرجال على النساء بأمور منها زيادة العقل والدين والولاية والشهادة والجهاد والجمعة والجماعات وبالإمامة لأن منهم الأنبياء والخلفاء والأئمة ومنها أن الرجل يتزوج بأربع نسوة ولا يجوز للمرأة غير زوج واحد ومنها زيادة النصيب في الميراث والتعصيب في الميراث وبيده الطلاق والنكاح والرجعة وإليه الانتساب فكل هذا يدل على فضل الرجل على النساء ثم قال تعالى : { وبما أنفقوا من أموالهم } يعني وبما أعطوا من مهور النساء والنفقة عليهن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » أخرجه الترمذي { فالصالحات } يعني المحسنات العاملات بالخير { قانتات } أي مطيعات لأزواجهن وقيل مطيعات لله { حافظات للغيب } لفروجهن في غيبة أزواجهن لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها ويلحق به الولد الذي هو من غيره وقيل معناه حفظ سر زوجها وحفظ ماله وما يجب على المرأة من حفظ متاع البيت في غيبة زوجها عن أبي هريرة قال قيل يا رسول الله أي النساء خير « قال التي تسره إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره » أخرجه النسائي ورواه البغوي بسند الثعلبي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها » ثم تلا : { الرجال قوامون على النساء } الآية . وقوله تعالى : { بما حفظ الله } يعني بما حفظهن الله حين أوصى بهن الأزواج وأمرهم بأداء المهر والنفقة إليهن ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/80)
« استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء » وقيل في معنى الآية بما حفظن الله وعصمهن ووفقهن لحفظ الغيب وقيل بما حفظ الله من حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بعدل فيهن وإمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان { واللاتي تخافون } أي تعلمون وقيل تظنون { نشوزهن } أي شرورهن وأصل النشوز الارتفاع ونشوز المرأة هو بغضها لزوجها ورفع نفسها عن طاعته والتكبر عليه وقيل دلالات النشوز قد تكون بالقول والفعل . فالقول مثل إن كانت تلبيه إذا دعاها وتخضع له خاطبها والفعل مثل إن كانت تقوم له إذا دخل عليها وتسرع إلى أمره إذا أمرها فإذا خالفت هذه الأحوال بأن رفعت صوتها عليه أو لم تجبه إذا دعاها ولم تبادر إلى أمره إذا أمرها دل ذلك على نشوزها على زوجها { فعظوهن } يعني إذا ظهر منهن أمارات النشوز فعظوهن بالتخويف بالقول وهو أن يقول لها اتقي الله وخافيه فإن لي عليك حقاً وارجعي عما أنت عليه ، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو ذلك فإن أصرت على ذلك هجرها في المضجع وهو قوله تعالى : { واهجروهن في المضاجع } يعني إن لم ينزعن عن ذلك بالقول فاهجروهن في المضاجع . قال ابن عباس : هو أن يوليها ظهره في الفراش ولا يكلمها وقيل هو أن يعتزل عنها إلى فراش آخر { واضربوهن } يعني إن لم ينزعن بالهجران فاضربوهن يعني ضرباً غير مبرح ولا شائن قيل هو أن يضربها بالسواك ونحوه . وقال الشافعي : الضرب مباح وتركه أفضل عن عمرو بن الأحوص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فذكر في الحديث قصة فقال : « ألا فاستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن تأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً » أخرجه الترمذي بزيادة فيه قوله عوان جمع عانية أي أسيرة شبه المرأة ودخولها تحت حكم زوجها بالأسير والضرب المبرح الشديد الشاق . وقوله : { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً } أي لا تطلبوا عليهن طريقة تحتجون بها عليهن إذا قمن بواجب حقكم عن حكيم بن معاوية عن أبيه . قال : قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال : « أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسبت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت » أخرجه أبو داود قوله ولا تقبح أي لا تقل قبحك الله ( ق ) عن عبدالله بن زمعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/81)
« لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم لعله يجامعها أو قال يضاجعها من آخر اليوم » عن إياس بن عبدالله بن أبي ذئاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تضربوا النساء » فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « زبرت النساء على أزواجهن » فرخص في ضربهن فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثيرون يشكون أزواجهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم » أخرجه أبو داود . إياس بن عبدالله هذا قد اختلف في صحبته وقال البخاري لا يعرف له صحبة قوله زبرت يقال زبرت المرأة على زوجها نشزت واجترأت عليه وأطاف بالشيء أحاط به . ففي هذه الأحاديث دليل على أن الأولى ترك الضرب للنساء فإن احتاج إلى ضربها لتأديب فلا يضربها ضرباً شديداً وليكن ذلك مفرقاً ولا يوالي بالضرب على موضع واحد من بدنها وليتق الوجه لأنه يجمع المحاسن ولا يبلغ بالضرب عشرة أسواط وقيل ينبغي أن يكون الضرب بالمنديل واليد ولا يضرب بالسوط والعصا وبالجملة فالتخفيف بأبلغ شيء وأولى في هذا الباب واختلف العلماء فقال بعضهم حكم الآية مشروع على الترتيب فإن ظاهر اللفظ وإن دل على الجمع إلا أن مجرى الآية يدل على الترتيب قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها ، فإن أبت هجر مضجعها فإن أبت ضربها فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكم . وقال الآخرون هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز أما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل وقيل له أن يعظها عند خوف النشوز وهل له أن يهجرها فيه احتمال ذلك وله عند ظهور النشوز أن يعظها وأن يهجرها أو يضربها عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يُسأل الرجل فيم ضرب امرأته » أخرجه أبو داود ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح » وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلاّ كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها » وفي رواية : « إذا باتت مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح وفي أخرى » حتى ترجع عن طلق بن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا دعا الرجل امرأته إلى حاجته فلتأته وإن كانت على التنور »(2/82)
أخرجه الترمذي وله عن معاذ بن جبل أن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله فإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا » وله عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة » وقوله تعالى : { فإن أطعنكم } يعني فإن رجعن عن النشوز إلى طاعتكم عند هذا التأديب فلا تبغوا عليهن سبيلاً يعني فلا تطلبوا عليهن الضرب والهجران على سبيل التعنت والإيذاء ، وقيل معناه أزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ ولا تجنوا عليهن الذنوب وقيل معناه لا تكلفوهن محبتكم فإن القلب ليس بأيديهن { إن الله كان علياً كبيراً } العلي الكبير في صفة الله تعالى معناه الرفيع الذي يعلو عن وصف الواصفين ومعرفة العارفين بالإطلاق الذي يستحق جميع صفات المدح والتكبير هو المستغني عن غيره وذلك هو الله تعالى الموصوف بالجلال والعظمة والكبرياء وكبر الشأن الذي يصغر كل أحد لكبريائه وعظمته تعالى : والمعنى إن الله متعال من أن يكلف عباده ما لا يطيقونه . وقيل إن النساء وإن ضعفن عن دفع ظلم الرجال عنهن فإن الله علي كبير قادر على أن ينتصف لهن ممن ظلمهن من الرجال وقيل معناه أن الله مع علوه وكبريائه يقبل توبة العاصي إذا تاب ويغفر له فإذا تابت المرأة من نشوزها ، فالأولى بكم أن تقبلوا توبتها وتتركوا معاتبتها واعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من تحب أيديكم فأنتم أحق بالعفو عمن جنى عليكم .(2/83)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
قوله تعالى : { وإن خفتم } يعني وإن علمتم وتيقنتم وقيل معناه الظن أي ظننتم { شقاق بينهما } يعني بين الزوجين وأصل الشقاق المخالفة وكون كل واحد من المتخالفين في شق غير شق صاحبه أو يكون أصله من شق العصا وهو أن يقول كل واحد من الزوجين ما يشق على صاحبه سماعه ، وذلك أنه إذا ظهر بين الزوجين شقاق ومخالفة واشتبه حالهما ولم يفعل الزوج الصلح ولا الصفح ولا الفرقة وكذلك الزوجة لا تؤدي الحق ولا الفدية وخرجا إلى ما لا يحل قولاً وفعلاً . قوله تعالى : { فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها } اختلفوا في المخاطبين بهذا ومن المأمور ببعثة الحكمين ، فقيل المخاطب بذلك هو الإمام أو نائبه لأن تنفيذ الأحكام الشرعية إليه وقيل المخاطب بذلك كل أحد من صالحي الأمة لأن قوله تعالى فابعثوا خطاب الجمع وليس حمله على البعض أولى من حمله على البعض أولى من حمله على البقية فوجب حمله على الكل فعلى هذا يجب أن يكون أمراً لآحاد الأمة سواء وجد الإمام أو لم يوجد . فللصالحين أن يبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ، وأيضاً فهذا يجري مجرى دفع الضرر فلكل واحد أن يقول به وقيل وهو خطاب للزوجين فإذا حصل بينهما شقاق بعثاً حكمين حكماً من أهله وحكماً من أهلها { إن يريدا إصلاحاً } يعني الحكمين وقيل الزوجين { يوفق الله بينهما } يعني بالصلاح والألفة روى الشافعي بسنده عن علي بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه جاءه رجل وامرأة ومع كل واحد منهما فئام من الناس فقال : علام شأن هذين؟ قولوا : وقع بينهما شقاق قال علي فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ثم قال للحكمين تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رايتما أن تفرقا فرقتما فقالت المرأة رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي وقال الرجل أما الفرقة فلا قال علي كذبت والله حتى تقر بمثل ما أقرت به . قال الشافعي : والمستحب أن يبعث الحاكم عدلين ويجعلهما حكمين والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب وأشد طلباً للإصلاح فإن كانا أجنبيين جاز وفائدة الحكمين أن كل واحد منهما يخلو بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال ليعرف أن رغبته في الإقامة على النكاح أو في المفارقة ثم يجتمعان فيفعلان ما هو الصواب من اتفاق أو طلاق أو خلع والحكمان وكيلان للزوجين وهل يجوز تنفيذ أمر يلزم الزوجين دون رضاهما وإذنهما في ذلك مثل أن يطلق حكم الرجل أو يفتدي حكم المرأة بشيء من مالها ، فللشافعي في ذلك قولان : أحدهما أنه لا يجوز إلا برضاهما وليس الحكم الزوج أن يطلق إلا بإذنه ولا لحكم المرأة ان يختلع بشيء من مالها إلا بإذنها وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد لأن علياً توقف حين لم يرضَ الزوج وذلك حين قال أما الفرقة فلا فقال له علي كذبت حتى تقر بمثل ما أقرت به فثبت أن تنفيذ الأمر موقوف على إقراره ورضاها ومعنى قول علي للزوج كذبت أي لست بمنصف في دعواك حيث لم تقر بمثل ما أقرت به من الرضا بحكم كتاب الله لها وعليها والقول الثاني إنه يجوز بعث الحكمين دون رضاهما ويجوز لكم الزوج أن يطلق دون رضاه ولحكم الزوجة أن يختلع دون رضاها إذا رأيا الصلاح في ذلك كالحاكم يحكم بين الخصمين وإن لم يكن على وفق مرادهما وبه قال مالك : ومن قال بهذا القول قال ليس المراد من قول علي للزوج حتى تقر أن رضاه شرط بل معناه أن المرأة لما رضيت بما في كتاب الله تعالى .(2/84)
فقال الرجل أما الفرقة فلا يعني ليست الفرقة في كتاب الله فقال له علي : كذبت حتى أنكرت أن تكون الفرقة في كتاب الله ، بل هي في كتاب الله فإن قوله تعالى يوفق الله بينهما يشتمل على الفراق وعلى غيره لأن التوفيق أن يخرج كل واحد منهما من الإثم والوزر ويكون تارة ذلك بالفراق وتارة بصلاح حاليهما في الوصلة . وقوله تعالى : { إن الله كان عليماً خبيراً } يعني أن الله تعالى يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المتفرقين وفيه وعيد شديد للزوجين والحكمين إن سلكوا غير طريق الحق .(2/85)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
قوله عز وجل : { واعبدوا الله } يعني وحدوه وأطيعوه وعبادة الله تعالى عبارة عن كل فعل يأتي به العبد لمجرد الله تعالى ويدخل فيه جميع أعمال القلوب وأعمال الجوارح { ولا تشركوا به شيئاً } يعني وأخلصوا له في العبادة ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكاً لأن من عبد مع الله غيره أو أراد بعمله غير الله فقد أشرك به ولا يكون مخلصاً ( ق ) عن معاذ بن جبل قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير أو اسمه يعفور فقال : يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : « فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً فقلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا » قوله هل تدري ما حق الله على عباده معناه ما يستحقه مما أوجبه وجعله متحتماً عليهم ثم فسر ذلك الحق بقوله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وقوله وما حق العباد على الله إنما قال حقهم على سبيل المقابلة لحقه عليهم لا لأنهم يستحقون عليه شيئاً ويجوز أن يكون من قول الرجل لصاحبه حقك عليّ واجب أي متأكد قيامي به . وقوله أفلا أبشر الناس إلخ إنما قال لا تبشرهم فيتكلوا . لأنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك أصلح لهم وأحرى أن لا يتلكوا على هذه البشارة ويتركوا العمل الذي ترفع لهم به الدرجات في الجنة . وقوله تعالى : { وبالوالدين إحساناً } تقديره وأحسنوا بالوالدين إحساناً يعني برّاً بهما واعطفا عليهما وإنما قرن بر الوالدين بعبادته وتوحيده لتأكد حقهما على الولد . واعلم أن الإحسان بالوالدين هو أن يقوم بخدمتها ولا يرفع صوته عليهما ويسعى في تحصيل مرادهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة ( ق ) عن أبي هريرة قال : « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك قال ثم من؟ قال ثم أمك؟ قال ثم من؟ قال ثم أمك؟ قال ثم من؟ قال ثم أبوك؟ » وفي رواية قال : « أمك ثم أباك ثم أدناك فأدناك قوله ثم أباك فيه حذف تقديره ثم بر أباك » ( م ) عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه قيل من يا رسول الله؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة » قوله تعالى : { وبذي القربى } أي وأحسنوا إلى ذي القرابة وهو ذوو رحمه من قبل أبيه وأمه ( ق ) عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(2/86)
« من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه » قوله ينسأ له في أثره يعني يؤخر له في أجله وعمره . وقوله تعالى : { واليتامى والمساكين } أي وأحسنوا إلى اليتامى وإنما أمر بالإحسان إليهم لأن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز والصغر وعدم المشفق المسكين هو الذي ركبه ذل الفاقة والفقر فتمسكن لذلك ( خ ) عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنا وكافل اليتيم في الجنة » هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً . عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « قال الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي لا يفطر » وقوله تعالى : { والجار ذي القربى والجار الجنب } أي وأحسنوا إلى الجار ذي القربى وهو الذي قرب جواره منك والجار الجنب هو الذي بعد جواره عنك وقيل الجار ذي القربى هو القريب والجار الجنب هو الأجنبي الذي ليس بينك وبينه قرابة : ( ق ) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه » وعن عائشة مثله ( خ ) عن عائشة رضي الله عنها قالت : « قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما باباً منك » ( م ) عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك » وفي رواية قال أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم : « قال إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل البيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف » ( ق ) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل من يا رسول الله؟ قال الذي لا يأمن جاره بوائقه » ولمسلم « لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه » البوائق الغوائل والشرور ( ق ) عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا نساء المؤمنات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة » معناه ولو أن تهدي إليها فرسن شاة وهو الظلف وأراد به الشيء الحقير ( ق ) عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت » وقوله تعالى : { والصاحب بالجنب } قال ابن عباس هو الرفيق في السفر وقيل هي المرأة تكون معك إلى جنبك وقيل هو الذي يصحبك رجاء نفعك .(2/87)
عن عبدالله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وقوله تعالى : { وابن السبيل } يعني المسافر المجتاز بك الذي قد انقطع به وقال الأكثرون المراد بابن السبيل الضيف يمر بك فتكرمه وتحسن إليه ( ق ) عن أبي شريح خويلد بن عمرو العدوي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قالوا وما جائزته يا رسول الله؟ قال : يومه وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه » وقال : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت » زاد في رواية « ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه . قال : يا رسول الله وكيف يؤثمه؟ قال يقيم عنده ولا شيء عنده يقربه به » قوله جائزته يومه وليلته الجائزة العطية أي يقري الضيف ثلاثة أيام ثم يعطيه ما يجوز به من منهل إلى منهل وقيل هو أن يكرم الضيف فإذا سافر أعطاه ما يكفيه يوماً وليلة حتى يصل إلى موضع آخر وقوله أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه أي يوقعه في الإثم لأنه إذا أقام عنده ولم يقرِه أثم بذلك . وقوله تعالى : { وما ملكت أيمانكم } يعني المماليك فأحسنوا إليهم والإحسان إليهم أن لا يكلفهم ما لا يطيقون ولا يؤذيهم بالكلام الخشن وأن يعطيهم من الطعام الكسوة ما يحتاجون إليه بقدر الكفاية عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يدخل الجنة سيئ الملكة » أخرجه الترمذي عن رافع بن مكيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « حسن الملكة نماء وسوء الخلق شؤم » أخرجه أبو داود وله عن علي بن أبي طالب قال كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الصلاة الصلاة اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم » ( ق ) عن المعرور بن سويد قال رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه حلة مثلها فسألته عن ذلك فذكر أنه سابّ رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره بأمه فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « إنك امرؤ فيك جاهلية قلت على ساعتي هذه من كبر سني قال نعم هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه »(2/88)
وقوله تعالى : { إن الله لا يحب من كان مختالاً } المختال المتكبر العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق الناس { فخوراً } الفخور هو الذي يفتخر على الناس ويعدد مناقبه تكبراً وتطاولاً على من دونه ، وقيل هو الذي يفتخر على عباد الله بما أعطاه الله من نعمه ولا يشكره عليها وإنما ختم الله هذه الآية بهذين الوصفين المذمومين لأن المختال الفخور يأنف من أقاربه الفقراء ومن جيرانه الضعفاء فلا يحسن إليهم ولا يلوي بنظره عليهم ولأن المختال هو المتكبر ومن كان متكبراً فلا يقوم بحقوق الناس ( ق ) عن ابن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا ينظر الله تعالى يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء » ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً » ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل جمته يختال في مشيته إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة » ( خ ) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بينما رجل ممن كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة » ( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الفخر والخيلاء في الفدادين من أهل الوبر والسكينة في أهل الغنم الفدادون هم الفلاحون والحراثون وأصحاب الإبل والبقر المستكبرون منهما المتكبرون على الناس بهما »(2/89)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
قوله عز وجل : { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } نزلت في اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم فكتموها وعلى هذا يكون المراد بالبخل كتمان العلم وقال ابن عباس نزلت في كردم بن زيد ويحيى بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع ويحيى بن عمر وكانوا يأتون رجالاً من الأنصار ويخاطبونهم يقولون لهم لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون فأنزل الله عز وجل هذه الآية وقيل يحتمل أن يكون المراد بالبخل كتمان العلم ومنع المال لأن البخل في كلام العرب منع السائل من فضل ما لديه وإمساك المقتنيات وفي الشرع البخل عبارة عن إمساك الواجب ومنعه ، وإذا كان ذلك أمكن حمله على منع المال ومنع العلم { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } يعني اليهود كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وما عندهم من العلم وقيل هم الأغنياء الذين كتموا الغنى وأظهروا الفقر وبخلوا بالمال { وأعتدنا للكافرين } يعني الجاحدين نعمة الله عليهم { عذاباً مهيناً } يعني في الآخرة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خصلتان لا يجتمعان في مؤمن : البخل وسوء الخلق » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب(2/90)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
قوله عز وجل : { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } يعني للفخار والسمعة وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا يريدون بما أنفقوا وجه الله تعالى ( م ) عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قال الله تبارك وتعالى : » أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه « نزلت في هذه الآية في اليهود وقيل في المنافقين لأن الريا ضرب من النفاق ، وقيل نزلت في مشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } يعني ولا يصدقون بتوحيد الله ولا بالمعاد الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن { ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً } يعني من يكن الشيطان صاحبه وخليله فبئس الصاحب وبئس الخليل الشيطان ، وإنما اتصل الكلام هنا بذكر الشيطان تقريعاً لهم على طاعة الشيطان . والمعنى من يكن عمله بما سول له الشيطان فبئس العمل عمله وقيل هذا في الآخرة يجعل الله الشياطين قرناءهم في النار يقرن مع كل كافر شيطان في سلسلة من النار ثم وبخهم الله تعالى وعيرهم على ترك الإيمان فقال تعالى : { وماذا عليهم } يعني وأي شيء عليهم وأي وبال وتبعة تلحقهم { لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله } أي أي وبال عليهم في الإيمان بالله والإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته { وكان الله بهم عليماً } يعني لا يخفى عليه شيء من أعمال هؤلاء الذين ينفقون أموالهم لأجل الرياء والسمعة ففيه وعيد وتهديد لهم . قوله عز وجل : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } نظم الكلام وماذا عليهم لو آمنوا وأنفقوا فإن الله لا يظلم ولا يبخس ولا ينقص أحداً من ثواب عمله مثقال ذرة يعني وزني ذرة . وقال ابن عباس : الذرة رأس نملة حمراء وقيل الذرة كل جزء من أجزاء الهباء الذي يكون في الكوة إذا كان فيها ضوء الشمس لا وزن لها وهذا مثل ضربه الله تعالى لأقل الأشياء والمعنى أن الله تعالى لا يظلم أحداً شيئاً من قليل ولا كثير فخرج الكلام على أصغر شيء يعرفه الناس { وإن تك حسنة يضاعفها } يعني الحسنة بعشر أمثالها وقيل هذا عند الحساب فمن بقي له من الحسنات مثقال ذرة ضاعفها الله له إلى سبعمائة وإلى أجر عظيم . قال قتادة : لأن تفضل حسناتي على سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليّ من الدنيا وما فيها ( م ) عن أنس عن مالك في قوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطي بها في الدنيا ويجزي بها في الآخرة «(2/91)
« وأما الكافر فيعطي بحسنات قد عمل بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزي بها » عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله تعالى سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئاً أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر؟ فيقول لا يا رب فيقول تعالى : بل إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً عبده ورسول الله فيقول احضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال فإنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء » أخرجه الترمذي ( ق ) عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلّم سلّم قيل يا رسول الله وما الجسر قال دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوش في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار » وفي رواية فما أنتم بأشد مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلّون ويحجّون . فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه . فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فاخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيراً وكان أبو سعيد يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً فيقول الله تبارك وتعالى شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوات خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض فقالوا : يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه .(2/92)
ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبداً لفظ مسلم وهو بعض حديث . وقال بعضهم هذه الآية واردة في الخصوم ويدل عليه ما روي عن عبدالله بن مسعود قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد من عند الله إلا من كان يطلب مظلمة فليجئ إلى حقه فليأخذه قال فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه منه وإن كان صغيراً ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى قوله تعالى : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } ويؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقال له آت هؤلاء حقوقهم فيقول أي رب من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته انظروا في أعماله الصالحات فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا ربنا وهو أعلم بذلك أعطينا كل ذي حق حقه وبقي له مثقال ذرة من حسنة فيقول للملائكة ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداق ذلك في كتاب الله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً } أي الجنة وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقي طالبون كثير فيقول الله تبارك وتعالى : « خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم اكتبوا له كتاباً إلى النار » أخرجه البغوي بغير سند عن ابن مسعود موقوفاً عليه . وأسنده ابن جرير الطبري عن ابن مسعود فمعنى الآية على هذا التأويل إن الله لا يظلم مثقال ذرة للخصم على خصمه بل يأخذها له منه ولا يظلم مثقال ذرة بقي له بل يثيبه عليها ويضاعفها له فذلك قوله تعالى : { وإن تك حسنة يضاعفها } أي يجعلها أضعافاً كثيرة { ويؤت من لدنه } يعني من عنده { أجراً عظيماً } يعني الجنة والمعنى ويعطي من عنده أجراً عظيماً أضعافاً يعني عوضاً من حسنة وذلك العوض هو الجنة وقال أبو هريرة : إذا قال الله عزّ وجلّ أجراً عظيماً فمن يقدر قدره .(2/93)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
قوله عز وجل : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } يعني فكيف يكون حال هؤلاء المشركين والمنافقين يوم القيامة إذا جئنا من كل أمة بشهيد . قال ابن عباس : يريد بنبيها والمعنى أنه يؤتى بنبي كل أمة يشهد عليها ولها { وجئنا بك } يا محمد { على هؤلاء شهيداً } يعني تشهد على هؤلاء الذين سمعوا القرآن وخوطبوا به بما عملوا ( ق ) عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقرأ على القرآن » فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ « قال إني أن أسمعه من غيري » قال فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية فكيف إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً قال حسبك الآن قال فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان زاد مسلم شهيداً ما دمت فيهم أو قال ما كنت فيهم شك أحد رواته . وقوله تعالى : { يومئذ } يعني يوم القيامة { يود } أي يتمنى { الذين كفروا } يعني جحدوا وحدانية الله تعالى { وعصوا الرسول } يعني فيما أمرهم به من توحيد الله عز وجل { لو تسوى بهم الأرض } يعني لو صاروا فيها وسويت عليهم وقيل إنهم ودوا أن لن يبعثوا لأنهم إنما كانوا في الأرض وهي مستوية عليهم . وقال الكلبي : يقول الله تعالى للبهائم والوحوش والطيور والسباع كوني تراباً فتسوى بهن الأرض فعند ذلك يتمنى الكافر أن لو يكون تراباً { ولا يكتمون الله حديثاً } قال ابن عباس : في رواية عطاء ودوا لو تسوى بهم الأرض وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا كفروا به ولا نافقوه فعلى هذا القول يكون الكتمان ما كتموا في الدنيا من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وهو كلام متصل بما قبله وقيل هو كلام مستأنف قال سعيد بن جبير سأل رجل ابن عباس فقال إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال : هات ما يختلف عليك قال منها قوله تعالى { ولا يكتمون الله حديثاً } ومنها قوله تعالى { والله ربنا ما كنا مشركين } فقد كتموا فقال يغفر الله تعالى لأهل الإسلام ذنوبهم ويدخلهم الجنة فيقول المشركون تعالوا نقول ما كنا مشركين فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين رجاء أن يغفر لهم ، فيختم على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثاً وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض فلا يختلف عليك القرآن فإن كلاًّ من عند الله . وقال الحسن : إنها مواطن ، ففي مواطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همساً وفي موطن يتكلمون ويكذبون ويقولون { والله ربنا ما كنا مشركين } وما كنا نعمل من سوء في موطن يعترفون على أنفسهم وهو قوله تعالى فاعترفوا بذنبهم وفي موطن لا يتساءلون وفي موطن يسألون الرجعة وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم فهو قوله تعالى ولا يكتمون الله حديثاً .(2/94)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } جمع سكران { حتى تعلموا ما تقولون } سبب نزول هذه الآية ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال صنع لنا ابن عوف طعاماً فدعانا فأكلنا وسقانا خمراً قبل تحريم الخمر فأخذت منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون قال فخلطت فنزلت { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وأخرجه أبو داود ولفظه أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبدالرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر فحضرت الصلاة فأمَّهم علي في المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت الآية : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } وروى ابن جرير الطبري عن ابن عباس أن رجالاً كانوا يأتون الصلاة وهم سكارى قبل أن تحرم الخمر فقال الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } الآية فعلى هذا ففي المراد بالصلاة قولان : أحدهما أنه نفس الصلاة ذات الركوع والسجود وهو قول الأكثرين المعنى لا تصلّوا وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون . والقول الثاني إن المراد بالصلاة موضع الصلاة وهو المسجد وإطلاق لفظ الصلاة على المسجد محتمل فيكون من باب حذف المضاف . والمعنى لا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم سكارى وحذف المضاف جائز سائغ . ويدل عليه قوله تعالى لهدمت صوامع وبيع وصلوات والمراد بالصلوات موضاعها فثبت أن إطلاق لفظ الصلاة والمراد موضعها جائز . واعلم أن هذا النهي عن قربان الصلاة في حالة السكر إنما كان قبل تحريم الخمر فكانوا يشربونها في غير أوقات الصلاة ثم نزل تحريم الخمر بعد ذلك ونسخت هذه الآية وقال الضحاك المراد بالسكر سكر النوم يعني لا تقربوا الصلاة عند غلبة النوم ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلّى وهو ناعس لا يدري لعله يدري يذهب يستغفر ربه فيسب نفسه » أخرجاه في الصحيحين . وقوله تعالى : { ولا جنباً } يعني ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب وأصل الجنابة البعد سمي الذي أصابته الجنابة جنباً لأنه يتجنب الصلاة والمسجد وقيل لمجانبته الناس حتى يغتسل { إلاّ عابري سبيل } العابر هاهنا فاعل من العبور وهو قطع الطريق من هذا الجانب إلى الجانب الآخر واختلف العلماء في معنى قوله إلا عابري سبيل على قولين : أحدهما إن المراد بالعبور هو العبور في المسجد وذلك أن قوماً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ولا ممر لهم إلاّ في المسجد فرخص لهم العبور فيه فعلى هذا القول يكون المراد بالصلاة موضع الصلاة والمعنى لا تقربوا المسجد وأنتم جنب إلا مجتازين فيه للخروج منه أو للدخول فيه مثل أن يكون قد نام في المسجد فأجنب فيجب الخروج منه أو يكون الماء في المسجد فيدخل إليه أو يكون طريقه عليه فيمر فيه من غير إقامة وهذا قول ابن مسعود وأنس بن مالك والحسن وسعيد بن المسيب وعكرمة وعطاء الخرساني والنخعي والزهري وإليه ذهب الشافعي وأحمد .(2/95)
القول الثاني أن المراد من قوله إلاّ عابري سبيل المسافرون والمعنى لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين ولم تجدوا الماء فتيمموا فمنع الجنب من الصلاة حتى يغتسل إلا أن يكون في سفر ولا ماء معه فيتيمم ويصلّي إلى أن يجد الماء فيغتسل وهذا قول علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة فمن جعل عابري السبيل المسافرين منه الجنب من العبور في المسجد وهو مذهب أبي حنيفة . وصحح ابن جرير الطبري الواحدي القول الأول ويدل على صحته وجهان : أحدهما أن المسافر الجنب لا تصح صلاته بدون التيمم ولم يذكر التيمم ها هنا فيحتاج إلى إضمار شيئين : عدم الماء وذكر التيمم وعلى القول الأول لا يحتاج إلى إضمار شيء . الوجه الثاني أن الله ذكر حكم السفر وعدم الماء وجواز التيمم بعد هذا فلا يحل هذا على حكم معاد في الآية ويدل على أن جميع القراء استحسنوا الوقف على قوله : { حتى تغتسلوا } يعني إلى أن تغتسلوا وفيه دليل على أن حكم الجنابة باقٍ على الجنب إلى غاية هي الاغتسال .
فصل في أحكمام تتعلق بالآية
اختلف العلماء في العبور في المسجد فأباحه قوم على الإطلاق وهو قول الحسن وبه قال مالك والشافعي ومنعه بعضهم على الإطلاق وهو قول أصحاب الرأي . وقال قوم يتيمم للعبور في المسجد واختلف العلماء في المكث في المسجد أيضاً للجنب فمنعه أكثر أهل العلم وقالوا لا يجوز للجنب المكث في المسجد بحال لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحاب شراعة في المسجد فقال : « وجهوا هذه البيوت عن المسجد » ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم بعد . فقال « وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل لحائض ولا جنب » أخرجه أبو داود وجوز أحمد المكث في المسجد بشرط الوضوء به . قال المزني من أصحاب الشافعي وأجاب أحمد عن حديث عائشة بأنه في رواته مجهول .(2/96)
وقال عبد الحق لا يثبت من قبل إسناده وأستدل أحمد لمذهبه بما روي عن عطاء بن يسار قال رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة أخرجه سعيد بن منصور في مسنده واحتج لمذهب الجمهور بعموم الآية وبما روي عن أم سلمة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته « أن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض » أخرجه ابن ماجه ويحرم على الجنب أيضاً الطواف وقراءة القرآن كما يحرم عليه فعل الصلاة ويدل على ذلك أيضاً ما روي عن علي بن أبي طالب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته ثم يخرج فيقرأ ويأكل معنا اللحم ولا يحجبه وربما قال ولا يحجزه من القرآن شيء ليس الجنابة أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي ولفظه كان يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً وقال حديث حسن صحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يقرأ الجنب ولا الحائض ولا النفساء من القرآن شيئاً » أخرجه الدارقطني ويجب الغسل بأحد الشيئين : بإنزال المني وهو الماء الدافق أو بإيلاج الحشفة في الفرج وإن لم ينزل ويدل على ذلك ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً « قال يغتسل وعن الوجه يرى أنه احتلم ولا يجد بللاً . قال لا غسل عليه قالت أم سلمة والمرأة ترى ذلك أعليها غسل؟ قال نعم؟ » أخرجه أبو داود والترمذي ( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل » زاد في رواية وإن لم ينزل .
وقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى } جمع مريض وأراد به المرض الذي يضر معه إمساك الماء مثل الجدري وإحراق النار ونحو ذلك وإن كان على بعض مع وجود الماء وإن كان بعض أعضائه من استعمال الماء التلف أو زيادة الوجع فإنه يتيمم ويصلي مع وجود الماء وإن كان بعض أعضائه صحيحاً وبعضها جريحاً غسل الصحيح وتيمم للجريح في الوجه واليدين لما روي عن جابر قال : خرجنا في سفرنا فأصاب رجلاً منا حجراً فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : « قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنا شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو قال يصعب شك الراوي على جرحه خرقة ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده »(2/97)
أخرجه أبو داود والدارقطني ولم يجوز أصحاب الرأي الجمع بين الغسل والتيمم قالوا إذا كان أكثر أعضائه أو بدنه صحيحاً غسل الصحيح ولا يتيمم عليه وإن كان الأكثر جريحاً اقتصر على التيمم والحديث حجة لمن أوجب الجمع بين الغسل والتيمم .
قوله تعالى : { أو على سفر } يعني أو كنتم مسافرين وأراد به السفر الطويل والقصير وعدم الماء فإنه يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه لما روي عن أبي ذر قال : « اجتمعت غنيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبا ذر ابد فيها فبدوت إلى الربذة فكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو ذر فسكت فقال ثكلتك أمك يا أبا ذر لأمك الويل فدعا بجارية سوداء فجاءت بعس فيه ماء فسترتني بثوب واستترت بالراحلة فاغتسلت ، فكأني ألقيت عني جبلاً . فقال الصعيد الطيب : وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير أخرجه أبو داود العس قدح من فخار يجعل فيه الماء للوضوء والاغتسال . أما إذا لم يكن الرجل مريضاً ولا على سفر وعدم الماء في موضع لا يعدم فيه غالباً فإنه يتيمم ويصلي ثم يعيد إذا وجد الماء وقدر عليه وبه قال الشافعي وقال مالك والأوزاعي لا إعادة عليه وقال ابو حنيفة يؤخر الصلاة حتى يجد الماء .
وقوله تعالى : { أو جاء أحد منكم من الغائط } الغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان وكانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث فكنوا به عن الحدث وذلك أن الرجل منهم كان إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطاً من الأرض يعني مكاناً منخفضاً من الأرض يحجبه عن أعين الناس فسمي الحدث بهذا الاسم فهو من باب تسمية الشيء باسم مكانه . وقوله تعالى { أو لامستم النساء } قرئ هنا وفي سورة المائدة لامستم النساء ولمستم بغير ألف واختلف العلماء في معنى الملامسة على قولين أحدهما أنه الجماع وهو قول علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ووجه هذا القول أن الله تعالى كنى باللمس عن الجماع لأن اللمس يوصل إليه . قال ابن عباس إن الله حيي كريم يكني عن الجماع بالملامسة ، والقول الثاني إن المراد باللمس هنا التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو بغير جماع وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي ووجه هذا القول إن اللمس حقيقة في اللمس باليد فأما حمله على الجماع فمجاز والأصل حمل الكلام على الحقيقة لا على المجاز . وأما قراءة من قرأ أو لامستم فالملامسة مفاعلة والأصل حمل الكلام على الحقيقية لا على الإطلاق لأنه قد ورد في الحديث النهي عن بيع الملامسة قال أبو عبيدة في معناها هي أن يقول : إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع فالملامسة في الحديث بمعنى اللمس باليد وإذا كانت مستعملة في غير المجامعة لم يدل قوله تعالى : { أو لامستم النساء } على صريح الجماع بل حمل على الأصل الموضوع له وهو اللمس باليد .(2/98)
فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل
المسألة الأولى : إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة ولا حائل بينهما انتقض وضوءهما وهو قول ابن مسعود وابن عمر وبه قال الزهري والأوزاعي والشافعي لما روي الشافعي عن ابن عمر أنه قال قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة فمن قبّل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء أخرجه مالك في الموطأ قال الشافعي : وبلغنا عن ابن المسعود مثله وقال مالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق إذا كان اللمس بشهوة انتقض الوضوء وإن لم يكن بشهوة فلا ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ » قال عروة ومن هي إلاّ لا أنت فضحكت أخرجه أبو داود وأجيب عن هذا الحديث بأنه ليس بثابت قال الترمذي إنه لا يصلح إسناده بحال وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث وقال حبيب بن ثابت لم يسمع من عروة وضعف يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث وقال هو شبه لا شيء وفيه ضعف من وجه آخر وهو أن عروة هذا ليس بعروة بن الزبير ابن أخت عائشة إنما هو شيخ مجهول قال البيهقي يعرف بعروة المزني وإنما المحفوظ عن عائشة « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم » كذا رواه الثقات عن عائشة وقال أبو حنيفة لا ينتفض الوضوء باللمس إلاّ أن يحدث الانتشار وقال قوم لا ينتقض بحال وهو وقول ابن عباس وبه قال الحسن والثوري واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما روي عن عائشة أنها قالت : « كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح » أخرجاه في الصحيحين وأجاب من أوجب الوضوء باللمس عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون غمزه لها على حائل .
المسألة الثانية : اختلف قول الشافعي في لمس المحرم كالأم والبنت والأخت أو أجنبية صغيرة فأصح القولين عنه أنه لا ينتقض الوضوء به والثاني انه ينتقض الوضوء به ومأخذ القولين عند أصحاب الشافعي التردد بين التعلق بعموم الآية في قوله : { أو لا مستم النساء } أو النظر إلى المعنى في النقض باللمس وهو تحرك الشهوة فإن أخذنا بعموم الآية فينتقض الوضوء بلمس المحارم وإن أخذنا بالمعنى فلا ينتقض وفي الملموس قولان والملموس هو الذي لا فعل منه في المباشرة رجلاً كان أو امرأة واللامس هو الفاعل اللمس وإن لم يقصد المباشرة فأحد القولين إنه ينتقض وضوء اللامس والملموس لعموم الآية لأنه لمس وقع بين الرجل والمرأة فينتقض وضوءهما معاً والقول الثاني إنه ينتقض وضوء اللامس دون الملموس لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت :(2/99)
« فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوضعت يدي على أخمص قدميه وهو ساجد وهما منصوبتان وهو يقول : اللّهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك » أخرجه مسلم فلو انتقض وضوءه صلى الله عليه وسلم لقطع الصلاة ولو لمس شعر امرأة أو سنها أو ظفرها فلا وضوء عليه .
المسألة الثالثة في الحديث : وهو الخارج من السبيلين عيناً كالبول والغائط أو أثراً كالريح ونحوها فإذا حصل شي من ذلك فلا تصح صلاته ما لم يتوضأ أو يتيمم عند عدم الماء لما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ » فقال رجل من أهل حضرموت ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال فساء أو ضراط أخرجاه في الصحيحين أما خروج النجاسة من غير السبيلين كالفصد والحجامة والرعاف والقيء ونحوها فذهب قوم إلى أنه لا وضوء من خروج هذه الأشياء يروى عن ابن عمر وابن عباس وبه قال عطاء وطاوس والحسن وابن المسيب وإليه ذهب مالك والشافعي لما روي عن أنس قال : « احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه » أخرجه الدارقطني وذهب قوم إلى إيجاب الوضوء من ذلك منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق واتفق هؤلاء على أن خروج القليل منه لا ينقض الوضوء ويدل على انتقاض الوضوء بخروج هذه الأشياء ما روي عن معدان بن أبي طلحة عنه أبي الدرداء : « أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ قال معدان فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال صدق أنا صببت له وضوءه » أخرجه الترمذي وقال هو أصح شيء في هذا الباب .
المسألة الرابعة : من نواقض الوضوء زوال العقل بجنون أو إغماء أو نوم لما روي عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ » أخرجه أبو داود وابن ماجه ويستثنى من ذلك النوم اليسير قاعداً مفضياً بمحل الحدث إلى الأرض ويدل على ذلك ما روي عن أنس .(2/100)
قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الأخير حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون أخرجه أبو داود وذهب قوم إلى أن النوم لا ينقض الوضوء بكل حال وهو قول أبي هريرة وعائشة وبه قال الحسن وإسحاق والمزني وذهب قوم إلى أنه لو نام قائماً أو قاعداً أو ساجداً وهو في الصلاة فلا وضوء عليه حتى يضطجع وبه قال سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ليس على من نام ساجداً وضوء حتى يضطجع فإذا اضطجع استرخت مفاصله » أخرجه أحمد بن حنبل وضعف بعضهم هذا الحديث .
المسألة الخامسة : من نواقض الوضوء مس الفرج من نفسه أو غيره فذهب قوم إلى أنه يوجب الوضوء وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وإليه ذهب الأوزاعي الشافعي وأحمد وإسحاق غير أن الشافعي قال : ينتقض الوضوء إذا لمس ببطن الكف والرجل والمرأة في ذلك سواء يدل على ذلك ما روي عن بسرة بنت صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من مس ذكره فلا يصلَّ حتى يتوضأ » أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح ولأبي داود والنسائي نحوه وعن أم حبيبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من مس فرجه فليتوضأ » أخرجه ابن ماجه وصححه أحمد وأبو زرعة وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أفضى بيده إلى ذكره وليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء » أخرجه أحمد بن حنبل وذهب قوم إلى مس الذكر لا يوحب الوضوء وهو قول علي وابن مسعود وابي الدرداء وحذيفة وبه قال الحسن وإليه ذهب الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي واحتجوا بما روي عن طلق بن علي قال قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل كأنه بدوي فقال : « يا نبي الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما توضأ قال هل هو إلاّ مضغة أو قال بضعة منه؟ » أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي نحوه بمعناه وأجاب من أوجب الوضوء على من مس الذكر عن حديث طلق بن علي بأن قدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أول الهجرة وهو يبني المسجد وأبو هريرة من آخرهم إسلاماً . وقد روي انتقاض الوضوء بمس الذكر فصار حديث أبي هريرة ناسخاً لحديث طلق بن علي وأيضاً فإن حديث طلق يرويه عنه ابنه قيس بن طلق وهو ليس بالقوي عند أهل الحديث .
وقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً } اعلم أن التيمم من خصائص هذه الأمة خصها الله تعالى به ليسهل عليهم أسباب العبادة ويدل على ذلك ما روي عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/101)
« فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء » أخرجه مسلم وكان سبب بدء التيمم ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبو بكر الصديق فقالوا : ألا ترى إلى ما صنعت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء قالت عائشة فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلاّ مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله عز وجل آية التيمم فتيمموا فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر قال عائشة فبعثنا البعير الذي كنا عليه فوجدنا العقد تحته » أخرجاه في الصحيحين قولها بالبيداء : المفازة والقفر وكل صحراء فهي بيداء وجمعها بيد وذات الجيش اسم لموضع وهو على بريد من المدينة وقولها فبعثنا البعير أي أثرناه قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } هو معطوف على ما قبله والمعنى أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فطلبتم الماء لتطهروا به فلم تجدوه يعني فأعوزكم فلم تجدوه بثمن ولا بغير ثمن لأن المحدث مأمور بالتطهر بالماء فإذا أعوزه الماء عدل عنه إلى التيمم بعد طلب الماء . قال الشافعي : إذا دخل وقت الصلاة طلب الماء فإن لم يجده تيمم وصلى ثم إذا دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى . وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه الطلب للصلاة الثانية حجة الشافعي قوله تعالى فلم تجدوا ماء فعدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب وأجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه إليه يحتاج إليه لعطشه أو عطش حيوان محترم فإنه يجوز له التيمم مع وجدان ذلك الماء وقوله تعالى : { فتيمموا صعيداً طيباً } أصل التيمم في اللغة القصد يقال تيممت فلاناً إذا قصدته وهو في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة عند عدم الماء لتأدية الصلاة واختلفوا في الصعيد الطيب فقال قتادة الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات .(2/102)
وقال ابن زيد الصعيد : المستوي من الأرض وكذلك قال الليث : الصعيد الأرض المستوية التي لا شيء فيها . وقال الفراء : الصعيد هو التراب وكذلك قال أبو عبيد في قوله صلى الله عليه وسلم : « إياكم والقعود بالصعدات » قال الصعدات الطرق مأخوذ من الصعيد وهو التراب وقيل الصعيد وجه الأرض البارز وهو اختيار الزجاج قال : الصعيد وجه الأرض ولا تبال أكان في الموضع تراب أو لا لأن الصعيد ليس هو التراب إنما هو وجه الأرض ونقل الربيع عن الشافعي في تفسير الصعيد قال : لا يقع اسم الصعيد إلاّ على تراب ذي غبار فأما البطحاء الغليظة والرقيقة فلا يقع عليها اسم الصعيد فإن خالطه تراب أو مدر يكون له غبار كالذي خالطه هو الصعيد قال ولا يتيمم بنوره ولا كحل ولا زرنيخ كل هذا حجارة هذا كلام الشافعي في تفسير الصعيد وهو القدوة في اللغة وقوله في ذلك حجارة هذا كلام الشافعي في تفسير الصعيد وهو القدوة في اللغة وقوله في ذلك وقد وافقه على ذلك الفراء وأبو عبيدة في أنه التراب وجميع الأقوال في الصعيد صحيحه في اللغة لكن المراد به هنا التراب وقد قال ابن عباس في قوله صعيداً هو التراب . واختلف أهل العلم فيما يجوز به التيمم فذهب الشافعي إلى أنه يختص بما وقع عليه اسم التراب مما له غبار يعلق بالوجه واليدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً » فخص التراب بالطهور ولأن الله تعالى وصف الصعيد بالطيب والطيب من الأرض هو الذي ينبت فيها بدليل قوله والبلد الطيب يخرج نباته فعلى هذا ما لا ينبت ليس بطيب ولنا أيضاً قوله تعالى في سورة المائدة فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه وكلمة من للتبعيض هنا ولا يتأتى ذلك في الصخر الذي لا تراب عليه وأيضاً فإنه يقال للغبار صعيد لأنه مأخوذ من الصعود وهو الارتفاع ولا يكون ذلك في الصخر وما أشبهه . وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه يجوز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض كالرمل والجص والنورة والزرنيخ ونحو ذلك حتى لو ضرب يده على صخرة ملساء لا غبار عليها صح تيمه عندهم واحتج أبو حنيفة ومن وافقه بظاهر الآية قالوا لأن التيمم هو القصد والصعيد اسم لما تصاعد من الأرض فقوله تعالى فتيمموا صعيداً طيباً أي اقصدوا أرضاً فوجب أن يكون هذا القدر كافياً وأجيب عنه بما تقدم من الدليل في قوله منه وإن لفظة من تكون للتبعيض قالوا ولما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(2/103)
« وجعلت لي الأرض مسجداً طهوراً » وأجيب عنه بأن هذا مجمل يفسره ما تقدم من حديث حذيفة في تخصيص التراب والمفسر يقضي على المجمل وجوز بعضهم التيمم بكل ما هو متصل بالأرض من شجر ونبات ومدر ونحو ذلك قالوا لأن اسم الصعيد يقع على ما تصاعد على الأرض وأجيب عنه بما تقدم من الأدلة .
وقوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } الوجه المسموح في التيمم هو المجدود في الوضوء واختلف العلماء فيما يجب مسحه من اليد فذهب أكثر أهل العلم منهم وابن عمر وابنه سالم والحسن وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي أنه يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين وصورة ذلك أن يضرب كفيه على التراب ويمسح بهما وجهه ولا يجب إيصال التراب إلى منابت الشعور ثم يضرب ضربة أخرى ويفرق أصابعه فيمسح يديه إلى المرفقين ويدل على ذلك ما روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين » رواه البيهقي ولم يضعفه وروي الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن الأعرج عن ابن الصمة قال مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد عليّ حتى قام إلى الجدار فحته بعصا كانت معه ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد على هذا حديث منقطع لأن الأعرج وهو عبدالرحمن بن هرمز لم يسمع هذا من ابن الصمة وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة وكذا هو مخرج في الصحيحين عن عمير مولى ابن عباس قال دخلنا على أبي جهيم بن الحارث فقال أبو جهيم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فوضع يده على الحائط فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام . ولأبي داود عن نافع قال انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس فلما أن قضى حاجته فكان من حديثه فكان من حديثه يومئذٍ أن قال مر رجل في سكة من سكك المدينة فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من غائط أو بول فسلم عليه الرجل فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على حائط مسح بها وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه ثم رد عليه السلام قال : لم يمنعني إن أرد عليك أولاً إلاّ أني لم أكن على طهر وفي رواية فمسح ذراعيه إلى المرفقين فهذا أجود ما في هذا الباب .(2/104)
فإن البيهقي أشار إلى صحة إسناده وفيه دليل على الحكمين يعني مسح الوجه واليدين بضربتين وإيصال المسح إلى المرفقين وفيه دليل على أن التيمم لا يصح ما لم يعلق بالوجه واليدين غبار التراب لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث الجدار بالعصى ولو كان مجرد الضرب كافياً لما كان حته . ذهب الزهري أنه يمسح اليد إلى المنكبين ويدل على ذلك ما روي عن عمار بن ياسر قال تمسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر بأكفم الصعيد ثم مسحوا بوجوههم مسحة واحدة ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم . كلها إلى المناكب والإباط ثم بطون أيديهم أخرجه أبو داود وذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين وهو قول علي وابن عباس وبه قال الشعبي وعطاء ومكحول وإليه ذهب الأوزاعي ومالك وأحمد وداود الظاهري واحتجوا بما روي عن عمار بن ياسر قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال « إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ، وباطنهما ووجهه » وفي رواية أن تقول هكذا وضرب بيديه الأرض فنفض يديه فمسح وجهه وكفيه أخرجاه في الصحيحين وجملته أن اليد اسم لهذه الجارحة وحدها عند بعض أهل اللغة من أطراف الأنامل إلى الكوع وهذا هو المقطوع في حد السرقة . وقال أبو إسحاق الزّجاج : حدها من أطراف الأنامل إلى الكتف فمن ذهب إلى أن الممسوح في التيمم هو الكف . قال إن حد اليد هو المناكب والأباط نظر إلى أن مسمى اليد يطلق على جميعها ومن ذهب إلى أن الممسوح في التيمم إلى المرفقين قال إن التيمم بدل عن الوضوء واليد المغسولة في الوضوء هي الممسوحة في التيمم فيحمل المطلق الذي في قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم على المقيد الذي في قوله تعالى في آية الوضوء فأغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأجاب من ذهب إلى هذا عن حديث عمار بأن المراد منه بيان صورة الضرب وليس المراد منه جميع ما يحصلبه التيمم .
فصل
وأركان التيمم خمسة : الأول تراب طاهر خالص له غبار يعلق بالوجه واليدين ويحوز بالرمل إذا كان عليه غبار . الثاني قصد الصعيد فلو تعرض لمهب الريح لم يكفه ولو يممه غيره بإذنه مع عجزه جاز وإن كان قادراً فوجهان . الثالث نقل التراب إلى الوجه واليدين . الرابع نية استباحة الصلاة فلو نوى رفع الحدث لم يصح وأكمله أن ينوي استباحة الفرض والنفل . الخامس مسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين والترتيب ولا يصح التيمم لصلاة إلاّ بعد دخول وقتها ولا يجوز الجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد وهو قول علي وابن عباس وابن عمر وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وذهب جماعة إلى أن التيمم كالوضوء فيجوز تقديمه إلى وقت ويجوز أن يصلي به ما شاء من الفرائض ما لم يحدث وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي واتفقوا على أنه يجوز أن يصلي بتيمم واحد ما شاء من النوافل قبل الفرض وبعده إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى ، وأن يقرأ القرآن إن كان جنباً ويشترط طلب الماء في السفر بأن يطلبه في رحله وعند رفقائه وإن كان في صحراء ولا حائل دون نظره حواليه ، وإن كان دون نظره حائل قريب من تل أو جدار أو نحوه عدل عنه لأن الله تعالى قال فلم تجدوا ماء فتيمموا ولا يقال لم يجد إلاّ لمن طلب ولا يشترط طلب عند أبي حنيفة فإن رأى الماء ولا يقدر عليه لمانع من عدو أو سبع يمنعه من الذهاب إليه أو كان الماء في بئر وليس معه آلة الاستقاء فهو كالعادم فيتيمم ويصلي ولا إعادة عليه والله أعلم .(2/105)
وقوله تعالى : { إن الله كان عفواً } يعني يتجاوز عن ذنوب عباده ويعفو ويصفح عنهم { غفوراً } ستوراً على عباده يغفر الذنوب ويسترها وفيه تنبيه على أن الله تعالى رخص لعباده أمر العبادة ويسرها عليهم لأن من كانت عادته أن يغفر الذنوب ويعفو عنها كان أولى بأن يرخص للعاجزين أمر العبادة .(2/106)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
قوله عز وجل : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } نزلت في يهود المدينة وقال ابن عباس نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم اليهوديين كانا إذا تلكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لويا ألسنتهما وعاباه فأنزل الله تعالى ألم تر يعني ألم ينته علمك يا محمد إلى هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يعني أعطوا حظاً من علم التوراة وذلك أنهم عرفوا نبوة موسى من التوراة وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم منها فلذلك أتى بمن التي هي للتبعيض وقيل إنهم علموا التوراة ولم يؤتوا العمل بها { يشترون الضلالة } يؤثرون تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم ليأخذوا بذلك الرشا وتحصل لهم الرياسة وإنما ذكر بلفظ الشراء لأنه استبدال شيء بشيء وقيل فيه إضمار يعني يستبدلون الضلالة بالهدى { ويريدون } يعني اليهود { أن تضلوا السبيل } يعني عن السبيل والمعنى أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم لكي يجتنبوا الإسلام .(2/107)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
{ والله أعلم بأعدائكم } يعني أنه سبحانه وتعالى أعلم بكنه ما في قلوب اليهود من العداوة والبغضاء لكم يا معشر المؤمنين فلا تنصحوهم فإنهم أعداؤكم { وكفى بالله ولياً } يعني متوالياً أمركم والقائم به ومن كان الله تعالى وليه لم يضره أحد { وكفى بالله نصيراً } يعني ينصركم عليهم فثقوا بولايته ونصره .
وقوله تعالى : { من الذين هادوا } قيل هو بيان للذين أوتوا نصيباً من الكتاب والتقدير ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب من الذين هادوا وقيل هو متعلق بما قبله والتقدير وكفي بالله نصيراً من الذين هادوا وقيل هو ابتداء الكلام وفيه حذف تقديره من الذين هادوا قوم { يحرفون الكلم } أي يزيلونه ويغيرونه ويبدلونه { عن مواضعه } يعني يغيرون صفة محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة وقال ابن عباس : كانت اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن الأمر فيخبرهم به فيرى أنهم يأخذون بقوله فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه ، وقيل المراد بالتحريف إلقاء الشبهة الباطلة والتأويلات الفاسدة وهو تحريف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى الباطل { ويقولون سمعنا وعصينا } يعني سمعنا قولك وعصينا أمرك وذلك أنهم كانوا إذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر قالوا في الظاهر سمعنا وقالوا في الباطن : عصينا وقيل إنهم كانوا يظهرون ذلك القول عناداً واستخفافاً { واسمع غير مسمع } هذه كلمة تحتمل المدح والذم فاما معناها في المدح اسمع غير مسمع مكروهاً . وأما معناها في الذم فإنهم كانوا يقولون اسمع منا ولا نسمع منك . وقيل أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم اسمع ثم يقولون في أنفسهم لا سمعت وقيل معناه غير مقبول منك ما تدعو إليه وقيل معناه غير مسمع جواباً يوافقك ولا كلاماً ترتضيه { وراعنا } أي ويقولون راعنا يريدون بذلك نسبته إلى الرعونة وقيل معناه أرعناً سمعك أي اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت إلى قولنا ومثل هذا لا يخاطب به الأنبياء بل إنما يخاطبون بالإجلال والتعظيم والتبجيل والتفخيم { ليّاً بألسنتهم وطعناً في الدين } أصله لويا لأنه من لويت الشيء إذا فتلته والمعنى أنهم يفتلون الحق فيجعلونه باطلاً لأن راعنا من المراعاة فيجعلونه من الرعونة . وكانوا يقولون لأصحابهم إنما نشتمه ولا يعرف ولو كان نبياً لعرف ذلك فأظهره الله تعالى على خبث ضمائرهم وما في قلوبهم من العداوة والبغضاء ثم قال تعالى : { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا } يعني ولو أنهم قالوا بدل سمعنا وعصينا سمعنا وأطعنا { واسمع } يعني بدل قولهم لا سمعت { وانظرنا } يعني بدل قولهم راعنا أي انظر إلينا { لكان خيراً لهم } يعني عبدالله { وأقوم } يعني أعدل وأصوب { ولكن لعنهم الله } يعني طردهم وأبعدهم من رحمته { بكفرهم } يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم : { فلا يؤمنون إلاّ قليلاً } يعني فلا يؤمن من اليهود إلاّ نفر قليل مثل عبدالله بن سلام وأصحابه وقيل أراد بذلك القليل هو اعترافهم بأن الله خلقهم ورزقهم .(2/108)
قوله تعالى : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } خطاب لليهود { آمنوا بما نزلنا } يعني القرآن { مصدقاً لما معكم } يعني التوراة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم أحبار اليهود عبدالله بن صوريا وكعب بن الأشرف فقال « يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق » قالوا ما نعرف ذلك وأصروا على الكفر فأنزل الله هذه الآية وأمرهم بالإيمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد فقال تعالى : { من قبل أن نطمس وجوهاً } أصل الطمس إزالة الأثر بالمحو وذكروا في المراد بالطمس ها هنا وجهين : أحدهما أن يحمل على حقيقته والثاني أن يحمل على مجازه أما من حمله على الحقيقة فقال هو محو تخطيط صور الوجوه قال ابن عباس يجعلها كخف البعير وقيل نعيمها فيكون المراد بالوجه العين { فنردها على أدبارها } يعني نجعلها على هيئة أدبارها وهي الاقفاء وقيل نديرها فنجعل الوجوه إلى خلف والأقفاء إلى قدام وإنما جعل الله هذا عقوبة لهم لما فيه من تشويه الخلقة والمثلة والفضيحة ، وعند هذا يحصل لهم الغم وتكثر الحسرات فعلى هذا يكون هذا الوعيد مختصاً بيوم القيامة . وأما من حمل الطمس على المجاز فقال المراد به نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها يعني على ضلالتها وقيل المراد بالطمس طمس القلب والبصيرة فنردها على أدبارها يعني بتغيير أحوالهم فنلبسهم الصغار والذلة بعد العز وقيل المراد بالطمس محو آثارهم من المدينة وردهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام من حيث جاؤوا وهو إجلاء بني النضير فإن قلت قد أوعدهم وهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يؤمنوا فلم يفعل بهم ذلك قلت هذا الإشكال إنما يرد على من فسر الطمس بتغيير الوجوه ومحو تخطيطها وحمله على الحقيقة والجواب عنه إن هذا مشروط بعدم الإيمان وقد آمن منهم ناس فرفع عن الباقين . وروى أن عبدالله بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله فأسلم وقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي إلى قفاي وكذلك روي عن كعب الأحبار أنه لما سمع هذه الآية في خلافة عمر بن الخطاب أسلم . وقال يا رب أسلمت مخافة أن يصيبني وعيد هذه الآية فكان هذا الوعيد مشروطاً بأن لا يؤمن أحد منهم وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن منهم جمع كثير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كعبدالله بن سلام وأصحابه ففات الشرط لفوات المشروط وقيل إن الطمس باق في اليهود فيكون فيهم طمس ومسخ قبل يوم القيامة وقيل إنه تعالى جعل الوعيد بأحد شيئين إما بالطمس أو باللعنة وهو قوله تعالى : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أي نجعلهم في قوله تعالى : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } وهذا على طريقة الالتفات كما في قوله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك } وجرين بهم بريح طيبة وقد يحتمل أن يكون معناه من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها ونلعن أصحاب الوجوه فنجعل الكناية في قوله أو نلعنهم عن ذكر أصحاب الوجوه إذا كان في الكلام دلالة عليهم . وقوله تعالى : { وكان أمر الله مفعولاً } يعني لا بد وأن يقع لهم ذلك إن لم يؤمنوا فلا راد لحكمه ولا ناقض لأمره على معنى أنه لا يمتنع عليه شيء يريد أن يفعله وقيل معناه وكان مأمور الله مفعولاً والأمر هنا في موضع المأمور سمي أمراً لأنه عن أمره كان .(2/109)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
قوله عز وجل : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } قال ابن جرير الطبري معناه يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . فعلى هذا يكون في الآية دلالة على أن اليهود يسمى مشركاً في عرف الشرع وقيل إن الآية نزلت في وحشي وأصحابه ، وذلك لما قتل حمزة رضي الله عنه ورجع إلى مكة ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا ندمنا على ما صنعنا وأنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلاّ أنا سمعناك بمكة تقول والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر إلى آخر الآيات وقد دعونا مع الله إلهاً آخر وقتلنا النفس التي حرم الله وزنينا فلولا هذه الآيات لاتبعناك فنزلت { إلاّ من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } الآيتين فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فلما قرؤوهما كتبوا إليه إن هذا شرط شديد ونخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فبعثوا إنا نخاف أن لا نكون من أهل المشيئة فنزلت { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الآية فبعث بها إليهم فدخلوا في الإسلام ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل منهم ثم قال لوحشي أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلما أخبره قال ويحك غيب وجهك عني فلحق بالشام فكان به إلى أن مات وقيل لما نزلت { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الآية قام رجل فقال : يا رسول الله والشرك؟ فسكت ثم قام إليه مرتين أو ثلاثاً فنزلت هذه الآية ومعنى الآية أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء يعني ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من أصحاب الذنوب والآثام . ففي الآية دليل على أن صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة فإنه في خطر المشيئة إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة بمنه وكرمه وإن شاء عذبه بالنار ثم أدخله برحمته وإحسانه لأن الله تعالى وعد المغفرة لما دون الشرك فإن مات على الشرك فهو مخلد في النار لقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وفي الآية رد على المعتزلة والقدرية حيث قالوا : لا يجوز في الحكمة أن يغفر لصاحب كبيرة وعند أهل السنة أن الله تعالى يفعل ما يشاء لا مكره له ولا حجر عليه ويدل على ذلك أيضاً ما روي عن ابن عمر قال كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فأمسكنا عن الشهادة .(2/110)
وقال ابن عباس لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين الرجل يعمل من الصالحات لم يدع من الخير شيئاً إلاّ عمله غير أنه مشرك قال عمر هو في النار فقال ابن عباس الرجل لم يدع شيئاً من الشر إلاّ عمله غير أنه لم يشرك بالله شيئاً فقال عمر : الله أعلم قال ابن عباس : إني لأرجو له كما أنه لا ينفع مع الشرك عمل كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب فسكت عمر . عن علي بن أبي طالب قال : ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب ( م ) عن جابر قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما الموجبتان؟ « قال من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ومن مات يشرك به دخل النار » .
وقوله تعالى : { ومن يشرك بالله } يعني يجعل معه شريكاً غيره { فقد افترى } أي اختلق { إثماً عظيماً } يعني ذنباً عظيماً غير مغفور إن مات عليه .(2/111)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
قوله عز وجل : { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } نزلت في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ قال : لا قالوا : ما نحن إلاّ كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما عملناه بالليل يكفر عنا بالنهار فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل نزلت في اليهود والنصارى حين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وقولهم لن يدخل الجنة إلاّ من كان هوداً أو نصارى والتزكية هنا عبارة عن مدح الإنسان نفسه الصلاح والدين منه تزكية الشاهد حتى يصير عدلاً قال الله تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } وذلك لأن التزكية متعلقة بالتقوى وهي صفة في الباطن فلا يعلم حقيقتها إلاّ الله تعالى فلا تصلح التزكية إلاّ من عند الله تعالى فلهذا قال الله تعالى : { بل الله يزكي من يشاء } ويدخل في هذا المعنى كل من ذكر نفسه بصلاح أو وصفها بزكاء العمل أو بزيادة الطاعة والتقوى أو بزيادة الزلفى عند الله تعالى فهذه الأشياء لا يعلمها إلاّ الله فلهذا قال : { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } ومعنى يزكون أنفسهم يزعمون أنهم برؤوا أنفسهم من الذنوب قال تعالى رداً عليهم : { بل الله يزكي من يشاء } فيجعله زاكياً { ولا يظلمون فتيلاً } يعني أن الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تلك التزكية من غير ظلم وقيل معناه إن الذين زكاهم الله لا ينقصون من ثواب طاعتهم شيئاً والفتيل المفتول وسمي ما يكون في شق النواة فتيلاً لكونه على هيئته وقيل الفتيل هو ما تفتله بين أصابعك من وسخ وغيره ويضرب به المثل في الشيء الحقير الذي لا قيمة له { انظر } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم انظر يا محمد إلى هؤلاء اليهود { كيف يفترون على الله الكذب } يعني قولهم أنهم لا ذنوب لهم وتزكيتهم أنفسهم { وكفى به } أي بذلك الكذب { إثماً مبيناً } .(2/112)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
قوله عز وجل : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } نزلت في كعب بن الأشرف وسبعين راكباً من اليهود قدموا مكة بعد وقعة أحداً ليحالفوا قريشاً على النبي صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل كعب بن الأشرف على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزل باقي اليهود على قريش في دورهم أهل مكة أنتم فقال لهم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا إلى هذين الصنمين ففعلوا ذلك فذلك قوله تعالى : { يؤمنون بالجبت والطاغوت } ثم قال كعب بن الأشرف لأهل مكة ليجيء منكم ثلاثون رجلاً ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب هذا البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا ثم قال أبو سفيان لكعب بن الأشرف إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى سبيلاً نحن أم محمد؟ قال كعب اعرض علي دينكم فقال أبو سفيان نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث فقال كعب أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد فأنزل الله تعالى ألم تر يعني يا محمد إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب كعب بن الأشرف وأصحابه اليهود يؤمنون بالجبت والطاغوت يعني سجودهم للصنمين واختلف العلماء فيهما الجبت والطاغوت كل معبود دون الله تعالى ، وقيل هما صنمان كانا لقريش وهما اللذان سجد اليهود لهما لمرضاة قريش وقيل الجبت اسم للأصنام والطاغوت شياطين الأصنام ولكل صنم شيطان يعبر فيها ويكلم الناس فيغترون بذلك وقيل الجبت الكاهن والطاغوت الساحر عن قطن بن قبيصة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « العيافة والطيرة والطرق من الجبت » أخرجه أبو داود وقال الطرق الزجر والعيافة الخط وقيل العيافة هي زجر الطير وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا خرج لأمر زجر طيراً فإذا أخذ ذات اليمين مضى في حاجته وإذا أخذ ذات الشمال رجع فنهوا عن ذلك والطرق هو ضرب الحجارة والحصا على طريق الكهانة فنهوا عنه والطيرة هو أن يتطير بالشيء فيرى الشؤم فيه والشر منه وقيل هو من التطير وهو زجر الطائر والخط هو ضرب الرمل لاستخراج الضمير وقيل الجبت كل ما حرم الله تعالى والطاغوت كل ما يطغى الإنسان وقيل الجبت هو حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف اليهوديان وكانا طاغية اليهود { ويقولون } يعني كعب بن الأشرف وأصحابه { للذين كفروا } يعني لكفار قريش { هؤلاء } يعني أنتم يا هؤلاء { أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } يعني طريقاً .(2/113)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
قوله تعالى : { أم لهم نصيب من الملك } هذا استفهام انكار يعني ليس لهم من الملك شيء البتة وذلك أن اليهود كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب فأكذبهم الله تعالى وأبطل دعواهم { فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً } هذا جواب وجزاء لمضمر تقديره ولئن كان لهم نصيب وحفظ من الملك فلا يؤتون الناس منه نقيراً وصفهم بالبخل في هذه الآية ووصفهم بالجهل في الآية المتقدمة ووصفهم بالحسد في الآية الآتية . وهذه الخصال كلها مذمومة فكيف يدعون الملك وهي حاصلة فيهم والنقير التي تكون على ظهر النواة ومنها تنبت النخلة ويضرب به المثل في الشيء الحقير التافه الذي لا قيمة له .
قوله عز وجل : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } أصل الحسد تمني زوال النعمة عمن هو مستحق لهما وربما يكون ذلك مع سعي في زوالها وصف الله اليهود بشر خصلة وهي الحسد والمراد بالناس محمد صلى الله عليه وسلم وحده وإنما أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد لأنه صلى الله عليه وسلم اجتمع فيه من خصال الخير والبركة ما لا يجتمع مثله في جماعة ومن هذا القبيل يقال فلان أمة وحده يعني أن يقوم مقام أمة ، وقيل المراد بالناس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأن لفظ الناس جمع وحمله على الجمع أولى والمراد بالفضل النبوة لأنها أعظم المناصب وأشرف المراتب ، وقيل حسدوه على ما أحلّ الله له النساء وكان له يومئذٍ تسع نسوة . فقالت اليهود لو كان نبياً لشغله أمر النبوة عن الاهتمام بأمر النساء فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم بقوله { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة } يعني أنه قد حصل في أولاد إبراهيم صلى الله عليه وسلم جماعة كثيرون جمعوا بين الملك والنبوة مثل داود وسليمان عليهما السلام فلم يشغلهم الملك عن أمر النبوة والمعنى كيف يحسدون محمداً صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله وقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وأنتم لا تحسدونهم . والمراد بالكتاب التوراة وبالحكمة النبوة { وآتيناهم ملكاً عظيماً } يعني فلم يشغلهم عن النبوة فمن فسر الفضل بكثرة النساء فسر الملك العظيم في حق داود وسليمان بكثرة النساء فإنه كان لداود مائة امرأة ولسليمان ألف امرأة ثلاثمائة حرة وسبعمائة سرية ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمئذٍ إلاّ تسع نسوة ولما لم يكن ذلك مستبعداً في حقهم ولا نقصاً في نبوتهم فلا يكون مستبعداً في حق محمد صلى الله عليه وسلم ولا نقصاً في نبوته { فمنهم } يعني من اليهود { من آمن به } أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله إليه كعبد الله بن سلام وأصحابه { ومنهم من صد عنه } أي أعرض عنه ولم يؤمن به { وكفى بجهنم سعيراً } يعني وكفى في عذاب من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم سعيراً .(2/114)
قوله تعالى : { إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً } هذا وعيد من الله عز وجل للذين أقاموا على كفرهم وتكذيبهم بما أنزل الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم من سائر الكفار والمعنى إن الذين جحدوا ما أنزلت على رسولي محمد من آياتي الدالة على توحيدي وصدق رسولي محمد صلى الله عليه وسلم سوف نصليهم ناراً أي ندخلهم ناراً نشويهم فيها : { كلما نضجت جلودهم } يعني احترقت { بدلناهم جلوداً غيرها } يعني غير الجلود المحترقة قال ابن عباس : يبدلون جلوداً بيضاء كأمثال القراطيس . وروي أن هذه الآية قرئت عند عمر بن الخطاب فقال عمر للقارئ : أعدها فأعادها وكان عنده معاذ بن جبل فقال معاذ : عندي تفسيرها تبدل في كل ساعة مائة مرة فقال عمر للقارئ : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره البغوي بغير سند وقال الحسن تأكلهم النار في كل يوم سبعين ألف مرة ( ق ) عن أبي هريرة يرفعه ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع ( م ) عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ضرس الكافر أو قال ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام » فإن قلت كيف تعذب جلود لم تكن في الدنيا ولم تعص؟ قلت يعاد الجلد الأول في كل مرة وإنما قال جلوداً غيرها لتبديل صفتها كما تقول صغت من خاتمي خاتماً غيره ، فالثاني هو الأول غير أن الصناعة بدلت الصفة وقيل إن العذاب للجملة الحساسة وهي النفس التي عصت فإن كان كذلك فغير مستحيل إن الله يخلق للكافر في كل ساعة من الجلود ما لا يحصى لتحترق ويصل ألمها وقيل المراد بالجلود السرابيل وهوقوله : { سرابيلهم من قطران } والمعنى كلما نضجت سرابيلهم واحترقت بدلناهم سرابيل من قطران غيرها لأن الجلود لو احترقت لفنيت وفي فنائها راحتها وقد أخبر الله عنهم أنهم لا يموتون فيها ولا يخفف عنهم من عذابها ولأن الجلد أحد أجزاء الجسم فثبت أن التبديل إنما هو للسرابيل وقيل يبدل الجلد من نفس الكافر فيخرج من لحمه جلداً وقيل إن الله تعالى يلبس أهل النار جلوداً لا تألم لتكون زيادة في عذابهم كلما احترق جلد بدلهم جلداً غيره .
وقوله تعالى : { ليذوقوا العذاب } أي إنما فعلنا بهم ذلك ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدته وإنما أتى بلفظ الذوق مع ما ينالهم من عظم العذاب الذي نالوه إخباراً بأن إحساسهم به في كل حال فإحساس الذائق في تجديد وجدان الذوق من غير نقصان في الإحساس { إن الله كان عزيزاً } يعني في انتقامه ممن ينتقم من خلقه لا يغلبه شيء ولا يمتنع عليه أحداً { حكيماً } يعني في تدبيره وقضائه وأنه لا يفعل إلاّ ما هو الصواب .(2/115)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم } يعني سوف ندخلهم يوم القيامة { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } يعني باقين فيها { أبداً } يعني ذلك الخلود بغير نهاية ولا انقطاع { لهم فيها } يعني في الجنات { أزواج مطهرة } يعني مطهرات من الحيض والنفاس وسائر أقذار الدنيا { وندخلهم ظلاً ظليلاً } كنيناً ذلك الظل لا تنسخه الشمس ولا يؤذيهم فيه حر ولا برد وذلك الظل هو ظل الجنة . فإن قلت إذا لم يكن في الجنة شمس يؤذي حرها فما فائدة وصفها بالظل الظليل؟ قلت إنما خاطبهم بما يعقلون ويعرفون وذلك لأن بلاد العرب في غاية الحرارة فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة واللذة فهو كقوله ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً .
قوله عز وجل : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } قال البغوي نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار وكان سادن الكعبة فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيل له : إنه مع عثمان فطلب منه رسول الله المفتاح فأبى وقال لو علمت إنه رسول الله لم أمنعه المفتاح فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذه منه المفتاح وفتح الباب ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وصلى فيه ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح وأن يجمع له بين السقايا والسدانة فأنزل الله هذه الآية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه ففعل ذلك فقال له عثمان : أكرهت ثم جئت ترفق فقال علي لقد أنزل الله عز وجل في شأنك قرآناً وقرأ عليه الآية فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فأسلم فكان المفتاح معه إلى أن مات فدفعه إلى أخيه شيبه فالمفتاح والسدانة في أولادهم إلى يوم القيامة . قلت وفيما ذكره البغوي رحمه الله من إسلام عثمان بن طلحة يوم الفتح ومنعه المفتاح وقوله لو أعلم أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح نظر والصحيح ما حكاه أبو عمر بن عبد البر وابن منده وابن الأثير أن عثمان بن طلحة هاجر إلى المدينة في هدنة الحديبية سنة ثمان مع خالد بن الوليد ولقيهما عمرو بن العاص مقبلاً من عند النجاشي فرافقهما وهاجر معهما فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم : قال رمتكم بأفلاذ كبدها يعني أنهم وجوه أهل مكة فأسلموا وسلم عثمان بن طلحة المفتاح للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فرده النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال(2/116)
« خذوها يا بني طلحة خالدة مخلدة لا ينزعها منكم إلاّ ظالم ولم يذكروا سؤال العباس السدانة والله أعلم » وثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أقبل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو مردف أسامة على القصواء ومعه بلال وعثمان حتى أناخ عند البيت ثم قال لعثمان ائتنا بالمفتاح فجاءه بالمفتاح ففتح الباب . وذكر الحديث وذكر ابن الجوزي في تفسير هذه الآية من رواية أبي صالح عن ابن عباس قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة طلب مفتاح البيت من عثمان بن طلحة فذهب ليعطيه إياه فقال العباس بأبي أنت وأمي اجمعه إلي مع السقاية فكف عثمان يده مخافة أن يعطيه العباس فقال النبي صلى الله عليه وسلم « هات المفتاح » فأعاد العباس قوله وكف عثمان يده فقال النبي صلى الله عليه وسلم « هات المفتاح أن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر » يدل على ذلك فعلى هذا القول يكون الخطاب في قوله إن الله يأمركم للنبي صلى الله عليه وسلم وهو أن الله أمره أن يرد مفتاح البيت إلى عثمان بن طلحة . وقيل الخطاب في قوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها لولاة أمور المسلمين من الأمراء والحكام وغيرهم ويدل على ذلك سياق الآية وهو قوله وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ومعنى الآية إن الله يأمركم يا ولا ة الأمور أن تؤدوا ما ائتمنتم عليه من أمور رعيتكم وأن توفوهم حقوقهم وأن تعدلوا بينهم . وقيل إن الآية عامة في جميع الأمانات ولا يمتنع من خصوص السبت عموم الحكم فيدخل في ذلك جميع الأمانات التي حملها الإنسان ويقسم ذلك إلى ثلاثة أقسام : القسم الأول رعاية الأمانة في عبادة الله عز وجل وهو فعل المأمورات وترك المنيهات قال ابن مسعود الأمانة لازمة في كل شيء حتى في الوضوء والغسل من الجنابة والصلاة والزكاة والصوم وسائر أنواع العبادات . القسم الثاني هو رعاية الأمانة مع نفسه وهو ما أنعم الله به عليه من سائر أعضائه فأمانة اللسان حفظه من الكذب والغيبة والنميمة ونحو ذلك وأمانة العين غضها عن المحارم وأمانة السمع أن لا يشغله بسماع شيء من اللهو والفحش والأكاذيب ونحوه ثم سائر الأعضاء على نحو ذلك . القسم الثالث هو رعاية أمانة العبد مع سائر عباد الله فيجب عليه رد الودائع والعواري إلى أربابها الذي ائتمنوه عليها ولا يخونهم فيها عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك » أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن غريب ويدخل في ذلك وفاء الكيل والميزان فلا يطفف فيهما ويدخل في ذلك أيضاً عدل الأمراء والملوك في الرعية ونصح العلماء للعامة فكل هذه الأشياء من الأمانة التي أمر الله عز وجل بأدائها إلى أهلها وروى البغوي بسنده عن أنس قال قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال :(2/117)
« لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له » وقوله تعالى : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } يعني وإن الله يأمركم أن تحكموا بين الناس بالعدل فيجب على الحاكم أن يأخذ الحق ممن وجب عليه لمن وجب له وأصل العدل هو المساواة في الأشياء فكل ما خرج عن الظلم والاعتداء سمي عدلاً قال بعض العلماء ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء في الدخول عليه والجلوس بين يديه والإقبال عليهما والاستماع منهما والحكم بالحق فيما لهما وعليهما وحاصل الأمر فيه أن يكون مقصود الحاكم بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه وأن لا يمتزج ذلك بغرض آخر ( م ) عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا » عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم عنده مجلساً إمام عادل وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر » أخرجه الترمذي .
وقوله تعالى : { إن الله نعما يعظكم به } أي نعم الشيء الذي يعظكم به وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل { إن الله كان سميعاً بصيراً } يعني أنه تعالى سميع لما تقولون وبصير بما تفعلون فإذا حكمتم فهو يسمع حكمكم وإذا أديتم الأمانة فهو يبصر فعلكم .(2/118)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ( ق ) عن ابن عباس قال لما نزل قوله : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } الآية قال نزلت في عبدالله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وقال السدي نزلت في خالد بن الوليد وذلك أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية وفيها عمار بن ياسر فلما قربوا من القوم هربوا منهم وجاء رجل إلى عمار قد أسلم فأمنه عمار فرجع الرجل فجاء خالد فأخذ مال الرجل فقال عمار إني قد أمنته وقد أسلم خالد أتجير علي وأنا الأمير فتنازعا وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير فأنزل الله تعالى أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وأصل الطاعة الانقياد وهو امتثال الأمر فطاعة الله عز وجل امتثال أمره فيما أمره والانقياد لذلك الأمر وطاعة الله واجبة على كافة الخلق . وكذا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واجبة أيضاً لقوله تعالى وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فأوجب طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على الخلق واختلف العلماء في أولي الأمر الذين أوجب طاعتهم بقوله وأولي الأمرم منكم . يعني وأطيعوا أولي الأمر منكم قال ابن عباس وجابرهم الفقهاء والعلماء الذين يعلمون معالم الناس دينهم وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد وقال أبو هريرة الأمراء والولاة . وهي رواية عن ابن عباس أيضاً قال علي بن أبي طالب حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني قد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني » ( ق ) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلاّ إن يؤمر بمعصية الله فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » ( خ ) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله » وقال ميمون بن مهران هم أمراء السرايا والبعوث وهي رواية عن ابن العباس أيضاً ووجه هذا القول أن الآية نازلة فيهم . وقال عكرمة : أراد بأولي الأمر . أبا بكر وعمر لما روي عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/119)
« إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » أخرجه الترمذي وقيل هم جميع الصحابة لما روي عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » أخرجه رزين في كتابه وروى البغوي بسنده عن الحسن قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام لا يصلح الطعام إلاّ بالملح » قال الحسن قد ذهب ملحنا فكيف نصلح قال الطبري وأولى الأقوال بالصواب قول من قال هم الأمراء والولاة لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله عز وجل طاعة وللمسلمين مصلحة وقال الزّجاج وجملة أولي الأمر من يقوم بشأن المسلمين في أمر دينهم وجميع ما أدى إليه صلاحهم قال العلماء طاعة الإمام واجبة على الرعية ما دام على الطاعة فإذا زال عن الكتاب والسنة فلا طاعة له وإنما تجب طاعته فيما وافق الحق .
وقوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء } يعني اختلفتم في شيء من أمر دينكم والتنازع اختلاف الآراء وأصله من انتزاع الحجة وهو أن كل واحد من المتنازعين ينزع الحجة لنفسه { فردوه إلى الله والرسول } أي ردوا ذلك الأمر الذي تنازعتم فيه إلى كتاب الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما دام حياً وبعد وفاته فردوه إلى سنته والرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واجب إن وجد ذلك الحكم في كتاب الله أخذ به فإن لم يوجد في كتاب الله ففي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن لم يوجد في السنة فسبيله الاجتهاد وقيل الرد إلى الله ورسوله أن يقول لما لا يعلم الله ورسوله أعلم { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } يعني افعلوا ذلك الذي أمرتكم به إن كنتم تؤمنون بالله وإن طاعته واجبه عليكم وتؤمنون بالميعاد الذي فيه جزاء الأعمال قال العلماء في الآية دليل على أن من لا يعتقد وجوب طاعة الله وطاعة الرسول ومتابعة السنة والحكم بالأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون مؤمناً بالله واليوم الآخر { ذلك خير } يعني رد الحكم إلى الله ورسوله خير { وأحسن تأويلاً } يعني وأحمد عاقبة وقيل معناه ذلك أي ردكم ما اختلفتم فيه إلى الله ورسوله أحسن تأويلاً منكم له وأعظم أجراً .(2/120)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
قوله عز وجل : { ألم تر الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } قال ابن عباس : نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر كان بينه وبين يهودي خصومة فقال اليهودي ننطلق إلى محمد وقال المنافق بل ننطلق إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله الطاغوت فأبى اليهودي أن يخاصمه إلاّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي . فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال انطلق بنا إلى عمر فأتيا عمر فقال اليهودي اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه مخاصمي إليك فقال عمر للمنافق أكذلك قال؟ قال نعم فقال لهما عمر : رويداً حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت وأخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج فضرب به المنافق حتى برد وقال : هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزلت هذه الآية وقال جبريل إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق . وقال السدي كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم وكانت قريظة والنضير في الجاهلية وكانت قريظة حلفاء الخزرج والنضير حلفاء الأوس وكان إذا قتل رجل من بني قريظة رجلاً من بني النضير قتل به أو أخذت ديته مائة وسق من تمر ، وإذا قتل رجل من بني النضير رجلاً من قريظة لم يقتل به وأعطى ديته ستين وسقاً فلما جاء الإسلام وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فاختصموا في ذلك فقال بنوا النضير كنا وأنتم قد اصطلحنا على أن نقتل منكم ولا تقتلوا منا وديتنا مائة وسق وديتكم ستون وسقاً فنحن نعطيكم ذلك فقالت الخزرج هذا شيء كنتم فعلتموه في الجاهلية لكثرتكم وقلتنا فقهرتمونا على ذلك ، فاليوم نحن إخوة في الدين فلا فضل لكم علينا فقال المنافقون منهم ننطلق إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي وقال المسلمون من الفريقين بل ننطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبي بردة الكاهن ليحكم بينهم فقال أطعموا اللقمة يعني الخطر فقالوا لك عشرة أوسق فقال لا بل مائة وسق ديتي فأبوا أن يعطوه إلاّ عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم فأنزل الله عز وجل آيتي القصاص وأنزل هذه الآية : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } الزعم والزعم بضم الزاي وفتحها لغتان وأكثر ما يستعمل الزعم بمعنى القول الذي لا يتحقق .(2/121)
وقيل هو حكاية قول يكون مظنة للكذب ولذلك قيل زعم مطية الكذب والمراد به في هذه الآية الكذب لأن الآية نازلة في المنافقين وظاهر الآية يدل على أنها نازلة في الذين نافقوا من مؤمني أهل الكتاب ويدل عليه قوله آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يرون أن يتحاكموا إلى الطاغوت يعني كعب بن الأشرف في قول ابن عباس سماه الله طاغوتاً لأفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل هو أبو بردة الكاهن في قول السدي وقد أمروا أن يكفروا به يعني بالطاغوت لأن الكفر بالطاغوت إيمان بالله عز وجل : { يريد الشيطان أن يضلهم } يعني عن طريق الهدى والحق { ضلالاً بعيداً } .(2/122)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
{ وإذا قيل لهم } يعني للمنافقين { تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول } يعني هلموا إلى حكم الله الذي أنزله في كتابه وإلى الرسول ليحكم بينكم به { رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً } يعني يعرضون عنك وعن حكمك إعراضاً وأي إعراضاً وإنما أعرض المنافقون عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم علموا أنه صلى الله عليه وسلم كان يحكم بينهم بالحق الصريح ولا يقبل الرشا .
قوله عز وجل : { فكيف إذا أصابتهم مصيبة } يعني فكيف حال هؤلاء المنافقين وكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة يعجزون عنها { بما قدمت أيديهم } يعني تصيبهم عقوبة بسبب ما قدمت أيديهم وهو التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا وعيد لهم على سوء صنيعهم ورضاهم بحكم الطاغوت دون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل المصيبة هي قتل عمر لذلك المنافق وقيل هي كل مصيبة تصيب في الدنيا والآخرة { ثم جاؤوك } يعني المنافقين حين تصيبهم المصائب يعتذرون إليك { يحلفون بالله إن أردنا } أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك { إلاّ إحساناً } يعني في التحاكم إلى غيرك لا إساءة { وتوفيقاً } يعني بين الخصمين لا مخالفة لك في حكمك وقيل جاء أولياء المنافق الذي قتله عمر يطلبون ديته وقالوا ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلاّ أن يحسن إلى صاحبنا في حكمه ويوفق بينه وبين خصمه ، وما خطر ببالنا أن يحكم بما حكم به من قتل صاحبنا في حكمه ويوفق بينه وبين خصمه وما خطر ببالنا أنه يحكم بما حكم به من قتل صاحبنا فأهدر الله ذلك المنافق .(2/123)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
{ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } يعني من النفاق { فأعرض عنهم } يعني عن عقوبتهم وقيل عن قبول عذرهم { وعظهم } يعني باللسان والمراد زجرهم بالوعظ عن النفاق والكفر والكذب وتخويفهم بعذاب الآخرة { وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } يعني بليغاً يؤثر في قلوبهم موقعه وهو التخويف بالله عز وجل هو أن يوعدهم بالقتل إن لم يتوبوا من النفاق . وقيل هو أن يقول إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قتلتم لأن هذا القول يبلغ في نفوسهم كل مبلغ وقيل معناه فأعرض عنهم في الملأ وقل لهم في أنفسهم إذا خلوت بهم قولاً بليغاً أي اغلظ لهم في القول خالياً بهم ليس معهم غيرهم مساراً لهم بالنصيحة لأنها في السر أنجع . وقيل هذا الإعراض منسوخ بآية القتال وقد تكلم العلماء في حد البلاغة فقال بعضهم البلاغة إيصال المعنى إلى الفهم في أحسن صورة من اللفظ وقيل البلاغة حسن العبارة مع صحة المعنى وقيل البلاغة سرعة الإيحاز مع الإفهام وحسن التصرف من غير إدجار . وقيل أحسن الكلام ما قلت ألفاظه وكثرت معانيه وقيل خير الكلام ما شوق أوله إلى سماع آخره وقيل لا يستحق الكلام اسم البلاغة إلاّ إذا طابق لفظه معناه ومعناه لفظه ولم يكن لفظه إلى السمع أسبق من معناه إلى القلب . وقيل المراد بالقول البليغ في الآية أن يكون حسن الألفاظ حسن المعاني مشتملاً على الترغيب والترهيب والإعذار والإنظار والوعد والوعيد بالثواب والعقاب ، فإن الكلام إذا كان كذلك عظم وقعه في القلوب وأثر في النفوس .
قوله تعالى : { وما أرسلنا من رسول } قال الزجاج لفظه من هنا صلة مؤكدة والمعنى وما أرسلنا رسولاً { إلا ليطاع بإذن الله } يعني بأمر الله والمعنى إنما وجبت طاعة الرسول بأمر الله لأن الله أذن في ذلك وأمر به وقيل معناه بعلم الله وقضائه أي طاعته تكون بإذن الله لأنه أذن فيه فتكون طاعة الرسول طاعة الله ومعصيته معصية الله والمعنى وما أرسلنا من رسول إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليهم وأنت يا محمد من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلوا إليهم ففيه توبيخ وتقريع للمنافقين الذين تركوا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوا بحكم الطاغوت { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } يعني الذين تحاكموا إلى الطاغوت ظلموا انفسهم بالتحاكم إليه { جاؤوك } يعني جاؤوك تائبين من النفاق والتحاكم إلى الطاغوت متنصلين مما ارتكبوا من المخالفة { فاستغفروا الله } يعني من ذلك الذنب بالإخلاص وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك برد حكمك والتحاكم إلى غيرك { واستغفر لهم الرسول } يعني من مخالفته والتحاكم إلى غيره وإنما قال استغفر لهم الرسول ولم يقل واستغفرت لهم إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتفخيماً له وتعظيماً لاستغفاره وانهم إذا جاؤوه فقد جاؤوا من خصه الله برسالته وجعله سفيراً بينه وبين خلقه ومن كان كذلك فإن الله تعالى لا يرد شفاعته فلهذا السبب عدل إلى طريقة الالتفات من لفظ الخطاب إلى لفظ الغيبة { لوجدوا الله تواباً رحيماً } يعني لو أنهم تابوا من ذنوبهم ونفاقهم واستغفرت لهم لعلموا أن الله يتوب عليهم ويتجاوز عنهم ويرحمهم .(2/124)
قوله عز وجل : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } نزلت هذه الآية في الزبير بن العوام ورجل من الأنصار ( ق ) عن عروة بن الزبير عن أبيه أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري : سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير : « اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك » فغضب الأنصاري ثم قال يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للزبير اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر . فقال الزبير والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } زاد البخاري فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذٍ للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد أشار على الزبير رأياً أي أراد سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم قال الزبير والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك . قوله في شراج الحرة الشراج مسايل الماء التي تكون من الجبل وتنزل إلى السهل الواحدة شرجة بسكون الراء والحرة الأرض الحمراء المتلبسة بالحجارة السود وقوله فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني تغير وقوله فلما أحفظ أي أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله حتى يرجع إلى الجدر هو بفتح الجيم يعني أصل الجدار وقوله فاستدعى له أي استوفى له حقه في صريح الحكم . وهو ان من كان أرضه اقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الوادي وحقه تمام السقي فرسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للزبير في السقي على وجه المسامحة فلما أبى خصمه ذلك ولم يعترف بما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسامحة لأجله أمر الزبير باستيفاء حقه على التمام وحمل خصمه على مر الحق . فعلى هذا القول تكون الآية مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها قال البغوي : روي أنهما لما خرجا مرا على المقداد فقال لمن كان القضاء قال الأنصاري لابن عمته ولوى شدقه ففطن له يهودي كان مع المقداد فقال قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم وايم الله لقد أذنبنا ذنباً مرة في حياة موسى فدعا موسى إلى التوبة منه فقال فاقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربنا حتى رضي عنا .(2/125)
فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إن الله ليعلم مني الصدق ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت . وقال مجاهد والشعبي نزلت هذه الآية في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى الطاغوت . وعلى هذا القول تكون الآية متصلة بما قبلها فلا وربك معناه فوربك فعلى هذا تكون لا مزيدة لتأكيد معنى القسم . وقيل إن لا رد لكلام سبق كأنه قال ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف القسم فقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم يعني فيما اختلفوا فيه من الأمور وأشكل عليهم حكمه وقيل فيما التبس عليهم يقال شاجرة في الأمر إذا نازعه فيه وأصله التداخل والاختلاط وشجر الكلام إذا دخل بعضه في بعض واختلط { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت } يعني ضيقاً مما قضيت وقيل شكاً فيما قضيت بل يرضوا بقضائك { ويسلموا تسليماً } يعني وينقادوا لأمرك انقياداً أو لا يعارضونك في شيء من أمرك وقيل معناه يسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك .(2/126)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
قوله عز وجل : { ولو أنا كتبنا عليهم } أي فرضنا وأوجبنا عليهم الضمير في عليهم يعود على المنافقين وقيل يعود الضمير على الكافة فيدخل فيه المنافق وغيره { أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم } يعني كما كتبنا على بني إسرائيل القتل والخروج من مصر { ما فعلوه إلاّ قليل منهم } معناه لم يفعله إلا القليل منهم نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أن رجلاً من اليهود قال : والله لقد كتب الله علينا القتل والخروج ففعلنا فقال ثابت : والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا وهو من القليل الذي استثنى الله وقيل لما نزلت هذه الآية قال عمر وعمار بن ياسر وابن مسعود وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم القليل الذين ذكرهم الله والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إن من أمتي لرجالاً الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي » ومن قال إن الضمير في عليهم يعود إلى المنافقين قال معنى ما فعلوه إلا قليل منهم يعني رياء وسمعة والمعنى إن ما كتبنا عليهم إلا طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرضا بحكمه ولو أنا كتبنا عليهم القتل والخروج من الدور والوطن ما كان فعله إلا نفر يسير منهم وقرئ { إلا قليلاً منهم } بالنصب وتقديره إلا أن يكون قليلاً منهم { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } يعني ولو أنهم فعلوا ما كلفوا به من طاعة الرسول الله صلى الله عليه وسلم والرضا بحكمه { لكان خيراً لهم } يعني في الدنيا والآخرة وإنما سمي ذلك التكليف وعظاً لأن أوامر الله تعالى وتكاليفه مقرونة بالوعد والوعيد والثواب والعقاب وما كان كذلك يسمى وعظاً { وأشد تثبيتاً } يعني تحقيقاً وتصديقاً لإيمانهم ، والمعنى أن ذلك أقرب إلى إثبات إيمانهم وتصديقهم { وإذاً لآتيناهم من لدنّا أجراً عظيماً } يعني ثواباً وافراً جزيلاً وإذاً جواب لسؤال مقدر كأنه قيل ماذا يكون من هذا الخير والتثبيت قال هو أن نؤتيهم من لدنا أجراً عظيماً { ولهديناهم صراطاً مستقيماً } قال ابن عباس معناه ولأرشدناهم إلى دين مستقيم يعني دين الإسلام وقيل معناه ولهديناهم إلى الأعمال الصالحة التي تؤدي إلى المستقيم وهو الصراط الذي يمر عليه المؤمنون إلى الجنة لأن الله تعالى ذكر الأجر العظيم أولاً ثم ذكر الصراط المستقيم بعده لأنه هو المؤدي إلى الجنة .(2/127)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
قوله عز وجل : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } الآية نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما غير لونك » فقال يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أراك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك . ثم إني إذا ذكرت الآخرة أخاف أن لا أراك لأنك ترفع إلى عليين مع النبيين وإني أخاف إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك وأن لم أدخل الجنة لا أراك أبداً فنزلت هذه الآية وقيل إن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : كيف يكون الحال وأنت يا رسول الله في الدرجات العلى ونحن أسفل منك فكيف نراك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية : { ومن يطع الله } يعني في أداء الفرائض واجتناب النواهي { والرسول } أي ويطع الرسول في السنن التي سنها فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق في الدنيا وبدخول الجنة في الآخرة { من النبيين } يعني أن المطيعين مع النبيين في الجنة لا تفوتهم رؤية الأنبياء في الجنة ومجالستهم لأنهم يكونون في درجتهم في الجنة لأن ذلك يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول { والصديقين } الصدّيق الكثير الصدق فعيل من الصدق بكل الدين والصديقون هم أتباع الرسل الذين اتبعوهم على مناهجهم بعدهم حتى لحقوا بهم وقيل الصديق هو الذي صدق بكل الدين حتى لا يخالطه فيه شك والمراد بالصديقين في هذه الآية أفاضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر فإنه هو الذي سمي بالصديق من هذه الأمة وهو أفضل أتباع الرسل { والشهداء } هم الذين استشهدوا في سبيل الله وقيل هم الذين استشهدوا يوم أّحد { والصالحين } جمع صالح وهو الذي استوت سريرته وعلانيته في الخير . وقيل الصالح من اعتقاده صواب وعمله في سنة وطاعة وقيل المراد بالنبيين هنا محمد صلى الله عليه وسلم وبالصديقين أبو بكر وبالشهداء عمر وعثمان وعلي وبالصالحين سائر الصحابة { وحسن أولئك } يعني المشار إليهم وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون وفيه معنى التعجب كأنه قال وما أحسن أولئك { رفيقاً } يعني في الجنة والرفيق الصاحب سمي رفيقاً لارتفاقك به وبصحبته وإنما وحد الرفيق وهو صفة الجمع لأن العرب تعبر به عن الواحد والجمع وقيل معناه وحسن كل واحد من أولئك رفيقاً ( ق ) عن أنس ان رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة : فقال متى الساعة قال :(2/128)
« ما أعددت لها قال لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله فقال أنت مع من أحببت » قال أنس فما فرحنا بشيء أشد فرحاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت قال أنس : فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بأعمالهم . وقوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصف الثواب { الفضل من الله } يعني الذي أعطى الله المطيعين من الأجر العظيم { وكفى بالله عليماً } يعني بجزاء من أطاعه وقيل معناه وكفى بالله عليماً بعباده فهو يوفقهم لطاعته وفيه دليل على أنهم لم ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم بل إنما نالوها بفضل الله تعالى ورحمته ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة » لفظ البخاري ولمسلم نحوه .(2/129)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } الحذر احتراز من مخوف والمعنى احذرو واحترزوا من عدوكم . ولا تمكنوه من أنفسكم وقيل المراد بالحذر هنا السلاح يعني خذوا سلاحكم وعدتكم لقتال عدوكم وإنما سمي السلاح حذراً لأن به يتقى ويحذر . وقيل معناه احذروا عدوكم ولقائل أن يقول إذا كان المقدور كائناً فما يمنع الحذر فالجواب عنه بأنه لما كان الكل بقضاء الله وقدره كان الأمر بأخذ الحذر من قضاء الله وقدره { فانفروا ثبات } أي اخرجوا سرايا متفرقين سرية بعد سرية { أو انفروا جميعاً } يعني أو اخرجوا جميعاً كلكم مع نبيكم صلى الله عليه وسلم إلى جهاد عدوكم { وإن منكم لمن ليبطئن } نزلت في المنافقين . وإنما قال منكم لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسب وإظهار كلمة الإسلام لا في حقيقة الإيمان والمعنى وإن منكم لمن ليتأخرن وليتثاقلن عن الجهاد وهو عبدالله بن أبي ابن سلول المنافق وكان رأس المنافقين { فإن أصابتكم مصيبة } أي قتل وهزيمة { قال } يعني هذا المنافق { قد أنعم الله علي } يعني بالقعود { إذا لم أكن معهم } يعني مع المؤمنين { شهيداً } يعني حاضر الوقعة فيصيبني ما أصابهم { ولئن أصابكم فضل من الله } أي فتح وغنيمة { ليقولن } يعني هذا المنافق { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } أي معرفة ومودة في الدين والمعنى كأنه ليس من أهل دينكم وذلك أن المنافقين كانوا يوادّون المؤمنين في الظاهر { يا ليتني كنت معهم } في تلك الغزوة التي غنم فيها المؤمنون { فأفوز فوزاً عظيماً } أي فآخذ نصيباً وافراً من الغنيمة .
قوله عز وجل : { فليقاتل في سبيل الله } هذا خطاب للمنافق أي فليخلص الإيمان وليقاتل في سبيل الله وقيل هو خطاب للمؤمنين المخلصين أي فليقاتل المؤمنون في سبيل الله { الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } أي يبيعون يقال شريت بمعنى لأنه استبدال عوض بعوض . والمعنى فليقاتل المؤمنون الكافرين الذين يبيعون حياتهم الدنيا بثواب الآخرة وما وعد الله فيها لأهل الإيمان والطاعة وقيل معناه فليقاتل في سبيل الله المؤمنون الذين يبيعون الحياة الدنيا ويختارون الآخرة وثوابها على الدنيا الفانية { ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل } أي فيستشهد { أو يغلب } يعني يظفر بعدوه من الكفار { فسوف نؤتيه } يعني في كلا الحالتين الشهادة أو الظفر نؤتيه فيهما { أجراً عظيماً } يعني ثواباً وافراً ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجرٍ أو غنيمةٍ » لفظ مسلم .(2/130)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
قوله عز وجل : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } قال المفسرون : هذا حض من الله على الجهاد في سبيله لاستنقاذ المؤمنين المستضعفين من أيدي الكفار وفيه دليل على أن الجهاد واجب والمعنى لا عذر لكم في ترك الجهاد وقد بلغ حال المستضعفين ما بلغ من الضعف والأذى { والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان } قال ابن عباس يريد ان قوماً من المؤمنين استضعفوا فحبسوا وعذبوا وقيل كان هؤلاء بمكة يلقون من المشركين أذى شديداً . وكان أهل مكة قد اجتهدوا أن يفتنوا قوماً من المؤمنين عن دينهم بالأذى لهم وكانوا مستضعفين في أيديهم ولم يكن لهم بمكة قوة يمتنعون بها من المشركين فعلى هذا يكون معنى الآية : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين . وقال ابن عباس معناه وعن المستضعفين لأن المراد صرف الأذى عنهم ( خ ) عن ابن عباس في قوله : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين } الآية . قال كنت أنا وأمي من المستضعفين وفي رواية ابن أبي مليكة قال تلا ابن عباس { إلاّ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } قال كنت أنا وأمي ممن عذر الله أنا من الولدان وأمي من النساء فعلى هذه الرواية الثانية من حديث ابن عباس يكون معنى والمستضعفين إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان فإنهم ممن عذر الله في ترك القتال والولدان جمع وليد وهو الصبي الصغير { الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية } يعني مكة { الظالم أهلها } يعني الظالم أهلها أنفسهم بالشرك لقوله تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } وذلك أن المستضعفين لما منعهم المشركون من الهجرة من مكة إلى المدينة دعوا الله عز وجل فقالوا ربنا أخرجنا من هذه القرية يعني مكة الظالم أهلها بالشرك { واجعل لنا من لدنك ولياً } يعني ولياً يلي أمرنا { واجعل لنا من لدنك نصيراً } يبصرنا ويمنعنا من العدو فاستجاب الله دعاءهم وجعل لهم من لدنه خير ولي وخير ناصر وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتولى أمرهم ونصرهم واستنقذهم من أيدي المشركين يوم فتح مكة واستعمل عليهم عتاب بن أسيد وكان ابن ثمان عشرة سنة فكان ينصر المظلمومين على الظالمين ويأخذ للضعيف من القوي .
قوله عز وجل : { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله } يعني في طاعة الله وإعلاء كلمته وابتغاء مرضاته { والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } يعني في طاعة الشيطان { فقاتلوا أولياء الشيطان } أي فقاتلوا أيها المؤمنون حزب الشيطان وجنوده وهم الكفار { إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } الكيد السعي في الفساد على جهة الاحتيال ويعني بكيده ما كاد المؤمنين به من تخويفه أولياءه الكفار يوم بدر وكونه ضعيفاً لأنه خذل أولياءه الكفار لما رأى الملائكة قد نزلت يوم بدر وكان النصر لأولياء الله وحزبه على أولياء الشيطان وإدخال كان في قوله ضعيفاً لتأكيد ضعف كيد الشيطان .(2/131)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
قوله عز وجل : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } قال الكلبي نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص وجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يلقون من المشركين أذى كثيراً بمكة قبل أن يهاجروا فكانوا يقولون يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كفوا أيديكم فإني لم أومر بقتالهم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » يعني قيل لهم كفوا أيديكم عن قتالهم وأدوا ما افترض عليكم من الصلاة والزكاة وفيه دليل على أن فرض الصلاة والزكاة كان قبل فرض الجهاد { فلما كتب عليهم القتال } أي فرض عليهم جهاد المشركين وأمروا بالخروج إلى بدر { إذا فريق منهم } يعني إذا جماعة من الذين سألوا أن يفرض عليهم الجهاد { يخشون الناس } يعني يخافون مشركي مكة { كخشية الله أو أشد خشية } أو بمعنى الواو يعني أشد خشية { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال } يعني لمَ فرضت علينا الجهاد { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } يعني هلاّ تركتنا ولم تفرض علينا القتال حتى نموت بآجالنا والقائلون لهذا القول هم المنافقون لأن هذا القول لا يليق بالمؤمنين وقيل قاله بعض المؤمنين وإنما قالوا ذلك خوفاً وجنباً لا اعتقاداً ثم إنهم تابوا من هذا القول { قل } أي قل لهم يا محمد { متاع الدنيا قليل } يعني أن منفعتها والاستمتاع بالدنيا قليل لأنه فان زائل { والآخرة } يعني وثواب الآخرة { خير لمن اتقى } يعني اتقى الشرك ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم { ولا تظلمون فتيلاً } أي ولا تنقصون من أجوركم قدر فتيل ( م ) عن المستورد بن شداد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه وأشار يعني بالسبابة في اليم فلينظر بم ترجع » .
قوله عز وجل : { أينما تكونوا يدرككم الموت } نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فرد الله عليهم بقوله تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت } يعني ينزل بكم الموت فبيّن تعالى أنه لا خلاص لهم من الموت وإذا كان لا بد لهم من الموت كان القتل في القتال في سبيل الله وجهاد أعدائه أفضل من الموت على الفراش لأن الجهاد موت تحصل به سعادة الآخرة ثم بيّن تعالى أنه لا بد لهم من الموت وأنه لا ينجي منه شيء بقوله : { ولو كنتم في بروج مشيدة } البروج في كلام العرب الحصون والقلاع والمشيدة المرفوعة المطولة وقيل هي المطلية بالشيد وهو الجص { إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله } نزلت في المنافقين واليهود وذلك أن المدينة كانت ذات خير وأرزاق ونعم عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم فلما ظهر نفاق المنافقين وعناد اليهود أمسك الله عنهم بعض الإمساك فقال المنافقون واليهود ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه .(2/132)
فقال الله تعالى وإن تصبهم يعني المنافقين واليهود حسنة أي خصب في الثمار ورخص في السعر يقولوا هذه من عند الله يعني من قبل الله { وإن تصبهم سيئة } أي جدب في الثمار وغلاء في السعر { يقولوا هذه من عندك } يعني من شؤم محمد وأصحابه وقيل المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أّحد ومعنى من عندك أنت الذي حملتنا عليه يا محمد فعلى هذا القول يكون هذا إخباراً عن المنافقين خاصة { قل } أي قل لهم يا محمد { كلّ من عند الله } يعني الحسنة والسيئة والخصب والجدب والغنيمة والهزيمة والظفر والقتل فأما الحسنة فإنعام من الله وأما السيئة فابتلاء منه { فمال هؤلاء القوم } أي فما شأن هؤلاء القوم المنافقين واليهود الذين قالوا ما قالوا { لا يكادون يفقهون حديثاً } يعني لا يفقهون معاني القرآن وأن الأشياء كلها من الله عز وجل خيرها وشرها .(2/133)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
قوله عز وجل : { ما أصابك من حسنة } يعني من خير ونعمة { فمن الله } يعني من فضل الله عليك يتفضل به إحساناً منه إليك { وما أصابك من سيئة } يعني من شدة ومكروه ومشقة وأذى { فمن نفسك } يعني فمن قبل نفسك وبذنب اكتسبته نفسك استوجبت ذلك به وفي المخاطب بهذا الكلام قولان : أحدهما أنه عام وتقديره ما أصابك أيها الإنسان والثاني أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به من غيره من الأمة والنبي صلى الله عليه وسلم بريء لأن الله عز وجل قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد عصمه من حين البعثة فهو معصوم فيما يستقبل حتى يموت ويدل على أن المراد بهذا الخطاب غيره قوله عز وجل : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } خاطبه وحده ثم جمع الكل بقوله إذا طلقتم النساء فمعنى قوله فمن نفسك أي عقوبة لذنبك يا ابن آدم كذا قاله قتادة . وقال الكلبي : ما أصابك من خير فالله هداك له وأعانك فيه وما أصابك من أمر تكرهه فبذنبك عقوبة لذلك الذنب وقد تعلق بظاهر هذه الآية القدرية وقالوا نفى الله السيئة عن نفسه ونسبها إلى الإنسان بقوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ولا متعلق لهم بأن لأنه ليس المراد من الآية حسنة الكسب من الطاعات ولا السيئة المكتسبة من فعل المعاصي بل المراد من الحسنة والسيئة في هذه الآية ما يصيب الإنسان من النعم والمحن وذلك ليس من فعل العبد لأنه لا يقال في الطاعة والمعصية أصابني وإنما يقال أصبتها . ويقال في النعم والمحن أصابني بدليل أنه لم يذكر عليه ثوباً ولا عقاباً فهو كقوله تعالى : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } ولما ذكر الله حسنات الكسب وسيئاته وعد عليها بالثواب والعقاب فقال تعالى : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } فبطل بهذا قول القدرية وقال بعضهم لو كانت الآية على ما يقول أهل القدر لقال ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ولم يقل ما أصابك لأن العادة جرت بقول الإنسان أصابني خير أو مكروه وأصبت حسنة أو سيئة وقيل في معنى الآية ما أصابك من حسنة أي النصر والظفر يوم بدر فمن الله أي من فضل الله ، وما أصابك من سيئة أي من قتل وهزيمة يوم أُحد فمن نفسك يعني فبذنوب أصحابك وهو مخالفتهم إياك . فإن قلت كيف وجه الجمع بين قوله تعالى قل كل من عند الله وبين قوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فأضاف السيئة إلى فعل العبد في هذه الاية .(2/134)
قلت أما إضافة الأشياء كلها إلى الله تعالى في قوله : { قل كل من عند الله } فعلى الحقيقة لأن الله تعالى وهو خالقها وموجدها وأما أضافة السيئة إلى فعل العبد فعلى المجاز تقديره وما أصابك من سيئة فمن الله بذنب نفسك عقوبة لك وقيل السيئة إلى فعل العبد على سبيل الأدب فهو كقوله تعالى : { وإذا مرضت فهو يشفين } فأضاف المرض إلى نفسه على طريق الأدب ولا يشك عاقل أن المرض هو الله تعالى وقيل هذه متصلة بما قبلها وفيه إضمار وتقديم وتأخير تقديره فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ويقولون ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك قل كل من عند الله وقال ابن الأنباري في معنى الاية ما أصابك الله به من حسنة وما أصابك به من سيئة فالفعلان راجعان إلى الله تعالى . قوله تعالى : { وأرسلناك للناس رسولاً } يعني وأرسلناك يا محمد إلى كافة الناس رسولاً لتبلغهم رسالتي وما أرسلتك به ولست رسولاً إلى العرب خاصة كما قال بعض اليهود بل أنا رسول إلى الخلق كافة العرب وغيرهم { وكفى بالله شهيداً } يعني على إرسالك للناس كافة فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك واتباعك ، وقيل معناه وكفى بالله شهيداً على تبليغك ما أرسلت به إلى الناس وقيل معناه وكفى بالله شهيداً على أن الحسنة والسيئة من الله .(2/135)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
قوله عز وجل : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله » فقال بعض المنافقين ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه رباً كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم رباً فأنزل الله هذه من يطع الرسول يعني فيما أمر به ونهى عنه فقد أطاع الله يعني أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة الله تعالى لأنه هو أمر بها . وقال الحسن جعل الله طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعته وقامت به الحجة على المسلمين . وقال الشافعي : إن كل فريضة فرضها الله في كتابه كالحج والصلاة والزكاة لولا بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ما كنا نعرف كيف نأتيها ولا كان يمكننا أداء شيء من العبادات وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المنزلة الشريفة كانت طاعته على الحقيقة طاعة لله { ومن تولى } أي أعرض عن طاعته { فما أرسلناك عليهم حفيظاً } يعني حافظاً تحفظ أعمالهم عليهم بل كل أمرهم إلى الله قال المفسرون وكان هذا قبل أن يؤمر بالقتال ثم نسخ ذلك بآية القتال قوله تعالى : { ويقولون طاعة } نزلت في المنافقين وذلك أن المنافقين كانوا يقولون باللسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا بك وصدقناك فمرنا فأمرك طاعة أي أمرنا وشأننا طاعة { فإذا برزوا من عندك } أي خرجوا من عندك { بيت طائفة منهم غير الذي تقول } التبييت كل أمر يفعل بالليل يقال هذا أمر مبيت إذا دبر بليل وقضي بليل فقد بيت والمعنى أنهم قالوا وقدروا أمر بالليل غير الذي أعطوك بالنهار من النهار من الطاعة وقيل معنى بيت غير وبدل طائفة منهم غير الذي تقول يعني غير الذي عهدت إليهم فعلى هذا يكون التبييت بمعنى التبديل وإنما خص طائفة من المنافقين بالتبييت في قوله منهم . وكلمة من للتبعيض لأنه تعالى علم أن منهم من يبقى على كفره ونفاقه ومنهم من يرجع عنه ويتوب فخص من يصر على النفاق والذكر وقيل إن طائفة منهم اجتمعوا في الليل وبيتوا ذلك القول فخصهم بالذكر { والله يكتب } أي يثبت ويحفظ عليهم { ما يبيتون } يعني ما يزورون ويغيرون ويقدرون وقال ابن عباس يكتب ما يسرون من النفاق { فأعرض عنهم } أي لا تعاقبهم يا محمد ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم وخلهم في ضلالتهم فأنا منتقم منهم وقيل لا تغتر بإسلامهم { وتوكل على الله } أي فوض أمرك إلى الله في شأنهم فإن الله يكفيك أمرهم وينتقم لك منهم { وكفى بالله وكيلاً } يعني ناصراً لك عليهم .(2/136)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
قوله عز وجل : { أفلا يتدبرون القرآن } أصل التدبر في عواقب الأمور والتفكر في أدبارها ثم استعمل في كل تفكر وتأمل . ويقال تدبرت الشيء أي نظرت في عاقبته ومعنى تدبر القرآن تأمل معانيه وتفكر في حكمه وتبصر ما فيه من الآيات . قال ابن عباس : أفلا يتدبرون القرآن فيتفكرون فيه فيرون تصديق بعضه لبعض وما فيه من المواعظ والذكر والأمر والنهي وأن أحداً من الخلق لا يقدر عليه قال العلماء إن الله تعالى احتج بالقرآن والتدبر فيه على صحة نبوة محمد لله والحجة في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها فصاحته التي عجز الخلائق عن الإتيان بمثلها في أسلوبه . الثاني إخباره عن الغيوب وهو ما يطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على أحوال المنافقين وما يخفونه من مكرهم وكيدهم فيفضحهم بذلك وغير ذلك من الأخبار عن أحوال الأولين وأخبارهم وما يأتي في المستقبل من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله تعالى . الثالث سلامته من الاختلاف والتناقض وهو المراد بقوله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } قال ابن عباس يعني تفاوتاً وتناقضاً وفي رواية عنه لو كان من عند مخلوق لكان فيه كذب واختلاف وقيل معناه لوجدوا في إخباره عن الغيب بما يكون وبما قد كان اختلافاً كثيراً لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى . وإذا كان كذلك ثبت أنه من عند الله وأنه ليس فيه اختلاف ولا تناقض وقيل لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً من حيث البلاغة والفصاحة والمعنى لو كان من عند مخلوق لكان على قياس الكلام المخلوق بعضه فصيح بليغ حسن بعضه مردود ركيك فاسد فلما كان القرآن جميعه على منهاج واحد في الفصاحة والبلاغة ثبت أنه من عند الله والمعنى أفلا يتفكرون في القرآن فيعرفوا بعدم التناقض فيه وصدق ما يخبر به عن الغيوب أنه كلام الله عزّ وجلّ وأن ما يكون من عند الله لا يخلو عن تناقض واختلاف فلما كان القرآن ليس فيه تناقض واختلاف علم أنه من عند قادر على ما لا يقدرون غيره عالم بما لا يعلمه وسواه .
قوله تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } وذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث البعوث والسرايا فإذا غلبوا بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم ثم يشيعونه ويتحدثون به قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضعفون به قلوب المؤمنين فأنزل الله تعالى هذه الآية : { وإذا جاءهم } يعني المنافقين أمر من الأمن يعني جاءهم خبر بفتح وغنيمة أو الخوف يعني القتل والهزيمة أذاعوا به أي أفشوا ذلك الخبر وأشاعوه بين الناس يقال أذاع السر وأذاع به إذا أشاعه وأظهره قال الشاعر :(2/137)
أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
{ ولو ردوه } يعني الأمر الذي تحدثوا به { إلى الرسول } يعني أنهم لم يتحدثوا به حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتحدث به ويظهره { وإلى أولي الأمر منهم } يعني ذوي العقول والرأي والبصيرة بالأمور منهم وهم كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وقيل هم أمراء السرايا والبعوث وإنما قال منهم على حسب الظاهر ولأن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان فلذا قال وإلى أولي الأمر منهم { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } أي يستخرجون تدبيره بذكائهم وفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب وما ينبغي لها ومكايدها وهم العلماء الذين علموا ما ينبغي أن يكتم من الأمور وما ينبغي ان يذاع منها والنبط الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر واستنباطه استخراجه فاستعير لما يخرجه الرجل بفضل ذكائه وصفاء ذهنه وفطنته من المعاني والتدبير فيما يعضل ويهم . ويقال استنبط الفقيه المسألة إذا استخرجها باجتهاده وفهمه وفي الآية دليل على جواز القياس وأن من العلم ما يدرك بالنص وهو الكتاب والسنة ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس عليهما ومعنى الآية ولو أن هؤلاء المنافقين والمذيعين ردوا الأمر من الأمن والخوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم لعلموا حقيقة ذلك منهم وإنهم أولي بالبحث عنه فإنهم أعلم بما ينبغي أن يشاع أو يكتم . قوله تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } يعني ولولا فضل الله عليكم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن ورحمته بالتوفيق والهداية { لاتبعتم الشيطان } يعني لبقيتم على الكفر والضلالة { إلا قليلاً } اختلف العلماء في هذا الاستثناء وإلى ماذا يرجع فقيل هو راجع إلى الإذاعة وهو قول ابن عباس والتقدير وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلاً فأخرج بعض المنافقين والمؤمنين عن هذه الإذاعة لأنهم لم يذيعوا ما علموا من أمر السرايا . وهذا القول اختيار الفراء وابن جرير الطبري وقيل هو راجع إلى المستنبطين وهو قول الحسن وقتادة واختاره ابن قتيبه وتقديره لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلاً فعلى هذين القولين في الآية تقديم وتأخير وقيل إنه راجع إلى اتباع الشيطان وهو قول الضحاك . واختاره الزجاج ومعلوم أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى من صرفه إلى الشيء البعيد وتقديره ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان الا قليلاً منكم وهم قوم آمنوا واهتدوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن مثل زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وقس بن ساعدة الايادي .(2/138)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
قوله تعالى : { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } نزلت في مواعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واعده موسم بدر الصغرى بعد حرب أُحد وذلك في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية فقاتل في سبيل الله يعني لا تدع جهاد العدو والانتصار للمستضعفين من المؤمنين لا تكلف إلا نفسك يعني لا تكلف فرض غيرك بل جاهد في سبيل الله ولو وحدك فإن الله ناصرك لا الجنود وقد وعدك النصر عليهم وهو لا يخلف الميعاد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكباً إلى بدر الصغرى فكفاهم الله القتال ورجعوا سالمين وعاتب الله من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على ترك الجهاد الخروج معه . وفي الآية دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشجع الناس وأعلمهم بأمور القتال ومكايده لأن الله تعالى أمره بالقتال وحده ولو لم يكن أشجع الناس لما أمره بذلك ، ولقد اقتدى به أبو بكر الصديق في قتال أهل الردة من بني حنيفة الذين منعوا الزكاة فعزم على الخروج إلى قتالهم ولو وحده { وحرض المؤمنين } يعني حضهم على الجهاد ورغبهم في الثواب وليس عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب لا التعنيف بهم { عسى الله } أي لعل الله { أن يكف بأس الذين كفروا } يعني لعل الله أن يمنع بأس الكفار وشدتم وقد فعل وذلك أن أبا سفيان بداله عن القتال فلم يخرج إلى الموعد { والله أشد بأساً } أي أعظم صولة { وأشد تنكيلاً } يعني وأشد عذاباً وعقوبة من غيره قوله عزّ وجلّ : { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها } الشفاعة مأخوذة من الشفع وهو أن يصير الإنسان بنفسه شفيعاً لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة إلى المشفوع إليه فعلى هذا قيل إن المراد بالشفاعة المذكورة في الآية هي شفاعة الإنسان لغيره ليجلب له بشفاعته نفعاً أو يخلصه من بلاء نزل به . وقيل هي الإصلاح بين الناس وقيل معنى الاية من يصر شفعاً لوتر أصحابك يا محمد فيشفعهم في جهاد عدوهم يكن له نصيب منها أي حظ وافر من أجر شفاعته وهو ثواب الله وكرامته { ومن يشفع شفاعة سيئة } قيل هي النميمة ونقل الحديث لإيقاع العداوة بين الناس وقيل أراد بالشفاعة السيئة دعاء اليهود على المسلمين وقيل معناه من يشفع كفره بقتال المؤمنين { يكن له كفل } أي ضعف وقيل نصيب { منها } أي من وزرها { وكان الله على كل شيء مقيتاً } قال ابن عباس يعني مقتدراً أو مجازياً وأقات على الشيء قدر عليه قال الشاعر :
وذي ضغن كففت الشر عنه ... وكنت على إساءته مقيتا
يعني قادراً على الإساءة إليه وقيل معناه شاهداً أو حفيظاً على الأشياء ( ق ) عن أبي موسى قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً فجاء رجل يسأل فأقبل علينا بوجهه وقال : « اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء » وفي رواية كان إذا جاءه طالب حاجة أقبل على جلسائه وقال : « اشفعوا تؤجروا » وذكره .(2/139)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
قوله عز وجل : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } التحية تفعله من حيا وأصلها من الحياة ثم جعل السلام تحية لكونه خارجاً عن حصول الحياة وسبب الحياة في الدنيا أو في الآخرة والتحية أن يقال حياك الله أي جعل لك حياة وذلك أخبار ثم يجعل دعاء وهذه اللفظة كانت العرب تقولها فلما جاء الإسلام بدل ذلك بالسلام وهو المراد به في الآية يعني إذا سلم عليكم المسلم فأجيبوه بأحسن مما سلم عليكم به وإنما اختير لفظ السلام على لفظة حياك الله لأنه أتم وأحسن وأكمل لأن معنى السلام السلامة من الآفات فإذا دعا الإنسان بطول الحياة بغير سلامة كانت حياته مذمومة منغصة . وإذا كان في حياته سليماً كان أتم وأكمل فلهذا السبب اختير لفظ السلام { أو ردوها } يعني أو ردوا عليه كما سلم عليكم { إن الله كان على كل شيء حسيباً } يعني محاسباً ومجازياً والمعنى أنه تعالى على كل شيء من رد السلام بمثله أو بأحسن منه مجاز .
فصل في فضل السلام والحث عليه
( ق ) عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف » قوله أي الإسلام خير معناه أي خصال الإسلام خير ( م ) عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم » عن عبدالله بن سلام قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلّوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام » أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح عن أبي أمامة قال : أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نفشي السلام ، أخرجه ابن ماجه .
فصل في أحكام تتعلق بالسلام وفيه مسائل
المسألة الأولى في كيفية السلام : ( ق ) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام قال اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا عليك السلام ورحمة الله فزادوه ورحمة الله » قال العلماء يستحب لمن يبتدئ بالسلام أن يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلم عليه واحد ويقول المجيب وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فيأتي بواو العطف في قوله وعليكم عن عمران بن حصين قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/140)
« عشر ثم جاء آخر فقال وعليكم السلام ورحمة الله فرد عليه فجلس فقال عشرون فجاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس فقال ثلاثون » أخرجه الترمذي . وأبو داود وقال الترمذي حديث حسن وقيل إذا قال المسلم السلام عليكم فيقول المجيب وعليكم السلام ورحمة الله فيزيده ورحمة الله وإذا قال : السلام عليكم ورحمة الله فيقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وإذا قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيرد عليه السلام بمثله ولا يزيد عليه وروي أن رجلاً سلم على ابن عباس فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم زاد شيئاً فقال ابن عباس ان السلام انتهى إلى البركة ويستحب للمسلم أن يرفع صوته بالسلام ليسمع المسلم عليه فيجيبه ويشترط أن يكون الرد على الفور فإن أخره ثم رد لم يعد جواباً وكان آثماً بترك الرد .
المسألة الثانية في حكم السلام : الابتداء بالسلام سنة مستحبة ليس بواجب وهو سنة على الكفاية فإن كانوا جماعة فسلم واحد منهم كفى عن جميعهم ولو سلم كلهم كان أفضل وأكمل قال القاضي حسين : من أصحاب الشافعي ليس لنا سنة على الكفاية إلاّ هذا وفيه نظر لأن تشميت العاطس سنة على الكفاية أيضاً كالسلام . ولو دخل على جماعة في بيت أو مجلس أو مسجد وجب عليه أن يسلم على الحاضرين لقوله صلى الله عليه وسلم : « أفشوا السلام » والأمر للوجوب أو يكون ذلك سنة متأكدة لأن السلام من شعار أهل الإسلام فيجب إظهاره أو يتأكد استحبابه أما الرد على المسلم فقد أجمع العلماء على وجوبه ويدل عليه قوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } والأمر للوجوب لأن ترك الرد إهانة للمسلم فيجب ترك الإهانة فإن كان المسلم عليه واحداً وجب عليه الرد وإذا كانوا جماعة كان رد السلام في حقهم فرض كفاية فلو رد واحد منهم سقط فرض الرد عن الباقين وإن تركوه كلهم أثموا . عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدكم ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدكم » أخرجه أبو داود .
المسألة الثالثة في آداب السلام : السنة أن يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير ( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير » وفي رواية للبخاري قال : « من يسلّم الصغير على الكبير ، والمار على القاعد والقليل على الكثير » وإذا تلاقى رجلان فالمبتدئ بالسلام هو الأفضل لما روي عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/141)
« إن أولى الناس بالله عز وجل من بدأهم بالسلام » أخرجه أبو داود والترمذي ولفظه قال قيل يا رسول الله الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام قال : « أولاهما بالله » قال الترمذي حديث حسن ويستحب أن يبدأ بالسلام قبل الكلام والحاجة والسنة إذا مر بجماعة صبيان صغار أن يسلم عليهم لما روي عن أنس أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله أخرجاه في الصحيحين وفي رواية لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على غلمان يلعبون فسلم عليهم وأما السلام على النساء فإن كن جمعاً جالسات في مسجد أو موضع فيستحب أن يسلّم عليهن إذا لم يخف على نفسه أو عليهن فتنة لما روي عن أسماء بنت يزيد قالت مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلّم علينا أخرجه أبو داود وفي رواية الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في مسجد يوماً وعصبة من النساء قعود فألوى بيده للتسليم قال الترمذي حديث حسن وإذا مر على امرأة مفردة أجنبية فإن كانت جميلة فلا يسلم عليها ولو سلم فلا ترد هي عليه لأنه لم يستحق الرد وإن كانت عجوزاً لا يخاف عليه ولا عليها الفتنة سلم عليها وترد هي عليه وحكم النساء مع النساء كحكم الرجال مع الرجال في السلام فيسلم بعضهن على بعض .
المسالة الرابعة في الأحوال التي يكره السلام فيها : فمن ذلك الذي يبول أو يتغوط أو يجامع ونحو ذلك لا يسلم عليه فلو سلم فلا يستحق المسلّم جواباً لما روي عن ابن عمر : « أن رجلاً مر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول فسلم عيله فلم يرد عليه » أخرجه مسلم قال الترمذي إنما يكره إذا كان على الغائط أو البول ويكره التسليم على من في الحمام وقيل إن كانوا متزرين بالمآزر سلم عليهم وإلاّ فلا ، ويكره التسليم على النائم والناعس والمصلي والمؤذن والتالي في حلال الصلاة والأذان والتلاوة ويكره الابتداء بالسلام في حال الخطبة لأن الجالسين مأمورون بالإنصات للخطبة ويكره أن يبدأ المبتدع بالتسليم عليه وكذلك المعلن بفسق وكذلك الظلمة ونحوهم فلا يسلم على هؤلاء .
المسألة الخامسة في حكم السلام على أهل الذمة : اليهود والنصارى : اختلف العلماء فيه فذهب أكثرهم إلى أنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام . وقال بعضهم إنه ليس بحرام بل هو مكروه كراهة تنزيه ويدل على ذلك ما وري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه » أخرجه مسلم وإذا سلم يهودي أو نصراني على مسلم فيرد عليه ويقول عليك بغير واو العطف ، لما روي عن أنس أن يهودياً أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال السلام عليكم فرد عليه القول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/142)
« هل تدرون ما قال؟ قالوا الله ورسوله أعلم سلم يا بني الله قال لا ولكنه قال كذا وكذا ردوه على فردوه فقال : قلت السلام عليكم قال : نعم يا نبي الله فقال صلى الله عليه وسلم عند ذلك إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك أي عليك ما قلت » أخرجه الترمذي فلو أتى بواو العطف وميم الجمع فقال عليكم جاز لأنا نجاب عليهم في الدعاء ولا يجابون علينا ويدل على ذلك ما روي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه ناس من اليهود ، فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقال : « وعليكم » فقالت عائشة وغضبت ألم تسمع ما قالوا؟ قالوا بلى قد سمعت فرددت عليهم وأنا نجاب عليهم ولا يجيبون علينا أخرجه مسلم وإذا مر المسلم على جماعة فيهم مسلمون ويهود ونصارى يسلم عليهم ويقصد بتسليمه المسلمين لما روي عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلم عليهم أخرجه الترمذي .
قوله عز وجل : { الله لا إله إلاّ هو ليجمعنكم } هذه لام القسم تقديره والله الذي لا إله إلاّ هو ليجمعنكم الله في الموت وفي القبور { إلى يوم القيامة } يعني إلى يوم الحشر والبعث سميت القيامة لقيام الناس من قبورهم بعد الموت وقيل لقيامهم للحساب نزلت هذه الآية في منكري البعث { لا ريب فيه } يعني لا شك في ذلك اليوم أنه كائن { ومن أصدق من الله حديثاً } يعني لا أحد أصدق من الله فإنه لا يخلف الميعاد ولا يجوز عليه الكذب والمعنى أن القيامة كائنة لا شك فيها ولا ريب .(2/143)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
قوله عز وجل : { فما لكم في المنافقين فئتين } اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقيل نزلت في الذين تخلفوا يوم أحد من المنافقين فلما رجعوا قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلهم يا رسول الله فإنهم منافقون وقال بعضهم أعف عنهم فإنهم قد تكلموا بكلمة الإسلام ( ق ) عن زيد بن ثابت قال لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُحد رجع ناس ممن خرج معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فئتين قال فرقة نقتلهم وقالت فرقة لا نقتلهم فنزلت فما لكم في المنافقين فئتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إنها طيبة تنفي الرجال كما ينفي الكير خبث الحديد » وقيل نزلت في قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ثم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة فاختلف المسلمون فيهم فقائل يقول هم منافقون وقائل يقول هم مؤمنون وقيل نزلت في ناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا إلى المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين فلما بعدوا عن المدينة كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ولكنا اجتوينا المدينة واشتقنا إلى أرضنا ثم إنهم خرجوا في تجارة إلى الشام فبلغ ذلك المسلمين فقال بعضهم تخرج إليهم ونقتلهم ونأخذ ما معهم لأنهم رغبوا في ديننا وقالت طائفة منهم كيف تقتلون قوماً على دينكم وإن لم يذروا ديارهم . وكان هذا بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساكت لا ينهي أحد الفريقين فنزلت هذه الآية وقيل نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين وقيل نزلت في عبدالله بن أبي سلول المنافق لما تكلم في حديث الإفك . ومعنى الآية فما لكم يا معشر المؤمنين في المنافقين فئتين أي صرتم في أمرهم فرقتين فرقة تذب عنهم وفرقة تباينهم وتعاديهم فنهى الله الفرقة الذين يذبون عنهم وأمر المؤمنين جميعاً أن يكونوا على منهاج واحد في التباين لم والتبرئ منهم ثم أخبر عن كفرهم بقوله { والله أركسهم } يعني نكسهم في كفرهم وارتدادهم وردهم إلى أحكام الكفار { بما كسبوا } أي بسبب ما اكتسبوا من أعمالهم الخبيثة وقيل بما أظهروا من الأرتداد بعدما كانوا على النفاق { أتريدون أن تهدوا من أضل الله } هذا خطاب للفئة التي دافعت عن المنافقين والمعنى أتبتغون أيها المؤمنون هداية المنافقين الذين أصلهم الله عن الهدى { ومن يضلل الله } يعني عن الهدى { فلن تجد له سبيلاً } يعني فلن تجد له طريقاً تهديه فيها إلى الحق والهدى .(2/144)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
قوله عز وجل : { ودوا } يعني تمنى أولئك الذين رجعوا عن الإيمان إلى الإرتداد والكفر { لو تكفرون } يعني تكفرون أنتم يا معشر المؤمنين { كما كفروا فتكونوا سواء } في الكفر { فلا تتخذوا منهم أولياء } يعني من الكفار منع المؤمنين من موالاتهم { حتى يهاجروا } يعني يسلموا أو يهاجروا { في سبيل الله } معكم وهي هجرة أخرى والهجرة على ثلاثة أوجه : الأولى هجرة المؤمنين في أول الإسلام من مكة إلى المدينة . الثانية هجرة المؤمنين وهي الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله مخلصين صابرين محتبسين كما حكي الله عنهم وفي هذه الآية منع المؤمنين من موالاة المنافقين حتى يهاجروا والهجرة الثالثة هجرة المؤمنين ما نهي الله عنه بقوله { فإن تولوا } يعني فإن أعرضوا عن الإسلام والهجرة واختاروا الإقامة على الكفر { فخذوهم } الخطاب للمؤمنين أي خذوهم أيها المؤمنون { واقتلوهم حيث وجدتموهم } يعني إن وجدتموهم في الحل والحرم { ولا تتخذوا منهم ولياً } يعني في هذه الحالة { ولا نصيراً } يعني ينصركم على أعدائكم لأنهم أعداء ثم استثنى الله عز وجل طائفة منهم فقال تعالى : { إلاّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } هذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة الكفار والمنافقين لا تجوز بحال ومعنى يصلون ينتسبون إليهم أو ينتمون إليهم أو يدخلون معهم بالحلف والجوار . وقال ابن عباس يريد يلجؤون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أي عهد وهم الأسلميون وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر الأسلمي عند خروجه إلى مكة على أن لا يعينه عليه ومن أصل إلى هلال من قومه وغيرهم ولجأ إليه فلهم الجوار مثل ما لهلال . وفي رواية عن ابن عباس قال : أراد بالقوم الذي بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن مناة كانوا في الصلح والهدنة . وقيل هم خزاعة والمعنى أن من دخل في عهد من كان داخلاً في عهدكم فهم أيضاً داخلون في عهدكم { أو جاؤوكم حصرت صدورهم } يحتمل أن يكون عطفاً على الذين وتقديره إلاّ الذين يتصلون بالمعاهدين أو يتصلون بالذين حصرت صدورهم فلا تقتلوهم وقيل يحتمل أن يكون عطفاً على صفة تقديره إلاّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم عهد أو يصلون إلى قوم حصرت صدورهم فلا تقتلوهم ومعنى حصرت أي ضاقت صدورهم عن المقاتلة فلا يريدون قتالكم لأنكم مسلمون ولا يريدون قتالهم لأنهم أقاربهم وهم بنو مدلج وكانوا عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشاً أن لا يقاتلوهم { أن يقاتلوكم } يعني ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم { أو يقاتلوا قومهم } يعني من آمن منهم وقيل معناه أنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ولا يقاتلون قومهم معكم فقد ضاقت صدورهم لذلك عن قتالكم والقتال معكم وهو قوم هلال الأسلميون وبنو بكر نهى الله عن قتال هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهد المسلمين لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد فله حكمهم في حقن الدم وذلك أن الله تعالى أوجب قتال الكفار إلاّ من كان معاهداً أو لجأ إلى معاهدة أو ترك القتال لأنه لا يجوز قتل هؤلاء وعلى هذا القول فالقول بالنسخ لازم لأن الكافر وإن ترك القتال فقتاله جائز وقال جماعة من المفسرين معاهدة المشركين وموادعتهم في هذه الاية منسوخة بآية السيف وذلك لأن الله تعالى لما أعز الإسلام وأهله أمر أن لا يقبل من مشركي العرب إلاّ الإسلام أو القتل { ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم } يذكر الله تعالى منته على المسلمين بكف بأس المعاهدين وذلك لما ألقى الله الرعب في قلوبهم وكفهم عن قتالكم ومعنى التسليط هنا تقوية قلوبهم على قتال المسلمين ولكن قذف الله الرعب في قلوبهم وكفهم عن المسلمين { فإن اعتزلوكم } يعني فإن اعتزلوكم عن قتالكم { فلم يقاتلوكم } : ويقال فلم يقاتلوكم يوم فتح مكة مع قومهم { وألقوا إليكم السلم } يعني الانقياد والصلح فانقادوا واستسلموا { فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } يعني بالقتل والقتال قال بعض المفسرين هذا منسوخ بآية القتال وهي قوله تعالى : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقال بعضهم هي غير منسوخة لأنا إذا حملناها على المعاهدين فكيف يمكن أن يقال إنها منسوخة .(2/145)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
قوله عز وجل : { ستجدون آخرين } قال ابن عباس : هم أسد وغطفان كانوا من حاضري المدينة فتكلموا بكلمة الإسلام رياء وهم غير مسلمين وكان الرجل منهم يقول له قومه بماذا آمنت يقول آمنت بهذا القرد والعقوب والخنفساء وإذا لقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لهم إنا على دينكم يريدون بذلك الأمن من الفريقين وفي رواية أخرى عن ابن عباس إنها نزلت في بني عبد الدار وكانوا بهذه الصفة { يريدون أن يأمنوكم } يعني يريدون بإظهار الإيمان أن يأمنوكم فلا تتعرضوا لهم { ويأمنوا قومهم } يعني بإظهار الكفر لهم فلا يتعرضوا لهم { كلما ردوا إلى الفتنة } يعني كلما دعوا إلى الشرك { أركسوا فيها } رجعوا إلى الشرك وقادوا إليه منكوسين على رؤوسهم فيه { فإن لم يعتزلوكم } يعني فإن لم يكفوا عن قتالكم حتى يسيروا إلى مكة { ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم } أي ولم يلقوا الصلح ولم يكفوا عن قتالكم { فخذوهم } يعني أسرى { واقتلوهم حيث ثقفتوهم } يعني حيث أدركتموهم { وأولئكم } يعني أهل هذه الصفة { جعلنا لكم عليهم سطاناً مبيناً } يعني حجة ظاهرة بالقتل والقتال وقيل الحجة الواضحة هي ظهور عداوتهم وانكشاف حالهم بالكفر والعداوة .(2/146)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
قوله عز وجل : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ } الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة فأسلم ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله فخرج هارباً إلى المدينة وتحصن في أطم من أطامها والأطم الحصن فجزعت أمه لذلك جزعاً شديداً ، وقالت لابنها الحارث وأبي جهل ابني هشام وهما أخوا عياش بن أبي ربيعة لأمه والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتيان به فخرجا في طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أوتوا المدينة فأتوا عياشاً وهو في الأطم فقالوا : أنزل فإن أمك لم يؤوها سقف بعدك وقد حلفت لا تأكل ولا تشرب حتى ترجع إليها ولك عهد تالله علينا أن نكرهك على شيء يحول بينك وبين دينك . فلما ذكروا له جزع أمه وأوثقوه بنسعة وجلده كل واحد منهم مائة جلده ثم قدموا به على أمه فلما أتاها قالت لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به ثم تركوه موثقاً في الشمس ما شاء الله فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال : يا عياش أهذا الذي كنت عليه لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقالته وقال والله لألقاك خالياً إلاّ قتلتك ثم إن عياشاً أسلم بعد ذلك وهاجر وأسلم الحارث بن زيد من بعده وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله وليس عياش حاضراً يومئذٍ ولم يشعر بإسلامه فبينا عياش يسير بظهر قباء إذ لقي الحارث فقتله فقال لهم ناس : ويحك يا عياش أي شيء صنعت إنه قد اسلم فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إنه كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت وإني قد اشهر بإسلامه حتى قتلته فنزل وما كان لمؤمن ان يقتل مؤمناً إلا خطأ ومعنى الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً ألبته وكان كان له سبب جواز قتله وقيل معناه ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه وعهد إليه ففيه تحريم قتل المؤمن من كل وجه وقوله تعالى إلاّ خطأ استثناء منقطع معناه لكن إن وقع خطأ فتحرير رقبة . وقيل معناه ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً البتة إلاّ أن يخطئ المؤمن فكفارة خطئه ما ذكر من بعد والخطأ فعل الشيء من غير قصد وتعمد { ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } يعني فعليه إعتاق رقبة مؤمنة كفارة { ودية مسلمة إلى أهله } أي وعليه دية كاملة مسلمة إلى أهل القتيل الذين يرثونه { إلاّ أن يصدقوا } يعني إلاّ أن يتصدق أهل القتيل على القاتل بالدية ويعفو عنه { فإن كان } يعني المقتول { من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } أراد أنه إذا كان رجل مسلم في جار الحرب وهو منفرد مع قوم كفار فقتله من لم يعلم بإسلامه فلا دية عليه الكفارة وقيل المراد منه إنه إذا كان المقتول مسلماً في دار الإسلام وهو من نسب قوم كفار وأهله الذين يرثونه في دار الحرب وهم حرب للمسلمين ففيه كفارة ولا دية لأهله وكان الحارث بن زيد من قوم كفار حرب للمسلمين فكان فيه الكفارة تحرير رقبة مؤمنة دون الدية لأنه لم يكن بين قومه وبين المسلمين عهد { وإن كان قوم بينكم وبينهم ميثاق } أي عهد { فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } يعني أنه إذا كان المقتول كافراً معاهداً أو ذميماً فتجب فيه الدية والكفارة { فمن لم يجد الرقبة } فصيام شهرين متتابعين أي فعليه صيام شهرين متتابعين بدلاً عن الرقبة { توبة من الله } يعني جعل الله ذلك توبة لقاتل الخطأ { وكان الله عليماً } يعني بمن قتل خطأ { حكيماً } يعني فيما حكم به عليه من الدية والكفارة .(2/147)
فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل
المسألة الأولى : في بيان صفة القتل : قال الشافعي : القتل على ثلاثة أقسام : عمد وشبه عمد وخطأ ، أما العمد المحض فهو أن يقصد قتل إنسان بما يقتل به غالباً فقتل به ففيه القصاص عند وجود التكافؤ أو دية حالة مغلظة في مال القاتل . وأما شبه العمد فهو أن يقصد ضرب إنسان بما لا يقتل بمثله غالباً مثل أن ضربه بعصا خفيفة أو رماه بحجر صغير فمات فلا قصاص عليه وتجب عليه دية مغلظة على عائلته مؤجلة إلى ثلاث سنين . وأما الخطأ المحض فهو أن لا يقصد قتله بل قصد شيئاً آخر فأصابه فمات منه فلا قصاص عليه وتجب فيه دية مخففة على عاقلته مؤجلاً إلى ثلاث سنين ومن صور قتل الخطأ أن يقصد رمي مشرك أو كافر فيصيب مسلماً أو يقصد قتل إنسان يظنه مشركاً بأن كان عليه لباس المشركين أو شعارهم فالصورة الأولى خطأ في الفعل والثانية خطأ في القصد .
المسألة الثانية : في حكم الديات : فدية الحر المسلم مئة من الإبل فإذا عدمت الإبل فتجب قيمتها من الدراهم أو الدنانير في قول وفي قول بدل مقدر وهو ألف دينار أو أثنا ألف درهم ويدل على ذلك ما روي عن عبدالله بن عمرو بن العاص . قال كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم قال وكانت دية أهل الكتاب يومئذٍ على النصف من دية المسلم فكانت كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيباً فقال إن الإبل قد غلت فقرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة قال : وترك دية أهل الكتاب فلم يرفعها فيما رفع من الدية أخرجه أبو داود فذهب قوم إلى ان الواجب في الدية مائة من الإبل والف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو قول عروة بن الزبير والحسن البصري وبه قال الشافعي وذهب قوم إلى أنها من الإبل أو ألف دينار أو عشرة آلاف درهم وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي ودية المرأة نصف دية الذكر الحر ودية أهل الذمة والعهد ثلث دية المسلم إن كان كتابياً وإن كان مجوسياً فخمس الثلث ثمانمائة درهم وهو قول سعيد بن المسيب .(2/148)
وإليه ذهب الشافعي وذهب قوم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دية المسلم روي ذلك عن ابن مسعود وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي وقال قوم دية الذمي نصف دية المسلم وهو قوم عمر بن عبدالعزيز وبه قال مالك وأحمد والأصل في ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « دية المعاهد نصف دية الحر » أخرجه أبو داود وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى أخرجه النسائي فمن ذهب إلى أن دية أهل الذمة ثلث دية المسلم أجاب عن هذا الحديث بأن الأصل في ذلك كان النصف ثم رفعت زمن عمر دية المسلم ، ولم ترفع دية الذمي فبقيت على أصلها وهو قدر الثلث من دية المسلمين والدية في قتل العمد وشبه العمد مغلظة فتجب ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون في بطونها أولادها . وهذا قول عمر وزيد بن ثابت وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقه ثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد العقل » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وعن عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال : « ألا وإن قتيل العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل أربعون ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفه » وفي رواية أخرى « ألا إن كل قتيل خطأ العمد أو شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل فيها أربعون في بطونها أولادها »(2/149)
أخرجه النسائي وذهب قوم إلى أن الدية المغلظة أرباع خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون وخمس عشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وعشرون جذعة وهذا قول الزهري وربيعة وإليه ذهب مالك وأحمد وأصحاب الرأي . وأما دية الخطأ فمخففة وهي أخماس بالاتفاق غير أنهم اختلفوا في تقسيمها فذهب قوم إلى أنها عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وهذا قول عمر بن عبدالعزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة وبه قال مالك والشافعي وأبدل قوم أبناء اللبون ببنات المخاض يرون ذلك عن ابن مسعود وبه قال أحمد وأصحاب الرأي والدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة وهم العصيات من الذكور ولا يجب على الجاني منها شيء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها على العاقلة ودية الأعضاء والأطراف حكمها مبين في كتب الفقه ودية أعضاء المرأة على النصف من دية أعضاء الرجل والله أعلم .
المسألة الثالثة : في حكم الكفارة : الكفارة إعتاق رقبة مؤمنة وتجب في مال القاتل سواء كان المقتول مسلماً أو معاهداً رجلاً كان أو امرأة حراً كان أو عبداً فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين فالقاتل إن كان واجداً للرقبة أو قادراً على تحصيلها بوجود الثمن فاضلاً عن نفقته ونفقة عياله وحاجته من مسكن ونحوه فعليه الإعتاق . ولا يجوز له أن ينتقل إلى الصوم فمن عجز عن الرقبة أو عن تحصيل ثمنها فعليه صوم شهرين متتابعين فإن أفطر يوماً متعمداً في خلال الشهرين أو نسي النية أو نوى صوماً آخر وجب عليه استئناف الشهرين وإن أفطر يوماً بعذر مرض أو سفر هل ينقطع التابع؟ اخلتف العلماء فيه فمنهم من قال ينقطع التتابع وعليه استئناف الشهرين وهو قول النخعي وأظهر قولي الشافعي لأنه أفطر مختاراً . ومنهم من قال لا ينقطع التتابع وعليه أن يبني وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي ولو حاضت المرأة في خلال الشهرين فطرت أيام الحيض ولا ينقطع التتابع فإذا طهرت بنت لأنه أمر كتبه الله على النساء ولا يمكن الاحتراز عنه فإن عجز عن الصوم فهل ينتقل عنه إلى الإطعام فيطعم ستين مسكيناً ففيه قولان : أحدهما أنه ينتقل إلى الإطعام كما في كفارة الظهار . والثاني لا ينتقل لأن الله تعالى لم يذكر له بدلاً فقال فصيام شهرين متتابعين توبة من الله فنص على الصوم وجعل ذلك عقوبة لقتل الخطأ والله أعلم .(2/150)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
قوله عز وجل : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم } نزلت في مقيس بن صبابة الكناني وكان قد أسلم هو وأخوه هشام فوجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن صبابة أن تدفعوه إلى أخيه مقيس فيتقص منه وأنت لم تعلموه ادفعوا إليه ديته فبلغهم الفهري ذلك فقالوا سمعاً وطاعة لله ولرسوله ما نعلم له قاتلاً ولكن نؤدي إليه ديته فأعطوه مائة من الإبل فانصرفا راجعين نحو المدينة فأتى الشيطان مقيساً فوسوس إليه فقال له : تقبل دية أخيك لتكون عليك سبة أقتل الفهري الذي معك فتكون نفس مكان وفضل الدية فتغفل الفهري فرماه بصخرة فقتله ثم ركب بعيراً من الإبل وساق بقيتها راجعاً إلى مكة كافراً وقال في ذلك :
قتلت به فهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب قارع
وأدركت ثأري واضطجعت موسداً ... وكنت إلى الأصنام أول راجع
فنزلت فيه ومن يقتل مؤمناً متعمداً يعني قاصداً لقتله فجزاؤه جهنم { خالداً فيها } يعني بكفره وارتداده وهو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عمن أمنه من أهلها فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة { وغضب الله عليه } يعني لأجل كفره وقتله المؤمن متعمداً { ولعنه } يعني طرده عن رحمته { وأعد له عذاباً عظيماً } اختلف العلماء في حكم هذه الآية هل هي منسوخة أم لا؟ وهل لمن قتل مؤمناً متعمداً توبة؟ أم لا فروي عن سعيد بن جبير قال قالت لابن عباس ألمن قتل مؤمناً متعمداً من توبة قال لا؟ فتاوت عليه الآية التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر : { ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلاّ بالحق } إلى آخر الاية قال هذه آية مكية نسختها آية مدنية ، ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم وفي رواية قال اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن فرحلت إلى ابن عباس قال نزلت في آخر ما نزل ولم ينسخها شيء وفي رواية أخرى . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بالمدينة والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر إلى قوله مهاناً فقال المشركون وما يعني عنا الإسلام وقد عدلنا بالله وقد قتلنا النفس التي رحم الله وأتينا الفواحش فأنزل الله تعالى : { إلاّ من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } إلى آخر الآية زاد في رواية فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له أخرجاه في الصحيحين . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه ناظر ابن عباس في هذه الاية فقال من أين لك أنها محكمة؟ فقال ابن عباس تكاثف الوعيد فيها وقال ابن مسعود إنها محكمة وما تزداد إلاّ شدة وعن خارجة بن زيد قال سمعت زبيد بن ثابت يقول أنزلت هذه الآية ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها بعد التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله بالحق بستة أشهر .(2/151)
أخرجه أبو داود وزاد النسائي في رواية أشهر بثمانية أشهر . وقال زيد بن ثابت لما نزلت هذه الاية التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة وأراد بالغليظة هذه الآية التي في سورة النساء وباللينة آية الفرقان . وذهب الأكثرون من علماء السلف والخلف إلى أن هذه الآية منسوخة واختلفوا في ناسخها . فقال بعضهم نسختها التي في الفرقان وليس هذا القول بالقوي لأن آية الفرقان نزلت قبل آية النساء والمتقدم لا ينسخ المتأخر وذهب جمهور من قال بالنسخ إلى أن ناسخها الاية التي في النساء أيضاً وهي قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وأجاب من ذهب إلى أنها منسوخة عن حديث ابن عباس المتقدم المخرج في الصحيحين بأن هذه الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل ذلك الأمر المذكور في الآية والنسخ لا يدخل الإخبار ولئن سلمنا أنه يدخلها النسخ لكن الجمع بين الآيتين ممكن ، بحيث لا يكون بينهما تعارض ، وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على تقييد آية الفرقان فيكون المعنى فجزاؤه جهنم إلاّ من تاب وقال بعضهم ما ورد عن ابن عباس إنما هو على سبيل التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل فهو كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال إن لم يقتل يقال له لا توبة لك وإن قتل ثم ندم وجاء تائباً يقال له لك توبة وقيل إنه قد روي عن ابن عباس مثله وروي عنه ايضاً أن توبته تقبل وهو قول أهل السنة ويدل عليه الكتاب والسنة . أما الكتاب فقوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً } ثم اهتدى وقوله إن الله يغفر الذنوب جميعاً وأما السنة فما روي عن جابر بن عبدالله قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال : « من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ومن مات يشرك به شيئاً دخل النار » أخرجه مسلم ( ق ) عن عبادة بن الصامت قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تبايعوني على أن تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق وفي رواية ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبة فبايعناه على ذلك .(2/152)
فصل
وقد تعلقت المعتزلة والوعيدية بهذه الآية لصحة مذهبهم على أن الفاسق يخلد في النار وأجاب علماء بأن الآية نزلت في كافر قتل مسلماً وهو مقيس بن صبابة فتكون الآية على هذا مخصوصة . وقيل هذا الوعيد لمن قتل مسلماً مستحلاً لقتله ومن استحل قتل مسلم كان كافراً وهو مخلد في النار بسبب كفره وعن أبي مجلز في قوله تعالى ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم . قال : هي جزاؤه فإن شاء الله أن يتجاوز عن جزائه فعل أخرجه أبو داود . وقيل إن الخلود لا يقتضي التأبيد بل معناه دوام الحالة التي هو عليها ويدل عليه قول العرب للأيام خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها وإذا ذكر الخلود في حق الكفار قرنه بذكر التأبيد كقوله خالدين فيها أبداً فإذا قرن الخلود بهذه اللفظة علم أن المراد منه الدوام الذي لا ينقطع إذا ثبت هذا كان معنى الخلود المذكور في الآية أن الله تعالى يعذب قاتل المؤمن عمداً في النار إلى حيث يشاء الله ثم يخرجه منها بفضل رحمته كرمه . فإنه قد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحيحة إخراج جميع الموحدين من النار وقيل إن قاتل المؤمن عمداً عدوانا إذا تاب قبلت توبته بدليل قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ولأن الكفر أعظم من هذا القتل وتوبة الكافر من كفره مقبولة بدليل قوله : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإذا كانت التوبة من الكفر مقبولة فلأن تقبل من القاتل أولى والله أعلم .(2/153)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } الآية قال ابن عباس : نزلت في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك وكان من أهل فدك لم يسلم من قومه غيره فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا منه ، وأقام ذلك الرجل المسلم فلما رأى الخيل خاف أن لا يكون مسلمين فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو الجبل ، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون فعرف أنهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر ونزل وهو يقول لا إله إلاّ الله محمد صلى الله عليه وسلم السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد بسيفه فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً ، وكان قد سبقهم الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أقتلتموه إرادة ما معه؟ » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد هذه الآية فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله فقال « كيف أنت بلا إله إلاّ الله؟ » يقولها ثلاث مرات قال أسامة فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلاّ يومئذٍ ثم استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : اعتق رقبة وروى أبو ظبيان عن أسامة قال : قلت يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح فقال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفاً أم لا؟ وفي رواية عن ابن عباس قال مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غنم فسلم عليهم ، فقالوا إنما سلم عليكم ليتعوذ منكم فقاموا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } يعني إذا سافرتم إلى الجهاد فتبينوا من البيان يقال تبينت الأمر إذا تأملته قبل الإقدام عيه وقرئ فتثبتوا من التثبت وهو خلاف العجلة والمعنى فقفوا وتثبتوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر وتعرفوا حقيقة الأمر الذي تقدمون عليه { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام } يعني التحية يعني لا تقوموا لمن حياكم بهذه التحية أنه إنما قالها تعوذا فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا ماله ولكن كفوا عنه وأقبلوا منه ما أظهره لكم وقرئ السلم بفتح السين من غير ألف ومعناه الاستسلام والانقياد أي استسلم وانقاد لكم وقال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله وقيل السلام والسلم بمعنى واحد أي لا تقولوا لمن سلم عليكم { لست مؤمناً } يعني لست من أهل الإيمان فتقتلوه بذلك قال العلماء : إذا رأى الغزاة ف بلد او قرية أو حي من العرب شعار الإسلام يجب إن يكفوا عنهم ولا يغيروا عليهم لما روي عن عصام المزني قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشاً أو سرية يقول لهم إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا أحد أخرجه أبو داود والترمذي : وقال اكثر الفقهاء لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن لا يحكم بأيمانه لأنه يدعي أن الذي هو عليه إيمان ولو قال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله فعند بعض العلماء لا يحكم حتى يتبرأ من دينه الذي كان عليه ويعترف أنه دين باطل وذلك لأن بعض اليهود يزعم أن محمداً رسول العرب خاصة لا أنه رسول إلى كافة الخلق؛ فإذا اعترف أنه رسول إلى كافة الخلق وأن كان عليه من التهود أو التنصر باطل صح إسلامه وحكم بصحته وقوله تعالى : { تبتغون عرض الحياة الدنيا } يعني تطلبون الغنيمة التي هي من حطام الدنيا سريعة النفاد والذهاب وعرض الدنيا منافعها ومتاعها { فعند الله مغانم كثيرة } أي غنائم كثيرة من رزقه يغنمكوها يغنيكم بها عن قتل من يظهر الإسلام ويتعوذ به .(2/154)
وقيل معناه فعند الله ثواب كثير لمن اتقى قتل المؤمن { كذلك كنتم من قبل } يعني كان كان هذا الذي ألقى إليكم السلام فقلتم له لست مؤمناً فقتلتموه كنتم أنتم من قبل يعني من قبل أن يعز الله دينه كنتم تستخفون أنتم بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه بدينه من قومه حذراً على نفسه منهم ، وقيل معناه كذلك كنتم تأمنون في قومكم بهذه الكلمة فلا تحقروا من قالها ولا تقتلوه وقيل معناه كذلك كنتم من قبل مشركين { فمن الله عليكم } يعني بالإسلام والهداية فلا تقتلوا من قال لا إله إلاّ الله وقيل معناه من عليكم بإعلان الإسلام بعد الإختفاء ، وقيل من عليكم بالتوبة { فتبينوا } أي ولا تعجلوا بقتل مؤمن وهو تأكيد للأمر بالتبين { إن الله كان بما تعملون خبيراً } يعني فلا تتهاونوا في القتل وكونوا متحرزين من ذلك محتاطين فيه .(2/155)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
قوله عز وجل : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } الآية ( خ ) عن زيد بن ثابت قال : « أملى عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم » : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ فقال : والله يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت على حتى خفت أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله عز وجل غير أولى الضرر ( ق ) عن البراء بن عازب : لما نزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً فجاء بكتف فكتبها وشكا ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } وفي رواية أخرى : لما نزلت لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال النبي صلى الله عليه وسلم « ادعوا فلاناً فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف فقال اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله » وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن مكتوم فقال يا رسول الله أنا ضرير فنزلت مكانها لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله هذه الرواية الثانية أخرجها ابن الأثير في كتابه جامع الأصول ، وأضافها إلى البخاري ومسلم ولم أجدها في كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي . وفي هذه الآية فضل الجهاد في سبيل الله من المؤمنين المجاهدين في سبيل الله غير أولي الضرر يعني أولى الزمانة والضعف في البدن والبصر فإنهم يساوون المجاهدين لأن العذر أقعدهم عن الجهاد ( م ) عن جابر قال : « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بالمدينة رجالاً ماسرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلاّ كانوا معكم حبسهم المرض » ( خ ) عن أنس قال : « رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أقواماً خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلاّ وهم معنا حبسهم العذر » ( خ ) عن ابن عباس قال لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إليها .
وقوله تعالى : { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } يعني فضيلة في الآخرة قال ابن عباس : أراد بالقاعدين هنا أولي الضرر فضل الله المجاهدين على أولي الضرر درجة لأن المجاهد باشر الجهاد بنفسه وماله مع النية وأولو الضرر لهم نية ولم يباشروا الجهاد فنزلوا عن المجاهدين درجة { وكلاًّ } يعني كلاًّ من المجاهدين والقاعدين { وعد الله الحسنى } يعني الجنة بإيمانهم { وفضل الله المجاهدين } يعني في سبيل الله { على القاعدين } يعني الذين لا عذر لهم ولا ضرر { أجراً عظيماً } يعني ثواباً جزيلاً . ثم فسر ذلك الأجر العظيم .(2/156)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
فقال تعالى : { درجات منه } قال قتادة : كان يقال للإسلام درجة والهجرة في الإسلام درجة الجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة ، وقال ابن زيد الدرجات هي سبع وهي التي ذكرها الله في سورة براءة حين قال : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله } إلى قوله : { ولا يقطعون وادياً إلاّ كتب الله لهم } وقال ابن محيريز الدرجات سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة ( م ) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً وجبت له الجنة فتعجب لها أبو سعيد فقال أعدها علي يا رسول الله فأعادها عليه ثم قال وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال وما هي يا رسول الله؟ قال الجهاد في سبيل الله » ( خ ) عن أبي هريرة قال : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج كان حقاً على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها فقالوا أولاً نبشر الناس بقولك؟ فقال إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجير أنهار الجنة » فإن قلت قد ذكر الله عز وجل في الآية الأولى درجة واحدة وذكر في هذه الآية درجات فما وجه الحكمة في ذلك؟ قلت أما الدرجة الأولى فلتفضيل المجاهدين على القاعدين بوجود الضرر والعذر . وأما الثانية فلتفضيل المجاهدين على القاعدين من غير ضرر ولا عذر فضلوا عليهم بدرجات كثيرة وقيل يحتمل أن تكون الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم والدرجات درجات الجنة ومنازلها كما في الحديث والله أعلم .
قوله تعالى : { ومغفرة } يعني لذنوبهم يسترها ويصفح عنها { ورحمة } يعني رأفة بهم { وكان الله غفوراً } يعني لذنوب عباده المؤمنين رحيماً يعني بهم يتفضل عليهم برحمته ومغفرته عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال : قال : « أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيل الله ابتغاء مرضاتي ضمنت له إن أرجعته أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة وأن قبضته غفرت له ورحمته » أخرجه النسائي .
فصل
اعلم أن الجهاد ينقسم إلى : فرض عين وفرض كفاية ، ففرض العين أن يدخل العدو دار قوم من المؤمنين وبلادهم فيجب على كل مكلف من الرجال ممن لا عذر له ولا ضرر به من أهل تلك البلدة الخروج إلى عدوهم دفعاً عن أنفسهم وعن أهليهم وجيرانهم وسواء في ذلك الحر والعبد والغني والفقير فيجب على الكافة وهو في حق من بعد عنهم من المسلمين فرض كفاية فإن لم تقع الكفاية بمن نزل بهم العدو فتجب مساعدتهم على من قرب منهم من المسلمين أو بعد عنهم ، وإن وقعت الكفاية بالمنزول بهم فلا فرض على الأبعدين إلا على طريق الاختبار ولا يدخل في هذا الفرض يعني فرض الكفاية الفقراء والعبيد ، وإذا كان الكفار قادرين في بلادهم فعلى الإمام أن لا يخلي كل سنة من غزاة يغزوهم فيها إما بنفسه أو سراياه حتى لا يبطل الجهاد والاختبار . والمطيق الجهاد مع وقوع الكفاية بغيره لا يقعد عنه ولكن لا يفرض عليه لأن الله تعالى وعد المجاهدين والقاعدين الثواب بقوله : { وكلاًّ وعد الله الحسنى } ولو كان فرضاً على الكافة لاستحق القاعدون عن الجهاد العقاب لا الثواب والله أعلم .(2/157)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
قوله عز وجل : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية : نزلت في أناس تكلموا الإسلام ولم يهاجروا منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم فقتلوا مع الكفار فأنزل الله تعالى هذه الآية { إن الذين توفاهم الملائكة } يعني ملك الموت وأعوانه وهم ستة : ثلاثة منهم يلون قبض أرواح المؤمنين وثلاثة يلون قبض أرواح الكفار . وقيل أراد به ملك الموت وحده وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم كما يخاطب الواحد بلفظ الجمع وفي التوفي هنا قولان : أحدهما أنه قبض أرواحهم . الثاني حشرهم إلى النار فعلى القول الثاني يكون المراد بالملائكة الزبانية الذين يلون تعذيب الكفار { ظالمي أنفسهم } يعني بالشرك وقيل بالمقام في دار الشرك وذلك لأن الله تعالى لم يقبل الإسلام من أحد بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يهاجر إليه ثم نسخ ذلك فتح مكة بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية » أخرجاه في الصحيحين وقيل ظالمي أنفسهم بخروجهم مع المشركين يوم بدر وتكثير سوادهم حتى قتلوا معهم فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم { قالوا فيم كنتم } سؤال توبيخ وتقريع يعني قالت الملائكة : لهؤلاء الذين قتلوا في أي الفريقين كنتم أفي فريق المسلمين أم في فريق المشركين فاعتذروا بالضعف عن مقاومة المشركين وهو قوله تعالى إخباراً عنهم : { قالوا كنا مستضعفين } يعني عاجزين { في الأرض } يعني في أرض مكة { قالوا } يعني قال لهم الملائكة { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } يعني إلى المدينة وتخرجوا من بين أظهر المشركين فأكذبهم الله في قولهم كنا مستضعفين وأعلمنا بكذبهم { فأولئك } يعني من هذه صفتهم { مأواهم } يعني منزلهم { جهنم وساءت مصيراً } يعني بئس المصير مصيرهم إلى جهنم ثم استثنى أهل الهذر ومن علم ضعفه منهم فقال تعالى : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة } يعني لا يقدرون على حيلة ولا نفقة ولا قوة لهم على الخروج من مكة { ولا يهتدون سبيلاً } يعني ولا يعرفون طريقاً يسلكونه من مكة إلى المدينة .(2/158)
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
{ فأولئك } يعني المستضعفين وأهل الأعذار { عسى الله أن يعفو عنهم } يعني يتجاوز عنهم بفضله وإحسانه وعسى من الله واجب إطماع وترج والله تعالى إذا أطمع عبداً وصله { وكان الله عفواً غفوراً } قال ابن عباس كنت أنا وأمي ممن عذر الله يعني من المستضعفين؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين في الصلاة ( ق ) عن أبي هريرة قال لما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الثانية قال : « اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة ، اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف » قوله عز وجل : { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة } قال الزجاج معنى مراغماً مهاجراً يعني يجد في الأرض مهاجراً يعني أن المهاجر لقومه والمراغم لها بمنزلة واحدة . وإن اختلف اللفظان وهو مأخوذ من الرغام وهو التراب يقال رغم أنفه إذا التصق بالتراب وذلك لأن الأنف عضو شريف والتراب ذليل حقير فجعلوا قولهم رغم أنفه كناية عن حصول الذل له ويقال راغمت فلاناً بمعنى هجرته وعاديته ولم أبال به رغم أنفه ويقوي ذلك قول بعض أهل اللغة هو الخروج من بلاد العدو برغم أنفه . وقيل معناه أن الرجل إذا خرج عن قومه خرج مراغماً لهم أي مغاضباً لهم ومقاطعاً وقال الفراء المراغم المضطرب والمذهب في الأرض وأنشد الزجاج في المعنى :
إلى بلد غير داني المحل ... بعيد المراغم والمضطرب
فعلى هذا يكون معنى الآية يجد مذهباً يذهب إليه إذا رأى ما يكرهه هذا قول أهل اللغة في معنى المراغمة . وقال ابن عباس : يجد متحولاً يتحول إليه من أرض إلى أرض ، وقال مجاهد يجد متزحزحاً عما يكره وقيل يجد منقلباً ينقلب إليه وقيل المراغمة والمهاجرة واحدة يقال : راغمت قومي أي هاجرتهم وسميت المهاجرة مراغمة لأنه يهاجر قومه برغمهم . وقوله وسعة يعني في الرزق . وقيل يجد سعة من الضلالة إلى الهدى وقيل يجد سعة في الأرض التي يهاجر إليها قال ابن عباس : لما نزلت الاية التي قبل هذه سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير مريض يقال له جندع بن ضمرة فقال : والله ما أنا ممن استثنى الله عز وجل وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني إلى المدينة وأبعد منها والله لا أبيت الليلة بمكة أخرجوني فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به النعيم فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك رسولك ثم مات فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لو وافى المدينة لكان أتم وأوفى أجراً وضحك المشركون ، وقالوا ما أدرك ما طلب فأنزل الله عز وجل : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت } يعني قبل بلوغه إلى مهاجره { فقد وقع أجره على الله } يعني فقد وجب أجر هجرته على الله بإيجابه على نفسه بحكم الوعد والتفضل والكرام لا وجوب استحقاق وتحتم قال بعض العلماء ويدخل في حكم الآية من قصد فعل طاعة من الطاعات ثم عجز إتمامها كتب الله له ثواب تلك الطاعة كاملاً وقال بعضهم إنما يكتب له أجر ذلك القدر الذي عمل وأتى به ، أما تمام الأجر فلا والقول الأول أصح لأن الآية إنما نزلت في معرض الترغيب في الهجرة وأن من قصدها ولم يبلغها بل مات دونها فقد حصل له ثواب الهجرة كاملاً فكذلك كل من قصد فعل طاعة ولم يقدر على إتمامها كتب الله له ثوابها كاملاً { وكان الله غفوراً رحيماً } يعني ويغفر الله له ما كان منه من القعود قبل الهجرة إلى أن خرج مهاجراً .(2/159)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
قوله عز وجل : { وإذا ضربتم في الأرض } يعني إذا سافرتم فيها { فليس عليكم جناح } أي حرج وإثم { أن تقصروا من الصلاة } يعني من أربع ركعات إلى ركعتين وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء ، وأصل القصر في اللغة التضييق وقيل هو ضم الشيء إلى أصله . وفسر ابن الجوزي القصر بالنقص ولم أره لأحد من أهل التفسير واللغة وقيل معنى قصر الصلاة جعلها قصيرة بترك بعض ركعاتها أو بعض أركانها ترخيصاً ولهذا السبب ذكروا في تفسير قصر الصلاة المذكورة في الآية قولين : أحدهما أنه في عدد الركعات وهو رد الصلاة الرباعية إلى ركعتين والقول الثاني أن المراد بالقصر إدخال التخفيف في أدائها وهو أن يكتفي بالإيماء والإشارة عن الركوع والسجود . والقول الأول أصح ويدل عليه لفظة من في قوله أن تقصروا من الصلاة ولفظه من هنا للتبعيض وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض الصلاة فثبت بهذا أن تفسير القصر بإسقاط بعض ركعات الصلاة أولى { إن خفتم أن يفتنكم } يعني يغتالكم ويقتلكم في الصلاة { الذين كفروا } ذهب داود الظاهري إلى أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف واستدل على صحة مذهبه بقوله تعالى : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ولأن عدم الشرط يقتضي عدم المشروط فعلى هذا لا يجوز القصر عند الأمن ولا يجوز رفع هذا الشرط بخبر الآحاد لأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر واحد ، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن القصر في حال الأمن في السفر جائز ويدل عليه ما روي عن يعلى بن أمية . قال : قلت لعمر بن الخطاب ليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : « صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته » أخرجه مسلم وعن عبدالله بن خالد بن أسيد أنه قال لابن عمر كيف تقصرون الصلاة وإنما قال الله تعالى ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقال ابن عمر يا ابن أخي : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا ونحن في ضلال فعلنما فكان فيما علمنا أن أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر » . أخرج النسائي وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين فصلى ركعتين أخرجه الترمذي والنسائي وأجاب الجمهور عن قوله تعالى إن خفتم أن كلمة إن تفيد حصول الشرط ولا يلزم عند عدم الشرط عدم المشروط فقوله تعالى : { إن خفتم } يقتضي أن عند عدم الخوف لا تحصل رخصة القصر .(2/160)
وإذا كان كذلك كانت الآية ساكتة عن حال الأمن فإثبات الرخصة حال الأمن بخبر الواحد يكون إثباتاً لحكم سكت عنه القرآن وذلك غير ممتنع إنما الممتنع إثبات الحكم بخبر الواحد على خلاف ما دل عليه القرآن . فإن قلت إذا كان هذا الحكم ثابتاً في حال في حال الأمن والخوف؛ فما فائدة تقييده بحال الخوف؟ قلت إنما نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرها لم يخل عن خوف العدو فذكر الله عز وجل هذا الشرط من حيث إنه الأغلب في الوقوع . وقوله تعالى . { إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً } أي ظاهر العداوة فلعلمي بهذا رخصت لكم في قصر الصلاة لئلا يجدوا إلى قتلكم واغتيالكم سبيلاً وإنما قال عدواً ولم يقل أعداء لأنه يستوي فيه الواحد والجمع .
فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل
المسألة الأولى : في حكم القصر قصر الصلاة في حالة السفر جائز بإجماع الأمة وإنما اختلفوا في جواز الإتمام في حال السفر فذهب أكثر العلماء إلى أن القصر واجب في السفر وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس وبه قال الحسن وعمر بن عبدالعزيز وقتادة وهو قول مالك وأبي حنيفة ويدل عليه ما روي عن عائشة قالت فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى . وفي رواية أخرى قالت : فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر أخرجاه في الصحيحين وذهب قوم إلى جواز الإتمام في السفر ، ولكن القصر أفضل يروى ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص وإليه ذهب الشافعي وأحمد وهو رواية عن مالك أيضاً . ويدل على ذلك ما روى البغوي بسند الشافعي عن عائشة قالت : كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر وأتم وعن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت؟ قال أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ أخرجه النسائي وظاهر القرآن يدل على ذلك لأن الله تعالى قال فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ولفظة ولا جناح إنما تستعمل في الرخصة لا فيما يكون حتماً ، وأجيب عن حديث عائشة فرض الله الصلاة ركعتين بأن معناه فرضت ركعتين أولاً وزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار عليها وثبت جواز الإتمام بدليل آخر فوجب المصير إليه ليمكن الجمع بين الأحاديث ودلائل الشرع .
المسألة الثانية : اختلف في صلاة المسافر إذا صلى ركعتين ركعتين هل هي مقصورة أم غير مقصورة فذهب قوم إلى أنها غير مقصورة وإنما فرض صلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر يروى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبدالله وإليه ذهب سعيد بن جبير والسدي وأبو حنيفة فعلى هذا يكون معنى القصر المذكور في الآية هو تخفيف ركوعها وسجودها .(2/161)
وقد تقدم الجواب عنه وذهب قوم إلى أنها مقصورة وليست بأصل ، وهو قول مجاهد وطاوس ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد .
المسألة الثالثة : ذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور ، إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح وشرط بعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد أو سفر طاعة ، ولا يجوز القصر في سفر المعصية ، وقال أبو حنيفة والثوري يجوز ذلك .
المسألة الرابعة : اختلف العلماء في مسافة القصر فقال داود أهل الظاهر يجوز القصر في قصير السفر وطويله وروي ذلك عن أنس أيضاً وقال عمرو بن دينار قال لي جابر بن زيد أقصر بعرفة . وأما عامة أهل العلم فإنهم لا يجوزون القصر في السفر القصير واختلفوا في حد الطويل الذي يجوز فيه القصر . فقال الأوزاعي مسيرة يوم وكان ابن عمرو وابن عباس يقصران ويفطران في مسيرة أربعة برد هي ستة عشر فرسخاً وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق وقول الحسن والزهري قريب من ذلك فإنهما قالا مسيرة يومين ، وإليه ذهب الشافعي فقال مسيرة ليلتين قاصدتين ستة عشر فرسخاً كل فرسخ ثلاثة أميال فتكون ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمي والميل ستة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون أصبعاً معترضة معتدلة والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات ، وقال الثوري وأبو حنيفة وأهل الكوفة لا قصر في أقل من ثلاثة أيام .
فصل
قيل قوله تعالى : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } كلام متصل بما بعده منفصل عما قبله وتقديره وإن خفتم روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال نزل قوله تعالى : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } هذا القدر ثم بعد حول سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً وإذا كنت فيهم } الآية ومثل هذا في القرآن كثير يجيء الخبر بتمامه ثم ينسق عليه خبر آخر هو في الظاهر كالمتصل به وهو منفصل عنه .(2/162)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
قوله عز وجل : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية روي عن ابن عباس وجابر أن المشركين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جميعاً ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقال بعضهم لبعض دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم يعني صلاة العصر فإذا قاموا فشدوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد إنها صلاة الخوف وإن الله عز وجل يقول إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فعلمه صلاة الخوف وروي عن أبي عياش الزرقي في سبب نزول هذه الاية . قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلّينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا غرة وفي رواية غفلة ولو حملنا عليهم وهم في الصلاة فنزلت الآية بين الظهر والعصر قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم } هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني وإذا كنت يا محمد في أصحابك وشهدت معهم القتال فأقمت لهم الصلاة { فلتقم طائفة منهم معك } يعني إذا حان وقت الصلاة وأقمتها لأصحابك فاجعلهم فرقتين فلتقف فرقة منهم معك فتصلّي بهم { وليأخذوا أسلحتهم } اختلفوا في هؤلاء الذين أمرهم الله بأخذ السلاح فقيل أراد بهم الذين قاموا معه إلى الصلاة فإنهم يأخذون أسلحتهم في الصلاة ، فعلى هذا القول إنما يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة ولا يؤذي به من إلى جنبه كالسيف والخنجر وذلك لأنه أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم فإن كان السلاح يشغل بحركته وثقله عن الصلاة كالترس الكبير أو يؤذي مَن إلى جنبه كالرمح فلا يأخذه . وقيل أراد بهم الطائفة الذين بقوا في وجه العدو فإنهم يأخذون أسلحتهم للحراسة وقيل يحتمل أن يكون أمراً للفريقين بحمل السلاح لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } يعني إذا صلّى الذين معك وفرغوا من الصلاة فليكونوا من ورائكم يعني فلينصرفوا إلى المكان الذي هو في وجه العدو وللحراسة { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا } يعني ولتأت الطائفة التي كان في وجه العدو { فليصلّوا معك } الركعة الثانية التي بقيت عليك ويتموا بقية صلاتهم { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } يعني أن الله تعالى جعل الحذر وهو التحرز والتيقظ آلة يستعملها الغازي في دفع العدو فلذلك جعله مأخوذاً مع السلاح . فإن قلت لم ذكر في أول الآية الأسلحة فقط وذكر هنا الحذر والأسلحة . قلت لأن العدو قلما ينتبه للمسلمين في أول الصلاة بل يظنون كونهم قائمين في المحاربة والمقاتلة فإذا قاموا على الركعة الثانية ظهر للكفار أن المسلمين في الصلاة فحينئذٍ ينتهزون الفرصة في الإقدام على المسلمين فلا جرم أن الله تعالى أمرهم في هذا الموضع بزيادة الحذر من الكفار مع أخذ الأسلحة { ود الذين كفروا } يعني تمنى الكفار { لو تغفلون } يعني لو وجدوكم غافلين { عن أسلحتكم وأمتعتكم } يعني حوائجكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها { فيميلون عليكم ميلة واحدة } يعني فيقصدونكم ويحملون عليكم حملة واحدة وأنتم مشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم فيصيبون منكم غرة فيقتلونكم .(2/163)
فصل في أحكام تتعلق بالآية وصفة صلاة الخوف وفيه مسائل
المسألة الأولى : قال أبو يوسف والحسن بن زياد من أصحاب أبي حنيفة صلاة الخوف كانت خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لغيره بعده فعلها ، وقال المزني من أصحاب الشافعي كانت ثابتة ثم نسخت واحتجوا لصحة هذا القول بأن الله تعالى خاطب نبيّه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } وظاهر هذا يدل على أن إقامة الصلاة مشروطة بكون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فدل على تخصيصه بها ولأن كلمة إذا تفيد الشرط وذهب جمهور العلماء والفقهاء إلى أن هذا الحكم لما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم بحكم هذه الآية وجب أن يثبت في حق غيره من أمته لقوله تعالى : { فاتبعوه } ولقوله صلى الله عليه وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ولأن ذلك إجماع الصحابة على فعلها وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه صلّى صلاة الخوف بأصحابه ليلة الهرير وكذلك أبو موسى صلّى بأصحابه بطبرستان وليس لهؤلاء مخالف من الصحابه وأجيب عن قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } بأن هذا وإن كان قد خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم فإن سائر أمته داخلون في هذا الحكم فهو كقوله : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } إلا أن يرد نص بتخصيصه صلى الله عليه وسلم بحكم دون أمته كقوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين } ونظير قوله { وإذا كنت فيهم } قوله : { خذ من أموالهم صدقة } وإذا كان هو المخاطب بها وقد ثبت حكم أخذ الزكاة لمن بعده من الأئمة كان كذلك قوله وإذا كنت فيهم وأجيب عن لفظه إذا : بأن مقتضاه الثبوت عند الثبوت وأما العدم عند العدم فغير مسلم .
المسألة الثانية : قال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوال للصلاة وأبلغ في الحراسة فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى فمن أنواع صلاة الخوف ما إذا كان العدو في غير جهة القبلة . فرق الإمام أصحابه فرقتين فتقف طائفة وجاه العدو فتحرس ويصلّي بالطائفة الأخرى ركعة فإذا قام إلى الثانية أتموا لأنفسهم وذهبوا إلى وجاه العدو فيحرسون وتأتي الطائفة الثانية التي كانت تحرس فيصلّي بهم الركعة الثانية ويثبت جالساً في التشهد حتى يتموا لأنفسهم الصلاة ثم يسلم بهم ويدل على ذلك ما روي عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوان عمن صلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وجاه العدو فصلّى بالتي بقيت من صلاته ثم ثبت جالساً فأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالساً فأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم أخرجاه في الصحيحين الذي صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم هو سهل بن أبي حثمة وقد أخرجاه من رواية أخرى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه وذكر نحوه وهذا هو مختار الشافعي لأنه أشد موافقة لظاهر القرآن وأحوط للصلاة وأبلغ في حراسة العدو ، وأما كونه أشد موافقة لظاهر القرآن فإن قوله ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك يدل على أن الطائفة الأولى قد صلّت قوله فليصلوا معك ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية حصلت مع الإمام وكونها أحوط لأمر الصلاة من حيث إنه لا يكثر فيها العمل من المجيء والذهاب وكونها أحوط لأمر الحرب والحراسة من حيث إنه إذا لم يكونوا في الصلاة كان أمكن للحراسة والكر والفر والهرب إن احتاجوا إليه وذهب قوم إلى أن الطائفة الأولى تصلي مع الإمام ركعة ثم تذهب إلى وجه العدو فتحرس وهم في صلاتهم ثم تأتي الطائفة الثانية فتصلي مع الإمام الركعة الثانية ويسلم الإمام ولا يسلمون هم بل يذهبون إلى وجه العدو ، وترجع الطائفة الأولى إلى موضع الإمام فتقضي بقية صلاتها ثم تذهب ثم تأتي الطائفة الثانية إلى موضع الإمام فتقضي بقية صلاتها يروى ذلك عن ابن مسعود وهو مذهب أبي حنيفة يدل على ذلك ما روي عن ابن عمر قال صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف قال فكبّر فصلّى خلفه طائفة منا وطائفة مواجهة للعدو فركع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجد سجدتين ثم انصرفوا ولم يسلموا وأقبلوا على العدو فصفوا مكانهم وجاءت الطائفة الأخرى فصفوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى بهم ركعة وسجدتين ثم سلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم ركعتين وأربع سجدات ثم قامت الطائفتان فصلّى كل إنسان منهم لنفسه ركعة وسجدتين .(2/164)
أخرجه النسائي قال أبو بكر السني سمع الزهري من ابن عمر ولم يسمع هذا منه والذي أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك فصلّى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة وفي رواية أخرى قال : صلى رسول الله صلى عليه وسلم صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلّى بالذين معه ركعة .(2/165)
وجاء الآخرون فصلى فصلى بهم ركعة وقضت الطائفتان ركعة ركعة وبهذه الرواية المخرجة في الصحيحين أخذ الأوزاعي وأشهب المالكي وهو جائز عند الشافعي أيضاً ثم قيل إن الطائفتين قضوا ركعتهم الباقية معاً وقيل متفرقين وهو الصحيح والفرق بين الروايتين أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة وهي في حكم من خلف الإمام . وأما الطائفة الثانية فلم تدرك أول الصلاة والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في حكم صلاته .
المسألة الثالثة : فيما إذا كان العدو في ناحية القبلة وصورة هذا الصلاة ما روي عن جابر بن عبدالله : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصففنا صفين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدو بيننا وبين القبلة فكبّر النبي صلى الله عليه وسلم وكبّرنا جميعاً ثم ركع وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحو العدو فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المتقدم ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ثم انحدر بالجسود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى فقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلّمنا قال جابر كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم أخرجه مسلم بتمامه وأخرجه البخاري طرفاً منه أنه صلّى الخوف مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوة السابقة غزوة ذات الرقاع . وبهذا الحديث أخذ الشافعي ومن وافقه فيما إذا كان العدو في جهة القبلة .
المسألة الرابعة : إذا اشتد الحرب والتحم القتال صلّوا رجالاً وركباناً يؤمنون بالركوع والسجود إلى أي جهة كانت هذا مذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة أنهم لا يصلّون في هذه الحالة فإذا أمنوا قضوا ما فاتهم من الصلاة ولصلاة الخوف صور أخر مذكورة في كتب الفقه وليس هذا موضعها والله أعلم .
وقوله تعالى : { ولا جناح عليكم } أي ولا إثم ولا حرج عليكم { إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } قال ابن عباس : رخص الله لهم في وضع السلاح في حال المطر وحال المرض لأن السلاح يثقل حمله في هاتين الحالتين { وخذوا حذركم } يعني راقبوا عدوكم ولا تغفلوا عنه أمرهم الله بالتحفظ والتحرز والاحتياط لئلا يتجرأ العدو عليهم قال ابن عباس : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه غزا بني محارب وبني أنمار فنزلوا ولا يرون من العدو أحداً فوضع الناس السلاح فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة حتى قطع الوادي والسماء ترش بالمطر فسال الوادي فحال السيل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه فجلس تحت شجرة فبصر به غورت بن الحارث المحابي فقال : قتلني الله إن لم أقتله ثم انحدر من الجبل ومعه السيف ولم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائم على رأسه وقد سل السيف من غمده وقال يا محمد من يمنعك مني الآن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/166)
« الله عز وجل » ثم قال اللهم أكفني غورث بن الحارث بما شئت فاهوى غورث ليضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم به فأكب لوجهه من زلخة زلخها فندر السيف من يده فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ السيف ثم قال « يا غورث من يمنعك مني الآن؟ فقال لا أحد فقال أتشهد أن لا إله إلاّ وأن محمداً عبده ورسوله وأعطيك سيفك فقال : لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليك عدواً فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه فقال غورث لأنت خير مني فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجل أنا أحق بذلك منك » فرجع غورث إلى أصحابه فقالو له : ويلك يا غورث ما منعك منه فقال والله لقد أهويت إليه بالسيف لأضربه به فوالله ما أدري من زلخني بين كتفي فخررت لوجهي وذكر حاله لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وسكن الوادي فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلى أصحابه وأخبرهم الخبر وقرأ هذه الآية : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى } قال ابن عباس : كان عبدالرحمن بن عوف جريحاً فنزلت فيه أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم يعني من عدوكم { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } يعني يهانون به .(2/167)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
قوله عز وجل : { فإذا قضيتم الصلاة } يعني فإذا فرغتم من صلاة الخوف { فاذكروا الله } يعني بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وأثنوا على الله جميع أحوالكم { قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم } فإن ما أنتم عليه من الخوف جدير بالمواظبة على ذكر الله عز وجل والتضرع إليه ( ق ) عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه وقيل المراد بالذكر الصلاة يعني فصلّوا لله قياماً يعني في حال الصحة وقعوداً في حال المرض وعلى جنوبكم يعني في حال الزمانة والجراح { فإذا اطمأننتم } يعني فإذا أمنتم وسكنت قلوبكم . وأصل الطمأنينة سكون القلب { فأقيموا الصلاة } يعني فأتموها أربعاً فعلى هذا يكون المراد بالطمأنينة ترك السفر والمعنى فإذا صرتم مقيمين في أوطانكم فأقيموا الصلاة تامة أربعاً من غير قصر . وقيل معناه فأقيموا الصلاة بإتمام ركوعها وسجودها فعلى هذا يكون المراد بالطمأنينة سكون القلب عن الاضطراب والأمن بعد الخوف { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } يعني فرضاً موقتاً والكتاب هنا بمعنى المكتوب يعني مكتوبة موقتة في أوقات محدودة فلا يجوز إخراجها عن أوقاتها على أي حال كان من خوف أو أمن وقيل معناه فرضاً واجباً مقدراً في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين .(2/168)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
قوله تعالى : { ولا تهنوا في ابتغاء القوم } سبب نزول هذه الآية أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا يوم أحد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فشكوا من ألم الجراحات فقال الله تعالى ولا تهنوا يعني ولا تضعفوا ، ولا تتوانوا في ابتغاء القوم يعني في طلب أبي سفيان وأصحابه ثم أورد عليهم الحجة في ذلك وألزمهم بها فقال تعالى : { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون } يعني أن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم وليس ما تكابدون من الوجع وألم الجراح مختصاً لكم بل هم كذلك فإذا لم يكن الألم مانعاً لهم عن قتالكم فكيف يكون مانعاً لكم عن قتالهم وكيف لا تصبرون مثل صبرهم مع أنكم أولى بالصبر منهم لأنكم مقرون بالحشر والنشر والثواب والعقاب والمشركون لا يقرون بذلك كله فأنتم أيها المؤمنون أولى بالجهاد منهم وهو قوله تعالى : { وترجون من الله ما لا يرجون } يعني وتأملون من الله من الثواب في الآخرة ما لا يرجعون وقيل ترجون النصر والظفر في الدنيا وإظهار دينكم على الأديان كلها { وكان الله عليماً حكيماً } يعني أنه تعالى لا يأمركم بشيء إلا وهو يعلم أنه مصلحة لكم .(2/169)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
قوله عز وجل : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } قال ابن عباس نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن إبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعاً من جار له يقال له قتادة بن النعمان وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له زيد بن السمين فالتمست الدرع عند طعمة فحلف بالله ما له بها من علم فقال أصحاب الدرع : لقد رأينا اثر الدقيق حتى دخل داره فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فأخذوه فقال اليهودي : دفعها إلي طعمة بن أبيرق زاد في الكشاف وشهد له جماعة من اليهود . قال البغوي : وجاء بنو ظفر قوم طعمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يجادل عن صاحبهم طعمة فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاقب اليهودي وأن يقطع يده فأنزل الله هذه الآية وقيل إن زيد بن السمين أودع الدرع عند طعمة فجحده طعمة الله فأنزل هذه الآية : { إنا أنزلنا إليك } يعني يا محمد الكتاب يعني القرآن بالحق يعني بالصدق وبالأمر والنهي والفصل { لتحكم بين الناس بما أراك الله } يعني بما علمك الله وأوحى إليكم وإنما سمي العلم اليقيني رؤية لأنه جرى مجرى الرؤية في قوة الظهور روي عن عمر أنه قال لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ولكن ليجهد رأيه لأن الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصيباً ، لأن الله تعالى كان يريه إياه وإن رأي أحدنا يكون ظناً ولا يكون علماً قال المحققون دلت هذه الآية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يحكم إلا بالوحي الإلهي والنص المنزل عليه { ولا تكن } يعني يا محمد { للخائنين خصيماً } يعني ولا تكن لأجل الخائنين وهم قوم طعمة تخاصم عنهم وتجادل عن طعمة مدافعاً عنه ومعيناً له { واستغفر الله } يعني مما هممت به من معاقبة اليهودي وقيل من جدالك عن طعمة { إن الله كان غفوراً } يعني لذنوب عباده يسترها عليهم ويغفرها لهم { رحيماً } يعني بعباده المؤمنين .
فصل
وقد تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء وقالوا لو لم يقع من الرسول الله صلى الله عليه وسلم ذنب لما أُمر بالاستغفار والجواب عما تمسكوا به من وجوه : أحدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل المنهي عنه في قوله ولا تكن للخائنين خصماً ولم يخاصم عن طعمة لما سأله قومه أن يذب عنه أن يلحق السرقة باليهودي فتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وانتظر ما يأتيه من الوحي السماوي والأمر الإلهي فنزلت هذه الاية وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن طعمة كذاب وأن اليهودي بريء من السرقة .(2/170)
وإنما مال صلى الله عليه وسلم إلى نصرة طعمة وهمّ بذلك بسبب أنه في الظاهر من المسلمين فأمره الله بالاستغفار لهذا القدر . الوجه الثاني أن قوم طعمة لما شهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة طعمة من السرقة ولم يظهر في الحال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوجب القدح في شهادتهم همّ بأن يقضي على اليهودي بالسرقة فلما أطلعه الله على كذب قوم طعمة عرف أنه لو وقع ذلك الأمر لكان خطأ في نفس الأمر فأمره الله بالاستغفار منه وإن كان معذوراً . الوجه الثالث يحتمل أن الله تعالى أمره بالاستغفار لقوم طعمة لذبهم عن طعمة فإن استغفاره صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون لذنب قد سبق قبل النبوة وأن يكون لذنوب أمته . الوجه الرابع أن درجة النبي صلى الله عليه وسلم أعلى درجات ومنصبه أشرف المناصب فلعلو درجته وشرف منصبه وكمال معرفته بالله عز وجل فما يقع منه على وجه التأويل أو السهو أو أمر من أمور الدنيا فإنه ذنب بالنسبة إلى منصبه صلى الله عليه وسلم كما قيل حسنات الأبرار سيئآت المقربين . وذلك بالنسبة إلى منازلهم ودرجاتهم والله أعلم .(2/171)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
قوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } يعني ولا تجادل يا محمد عن الذين يظلمون أنفسهم بالخيانة وهم طعمة ومن عاونه وذب عنه من قومهم وإنما سماهم خائنين لأن من أقدم على ذنب فقد خان نفسه لأنه أوقعها في العذاب وحرمها من الثواب ولهذا قيل لمن ظلم غيره إنما ظلم نفسه وقيل المراد بهذا الجمع كل من خان خيانة أي فلا تخاصم ولا تجادل عنه { إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً } يعني خواناً بسرقة الدرع أثيماً برميه اليهودي وهو بريء وإنما قال تعالى خواناً أثيماً على المبالغة لأنه تعالى علم من طعمة الإفراط في الخيانة وركوب المآثم . ويدل على ذلك أنه لما نزل فيه القرآن لحق مكة مرتداً عن دينه ثم عدا على الحجاج بن علاط فنقب عليه بيته فسقط عليه حجر من الحائط فلما أصبحوا أخرجوه من مكة فلقي ركباً فعرض لهم . وقال ابن السبيل ومنقطع به فحملوه حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ثم انطلق فركبوا في طلبه فأدركوه فرموه بالحجارة حتى مات ، ومن كانت هذه حاله كان كثير الخيانة والإثم فلذلك وصفه الله تعالى بالمبالغة في الخيانة والإثم قال بعضهم إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات . ويروى عن عمر أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه يا أمير المؤمنين فقال كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة .
قوله عز وجل : { يستخفون من الناس } يعني يستترون حياء من الناس يريد بذلك بني ظفر بن الحارث وهم قوم طعمة بن أبيرق { ولا يستخفون من الله } يعني ولا يستترون من الله ولا يستحيون منه وأصل الاستخفاء الاستتار وإنما فسر الاستخفاء بالاستحياء على المعنى لأن الاستحياء من الناس يوجب الاستتار منهم { وهو معهم } يعني والله معهم بالعلم والقدرة ولا يخفى عليه شيء من حالهم لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية . وكفى بذلك زجراً للإنسان عن ارتكاب الذنوب { إذ يبيتون ما لا يرضى من القول } يعني يضمرون ويقدرون ويزورون في أذهانهم . وأصل التبييت تديبر الفعل بالليل وذلك أن قوم طعمة قالوا فيما بينهم : نرفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسمع قول طعمة ويقبل يمينه لأنه مسلم ولا يسمع قول اليهودي لأنه كافر فلم يرض الله تعالى بذلك منهم فأطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على سرهم وما هموا به { وكان الله بما يعملون محيطاً } يعني أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أسرار عباده وهو مطلع عليهم محيط بهم لا تخفى عليه خافيه { ها أنتم هؤلاء } ها للتنبيه يعني يا هؤلاء الذين هو خطاب لقوم من المؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وعن قومه { جادلتم عنهم } يعني خاصمتم عنهم بسبب أنهم كانوا يرونهم في الظاهر مسلمين وأصل الجدال شدة الفتل لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يفتل صاحبه عما هو عليه والمعنى هبوا إنكم خاصمتم وجادلتم عن طعمة وقومه في الحياة الدنيا وقيل هو خطاب لقوم طعمة وفي قراءة ابن مسعود : جادلتم عنه والمعنى هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة في الحياة الدنيا { فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة } يعني إذا أخذه بعذابه فهو استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع : { أمن يكون عليهم وكيلاً } يعني محافظاً ومحامياً عنهم من بأس الله إذا نزل بهم .(2/172)
قوله تعالى : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه } نزلت هذه الاية في ترغيب طعمة في التوبة وعرضها عليه . وقيل نزلت في قومه الذين جادلوا عنه وقيل هي عامة في كل مسيء ومذنب لأن خصوص السبب لا يمنع من إطلاق الحكم ومعنى الآية ومن يعمل سوءاً يسيء به غيره كما فعل طعمة بالسرقة من قتادة وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن ذلك يكون في الأكثر إيصالاً للضرر إلى الغير أو يظلم نفسه يعني فيما يختص به من الحلف الكاذب ونحو ذلك . وقيل معناه ومن يعمل سوءاً أي قبيحاً أو يظلم نفسه يرميه البريء وقيل السوء كل ما يأثم به الإنسان والظلم هو الشرك فما دونه { ثم يستغفر الله } يعني من ذنوبه { يجد الله غفوراً رحيماً } ففي هذه الآية دليل على حكمين : أحدهما أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب الكبائر والصغائر لأن قوله ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه عم الكل . والحكم الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أن مجرد الاستغفار كاف . وقال بعضهم إنه مقيد بالتوبة لأنه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار على الذنوب(2/173)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
{ ومن يكسب إثماً } يعني ومن يعمل ذنباً يأثم به { فإنما يكسبه على نفسه } يعني إنما يعود وبال كسبه عليه والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة فكأنه تعالى يقول يا أيها الإنسان إن الذنب الذي ارتكبته إنما عادت مضرته عليك فإني منزه عن الضر والنفع فأكثر من الاستغفار ولا تيأس من قبول التوبة فإني لغفار لمن تاب وهذه الآية نزلت في طعمة أيضاً { وكان الله عليماً } يعني بسارق الدرع { حكيماً } يعني إذا حكم عليه بالقطع وقيل معناه عليها بما في قلب عبده إقدامه على التوبة حكيماً تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب ويغفر له ويقبل توبته { ومن يكسب خطيئة أو إثماً } قيل إن الخطيئة هي الصغيرة منم الذنوب والإثم هو الكبيرة وقيل الخطيئة هي الذنب المختص بفاعله والإثم الذنب المتعدي إلى الغير وقيل إن الخطيئة هي سرقة الدرع والإثم هو يمينه الكاذبة { ثم يرم به بريئاً } يعني ثم يقذف بما جناه بريئاً منه وهو نسبة السرقة إلى اليهود ولم يسرق . فإن قلت الخطيئة والإثم اثنان فكيف وحد الضمير في قوله ثم يرم به . قلت معناه ثم يرم بأحد هذين المذكورين بريئاً وقيل معناه ثم يرم بهما فاكتفى بأحدهما عن الآخر وقيل إنه يعود الضمير إلى الإثم وحده لأنه أقرب مذكور وقيل إن الضمير يعود الى الكسب ومعناه ثم يرم بما سكب بريئاً { فقد احتمل بهتاناً } البهتان من البهت وهو الكذب الذي يتحير في عظمه { وإثماً مبيناً } يعني ذنباً بيناً لأنه بكسب الإثم آثم وبرميه البريء باهت فقد جمع بين الأمرين . قوله عز وجل : { ولولا فضل الله عليك ورحمته } هذه الآية متعلقة بقصة طعمة بن أبيرق وقومه حيث لبسوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صاحبهم . فقوله تعالى فلولا فضل الله عليك يعني يا محمد بالنبوة ورحمته يعني بالعصمة وما أوحى إليك من الاطلاع على أسرارهم فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم { لهمت طائفة منهم } يعني من بني ظفر وهم قوم طعمة { أن يضلوك } يعني عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل وقيل معناه يخطئوك في الحكم ويلبسوا عليك الأمر حتى تدفع عن طعمة وذلك لأن قوم طعمة عرفوا أنه سارق ثم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفع عنه وينزهه عن السرقة ويرمي بها اليهودي { وما يضلون إلاّ أنفسهم } يعني أن وبال ذلك يرجع عليهم بسبب تعاونهم على الإثم وبشهادتهم له أنه بريء فهم لما قدموا على ذلك رجع وباله عليهم { وما يضرونك من شيء } يعني أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت فيه لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال وما خطر ببالك أن الأمر على خلاف ذلك وقيل معناه وما يضرونك من شيء في المستقبل فوعده الله إدامة العصمة وإنه لا يضره أحد { وأنزل الله عليك الكتاب } يعني القرآن { والحكمة } يعني القضاء بما يعني وأوجب بهما بناء الحكم على الظاهر فكيف يضرونك بإلقائك في الشبهات { وعلمك ما لم تكن تعلم } يعني من أحكام الشرع وأمور الدين وقيل علمك من علم الغيب ما لم تكن تعلم وقيل معناه وعلمك من خفيات الأمور وأطلعك على ضمائر القلوب وعلمك من أحوال المنافقين وكيدهم ما لم تكن تعلم { وكان فضل الله عليك عظيماً } يعني ولم يزل فضل الله عليك يا محمد عظيماً فاشكره على ما أولاك من إحسانه ومن عليك بنبوته وعلمك ما أنزل عليك من كتابه وحكمته وعصمك ممن حاول إضلالك فإن الله هو الذي تولاك بفضله وشملك بإحسانه وكفاك غائلة من أرادك بسوء ففي هذه الآية تنبيه من الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على ما حباه من ألطافه وما شمله من فضله وإحسانه ليقوم بواجب حقه .(2/174)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
قوله تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم } يعني من نجوى قوم طعمة وقيل هي عامة في جميع ما يتناجى الناس به والنجوى هي الإسرار في التدبير وقيل النجوى ما تفرد بتدبيره قوم سراً كان ذلك أو جهراً وناجيته ساررته وأصله أن يخلوا في نجوة من الأرض وقيل أصله من النجي والمعنى لا خير في كثير ما يدبرونه ويتناجون فيه { إلاّ من أمر بصدقة } يعني إلاّ في نجوى من أمر بصدقة وقيل معناه لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلاّ فيما كان من أعمال الخير وقيل هو استثناء منقطع تقديره لكن من أمر بصدقة وحث عليها { أو معروف } يعني أو أمر بطاعة الله وما يجيزه الشرع وأعمال البر كلها معروف لأن العقول تعرفها { أو إصلاح بين الناس } يعني الإصلاح بين المتباينين والمتخاصمين ليتراجعا إلى ما كانا فيه من الألفة والاجتماع على ما أذن الله فيه وأمر به . عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين وإن فساد ذات البين هي الحالقة » أخرجه الترمذي وأبو داود وقال الترمذي ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين » ( خ ) عن سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « اذهبوا بنا نصلح بينهم » ( ق ) عن أم مكتوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين أو قال بين الناس فيقول خيراً أو ينمى خيراً » زاد مسلم في رواية قالت ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلاّ فيما في ثلاث : يعني الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل وزوجته وحديث المرأة زوجها { ومن يفعل ذلك } يعني هذه الأشياء التي ذكرت { ابتغاء مرضاة الله } يعني طلب رضاه لأن الإنسان إذا فعل ذلك خالصاً لوجه الله نفعه وإن فعله رياء وسمعة لم ينفعه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنما الأعمال بالنيات » الحديث { فسوف نؤتيه } يعني في الآخرة إذا فعل ذلك ابتغاء مرضاة الله { أجراً عظيماً } لا حد له لأن الله سماه عظيماً وإذا كان كذلك فلا يعلم قدره إلاّ الله(2/175)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
قوله عز وجل : { ومن يشاقق الرسول } نزلت في طعمة أيضاً وذلك أنه لما سرق وظهرت عليه السرقة خاف على نفسه القطع والفضيحة فهرب إلى مكة كافراً مرتداً عن الدين فأنزل الله عز وجل فيه : { ومن يشاقق الرسول } يعني يخالفه في التوحيد والإيمان وأصله من المشاقة وهي كون كل واحد منهما في شق غير شق الآخر { من بعد ما تبين له الهدى } أي وضح له التوحيد والحدود وظهر له صحة الإسلام وذلك لأن طعمة كان قد تبين له بما أنزل فيه وأظهر من سرقته ما يدل على صحة دين الإسلام فعادى الرسول صلى الله عليه وسلم وأظهر الشقاق ورجع عن الإسلام { ويتبع غير سبيل المؤمنين } يعني ويتبع غير طريق المؤمنين وما هم عليه من الإيمان وتبيع عبادة الأوثان { نوله ما تولى } أي نكله في الآخرة إلى ما تولى في الدنيا ونتركه وما اختار لنفسه { ونصله جهنم } يعني ونلزمه جهنم وأصله من الصلي وهو لزوم النار وقت الاستدفاء { وساءت مصيراً } يعني وبئس المرجع إلى النار . وري أن الشافعي سئل عن آية من كتاب الله تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى استخرج هذه الآية وهي قوله تعالى : { ويتبع غير سبيل المؤمنين } وذلك لأن اتباع غير سبيل المؤمنين وهي مفارقة الجماعة حرام فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين ولزوم وجماعتهم واجباً وذلك لأن الله تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين فثبت بهذا أن إجماع الأمة حجة .
قوله عز وجل : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } نزلت في طعمة بن أبيرق لكونه مات مشركاً وقال ابن عباس نزلت هذه الآية في شيخ من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إني شيخ منهمك في الذنوب غير أني لم أشرك بالله منذ عرفته وآمنت به ولم اتخذ مند دونه ولياً ولم أواقع المعاصي جراءة على الله عز وجل وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هرباً وإني لنادم تائب مستغفر فما حالي عندا الله فأنزل الله هذه الآية : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } فهذا نص صريح بأن الشرك غير مغفور إذا مات صاحبه عليه لأنه قد ثبت ان المشرك إذا تاب من شركه وآمن قبلت توبته وصح إيمانه وغفرت ذنوبه كلها التي عملها في حال الشرك { ويغفر ما دون ذلك } يعني ما دون الشرك { لمن يشاء } يعني لمن يشاء من أهل التوحيد قال العلماء لما أخبر الله أنه يغفر الشرك بالإيمان والتوبة علمنا أنه يغفر ما دون الشرك بالتوبة وهذه المشيئة فيمن لم يتب من ذنوبة من أهل التوحيد فإذا مات صاحبه الكبيرة أو الصغيرة من غير توبة فهو على خطر المشيئة إن شاء غفر له وأدخله الجنة بفضله ورحمته وإن شاء عذبه ثم يدخله الجنة بعد ذلك { ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً } يعني فقد ذهب عن طريق الهدى وحرم الخير كله إذا مات على شركه فإن قلت لم كررت هذه الآية بلفظ واحد في موضعين من هذه السورة وما فأئدة ذلك . قلت فائدة ذلك التأكيد أو لأن الآية المتقدمة نزلت في سبب . ونزلت هذه الآية في سبب آخر وهو أن الآية المتقدمة نزلت في سبب سرقة طعمة بن أبيرق ونزلت هذه الآية في سبب ارتداده وموته على الشرك .(2/176)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
قوله عز وجل : { إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً } نزلت في أهل مكة يعني ما يعبدون من دون الله إلاّ إناثاً لأن كل من عبد شيئاً فقد دعاه لحاجته وفي قوله إناثاً أقوال أحدها إنهم كانوا يسمون أصنامهم بأسماء الإناث فيقولون اللات والعزى ومناة قال الحسن كانوا يقولون لصنم كل قبيلة أنثى بني فلان والقول الثاني إناثاً يعني أمواتاً . قال الحسن : كل شيء لا روح فيه كالحجر والخشبة هو إناث قال الزجاج والموات كلها يخبر عنها كما يخبر من المؤنث تقول هذه الحجر تعجبني وهذه الدراهم تنفعني . ولأن الأنثى أنزل درجة من الذكر والميت أنزل درجة من الحي كما أن الموت أنزل من الحيوان وقد يطلق اسم الأنثى على الجمادات والقول الثالث إن بعضهم كان يعبد الملائكة ويقول هن بنات الله { وإن يدعون } أي وما يعبدوا { إلاّ شيطاناً مريداً } قال ابن عباس : لكل صنم شيطان يدخل في جوفه ويتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم فلذلك قال الله تعالى : { وإن يدعون إلاّ شيطاناً مريداً } وقيل هو إبليس لأنه أغواهم وأغراهم على عبادتها وأطاعوه فجعلت طاعتهم له عبادة والمريد والمارد هو المتمرد العاتي الخارج عن الطاعة { لعنة الله } أي أبعده الله وطرده عن رحمته { وقال } يعني إبليس { لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً } يعني حظاً مقدراً معلوماً فكل ما أطيع فيه إبليس فهو نصيبه ومفروضه وأصل الفرض القطع وهذا النصيب هم الذين يبتعون خطواته ويقبلون وساوسه { ولأضلنهم } عن طريق الحق والمراد به التزيين والوسوسة وإلاّ فليس إليه من الإضلال شيء . قال بعضهم لو كانت الضلالة إلى إبليس لأضل جميع الخلق { ولأمنينهم } قال ابن عباس يريد تسويف التوبة وتأخيرها وقال الكلبي أمنيهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وقيل أمنيهم إدراك الجنة مع عمل المعاصي وقيل أزين لهم ركوب الأهواء والأهوال الداعية إلى العصيان وقيل أمنيهم طول البقاء في الدنيا ونعيمها ليؤثروها على الآخرة { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } يعني يقطعونها ويشقونها وهي البحيرة . وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكراً وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ولا يردونها عن ماء ولا مرعى وسول لهم إبليس إن هذا قربة { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } قال ابن عباس يعني دين وتغيير الله هو تحليل الحرام وتحريم الحلال وقيل تغيير خلق الله هو تغيير الفطرة التي فطر الخلق عليها ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه » وقيل يحتمل أن يحمل هذا التغيير على تغيير أحوال تتعلق بظاهر الخلق مثل الوشم ووصل الشعر ويدل عليه صلى الله عليه وسلم :(2/177)
« لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله » أخرجاه من رواية ابن مسعود ولهما عن أسماء قالت : « لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة » وقيل تغيير خلق الله هو الاختصاء وقطع الآذان حتى إن بعض العلماء حرمه . وكره أنس إخصاء الغنم وجوز بعض العلماء لأن فيه غرضاً ظاهراً ( ق ) عن سعد بن أبي وقاص قال لولا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رد على عثمان بن مظعون التبتل لاختصينا . التبتل : هو ترك النكاح والانقطاع للعبادة عن نافع قال كان ابن عمر يكره الاختصاء ويقول إن فيه نماء الخلق أخرجه مالك في الموطأ ومعناه في ترك الاختصاء نماء الخلق يعني زيادتهم . وقال ابن زيد هو التخنث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن ونحو ذلك . وقيل تغيير خلق الله هو أن الله تعالى خلق البهائم والأنعمام للركوب والأكل فحرموها على أنفسهم وخلق الشمس والقمر والنجوم والنار والأحجار لمنفعة الناس فعبدوها من الله { ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله } يعني يتخذه رباً يطيعه فيما يأمره به وقيل الولي من الموالاة وهو الناصر { فقد خسر خسراناً مبيناً } لأن طاعة الشيطان توصله إلى نار جهنم وهي غاية الخسران ، بقي في الآية سؤالان : الأول قال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً والنصيب المفروض هو الشيء المقدر القليل وقال في موضع آخر لأحتنكن ذريته إلاّ قليلاً وقال : لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين . وهذا استثناء القليل من الكثير فكيف وجه الجمع فالجواب أن الكفار الذين هم حزب الشيطان وإن كانوا أكثر من المسلمين في العدد لكنهم أقل من المؤمنين في الفضل والشرف وعلو الدرجة عند الله والمؤمنون وإن كانوا أقل من الكفار لكنهم اكثر منهم لأن الفضل والشرف والسؤدد والغلبة في الدنيا وعلو الدرجة في الآخرة وأنشد بعضهم في هذا المعنى قال :
وهم الأقل إذا تعد عشيرة ... والأكثرون إذا يعد السؤدد
وقيل إن إبليس لما لم ينل من آدم ما أراد ورأى الجنة والنار وعلم أن لهذه أهلاً ولهذه أهلاً قال : لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً يعني الذين هم أهل النار . السؤال الثاني : من أين لإبليس العلم بالعواقب حتى يقول ولأضلنهم ولأغوينهم ولأمنينهم ولآمرنهم ، وقال في الاعراف { ولا تجد أكثرهم شاكرين } وقال في بني إسرائل { لأحتنكن ذريته إلا قليلاً } فالجواب من ثلاثة أوجه : أحدها : أن إبليس ظن أن تقع منهم هذه الأمور التي يريدها منهم فحصل له ما ظنه ويدل على ذلك قوله تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه } الوجه الثاني : قال ابن الأنباري المعنى لأجتهدن ولأحرصن في ذلك أنه كان يعلم الغيب . الوجه الثالث : قال الماوردي من الجائز أن يكون قد علم ذلك من الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلائق لا يؤمنون .(2/178)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
قوله تعالى : { يعدهم ويمنيهم } يعني الشيطان يعد حزبه وأولياءه ويمنهم فوعده وتمنيته إياهم ما يوقع في قلب الإنسان من طول العمر ونيل ما أراد من الدنيا ومن نعيمها ولذاتها وكل ذلك غرور فيجب على العاقل أن لا يلتفت إلى شيء منها فربما لم يطل عمره ولم يحصل له ما أراد منها ولئن طال عمره وحصل مقصوده فالموت وراءه ينغص عليه ما هو فيه وقيل يعدهم ويمنيهم بأن لا جنة ولا نار ولا بعث فاجتهدوا في تحصيل اللذات الدنيوية { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } يعني باطلاً وضلالاً { أولئك } يعني الذين اتخذوا الشيطان ولياً { مأواهم جهنم } يعني مرجعهم ومستقرهم جهنم { ولا يجدون عنها } يعني عن جهنم { محيصاً } يعني مفراً ومعدلاً يعني لا يعدلون عنها إلى غيرها ولا بد لهم من ورودها والخلد فيها ولما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد المؤمنين فقال تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار } يعني من تحت المساكن والغرف { خالدين فيها } يعني في الجنات { أبداً } بلا انتهاء ولا غاية والأبد عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا انقطاع له ولا يتجزأ كما يتجزأ غيره من الأزمنة لأنه لا يقال أبد كذا كما يقال زمن كذا وفي قوله : { خالدين فيها أبداً } دليل على أن الخلود لا يفيد التأبيد والدوام لأنه لو أفاد ذلك لزم التكرار وهو خلاف الأصل فعلم من ذلك أن الخلود عبارة عن طول الزمان لا على الدوام فلما أتبع الخلود بالأبد علم أنه يراد به الدوام الذي لا ينقطع . وقوله عز وجل : { وعد الله حقاً } يعني وعد الله ذلك الذي ذكر وعدا حقاً { ومن أصدق من الله قيلاً } يعني ليس أحد أصدق من الله وهو توكيد بليغ لقوله : { وعد الله حقاً } قوله تعالى : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } قولان : أحدهما أنه خطاب للمسلمين وأهل الكتاب اليهود والنصارى وذلك أنهم افتخروا فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى بالله منكم . والقول الثاني أنه خطاب لمشركي مكة في قولهم لانبعث ولا نحاسب وخطاب لأهل الكتاب في قولهم لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة . والمعنى ليس الأمر بالأماني إنما الأمر بالعمل الصالح { من يعمل سوءاً يجز به } قال الضحاك يقول : ليس لكم ما تمنيتم وليس لأهل الكتاب ما تمنوا ولكن من عمل سوءاً يعني شركاً فمات عليه يجز به النار . وقال الحسن هذا في حق الكفار خاصة لأنهم يجازون بالعقاب على الصغير والكبير ولا يجزى المؤمن بسيئ عمله يوم القيامة ولكن يجزى بأحسن عمله ويتجاوز عن سيئاته ويدل على صحة هذا القول سياق الاية وهو قوله : { ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } وهذا هو الكافر ، فأما المؤمن فله ولي ونصير .(2/179)
وقال آخرون هذه الاية في حق كل من عمل سوءاً من مسلم ونصراني وكافر . قال ابن عباس هي عامة في حق كل من عمل سوءاً يجز به إلا أن يتوب قبل أن يموت فيتوب الله عليه . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه لما نزلت هذه الاية شقت على المسلمين مشقة شديدة وقالوا يا رسول الله وأينا من لم يعمل سوءاً غيرك فكيف الجزاء؟ قال « منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشر حسناته وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت آحاده أعشاره . وأما من كان جزاؤه في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة فيؤتى كل ذي فضل فضله » ويدل على صحة هذا القول ما روي عن أبي هريرة قال لما نزلت { من يعمل سوءاً يجز به } بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها » أخرجه مسلم وعن أبي بكر الصديق قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : { من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ قلت بلى يا رسول الله قال فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقساماً في ظهري فتمطيت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شانك يا أبا بكر؟ قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءاً وإنا لمجزيون بأعمالنا » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس عليكم ذنوب . وأما الآخرون فيجتمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة » أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وفي إسناده مقال وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح وقوله : { ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } قال ابن عباس : يريد ولياً يمنعه ولا نصيراً ينصره فإن قلنا إن هذه الآية خاصة في حق كفار فتأويلها ظاهر وإن قلنا إنها في حق كل عامل سوء من مسلم وكافر فإنه لا ولي لأحد من دون الله يوم القيامة ولا ناصر . فالمؤمنون لا ولي لهم غير الله وشفاعة الشافعين تكون بإذن الله فليس يمنع أحداً أحداً عن الله .(2/180)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
وقوله تعالى : { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن } قال مسروق لما نزلت من يعمل سوءاً يجز به قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت هذه الآية قال المفسرون بيّن الله تعالى بهذه الآية فضيلة المؤمنين على غيرهم ولفظه من في قوله من الصالحات للتبعيض ، لأن أحداً لا يقدر أن يستوعب جميع الصالحات بالعمل فإذا عمل بعضها استحق الثواب { فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً } النقير نقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة قال ابن عباس يريد لا ينقصون قدر نقرة النواة وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان .(2/181)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
قوله عز وجل : { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن } لما بيّن الله تعالى أن الجنة لمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن شرح الإيمان وبين فضله فقال تعالى : { ومن أحسن ديناً } يعني ومن أحكم ديناً والدين هو المشتمل على كمال العبودية والخضوع والانقياد لله عز وجل وهو الذي كان عليه إبراهيم صلى الله عليه وسلم . واعلم أن دين الإسلام مبني على أمرين : أحدهما الاعتقاد وإليه الإشارة بقوله : { أسلم وجهه لله } يعني انقاد لله وخضع له في سره وعلانيته وقيل معناه أخلص طاعته لله وقيل فوض أمره إلى الله . الأمر الثاني من مباني الإسلام العمل وإليه الإشارة بقوله : { وهو محسن } يعني في عمله لله فيدخل فيه فعل الحسنات والمفروضات والطاعات وترك السيئات وقال ابن عباس في تفسير قوله : { وهو محسن } يريد وهو موحد لله عز وجل لا يشرك به شيئاً قال العلماء وإنما صار دين الإسلام أحسن الأديان لأنه فيه طاعة الله ورضاه وهما أحسن الأعمال . وإنما خص الوجه بالذكر في قوله : { أسلم وجهه لله } لأنه أشرف الأعضاء فإذا انقاد الوجه لله وخضع له فقد انقاد جميع الأعضاء لأنها تابعة له { واتبع ملة إبراهيم } يعني دين إبراهيم عليه السلام { حنيفاً } يعني مسلماً مخلصاً والحنيف المائل ومعناه المائل عن الأديان كلها إلى الإسلام لأن كل ما سواه من الأديان باطل وحنيفاً يجوز أن يكون حالاً لإبراهيم ويجوز أن يكون حالاً للمتبع كما تقول رأيته راكباً . قال ابن عباس ومن دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة والطواف ومناسك الحج والختان هو نحو ذلك . فإن قلت ظاهر هذه الاية يقتضي أن شرع محمد صلى الله عليه وسلم هو نفس شرع إبراهيم عليه السلام وعلى هذا لم يكن لمحمد صلى الله عليه وسلم شرع يستقل به وليس الأمر كذلك فما الجواب؟ قلت إن شرع إبراهيم وملته داخلان في شرع محمد صلى الله عليه وسلم وملته مع زيادات كثيرة حسنة خص الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم فمن اتبع ملة محمد صلى الله عليه وسلم فقد اتبع ملة إبراهيم لأنها داخلة في ملة محمد صلى الله عليه وسلم وشرع إبراهيم داخل في شرع محمد صلى الله عليه وسلم وإنما قال تعالى : { واتبع ملة إبراهيم } لأن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يدعو إلى توحيد الله وعبادته ولهذا خصه بالذكر لأنه كان مقبولاً عند جميع الأمم فإن العرب كانوا يفتخرون بالانتساب إليه وكذا اليهود والنصارى . فإذا ثبت هذا وأن شرعه كان مقبولاً عند الأمم وأن شرع محمد صلى الله عليه وسلم وملته هو شرع إبراهيم وملته لزم الخلق الدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وقبول شرعه وملته .(2/182)
وقوله تعالى : { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } يعني صفياً والخلة صفاء المودة وقيل الخلة الافتقار والانقطاع فخليل الله المنقطع إليه وسمي إبراهيم خليلاً لأنه انقطع إلى الله في كل حال . وقيل الخلة الاختصاص والاصطفاء وسمي إبراهيم خليلاً لأنه والى في الله وعادى في الله وقيل لأنه تخلّق بأخلاق حسنة وخلالٍ كريمة وقيل الخليل المحب الذي ليس في محبته خلل وسمي إبراهيم خليل الله لأنه أحبه محبة كاملة ليس فيها نقص ولا خلل وأنشد في معنى الخلة التي هي بمعنى المحبة :
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبه سمي الخليل خليلا
وقيل الخليل من الخلة الخاء وهي الحاجة سميت خلة للاختلال الذي يلحق الإنسان فيها وسمي إبراهيم خليلاً لأنه جعل فقره وفاقته وحاجته إلى الله تعالى . وخلة الله للعبد هي تمكينه من طاعته وعصمته وتوفيقه وستر خلله ونصره والثناء عليه فقد أثنى الله عز وجل على إبراهيم عليه السلام وجعله إماماً للناس يقتدى به . واختلفوا في السبب الذي من أجله اتخذ الله إبراهيم خليلاً فقال ابن عباس كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم أبا الضيفان وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس فأصاب الناس شدة قحط فقصد الناس باب إبراهيم يطلبون منه الطعام ، وكانت الميرة تأتيه من صديق له بمصر فبعث إبراهيم غلمانه إلى خليله الذي بمصر فقال خليله لغلمان إبراهيم لو كان إبراهيم يريد إنماء الطعام لنفسه احتملنا ذلك له وقد دخل علينا مثل ما دخل على الناس من الشدة فرجع غلمان إبراهيم بغير طعام فمروا ببطحاء من الرمل سهلة فقالوا لو حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس من الشدة فرجع غلمان إبراهيم بغير طعام فمروا ببطحاء من الرمل سهلة فقالوا لو حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بالميرة فإنا نستحي أن نمر بهم وإبلنا فارغة فملؤوا من ذلك الرمل الغرائر التي معهم ثم أتوا إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فأعلموه وسارة نائمة فاهتم لذلك لمكان الناس ببابه فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار فقالت سبحان الله ما جاء الغلمان قالوا بلى قالت فجاؤوا بشيء قالوا نعم فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هي ملأى بأجود دقيق يكون حواري فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس فاستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام فقال يا سارة من أين لكم هذا؟ فقالت من عند خليلك المصري فقال هذا من عند خليلي الله قال فيومئذ اتخذه الله خليلاً وقيل لما أراه الله ملكوت السموات والأرض وحاج قومه في الله ودعاهم إلى توحيده ومنعهم من عبادة النجوم النجوم والشمس والقمر والأوثان وبذل نفسه للإلقاء في النيران وبذل ولده للقربان وماله للضيفان اتخذه الله خليلاً وجعله إماماً للناس يقتدي به وجعل النبوة فيه وفي ذريته وقيل إن إبراهيم عليه السلام لما كسر الأصنام وعادى قومه في الله عز وجل اتخذه الله خليلاً وقيل لما دخل عليه الملائكة فظنهم ضيفاً فقرب إليهم عجلاً مشوياً وقال كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره فقال جبريل أنت خليل الله فمن يومئذ سمي إبراهيم خليل الله ( م ) عن أنس قال :(2/183)
« جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا خير البرية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إبراهيم خليل الله » .
فصل
وقد اتخذ الله محمداً خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً فقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لو كنت متخذاً كما اتخذ خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً » وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلاً » أخرجه مسلم؛ فقد ثبت بهذين الحديثين الخلة للنبي صلى الله عليه وسلم وزاد على إبراهيم عليه السلام بالمحبة صلى الله عليه وسلم خليل الله وحبيبه فقد جاء في حديث عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ألا وأنا حبيب الله ولا فخر » أخرجه الترمذي بأطول منه .(2/184)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
قوله تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض } قال أهل المعاني : لما دعا الله الخلق إلى طاعته وعبادته والانقياد لأمره بيّن سعة ملكه ليرغب الخلق إليه بالطاعة له . وإنما قال ما في السموات وما في الأرض ولم يقل من لأنه ذهب به مذهب الجنس والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنس ذكر بلفظه ما { وكان الله بكل شيء محيطاً } يعني عالماً علم إحاطة وهو العلم بالشيء من كل وجه حتى لا يشذ عنه نوع إلا علمه وقيل يجوز أن يكون معناه محيطاً بالقدرة عليه . قوله عز وجل : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن } الاية . قال ابن عباس : نزلت في بنات أم كحة وقد تقدمت قصتهن في أول السورة وقالت عائشة هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سنّة صداقها وإذا كانت غير مرغوب فيها لقلة الجمال والمال تركها ، وفي رواية قالت هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وقد شركته في ماله فيرغب عنها فلا يتزوجها لدمامتها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه ويشركه في ماله فيجسها حتى تموت فنهاهم الله عن ذلك وأنزل هذه الاية فقال ويستفتونك يعني ويستخبرونك يا محمد في شأن النساء وحالهن والاستفتاء طلب الفتوى وهو إظهار ما أشكل من الأحكام الشرعية وكشفه وتبيينه قال المفسرون والذي استفتوه فيه هو ميراث النساء وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد فلما نزلت آية الميراث قالوا : يا رسول الله كيف ترث المرأة والصغير؟ فأجابهم بهذه الاية : { قل الله يفتيكم فيهن } يعني قل يا محمد الله يفتيكم في النساء بما أنزل في كتابه عليكم وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ والغرض منه تعظيم حال هذه الآية التي تتلى عليكم وأنها في اللوح المحفوظ وأن العدل والإنصاف في حقوق اليتامى من أعظم الأمور عند الله تعالى التي تجب مراعاتها وأن المخل بها ظالم { في يتامى النساء } قيل معناه في النساء اليتامى وقيل في اليتامى أولاد النساء ، لأن الاية نزلت في يتامى أم كحة { اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن } يعني ما فرض لهن من الميراث وهذا على قول من يقول إن الآية نازلة في ميراث اليتامى والصغار وعلى القول الآخر معناه ما كتب لهن من الصداق { وترغبون أن تنكحوهن } يعني وترغبون في نكاحهن لمالهن وجمالهن بأقل من صداقهن وقيل معناه وترغبون عن نكاحهن لقبحهن ودمامتهن وتمسكوهن رغبة في أموالهن ( ق ) عن عائشة قالت هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن قالت عائشة رضي الله عنها فاستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فأنزل الله عز وجل : { يستفتونك في النساء } إلى قوله : { وترغبون أن تنكحوهن } فبين لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يحلقوها بسنتها في إكمال الصداق وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها قال فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق .(2/185)
وقوله تعالى : { والمستضعفين من الولدان } يعني ويفتيكم في المستضعفين من الولدان وهم الصغار أن تعطوهم حقوقهم لأن العرب في الجاهلية كانوا لا يورثون الصغار أيضاً فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم أن يعطوهم حقهم من الميراث { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } يعني بالعدل في مهورهن ومواريثهن { وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليماً } يعني فيجازيكم عليه .(2/186)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
قوله تعالى : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً } ( ق ) عن عائشة في قوله تعالى : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً } قالت نزلت في المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج غيرها فنقول له امسكني لا تطلقني ثم تزوج غيري وأنت في حل من النفقة عليّ والقسمة لي قالت فذلك قوله تعالى : { فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحاً والصلح خير } وقيل نزلت في عمرة بنت محمد بن مسلمة ويقال اسمها خولة وفي زوجها سعد بن الربيع ويقال له رافع بن خديج تزوجها وهي شابة فلما كبرت تزوج عليها امرأة أخرى شابة وآثرها عليها وجفا الأولى فأتت ابنة محمد بن مسلمة تشكو زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية . وقيل كان رجل له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوج غيرها فقالت لا تطلقني ودعني أقوم على أولادي واقسم لي كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسم لي فقال إن كان يصلح ذلك فهو أحب إليّ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله هذه الآية : { وإن امرأة خافت } يعني علمت وقيل ظنت وقيل بل المراد نفس الخوف لأن الخوف لا يحصل إلا عند ظهور الأمارات الدالة على وقوعه من بعلها يعني من زوجها . والبعل هو السيد وسمي الزوج بعلاً لأنه سيد المرأة . نشوزاً يعني بغضاً وقيل هو ترك مضاجعتها وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض والنشوز قد يكون من الزوجين وهو أن يكره كل واحد منهما صاحبه فنشوز الزوج هو أن يعرض عن المرأة . وهو قوله تعالى : { أو إعراضاً } يعني بوجهه عنها أو يعبس في وجهها او يترك مضاجعتها أو يسيء عشرتها أو يشتغل بغيرها وقيل المراد من النشوز إظهار الخشونة في القول والفعل والمراد من الإعراض السكوت عن الخير والشر والإيذاء بل يعرض عنها بوجهه أو يشتغل بغيرها { فلا جناح عليهما } يعني فلا حرج ولا إثم على الزوج والمرأة { أن يصلحا } من المصالحة ، وقرئ أن يصلحا بضم الياء وكسر اللام من الإصلاح { بينهما صلحاً } يعني في القسمة والنفقة وهو أن يقول الزوج للمرأة : إنك قد كبرت ودخلت في السن ، وأنا أريد ان أتزوج امرأة جميلة شابة أوثرها عليك في القسمة ليلاً ونهاراً فإن رضيت فأقيمي وإن كرهت ذلك فارقتك وخليت سبيلك فإن رضيت بذلك كانت هي المحسنة ولا تجبر على ذلك وأن لم ترض بدون حقها كان على الزوج أن يوفيها حقها من القسم والنفقة أو يسرحها بإحسان وإن أمسكها ووفاها حقها مع الكراهة لها كان هو المحسن قال ابن عباس : فإن صالحته على بعض حقها من القسمة والنفقة جاز وإن أنكرت ذلك بعد الصلح كان ذلك لها ولها حقها { والصلح خير } يعني إقامتها بعد تخييره إياها والمصالحة على ترك بعض حقها من القسم والنفقة خير من الفرقة عن ابن عباس قال : « خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت { فلا جناح عليهما أن يصالحها بينهما صلحاً والصلح خير } فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة { وأحرضت الأنفس الشح } الشح أقبح البخل ، وحقيقته الحرص على من الخير ، وإنما قال : وأحضرت الأنفس الشح لأنه كالأمر اللازم للنفوس لأنه مطبوعة عليه ، ومعنى الآية أن كل واحد من الزوجين يشح بنصيبه من الآخر فالمرأة تشح على مكانها من زوجها والرجل يشح عليها بنفسه إذا كان غيرها أحب إليه منها { وإن تحسنوا وتتقوا } هذا خطاب للأزواج يعني وإن تحسنوا أيها الأزواج الصحبة والعشرة وتتقوا الله في حق المرأة فإنها أمانة عندكم وقيل معناه وإن تحسنوا بالإقامة معها على الكراهة وتقتوا ظلمها والجور عليها . { فإن الله كان بما تعملون خبيراً } يعني فيجازيكم بأعمالكم .(2/187)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
قوله عز وجل : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } يعني ولن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب وميل القلب لأن ذلك مما لا تقدرون عليه وليس من كسبكم { ولو حرصتم } يعني على العدل والتسوية بينهن وقيل معناه ولو حرصتم على ذلك { فلا تميلوا كل الميل } يعني إلى التي تحبونها في القسم والنفقة والمعنى أنكم لستم منهيين عن حصول التفاوت في الميل القلبي لأن ذلك خارج عن قدرتكم ووسعكم ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك الميل في القول والفعل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط » أخرجه الترمذي وعند أبي داود « من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل » وعن عائشة قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيقول » اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب « أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقوله تعالى : { فتذروها كالمعلقة } يعني فتدعوا الأخرى التي لا تميلون إليها كالمعلقة لا أيماً ولا ذات بعل كالشيء المعلق لا هو في السماء ولا على الأرض . وقيل معناه فتذروها كالمسجونة لا هي مخلصة فتتزوج ولا هي ذات بعل فيحسن إليها { وإن تصلحوا } يعني بالعدل في القسم { وتتقوا } يعني الجور في القسم { فإن الله كان غفوراً } يعني لما حصل من الميل إلى بعضهن دون بعض { رحيماً } يعني بكم حيث لم يكلفكم ما لا تقدرون عليه { وإن يتفرقا } يعني إن لم يصطلحا وأرادا الفرقة { يغن الله كلاًّ من سعته } يعني من فضله ورزقه والمعنى يغني الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج آخر . وقيل معناه يعوض الزوج بما يحب والمرأة بما تحب ويوسع عليهما وفي هذا تسلية لكل واحد من الزوجين بعد الطلاق { وكان الله واسعاً } يعني واسع الفضل والرحمة وقيل واسع القدرة والعلم والرزق وقيل هو الغني الذي وسع جميع مخلوقاته غناه { حكيماً } يعني فيما أمر به ونهى عنه .
فصل فيما يتعلق بحكم الآية
وجملته أن الرجل إذا كان تحته امرأتان أو أكثر يجب عليه التسوية بينهن في القسم فإن ترك التسوية بينهن في فعل القسم عصى الله عز وجل في ذلك وعليه القضاء للمظلومة والتسوية شرك في البيتوتة أما في الجماع فلا لأن ذلك يدور النشاط وميل القلب وليس ذلك إليه ولو كان في نكاحه حرة وأمة قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة واحدة . وإذا تزوج جديدة على قديمات كن عنده فإنه يخص الجديدة بأن يبيت عندها سبع ليال إن كانت الجديدة بكراً وإن كانت ثيباً خصها بثلاث ليال ثم إنه يستأنف القسم ويسوي بينهن ولا يجب عليه قضاء عوض هذه الليالي للقديمات ويدل على ذلك ما روى أبو قلابة عن أنس قال : » من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً وقسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً وقسم « قال أبو قلابة ولو شئت لقلت إن أنساً رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرجاه في الصحيحين .(2/188)
وإذا سافر الرجل إلى سفر حاجة جاز له أن يحمل معه بعض نسائه بشرط أن يقرع بينهن ولا يجب عليه أن يقضي للباقيات عوض مدة سفره وإن طالت إذا لم يزد مقامه في البلد على مدة المسافرين ويدل على ذلك ما روي عن عائشة قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه » . أخرجه البخاري مع زيادة فيه . وإذا أراد الرجل سفر نقلة وجب عليه أخذ نسائه معه .(2/189)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
قوله تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض } يعني عبيداً وملكاً قال أهل المعاني لما ذكر الله تعالى أن يغني من سعته وفضله أشار إلى ما يوجب الرغبة إليه في طلب الخير منه لأن من ملك السموات والأرض لا تفنى خزائنه { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } يعني من اليهود والنصارى وأصحاب الكتب القديمة { وإياكم } يعني ووصيناكم يا أهل القرآن في كتابكم { أن اتقوا الله } أي بأن تتقوا الله وهو أن توحدوه وتطيعوه وتحذروه ولا تخالفوا أمره والمعنى أن الأمر بتقوى الله شريعة قديمة أوصى الله بها جميع الأمم السالفة في كتبهم { وإن تكفروا } يعني وإن تجحدوا ما أوصاكم به { فإن لله ما في السموات وما في الأرض } يعني فإن لله ملائكة في السموات والأرض هم أطوع له منكم . وقيل معناه أن الله خالق السموات والأرض وما فيه ومالكهن ، والمنعم عليهم بأصناف النعم ومن كان كذلك فحق لكل أحد أن يتقيه ويرجوه { وكان الله غنياً } يعني عن جميع خلقه غير محتاج إليهم ولا إلى طاعتهم { حميداً } يعني محموداً على نعمه عليهم { ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً } قال ابن عباس يعني شهيداً على أن له فيهن عبيداً وقيل معناه وكفى بالله دافعاً ومجيراً . فإن قلت ما الفائدة في تكرير قوله تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض } قلت الفائدة في ذلك أن لكل آية معنى تخص به ، أما الآية الأولى فمعناها فإن لله ما في السموات وما في الأرض وهو يوصيكم بتقوى الله فاقبلوا وصيته وقيل لما قال تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته } بيّن أن له ما في السموات وما في الأرض وأنه قادر على إغناء جميع الخلائق وهو المستغني عنهم . وأما الآية الثانية فإنه تعالى قال : { وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض } والمراد أنه تعالى منزه عن طاعات الطائعين وعن ذنوب المذنبين وأنه لا يزداد جلاله بالطاعات ولا ينقص بالمعاصي . وقيل لما بين أن له ما في السموات وما في الأرض وقال بعد ذلك : { وكان الله غنياً حميداً } فالمراد منه أنه تعالى هو الغني وله الملك فاطلبوا منه ما تطلبون فهو يعطيكم لأن له ما في السموات وما في الأرض . وأما الثالثة فقال تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا } أي فتوكلوا عليه ولا تتوكلوا على غيره فإنه المالك لما في السموات والأرض . وقيل تكريرها تعديدها لما هو موجب تقواه لتتقوه وتطيعوه ولا تعصوه لأن التقوى والخشية أصل كل خير .
قوله عز وجل : { إن يشأ يذهبكم أيها الناس } قال ابن عباس : يريد المشركين والمنافقين { ويأت بآخرين } بغيركم هم خير منكم وأطوع له ففيه تهديد للكفار والمعنى أنه يهلككم أيها الكفار كما أهلك من كان قبلكم ، إذ كفروا به وكذبوا به وكذبوا رسله { وكان الله على ما ذلك قديراً } يعني وكان الله على ذلك الإهلاك وإعادة غيركم قادراً بليغاً في القدرة لا يمتنع عليه شيء أراده لم يزل ولا يزال موصوفاً بالقدرة على جميع الأشياء .(2/190)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
قوله تعالى : { من كان يريد ثواب الدنيا } يعني من كان يريد بعمله عرضاً من الدنيا نزلت في مشركي العرب وذلك أنهم كانوا يقرون بالله تعالى خالقهم ولا يقرون بالبعث يوم القيامة فكانوا يقربون إلى الله ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها وقيل نزلت في المنافقين لأنهم كانوا لا يصدقون بيوم القيامة ، وإنما كان يطلبون بجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عاجل الدنيا وهو ما ينالونه من الغنيمة { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } يعني الذين يطلبون بأعمالهم وجهادهم ثواب الدنيا وما ينالونه من الغنيمة مخطئون في قصدهم لأن الله عنده ثواب الدنيا وثواب الآخرة فلو كانوا عقلاء لطلبوا ثواب الآخرة حتى يحصل لهم ذلك ويحصل لهم ثواب الدنيا على سبيل التبعية والمعنى أن من أراد بعمله الدنيا آتاه الله منها أراد وصرف عنه من شرها ما أراد وليس له ثواب في الآخرة يجزى به ، ومن أراد بعمله وجه الله ثواب الآخرة فعند الله ثواب الدنيا والآخرة يؤتيه من الدنيا ما قدر له ويجزيه في الآخرة خير الجزاء { وكان الله سميعاً } يعني لأقوالهم وما يسرونه من طلب ثواب الدنيا { بصيراً } يعني بنياتهم وما في نفوسهم بصيراً بمن يطلب الدنيا بعمله وبمن طلب الآخرة بعمله . قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } قال السدي إن فقيراً وغنياً اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان صغوه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأنزل الله هذه الآية وأمر بالقيام بالقسط مع الغني والفقير وقيل إن هذه الآية متعلقة بقصة طعمة بن أبيرق فهي خطاب لقومه الذين جادلوا عنه وشهدوا به بالباطل ، فأمرهم الله تعالى أن يكونوا قائمين بالقسط شاهدين لله على كل حال ولو على أنفسهم وأقاربهم فقال تعالى : { كونوا قوامين بالقسط } القوام مبالغة في القيام بالعدل في جميع الشهادات واجتناب الجور فيها قال ابن عباس كونوا قوامين بالعدل في جميع الشهادات على من كانت شهداء لله يعني أقيموا شهادتك لوجه الله كما أمركم فيها فيقول الحق في شهادته { ولو على أنفسكم } يعني ولو كانت الشهادة على أنفسكم أمر الله العبد أن يشهد على نفسه بالحق في شهادته { ولو على أنفسكم } يعني ولو كانت الشهادة على أنفسكم أمر الله العبد أن يشهد على نفسه بالحق وهو أن يقر على نفسه وذلك الإقرار يسمى شهادة في كونه موجباً للحق عليه { أو الوالدين والأقربين } يعني ولو كانت الشهادة على الوالدين والأقربين من ذوي رحمه أو أقاربه والمعنى قولوا الحق ولو على أنفسكم أو على الوالدين أو الأقارب فأقيموا الشهادة عليهم لله تعالى ولا تحابوا غنياً لغناه ولا ترحموا فقيراً لفقره فذلك قوله تعالى : { إن يكن } يعني المشهود عليه { غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } يعني منكم والمعنى كلوا أمرهم إلى الله تعالى فهو أعلم بهم وبحالهم وإنما قال بهما على التثنية لأن رد الضمير إلى المعنى دون اللفظ يعني فالله أولى بالغني والفقير { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } يعني فلا تتبعوا الهوى واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق في أداء الشهادة وقيل معناه اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل ، لأن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى { وإن تلووا } قرئ بواوين ومعناه أن يلوي الشاهد لسانه إلى غير الحق قال ابن عباس يلوي لسانه بغير الحق ولا يقيم الشهادة على وجهها { أو تعرضوا } يعني أو يعرض الشاهد عن الشهادة فيكتمها ولا يقيمها يقال لويته حقه إذا دفعته عنه ومطلته به ، وقيل معناه وإن تلووا عن القيام بأداء الشهادة أو تعرضوا عنها فتتركوها وقيل معناه التحريف والتبديل في الشهادة من قولهم لويت الشيء إذا قبلته وقيل هو خطاب مع الحكام يقول وإن تلووا يعني تميلوا مع أحد الخصمين دون الآخر أو تعرضوا عنه بالكلية وقرئ تلوا بواو واحدة من الولاية فهو خطاب للحكام أيضاً ومعناه فلا تلوا أمور المسلمين وتضيعوهم أو تعرضوا عنهم { فإن الله كان بما تعملون خبيراً } يعني أنه تعالى يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فيجازيكم بأعمالكم .(2/191)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } قال ابن عباس نزلت في عبدالله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلام ابن أخت عبدالله بن سلام وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين فهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « بل آمنوا بالله وبرسوله محمد والقرآن وبكل كتاب كان قبله » فأنزل الله هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا } يعني بمحمد والقرآن وبموسى والتوراة آمنوا بالله ورسوله أسم جنس يعني آمنوا بجميع رسله وقيل هو خطاب لأهل الكتاب جميعاً والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن وقيل هو خطاب للمنافقين والمعنى يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم آمنوا بقلوبكم حتى ينفعكم الإيمان لأن الإيمان باللسان لا ينفع من غير مواطأة القلب وقيل هو خطاب للمؤمنين والمعنى يا أيها الذين آمنوا في الماضي والحال آمنوا في المستقبل ودموا واثبتوا على الإيمان والكتاب { والكتاب الذي نزل على رسوله } يعني القرآن { والكتاب الذي أنزل من قبل } يعني وآمنوا بالقرآن وبجميع الكتب الذي أنزلها على أنبيائه قبل القرآن فيكون الكتاب اسم جنس لجميع الكتب { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً }(2/192)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
قوله عز وجل : { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً } قال ابن عباس نزلت في اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادتهم العجل ثم بعد ذلك كفروا بعيسى والإنجيل ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقيل إنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعده ثم آمنوا بداود ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل نزلت في المنافقين وذلك أنهم آمنوا ثم كفروا بعد الإيمان ثم آمنوا يعني بألسنتهم وهو إظهارهم الإيمان لتجري عليهم أحكام المؤمنين ثم ازدادوا كفراً يعني بموتهم على الكفر . وقيل بذنوب أحدثوها في الكفر وقيل هم قوم آمنوا ثم ارتدوا إلى الكفر ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً يعني بموتهم عليه . وذلك لأن من تكرر منه الإيمان بعد الكفر والكفر بعد الإيمان مرات كثيرة يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلبه ، ومن كان كذلك لا يكون مؤمناً بالله إيماناً صحيحاً وازديادهم الكفر هو استهزاؤهم وتلاعبهم بالإيمان ومثل هذا المتلاعب بالدين هل تقبل توبته أم لا؟ حكي عن علي ابن أبي طالب أنه قال لا تقبل توبته بل يقتل وذهب أهل العلم إلى أن توبته مقبولة . وقوله تعالى : { لم يكن الله ليغفر لهم } يعني ما أقاموا على الكفر وماتوا عليه وذلك لأن الله تعالى أخبر أنه يغفر الكفر إذا تاب منه بقوله قل للذين كفروا إن ينتهوا يعني عن الكفر يغفر لهم ما قد سلف يعني من كفرهم { ولا ليهديهم سبيلاً } يعني طريق هدى وقيل لا يجعلهم بكفرهم مهتدين . قوله تعالى : { بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً } يعني أخبرهم يا محمد وأنما وضع بشر مكان أخبر تهكماً بهم وقيل البشارة كل خبر تتغير به بشرة الوجه ساراً كان ذلك الخبر أو غير سار وقيل معناه اجعل موضع بشارتك لهم العذاب لأن العرب يقول تحيتك الضرب أي هذا بدل من تحيتك قال الشاعر :
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع(2/193)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
ثم وصف الله تعالى المنافقين فقال تعالى : { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } يعني يتخذون اليهود أولياء وأنصاراً وبطانة من دون المؤمنين وذلك أن المنافقين كانوا يقولون إن محمداً لا يتم أمره فيوالون اليهود فقال الله تعالى رداً على المنافقين : { أيبتغون عندهم العزة } يعني يطلبون من اليهود العزة والمعونة والظهور على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه { فإن العزة لله جميعاً } يعني فإن القوة والقدرة والغلبة لله جميعاً وهو الذي يعز أولياءه وأهل طاعته كما قال تعالى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } { وقد نزل عليكم } يا معشر المسلمين { في الكتاب } يعني القرآن { أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها } قال المفسرون الذي أنزل عليهم في النهي عن مجالستهم هو قوله تعالى في سورة الأنعام : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } وهذا أنزله بمكة لأن المشركين كانوا يخوضون في القرآن ويستهزؤون به في مجالسهم ثم إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين وكان المنافقون يجلسون إليهم ويخوضون معهم في الاستهزاء بالقرآن فنهى الله المؤمنين عن القعود معهم بقوله : { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره } يعني يأخذوا في حديث آخر غير الاستهزاء بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة { إنكم إذاً مثلهم } يعني أنكم يا أيها الجالسون مع المستهزئين بآيات الله إذا رضيتم بذلك فأنتم وهم في الكفر سواء . قال العلماء وهذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر ومن رضي بمنكر أو خالط أهله كان في الإثم بمنزلتهم إذا رضي له وإن لم يباشره فإن جلس إليهم ، ولم يرض بفعلهم بل كان ساخط له وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر فيه أهون من المجالسة مع الرضا وإن جلس مع صاحب بدعة أو منكر ولم يخض في بدعته أو منكره فيجوز الجلوس معه مع الكراهة وقيل لا يجوز بحال والأول أصح { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً } أي إنهم اجتمعوا في الدنيا على الاستهزاء بآيات الله وكذلك يجمعهم في عذاب جهنم يوم القيامة قوله عز وجل : { الذين يتربصون بكم } نزلت في المنافقين والمعنى ينتظرون ما يحدث بكم من خير أو شر { فإن كان لكم فتح من الله } أي ظفر على عدوكم ، وغنيمة تنالونها منهم { قالوا } يعني المنافقين لكم { ألم نكن معكم } يعني في الوقعة والفتح فأعطونا من الغنيمة وقيل معناه ألم نكن على دينكم وفي الجهاد كنا معكم فاجعلوا لنا نصيباً من الغنيمة { وإن كان للكافرين نصيب } أي دولة وظهور على المسلمين { قالوا } يعني المنافقين للكفار { ألم نستحوذ عليكم } الاستحواذ هو الاستيلاء والغلبة يقال استحوذ فلان على فلان أي غلب عليه والمعنى أم نغلبكم ونتمكن منكم ومن قتالكم وأسركم ثم لم نفعل ذلك وقيل معناه ألم نغلبكم على رأيكم { ونمنعكم من المؤمنين } يعني في صلاتهم والدخول في دينهم وقيل معناه ألم ندفع المؤمنين بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إياكم بأخبارهم وأسرارهم فهاتوا نصيباً مما أصبتم منهم ومراد المنافقين إظهار المنة على الكفار .(2/194)
فإن قلت لمَ سمي ظفر المؤمنين فتحاً وسمي ظفر الكافرين نصيباً . قلت تعظيماً لشأن المؤمنين وتخسيساً لحظ الكافرين لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء حتى ينزل النصر على المسلمين وأما ظفر الكفار فما هو إلا حظ دنيء ونصيب خسيس لا يبقى منه إلا ما نالوه ولهم في الآخرة العقوبة الشديدة على ذلك النصيب الذي نالوه من المسلمين { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } يعني الفريقين فريق المؤمنين وفريق المنافقين والمعنى إنما وضع السيف عن المنافقين في الدنيا لا لأجل كرامتهم بل أخر عذابهم إلى يوم القيامة { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } فيه قولان : أحدهما وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس أن المراد به يوم القيامة بدليل أنه عطف على قوله تعالى فالله يحكم بينكم يوم القيامة روي أن رجلاً سأل علي بن أبي طالب عن هذه الآية : { وأن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } وهم يقتلوننا فقال ولن يجعل الله للكافرين يوم القيامة على المؤمنين سبيلاً . والقول الثاني إن هذا في الدنيا والمعنى أن حجة المؤمنين غالبة في الدنيا على الكافرين وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة وقيل معناه إن الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً بأن يمحو دولة المؤمنين بالكلية حتى يستبيحوا بيضتهم فلا يبقى أحد من المؤمنين وقيل معناه إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً بالشرع فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة ويتفرع على ذلك مسائل من أحكام الفقه منها أن الكافر لا يرث المسلم ومنها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم لم يملكه بدليل هذه الآية ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبداً مسلماً ومنها أن المسلم لا يقتل بالذمي بدليل هذه الآية .(2/195)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
قوله تعالى : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } يعني يعاملون الله وهو يجازيهم على خداعهم وقيل معناه يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم يظهرون له الإسلام ويبطنون له الكفر وهو خادعهم يعني والله مجازيهم بالعقاب وقيل إنهم يعطون نوراً يوم القيامة كما يعطى المؤمنون فيمضي المؤمنون بنورهم على الصراط ويطفأ نور المنافقين { وإذا قاموا إلى الصلاة } يعني المنافقين { قاموا كسالى } يعني مثتاقلين وسبب هذا الكسل أنهم يتعبون بها لأنهم لا يريدون بفعلها ثواباً ولا يريدون بها وجه الله عز وجل ولا يخافون على تركها عقاباً لأن الداعي إلى فعلها خوف الناس فلذلك وقع فعلها على وجه الكسل والفتور { يراؤون الناس } يعني أنهم لا يقومون إلى الصلاة إلا لأجل الرياء والسمعة لا لأجل الدين ولا يرون أنها واجبة عليهم قال قتادة والله لولا الناس ما صلّى منافق { ولا يذكرون الله إلا قليلاً } قال ابن عباس إنما قال ذلك لأنهم يفعلونه رياء وسمعة ولو أرادوا بذلك القليل وجه الله لكان كثيراً وقيل لأن الله لم يقبل ولو قبله لكان كثيراً وقبل المراد بذكر الله الصلاة والمعنى أنهم لا يصلون إلا قليلاً لأنهم متى لم يكن معهم أحد من المؤمنين فلا يصلّون وإذا كانوا مع المؤمنين يتكلفون فعلها { مذبذبين بين ذلك } يعني متحيرين مترددين بين الكفر والإيمان لأنهم ليسوا مع المؤمنين المخلصين ولا مع المشركين المصرحين بالشرك وهو وقوله تعالى : { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } يعني ليسوا من المؤمنين حتى يجب لهم ما يجب للمؤمنين وليسوا من الكفار فيؤخذ منهم ما يؤخذ من الكفار { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } يعني طريقاً إلى الهدى ( ق ) عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة إلى هذه مرة » قوله كمثل الشاة العائرة بالعين المهملة ومعناه المتحيرة المترددة لا تدري لأي الغنمين تتبع ومعنى تعير تتردد وتذهب يميناً وشمالاً مرة إلى هذه ومرة إلى هذه لا تدري إلى أين تذهب وهذا مثل المنافق مرة على المؤمنين ومرة مع الكافرين أو ظاهره مع المؤمنين وباطنه مع الكافرين . قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } لما ذم الله عز وجل المنافقين بقوله مذبذبين بين ذلك نهى الله المؤمنين أن يتخلقوا بأخلاق المنافقين يقول لا تولوا الكفار من دون أهل ملتكم ودينكم فتكونوا كمن أوجبت له النار من المنافقين والسبب في هذا النهي أن الأنصار بالمدينة كان لهم من يهود بني النضير وقريظة حلف ومودة ورضاع فقالوا يا رسول الله من نتولى؟ فقال : المهاجرين { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً } يعني أتريدون أيها المتخذون الكفار أولياء أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة باتخاذكم الكفار أولياء من دون المؤمنين فتستوجبوا بذلك النار ثم بيّن مقر النار من المنافقين(2/196)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
فقال تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } يعني في الطبق في قعر جهنم والنار سبع دركات بعضها فوق بعض سميت طبقات جهنم دركات لأنها متداركة متتابعة . وقيل الدرك بيت مقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم وقيل هي توابيت من حديد مقفلة عليهم في النار . فإن قلت لم كان المنافق أشد عذاباً من الكافر؟ قلت إن المنافق مثل الكافر في الكفر وزيادة وهو أنه ضم إلى كفره نوعاً آخر من الكفر أخبث منه وهو الاستهزاء بالإسلام والمسلمين وإفشاء أسرار المسلمين ونقلها إلى الكفار . فلهذا السبب جعل الله عذاب المنافقين أشد عذاباً من الكفار والمنافق من أظهر الإيمان وأبطن الكفر وقيل هو الذي يصف الإسلام بلسانه ولا يعمل بشرائعه ولا يتقيد بقيوده ولا يدخل تحت أحكامه وأما تسمية من ارتكب ما يفسق به منافقاً فللتغليظ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام صلّى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان » فإن هذه الخصال صفات المنافقين فمن فعلها فقد تشبه بالمنافقين . وقوله تعالى : { ولن تجد لهم نصيراً } يعني ولن تجد يا محمد لهؤلاء المنافقين ناصراً ينصرهم من عذاب الله إذا نزل بهم ثم استثنى الله عز وجل من تاب من المنافقين فقال تعالى : { إلا الذين تابوا } يعني من النفاق { وأصلحوا } يعني أصلحوا الأعمال فعملوا بما أمر الله به وأدوا فرائضه وانتهوا عما نهاهم عنه { واعتصموا بالله } يعني وتمسكوا بعهد الله ووثقوا به { وأخلصوا دينهم لله } يعني وأخلصوا طاعتهم وأعمالهم التي عملوها لله وأرادوه بها ولم يريدوا رياء ولا سمعة فهذه الأمور الأربعة إذا حصلت فقد كمل الإيمان فلذلك قال تعالى : { فأولئك } يعني التائبين من النفاق { مع المؤمنين } يعني في الجنة وقيل مع بمعنى من أي المؤمنين { وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً } يعني في الآخرة . قوله تعالى : { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } هذا استفهام تقرير معناه أنه تعالى لا يعذب الشاكر المؤمن فإن تعذيبه لا يزيد في ملكه وتركه عقوبته لا ينقص من سلطانه لأنه الغني الذي لا يحتاج إلى شيء من ذلك فإن عاقب أحداً فإنما يعاقبه لأمر أوجبه العدل والحكمة فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أنقذتم أنفسكم من عذابه قال أهل المعاني فيه تقديم وتأخير تقديره إن آمنتم وشكرتم لأن الإيمان مقدم على سائر الطاعات ولأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان ولأن الواو لا توجب الترتيب وقيل هو على أصله والمعنى أن العاقل ينظر بعين بصيرته أولاً إلى ما عليه من النعمة العظيمة في إيجاده وخلقه فيشكر على ذلك شكراً عظيماً مبهماً ثم إذا تمم النظر ثانياً انتهى به النظر إلى معرفة المنعم عليه فآمن به ثم شكره شكراً مفصلاً فكان ذلك الشكر المبهم مقدماً على الإيمان فلذلك قدم الشكر على الإيمان في الذكر { وكان الله شاكراً } يعني مثيباً عباده المؤمنين موفياً أجورهم والشكر من الله الرضا بالقليل من أعمال عباده وإضعاف الثواب عليه وقيل لما أمر الله عباده بالشكر سمى الجزاء شكراً على سبيل الاستعارة فالمراد من الشاكر في صفة الله تعالى كونه مثيباً على الشكر { عليماً } يعني بحق شكركم ، وإيمانكم فيجازيكم على ذلك .(2/197)
قوله عز وجل : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } قال أهل المعاني يعني أنه تعالى لا يحب الجهر بالسوء ولا غير الجهر به أيضاً من القول يعني من القول القبيح إلا من ظلم قيل هو استثناء متصل والمعنى إلا جهر من ظلم وقيل هو استثناء منقطع ومعناه لكن المظلموم يجوز أن يجهر بظلم الظالم قال العلماء لا يجوز إظهار أحوال الناس المستورة المكتومة لأن ذلك يصير سبباً لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الشخص في الريبة لكن من ظلم فيجوز له إظهار ظلمه فيقول سرق مني أو غصب ونحو ذلك . وإن شتم جاز له أن يشتم بمثله ولا يزيد شيئاً على ذلك ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « المستبان ما قالا فعلى الأول » وفي رواية « فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم » أخرجه مسلم قال ابن عباس : لا يحب الله ان يدعو أحد إلا أن يكون مظلموماً فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله إلا من ظلم وإن صبر فهو خير له وقال الحسن البصري هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ولكن ليقل : اللهم أعني عليه اللهم استخرج لي حقي ، اللهم حل بيني وبين ما يريد ونحوه من الدعاء وقيل نزلت الآية في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ما صنع به قال مجاهد : هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج من عنده فيقول أساء ضيافتي وقال مقاتل نزلت في أبي بكر الصديق وذلك أن رجلاً نال منه والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر فسكت عنه أبو بكر مراراً ثم رد عليه فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئاً حتى إذا رددت عليه قمت ونزلت هذه الآية : { وكان الله سميعاً } يعني لدعاء المظلوم { عليماً } بما في قلبه فليتق الله ولا يقل إلا الحق .(2/198)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
قوله تعالى : { إن تبدوا خيراً } قال ابن عباس يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة والضيافة والصلة . وقيل معناه إن تبدوا خيراً بدلاً من السوء { أو تخفوه } يعني تخفوا الخير فلم تظهروه وقيل معناه إن تبدوا حسنة فتعملوا بها تكتب لكم عشراً وإن هم بها ولم يعملها كتبت له واحدة وقيل إن جميع مقاصد الخيرات على كثرتها محصورة في قسمين : أحدهما صدق النية مع الحق . والثاني التخلق مع الخلق فالذي يتعلق بالخلق ينحصر في قسمين أيضاً وهما إيصال نفع إليهم في السر والعلانية وإليه الإشارة بقوله تعالى : { إن تبدوا خيراً أو تخفوه } أو رفع ضر عنهم وإليه الإشارة بقوله تعالى : { أو تعفوا عن سوء } فيدخل في هاتين الكلمتين جميع أعمال البر وجميع دفع الضر ، وقيل المراد بالخير المال والمعنى إن تبدوا الصدقة فتعطوها الفقراء جهراً أو تخفوها فتعطوها سراً أو تعفوا عن مظلمة { فإن الله كان عفواً قديراً } يعني لم يزل ذا عفو مع قدرته على الانتقام فاعفوا أنتم عمن ظلمكم واقتدوا بسنّة الله عز وجل يعف عنكم يوم القيامة لأنه أهل للتجاوز والعفو عنكم وقيل معناه إن الله كان عفواً لمن عفا قديراً على إيصال الثواب إليه . قوله عز وجل : { إن الذين يكفرون بالله ورسله } نزلت في اليهود وذلك أنهم آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقيل نزلت في اليهود والنصارى جميعاً وذلك أن اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد والنصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين { ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض } يعني ويريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله والإيمان برسله ولا يصح الإيمان مع التكذيب ببعض رسله { ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً } يعني بين الإيمان بالبعض دون البعض يتخذون مذهباً يذهبون إليه وديناً يدينون به { أولئك } يعني من هذه صفتهم { هم الكافرون حقاً } يعني يقيناً وإنما قال ذلك توكيداً لكفرهم لئلا يتوهم متوهم أن الإيمان ببعض الرسل يزيل اسم الكفر عنهم وليعلم أن الكفر ببعض الأنبياء كالكفر بكلهم لأن الدليل الذي يدل على نبوة البعض وهو المعجزة لزم منه أنه حيث وجدت المعجزة حصلت النبوة وقد وجدت المعجزة لجميع الأنبياء فلزم الإيمان بجميعهم { وأعتدنا } يعني وهيأنا { للكافرين عذاباً مهيناً } يعني يهانون فيه .(2/199)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
{ والذين آمنوا بالله ورسله } يعني والذين صدقوا بوحدانية الله ونبوة جميع أنبيائه وأن جميع ما جاؤوا به من عند الله حق وصدق { ولم يفرقوا بين أحد منهم } يعني من الرسل بل آمنوا بجميعهم وهم المؤمنون { أولئك } يعني من هذه صفتهم { سوف يؤتيهم أجورهم } يعني جزاء إيمانهم بالله وبجميع كتبه ورسله { وكان الله غفوراً رحيماً } يعني أنه تعالى لما وعدهم بالثواب أخبرهم أنه يتجاوز عن سيئاتهم ويغفرها لهم ويرحمهم فهو كالترغيب لليهود والنصارى في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم إذا آمنوا غفر لهم ما كان منهم في حال الكفر . قوله تعالى : { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } يعني يسألك يا محمد أهل الكتاب ، وهم اليهود وذلك أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة واحدة من السماء كما أتى موسى بالتوراة وقيل : سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً مختصاً بهم وقيل سألوه أن ينزل عليهم كتاباً إلى فلان وكتاباً إلى فلان ليشهدا لك بأنك رسول الله وكان هذا السؤال من اليهود سؤال تعنت واقتراح لا سؤال استرشاد وانقياد والله تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد ، ولأن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قد تقدمت وظهرت فكان طلب الزيادة من باب التعنت . وقوله تعالى : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } يعني أعظم من الذي سألوك يا محمد ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتوبيخ وتقريع لليهود حيث سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال تعنت والمعنى لا تعظمن عليك يا محمد مسألتهم ذلك فإنهم من فرط جهلهم واجترائهم على الله لو أتيتهم بكتاب من السماء لما آمنوا بك وإنما أسند السؤال إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإن وجد هذا السؤال من آبائهم الذين كانوا في أيام موسى عليه السلام لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومشاكلين لهم في التعنت { فقالوا } يعني أسلاف هؤلاء اليهود { أرنا الله جهرة } يعني عياناً . والمعنى أرناه نره جهرة وذلك ان سبعين من بني إسرائيل خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام إلى الجبل فقالوا ذلك وقد تقدمت القصة في سورة البقرة { فأخذتهم الصاعقة بظلمهم } يعني بسبب ظلمهم وسؤالهم الرؤية { ثم اتخذوا العجل } يعني إلهاً وهم الذين خلفهم موسى مع أخيه هارون حين خرج إلى ميقات ربه { من بعد ما جاءتهم البينات } يعني الدلالات الواضحات الدالة على صدق موسى وهي : العصا واليد وفلق البحر وغير ذلك من المعجزات الباهرة { فعفونا عن ذلك } يعني عن ذلك الذنب العظيم فلم نستأصل عبدة العجل .(2/200)
والمقصود من هذا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى أن هؤلاء الذين يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتاباً من السماء إنما يطلبونه عناداً ولجاجاً فاني قد أنزلت التوراة جملة واحدة على موسى وآتيته من المعجزات الباهرات والآيات البينات ما فيه كفاية ثم إنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وعبدوا العجل وكل ذلك يدل على جهلهم وأنهم مجبولون على اللجاج والعناد . وفي قوله فعفونا عن ذلك استدعاء إلى التوبة . والمعنى أن أولئك الذين أجرموا لما تابوا عفونا عنهم فتوبوا أنتم نعف عنكم { وآتينا موسى سلطاناً مبيناً } يعني حجة واضحة تدل على صدقه وهي المعجزات الباهرات التي أعطاها الله عز وجل لموسى عليه السلام قوله عز وجل : { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم } يعني ورفعنا فوقهم الجبل المسمى بالطور بسبب أخذ ميثاقهم وذلك أن بني إسرائيل امتنعوا من قبول التوراة والعمل بما فيها فرفع الله فوقهم الطور حتى أظلهم ليخافوا فلا ينقضوا العهد والميثاق { وقلنا لهم } يعني والطور يظلهم { ادخلوا الباب سجداً } فخالفوا ودخلوا وهم يزحفون على أستاههم { وقلنا لهم لا تعدوا في السبت } يعني وقلنا لهم لا تجاوزوا في يوم السبت إلى ما لا يحل لكم فيه . وذلك أنهم نهوا أن يصطادوا السمك في يوم السبت فاعتدوا واصطادوا فيه ، وقيل المراد به النهي عن العمل والكسب في يوم السبت { وأخذنا منهم ميثاقاً غلظياً } يعني وأخذنا منهم عهداً مؤكداً شديداً بأن يعملوا بما أمرهم الله به وأن ينتهوا عما نهاهم الله عنه ثم إنهم نقضوا ذلك الميثاق وهو قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم } يعني فبنقضهم وما مزيدة للتوكيد والمعنى فبسبب نقضهم ميثاقهم لعناهم وسخطنا عليهم وفعلنا بهم ما فعلنا { وكفرهم بآيات الله } يعني وبجحودهم بآيات الله الدالة على صدق أنبيائه { وقتلهم قلوبنا غلف } يعني وبقولهم على قلوبنا أغطية وغشاوة فهي لا تفقه ما تقول جمع أغلف وقيل جمع غلاف يعني قلوبنا أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى ما تدعونا إليه فرد الله عليهم بقوله : { بل طبع الله عليها بكفرهم } يعني بل ختم الله على قلوبهم بسبب كفرهم { فلا يؤمنون إلا قليلاً } يعني إيمانهم بموسى والتوراة وكفرهم بما سواه من الأنبياء والكتب وقيل لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً وقيل المراد بالقليل هو عبدالله بن سلام وأصحابه والذين آمنوا من اليهود .(2/201)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
قوله تعالى : { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً } يعني حين رموها بالزنا وذلك أنهم أنكروا قدرة الله تعالى على خلق الولد من غير أب ومنكر قدرة الله كافر . فالمراد بقوله وبكفرهم هو إنكارهم قدرة الله تعالى والمراد بقولهم على مريم بهتاناً عظيماً هو رميهم إياها بالزنا وإنما سماه بهتاناً عظيماً لأنه قد ظهر عند ولادة مريم من المعجزات ما يدل على براءتها من ذلك فلهذا السبب وصف الله قول اليهود على مريم بالبهتان العظيم .
قوله عز وجل : { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } ادعت اليهود أنهم قتلوا عيسى عليه السلام وصدقتهم النصارى على ذلك فكذبهم الله عز وجل جميعاً وردّ عليهم بقوله : { وما قتلوه وما صلبوه } وفي قول رسول الله قولان : أحدهما أنه من قول اليهود فيكون المعنى أنه رسول الله على زعمه . والقول الثاني أن من قول الله لا على وجه الحكاية عنهم وذلك أن الله تعالى أبدل ذكرهم في عيسى عليه السلام القول القبيح بالقول الحسن رفعاً لدرجته عما كانوا يذكرونه من القول القبيح .
وقوله تعالى : { ولكن شبه لهم } يعني ألقى شبه عيسى غيره حتى قتل وصلب . واختلف العلماء في صفة التشبيه الذي شبه على اليهود في أمر عيسى عليه السلام . فروى الطبري بسنده عن وهب بن منبه أنه قال أتى اليهود عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليهم صورهم الله تعالى كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم : سحرتمونا لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعاً فقال عيسى لأصحابه من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة فقال رجل منهم أنا فخرج إليهم فقال : أنا عيسى وقد صوره الله تعالى على صورة عيسى فأخذوه وصلبوه فمن ثم شبه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى وظنت النصارى مثل ذلك . ورفع الله عز وجل عيسى عليه السلام من يومه ذلك . وفي رواية أخرى عن وهب أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه : ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات وليبيعني بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأخذوا شمعون أحد الحواريين . فقالوا هذه من أصحاب عيسى فجحد وقال : ما أنا بصاحبه فتركوه ثم أخذوا آخر فجحد كذلك فلما أصبح أتى بعض الحواريين إلى اليهود وكان منفاقاً فقال ما تجعلون لي إن أنا دللتكم على المسيح فجعلوا له ثلاثين درهماً فدلهم عليه فألقى الله شبه عيسى على ذلك المنافق الذي دل عليه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى . وقال قتادة إن أعداء الله اليهود زعموا انهم قتلوا عيسى وأصلبوه وذكر لنا أن نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام قال لأصحابه أيكم يقذف عليه شبهي وله الجنة فانه مقتول فقال وجل منهم حبسوا عيسى في بيت وجعلوا عليه رقيباً يحفظه فألقى الله شبه عيسى على ذلك للرقيب فأخذ فقتل وصلب فرفع الله عز وجل عيسى في ذلك الوقت .(2/202)
قال الطبري وأولى الأقوال بالصواب ما ذكرنا عن وهب بن منبه من أن شبه عيسى ألقى على جميع من كان مع عيسى في البيت حين أحيط بي وبهم من غير مسألة عيسى إياهم ذلك ولكن ليخزي الله بذلك اليهود وينقذ به نبيه عيسى عليه السلام من كل مكروه أرادوه به من قتل وغيره وليبتلي الله من أراد ابتلاءه من عباده ويحتمل أن يكون ألقى شبهه على بعض أصحابه بعد ما تفرق عنه أصحابه ورفع الله عيسى عليه السلام . وبقي ذلك فأخذ وقتل وصلب وظن أصحابه واليهود أن الذي قتلوه وصلبوه وهو عيسى لما رأوا من شبهه به وخفي أمر عيسى عليهم وكانت حقيقة ذلك الأمر عند الله فلذلك قال تعالى : { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } { وإن الذين اختلفوا فيه } يعني في قتل عيسى وهم اليهود { لفي شك منه } يعني من قتله وذلك أن اليهود قتلوا ذلك الشخص المشبه بعيسى وكان قد ألقي الشبه على وجه ذلك الشخص دون جسده فلما قتلوه نظروا إلى جسده فوجدوه غير جسد عيسى فقالوا : الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره فهذا هو اختلافهم فيه وقيل : إن اليهود لما حبسوا عيسى وأصحابه في البيت دخل عليه رجل منهم ليخرجه إليهم . فألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل فأخذ وقتل ورفع الله عز وجل عيسى إلى السماء وفقدوا صاحبهم فقالوا : إن كنا قتلنا المسيح فأين صاحبنا؟ وإن كنا قتلنا صاحبنا فأين المسيح عيسى؟ فهذا هو اختلافهم فيه وقيل إن الذين اختلفوا فيه هم النصارى فبعضهم يقول إن القتل وقع على ناسوت عيسى دون لاهوته وبعضهم يقول وقع القتل عليهما جميعاً وبعضهم يقول رأيناه قتل وبعضهم يقول رأيناه رفع السماء فهذا هو اختلافهم فيه قال الله تعالى : { ما لهم به من علم } يعني أنهم قتلوا من قتلوا على شك منهم فيه ولم يعرفوا حقيقة ذلك المقتول هل هو عيسى أو غيره { إلاّ اتباع الظن } يعني لكن يتبعون الظن في قتله ظناً منهم أنه عيسى لا عن علم وحقيقة { وما قتلوه يقيناً } قال ابن عباس : يعني لم يقتلوا يقيناً فعلى هذا القول تكون الهاء في قتلوه عائدة على الظن . والمعنى مما قتلوا ذلك الظن يقيناً ولم يزل ظنهم ولم يرتفع ما وقع لهم من الشبه في قتله فهو كقول العرب قتله علماً وقتله يقيناً يعني علمه علماً تاماً . وأصل ذلك أن القتل للشيء يكون عن قهر واستيلاء وغلبة وكمعنى الآية على هذا لم يكن علمهم بقتل عيسى علماً تاماً كاملاً إنما كان ظناً منهم إنهم قتلوه ولم يكن لذلك حقيقة .(2/203)
وقيل إن الهاء في قتلوه عائدة على عيسى والمعنى ما قتلوا المسيح يقيناً كما ادعوا أنهم قتلوه وقيل أن قوله يقيناً يرجع إلى ما بعده تقديره وما قتلوه { بل رفعه الله إليه } يقيناً والمعنى أنهم لم يقتلوا عيسى ولم يصلبوه ولكن الله عز وجل رفعه إليه وطهره من الذين كفروا وخلصه ممن أراده بسوء وقد تقدم كيف كان رفعه في سورة آل عمران بما فيه كفاية . وقوله تعالى : { وكان الله عزيزاً } يعني اقتداره على من يشاء من عباده { حكيماً } يعني في إنجاء عيسى عليه السلام وتخليصه من اليهود . وقيل عزيزاً يعني منيعاً منتقماً من اليهود فسلط عليهم ينطيونس بن اسبسيانوس الرومي فقتل منهم مقتله عظيمة حكيماً حكم باللعنة والغضب على اليهود حيث ادعوا هذه الدعوى الكاذبة .(2/204)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
قوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب } يعني وما من أحد من أهل الكتاب { إلاّ ليؤمنن به } يعني بعيسى عليه السلام وأنه عبدالله ورسوله وروحه وكلمته هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين وقال عكرمة في قوله إلاّ ليؤمنن به يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا القول لا وجه له لأنه لم يجر للنبي صلى الله عليه وسلم ذكر قبل هذه الآية حتى يرجع الضمير إليه وقول الأكثرين الأولى لأنه تقدم ذكر عيسى عليه السلام فكان عود الضمير إليه أولى { قبل موته } اختلف المفسرون في هذا الضمير إلى من يرجع؟ فقال ابن عباس وأكثر المفسرين إن الضمير يرجع إلى الكتابي والمعنى وما من أحد من أهل الكتاب إلاّ آمن بعيسى قبل موت ذلك الكتابي ولكن يكون ذلك الإيمان عند الحشرجة حين لا ينفعه إيمانه قال ابن عباس : معناه إذا وقع في اليأس حين لا ينفعه إيمانه سواء احترق أو تردى من شاهق أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة فقيل له أرأيت إن خر من فوق بيت قال : يتكلم به في الهواء فقيل له أرأيت إن ضربت عنقه قال يتلجلج به لسانه وقال شهر بن حوشب إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة بأجنحتها وجهه ودبره وقالوا يا عدو الله أتاك موسى نبياً فكذبت به فيقول آمنت إنه عبدالله ورسوله وتقول للنصراني أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه الله وابن الله فيقول آمنت أنه عبدالله فأهل الكتابين يؤمنون به ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان وذهب جماعة من أهل التفسير إلى أن الضمير يرجع إلى عيسى السلام وهو رواية عن ابن عباس أيضاً والمعنى وما من أحد من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتابين إلاّ من آمن بعيسى حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام قال عطاء إذا نزل عيسى إلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد يعبد غير الله إلاّ آمن بعيسى وأنه عبدالله وكلمته ويدل على صحة هذا القول ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد » زاد في رواية : « حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها » ثم يقول أبو هريرة : « اقرؤوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به قبل موته » الآية وفي رواية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/205)
« والله لينزلن فيكم ابن مريم حكماً عادلاً فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسعى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد » أخرجاه في الصحيحين . ففي هذا الحديث دليل على أن عيسى ينزل في آخر الزمان في هذه الأمة ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينزل نبياً نبياً برسالة مستقلة وشريعة ناسخة بل يكون حاكماً من حكام هذه الأمة وإماماً من أئمتهم لقوله صلى الله عليه وسلم فيكسر الصليب يعني يكسره حقيقة ويبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه . وكذلك قتله الخنزير وقوله ويضع الجزية يعني لا يقبلها ممن بدلها من اليهود والنصارى . ولا يقبل من أحد إلاّ الإسلام أو القتل وعلى هذا قد يقال هذا خلاف منا هو حكم الشرع اليوم فإن الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها منه ولم يجر قتله ولا إجباره على الإسلام والجواب أن هذا الحكم ليس مستمر إلى يوم القيامة بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى عليه السلام وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بنسخه وليس الناسخ هو عيسى عليه السلام يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والله أعلم . قال الزجاج هذا القول بعيد يعني قول من قال إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان قال لعموم قوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به } قال والذين يبقون يومئذٍ يعني عند نزوله شرذمة قليلة منهم وأجاب أصحاب هذا القول يعني الذين يقولون إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان بأن هذا على العموم . ولكن المراد بهذا العموم الذين يشهدون ذلك الوقت ويدركون نزوله فيؤمنون به ويكون معنى الآية وما من أحد ، من أهل الكتاب أدرك ذلك الوقت إلاّ آمن بعيسى عند نزوله من السماء وصحح الطبري هذا القول وقال عكرمة في معنى الآية وإن أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي فلا يموت يهودي ولا نصراني حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك عند الحشرجة حتى لا ينفعه إيمانه .
وقوله تعالى : { ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } يعني يكون عيسى عليه السلام شاهداً على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه وعلى النصارى أنهم اتخذوه رباً وأشركوا به ويشهد على تصديق من صدقه منهم وآمن به قال قتادة معناه إنه يكون شهيداً يوم القيامة إنه قد بلغ رسالة ربه وأقر على نفسه بالعبودية .
قوله عز وجل : { فبظلم من الذين هادوا } يعني فبسبب ظلم منهم { حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } يعني ما حرمنا عليم الطيبات التي كانت حلالاً لهم إلاّ بظلم عظيم ارتكبوه وذلك الظلم هو ما ذكره من نقضهم الميثاق وما عدد عليهم من أنواع الكفر والكبائر العظيمة مثل قولهم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وكقولهم أرنا الله جهرة وكعبادتهم العجل فبسبب هذه الأمور حرم الله عليهم طيبات كانت حلالاً لهم وهي ما ذكره في سورة الأنعام في قوله :(2/206)
{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } الآية وقال الطبري : في معنى الآية فحرمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم به وكفروا بآيات الله ، وقالوا أنبيائهم وقالوا البهتان على مريم وفعلوا ما وصفهم الله به في كتابه طيبات من المآكل وغيرها التي كانت لهم حلالاً عقوبة لهم بظلمهم الذي أخبر الله عنهم في كتابه . وروي عن قتادة قال عوقب القوم بظلم ظلموه وبغي بغوة وحرمت عليهم أشياء ببغيهم وظلمهم . ونقل الواحدي وابن الجوزي عن مقاتل قال كان الله حرم على أهل التوراة أن يأكلوا الربا ونهاهم أن يأكلوا أموال الناس ظلماً فأكلوا الربا وأكلوا أموال الناس وظلموا بالباطل وصدوا عن دين الله وعن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فحرم الله عليهم عقوبة لهم ما ذكر في قوله : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } الآية قال الواحدي فأما وجه تحريم الطيبات عليهم كيف ومتى كان على لسان من حرم عليهم فلم أجد فيه شيئاً انتهى إليه فتركه ولقد أنصف الواحدي فيما قال فإن هذه الآية في غاية الإشكال وبيانه إن الله تعالى لا يعاقب على ذنب قبل وقوعه وقد ذكر المفسرون في معنى الظلم المذكور في الآية ما تقدم ذكره وكلها ذنوب في المستقبل . فإن قلت علم الله وقوع هذه الذنوب منهم قبل وقوعها لحرم عليهم ما حرم من الطيبات التي كانت لهم حلالاً عقوبة لهم على ما سيقع منهم قلت جوابه ما تقدم وهو أن الله تعالى لا يعاقب على ذنب قبل وقوعه ولهذا لم يذكر الإمام فخر الدين في تفسير هذه الاية ما ذكره المفسرون بل ذكر تفسيراً إجمالياً فقال أعلم أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين : الظلم للخلق والأعراض عن الدين الحق ، وأما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله { وبصدهم عن سبيل الله كثيراً } .(2/207)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
{ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه } ثم إنهم مع ذلك في غاية الحرص على طلب المال فتارة يحصلونه بطريق الربا مع أنهم قد نهوا عنه وتارة يحصلونه بطريق الرشا وهو المراد بقوله { وأكلهم أموال الناس بالباطل } فهذه الأربعة هي الذنوب التي شدد عليهم بسببها في الدنيا والآخرة ، أما التشديد في الدنيا فهو ما تقدم من تحريم الطيبات عليهم وأما التشديد في الآخرة فهو المراد بقوله تعالى : { وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً } قال المفسرون : إنما قال منهم لأن الله علم أن قوماً منهم سيؤمنون فيأمنون من العذاب .
قوله تعالى : { لكن الراسخون في العلم منهم } يعني من اليهود وهذا استثناء الله عز وجل من آمن من أهل الكتاب ممن تقدم وصفهم في الآيات التي تقدمت فبين فيما تقدم حال كفار اليهود والجهال منهم وبين في هذه الآية حال من هداه لدينه منهم وأرشده للعمل بما علم فقال لكن الراسخون في العلم ولكن هنا بمعنى الاستدراك والاستثناء والراسخون في العلم الثابتون في العلم البالغون فيه أولو البصائر الثاقبة والعقول الصافية وهم عبدالله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من أهل الكتاب لأنهم رسخوا في العلم وعرفوا حقيقته فأوصلهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { والمؤمنون } يعني بالله ورسله { يؤمنون بما أنزل إليك } يعني بالقرآن الذي أنزل إليك { وما أنزل من قبلك } يعني ويؤمنون بسائر الكتاب التي أنزلها الله على أنبيائه من قبله يا محمد وفي المراد بالمؤمنين ها هنا قولان : أحدهما إنهم أهل الكتاب فيكون المعنى لكن الراسخون في العلم منهم وهم المؤمنون . والقول الثاني أنهم المهاجرون والأنصار من هذه الأمة فيكون قوله والمؤمنون ابتداء كلام مستأنف يؤمنون بما أنزل إليك يعني أنهم يصدقون بالقرآن الذي أنزل إليك يا محمد وما أنزل من قبلك { والمقيمين الصلاة } اختلف العلماء في وجه نصبه فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان أنه غلط من الكتاب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة . وقال عثمان بن عفان إن في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتهم فقيل له أفلا تغيره؟ فقال دعوه فإنه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً وذهب عامة الصحابة وسائر العلماء من بعدهم إلى أنه لفظ صحيح ليس فيه من خطأ من كاتب ولا غيره وأجيب عما روي عن عثمان بن عفان وعن عائشة وأبان بن عثمان بأن هذا بعيد جداً لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة والقدرة على ذلك فكيف يتركون في كتاب الله لحناً يصلحه غيرهم فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم . قال ابن الأنباري : ما روي عن عثمان لا يصلح لأنه غير متصل ومحال أن يؤخر عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه غيره ولأن القرآن منقول بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟ وقال الزمخشري في الكشاف ولا يلتفت إلى ما زعموا من قوع لحن في خط المصحف وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب يعني كتاب سيبويه ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص والمدح من الافتتان وهو باب قد ذكره سيبويه على أمثلة وشواهد وربما غبي عليه أن السابقين الأولين كانوا أبعد همة في الغيرة في الإسلام وذب الطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله عز وجل ثلمة يسدها من بعدهم وخرقاً يرفؤه من يلحن بهم ثم اختلف العلماء في المقيمين الصلاة أهم الراسخون في العلم أم غيرهم؟ على قولين : أحدهما إنهم هم وإنما نصب على المدح والمعنى أذكر المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة قالوا العرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد ونعته وإذا تطاولت بمدح أو ذم فربما خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه أحياناً ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوله وربما أجروا إعراب آخره على إعراب أوسطه وربما أجروا ذلك على نوع واحد من الإعراب واستشهدوا على معنى الآية :(2/208)
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر
وهذا على معنى أذكر النازلين وهم الطيبون ومن هذا المعنى تقول جاءني المطعمين وهم المعينون . والقول الثاني أن المقيمين الصلاة غير الراسخين في العلم وموضع والمقيمين الصلاة خفض بالعطف على قوله تعالى بما أنزله إليك فعلى هذا القول يكون معنى الآية : { والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة } وهم الأنبياء لأنه لم يخل شرع أحد منهم عن إقامة الصلاة وقيل المراد بهم الملائكة لأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون وصحح الزجاج القول الأول واختاره وصحح الطبري القول الثاني واختاره .
وقوله تعالى : { والمؤتون الزكاة } عطف على والمؤمنون لأنه من صفتهم { والمؤمنون بالله واليوم الآخر } يعني والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب وبالعقاب { أولئك } يعني من هذه الأوصاف صفته { سنؤتيهم أجراً عظيماً } يعني سنعطيهم على ما كان منهم من طاعة الله وإتباع أمره ثواباً عظيماً وهو الجنة .(2/209)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
قوله عز وجل : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلىنوح والنبيين من بعده } قال ابن عباس قال سكين وعدي بن زيد يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء من بعد موسى فأنزل الله هذه الآيات وقيل هو جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء جملة وأحدة فأجاب الله عز وجل من سؤالهم بهذه الآية فقال : إنا أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى نوح أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده والمعنى إنكم يا معشر اليهود تقرون بنبوة نوح وبجميع الأنبياء المذكورين في هذه الآية وهم اثنا عشر نبياً والمعنى أن الله تعالى أوحى إلى هؤلاء الأنبياء وأنتم يا معشر اليهود معترفون بذلك وما أنزل الله على أحد من هؤلاء المذكورين كتاباً جملة واحدة مثل ما أنزل على موسى فلما لم يكن عدم إنزال الكتاب جملة واحدة على أحد هؤلاء الأنبياء قادحاً في نبوته فكذلك لم يكن إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم قادحاً في نبوته بل قد أنزل عليه كما أنزل عليهم . قال المفسرون وإنما بدأ الله عز وجل بذكر نوح عليه السلام لأنه أول نبي بعث بشريعة وأول نذير على الشرك وأنزل الله عز وجل عليه عشر صحائف وكان أول من عذبت أمته لردهم دعوته وأهلك أهل الأرض بدعائه وكان أبا البشر كآدم عليهما السلام وكان أطول الأنبياء عمراً عاش ألف سنة لم تنقص قوته ولم يشب ولم تنقص له سن وصبر على أذى قومه طول عمره ثم ذكر الله الأنبياء من بعده جملة بقوله تعالى : { والنبيين من بعده } ثم خص جماعة من الأنبياء بالذكر لشرفهم وفضلهم فقال { وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } وهم أولاد يعقوب وكانوا اثنى عشر { وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داو ذبوراً } يعني وآتينا داود كتاباً مزبوراً يعني مكتوباً . وقيل : الزبور بالفتح اسم الكتاب الذي أنزل على داود وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام بل كلها تسبيح وتقديس وتمجيد وثناء على الله عز وجل ومواعظ وكان داود عليه السلام يخرج إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور وتقوم علماء بني إسرائيل خلفه ويقوم الناس خلف العلماء وتقوم الجن خلف الناس والشياطين خلف الجن وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه وترفرف الطير على رؤوس الناس وهم يستمعون لقراءة داود ويتعجبون منها فلما قارف الذنب زال عنه ذلك وقيل له ذلك أنس الطاعة وهذا ذل المعصية ( ق ) عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك لقد أعطيت مزماراً من مزامير آل داود » قال الحميدي زاد البرقاني قلت والله يا رسول الله لو علمت إنك تسمع لقراءتي لحبرتها لك تحبيراً ، التحبير تحسين الصوت بالقراءة قال بعض العلماء إنما لم يذكر موسى في هذه الآية لأن الله أنزل عليه التوراة جملة واحدة وكان المقصود بذكر من ذكر من الأنبياء في الآية أنه لم ينزل على أحد منهم كتاباً جملة واحدة فلهذا لم يذكر موسى عليه السلام .(2/210)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
قوله تعالى : { ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل } لما نزلت هذه الآية المتقدمة قالت اليهود ما لموسى لم يذكر؟ فأنزل الله هذه الآية وفيها ذكر موسى عليه السلام والمعنى وأوحينا إلى رسل قد قصصنا عليك من قبل يعني سميناهم في القرآن وعرفناك أخبارهم وإلى من بعثوا وما ورد عليهم من قومهم { ورسلاً لم نقصصهم عليك } أي لم نسمهم لك ولم نعرفك أخبارهم قال أهل المعاني الذين نوه الله بذكرهم من الأنبياء يدل على تفضيلهم على من لم يذكر ولم يسم .
وقوله تعالى : { وكلم الله موسى تكليماً } يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة لأن تأكيد كلم بالمصدر يدل على تحقيق الكلام وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بلا شك لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر فلا يقال أراد الحائط يسقط إرادة . وهذا رد على من يقول إن الله خلق كلاماً في محل فسمع موسى ذلك الكلام وقال الفراء العرب تسمى كل ما يوصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصل لكن لا تحققه بالمصدر وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلاّ حقق بالمصدر لم يكن إلاّ حقيقة الكلام فدل قوله تعالى تكليماً على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة . وروى الطبري بسنده من عدة طرق عن كعب الأحبار قال لما كلم الله موسى عليه السلام بالألسنة كلها قبل كلامه يعني كلام موسى بلسانه فجعل موسى يقول يا رب لا أفهم حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة فقال : يا رب هكذا كلامك قال لو سمعت كلامي يعني على وجهه لم تك شيئاً قال موسى : يا رب هل في خلقك شيء يشبه كلامك قال لا وأقرب خلقي شبهاً بكلامي أشد ما تسمع الناس من الصواعق قال بعض العلماء كما أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحاً في نبوة غيره من الأنبياء فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحاً في نبوة من أنزل عليه كتابه متفرقاً من الأنبياء .
قوله عز وجل : { رسلاً مبشرين ومنذرين } يعني : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } ومن أولئك النبيين أرسلت رسلاً إلى خلقي مبشرين من أطاعني واتبع أمري وصدق رسلي بالثواب الجزيل في الجنة ومنذرين من عصاني وخالف أمري وكذب رسلي بالعذاب الأليم في النار . وقيل هو جواب عن سؤال اليهود إنزال الكتاب جملة واحدة والمعنى أن المقصود من بعثة الرسول هو إرشاد الخلق إلى معرفة الله وتوحيده والإيمان به والاشتغال بعبادته وإنذار من خالف ذلك وهذا المقصود يحصل بإنزال الكتاب جملة واحدة وبإنزاله نجوماً متفرقة بل إنزاله متفرقاً أولى .(2/211)
وذلك أن النفوس قبل بعثة الرسل وإنزال الكتب لم تكن تعرف شيئاً من العبادات ولم تألفها فإذا نزل الكتاب جملة واحدة وفيه جميع التكاليف ربما حصل في بعض نفوس العباد نفور العباد نفور من تلك التكاليف وتثقل عليهم كما أخبر الله عن قوم موسى بقوله تعالى : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه } فلم يقبلوا أحكام التوراة إلاّ بعد شدة فلهذا السبب كان إنزال القرآن نجوماً متفرقة أولى .
وقوله تعالى : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } يعني بعد إرسال الرسل وإنزال الكتاب والمعنى لئلا يحتج الناس على الله في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولاً وما أنزلت علينا كتاباً ففيه دليل على أنه لو لم يبعث الرسل لكان للناس عليه حجة في ترك التوحيد والطاعة وفيه دليل على ان الله لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل كما قال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة الله تعالى لا تثبت إلاّ بالسمع لأن قوله : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } يدل على أن قبل بعثة الرسل تكون لهم الحجة في ترك الطاعات والعبادات . فإن قلت كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل والخلق محجوبون بما نصب من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى معرفته ووحدانيته كما قيل :
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
قلت الرسل منبهون من رقاد الغفلة والجهالة وباعثون الخلق إلى النظر في تلك الدلائل التي تدل على وحدانيته سبحانه وتعالى ومبينون لها وهم وسائط بين الله تعالى وخلقه ومبينونه أحكام الله تعالى التي افترضها على عباده ومبلغون رسالته إليهم ( ق ) عن المغيرة بن شعبة قال : قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أتعجبون من غيره سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيره الله حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ، ومن أجل ذلك وعد الجنة » لفظ البخاري وفي لفظ مسلم ولا شخص أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين . وقوله تعالى : { وكان الله عزيزاً } يعني في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله { حكيماً } يعني في إرساله الرسل .(2/212)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
قوله تعالى : { لكن الله يشهد بما أنزل إليك } قال ابن عباس دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود فقال لهم : « إني والله أعلم أنكم لتعلمن أني رسول الله » فقالوا ما نعلم ذلك فأنزل الله هذه الآية وفي رواية ابن عباس أن رؤوساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد إنا سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم فزعموا أنهم لا يعرفونك فأنزل الله عز وجل لكن الله يشهد بما أنزل إليك يعني إن جحدك هؤلاء اليهود يا محمد وكفروا بما أوحينا إليك وقالوا : ما أنزل الله على بشر من بشر من شيء فقد كذبوا فيما ادعوا فإن الله يشهد لك بالنبوة ويشهد بما أنزل إليك من كتابه ووحيه . والمعنى أن اليهود وإن شهدوا أن القرآن لم ينزل عليك يا محمد لكن الله يشهد بأنه أنزل عليك وشهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل هذا القرآن البالغ في الفصاحة والبلاغة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته ، والإيمان بمثله فكان ذلك معجزاً وإظهار المعجزة شهادة يكون المدعي صادقاً لا جرم قال الله تعالى لكن الله يشهد لك يا محمد بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله عليك { أنزله بعلمه } يعني أنه تعالى لما قال لكن الله يشهد بما أنزل إليك بين صفة ذلك الإنزال وهو أنه تعالى أنزله بعلم تام وحكمة بالغة وقيل معناه أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله عليك وأنك مبلغه إلى عباده وقيل معناه أنزله بما علم من مصالح عباده في إنزاله عليك { والملائكة يشهدون } يعني يشهدون بأن الله أنزله عليك ويشهدون بتصديقك وإنما عرفت شهادة الملائكة لأن الله تعالى إذا شهد بشيء شهدت الملائكة بذلك الشيء . وقد ثبت أن الله يشهد بأنه أنزله بعلمه فلذلك الملائكة يشهدون بذلك { وكفى بالله شهيداً } يعني وحسبك يا محمد أن الله يشهد لك وكفى بالله شهيداً وإن لم يشهد معه أحد غيره ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن شهادة أهل الكتاب له فإن الله يشهد له وملائكته كذلك .
قوله عز وجل : { إن الذين كفروا } يعني جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود { وصدوا عن سبيل الله } يعني منعوا غيرهم عن الإيمان به بكتمان صفته وإلقاء الشبهات في قلوب الناس وهو قولهم لو كان محمد رسولاً لأتى بكتاب من السماء جملة واحدة كما أتى موسى بالتوراة { قد ضلوا ضلالاً بعيداً } يعني عن طريق الهدى { إن الذين كفروا وظلموا } يعني كفروا بالله وظلموا محمداً صلى الله عليه وسلم بكتمان صفته وظلموا غيرهم بإلقاء الشبهة في قلوبهم { لم يكن الله ليغفر لهم } يعني لمن علم منهم أنهم يموتون على الكفر وقيل معناه لم يكن الله ليستر عليهم قبائح أفعالهم بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم عليها بالقتل والسبي والجلاء في الآخرة بالنار وهو قوله تعالى : { ولا ليهديهم طريقاً } يعني ينجون فيه من النار وقيل ولا ليهديهم طريقاً إلى الإسلام لأنه قد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون { إلاّ طريق جهنم } يعني لكنه تعالى يهديهم إلى طريق يؤدي إلى جهنم وهي اليهودية لما سبق في علمه أنهم أهل لذلك { خالدين فيها } يعني في جهنم { أبداً وكان ذلك على الله سيراً } يعني هيناً .(2/213)
قوله عز وجل : { يا أيها الناس } هذا خطاب عام يدخل فيه جميع الكفار من اليهود والنصارى وعبادة الأصنام وغيرهم وقيل هو خطاب لمشركي العرب { قد جاءكم الرسول } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { بالحق } يعني بدين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده وقيل جاء بالقرآن الذي هو الحق { من ربكم } يعني من عند ربكم { فآمنوا خيراً لكم } يعني فآمنوا بما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم يكن الإيمان بذلك خيراً لكم يعني من الكفر الذي أنتم عليه { وإن تكفروا } يعني وإن تجحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتكذبوا بما جاءكم من الحق من ربكم { فإن لله ما في السموات والأرض } يعني فإن الله هو الغني عن إيمانكم لأن له ما في السموات والأرض ملكاً وعبيداً ومن كان كذلك لم يكن محتاجاً إلى شيء وأنه قادر على من يشاء { وكان الله عليماً } يعني بما يكون منكم لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده فيجزي كل عامل بعمله { حكيماً } يعني في تكليفهم مع علمه بما يكون منكم .(2/214)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
قوله عز وجل : { يا أهل الكتاب } نزلت هذه الآية في النصارى وذلك أن الله تعالى لما أجاب عن شبه اليهود فيما تقدم من الآية اتبع ذلك بإبطال ما تعتقده النصارى وأصناف أربعة : اليعقوبية والملكانية والنسطورية والمرقوسية ، فأما اليعقوبية والملكانية فقالوا في عيسى أنه الله وقالت النسطورية إنه ابن الله وقالت المرقوسية ثالث ثلاثة وقيل : إنهم يقولون إن عيسى جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وبأقنوم الابن وأقنوم روح القدس وأنهم يريدون بأقنوم الأب الذات وأقنوم الابن عيسى . وبأقنوم روح القدس الحياة الحالة فيه فتقديره عندهم الإله ثلاثة ، وقيل إنهم يقولون في عيسى ناسوتية وألوهية فناسوتيته من قبل الأم وألوهيته من قبل الأب تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً يقال إن الذين أظهر هذا للنصارى رجل من اليهود يقال له بولص تنصر ودس هذا في دين النصارى ليضلهم بذلك . وستأتي قصته في سورة التوبة إن شاء الله تعالى وقيل يحتمل أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى جميعاً . فإنهم غلوا في أمر عيسى عليه السلام . فأما اليهود فإنهم بالغوا في التقصير في أمره حتى حطوه عن منزلته حيث جعلوه مولوداً لغير رشده وغلت النصارى في رفع عيسى عن منزلته ومقداره حيث جعلوه إلهاً فقال الله تعالى رداً عليهم جميعاً يا أهل الكتاب { لا تغلوا في دينكم } وأصل الغلو مجاوزة الحد وهو في الدين حرام والمعنى لا تفرطوا في أمر عيسى ولا تحطوه عن منزلته ولا ترفعوه فوق قدره ومنزلته { ولا تقولوا على الله إلاّ الحق } يعني لا تقولوا إن له شريكاً وولداً وقيل معناه لا تصفوه بالحلول والاتحاد في بدن الإنسان ونزهوا الله تعالى عن ذلك ، ولما منعهم الله من الغلو في دينهم أرشدهم إلى طريق الحق في أمر عسى عليه السلام فقال تعالى : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } يقول إنما المسيح هو عيسى ابن مريم ليس له نسب غير هذا وأنه رسول الله فمن زعم هذا فقد كفر وأشرك { وكلمته } هي قوله تعالى : كن فكان بشراً من غير أب ولا واسطة { ألقاها إلى مريم } يعني أوصلها إلى مريم { وروح منه } يعني أنه كسائر الأرواح التي خلقها الله تعالى وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال بيت الله وناقة الله . وهذه نعمة الله يعني أنه تفضل بها وقيل الروح هو الذي نفخ فيه جبريل في جيب درع مريم فحملت بإذن الله . وإنما أضافه إلى نفسه بقوله منه لأنه وجد بأمر الله قال بعض المفسرين إن الله تعالى لما خلق أرواح البشر جعلها في صلب آدم عليه السلام ، وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام فلما أراد الله أن يخلقه أرسل بروحه مع جبريل إلى مريم فنفخ في جيب درعها فحملت بعيسى عليه السلام وقيل إن الروح والريح متقاربان في كلام العرب ، فالروح عبارة عن نفخ جبريل عليه السلام وقوله منه يعني إن ذلك النفخ كان يأمره وإذنه وقيل أدخل النكرة في قوله وروح على سبيل التعظيم والمعنى روح وأي روح من الأرواح القدسية العالية المطهرة وقوله منه إضافته تلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتكريم ( ق ) عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/215)
« من شهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل » .
وقوله تعالى : { فآمنوا بالله ورسله } يعني فصدقوا يا أهل الكتاب بوحدانية الله وأنه لا ولد له وصدقوا رسله فيما جاءكم به من عند الله وصدقوا بأن عيسى عليه السلام من رسل الله فآمنوا به ولا تجعلوه إله وقوله تعالى : { ولا تقولوا ثلاثة } يعني ولا تقولوا الآلهة ثلاثة وذلك أن النصارى يقولون أب وابن وروح القدس وقيل إنهم يقولون إن الله بالجوهر ثلاثة أقانيم وذلك أنهم أثبتوا ذاتاً موصوفة بصفات ثلاثة بدليل أنهم يجوزون على تلك الذات الحلول في عيسى وفي مريم فأثبتوا ذواتاً متعددة ثلاثة وهذا هو محض الكفر . فلهذا قال الله تعالى ولا تقولوا ثلاثة { انتهوا خيراً لكم } يعني يكون الانتهاء عن هذا القول خير لكم من القول بالتثليث ثم نزه الله تعالى نفسه عن قول النصارى بالتثليث فقال تعالى : { إنما الله إله واحد } ثم نزه نفسه عن الولد فقال { سبحانه أن يكون له ولد } يعني لا ينبغي أن يكون له ولد لأن الولد جزء من الأب وتعالى الله عن التجزئة ، وعن صفات الحدوث { له ما في السموات وما في الأرض } يعني أنه تعالى له ملك السموات والأرض وما فيهما عبيده وملكه وعيسى ومريم من جملة من فيهما فهما عبيده وملكه فإذا كانا عبدين له فكيف يعقل مع هذا أن له ولداً أو زوجة تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً؟ وهذا بيان لتنزيهه مما نسب إليه من الولد والمعنى أن جميع ما في السموات والأرض خلقه وملكه فكيف يكون بعض ملكه جزء منه؟ لأن التجزئة إنما تصح في الأجسام والله تعالى منزه عن صفات الأعراض والأجسام { وكفى بالله وكيلاً } يعني أنه تعالى كاف في تدبير خلقه فلا حاجة له إلى غيره ، وكل الخلق محتاجون إليه وفقراء إليه وهو غني عنهم .(2/216)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
وقوله تعالى : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله } وذلك أن وفد نجران قالوا يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول إنه عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليس بعارعلى عيسى أن يكون عبد الله فنزلت لن يستنكف المسيح يعني لن يأنف ولن يتعظم والاستنكاف الاستكبار مع الأنفة يقال نكفت من كذا واستنكفت منه أي أنفت منه وأصله من نكفت الشيء نحيته ونكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك من خدك والمعنى لن ينقبض ولن يمتنع ولن يأنف المسيح أن يكون عبدالله { ولا الملائكة المقربون } يعني ولن يستنكف الملائكة المقربون وهم حملة العرش والكروبيون وأفاضل الملائكة مثل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل أن يكونوا عبيدالله لأنهم في ملكه ومن جملة خلقه وقيل لما ادّعت النصارى في عيسى أنه ابن الله وذلك لما رأوا منه خوارق العادات من أحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من المعجزات ، أجاب الله تعالى عن هذه الشبهات التي وقعت للنصارى بأن عيسى من شرف قدره وكرامته لن يستنكف أن يكون عبداً لله . وكذلك الملائكة المقربون فإنهم مع كرامتهم وعلو منزلتهم لن يستنكفوا أن يكونوا عبيداً لله وقد يستدل بهذه الآية من يقول بتفضيل الملائكة على البشر ووجه الدليل أن الله تعالى ارتقى من عيسى إلى الملائكة ولا يرتقي إلاّ من الأدنى إلى الأعلى ولا حجة لهم فيه والجواب عنه أن الله تعالى لم يقل ذلك رفعاً لمقامهم على مقام البشر بل قاله رداً على من يقول إن الملائكة بنات الله أو أنهم آلهة كما رد على النصارى قولهم إن المسيح ابن الله وقاله أيضاً على النصارى فإنهم يقولون بتفضيل الملائكة يعني كما أن المسيح عبدالله فكذلك الملائكة عبيدالله . وقوله تعالى : { ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر } يعني ومن يتعظم عن عبادة الله ويأنف من التذلل لله والخضوع والطاعات من جميع خلقه { فسيحشرهم إليه جميعاً } يعني فسيبعثهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم حيث لا يملكون لأنفسهم شيئاً { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم } يعني يوفيهم جزاء أعمالهم الصالحة { ويزيدهم من فضله } يعني ويزيدهم على ما أعطاهم من الثواب على أعمالهم الصالحة من التضعيف على ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { وأما الذين استنكفوا واستكبروا } يعني الذين أنفوا وتكبروا عن عبادة الله تعالى { فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله } يعني من سوى الله لأنفسهم { وليّاً } يعني ينجيهم من عذابه { ولا نصيراً } يعني ولا ناصراً ينصرهم منه ، ويدفع عنهم عقوبته بقي في الآية سؤال وهو أن التفصيل غير مطابق للمفصل لأن التفصيل اشتمل على ذكر فريقين : وهو قوله : { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فيوفيهم أجورهم وأما الذين استنكفوا واستكبروا } والمفصل اشتمل على ذكر فريق واحد وهو قوله : { ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر } والجواب أنه لا إشكال فيه فهو مثل قولك جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ومن خرج عليه نكل به ، وصحة ذلك لوجهين : أحدهما أنه حذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه لأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني ، والوجه الثاني أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم فكان داخلاً في جملة التنكيل بهم فكأنه قال ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فيعذبهم بالحسرة والغم إذا رأوا أجور المطيعين العاملين لله تعالى .(2/217)
قوله عز وجل : { يا أيها الناس } خطاب للكافة { قد جاءكم برهان من ربكم } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وما جاء به من البينات من ربه عز وجل وإنما سماه برهاناً لما معه من المعجزات الباهرات التي تشهد بصدقة ولأن للبرهان دليل على إقامة الحق وإيصال الباطل والنبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك ولأنه تعالى جعله حجة قاطعة قطع به عذر جميع الخلائق { وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } يعني القرآن وإنما سماه نوراً لأن به تتبين الأحكام كما تتبين الأشياء بالنور بعد الظلام ولأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب فسماه نوراً لهذا المعنى { فإما الذين آمنوا بالله } يعني صدقوا بوحدانية الله وبما أرسل من رسول وأنزل من كتاب { واعتصموا به } يعني بالله في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن زيغ الشيطان ، وقيل في معنى واعتصموا به أي وتمسكوا بالنور وهو القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم { فسيدخلهم في رحمة منه } يعني فسيدخلهم في رحمته التي ينجيهم بها من أليم عذابه قال ابن عباس الرحمة الجنة { وفضل } يعني ما يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً } يعني ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به عليهم ويسددهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته ويرشدهم لدينه الذي ارتضاه لعباده وهو دين الإسلام .(2/218)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قوله تعالى : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } نزلت في جابر بن عبدالله الأنصاري ( ق ) عن جابر بن عبدالله قال مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين فأغمي عليّ فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب علي من وضوئه فأفقت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد عليّ شيئاً حتى نزلت آية الميراث : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وفي رواية فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة فنزلت آية الميراث قال شعبة فقلت لمحمد بن المنكدر يستفتونك : { قل الله يفتيكم في الكلالة } قال هكذا نزلت في رواية الترمذي وكان لي تسع أخوات حتى نزلت آية الميراث : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } ولأبي داود قال اشتكيت وعند سبع أخوات فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفخ في وجهي فأفقت فقلت يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال أحسن قلت بالشطر؟ قال أحسن ثم خرج وتركني فقال يا جابر لا أراك ميتاً من وجعك هذا وان الله قد أنزل فبين الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين قال فكان جابر يقول أنزلت هذه الآية في : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وروى الطبري عن قتادة أن الصحابة أهمهم شأن الكلالة فسألوا عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية وروى عن ابن سيرين قال نزلت : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } والنبي صلى الله عليه وسلم في مسير له وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه فلما استخلف عمر سأل حذيفة عنها ورجا أن يكون عنده تفسيرها ، فقال له حذيفة والله لأنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني أن أحدثك فيها ما لم أحدثك يومئذٍ فقال عمر لم أرد هذا رحمك الله . وأما التفسير فقوله تعالى : { يستفتونك } يعني يسألونك ويستخبرونك عن معنى الكلالة يا محمد قل : الله يفتيكم في الكلالة يعني أن الله هو يخبركم عما سألتم عنه من أمر الكلالة . وقد تقدم في أول السورة الكلام على معنى الكلالة من حيث الاشتقاق وغيره وأن اسم الكلالة يقع على الوارث وعلى الموروث فإن وقع على الوارث فهم من سوى الوالد والولد وإن وقع على الموروث فهو من مات ولا يرثه أحد الأبوين ولا أحد الأولاد .
قوله تعالى : { إن امرؤ هلك } يعني مات الموت هلاكاً لأنه أعدام في الحقيقة { ليس له ولد } يعني ولا والد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ودل على المحذوف أن السؤال في الفتيا إنما كان في الكلالة وقد تقدم أن الكلالة من ليس ولد ولا والد { ولا أخت } يعني ولذلك الهالك أخت وأراد بالأخت من أبيه وأمه أو من أبيه { فلها نصف ما ترك } يعني فلأخت الميت نصف تركته وهو فرضها إذا انفردت وباقي المال لبيت المال إذا لم يكن للميت عصبة .(2/219)
وهذا مذهب زيد بن ثابت وبه قال الشافعي وعند أبي حنيفة وأهل العراق يرد الباقي عليها فإذا كان للميت بنت أخذت النصف بالفرض وتأخذ الأخت النصف الباقي بالتعصيب لا بالفرض لأن الأخوات مع البنات عصبة .
وقوله تعالى : { وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } يعني أن الأخت إذا ماتت وتركت أخاً من الأب والأم أو من الأب فإنه يستغرق جميع ميراث الأخت إذا انفرد ولم يكن للأخت ولد وهذا أصل في جميع العصبات واستغراقهم جميع المال ، فأما الأخ من الأم فإنه صاحب فرض لا يستغرق جميع المال وقد تقدم بيانه { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } أراد بنتين فصاعداً وهو أن من مات وترك أختين أو أخوات فلهن الثلثان مما ترك الميت { وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } يعني وان كان المتروكون من الإخوة رجالاً ونساء فللذكر منهم نصيب اثنتين من الإخوة الإناث { يبين الله لكم أن تضلوا } يعني يبين الله لكم هذه الفرائض والأحكام لئلا تضلوا . وقيل معناه كراهية أن تضلوا وقيل بيّن الله الضلالة لتجتنبوها { والله بكل شيء عليم } يعني من مصالح عباده التي حكم بها من قسمة المواريث وبيان الأحكام وغير ذلك لأن علمه محيط بكل شيء ( ق ) عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال إن آخر سورة نزلت تامة سورة التوبة وإن آخر آية نزلت آية وفي رواية لمسلم قال آخر آية نزلت يستفتونك وروي عن ابن عباس أن آخر سورة نزلت سورة التوبة وأن آخر آية الكلالة وفي رواية لمسلم قال آخر آية الربا وآخر سورة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح وروي عنه أن آخر آية نزلت { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزول سورة النصر سنة ونزلت بعدها سورة براءة وهي آخر سورة نزلت كاملة فعاش بعدها ستة أشهر هكذا ذكره البغوي وفيه نظر لأنه قد ثبت في الصحيحن من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في الحجة التي أمره عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر : ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فأذن معنا في أهل منى ببراءة ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . وكانت حجة أبي بكر هذه سنة تسع قبل حجة الوداع بسنة قال البغوي : ثم نزلت في طريق حجة الوداع { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } فسميت آية الصيف ثم نزلت وهو واقف بعرفة { اليوم أكملت لكم دينكم } فعاش بعدها أحداً وثمانين يوماً ثم نزلت آية الربا ثم نزلت : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً . وهذا آخر تفسير سورة النساء والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .(2/220)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } يعني العهود قال الجماعة : واختلفوا في المراد بهذه العقود التي أمر الله تعالى بوفائها فقال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب . والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة ، أوفوا بالعقود التي عهدتها إليكم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به . وقيل هو خطاب للمؤمنين أمرهم بالوفاء بالعقود . قال ابن عباس : هي عهود الإيمان وما أخذه على عباده في القرآن فيم أحل وحرم . وقيل هي العقود التي كانت في الجاهلية كان يعاقد بعضهم بعضاً على النصرة والمؤازرة على من حاول ظلمه أو بغاه بسوء وذلك هو معنى الحلف الذي كانوا يتعاقدونه بينهم . قال قتادة : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول « أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام » .
وقيل : بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم وما يعقده الإنسان على نفسه . والعقود خمسة : عقد اليمين ، وعقد النكاح ، وعقد العهد ، وعقد البيع ، وعقد الشركة . زاد بعضهم : وعقد الحلف .
قال الطبري : وأولى الأقوال عندنا بالصواب ما قاله ابن عباس أن معناه أوفوا يا أيها المؤمنون بعقود الله التي أوجبها عليكم وعقدها فيما أحلَّ وحرم عليكم وألزمكم فرضه وبيَّن لكم حدوده وإنما قلنا إن هذا القول أولى بالصواب ، لأن الله تعالى أتبعه بالبيان عما أحل لعباده وحرم عليهم فقال تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } وهو خطاب للمؤمنين خاصة والبهيمة اسم لكل ذي أربع من الحيوان لكن خص في التعارف بما عدا السباع والضواري من الوحوش وإنما سميت بهيمة لأنها أبهمت عن العقل والتمييز . قال الزجاج : كل حي لا يميز فهو بهيمة . والأنعام : جمع النعم وهي الأبل والبقر والغنم ولا يدخل فيها ذوات الحافر في قول جميع أهل اللغة . واختلفوا في معنى الآية فقال الحسن وقتادة : بهيمة الأنعام ، الأبل والبقر والغنم والمعز . وعلى هذا القول إنما أضاف البهيمة إلى الأنعام على جهة التوكيد . وقال الكلبي : بهيمة الأنعام وحشيّها كالظباء وبقر الوحش وحمر الوحش . وعلى هذا إنما أضاف البهيمة إلى الأنعام ليعرف جنس الأنعام وما أحل منها لأنه لو أفردهها فقال البهيمة لدخل فيه ما يحل ويحرم من البهائم فلهذا قال تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } . وقال ابن عباس : هي الأجنَّة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت أو نحرت . ذهب أكثر العلماء إلى تحليلها وهو مذهب الشافعي ويدل عليه ما روي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « في الجنين ذكاته ذكاة أمه » أخرجه الترمذي وابن ماجه .
وفي رواية أبي داود قال : « قلنا يا رسول الله ننحر النّاقة ونذبح البقرة والشاة ونجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ قال : كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه »(2/221)
وروى الطبري عن ابن عمر في قوله : أحلّت لكم بهيمة الأنعام ، قال : ما في بطنها .
قال عطية العوفي : قلت إن خرج ميتاً آكله؟ قال : نعم هو بمنزلة رئتها وكبدها . وعن ابن عباس قال : الجنين من بهيمة الأنعام وعنه أن بقرة نحرت فوجد في بطنها جنين فأخذ ابن عباس بذنب الجنين . وقال : هذا من بهيمة الأنعام . وشرط بعضهم الإشعار وتمام الخلق . وقال ابن عمر : ذكاة ما في بطنها ذكاتها إذا تم خلقه ونبت شعره ومثله عن سعيد بن المسيب . وقال أبو حنيفة : لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتاً بعد ذكاة الأم .
وقوله تعالى : { إلا ما يتلى عليكم } يعني في القرآن تحريمه وأراد به قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } إلى آخر الاية فهذا من المتلو علينا وهو ما استثنى الله عز وجل من بهيمة الأنعام { غير محلّي الصيد وأنتم حرم } يعني أحللت لكم الأنعام كلها والوحشية أيضاً من الظباء والبقر والحمر غير محلّى صيدها وأنتم محرمون في حال الإحرام فلا يجوز للمحرم أن يقتل صيداً في حال إحرامه { إن الله يحكم ما يريد } يعني أن الله يقضي في خلقه ما يشاء ، من تحليل ما أراد تحليله وتحريم ما أراد تحريمه وفرض ما يشاء أن يفرضه عليهم من أحكامه وفرائضه مما فيه مصلحة لعباده .(2/222)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } نزلت في الحطم واسمه شريح بن هند بن ضبعة البكري أتى المدينة وحده وخلف خيله خارج المدينة ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : « إلا ما ، تدعو الناس فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقال حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم فخرج من عنده وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان فلما خرج شريح . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم ، فمرَّ بسرح من سرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول :
_@_لقد لفَّها بالليل سواق حطم _@_ ليس براعي إبل ولا غنم_@_ ولا بجزار على ظهر وضم _@_ باتوا نياماً وابن هند لم ينم_@_ بات يقاسيها غلام كالزلم _@_ خدلج الساقين ممسوح القدم_@_
فتبعوه فلم يدركوه فلما كان العام القابل ، خرج شريح حاجَّاً مع حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلد الهدي ، فقال المسلمون : يا رسول الله هذا الحطم قد خرج حاجاً فخلِّ بيننا وبينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه قد قلد الهدي . فقالوا : يا رسول الله هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية فأبى النبي صلى الله عليه وسلم » فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } .
قال ابن عباس : هي المناسك كان المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك .
وقيل : الشعائر ، الهدايا المشعرة وإشعارها أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل دمه فيكون ذلك علامة أنها هدي وهو سنة في الأبل والبقر عون الغنم ، ويدل عليه ما روي عن عائشة : « فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها ثم بعث بها إلى البيت فما حرم عليه شيء كان له حلالاً » أخرجاه في الصحيحين ( م ) .
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهلَّ بالحج . وعند أبي حنيفة لا يجوز إشعار الهدي بل قال يكره ذلك . وقال ابن عباس في معنى الآية : لا تحلوا شعائر الله هي أن تصيد وأنت محرم . وقيل : شعائر الله شرائع الله ومعالم دينه ، والمعنى : لا تحلوا شيئاً من فرائضه التي افترض عليكم واجتنبوا نواهيه التي نهى عنها { ولا الشهر الحرام } أي ولا تحلوا تحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه والشهر الحرام : هو الذي كانت العرب تعظمه وتحرم القتال في الجاهلية فيه ، فلما جاء الإسلام ، لم ينقض هذا الحكم ، بل أكده .(2/223)
والمراد بالشهر الحرام هنا ، ذو القعدة . وقيل : رجب . ذكرهما ابن جرير . وقيل : المراد بإحلال الشهر الحرام النسيء . قال مقاتل : كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ ، فيقول : إني قد أحللت كذا وحرمت كذا يعني به الأشهر فنهى الله عن ذلك وسيأتي تفسير النسيء في سورة براءة : { ولا الهدي ولا القلائد } الهدي ما يهدى إلى بيت الله من بعير أو بقرة أو شاة أو غير ذلك مما يتقرب به إلى الله تعالى ، والقلائد جمع قلادة وهي التي تُشد في عنق البعير وغيره والمعنى : ولا الهدي ذوات القلائد . قال الشاعر :
حلفت برب مكة والمصلى ... وأعناق هدين مقلدات
فعلى هذا القول إنما عطف القلائد على الهدي مبالغة في التوصية لأنها من أشراف البدن المهداة والمعنى : ولا تستحلوا الهدي خصوصاً المقلدات منها . وقيل : أراد أصحاب القلائد وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم وإبلهم من لحاء شجر الحرم فكانوا يأمنون بذلك فلا يتعرض لهم أحد ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك الفعل ونهاهم عن استحلال نزع شيء من شجر الحرم { ولا آمَّين البيت الحرام } يعني ولا تستحلوا القاصدين إلى البيت الحرام وهو الكعبة شرَّفها الله وعظمها { يبتغون } يعني يطلبون { فضلاً من ربهم } يعني الرزق والأرباح في التجارة { ورضواناً } يعني ويطلبون رضا الله عنهم بزعمهم لأن الكافر لا حظ له في الرضوان لكن يظن أن فعله ذلك طلب الرضوان فيجوز أن يوصف به بناء على ظنه . وقيل إن المشركين كانوا يقصدون بحججهم ابتغاء رضوان الله وإن كاوا لا يغالونه فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب ذلك القصد نوع من الحرمة وهو الأمن على أنفسهم . وقيل : كان المشركون يلتمسون في حجهم ما يصلح لهم دنياهم ومعاشهم . وقيل : ابتغاء الفضل هو للمؤمنين والمشركين عامة وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة وذلك أنهم يحجون جميعاً .
( فصل )
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية فقال قوم : هذه الآية منسوخة إلى هاهنا لأن قوله تعالى لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام يقتضي حرمة القتل في الشهر الحرام وفي الحرم وذلك منسوخ بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقوله تعالى : { ولا آمين البيت الحرام } يقتضي حرمة منع المشركين عن البيت الحرام وذلك منسوخ بقوله تعالى : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } فلا يجوز أن يحج مشرك ولا يأمن بالهدي والقلائد كافر وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأكثر المفسرين .
قال الشعبي : لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية .(2/224)
وقيل : المنسوخ منها قوله ولا آمين البيت الحرام نسختها آية براءة { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقوله : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم } هذا وقال ابن عباس : كان المؤمنون والمشركون يحجون البيت جميعاً فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً أن يحج البيت أو يتعرضوا له من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعد هذا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقال آخرون : لم ينسخ من ذلك شيء سوى القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلدونها من لحاء شجر الحرم .
قال الواحدي : وذهب جماعة إلى أنه لا منسوخ في هذه السورة وأن هذه الآية محكمة قالوا ما ندبنا إلى أن نخيف من يقصد بيته من أهل شريعتنا في الشهر الحرام ولا في غيره وفصل الشهر الحرام عن غيره بالذكر تعظيماً وتفضيلاً وحرم علينا أخذ الهدي من المُهدين وصرفه عن بلوغ محله وحرم علينا القلائد التي كانوا يفعلونها في الجاهلية وهذا غير مقبول ، والظاهر ما عليه جمهور العلماء من نسخ هذه الآية لإجماع العلماء ، على أن الله عزَّ وجلَّ قد أحلَّ قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها .
وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه وذراعيه جميع لحاء الشجر لم يكن ذلك له أماناً من القتل إذا لم يكن قد تقدم له عهد ذمة أو أمان . وكذلك أجمعوا على منع من قصد البيت بحج أو عمرة من المشركين لقوله تعالى عمرة من المشركين لقوله تعالى : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } والله أعلم .
وقوله تعالى : { وإذا حللتم } يعني من إحرامكم { فاصطادوا } هذا أمر إباحة ، لأن الله حرم الصيد على المحرم حالة إحرامه بقوله تعالى : { غير محلّي الصيد وأنتم حرم } وإذا حلَّ من إحرامه بقوله وإذا حللتم فاصطادوا وإنما قلنا إنه أمر إباحة لأنه ليس واجباً على المحرم إذا حل من إحرامه أن يصطاد ومثله قوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } معناه أنه قد أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة { ولا يجرمنكم } .
قال ابن عباس : لا يحملنكم . وقيل : معناه لا يكسبنكم ولا يدعوكم { شنآن قوم } يعني بغض قوم وعداوتهم { أن صدوكم } يعني لأن صدوكم { عن المسجد الحرام } والمعنى : لا يحملنكم عداوة قوم على الاعتداء ، لأن صدوكم عن المسجد الحرام ، لأن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية ، فكان الصدّ قد تقدم { أن تعتدوا } عليهم يعني : بالقتل وأخذ المال { وتعاونوا على البر والتقوى } يعني ليعن بعضكم بعضاً على ما يكسب البر والتقوى قال ابن عباس : البر متابعة السنة { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } يعني ولا يعن بعضكم بعضاً على الأثم وهو الكفر والعدوان هو الظلم . وقيل : الإثم المعاصي ، والعدوان البدعة ( م ) عن النواس بن سمعان قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال : « البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس » { واتقوا الله } أي احذروا الله أن تعتدوا ما أمركم به أو تجاوزوا إلى ما نهاكم عنه { إن الله شديد العقاب } يعني لمن خالف أمره ففيه وعيد وتهديد عظيم .(2/225)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
قوله عز وجل : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } بيَّن الله تعالى في أول السورة ما أحل لنا من بهيمة الأنعام بقوله أحلت لكم بهيمة الأنعام ثم إنه تعالى استثنى من ذلك بقوله : إلا ما يتلى عليكم . فذكر ذلك المستثنى بقوله حرمت عليكم الميتة فكل ما فارقته الروح مما يذبح بغير ذكاة فهو ميتة . وسبب تحريم الميتة ، أن الدم لطيف جداً ، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس ذلك الدم وبقي في العروق فيفسد ويحصل منه ضرر عظيم والدم هم المسفوح الجاري ، وكانت العرب في الجاهلية تجعل الدم في المصارين وتشويه وتأكله ، فحرم الله ذلك كله . ولحم الخنزير ، أراد به جميع أجزائه وأعضائه . وإنما خص اللحم بالذكر ، لأنه المقصود بالأكل وقد تقدم في سورة البقرة أحكام هذه الثلاثة أشياء وما استثنى الشارع من الميتة والدم وهو السمك والجراد والكبد والطحال وذكرنا الدليل على إباحة ذلك واختلاف العلماء في ذلك .
وقوله تعالى : { وما أهلَّ لغير الله به } يعني ما ذكر ذبحه غير اسم الله وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح فحرم الله ذلك بهذه الآية وبقوله : ولا تأكلوا مما لا يذكر اسم الله عليه { والمنخنقة } .
قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها فحرم الله ذلك . والمنخنقة : جنس الميتة لأنها لما ماتت لم يسل دمها . والفرق بينهما ، أن الميتة تموت بلا سبب أحد ، والمنخنقة تموت بسبب الخنق . { والموقوذة } : يعني المقتولة بالخشب . وكانت العرب في الجاهلية يضربون الشاة بالعصا حتى تموت ويأكلونها فحرَّم الله ذلك { والمتردية } يعني التي تتردى من مكان عالٍ فتموت أو في بئر فتموت . والتردي : هو السقوط من سطح أو من جبل ونحوه وهذه المتردية تلحق بالميتة فيحرم أكلها ويدخل في هذا الحكم إذا رمى بسهمه صيداً فتردى ذلك الصيد من جبل ونحوه أو من مكان عال فمات فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم هل مات بالتردي أو بالسهم { والنطيحة } يعني التي تنطحها شاة أخرى حتى تموت وكانت العرب في الجاهلية تأكل ذلك ، فحرمها الله تعالى لأنها في حكم الميتة . فأما الهاء في الكلمات التي تقدمت أعني المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، فإنما دخلت عليها ، لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة . كأنه قال : حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة والمتردية . وخصت الشاة ، لأنها من أعم ما يأكله الناس ، والكلام إنما يخرج على الأعم الأغلب ثم يلحق به غيره .
فإن قلت : لمَ أثبتت الهاء في النطيحة مع أنها في الأصل منطوحة فعدلوا بها إلى النطيحة وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة تقول : كف خضيب وعين كحيل يعني كف مخضوبة وعين مكحولة .(2/226)
قلت : إنما تحذف الهاء من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها ، فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف تقول : رأيت قبيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أم امرأة . فعلى هذا ، إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لموصوف غير مذكور وهو الشاة .
وقال ابن السكيت : قد تأتي فعلية بالهاء وهي في تأويل مفعول بها تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع ومررت بقبيلة بني فلان . وقوله تعالى : { وما أكل السبع } قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئاً فقتله أو أكل منه أكلوا ما بقي منه ، فحرمه الله تعالى والسبع اسم يقع على كل حيوان له ناب ويعدو على الناس والدواب فيفترس بنابه كالأسد والذئب والنمر والفهد ونحوه وفي وفي الآية محذوف تقديره وما أكل السبع منه لأن ما أكله السبع فقد فقد فلا حكم له ، إنما الحكم للباقي منه .
{ إلا ما ذكيتم } يعني إلا ما أدركتموه وقد بقيت فيه حياة مستقرة من هذه الأشياء المذكورة والظاهر أن هذا الاستثناء يرجع إلى جميع المحرمات المذكورة في الآية من قوله تعالى : والمنخنقة ، إلى ، وما أكل السبع . وهذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن وقتادة .
قال ابن عباس : يقول الله تعالى ما أدركتم من هذا كله وفيه روح فاذبحوه فهو حلال . وقال الكلبي : هذا الاستثناء مما أكل السبع خاصة . والقول هو الأول وأما كيفية إدراكها ، فقال أكثر أهل العلم من المفسرين : إن أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز . قال ابن عباس : إذا طرفت بعينها أو ركضت برجلها أو تحركت فاذبح فهو حلال . وذهب بعض أهل العلم إلى أن السبع إذا جرح فأخرج الحشوة أو قطع لجوف قطعاً تيأس معه الحياة فلا ذكاة لأن ذلك وإن كان به حركة ورمق إلا أنه قد صار إلى حالة لا يؤثر في حياته الذبح وهو مذهب مالك واختاره الزجاج وابن الأنباري ، لأن معنى التذكية أن يلحقها وفيها بقية تشخب معها الأوداج وتضطرب اضطراب المذبوح لوجود الحياة فيه قبل ذلك وإلا فهو كالميتة . وأصل الذكاة في اللغة تمام الشيء ، فالمراد من التذكية ، تمام قطع الأوداج وإنهار الدم ويدل عليه ما روي عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك ، أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة » أخرجاه في الصحيحين .
وأقل الذبح في الحيوان المقدور عليه قطع المريء والحلقوم وأكمله قطع الودجين مع ذلك والحلقوم بعد الفم ، وهو موضع النفس والمريء مجرى الطعام والودجان عرقان يقطعان عند الذبح وأما آلة الذبح فكل ما أنهرا الدم وفرى الأوداج من حديد وغيره إلا السن والظفر لما تقدم من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك .(2/227)
قوله تعالى : { وما ذبح على النصب } يعني وحرم ما ذبح على النصب . والنصب يحتمل أن يكون جمعاً واحده نصاب وأن يكون واحداً وجمعه أنصاب وهو الشيء المنصوب . قيل : كان حول الكعبة ثلثمائة وستون حجراً منصوبة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها وليست هذه الحجارة بأصنام إنما الأصنام الصور المنقوشة . وقال ابن عباس : هي الأصنام المنصوبة . والمعنى : وما ذبح على اسم النصب أو لأجل النصب فهو حرام { وإن تستقسموا بالأزلام } يعني وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام وهو طلب القسم والحكم من الأزلام وهي القداح وكانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها أمرني ربي وعلى واحد نهاني وعلى واحد منكم وعلى واحد من غيركم وعلى واحد ملصق وعلى واحد العقل وعلى واحد غفل أي ليس عليه شيء . وكانت العرب في الجاهلية ، إذا أرادوا سفراً أو تجارة أو نكاحاً أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل أو تحمل عقل أو غير ذلك من الأمور العظام جاؤوا إلى هبل وكانت أعظم صنم لقريش ، بمكة وجاؤوا بمائة درهم وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم . فإن خرج أمرني ربي فعلوا ذلك الأمر وإن خرج نهائي ربي ولم يفعلوه وإن أجالوا على نسب فإن خرج منكم كان وسطاً فيهم وإن خرج من غيركم كان حلفاً فيهم وإن خرج ملصق كان على حاله وإن اختلفوا في العقل وهو الدية فمن خرج عليه قدح العقل تحمله وإن خرج الغفل أجابوا ثانياً حتى يخرج المكتوب عليه فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقاً . وقيل : الأزلام كعاب فارس والروم التي كانوا يقامرون بها . وقيل : كانت الأزلام للعرب . والكعاب للعجم وهي : النرد وكلها حرام لا يجوز اللعب بشيء منها .
عن قطن بن قبيصة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « العيافة والطيرة والطرق من الجبت » أخرجه أبو داود وقال : الطرق الزجر والعيافة الخط . وقيل العيافة زجر الطير والطرق الضرب بالحصى والجبت كل ما عبد من دون الله عز وجل . وقيل : الجبت الكاهن . وروى البغوي بسند الثعلبي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من تكهن أو استقسم بالأزلام أو تطيَّر طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى يوم القيامة » وقوله تعالى : { ذلكم فسق } يعني ما ذكر من هذه المحرمات في هذه الآية لأن المعنى حرم عليكم تناول كذا وكذا فإنه فسق والفسق ما يخرج من الحلال إلى الحرام وقيل إن الإشارة عائدة على الاستقسام بالأزلام والأول أصح { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } يعني يئسوا أن ترجعوا عن دينكم إلى دينهم كفاراً ، وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في أن يعود المسلمون إلى دينهم ، فلما قوي الإسلام ، أيسوا من ذلك وذلك هو اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام حجة الوداع فعند ذلك يئس الكفار من بطلان دين الإسلام .(2/228)
وقيل : إن ذلك هو يوم عرفة فنزلت هذه الآية والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة .
وقيل : لم يرد يوماً بعينه وإنما المعنى الآن يئس الذين كفروا من دينكم فهو كما تقول : اليوم قد كبرت . تريد : الآن قد كبرت . وتقول : فلان كان يزورنا وهو اليوم يجفونا ولم ترد يوماً بعينه . يعني : وهو الآن يجفونا ولم تقصد به اليوم قال الشاعر :
فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نُساء ويوم نُسرّ
أراد فزمان علينا وزمان لنا ولم يقصد اليوم واحد معين { فلا تخشوهم } فلا تخافوا الكفار أيها المؤمنون الذين آمنوا أن يظهروا على دينكم فقد زال الخوف عنك بإظهار دينكم { واخشونِ } أي وخافوا مخالفة أمري وأخلصوا الخشية لي .
قوله عز وجل : { اليوم أكملت لكم دينكم } نزلت هذه الآية في يوم الجمعة بعد العصر في يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندق وبركت لثقل الوحي وذلك في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة ( ق ) .
عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال : فأي آية؟ قال : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات في يوم الجمعة أشار عمر إلى ذلك اليوم يوم عيد لنا . وعن ابن عباس أنه قرأ { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } وعنده يهودي فقال : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذناها عيداً فقال ابن عباس : « فإنها نزلت في يوم عيدين في يوم جمعة ويوم عرفة » أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب .
قال ابن عباس : كان في ذلك اليوم خمسة أعياد يوم جمعة ، ويوم عرفة ، وعيد لليهود ، وعيد للنصارى ، وعيد للمجوس . ولم تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم واحد قبله ولا بعده .
وروي أنه لما نزلت هذه الآية ، بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « ما يبكيك يا عمر؟ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا . فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص قال : صدقت »(2/229)
فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعدها أحداً وثمانين يوماً ومات صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول وقيل : لاثنتي عشر ليلة وهو الأصح سنة إحدى عشرة من الهجرة . وأما تفسير الآية فقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } يعني بالفرائض والسنن والدود والأحكام والحلال والحرام ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض هذا معنى قول ابن عباس .
وقال سعيد بن جبير وقتادة : معنى أكملت لكم دينكم ، أي حيث لم يحج معكم مشرك وخلا الموسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين . وقيل : معناه أني أظهرت دينكم على الأديان وأمنتكم من عدوكم بأن كفيتكم ما كنتم تخافونه . وقيل : إكمال الدين لهذه الأمة أنه لا يزول ولا ينُسخ وإن شريعتهم باقية إلى يوم القيامة . وقيل : إكمال الدين لهذه الأمة أنهم آمنوا بكل نبي وكل كتاب ولم يكن هذا لغير هذه الأمة . وقال ابن الأنباري : اليوم أكملت شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت وذلك أن الله تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر فيكون الوقت الأول تاماً في وقته ، وكذلك الوقت الثاني تاماً في وقته فهو كما يقول القائل : عندي عشرة كاملة . ومعلوم أن العشرين أكمل منه والشرائع التي تعبد الله عز وجل بها عباده في الأوقات المختلفة مختلفتة وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبد بها فكمل الله عز وجل الشرائع في اليوم الذي ذكره وهو يوم عرفة ولم يوجب ذلك أن الدين كان ناقصاً في وقت من الأوقات ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن القفال واختاره أن الدين ما كان ناقصاً البتة بل كان أبداً كاملاً كانت الشرائع النازلة من عند الله كافية في ذلك الوقت إلا أنه تعالى كان عالماً في أول وقت البعثة بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد لا يصلح فيه لا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيل بعد التحتم .
وأما في آخر زمان البعثة ، فأنزل الله شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة ، فالشرع أبداً كان كاملاً إلا أن الأول كمال إلى يوم مخصوص ، والثاني كمال إلى يوم القيامة ، فلأجل هذا المعنى قال : اليوم أكملت لكم دينكم . ثم قال تعالى : { وأتممت عليكم نعمتي } يعني بإكمال الدين والشريعة ، لأنه لا نعمة أتم من الإسلام .
وقال ابن عباس : حكم لها بدخول الجنة . وقيل : معناه أنه تعالى أنجز لهم ما وعدهم في قوله ولأتم نعمتي عليكم فكان من تمام النعمة أن دخلوا مكة آمنين وحجّوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين { ورضيت لكم الإسلام دينا } يعني واخترت لكم الإسلام ديناً من بين الأديان وقيل : معناه ورضيت لكم الإسلام لأمري والانقياد لطاعتي فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم وإنما قال تعالى : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } يوم نزلت هذه الآية وإن كان الله تعالى لم يزل راضياً بدين الإسلام فيما مضى قبل نزول هذه الآية لأنه لم يزل يصرف نبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين من حال إلى حال وينقلهم من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها حتى أكمل لهم شرائع الدين ومعالمه وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه ثم أنزل عليهم هذه الاية : ورضيت لكم الإسلام دينا ، يعني بالصفة التي هو اليوم بها وهي نهاية الكمال وأنتم الآن عليه فالزموه ولا تفارقوه .(2/230)
روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال جبريل قال الله عز وجل : « هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه » وروى الطبري عن قتادة قال : ذكر لنا أنه يمثل لكل أهل دين دينهم يوم القيامة فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخبر حتى يجيء الإسلام فيقول يا رب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزى . وقوله تعالى : { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم } هذه الآية من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى ومتصلة بها ، والمعنى : أن المحرمات وأن كانت محرمة ، إلا أنها قد تحل في حالة الاضطرار إليها . ومن قوله تعالى : ذلكم فسق ، إلى هنا اعتراض وقع بين الكلامين والغرض منه تأكيد ما تقدم ذكره من معنى التحريم ، لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام الذي هو المرضي عند الله .
ومعنى الآية : فمن اضطر أي أُجْهِدَ وأصيب بالضر الذي لا يمكنه معه الامتناع من أكل الميتة . وهو قوله تعالى : في مخمصة ، يعني في مجاعة . والمخصمة : خلو البطن من الغذاء عند الجوع . غير متجانف لإثم : يعني غير مائل إلى إثم أو منحرف إليه . والمعنى : فمن اضطر إلى أكل الميتة إو إلى غيرها في المجاعة فليأكل غير متجانف لإثم وهو أن يأكل فوق الشبع . وقول فقهاء العراق . وقيل : معناه غير متعرض لمعصية في مقصد وهو قول فقهاء الحجاز { فإن الله غفور رحيم } يعني لمن أكل من الميتة في حال الجوع والاضطرار .(2/231)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
قوله عز وجل : { يسألونك ماذا أحل لهم } روى الطبري بسنده عن أبي رافع قال : « جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه فأذن له فلم يدخل فقال : قد أذِنَّا لك يا رسول الله قال أجل ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب » .
قال بو رافع فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني بقتله فرجعت إلى الكلب فقتلته فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحلَّ لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين } .
وروي عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب فقتل حتى بلغ العوالي فدخل عاصم وسعد بن أبي خيثمة وعويمر بن ساعدة على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ماذا أحل لنا فنزلت : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين } قال ابن الجوزي : وأخرج حديث أبي رافع الحاكم في صحيحه قال البغوي : فلما نزلت هذه الآية أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من أمسك كلباً فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط إلا كلب حرث أو ماشية » ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم » وقال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير قالا : يا رسول الله إنَّا قوم نصيد بالكلاب وبالبزاة فماذا يحل لنا فنزلت هذه الآية .
قال البغوي : وهذا القول أصح في سبب نزولها . وأما التفسير فقوله تعالى يسألونك يعني يسألك أصحابك يا محمد ما الذي أحل لهم أكله من المطاعم والمآكل كأنهم لما تلا عليهم من خبائث المآكل ما تلا سألوا عما أحل لهم { قل أحل لكم الطيبات } يعني قل لهم يا محمد أحل لكم الطيبات يعني : ما ذبح عن أسم الله عز وجل . وقيل : الطيبات كل ما تستطيبه العرب وتستلذه من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة .(2/232)
واعلم : أن العبرة في الاستطابة والاستلذاذ بأهل المروءة والأخلاق الجميلة من العرب ، فإن أهل البادية منهم يستطيبون أكل جميع الحيوانات فلا عبرة بهم لقوله تعالى : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فإن الخبيث غير مستطاب ، فصارت هذه الآية الكريمة نصاً فيما يحل ويحرم من الأطعمة . وقوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } يعني وأحل صيد ما علمتم من الجوارح فحذف ذكر الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه ولأنهم سألوا عن الصيد وقيل : إن قوله وما علمتم من الجوارح ابتداء كلام خبره فكلوا مما أمسكن عليكم وعلى هذا القول يصح معنى الكلام من غير إضمار . والجوارح : جمع جارحة وهي الكواسب من : السباع والطير كالفهد والنمر والكلب والبازي والصقر والعقاب والشاهين والباشق من الطير مما يقبل التعليم سميت جوارح من الجرح لأنها تجرح الصيد عند إمساكه وقيل : سميت جوارح لأنها تكسب . والجوارح : الكواسب من جرح واجترح إذا اكتسب ومنه قوله تعالى : { الذين اجترحوا السيئات } يعني اكتسبوا وقوله ويعلم ما جرحتم بالنهار أي اكتسبتم مكلبين يعني معلمين .
والمكلب : هو الذي يغري الكلاب على الصيد . وقيل : هو مؤدِّب الجوارح ومعلمها وإنما اشتق له هذا الاسم من الكلب ، لأنه أكثر احتياجاًً إلى التعليم من غيره من الجوارح . { تعلمونهن } يعني تعلمون الجوارح الاصطياد { مما علمكم الله } يعني من العلم الذي علمكم الله ، ففي الآية دليل على أنه لا يجوز صيد جارحة ما لم تكن معلمة . وصفة التعليم هو أن الرجل يعلم جارحة الصيد وذلك أن يوجد فيها أمور منها : أنه إذا أشليت على الصيد استشلت وإذا زجرت انزجرت وإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل منها شيئاً ومنها أن لا ينفر منه إذا أراده وأن يجيبه إذا دعاه فهذا هو تعليم جميع الجوارح فإذا وجد ذلك منها مراراً كانت معلمة وأقلها ثلاث مرات فإنه يحل قتلها إذا جرحت بإرسال صاحبها ( ق ) . عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إنا قوم نصيد بهذه الكلاب؟ فقال « إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه وإن خالط كلاباً لم يذكر اسم الله عليه فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم علىغيره » .
وفي رواية : فإنك لا تدري أيها قتل وسألته عن الصيد المعراض ، فقال : إذا أصبت بحده فكل وإذا أصبت بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكُلْ فإن وقع في المال فلا تأكل .
واختلف العلماء فيما إذا أخذت الكلاب الصيد وأكلت منه شيئاً فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه ويروى ذلك عن ابن عباس وهو قول عطاء وطاوس الشعبي وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وهو أصح قول الشافعي ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم :(2/233)
« وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه » ورخص بعضهم في أكله يروي ذلك عمر وسلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وبه قال مالك لما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب « إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه » أخرجه أبو داود . وأما غير المعلم من الجوارح إذا أخذت صيداً أو المعلم إذا خرج بغير إرسال صاحبه فأخذ وقتل فإنه لا يحل إلا أن يدركه حياً فيذبحه فيحل ( ق ) .
عن أبي ثعلبة الخشني قال : قلت يا رسول الله أنا بأرض قوم أهل الكتاب أفنأكل في آنيتهم وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم فما يصلح لي؟ قال : « أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فأن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل » .
وقوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } دخلت من في قوله مما للتبعيض لأنه إنما أحل أكل بعض الصيد وهو اللحم دون الفرث والدم . وقيل : من زائدة فهو كقوله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر } { واذكروا اسم الله عليه } .
قال ابن عباس : يعني إذا أرسلت جارحك فقل بسم الله وإن نسيت فلا حرج . ومن قوله صلى الله عليه وسلم لعدي : « إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل » فعلى هذا يكون الضمير في عليه عائد إلى ما علمتم من الجوارح أي سموا الله عليه عند إرساله . وقيل : الضمير عائد إلى ما أمسكن عليكم . والمعنى : سموا الله عليه إذا أدركتم ذكاته . وقيل : يحتمل أن يكون الضمير عائد إلى الأكل يعني واذكروا اسم الله عليه عند الكل فعلى هذا تكون للتسمية شرطاً عند إرسال الجوارح وعند إرسال الذبيحة وعند الأكل وسيأتي بيان هذه المسألة في سورة الأنعام عند قوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه { واتقوا الله } يعني واحذروا مخالفة الله يعني فيما أحل لكم وحرم عليكم { إن الله سريع الحساب } يعني إذا حاسب عباده يوم القيامة ففيه تخويف لمن خالف أمره وفعل ما نهاه عنه .(2/234)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
قوله عز وجل : { اليوم أحل لكم الطيبات } إنما كرر إحلال الطيبات للتأكيد كأنه قال : اليوم أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها ويحتمل أن يراد باليوم ، اليوم الذي أنزلت فيه هذه الآية أو اليوم الذي تقدم ذكره في قوله : اليوم يئس الذي كفروا من دينكم اليوم أكملت لكم دينكم . ويكون الغرض من ذكر هذا الحكم ، أنه تعالى قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، فبين أنه كما أكمل الدين وأتم النعمة ، فكذلك أتم النعمة بإحلال الطيبات .
وقيل : ليس المراد باليوم يوماً معيناً وقد تقدم الكلام في ذلك اليوم وفي معنى الطيبات في الآية المتقدمة . وقوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } يعني وذبائح أهل الكتاب حل لكم وهم اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم . فأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهم منتصروا العرب من بني تغلب فلا تحل ذبيحته .
روي عن علي بن أبي طالب قال : لا تأكل من ذبائح نصارى العرب بني تغلب فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر . وبه قال ابن مسعود . ومذهب الشافعي : أن من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن ، فإنه لا تحل ذبيحته .
سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأس به . ثم قرأ : ومن يتولهم منكم ، فإنه منهم وهذا قول الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى مثل هذا مذهب الشافعي .
واجمعوا على تحريم ذبائح المجوس وسائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ومن لا كتاب له ، وأجمعوا على أن المراد بطعام الذين أتوا الكتاب ذبائحهم خاصة لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح فحمل هذه الآية عليه أولى ولأن سائر الطعام لا يختلف من تولاه من كتابي أو غيره ، وإنما تختلف الذكاة ، فلما خص أهل الكتاب بالذكر دل على أن المراد بطعامهم وذبائحهم واختلف العلماء فيما لو ذبح يهودي أو نصراني على غير اسم الله فقال ابن عمر : لا يحل ذلك وهو قول ربيعة وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل . سئل الشعبي وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح فقال : يحل فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون .
وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي والنصراني وذكر غير اسم الله وأنت تسمع فلا تأكل وإذا غاب عنك فكل فقد أحله الله لك وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً وإن ذكروا غير اسم الله فيكون هذا ناسخاً لقوله تعالى : ولا تأكلو مما لم يذكر اسم الله عليه ، وليس الأمر كذلك ولا نسخ لأن الأصل أنهم يذكرون الله عند الذبح فيحمل أمرهم على هذا فإن تيقنا أنهم ذبحوا على غير اسم الله لم تأكل ولا وجه للنسخ .(2/235)
وقوله تعالى : { وطعامكم حل لهم } يعني أن ذبائحنا لهم حلال وهذا يدل على أنهم مخاطبون بشريعتنا . وقال الزجاج : معناه ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم فجعل الخطاب للمؤمنين على معنى أن التحليل يعود إلى إطعامنا إياهم لا إليهم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله تعالى أن تطعمهم من ذبائحنا . وقيل : إن الفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة من الجانبين وإباحة الذبائح كانت حاصلة من الجانبين لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على التمييز بين النوعين ثم قال تعالى : { والمحصنات من المؤمنات } قال مجاهد : هن الحرائر فعلى هذا القول لا تدخل الأمة المؤمنة في هذا التحليل ومن أجاز نكاحهن أجازه بشرطين : خوف العنت ، وعدم طول الحرة .
وقال ابن عباس : المحصنات : العفائف . فعلى هذا القول لا يحل نكاح الزانية لأنها لم تدخل في هذا التحليل وأباح العلماء نكاحها إذا تابت وحسنت توبتها .
روى طارق بن شهاب أن رجلاً أراد أن يزوج أخته فقالت : إني أخشى أن أفضحك إني قد بغيت فأتى عمر فذكر ذلك له منها فقال : أليس قد تابت؟ قال : بلى . قال : فزوجها . وقيل : إنما خص المحصنات بالذكر وهن الحرائر أو العفائف ليحث المؤمنين على تخير النساء ليكون الولد كريم الأصل من الطرفين .
وقوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } يعني وأحل لكم المحصنات من أهل الكتاب اليهود والنصارى . قال ابن عباس : يعني الحرائر من أهل الكتاب . وقال الحسن والشعبي والنخعي والضحاك : يريد العفائف من أهل الكتاب فعلى قول ابن عباس : لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية وهو مذهب الشافعي قال : لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان ، الكفر ، والرق . وعلى قول الحسن ومن وافقه ، يجوز التزويج بالأمة الكتابية وهو مذهب أبي حنيفة لعموم هذه الآية . واختلف العلماء في حكم هذه المسألة فذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التزويج بالذميات من اليهود والنصارى . روي أن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية وأن طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية وروي عن ابن عمر كراهية ذلك ويحتج بقوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } وكان يقول : لا أعلم شركاً أعظم من قولها إن ربها عيسى وأجاب الجمهور عن قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن بأنه عام خص بهذه الآية فأباح الله تعالى المحصنات من أهل الكتاب وحرم من سواهن من أهل الشرك وقال سعيد بن المسيب والحسن : يجوز التزويج بالذميات والحربيات من أهل الكتاب لعموم قوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } وأجاب جمهور العلماء بأن ذلك مخصوص بالذميات دون الحربيات من أهل الكتاب .(2/236)
قال ابن عباس : من نساء أهل الكتاب من تحل لنا ومنهن من لا تحل لنا . وقرأ : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون والمراد بهم أهل الذمة دون أهل الحرب من أهل الكتاب . وقوله تعالى : { إذا آتيتموهن أجورهن } يعني مهورهن وهو العوض الذي يبذله الزوج للمرأة { محصنين غير مسافحين } يعني متعففين بالتزوج غير زانين { ولا متخذي أخدان } يعني ولا منفردين ببغي واحدة قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها وحده حرم الله الجماع على جهة السفاح وهو الزنا واتخاذ الصديق وهو الخدن وأحله على جهة الإحصان وهو التزويج بعقد صحيح { ومن يكفر بالإيمان } يعني ومن يجحد ما أمر الله به من توحيده ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله { فقد حبط عمله } يعني فقد بطل ثواب عمله الذي كان عمله في الدنيا وخاب وخسر في الدنيا والآخرة . وقيل في معنى الآية ، ومن يكفر بشرائع الإيمان وتكاليفه فقد خاب وخسر وقال قتادة ذكر لنا إن ناساً من المسلمين قالوا : كيف نتزوج نساءهم؟ يعني نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا ، فأنزل الله تعالى : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين . وقيل : لما أباح الله تعالى نكاح الكتابيات ، قلن فيما بينهن لولا أن الله قد رضي أعمالنا لم يُبِحْ للمؤمنين تزويجنا ، فأنزل الله هذه الآية والمعنى أن تزوج المسلمين إياهن ليس بالذي يخرجهن من الكفر . وقيل : إن أهل الكتاب وإن حصلت لهم في الدنيا فضيلة بإباحة ذبائحهم ونكاح نسائهم إلا أن ذلك غير حاصل لهم في الآخرة ، لأن كل من كفر بالله وجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين .
وقيل : إن من أحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله أو جحد بشيء مما أنزل الله فقد كفر بالله وحبط عمله المتقدم { وهو في الآخرة من الخاسرين } إذا مات على ذلك وهذا الشرط لا بد منه لأنه إذا تاب وآمن قبل الموت قبلت توبته وصح إيمانه .(2/237)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة ومثله قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } أي : إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله ومثله من الكلام إذا أتجرت فأتجر في البر أي إذا أردت التجارة . وهذا القول يقتضي وجوب الوضوء عند كل صلاة وهو ظاهر الآية ومذهب داود الظاهري وذهب جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم إلأى أنه يجزىء عدة صلوات بوضوء واحد وأجيب عن ظاهر الاية بان المعنى إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر فحذف ذلك لدلالة المعنى عليه وهذا أحد اختصارات القرآن وهو كثير جداً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ » أخرجاه في الصحيحين وقيل في معنى الآية : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم وقيل : هو أمر ندب ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارة وإن كان على طهر ويدل عليه ما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات » أخرجه الترمذي . وقيل : هذا إعلام من الله إلى رسول الله صلى الله علي وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال ويدل عليه ما روي عن ابن عباس « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا ألا نأتيك بوضوء فقال إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة » أخرجه مسلم . والقول الأول هو المختار في معنى الآية وفروض الوضوء المذكور في هذه الاية أربعة : الأول غسل الوجه وهو قوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } واستدل الشافعي على وجوب النية عند غسل الوجه بهذه الآية وحجته أن الوضوء مأمور به وكل مأمور به يجب أن يكون منوياً ولما روي في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم « قال أنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى » والوضوء من الأعمال فيجب أن يكون منوياً وإنما قلنا : إن الوضوء مأمور به وأنه من أعمال الدين لقوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } والإخلاص ، عبارة عن النية الخالصة ومتى كانت النية الخالصة ، معتبرة كان أصل النية في جميع الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى معتبراً . واستدل أبو حنيفة لعدم وجوب النية في الوضوء بهذه الآية قال : إن النية ليست شرطاً لصحة الوضوء ، لأن الله تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية ولم يوجب النية فيها ، فإيجاب النية زيادة على النص والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز .(2/238)
وأجيب عنه : بأنا إنما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن وهو قوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وأما حد الوجه ، فمن منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولاً ومن الأذن عرضاً لأنه مأخوذ من المواجهة فيجب غسل جميع الوجه في الوضوء ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والعذارين والشارب والعنفقة وإن كانت كثة . وأما اللحية فإن كانت كثة لا ترى البشرة من تحتها لا يجب غسل ما تحتها ويجب غسل ما تحت اللحية الخفيفة وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما نزل من اللحية عن الذقن؟ فيه قولان : أحدهما وبه قال أبو حنيفة ، لا يجب لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في المسح فكذلك حكم الشعر النازل عن حد الوجه لا يجب غسله . والقول الثاني يجب إمرار الماء على ظاهره لأن الوجه مأخوذ من المواجهة فتدخل جميع اللحية في حكم الوجه . الفرض الثاني قوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } يعني : واغسلوا أيديكم إلى المرافق والمِرافق بالكسر هو من الإنسان أعلىلذراع وأسفل العضد . وذهب جمهور العلماء إلى وجوب إدخال المرفقين في الغسل ونقل عن مالك والشافعي وزفر وأبي بكر بن داود الظاهري ، أنه لا يجب إدخال المرفقين في الغسل واختاره ابن جرير الطبري . ونقل عن مالك : وقد سئل عن قول الله عز وجل : { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } فقال : الذي آمر به أن يبلغ المرفقين في الغسل لا يجاوزهما وحجة أصحاب هذا القول أن كلمة إلى لانتهاء الغاية وما يجعل غاية للحكم يكون خارجاً عنه كما في قوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } ولأن الحد لا يدخل في المحدود فوجب أن لا يجب غسل المرفقين في الوضوء وحجة الجمهور أن كلمة إلى هنا بمعنى مع ومنه قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } أي مع أموالكم ويعضده من السنة ما صح من حديث أبي هريرة أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل اليمنى حتى أشرع في العضد ثم يده السرى حتى أشرع في العضد ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ . والجواب عن الحجة المتقدمة إن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه كما في هذه الآية لأن المرفق من جنس اليد وإذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه كما في قوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } لأن النهار من غير جنس الليل فلا يدخل فيه . الفرض الثالث : قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } اختلف العلماء في القدر الذي يجب مسحه من الرأس فقال مالك يجب مسح جميعه وهو إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى عنه أنه يجب مسح أكثره وقال أبو حنيفة : يجب مسح ربعه .(2/239)
وفي رواية أخرى عنه : يجب مسح قدر ثلاثة أصابع منه وقال الشافعي والواجب مسح ما ينطلق عليه اسم المسح والمراد إلصاق المسح بالرأس وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح بالرأس فأخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب وأخذ الشافعي باليقين فأوجب مسح ما يقع عليه اسم المسح وأخذ أبو حنيفة ببيان السنة وهو ما روي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين متفق عليه وقدر الناصية بربع الرأس . الفرض الرابع : قوله تعالى : { وأرجلكم إلى الكعبين } اختلف العلماء في هذا الحكم . وهل فرض الرجلين المسح أو الغسل؟ فروى عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان . ويروى ذلك عن قتادة أيضاً . ويروى عن أنس أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل . وعن عكرمة قال : ليس في الرجلين إنما نزل فيهما المسح . وعن الشعبي أنه قال : إنما هو المسح عن الرجلين . ألا ترى إن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم وما كان عليه المسح أهمل . ومذهب الإمامية من الشيعة : أن الواجب في الرجلين المسح .
وقال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم والأئمة الأربعة وأصحابهم : إن فرض الرجلين هو الغسل . وقال داود الظاهري : يجب الجمع بينهما . وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : المكلف مخير بين الغسل والمسح . وسبب هذا الاختلاف ، اختلاف القراء في هذا الحرف . فقرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم : وأرجلكم بفتح اللام عطفاً على الغسل فيكون من المؤخر الذي معناه التقديم ويكون المعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم . وقال أصحاب هذه القراءة : إنما أمر الله عباده بغسل الأرجل دون مسحها ويدل عليه عليه أيضاً فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين فمن بعدهم . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وأرجلكم بكسر اللام عطفاً على المسح . أما قراءة النصب فالمعنى فيها ظاهر لأنه عطف على المغسول لوجوب غسل الرجلين على مذهب الجمهور ولا يقدح فيه قول من خالف . وأما قراءة الكسر فقد اختلفوا في معناها والجواب عنها فقال أبو حاتم وابن الأنباري وأبو علي الكسر عطف على الممسوح ، غير أن المراد بالمسح في الأرجل الغسل . وقال أبو زيد : المسح خفيف الغسل لقول العرب تمسحت للصلاة بمعنى توضأت لها وهات ما أتمسح به للصلاة بمعنى أتوضأ .
قال أبو حاتم : وذلك أن المتوضىء لا يرضى بصب الماء على أعضائه حتى يمسحها مع الغسل فسمي الغسل مسحاً بهذا الاعتبار فعلى هذا الرأس والرجل ممسوحاً إلا أن مسح الرأس أخف .(2/240)
والذي يدل على أن المراد بالمسح في الرجل الغسل ذكر التحديد وهو قوله تعالى : إلى الكعبين لأن التحديد إنما جاء في المغسول ولم يجىء في الممسوح فلما وقع التحديد مع المسح علم أنه في حكم الغسل . وقال جماعة من العلماء : إن الأرجل معطوفة على الرؤوس في الظاهر والمراد فيها الغسل لأنه قد ينسق بالشيء على غيره والحكم فيهما مختلف كما قال الشاعر :
يا ليت بعلك قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحا
والمعنى : وحاملاً رمحاً لأن الرمح لا يتقلد به وكذلك قول الآخرين . علفتها تبناً وماء بارداً . يعني وسقيتها ماء بارداً . وكذلك المعنى في الآية وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم فلما لم يذكر الغسل وعطفت الأرجل على الرؤوس في الظاهر اكتفى بقيام الدليل على أن الأرجل مغسولة من مفهوم الآية والأحاديث الصحيحة الواردة بغسل الرجلين في الوضوء . وأما من جعل كسر اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ دون الحكم واستدل بقولهم : حجر ضب خرب . وقال : الخرب نعت للحجر لا للضب وإنما أخذ إعراب الضب للمجاورة فليس يجيد لأن الكسر على المجاورة إنما يحمل لأجل الضرورة في الشعر أو يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس لأن الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للحجر ولأن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف .
أما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب وقوله تعالى { إلى الكعبين } فيه دليل قاطع على وجوب غسل الكعبين كما في وجوب غسل الرجلين كما في قوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } والمعنى : واغسلوا أرجلكم مع الكعبين وقد تقدم اختلاف العلماء في ذلك عند قوله إلى المرافق ، والكعبان : هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم هذا قول جمهور العلماء من أهل الفقه واللغة وشذت الشيعة ، ومن قال بمسح الرجلين . فقال : الكعب عبارة عن عظم مستدير على ظهر القدم ويدل على بطلان هذا القول أن الكعب لو كان على ما ذكره لكان في كل رجل كعب واحد فكان ينبغي أن يقال : وأرجلكم إلى الكعاب كما في قوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } فلما قال إلى الكعبين علم أن لكل رجل كعبين فبطل ما قالوه وثبت قول الجمهور .
( فصل )
قد تقدم أن الفروض المذكورة في هذه الآية أربعة : وهي غسل الوجه وغسل اليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على وجوب النية في الوضوء فصارت فرضاً خامساً . وذهب الشافعي ومالك وأحمد إلى وجوب الترتيب في الوضوء ، وهو أن يغسل الأعضاء في الوضوء على الولاء كما ذكره الله في هذه الآية فيغسل أولاً وجهه ثم يده ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه ، فصار الترتيب فرضاً سادساً . وذهب أبو حنيفة ، إلى أن الترتيب في الوضوء غير واجب احتج الشافعي على وجوب الترتيب بهذه الآية وذلك أن الله تعالى أمر بغسل الوجه ثم بغسل اليدين ثم بمسح الرأس ثم بغسل الرجلين فوجب أن يقع الفعل مرتباً كما أمر الله تعالى ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث حجة الوداع(2/241)
« ابدأ بما بدأ الله به » وهذا الحديث ، وإن ورد في قصة السعي بين الصفا والمروة ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء ما وردت إلا مرتبة كما ورد في نص الآية ولم ينقل عنه ولا عن غيره من الصحابة أنه توضأ منكساً أو غير مرتب ، فثبت أن ترتيب أفعال الوضوء كما مر الله تعالى ونص عليه في هذه الآية واجب واحتج . أبو حنيفة لمذهبه بهذه الآية أيضاً . وذلك أن الواو لا توجب الترتيب ، فإذا قلنا بوجوب الترتيب صار ذلك زيادة على النص وذلك غير جائز وأجيب عنه بانه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ إلا مرتباً كما ذكر وبيان الكتاب إنما يؤخذ من السنة .
( فصل في ذكر الأحاديث التي وردت في صفة الوضوء وفضله )
( ق ) عن حمران مولى عثمان بن عفان « أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثاً ويديه إلى المرفقين ثلاثاً ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال : » من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه « ( ق ) .
عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري » قيل له توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء فأفرغ منه على يديه ثلاثاً ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثاً ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثم قال هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم « زاد في رواية بعد قوله : » فأقبل بيديه وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه « .
عن عبد خير قال : أتانا علي كرم الله وجهه وقد صلى فدعا بطهور فقلنا ما يصنع بالطهور وقد صلى ما يريد إلا ليعلمنا فأتى بإناء فيه ماء وطست فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يده ثلاثاً ثم تمضمض واستنشق ثلاثاً فمضمض ونثر من كف يأخذ منه ثم غسل وجهه ثلاثاً وغسل يده اليمين ثلاثاً وغسل الشمال ثلاثاً ثم جعل يده في الإناء فمسح رأسه مرة واحدة ثم غسل رجله اليمنى ثلاثاً ورجله الشمال ثلاثاً ثم جعل يده في الإناء فمسح رأسه مرة واحدة ثم غسل رجله اليمنى ثلاثاً ورجله الشمال ثلاثاً ثم قال : » من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا « أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص » أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً ثم غسل وجهه ثلاثاً ثم غسل ذراعيه ثلاثاً ثم مسح برأسه فأدخل اصبعيه السبابتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال : هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو قال ظلم وأساء « أخرجه أبو داود .(2/242)
وعن ابن عباس : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما » أخرجه الترمذي وصححه ( ق ) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لم يغسل عقبه فقال : « ويل للأعقاب من النار » ( م ) عن جابر قال : أخبرني عمر بن الخطاب « أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال » ارجع وأحسِن وضوءك « قال فرجع فتوضأ ثم صلى » أخرجه مسلم عن خالد عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة » أخرجه أبو داود ( ق ) عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته : « ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً » عن ابن عباس « أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة » أخرجه البخاري عن أبي هريرة : « أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين أخرجه أبو داود والترمذي . وقال وقد روي عن أبي هريرة : » أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً « ( م ) .
عن عقبة بن عامر قال : كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشي فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يحدث الناس فأدركت من قوله » ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة « فقلت ما أجود هذا فإذا قائل بين يدي يقول التي قبلها أجود فنظرت فإذا عمر قال : إني قد رأيتك جئت آنفاً قال :(2/243)
« ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء » ( م ) .
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب » ( ق ) عن نعيم بن عبد الله المجمر عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل » وفي رواية قال : رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله » .
وفي رواية لمسلم قال : سمعت خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم « يقول تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء » عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من توضأ على طهر كتب الله له به عشر حسنات » أخرجه الترمذي .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه » أخرجه أبو داود وابن ماجه . وقوله تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } أي اغتسلوا أمر الله بالاغتسال من الجنابة وذلك يجب على الرجل والمرأة بأحد شيئين : إما بخروج المني على أي صفة كان من احتلام أوغيره أو بالتقاء الختانين وإن لم يكن معه إنزال فإذا حصل وجب الغسل ( ق ) .
عن عائشة : « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء يخلل بهما أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيده ثم يفيض الماء على سائر جسده » أو قوله تعالى : { وأن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } فقد تقدم تفسيره وأحكامه في تفسير سورة النساء وفي قوله تعالى منه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب . وقوله تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } يعني من الاحداث والذنوب والخطايا لأن الوضوء تكفير للذنوب { لعلكم تشكرون } يعني تشكرون نعمة الله عليكم بأن طهركم من الاحداث والذنوب وما جعل عليكم في الدين من حرج .(2/244)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
قوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم } يعني : ما أنعم به عليكم من النعم كلها ، لأن كثرة النعم وذكرها يوجب مزيد الشكر من المنعم عليه والاشتغال بطاعة المنعم بها والانقياد لأمره وهو الله تعالى : { وميثاقه الذي واثقكم به } يعني : واذكروا عهده الذي عاهدكم به أيها المؤمنون { إذ قلتم سمعنا وأطعنا } وذلك حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا وقيل الميثاق هو الذي أخذه عليهم في يوم ألست بربكم قالوا بلى : { واتقوا الله } يعني فيما أخذه عليكم من الميثاق فلا تنقضوه { إن الله عليم بذات الصدور } يعني إن الله تعالى عالم بما في قلوب عباده من خير وشر . وقوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله } قال ابن عباس يريد أنهم يقومون لله بحقه ومعنى ذلك : هو أن يقوم لله بالحق في كل ما يلزمه القيام به من العمل بطاعته واجتناب نواهيه { شهداء بالقسط } يعني وتشهدون بالعدل يقول لا تحابِ في شهادتك أهل ودِّك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أهل بغضك وأعداءك أقم شهادتك لهم وعليهم بالصدق والعدل .
{ ولا يجرمنكم شنآن قوم } ولا يحملنكم بغض قوم { على ألا تعدلوا } على ترك العدل فيهم لعدوانهم { اعدلوا } أمر الله بالعدل في كل أحد القريب والبعيد والصديق والعدو { هو أقرب للتقوى } أي العدل أقرب للتقوى { واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } يعني : أن الله تعالى خبير بجميع أعمالكم مطلع عليها وخبير بمن عدل ومن لم يعدل .
قوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني عملوا بما واثقهم الله به وأوفوا بالعهود التي عاهدهم عليها { لهم مغفرة وأجر عظيم } هذا بيان للوعد كأنه لما تقدم ذكر الوعد فقيل : أي شيء هذا الوعد؟ فقال : لهم مغفرة وأجر عظيم وإذا وعدهم أنجز لهم الوعد فإنه تعالى لا يخلف الميعاد .(2/245)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } يعني : والذين جحدوا وحدانية الله ونقضوا عهوده ومواثيقه وكذبوا بما جاءت به الرسل من عنده { أولئك } يعني من هذه صفته { أصحاب الجحيم } هذه الآية نص قاطع في أن الخلود في النار ليس إلا للكفار لأن المصاحبة تقتضي الملازمة كما يقال : فلان صاحب فلان يعني الملازم له .
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم } يعني : اذكروا نعمة الله عليكم بالدفع عنكم مع سائر نعمه التي أنعم بها عليكم ثم وصف تلك النعمة التي ذكرهم بها وأمرهم بالشكر عليها فقال تعالى : { إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } يعي بالقتل والبطش بكم فصرفهم عنكم وحال بينكم وبين ما أرادوه بكم .
اختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية وفي صفة هذه النعمة التي أمر الله تعالى أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بذكرها والشكر عليها ، فقال قتادة : نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة حين أراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك وأنزل صلاة الخوف . وقال الحسن : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محاصراً غطفان بنخل فقال رجل من المشركين : هل لكم أن أقتل محمداً؟ قالوا : وكيف تقتله؟ قال : أفتك به . قالوا : وددنا أنك فعلت ذلك . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم متقلد سيفه فقال : يا محمد أرني سيفك فأعطاه أياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر إليه مرة وإلى النبي مرة ثم قال : من يمنعك مني يا محمد؟ قال : الله . فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغمد السيف ومضى فأنزل الله هذه الآية . وقال مجاهد وعكرمة والكلبي : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكباً من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة وهي من مياه بني عامر فاقتتلوا فقتل المنذر وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم : أحدهم عمرو بن أمية الضمري فلم يرعهم إلا الطير تحوم في السماء يسقط من بين مناقيرها علق الدم فقال أحد النفر الثلاثة : قتل أصحابنا . ثم تولى يشتد حتى لقي رجلاً من المشركين فاختلفا ضربيتن فلما خالطته الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه فقال : الله أكبر الجنة ورب العالمين ورجع صاحباه فلقيا رجلين من بني سليم وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة فانتسبا إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما ألى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبدالرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستعينهم في عقلهما وكانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات .(2/246)
وقيل أراد أن يستقرض منهم ديه رجلين فقالوا نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة أجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي سألته فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخلا بعض اليهود ببعض وقالوا : إنكم لم تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر منكم على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيربحنا منه فقال عمرو بن جحاش : أنا . فعمد إلى رحى عظيمة ليطرحها على النبي صلى الله عليه وسلم فأمسك الله يده ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة . قال : وخرج معه علي بن أبي طالب فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي لا تبرح مكانك حتى يخرج إليك أصحابي فمن خرج إليك منهم وسألك عني فقل توجه إلى المدينة ففعل ذلك حتى تناهوا إليه ثم اتبعوه إلى المدينة وأنزل الله عز وجل هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم } يعني اليهود { أن يبسطوا إليكم أيديهم } يقال بسط يده إليه إذا بطش به وهو إذا مدها إلى المبطوش به ليقتله { فكفَّ أيديهم عنكم } يعني أنه تعالى منعهم مما أرادوه بكم { واتقوا الله } يعني فيما أمركم به ونهاكم عنه { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أمر الله تعالى المؤمنين بالتوكل عليه لأنه هو الكافي عباده جميع أمورهم فإذا فعلوا ذلك وتوكلوا عليه حفظهم ورعاهم ممن أرادهم بسوء كما كفَّ أيدي اليهود عنهم لما أرادوا أن يفتكوا بهم وهذه القصة أولى بالصواب لأنه عقب الآية بذم اليهود وذكر قبيح أفعالهم وخيانتهم .(2/247)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
قوله تعالى : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل } لما ذكر الله في الآية المتقدمة بعض غدرات اليهود وما أرادوه من كيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أتبعه بذكر أسلافهم وما نقضوه من المواثيق والعهود ومعنى الآية أن الله أخذ ميثاقهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وأن يعملوا بما في التوراة من الأحكام والتكاليف { وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً } اختلف العلماء في معنى النقيب فقال ابن عباس : النقيب الضمين . وقال قتادة : هو الشهيد على قومه . وقيل : هو الأمين الكفيل . وقيل : هو الباحث عن القوم وعن أحوالهم .
( ذكر القصة في ذلك )
قال أصحاب الأخبار والسير : إن الله عز وجل وعد موسى عليه السلام أن يورثه وقومه الرض المقدسة وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون فأمر الله موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض وقال : إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصرك عليهم وخذ من قومك اثني عشر نقيباً من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به فاختار موسى النقباء وسار ببني إسرائيل حتى قربوا من أريحاء وهي مدينة الجبارين فبعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الأخبار ويعلمون علمها فلقيهم رجل من الجبارين يقال له ، عوج بن عنق ، وعنق : أمه ، وهي إحدى بنات آدم عليه السلام . وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع هكذا نقله البغوي وفيه نظر لأن آدم عليه السلام كان طوله على ما ورد في الأحاديث الصحيحة ستين ذراعاً . قال : وكان عوج يحتجر بالسحاب ويشرب من مائة ويتناول الحوت من قعر البحر ويشويه في عين الشمس ، ويروى أن الماء لما طبق على الأرض من جبل وغيره ما بلغ ركبتي عوج وقال لنوح عليه السلام : احملني معك في السفينة فقال نوح عليه السلام : اخرج عني يا عدو الله فإني لم أؤمر بك وعاش عوج ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله تعالى على يد موسى عليه السلام وذلك أنه اقتلع صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى ، وكان فرسخاً في فرسخ وحملها على رأسه ليطبقها عليهم فبعث الله الهدهد فنقب الصخرة وقورها بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته وأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله قال ، فلما لقي عوج النقباء أخذهم وجعلهم في حجزته وكان على رأسه حزمة حطب وانطلق بهم إلى امرأته وقال لها : اتظري إلى هؤلاء الذين يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها وقال لا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته : بل خلِّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا منك وقيل إنه جعلهم في كمه وأتى بهم إلى الملك فنثرهم بين يديه فقال لهم الملك ارجعوا إلى قومكم فأخبروهم بما رأيتم وكان مما رأوا أن العنقود العنب لا يحمله إلا خمسة أنفس منهم بينهم في خشبة ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع منها حبسها خمسة أنفس فرجع النقباء وقال بعضهم لبعض : يا قوم إنكم إذا خبرتم بني إسرائيل خبر القوم رجعوا عن نبي الله موسى ولا يقاتلونهم معه اكتموا عن بني إسرائيل خبر القوم وأخبروا موسى وهارون بما رأيتم فيريان رأيهما وأخذ بعض النقباء على بعض الميثاق بذلك فلما رجعوا إلى بني إسرائيل نكثوا العهد والميثاق وأخبر كل رجل سبطه بما رأى إلا رجلان منهم وهم يوشع بن نون وكالب بن يوقنا فإنهم أوفيا بالعهود ولم ينكثا الميثاق فذلك قوله تعالى : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً } { وقال الله إني معكم } فيه حذف تقديره وقال للنقباء : إني معكم يعني بالنصر والمعونة .(2/248)
وقيل : هو خطاب لعامة بني إسرائيل : والقول الأول أولى لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور فكان عوده إلى النقباء أولى ثم ابتدأ الكلام فقال مخاطباً لبني إسرائيل : { لئن أقمتم الصلاة } هذه جملة شرطية والشرط مركب من خمسة أمور ، وهي قوله : لئن أقمتم الصلاة { وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً } وجزاء الشرط قوله تعالى : { لأكفرنّ عنكم سيئاتكم } وذلك إشارة إلى إزالة العذاب . وقوله تعالى : { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } إشارة إلى إيصال الثواب ومعنى الآية لئن أقمتم الصلاة المكتوبة وآتيتم الزكاة المفروضة وآمنتم برسلي يعني جميع رسلي وإنما أخر ذكر الإيمان بالرسل لأن اليهود كانوا مقربين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان ببعض الرسل فقال الله لهم إنه لا يتم لكم ذلك ولا يحصل المقصود إلا بالإيمان بجميع الرسل . وقوله تعالى : وعزرتموهم ، يعني ونصرتموهم . وأصل التعزير في اللغة : الردع . فمعنى وعزرتموهم : ونصرتموهم بأن تردوا أعداءهم عنهم . وقيل : معناه وقرتموهم وعظتموهم . والقول هو الأول .
وأقرضتم الله قرضاً حسناً : يعني به الصدقات المندوبة لأن الزكاة تقدم ذكرها فلا فائدة في تفسير هذا الفرض بالزكاة . فإن قلت : كيف؟ قال : وأقرضتم الله قرضاً حسناً ولم يقل إقراضاً حسناً لأن مصدر أقرضتم الإقراض قلت : إن قوله قرضاً أخرج مصدراً من معناه لا من لفظه وذلك أن أقرض بمعنى قرض فكان معنى الكلام وأقرضتم الله فقرضتم قرضاً حسناً ونظير ذلك قوله تعالى : { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } إذ كان معناه فنبتم نباتاً وقوله { لأكفرن عنكم سيئاتكم } يعني إذا فعلتم سائر ما أمرتكم به لأمحونَّ عنكم سيئآتكم وأغفرها لكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار { فمن كفر بعد ذلك منكم } يعنعي بعد أخذ العهد والميثاق { فقد ضل سواء السبيل } يعني فقد أخطأ الطريق المستقيم وهو طريق الدين الذي شرعه والهدى الذي أمر باتباعه .(2/249)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم } أي بسبب نقضهم الميثاق؛ وذلك أن بني إسرائيل نقضوا ميثاق الله وعهده بأن كذبوا الرسل الذين جاؤوا من بعد موسى وقتلوا أنبياء الله ونبذوا كتابه وضيّعوا فرائضه { لعناهم } يعني جازيناهم على ذلك بأن أبعدناهم وطردناهم عن رحمتنا وأصل اللعنة الأبعاد عن الرحمة { وجعلنا قلوبهم قاسية } يعني غليظة يابسة لا تلين لأن القسوة خلاف اللين والرقة وقيل معناه أن قلوبهم ليست خالصة للإيمان بل إيمانهم مشوب بالكفر والنفاق { يحرفون الكلم عن مواضعه } يعني يغيرون حدود التوراة وأحكامها وقيل هو تبديلهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته من التوراة وقيل هو تحريفهم معاني الألفاظ بسوء التأويل { ونسوا حظاً مما ذكروا به } يعني وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الأيمان يعني على معصية منهم وكانت خيانتهم نقض العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب محمد صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله وسمه ونحوها من خيانتهم التي ظهرت { إلا قليلاً منهم } يعني أنهم لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من أهل الكتاب { فاعف عنهم واصفح } أي فاعف عن زلاتهم يا محمد واصفح عن جرمهم ومؤاخذتهم وهذا الأمر بالعفو والصفح عن أهل الكتاب منسوخ بقوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } الآية التي نزلت في سورة براءة قاله قتادة وقيل إنها غير منسوخة بل نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فغدروا ونقضوا ذلك العهد فأظهر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك وأنزل هذا الآية ولم تنسخ وذلك أن يجوز أن يعفوا عن غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حرباً ولم يمنعوا من أداء الجزية والصغار وعلى هذا القول بأنها غير منسوخة يكون معنى الاية فاعفُ عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم قبل ذلك . وقيل : معناه فاعف عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد { إن الله يحب المحسنين } يعني إذا عفوت عنهم فإنك تحسن والله يحب المحسنين قوله عز وجل : { ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم } لما ذكر نقض اليهود الميثاق اتبعه بذكر نقض النصارى الميثاق وأن سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في نقض العهد والميثاق وإنما قال تعالى : { ومن الذين قالوا إنا نصارى } ولم يقل من النصارى لأنهم الذين ابتدعوا هذا الاسم وسموا به أنفسهم لأن الله تعالى سماهم به أخذنا ميثاقهم يعني كتبنا عليهم في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم { فنسوا حظاً مما ذكروا به } يعني فتركوا ما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { فأغرينا } يعني فألقينا وأوقعنا { بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } .
قال قتادة : لما تركوا العمل بكتاب الله وعصوا رسله وضيعوا فرائضه وعطلوا حدوده ، ألقى الله العداوة والبغضاء بينهم . وقيل : العداوة والبغضاء هي الأهواء المختلفة وفي الهاء والميم من قوله بينهم قولان : أحدهما أن المراد بهم اليهود والنصارى فإن العداوة والبغضاء حاصلة بينهم إلى يوم القيامة . والقول الثاني أن المراد بهم فرق النصارى ، فإن كل فرقة منهم تكفر الأخرى { وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } يعني أن الله تعالى يخبرهم في الآخرة بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ففيه وعيد وتهديد لهم .(2/250)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قوله تعالى : { يا أهل الكتاب } يعني اليهود والنصارى { قد جاءكم رسولنا } يعني محمد صلى الله عليه وسلم { يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب } يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم يظهر كثيراً مما أخفوا وكتموا من أحكام التوراة والإنجيل وذلك أنهم أخفوا آية الرجم وصفة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن ذلك وأظهره وهذا معجزة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقرأ كتابهم ولم يعلم ما فيه فكان إظهاره ذلك معجزة له { ويعفو عن كثير } يعني مما يكتمونه فلا يتعرض له ولا يؤاخذهم به لأنه لا حاجة إلى إظهاره والفائدة في ذلك أنهم يعلمون كون النبي صلى الله عليه وسلم عالماً بما يخفونه وهو معجزة له أيضاً فيكون ذلك داعياً لهم إلى الإيمان به { قد جاءكم من الله نور } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم إنما سماه الله نوراً لأنه يهتدى به كما يهتدى بالنور في الظلام وقيل : النور هو الإسلام { وكتاب مبين } يعني القرآن { يهدي الله به } يعني يهدي الله بالكتاب المبين { من اتبع رضوانه } أي اتبع ما رضيه الله وهو دين الإسلام لأنه مدحه وأثنى عليه { سبل السلام } قال ابن عباس : يريد دين الله وهو الإسلام فسبله دينه الذي شرع لعباده وبعث به رسله وأمر عباده باتباعه . وقيل : سبل السلامة طرق السلام . وقيل : سبل السلام دار السلام فيكون من باب حذف المضاف { ويخرجهم من الظلمات إلى النور } يعني من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان { بإذنه } يعني بتوفيقه وهدايته { ويهديهم إلى صراط مستقيم } يعني دين الإسلام قوله عز وجل { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } . قال ابن عباس : هؤلاء نصارى نجران ، فإنهم قالوا هذه المقالة وهو مذهب اليعقوبية والملكانية من النصارى لأنهم يقولون بالحلول وأن الله قد حل في بدن عيسى فلما كان اعتقادهم ذلك لا جرم حكم الله عليهم بالكفر ثم ذكر الله ما يدل على فساد مذهبهم فقال تعالى : { قل } يعني يا محمد لهؤلاء النصارى الذين يقولون هذه المقالة { فمن يملك } يعني يقدر أن يدفع { من الله شيئاً } يعني من أمر الله شيئاً { إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه } يعني يعدم المسيح وأمه { ومن في الأرض جميعاً } ووجه الاحتجاج على النصارى بهذا أن المسيح لو كان إنما كما يقولون لقدر على دفع أمر الله إذا أراد إهلاكه وإهلاك أمه وغيرها { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما } إنما قال وما بينهما ولم يقل وما بينهن لأنه أراد ما بين هذين النوعين أو الصنفين من الأشياء فإنها ملكه وأهلها عبيده وعيسى وأمه من جملة عبيده { يخلق ما يشاء } يعني من غير اعتراض عليه فيما يخلق لأنه خلق آدم من غير أب وأم وخلق عيسى من أم بلا أب وخلق سائر الخلق من أب وأم { والله على كل شيء قدير } يعني أن الله تعالى لا يعجزه شيء أراده فلا اعتراض لأحد من خلقه عليه .(2/251)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
قوله تعالى : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } قال ابن عباس : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وابن أصار ويحري بن عمرو وشاس بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد نحن أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى ، فأنزل الله عز وجل فيهم { وقالت اليهود والنصارى ، نحن أبناء الله وأحباؤه } الآية . وسبب هذه المقالة ما حكاه السدي قال : أما اليهود فإنهم قالوا إن الله أوحى إلى إسرائيل إني أدخل من ولدك النار فيكونون فيها أربعين يوماً حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ثم ينادي منادٍ أن اخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل فيخرجون فذلك قوله تعالى : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات . وأما النصارى ، فإن فرقاً منهم يقولون المسيح ابن الله وكذبوا فيما قالوا على الله تعالى فأما وجه قول اليهود فإنهم يعنون أنه من عطفه عليهم كالأب الشفيق على الولد وأما وجه قول النصارى ، فإنهم لما قالوا في المسيح أنه ابن الله وادعوا أنه منهم فكأنهم قالوا : نحن أبناء الله لهذا السبب . وقيل : إن اليهود إنما قالوا هذه المقالة من باب حذف المضاف والمعنى نحن أبناء رسول الله وأما النصارى فإنهم تأولوا قول المسيح أذهب إلى أبي وأبيكم . وقوله : إذا صليتم فقولوا يا أبانا الذي في السماء لنقدسن اسمك فذهبوا إلى ظاهر هذه المقالة ولم يعلموا ما أراد المسيح عليه السلام إن صحت هذه المقالة عنه فإن تأويلها أنه في بره ورحمته وعطفه على عباده الصالحين كالأب الرحيم لولده وجملة الكلام في ذلك أن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلاً على من سواهم بسبب أسلافهم الأفاضل حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه فأبطل الله عز وجل دعواهم وكذبهم فيما قالوا بقوله تعالى : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } . معناه : إذا كان الأمر كما تزعمون فلمَ يعذبكم الله وأنتم قد أقررتم على أنفسكم أنه يعذبكم أربعين يوماً وهل رأيتم والداً يعذب ولده بالنار وهل تطيب نفس محب أن يعذب حبيبه في النار { بل أنتم بشر ممن خلق } يعني بل أنتم يا معشر اليهود والنصارى كسائر بني آدم مجزيون بالإساءة والإحسان .
قوله تعالى : { يغفر لمن يشاء } يعني لمن تاب من اليهود والنصرانية { ويعذب من يشاء } يعني من مات على اليهودية والنصرانية . وقيل : معناه يهدي من يشاء فيغفر له ويميت من يشاء على كفره فيعذبه { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما } . يعني : أنه تعالى يملك ذلك لا شريك له في ذلك فيعارضه وهو الذي يملك المغفرة لمن يشاء والتعذيب لمن يشاء وفيه دليل على أنه تعالى لا ولد له لأن من يملك السموات والأرض يستحيل أن يكون له شبيه من خلقه أو شريك في ملكه { وإليه المصير } يعني وإلى الله مرجع العباد في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم .(2/252)
قوله تعالى : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل } قال ابن عباس : قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود : يا معشر اليهود اتقوا الله فولله إنكم لتعلمون أنه رسول الله لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته ، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا : ما قلنا ذلك لكم وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده فأنزل الله هذه الآية يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يبين لكم يعني أحكام الدين والشرائع على فترة من الرسل قال ابن عباس : يعني على انقطاع من الرسل . واختلف العلماء في قدر مدة الفترة فروي عن سلمان قال : فترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة أخرجه البخاري . وقال قتادة : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة وما شاء الله من ذلك وعنه أنها خمسمائة سنة وستون سنة . وقال ابن السائب : خمسمائة وأربعون سنة . وقال الضحاك : إنها أربعمائة وبضع وثلاثون سنة . ونقل ابن الجوزي عن ابن عباس : على فترة من الرسل قال : على انقطاع منهم . قال : وكان بين ميلاد عيسى وميلاد محمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسعة وستون سنة وهي الفترة وكان بين عيسى ومحمد أربعة من الرسل فذلك قوله { إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث } قال : والرابع لا أدري من هو فكانت تلك السنون مائة وأربعاً وثلاثين سنة نبوة وسائرها فترة . قال أبو سليمان الدمشقي : والرابع والله أعلم خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نبيٌّ ضيعَه قومه » .
قال الإمام فخر الدين الرازي : والفائدة في بعثة محمد صلى الله عليه وسلم عند فترة الرسل ، هي أن التحريف والتغيير كان قد تطرف إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها وسبب ذلك اختلاط الحق بالباطل والكذب بالصدق فصار ذلك عذراً ظاهراً في إعراض الخلق عن العبادات لأن لهم أن يقولوا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبدك فبعث الله في هذا الوقت محمداً صلى الله عليه وسلم لإزالة هذا العذر فذلك قوله عز وجل : { أن تقولوا ما جاءنا من بشير ونذير } يعني لئلا تقولوا وقيل معناه كراهية أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير في هذا الوقت { فقد جاءكم بشير ونذير } يعني فقد أرسلت إليكم محمداً صلى الله عليه وسلم لإزالة هذا العذر { والله على كل شيء قدير } يعني أنه قادر على بعثة الرسل في وقت الحاجة إليهم .(2/253)
قوله عز وجل : { وإذا قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم } قال ابن عباس : اذكروا عافية الله . وقيل : معناه اذكروا أيادي الله عندكم وأيامه التي أنعم فيها عليكم قال الطبري : هذا تعريف من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتمادي هؤلاء في الغي وبعدهم عن الحق وسوء اختيارهم لأنفسهم وشدة مخالفتهم لأنبيائهم مع كثرة نعم الله عليهم وتتابع أياديه وآلائه لديهم سلَّى بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم عما نزل به من مقاساتهم ومعالجتهم في ذات الله عز وجل { إذ جعل فيكم أنبياء } يعني أن موسى عليه السلام ذكر قومه بني إسرائيل بأيام الله عندهم وبما أنعم به عليهم فقال اذكروا نعمة الله عليكم إذ فضلكم بان جعل فيكم أنبياء . قال الكلبي : هم السبعون الذي اختارهم موسى من قومه وانطلق بهم إلى الجبل وأيضاً كان أنبياء بني إسرائيل من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وهؤلاء لا شك أنهم من أكابر الأنبياء وأولاد يعقوب وهم الأسباط أنبياء على قول الأكثرين وموسى وهارون عليهما السلام وأيضاً فإن الله تعالى أعلم موسى أنه يبعث من بعده في بني إسرائيل أنبياء فإنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء فكان هذا شرفاً عظيماً لهم ونعمة ظاهرة عليهم { وجعلكم ملوكاً } يعني : وجعلكم أحراراً تملكون أنفسكم بعد أن كنتم عبيداً في أيدي القبط . قال ابن عباس : يعني جعلكم أصحاب خدم وحشم . قال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكاً » ذكره البغوي بغير سند وسأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال ألسنا من فقراء المهاجرين فقال له عبد الله ألك امرأة تأوي إليها؟ قال نعم ، قال : لك مسكن تسكنه؟ قال نعم ، قال : أنت من الأغنياء ، قال فإن لي خادماً قال فأنت من الملوك . وقال الضحاك : كانت منازلهم واسعة فيها مياه جرية ومن كان مسكنه واسعاً وفيه ماء جار فهو ملك { وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } يعني من عالمي زمانكم يذكرهم ما أنعم الله به عليهم من فلق البحر لهم وإهلاك عدوهم وإنزال المن والسلوى عليهم وإخراج الماء من الحجر لهم وتظليل الغمام فوقهم إلى غير ذلك من النعم التي أنعم الله بها عليهم .(2/254)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
قوله تعالى : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } لما ذكر موسى قومه ما أنعم الله عليهم أمرهم بالخروج إلى جهاد عدوهم فقال : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة المباركة . قال الكلبي : صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقيل له انظر فما أدرك بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك والأرض هي الطور وما حوله . وقيل : هي أريحا وفلسطين وبعض الأردن . وقيل : هي دمشق . وقيل : هي الشام ، كلها . قال كعب الأحبار : ووجدت في كتاب الله المُنزل أن الشام كنز الله في أرضه وبها أكثر عباده التي كتب الله لكم يعني كتب الله في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن وقيل : فرض الله عليكم دخولها وأمركم بسكناها . وقيل : وهبها لكم .
فإن قلت : كيف؟ قال الله تعالى : ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم . وقال فإنها محرمة عليهم وكيف الجمع بينهما؟ قلت فيه وجوه أحدها أنها كانت هبة من الله ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم .
الوجه الثاني : أن اللفظ وإن كان عاماً لكن المراد منه الخصوص فصار كأنه مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم فإن يوشع بن نون وكالب بن يوفنا دخلاها وكانا ممن خوطب بهذا الخطاب .
الوجه الثالث : إن هذا الوعد كان مشروطاً بالطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط .
الوجه الرابع : أنه قال : إنها محرمة عليهم أربعين سنة فلما مضت الأربعون دخلوها وكانت مساكن لهم كما وعدهم الله تعالى : { ولا ترتدوا على أدباركم } يعني ولا ترجعوا القهقهري مرتدّين على أعقابكم إلى ورائكم ولكن امضوا لأمر الله الذي أمركم به وإن فعلتم خلاف ما أمركم الله به { فتنقلبوا خاسرين } يعني فترجعوا خائبين لأنكم رددتم أمر الله قوله عز وجل : { قالوا } يعني قوم موسى { يا موسى إن فيها } يعني في الأرض المقدسة { قوماً جبارين } يعني قوماً عاتين لا طاقة لنا بهم ولا قوة لنا بقتالهم وسموا أولئك القوم جبارين لشدة بطشهم وعظم خلقهم وكانوا ذوي أجسام عظيمة وأشكال هائلة وهم العمالقة بقية قوم عاد واصل الجبار في صفة الإنسان فعال من جبره على الأمر يعني أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وقيل إنه مأخوذ من قولهم نخلة جباة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها ويقال رجل جبار إذا كان طويلاً عظيماً قوياً تشبيهاً بالجبار من النخل { وإنا لن ندخلها } يعني أرض الجبارين التي أمرهم الله بدخولها { حتى يخرجوا منها } حتى يخرج الجبارون من الأرض المقدسة وإنما قالوا ذلك استبعاداً لخروج الجبارين من أرضهم { فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } يعني إليها قال العلماء بالإخبار إن النقباء لما خرجوا يتجسسون الأخبار لموسى عليه السلام ورجعوا إليه وأخبروه خبر القوم وما عاينوه منهم .(2/255)
قال لهم موسى : لا تخبروا بني إسرائيل بهذا فيجبنوا ويضعفوا عن قتالهم . وقيل : إن النقباء الاثني عشر لما خرجوا من أرض الجبارين قال بعضهم لبعض : لا تخبروا بني إسرائيل بما رأيتم فلما رجعوا وأخبروا موسى أمرهم أن لا تخبروا بني إسرائيل بذلك فخالفوا أمره ونقضوا العهد وأخبر كل رجل النقباء سبطه بما رأى إلا يوشع بن نون وكالب فإنهما كتما ووفيا بالعهد فلما علم بنو إسرائيل بذلك وفشا ذلك فيهم رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : ليتنا متنا في أرض مصر ولا يدخلنا الله أرضهم فتكون نساؤنا وأولادنا وأموالنا غنيمة لهم . وجعل الرجل من بني إسرائيل يقول لصاحبه : تعالوا نجعل لنا رأساً وننصرف إلى مصر فلما قال بنو إسرائيل ذلك هموا بالانصراف إلى مصر خر موسى وهارون ساجدين وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبرنا الله عنهما .(2/256)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
{ قال رجلان من الذين يخافون } يعني يخافون الله ويراقبونه { أنعم الله عليهما } يعني بالهداية والوفاء { ادخلوا عليهم الباب } يعني قال الرجلان ، وهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا لبني إسرائيل ، ادخلوا على الجبارين باب مدينتهم { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } لأن الله وعدكم بالنصر وأن الله ينجز لكم وعده { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } يعني يقول الرجلان لقوم موسى ثقوا بالله فإنه معكم وناصركم إن كنتم مصدقين بأن الله ناصركم لا يهولنكم عظم أجسامهم فإنا قد رأيناهم فكانت أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فلما قالا ذلك ، أراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوا أمرهما ، وقالوا : ما أخبرنا الله عنهم بقوله تعالى : { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً } يعني : قال قوم موسى لموسى إنا لن ندخل مدينة الجبارين أبداً يعني مدة حياتنا { ما داموا فيها } يعني مقيمين فيها { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } إنما قالوا هذه المقالة لأن مذهب اليهود التجسيم فكانوا يجوزون الذهاب والمجيء على الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً . قال بعض العلماء : إن كانوا قالوا هذا على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فهو كفر وإن كانوا قالوه على وجه الخلاف لأمر الله وأمر نبيه فهو فسق ، وقال بعضهم : إنما قالوه على وجه المجاز . والمعنى : اذهب أنت وربك معين لك لكن قوله : فقاتلا يفسد هذا التأويل . وقال بعضهم : إنما أرادوا بقولهم وربك أخاه هارون لأنه كان أكبر من موسى والأصح أنهم إنما قالوا ذلك جهلاً منهم بالله تعالى وصفاته ومنه قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } ( خ ) .
عن ابن مسعود قال : شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون أنا صاحبه أحب إليّ مما عدل به أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين يوم بدر فقال يا رسول الله ألا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن امض ونح معك فكأنه سرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي رواية : لكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسرَّ . قوله تعالى : { قال } يعني موسى عليه السلام { رب } أي يا رب { إني لا أملك إلا نفسي وأخي } يعني إني لا أملك إلا نفسي وأخي لا يملك إلا نفسه وقيل معناه لا أملك إلا نفسي ونفس أخي لأنه كان يطيعه وإذا كان كذلك فقد ملكه وإنما قال موسى لا أملك إلا نفسي وأخي وإن كان معه في طاعته يوشع بن نون وكالب بن يوفنا لاختصاص هارون به ولمزيد الاعتناء بأخيه ويحتمل أن يكون معناه وأخي في الدين ومن كان على دينه وطاعته فهو أخوه في الدين فعلى هذا الاحتمال يدخل الرجلان في قوله وأخي ثم قال : { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } أي افصل وقيل احكم بيننا وبين القوم الفاسقين يعني الخارجين عن طاعتك وإنما قال موسى ذلك لأنه لما رأى بني إسرائيل وما فعلو من مخالفة أمر الله وهمهم بيوشع وكالب غضب لذلك ودعا عليهم فأجاب الله تعالى دعاء موسى عليه السلام { قال } الله عز وجل : { فإنها محرمة عليهم } يعني فإن الأرض المقدسة محرمة عليهم ومعناه أن تلك البلدة محرمة عليهم أبداً ولم يرد تحريم تعبد وإنما أراد تحريم منع فأوحى الله تعالى إلى موسى « بي حلفت لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ولأتيهنهم في هذه البرية أربعين سنة مكان كل يوم من الأيام التي كانوا يتجسسون فيها سنة ولألقين جيفهم في هذه القفار وأما أبناؤهم الذين لم يعملوا الشر فيدخلوها » فذلك قوله تعالى فإنها يعني الأرض المقدسة محرمة عليهم .(2/257)
قال أكثر أهل العلم : هذا تحريم منع لا تحريم تعبُّد . وقيل : يحتمل أن يكون تحريم تعبد فيجوز أن يكون الله تعالى أمرهم بأن يمكثوا في تلك المفازة في الشدة والبلية عقاباً لهم على سوء صنيعهم ( أربعين سنة ) فمن قال إن الكلام ثم عند قوله فإنها محرمة عليهم قال أربعين سنة يتيهون في الأرض فأما الحرمة فإنها مؤبدة حتى يموتوا ويدخلها أبناؤهم . وقيل : معناه أن الرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة ثم يدخلونها وتفتح لم .
وقوله تعالى : { يتيهون في الأرض } يعني يتحيرون فيها . يقال : تاه يتيه إذا تحير . واختلفوا في مقدار الأرض التي تاهوا فيها ، فقيل : مقدار ستة فراسخ . وقيل : ستة فراسخ في اثني عشر فرسخاً . وقيل : تسع فراسخ في ثلاثين فرسخاً . وكان القوم ستمائة ألف مقاتل وكانوا يرحلون ويسيرون يومهم أجمع فإذا أمسوا إذا هم في الموضع الذي رحلوا منه وكان ذلك التيه عقوبة لنبي إسرائيل ما خلا موسى وهارون ويوشع وكالب فإن الله تعالى سهله عليهم وأعانهم عليه كما سهل على إبراهيم النار وجعلها برداً وسلاماً .
فإن قلت : كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في هذا المقدار الصغير من الأرض أربعين سنة بحيث لم يخرج منه أحد؟ .
قلت : هذا من باب خوارق العادات . وخوارق العادات في أزمان الأنبياء غير مستبعدة ، فإن الله على كل شيء قدير . وقيل : إن فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد زال هذا الإشكال لاحتمال أن الله ما حرم عليهم الخورج من تلك الأرض بل أمر بالمكث أربعين سنة في المشقة والمحنة جزاء لهم على سوء صنيعهم ومخالفتهم أمر الله ولما حصل بنو إسرائيل في التيه شكوا إلى موسى عليه السلام حالهم فأنزل الله عليهم المن والسلوى وأُعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم فينشأ الناشىء منهم فتكون معه على مقداره وهيئته وسأل موسى ربه أن يسقيهم فأتى بحجر أبيض من جبل الطور فكان إذا نزل ضربه بعصاه فيخرج منه اثنتا عشرة عيناً لكل سبط منهم عين وأرسل الله عليهم الغمام يظلُّهم في التيه ومات في التيه كل من دخله ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ولم يدخل أريحاء ممن قال : إنا لن ندخلها أبداً واختلفوا في أن موسى عليه السلام مات في التيه أم خرج منه فقيل : إن موسى وهارون ماتا في التيه جميعاً .(2/258)
( قصة وفاة موسى وهارون عليهما السلام )
فأما هارون فإنه كان أكبر من موسى بسنة . قال السدي : أوحى الله عز وجل إلى موسى إني متوفى هارون فأت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل فإذا بشجرة لم ير مثلها وإذا ببيت مبني وفيه سرير عليه فراش وفيه رائحة طيبة فلما رأى هارون ذلك البيت أعجبه ، وقال : يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير . قال : نم . قال : إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب عليّ . قال : لا تخف إني أكفيك ربِّ هذا البيت فنم . قال : يا موسى فنم أنت معي فإن جاء رب هذا البيت غضب عليّ وعليك جميعاً . فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد مسه قال : يا موسى خدعتني فلما قبض هارون رفع البيت والسرير إلى السماء وهارون عليه وذهبت الشجرة فرجع موسى إلى بني إسرائيل وليس هارون معه فقال بنو إسرائيل حسد موسى هارون فقتله لحبنا إياه . قال موسى : ويحكم إن هارون كان أخي أفتروني أقتله؟ فلما أكثروا عليه قام موسى فصلى ركعتين ثم دعا الله عز وجل فنزل السرير وعليه هارون فنظروا إليه وهو بين السماء والأرض فصدقوه ثم رفع .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : صعد موسى عليه السلام وهارون إلى الجبل فمات هارون وبقي موسى فقال بنو إسرائيل لموسى : أنت قتلته وآذوه فأمر الله الملائكة فحملوه حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته فصدقت بنو إسرائيل أنه مات وبرأ الله موسى مما قالوه ثم إن الملائكة حملوه ودفنوه ولم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم فجعله الله أصم أبكم .
وأما وفاة موسى عليه السلام فقال ابن إسحاق كان صفي الله موسى عليه السلام قد كره الموت وأعظمه فأراد الله أن يحبب إليه الموت فنبأ يوشع بن نون فكان موسى يغدو ويروح إليه ويقول له يا نبي الله ما أحدث الله إليك فيقول له يوشع يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدت الله إليك حتى كنت أنت تبتدىء به وتذكره لي ولا يذكر له شيئاً فلما رأى موسى ذلك كره الحياة وأحب الموت ( ق ) .(2/259)
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت فرد الله إليه عينه وقال : ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت يده من شعره سنة . قال : أي رب ثم مه قال : ثم الموت قال : فالآن فسأل الله أن يدينه من الأرض المقدسة رمية بحجر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر » وفي رواية لمسلم قال : جاء ملك الموت إلى موسى فقال : أجب ربك قال فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها « ثم ذكر معنى ما تقدم قال الشيخ محيي الدين النووي . قال المازري : وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث وأنكر تصوره قالوا كيف يجوز على موسى فقء عين ملك الموت .
وأجاب عنه العلماء بأجوبة أحدها أنه لا يمتنع أن يكون الله قد أذن لموسى في هذه اللطمة ويكون ذلك امتحاناً للملطوم والله تعالى يفعل في خلقه ما يشاء ويمتحنهم بما أراد .
الثاني : أن موسى لم يعلم أنه ملك من عند الله وظن أنه رجل قصده يريد نفسه فدافعه عنها فأدت المدافعة إلى فقء عينه لأنه قصدها بالفقء وتؤيده رواية صكه وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين واختاره المازري والقاضي عياض . قالوا : وليس في الحديث تصريح بأنه قصد فقء عينه .
فإن قيل : فقد اعترف موسى حين جاء ثانياً بأنه ملك الموت . فالجواب ، أنه أتاه في المرة الثانية بعلامة علم بها أنه ملك الموت فاستسلم له بخلاف المرة الأولى وأما سؤال موسى الإدناء من الأرض المقدسة فلشرفها وفضلها وفضل من بها من المدفونين من الأنبياء وغيرهم وفيه دليل على استحباب الدفن في المواضع الفاضلة والمواطن المباركة والقرب من مدافن الصالحين قال بعض العلماء وإنما سأل موسى الإدناء ولم يسأل نفس بيت المقدس لأنه خاف أن يكون قبره مشهوراً عندهم فيفتتن به الناس والله أعلم .
قال وهب بن منبه : خرج موسى لبعض حاجته فمر برهط من الملائكة وهم يحفرون قبراً لم ير شيئاً أحسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة ، فقال لهم : يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا : لعبد كريم على ربه . فقال : إن هذا العبد من الله بمنزلة ما رأيت كاليوم قط . فقالت الملائكة : يا صفي الله تحب أن يكون لك؟ قال : وددت . قالوا : فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك فنزل واضطجع وتوجه إلى ربه عز وجل ثم تنفس أسهل تنفس فقبض الله روحه ثم سوت الملائكة عليه التراب .(2/260)
وقيل : إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقيض روحه وكان عمر موسى عليه السلام مائة سنة فلما مات موسى عليه السلام انقضت الأربعون سنة وبعث الله يوشع إلى بني إسرائيل فأخبرهم أن الله قد أمره بقتال الجبارين فصدقوه وتابعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء وهي مدينة الجبارين ومعه تابوت الميثاق فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر فلما كان من السابع نفخوا في القرون وضجوا في الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة فدخلوها وقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل من الجبابرة يضربونها حتى يقطعونها وكان القتال والفتح يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس أن تغرب وتدخل ليلة السبت فقال : اللهم اردد علي الشمس وقال للشمس : إنك في طاعة الله وأنا في طاعة الله وسال الشمس أن تقف والقمر أن يقف حتى ينتقم من أعداء الله قبل دخول السبت فرد الله عليه الشمس وزيد في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين وتتبع ملوك الشام فاستباح منهم أحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشام وصارت كلها لبني إسرائيل وفرق عماله نواحيها وجميع الغنائم فجاءت النار لتأكلها فلم تطعمها فقال : إن فيكم غلولاً فليبايعني من كل قبيلة رجل ففعلوا فلصقت يد رجل بيده . فقال : فيكم الغلول فجاؤوا برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجوهر قد غلَّه رجل منهم فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان .
وفي الحديث الصحيح ما يدل على صحة هذا أو هو ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن بها ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها ولا رجل اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر أولادها فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه فجمع الغنائم فجاءت يعني النار لتأكلها فلم تطعمها فقال إن فيكم غلولاً فليبايعني من كل قبيلة رجل فلزقت يد رجل بيده فقال فيكم الغلول فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعها فجاءت النار فأكلتها » زاد في رواية : « فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا ثم أحل الله لنا الغنائم لما رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا » أخرجه البخاري ومسلم .
شرح غريب هذا الحديث . قوله لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة ، البضع بضم الباء كناية عن فرج المرأة ولم يبن بها أي لم يدخل عليها ، ولخلفات النوق الحوامل قوله للشمس إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علينا قال الشيخ محيي الدين قال القاضي عياض : اختلف الناس في حبس الشمس المذكور هنا فقيل : ردت إلى ورائها وقيل : وقفت ولم ترد وقيل : بطء حركتها وكل ذلك من معجزات النبوة قال ويقال إن الذي حبست عليه الشمس يوشع بن نون قال القاضي .(2/261)
وقد روي أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم حبست له الشمس مرتين إحداهما يوم الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت الشمس فردها الله عليه حتى صلى العصر ذكر ، ذلك الطحاوي وقال : رواته ثقات . والثانية : صبيحة ليلة الإسراء حين انتظر العير لما أخبر بوصولها مع شروق الشمس ذكره يونس بن بكير في زياداته عن سيرة بن إسحاق .
وقال وهب : ثم مات يوشع بن نون ودفن في جبل أفراثيم وكان عمره مائة سنة وستاً وعشرين سنة وكان تدبيره أمر بني إسرائيل بعد موسى سبعاً وعشرين سنة . وقيل : إن الذي فتح أريحاء هو موسى عليه السلام وكان يوشع بن نون على مقدمته فسار إليهم بمن بقي من بني إسرائيل فدخلها يوشع وقاتل الجبابرة ثم دخلها موسى وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبضه الله إليه ولا يعلم أحد قبره وهذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء أن موسى عليه السلام هو الذي قتل عوج بن عنق وهذا القول هو اختيار الطبري . ونقل عن السدي قال : غضب موسى على قومه فدعا عليهم فقال : رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي الآية . فقال الله عز وجل : فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلما ضرب عليهم التيه ندم موسى وأتاه قومه الذين كانوا يطيعونه فقالوا له : ما صنعت بنا يا موسى فمكثوا في التيه فلما خرجوا منه رفع المن والسلوى والبقول والتقى موسى وعوج فنزا موسى في السماء عشر أذرع وكانت عصاه عشرة أذرع وكان طوله عشرة فأصاب كعب عوج فقتله . قال الطبري : ولو كان قتل موسى إياه قبل مصيره في التيه لم يجزع بنو إسرائيل لأنه كان من أعظم الجبارين . وروي عن نون قال : كان سرير عوج ثمانمائة ذراع . وقال : وإن أهل العلم بأخبار الأولين مجمعون على أن بلعم بن باعوراء كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى لأنه كان يعلم الاسم الأعظم فدعا عليه وسترد قصته في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى وقوله تعالى : { فلا تأس على القوم الفاسقين } يعني : لا تحزن عليهم لأنهم أهل مخالفة وخروج عن الطاعة . وقيل : لما ندم موسى على ما دعاه على قومه أوحى الله إليه فلا تأس على القوم الفاسقين . قال الزجاج : وجائز أن يكون خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم أي : لا تحزن يا محمد على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل .(2/262)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
قوله عز وجل : { واتل عليهم نبا ابني آدم بالحق } يعني اذكر لقومك وأخبرهم خبر ابني آدم وهما هابيل وقابيل في قول جمهور المفسرين ونقل عن الحسن والضحاك أن ابني آدم اللذين قربا القربان ما كانا ابني آدم لصلبه وإنما كانا رجلين من بني إسرائيل ويدل عليه قوله تعالى في آخر القصة { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس } الآية والصحيح ما ذهب إليه جمهور المفسرين ، لأن الله تعالى قال في آخر الاية : { فبعث الله غراباً يبحث في الأرض } لأن القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلَّم من فعلِ الغراب بالحق أن أخبرهم خبراً ملتبساً بالحق والصدق لأنه من عند الله وموافقاً لما في الكتب المتقدمة وهم يعلمون صحته ومقصود هذا الخبر هو تقبيح الحسد لأن المشركين وأهل الكتاب كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا قربا قرباناً } القربان اسم لما يتقرب به إلى الله عز وجل من صدقة أو ذبيحة أو غير ذلك مما يتقرب به .
( ذكر قصة القربان وسببه وقتل قابيل هابيل )
ذكر أهل العلم بالأخبار والسير أن حواء كانت تلد لآدم في كل بطن غلاماً وجارية فكان جميع ما ولدته أربعين ولداً في عشرين بطناً أولهم قابيل وتوأمته إقليما وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أم المغيث ثم بارك الله في نسل آدم . قال ابن عباس : لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً واختلفوا في مولد قابيل وهابيل فقال بعضهم غشي آدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل وتوأمته إقليما في بطن ثم هابيل وتوأمته لبودا في بطن .
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت بقابيل وأخته فلم تجد عليهما وحماً ولا صباً ولا طلقاً ولم تر دماً وقت الولادة فلما هبط إلى الأرض تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته فوجدت عليهما الوحم والوصب والطلق والدم وكان إذا كبر أولاده زوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى وكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء غير توأمته التي ولدت معه لأنه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم فكبر قابيل وأخوه هابيل وكان بينهما سنتان ، فلما بلغوا ، أمر الله آدم أن يزوج قابيل لبودا أخت هابيل ويزوج هابيل إقليما . وكانت إقليما أحسن من لبودا ، فذكر آدم ذلك لهما فرضي هابيل وسخط قابيل وقال : هي أختي وأنا أحق بها ونحن أولاد من الجنة وهما من أولاد الأرض . فقال أبوه آدم : إنها لا تحل لك . فأبى أن يقبل ذلك . وقال : إن الله لم يأمرك بهذا وانما هو من رأيك فقال لهما آدم .(2/263)
قربا لله قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار بيضاء فأكلتها وإن لم تكن مقبولة لم تنزل النار بل تأكلها الطير والسباع . فخرجا من عند آدم ليقربا القربا وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من طعام رديء وأضمر في نفسه : لا أبالي أيتقبل مني أم لا لا يتزوج أختي أحد غيري وكان هابيل صاحب غنم فعدل إلى أحسن كبش في غنمه فقربه وأضمر في نفسه رضا الله فوضعا قربانهما على جبل ثم دعا آدم فنزلت النار من السماء فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل فذلك قوله تعالى : { فتقبل من أحدهما } يعني هابيل { ولم يتقبل من الآخر } يعني قابيل فغضب قابيل إذ لم يتقبل قربانه فأضمر لأخيه الحسد إلى أن آتى آدم مكة لزيارة البيت وغاب عنهم فأتى قابيل وهابيل وهو في غنمه { قال لأقتلنك قال } قال هابيل ولم تقتلني؟ قال قابيل : لأن الله تقبَّل قربانك وردّ قرباني وتريد أن تنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة فيتحدث الناس بأنك خير مني ويفخر ولدك على ولدي فقال هابيل وما ذنبي { إنما يتقبل الله من المتقين } يعني أن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال فلذلك كان أحد القربانين مقبولاً دون الآخر ولأن التقوى من أعمال القلوب وكان قد أضمر في قلبه الحسد لأخيه على تقبل قربانه وتوعَّده بالقتل فقال له : إنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى وإنما يتقبل الله من المتقين فأجابه بجواب مختصر . وقيل : يحتمل أن يكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم فكأنه تعالى بين للنبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما لم يتقبل قربانه لأنه لم يكن متقياً وإنما يتقبل الله من المتقين ثم قال تعالى إخباراً عن هابيل .(2/264)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
{ لئن بسطت إليَّ يدك } يعني لئن مددت إلي يدك { لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك } يعني ما أنا بمنتصر لنفسي بل أستسلم لأمر الله . وقيل : معناه ما كنت بمبتدئك بالقتل وذلك أن الله كان قد حرم عليهم قتل نفس بغير نفس ظلماً . وقال مجاهد : كان قد كتب عليهم إذا أراد الرجل أن يقتل رجلاً تركه ولا يمتنع منه . وقيل : إن المقتول كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرج عن قتل أخيه فاستسلم له خوفاً من الله فذلك قوله { إني أخاف الله رب العالمين } والمعنى إني أخاف الله في بسط يدي إليك إن أبسطها لقتلك أن يعاقبني على ذلك .
قوله عز وجل إخباراً عن هابيل { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } يعني ترجع بإثم قتلي إلى إثم معاصيك التي عملتها من قبل . فإن قلت : كيف؟ قال هابيل إني أريد وإرادة القتل والمعصية من الغير لا تجوز . قلت : أجاب ابن الأنباري عن هذا بأن قال : إن قابيل لما قال لأخيه هابيل لأقتلنك وعظه هابيل وذكره الله واستعطفه وقال لئن بسطت إليّ يدك الآية فلم يرجع فلما رآه هابيل قد صمم على القتل وأخذ له الحجارة ليرميه بها قال له هابيل عند ذلك إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك أي إذا قتلتني ولم يندفع قتلك إياي إلا بقتلي إياك فحينئذ يلزمك إثم قتلي إذا قتلتني فكان هذا عدلاً من هابيل وإليه أشار الزجاج فقال : معناه إن قتلتني فما أنا مريد ذلك فهذه الإرادة منه بشرط أن يكون قاتلاً له والإنسان إذا تمنى أن يكون إثم دمه على قاتله لم يلم على ذلك وعلى هذا التأويل .
قال بعضهم : معناه إني أريد أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك فحذف المضاف وما باء بإثم باءَ بعقاب ذلك الإثم ذكره الواحدي وقال الزمخشري : ليس ذلك بحقيقة الإرادة لكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ووطن نفسه على الاستسلام للقتل طلباً للثواب فكأنه صار مريداً لقتله مجازاً وإن لم يكن مريداً حقيقة { فتكون من أصحاب النار } ينعي الملازمين لها { وذلك جزاء الظالمين } يعني جهنم جزاء من قتل أخاه ظلماً .
قوله تعالى : { فطوعت له نفسه قتل أخيه } يعني زينت له وسهلت عليه القتل وذلك أن افنسان إذا تصور أن قتل النفس من أكبر الكبائر صار ذلك صارفاً له عن القتل فلا يقدم عليه فإذا سهلت عليه نفسه هذا الفعل فعله بغير كلفة فهذا هو المراد من قوله تعالى : { فطوعت له نفسه قتل أخيه } { فقتله } .
قال ابن جريج : لما قصد قابيل قتل هابيل لم يدر كيف يقتله فتمثل له إبليس وقد أخذ طيراً فوضع رأسه على حجر ثم رضخه بحجر آخر وقابيل ينظر فعلمه القتل فرضخ قابيل رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم صابر وقيل بل اغتاله وهو نائم فقتله .(2/265)
واختلف في موضع قتله فقال ابن عباس : على جبل ثور . وقيل : على عقبة حراء . وقيل : بالبصرة عند مسجدها الأعظم وكان عمر هابيل يوم قتل عشرين سنة .
وقوله تعالى : { فأصبح من الخاسرين } قال ابن عباس : خسر دنياه وآخرته أما دنياه فإسخاط والديه وبقي بلا أخ وأما آخرته فأسخط ربه وصار إلى النار ( ق ) عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل » .(2/266)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قوله تعالى : { فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه } قال أصحاب الأخبار لما قتل قابيل هابيل تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه أول ميت من بني آدم على وجه الأرض فقصدته السباع لتأكله فحمله قابيل على ظهره في جراب أربعين يوماً . وقال ابن عباس : سنة حتى أروَحَ وأنتن فأراه الله أن يرى قابيل سنته في موتى بني آدم في الدفن فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه حفيرة ثم ألقاه فيها وواراه بالتراب وقابيل ينظر فذلك قوله تعالى : { فبعث الله غراباً يبحث في الأرض } يعني يحفرها وينثر ترابها ليريه كيف يواري سوأة أخيه يعني ليري الله أو يري الغراب قابيل كيف واري ويستر جيفة أخيه فلما رأى ذلك قابيل من فعل الغراب { قال يا ويلتا } أي لزمه الويل وحضره وهي كلمة تحسر وتلهف وتستعمل عند وقوع الداهية العظيمة وذلك أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول فلما علم ذلك من فعل الغراب علم أن الغراب أكثر منه علماً وعلم أنه إنما ندم على قتل أخيه بسبب جهله وعدم معرفته فعند ذلك تلهف وتحسر على ما فعله فقال : يا ويلتا . وفيه اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب { أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب } يعني مثل هذا الغراب الذي وارى الغراب الآخر { فأواري سوأة أخي } يعني فأستر جيفته وعورته عن الأعين { فأصبح من النادمين } يعني على حمله على ظهره مدة سنة لا على قتله . وقيل : إنه ندم على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله وسخط عليه أبواه وإخوته فندم لأجل ذلك لا لأجل أنه جنى جناية واقترف ذنباً عظيماً بقتله فلم يكن ندمه ندم توبة وخوف وإشفاق من فعله فلأجل ذلك لم ينفعه الندم ، قال المطلب بن عبد الله بن حطب : لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بمن عليها سبعة أيام وشربت دم المقتول كما تشرب الماء فناداه تعالى أين أخوك هابيل؟ فقال ما أدري ما كنت عليه رقيباً : فقال الله تعالى إن دم أخيك ليناديني من الأرض فلم قتلت أخاك؟ قال فأين دمه إن كنت قتلته! فحرم الله الأرض يومئذ أن تشرب دماً بعده ابداً ويروى عن ابن عباس قال لما قتل قابيل هابيل كان آدم بمكة فاشتاكَ الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه واغبرت الأرض فقال آدم : قد حدث في الأرض حدث ، فأتى الهند فوجد قابيل قد قتل هابيل ، وقيل : لما رجع آدم سأل قابيل عن أخيه ، فقال : ما كنت عليه وكيلاً . فقال : بل قتلته ولذلك اسود جلدك . وقيل : إن آدم مكث بعد قتل هابيل مائة سنة لا يضحك وأنه رثاه بشعر فقال :(2/267)
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرٌّ قبيحُ
تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليحُ
ويروى عن ابن عباس أنه قال : من قال إن آدم قال شعراً فقد كذب وأن محمداً صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم في النهي سواء ولكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سرياني فلما قال آدم مرثيته قال لشيث : يا بني أنت وصيي احفظ هذا الكلام ليُتوارث فيرثي الناس عليه فلم يزل ينتقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط العربية وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم فوزنه شعراً وزاد فيه أبياتها منها :
وما لي لا أجود بسكب دمعٍ ... وهابيل تضمنه الضريحُ
أرى طول الحياة عليّ غماً ... فهل أنا من حياتي مستريحُ
قال الزمخشري : ويروى أنه رثاه بشعر وهو كذب بحت وما الشعر إلا منحول ملحون وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر . قال الإمام فخر الدين الرازي : ولقد صدق صاحب الكشاف فيما قال فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق إلا بالحمقى من المعلمين فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة؟ .
قال أصحاب الأخبار : فلما مضى من عنر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمسين سنة ولدت له حواء شيئاً وتفسيره هبة الله يعني أنه خلف من هابيل وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وعلمه عبادة الخلق في كل ساعة وأنزل عليه خمسين صحيفة وصار وصي آدم وولي عهده وأما قابيل فقيل له اذهب طريداً شريداً فزعاً مرعوباً لا تأمن من تراه فأخذ بيد أخته إقليما وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس وقال له إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبدها فانصب أنت ناراً تكون لك ولعقبك فبنى بيت النار فهو أول من عبد النار وكان قابيل لا يمر به أحد إلا رماه بالحجارة فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابنه فقال ابن الأعمى لأبيه هذا أبوك قابيل فرماه بحجارة فقتله فقال ابن الأعمى لأبيه قتلت أباك قابيل فرفع الأعمى يده ولطم ابنه فمات فقال الأعمى ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي فلما مات قابيل علقت إحدى رجليه بفخذه وعلق بها فهو معلق بها إلى يوم القيامة ووجهه إلى الشمس حيث دارت وعليه حظيرة من نار في الصيف وحظيرة من ثلج في الشتاء فهو يعذب بذلك إلى يوم القيامة قالوا : وأتخذ أولاد قابيل آلات للهو من الطبول والزمور والعيدان والطبول والزمور والعيدان والطنابير وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والفواحش حتى أغرقهم الله تعالى جميعاً بالطوفان في زمن نوح عليه السلام فلم يبق من ذرية قابيل أحد وأبقى الله ذرية شيث ونسله إلى يوم القيامة .(2/268)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قوله تعالى : { من أجل ذلك } يعني بسبب ذلك القتل الذي حصل وقيل الأجل في اللغة الجناية يقال أجل عليهم شراً أي جنى عليهم شراً { كتبنا } أي فرضنا وأوجبنا { على بني إسرائيل } .
فإن قلت : من أجل ذلك معناه من أجل ما مر من قصة قابيل وهابيل كتبنا على بني إسرائيل . وهذا مشكل لأنه لا مناسبة بين واقعه قابيل وهابيل وبين وجوب القصاص على بني إسرائي . قلت : قال بعضهم هو من تمام الكلام الذي قبله والمعنى فأصبح من النادمين من أجل ذلك أي من أجل أنه قتل هابيل ولم يواره . ويروي عن نافع أنه كان يقف على قوله من أجل ذلك ويجعله تمام الكلام الأول فعلى هذا يزول الإشكال . لكن جمهور المفسرين وأصحاب المعاني على أن قوله من أجل ذلك ابتداء كلام وليس يوقف عليه . فعلى هذا قال بعضهم : إن قوله من أجل ذلك ليس هو إشارة إلى قصة قابيل وهابيل ، بل هو إشارة إلى ما مر ما ذكره في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب هذا القتل الحرام منه قوله { فأصبح من الخاسرين } وفيه إشارة إلى أنه حصلت له خسارة في الدين والدنيا والآخرة .
ومنه قوله : { فأصبح من النادمين } وفيه إشارة إلى أنه حظر في أنواع الندم والحسرة والحزن مع أنه لا دافع لذلك البتة فقوله من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أي من أجل ذلك الذي ذكرنا في أثناء القصة من أنواع المفاسد التولدة من القتل العمد المحرم شرعنا القصاص على القاتل . فإن قلت : فعلى هذا تكون شريعة القصاص حكماً ثابتاً في جميع الأمم ، فما الفائدة بتخصيصه ببني إسرائيل . قلت : إن وجوب القصاص وإن كان عامّاً في جميع الأديان والملل إلا أن التشديد المذكور هاهنا في حق بني إسرائيل غير ثابت في جميع الأديان والملل لأنه تعالى حكم في هذه الاية بأن من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً ولا يشك أن المقصود منه المبالغة في عقاب قاتل النفس عدواناً وأن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على قساوة قلوبهم وبعدهم عن الله عز وجل ولما كان الفرض من ذكر هذه القصة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما أقدم عليه اليهود بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه فتخصيص بني إسرائيل في هذه القصة بهذه المبالغة مناسب للكلام وتوكيد للمقصود والله أعلم بمراده .
قوله عز وجل : { أنه من قتل نفساً } يعني من قتل نفساً ظلماً { بغير نفس } يعني بغير قتل نفس لا على وجه الاقتصاص فيقاد من قاتل النفس على وجه العدوان المحرم { أو فساد في الأرض } هو عطف على بغير نفس يعني وبغير فساد في الأرض فيستحق به القتل لأن القتل على أسباب كثيرة منها القصاص وهو المراد من قوله : قتل نفساً بغير نفس .(2/269)
ومنها الشرك والكفر بعد الإيمان ومنها قطع الطريق ونحو ذلك وهو المراد من قوله أو فساد في الأرض { فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً } قال مجاهد : من قتل نفساً محرمة يصلى النار بقتلها كما يصلاها بقتل الناس جميعاً ومن سلم من قتلها فكأنما سلم من قتل الناس جميعاً . وقال ابن عباس : من قتل نبياً أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعاً . ومن شد عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعاً . وقيل : معناه أن من قتل نفساً محرمة يجب عليه القصاص مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعاً ومن أحياها يعني من غرق أو حرق أو وقوع في هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً يعني أن له من الثواب مثل ثواب من أحيا الناس جميعاً وقيل : معناه من استحل قتل مسلم بغير حقه فكأنما استحل قتل الناس جميعاً لأنهم لا يسلمون منه ومن تورع عن قتل مسلم فكأنما تورع عن قتل جميع الناس فقد سلموا منه قال أهل المعاني قوله ومن أحياها على المجاز لأن المحيي هو الله تعالى في الحقيقة فيكون المعنى ومن ناجاها من الهلاك فكأنما نجى جميع الناس منه . سئل الحسن عن هذه الاية أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل فقال : أي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا .
وقوله تعالى : { ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات } يعني : ولقد جاءت بني إسرائيل رسلنا ببيان الأحكام والشرائع والدلالات الواضحات { ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك } يعني بعد مجيء الرسل وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل { في الأرض لمسرفون } يعني بالقتل لا ينتهون عنه وقيل معناه لمجازون حد الحق وإنما قال تعالى وإن كثيراً منهم ، لأنه تعالى علم أن منهم من يؤمن بالله ورسوله وهم قليل من كثير . قوله عز وجل : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } قال ابن عباس نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخيَّر الله رسوله صلى الله عليه وسلم إن يشأ يقتل وإن يشأ يصلب وإن يشأ يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وهذا قول الضحاك أيضاً .
وقال الكلبي : نزلت في قوم هلال بن عويمر وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن يعينه ولا يعين عليه ومن مر بهلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بقوم هلال ولم يكن هلال شاهداً فشدوا عليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبريل عليه السلام بالقضاء فيهم بهذه الاية .(2/270)
وقال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في قوم من عرينة وعكل أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فاستوخموا المدينة ، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل ( ق ) .
عن أنس بن مالك أن ناساً من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فقالوا : يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد الإسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في أثرهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم . قال قتادة بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يحث على الصدقة وينهى عن المثلة . زاد في رواية قال قتادة : فحدثني ابن سيرين إن ذلك قبل إن تزول الحدود .
وفي رواية للبخاري أن ناساً من عرينة اجتووا المدينة فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها فقتلوا الرعي واستاقوا الذود فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وتركهم في الحرة يعضون الحجارة . زاد في رواية : قال أبو قلابة وأي شيء أشد مما صنع هؤلاء ارتدوا عن الإسلام وقتلوا وسرقوا ، وفي رواية أبي داود إن قوماً من عكل أو قال من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم فلما ارتفع النهار حتى جيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون قال أبو قلابة : فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله زاد في رواية له .(2/271)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
أنزل الله عز وجل : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا } الآية .
شرح غريب هذا الحديث وحكمه قوله إنا كنا أهل ضرع يعني ، أهل ماشية وبادية نعيش باللبن ولسنا من أهل المدن . والريف هو الأرض التي فيها زرع وخصب والجمع أرياف . قوله : استوخموا المدينة أنها لم توافق مزاجهم وكذا قوله : ناجتووا المدينة وهو معناه والذود من الأبل ما بين الثلاثة إلى العشرة والحرة هي أرض ذات حجارة سود وهي هنا اسم لأرض بظاهر المدينة معروفة . وقوله : فسمر أعينهم ، معناه أنه حمى مسامير الحديد وكحل بها أعينهم حتى ذهب بصرها . وقوله : وينهى عن المثلة ، أن تقطع أطراف الحيوان وتشوه خلقته ومثلة القتيل أن يقطع أنفه وأذنيه ومذاكيره ونحو ذلك . واختلف العلماء في حكم هذا الحديث فقيل : هو منسوخ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة . وقيل : حكمه ثابت غير السمل والمثلة . وقيل : إن هذه الاية ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بهم . وقيل : كان ذلك قبل أن تنزل الحدود ، فلما نزلت الحدود وجب الأخذ بها والعمل بمقتضاها . وقيل : نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليماً من الله تعالى إياه عقوبتهم وما يجب عليهم فقال تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } واعلم أن المحاربة لله غير ممكنة وفي معناها للعلماء قولان : أحدهما أن المحاربين لله هم المخالفون أمره الخارجون عن طاعته لأن كل من خالف أمر إنسان فهو حرب له فيكون المعنى يخالفون الله ورسوله ويعصون أمرهما .
والقول الثاني : معناه يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله فهو من باب حذف المضاف { ويسعون في الأرض فساداً } يعني بحمل السلاح والخروج على الناس وقتل النفس وأخذ الأموال وقطع الطريق .
واختلفوا في حكم هؤلاء المحاربين الذين يستحقون هذا الحد فقال قوم : هم الذين يقطعون الطريق ويحملون السلاح والمكابرون في البلد وهذا قول قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي وقال أبو حنيفة : المكابرون في الأمصار ليس لهم حكم المحاربين في استحقاق هذا الحد ثم ذكر الله تعالى عقوبة هؤلاء المحاربين وما يستحقونه فقال تعالى : { أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } وللعلماء في لفظة أو المذكورة في هذه الآية قولان : أحدهما أنها للتخيير وهو قول ابن عباس في رواية عنه وبه قال الحسن وسعيد بن المسيب والنخعي ومجاهد ، وهو أن الإمام مخير في أمر المحاربين فإن شاء قتل ، وإن شاء صلب ، وإن شاء قطع ، وإن شاء نفى من الأرض كما هو ظاهر الآية . والقول الثاني : أن لفظة أو للبيان وليست للتخيير وهو الرواية الثانية عن ابن عباس وهو قول أكثر العلماء لأن الأحكام تختلف فترتبت هذه العقوبات على تريتب الجرائم .(2/272)
وهذا كما روي عن ابن عباس في قطاع الطريق قال : إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا لم يأخذوا المال قتلوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض ، وهذا قول قتادة والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي . واختلفوا في كيفية الصلب فقيل : يصلب حياً ثم يطعن في بطنه برمح حيت يموت . قال الشافعي : يقتل أولاً ويصلى عليه ثم يصلب . وإنما يجمع بين القتل والصلب إذا قتل وأخذ المال ويصلب على الطريق في ممر الناس ليكون ذلك زاجراً لغيره عن الإقدام على مثل هذه المعصية . واختلفوا في تفسير النفي من الأرض المذكور في الآية ، فقيل : إن الإمام يطلبهم ففي كل بلد وجدوا نفوا عنه وهو قول سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز . وقيل : يطلبون حتى تقام عليهم الحدود وهو قول ابن عباس والليث بن سعد والشافعي وقال أبو حنيفة وأهل الكوفة : النفي هو الحبس لأنه نفي من الأرض لأن المحبوس لا يرى أحداً من أحبابه ولا ينتفع بلذات الدنيا وطيباتها فهو منفي من الأرض في الحقيقة إلا من تلك البقعة الضيقة التي هو فيها .
قال مكحول : إن عمر بن الخطاب أول من حبس في السجون يعني من هذه الأمة وقال أحبسه حتى أعلم منه التوبة ولا أنفيه إلى بلد آخر فيؤذيهم ثم قال تعالى : { ذلك } يعني الذي ذكر في هذه الآية من الحدود { لهم } يعني للمحاربين { خزي في الدنيا } أي عذاب وهوان وفضيحة { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } هذا الوعيد في حق الكفار الذين نزلت الآية فيهم ، فأما من أجرى حكم الآية على المحاربين من المسلمين فينفي العذاب العظيم عنهم في الآخرة لأن المسلم إذا عوقب بجناية في الدنيا كانت عقوبته كفارة له وإن لم يعاقب في الدنيا فهو خطر المشيئة ، إن شاء عذبه بجنايته ثم يدخله الجنة ، وإن شاء عفا وأدخله هذا مذهب أهل السنة .(2/273)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
وقوله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } يعني لكن الذين تابوا من شركهم وحربهم لله ورسوله ومن السعي في الرض بالفساد من قبل أن تقدروا عليهم . يعني فلا سبيل لكم عليهم بشيء من العقوبات المذكورة في الآية المتقدمة { فاعلموا أن الله غفور } يعني لمن تاب من الشرك { رحيم } يعني به إذا رجع عما يسخط الله عز وجل وهذا قول معظم أهل التفسير أن المراد بهذا الاستثناء المشرك المحارب إذا آمن وأصلح قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود التي ذكرها الله تعالى في هذه الاية وأنه لا يطالب بشيء مما أصاب من مال أو دم . قال أبو إسحاق : جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ليكون ذلك داعياً لهم إلى الدخول في الإسلام ، فهذا حكم المشرك المحارب إذا آمن وأصلح وكذلك لو آمن بعد القدرة عليه لم يطالب بشيء بالأجماع ، وأما المسلم المحارب ، إذا تاب واستأمن قبل القدرة عليه . فقال السدي : هو الكافر إذا آمن لم يطالب بشيء إلا إذا أصيب عنده مال بعينه فإنه يرده على أهله وهذا مذهب مالك والأوزاعي غير أن مالك قال يؤخذ بالدم إذا طلب به وليه ، فأما ما أصاب من الدماء والأموال ولم يطلبها أولياؤها فلا يتبعه الإمام بشيء من ذلك وهذا حكم علي بن أبي طالب في حارثة بن زيد وكان قد خرج محارباً فتاب قبل أن يقدر عليه فآمنه علي على نفسه وكذلك جاء رجل من مراد إلى أبي موسى الأشعري وهو على الكوفة في خلافة عثمان بعد ما صلى المكتوبة ، فقال : يا أبا موسى هذا مقام العائز بك أنا فلان بن فلان المرادي كنت قد حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض بالفساد وإني قد تبت من قبل أن يقدر عليّ . فقام أبو موسى فقال : هذا فلان المرادي وأنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً وأنه قد تاب من قبل أن يقدر عليه فلا يتعرض له أحد إلا بخير . وقال الشافعي : يسقط عنه بتوبته قبل القدرة عليه حد الله ولا يسقط عنه بها ما كان من حقوق بني آدم من قصاص أو مظلمة من مال أو غيره وأما إذا تاب بعد القدرة عليه فظاهر الاية أن التوبة لا تنفعه وتقام عليه الحدود وقال الشافعي : ويحتمل أن يسقط كل حد لله عز وجل بالتوبة .(2/274)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } أي خافوا الله بترك المنهيات { وابتغوا إليه الوسيلة } يعني واطلبوا إليه القرب بطاعته والعمل بنا يرضي وإنما قلنا ذلك ، لأن مجامع التكاليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما . أحد النوعين : ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله : اتقوا الله . والثاني : التقرب إلى الله تعالى بالطاعت وإليه الإشارة بقوله : وابتغوا إليه الوسيلة والوسيلة فعلية من وسل إليه إذا تقرب ومن قول الشاعر :
إن الرجال لهم إليك وسيلة ... أي قربة . وقيل : معنى الوسيلة المحبة أي تحببوا إلى الله عز وجل { وجاهدوا في سبيله } أي وجاهدوا العدو في طاعته وابتغاء مرضاته { لعلكم تفلحون } يعني لكي تسعدوا بالخلود في جنته لأن الفلاح اسم جامع للخلاص من كل مكروه والفوز بكل محبوب قوله عز وجل { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم } يعني : أن الكافر لو ملك الدنيا ودنيا أخرى مثلها معها فم فدى نفسه من العذاب يوم القيامة لم يقبل منه ذلك الفداء { لهم عذاب أليم } المقصود من هذا أن العذاب لازم للكفار وأنه لا سبيل لهم إلا الخلاص منه بوجه من الوجوه ( ق ) . عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا كلها أكنت مفتدياً بها فيقول نعم فيقول قد أردت منك أيسر من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي ولا أدخلك النار وأدخلك الجنة فأبيت إلا الشرك » هذا لفظ مسلم .
وفي رواية البخاري قال : يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له لقد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك أن لا تشرك بي { يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها } فيه وجهان : أحدهما أنهم يقصدون الخروج من النار ويطلبونه ولكن لا يستطيعون ذلك قيل إذا حملهم لهب النار إلى فوق طلبوا الخروج منها فلا يقدرون عليه .
والوجه الثاني : أنهم يتمنون الخروج من النار يقلوبهم { ولهم عذاب مقيم } يعني ولهم عذاب دائم ثابت لا يزول عنهم ولا ينتقل أبداً . قوله عز وجل : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } فال ابن السائب نزلت في طعمة بن أبيرق وقدمنا قصته في سورة النساء وإنما سمي السارق سارق لأنه يأخذ الشيء الذي ليس له أخذه في خفاء ومنه استرق السمع مستخفياً والسارق هنا مرفوع بالابتداء لأنه لم يقصد واحد بعينه إنما هو كقولك من سرق فاقطع يده والمراد باليد المذكورة هنا اليمين .(2/275)
قاله الحسن والشعبي والسدي وكذلك هو في قراءة عبد الله بن مسعود : فاقطعوا أيمانهما . وإنما قال : أيديهما ولم يقل يديهما ، لأنه أراد يميناً من هذا ويميناً من هذه فجمع فإنه ليس للإنسان إلا يمين واحدة وكل شيء موحد من أعضاء الإنسان إذا ذكر مضافاً إلى اثنين فصاعداً جمع والمراد باليد هنا الجارحة وحدها عند جمهور أهل اللغة من رؤوس الأصابع إلى الكوع فيجب قطعها في حد السرقة من الكوع . وقوله تعالى : { جزاء بما كسبا } يعني ذلك القطع جزاء على فعلهم { نكالاً من الله } يعني عقوبة من الله { والله عزيز } في انتقامه ممن عصاه { حكيم } يعني فيما أوجبه من قطع يد السارق .
( فصل في بيان حكم الآية : وفيه مسائل )
المسألة الأولى : اقتضت هذه وجوب القطع على كل سارق وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السرقة ( ق ) .
عن عائشة ، أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : قالوا : ومن يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب ثم قال : إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها » وعن عائشة قالت : « أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعه فقالوا ما كنا نراك يبلغ به هذا قال لو كانت فاطمة لقطعتها » أخرجه النسائي ( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده » قال الأعمش : يرون أن بيض الحديد وأن من الحبال ما يساوي دراهم أخرجه البخاري ومسلم ، أما السرق الذي يجب عليه القطع ، فهو البالغ ، العاقل ، العلم بتحريم السرقة ، فلو كان حديث عهد بالإسلام ولا يعلم أن السرق حرام ، فلا قطع عليه .
المسألة الثانية : اختلف العلماء في قدر النصاب الذي يقطع به فذهب أكثر العلماء إلى أنه ربع دينار فإن سرق ربع دينار أو متاعاً قيمته ربع دينار يقطع ، وهذا قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وبه قال عمر بن العزيز والأوزاعي والشافعي . ويدل عليه ما روي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً » أخرجاه في الصحيحين وذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أنه ثلاثة دراهم أو قيمتها لما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم أخرجه الجماعة .(2/276)
المجن : الترس . ويروي عن أبي هريرة أن قدر النصاب الذي تقطع به اليد خمسة دراهم وبه قال ابن أبي ليلى لما روي عن أنس قال : قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم وفي رواية قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه النسائي . وقال : الرواية الأولى ، أصح . وذهب قوم إلى أنه لا قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم يروي ذلك عن ابن مسعود وإليه ذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من قطع في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم أخرجه أبو داود فإذا سرق نصاباً من المال من حرز لا شبهة له فيه قطعت يده اليمنى من الكوع ولا يجب القطع بسرقة ما دون النصاب وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن القدر غير معتبر فيجب القطع في القليل والكثير وكذا الحرز غير معتبر أيضاً عندهم وإليه ذهب داود الظاهري واحتجوا بعموم الآية فإن قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } يتناول اقليل والكثير وسواء سرقة من حرز أو غير حرز .
المسألة الثالثة : الحرز ، هو ما جعل للسكنى وحفظ الأموال كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس ويحفظون أمتعتهم فيها فكل حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أو مغلق ، فأما ما كان في غير بناء ولا خيمة فإنه ليس بحرز إلا أن يكون عنده من يحفظه أما نباش القبور ، فإنه يقطع وهو قول مالك والشافعي وأحمد . وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وابو حنيفة : لا قطع عليه ، فإن سرق شيئاً من غير حرز كثمر من بستان لا حارس له أو حيوان في برية ولا راعي له أو متاع في بيت منقطع عن البيوت فلا قطع عليه . عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال : « من أصاب بفيه منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه » أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي . وزاد فيه : ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة . ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة .
قوله : غير متخذ خبنة : بالخاء المعجمة وبعدها باء موحدة من تحت نون وهو ما يحمله الإنسان في حضنه . وقيل : وما يأخذه من خبنة ثوبه وهو ذيله وأسفله . والجرين : موضع التمر الذي يجفف فيه مثل البيدر للحنطة . وروي مالك في الموطأ ، عن أبي حسين المكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة الجبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن »(2/277)
هكذا رواه مالك منقطعاً . وهو رواية من حديث عبد الله بن عمرو المتقدم فإن هذه الرواية عن أبي حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص قوله : ولا في حريسة الجبل . من العلماء من يجعل الحريسة السرقة نفسها . يقال : حرس يحرس حرساً إذا سرق ومنهم من يجعلها المحروسة . ومعنى الحديث : أنه ليس فيما يحرس في الجبل إذا سرق قطع لأنه ليس بحرز . وقيل : حريسة الجبل هي الشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل مأواها والمراح بضم الميم هو الموضع الذي تأوي إليه الماشية بالليل . عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس . قطع » أخرجه الترمذي والنسائي .
المسألة الرابعة : إذا سرق مالاً له فيه شبهة كالولد يسرق من مال والده والوالد يسرق من مال ابنه أو العبد يسرق من مال سيده أوالشريك يسرق من مال شريكه فلا قطع على أحد من هؤلاء فيه .
المسألة الخامسة : إذا سرق أول مرة قطعت يده اليمنى من الكوع وإذا سرق ثانية قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم واختلفوا فيما إذا سرق مرة ثالثة فذهب أكثرهم إلى أن تقطع يده اليسرى فإن سرق مرة رابعة قطعت رجله اليمنى ثم إذا سرق بعد ذلك يعذَّر ويحبس حتى تظهر توبته . يروي عن هذا عن أبي بكر وهو قول قتادة وبه قال مالك والشافعي لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « في السارق إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله » ذكره البغوي بغير سند وذهب قوم إلى أنه « إن سرق بعد ما قطعت يده ورجله فلا قطع عليه بل يحبس » ويروى عن علي أنه قال : إني أستحي أن لا أدع له يداً يستنجي بها ولا رجلاً يمشي بها . وهذا قول الشعبي والنخعي والأوزاعي وبه قال أحمد وأصحاب الرأي .(2/278)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
قوله تعالى : { فمن تاب من بعد ظلمه } يعني من بعد ما ظلم نفسه بالسرقة { وأصلح } يعني وأصلح العمل في المستقبل { فإن الله يتوب عليه } يعني فإن الله يغفر له ويتجاوز عنه { إن الله غفور } يعني لمن تاب { رحيم } به .
( فصل )
وهذه التوبة مقبولة فيما بينه وبين الله . فأما القطع ، فلا يسقط عنه بالتوبة عند أكثر العلماء لأن الحد جزاء عن الجناية . ولا بد من التوبة بعد القطع وتوبته الندم على ما مضى والعزم على تركه في المستقبل . « عن أبي أمية المخزومي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلصٍّ قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله : صلى الله عليه وسلم ما أخالك سرقت فقال : بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يعترف فأمر به فقطع . ثم جيء به فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : استغفر الله وتب إليه . فقال رجل : أستغفر الله وأتوب إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم تب عليه » أخرجه أبو داود والنسائي بمعناه وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم . وقال الثوري وأصحاب الرأي : لا غرم عليه فلو كان المسروق باقياً عنده يجب عليه أن يرده إلى صاحبه وتقطع يده لأن القطع حق الله والغرم حق الآدمي فلا يمتنع أحدهما بالآخر والله أعلم .
قوله عز وجل : { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به جميع الناس وقيل معناه ، ألم تعلم أيها الإنسان فيكون الخطاب لكل فرد من الناس أن الله له ملك السموات والأرض ، يعني أن الله مدبر أمره في السموات والأرض ومصرفه وخالق من فيها ومالكه لا يمتنع عليه شيء مما أراده فيهما لأن ذلك كله في ملكه وإليه أمره { يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء } .
قال ابن عباس : يعذب من يشاء على الصغيرة ويغفر لمن يشاء على الكبيرة وقيل يعذب من يشاء على معصيته وكفره بالقتل والقطع وغير ذلك في الدنيا ، ويغفر لمن يشاء بالتوبة عليه فينقذه من الهلكة والعذاب وإنما قدم التعذيب على المغفرة ، لأنه في مقابلة قطع السرقة على التوبة . وهذه الآية فاضحة للقدرية والمعتزلة في قولهم بوجوب الرحمة للمطيع والعذاب للعاصي لأن الآية دالة على أن التعذيب والرحمة مفوضان إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك وجواب آخر وهو أنه تعالى أخبر أن له ملك السموات والأرض والمالك له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء وأراد لا اعتراض لأحد عليه في ملكه يؤكد ذلك قوله { والله على شيء قدير } يعني أنه تعالى قادر على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه وغفران ذنوب من أراد إسعاده وإنقاذه من الهلكة من خلقه ، لأن الخلق كلهم عبيده وفي ملكه .(2/279)
قوله تعالى : { يا أيها الرسول } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو خطاب تشريف وتكريم وتعظيم ، وقد خاطبه الله عز وجل بيا أيها النبي في مواضع من كتابه وبيا أيها الرسول في موضعين : هذا أحدهما والآخر قوله تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } وقوله { لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } يعني لا تهتم بموالاتهم الكفار ولا تبالِ بهم فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم { ومن الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } يعني المنافقين لأنهم أظهروا الإيمان بالقول وكتموا الكفر وهذه صفة المنافقين { ومن الذين هادوا } أي وطائفة من اليهود قال الزجاج وهذا يحتمل وجهين : أحدهما أن الكلام تم عند قوله ومن الذين هادوا ثم ابتدأ الكلام بقوله : { سماعون للكذب } ويكون تقدير الكلام { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن الذين هادوا } ثم وصف الكل بكونهم سماعين للكذب .
والوجه الثاني : أن الكلام تم عند قوله { ولم تؤمن قلوبهم } ثم ابتدأ فقال تعالى : { ومن الذين هادوا سماعون للكذب } أي ومن { الذين هادوا قوم سماعون للكذب } والمعنى أنهم قائلون الكذب ، أي يسمعون الكذب من رؤسائهم ويقبلونه منهم والسمع يستعمل والمراد منه القبول ، كما تقول : لا تسمع من فلان أي ، لا تقبل منه . وقيل : معناه سماعون لأجل أن يكذبوا عليك وذلك أنهم كانوا يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون من عنده ويقولون سمعنا منه كذا وكذا ولم يسمعوا ذلك منه بل كذبوا عليه . وقوله تعالى : { سماعون } يعني بني قريظة يعني أنهم جواسيس وعيون { لقوم آخرون } وهم أهل خيبر { لم يأتوك } يعني أهل خيبر لم يأتوك ولم يحضروا عندك يا محمد .
( ذكر القصة في ذلك )
قال علماء التفسير : إن رجلاً وامرأة من أشراف يهود خيبر زنيا وكانا محصنين وكان حدهما الرجم عندهم في حكم التوراة فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما ، فقالوا : إن هذا الرجل بيثرب يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم وليس في كتابه الرجم ولكن الضرب فأرسلوا إلى إخوانكم بني قريظة فإنهم جيرانه وصلح معه فليسألوه عن ذلك ، فبعثوا رهطاً منهم مستخفين وقالوا لهم : اسألوا محمداً عن الزانيين إذا أحصنا ما حدهما؟ فإن أمركم بالحد فاقبلوا منه ، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه وأرسلوا معهم الزانيين . فقدم الرهط حتى نزلوا على بني قريظة والنضير وقالوا لهم : إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده وقد حدث فينا حدث وذلك أن فلان وفلانة قد زنيا وقد أحصنا فنحب أن تسألوه عن قضائه في ذلك فقال لهم بنو قريظة والنضير إذاً والله يأمركم بما تكرهون ثم انطلق قوم منهم فيهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعيد بن عمرو ومالك بن الصّيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك؟ فقال هل ترضون بقضائي؟ قالوا : نعم فنزل جبريل عليه السلام بآية الرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال جبيرل للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، ووصفه لهم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا نعم قال فأي رجل فيكم؟ فقالوا هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى عليه السلام في التوراة قال فأرسلوا إليه ففعلوا فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم أنت ابن صوريا؟ قال نعم ، قال : أنت يهودي؟ قال كذلك يقولون فقال النبي لليهود تجعلونه بيني وبينكم قالوا نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صوريا :(2/280)
« ناشدتك بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وأخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون وبالذي ظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل يجدون في كتابكم الرجم على المحصن؟ فقال ابن صوريا : اللهم نعم والذي ذكرتني به لولا خشيت أن ينزل علينا العذاب إن كذبت وغير ما اعترفت لك ولكن كيف هي في كتابكم يا محمد؟ قال : إذا شهد أربعة رهط عدول أنه أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليهما الرجم . فقال ابن صوريا : والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : فما كان أول ما ترخصتم به أمر الله تعالى؟ فقال ابن صوريا : كنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنى رجل آخر في امرأة من قومه فأراد الملك رجمه فقام قومه دونه وقالوا والله لا ترجمه حتى ترجم فلاناً لابن عم الملك ، فقلنا : تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم يكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بقار ثم تسود وجوههما ثم يحملان على حمارين ووجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا ذلك مكان الرجم . فقالت اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته وما كنت لما أثنينا عليك بأهل ولكنك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك . فقال لهم ابن صوريا : إنه قد ناشدني بالتوراة ولولا خشيت أن ينزل علينا العذاب ما أخبرته . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما فرجما عند باب المسجد وقال : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه »(2/281)
فأنزل الله هذه الاية ( ق ) عن ابن عمر قال أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له أن امرأة منهم ورجلاً زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما قال : فرأيت الرجل ينحني على المرأة يقيها الحجارة . وفي رواية أخرى لهما قال : « أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة من اليهود قد زنيا فقال لليهود ما تصنعون بهما قال نفحم وجوههما ونخزيهما قال فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فجاؤوا بها فقال لرجل ممن يرضون أعور اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليها فقال ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم تلوح ، فقال : يا محمد إن فيها الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا فأمر بهما فرجما فرأيته يحنى » زاد في رواية أخرى : « فرجما قربياً موضع الجنائز قرب المسجد » ( م ) عن البراء بن عازب قال : « مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال : هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا : نعم . فدعا رجلاً من علمائهم فقال أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا : نعم . فدعا رجلاً من علمائهم فقال أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال : لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه » ، فأمر به فرجم فأنزل الله : يا أيها الرسول « لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، إلى قوله ، إن أوتيتم هذا فخذوه . يقول : ائتوا محمداً فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أمركم بالرجم فاحذروه فأنزل الله تبارك وتعالى : » ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون « في الكفار كلها .(2/282)
التحميم هو تسويد الوجه بالحمم وهو الفحم وقوله ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ قال العلماء : هذا السؤال من النبي صلى الله عليه وسلم ليس لتقليدهم ولا لمعرفة الحكم منهم ، وإنما هو لإلزامهم بما يعقدونه في كتابهم . ولعله صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى إليه أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم لم يغيروه كما غيّروا شيئاً منها أو أخبره بذلك من أسلم من أهل الكتاب وهو عبد الله بن سلام كما في حديث بن عمر المتفق عليه ولذلك لم يخف عليه صلى الله عليه وسلم حين كتموه .
قوله تعالى : { يحرفون الكلم } يعني : يغيرون حدود الله التي أوجبها عليهم في التوراة وذلك أنهم بدلوا الرجم بالجلد والتحميم وقال الحسن إنهم يغيرون ما يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب عليه . وقال ابن جرير الطبري : يحرفون حكم الكلم فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين به { من بعد مواضعه } يعني من بعد أن وضعه الله مواضعه وفرض فروضه وأحلّ حلاله وحرّم حرامه فإن قلت : قد قال الله عز وجل هنا يحرفون الكلم من بعد واضعه . وقال في موضع آخر : يحرفون الكلم عن مواضعه فهل من فرق بينهما؟ قلت نعم بينهما فرق وذلك أنّا إذا فسرنا يحرفون الكلم عن مواضعه بالتأويلات الباطلة فيكون معنى قوله يحرفون الكلم عن مواضعه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص وليس فيه بيان أنهم يحرفون تلك اللفظة من الكتاب . وأما قوله يحرفون الكلم من بعد مواضعه ففيه دلالة على أنهم جمعوا بين الأمرين يعني أنهم كانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يحرفون اللفظة من الكتاب ففي قوله : يحرفون الكلم عن مواضعه إشارة إلى التأويل الباطل وفي قوله من بعد مواضعه إشارة إلى إخراجه من الكتاب بالكلية وقوله تعالى : { يقولون } يعني اليهود { إن أوتيتم هذا فخذوه } يعني إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوامنه { وإن لم تؤتوه فاحذروا } يعني وإن لم يفتكم بذلك وأفتاكم بالرجم فاحذروا أن تقبلوه { ومن يرد الله فتنته } يعني كفره وضلالته { فلن تملك له من الله شيئاً } يعني فلن تقدر على دفع أمر الله فيك { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } قال ابن عباس معناه أن يخلص نياتهم وقيل معناه لم يرد الله أن يهديهم وفي هذه الآية دلالة على أن الله تعالى لم يرد إسلام الكافر وإنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ولو فعل ذلك لآمن وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية { لهم في الدنيا خزي } يعني للمنافقين واليهود أما خزي المنافقين ، فبالفضيحة وهتك ستارهم بإظهار نفاقهم وكفرهم وأما خزي اليهود فبأخذ الجزية والقتل والسبي والإجلاء من أرض الحجاز إلى غيرها { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } يعني الخلود في النار للمنافقين واليهود .(2/283)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
قوله عز وجل : { سماعون للكذب أكّالون للسحت } نزلت في حكم اليهود مثل كعب بن الأشرف ونظرائه كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم قال الحسن : كان الحاكم منهم إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه ثم يريها إياه ويتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيسمع الكذب ويأكل الرشوة وهي السحت وأصل السحت الاستئصال يقال : سحته إذا استأصلته وسميت الرشوة في الحكم سحتاً ، لأنها تستأصل دين المرتشي . والسحت كله حرام يحمل عليه شدة الشره وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا لآخذه مروءة ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه لا محالة ومعلوم أن حالة الرشوة كذلك فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لعن الراشي والمرتشي في الحكم » أخرجه الترمذي وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص . قال الحسن : إنما ذلك في الحاكم إذا رشوته ليحق لك باطلاً أو يبطل عنك حقاً وقال ابن مسعود : الرشوة في كل شيء فمن شفع شفاعة ليرد بها حقاً أو يدفع بها ظلماً فأهدى بها إليه فقبل فهو سحت . فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم كفر قال الله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون .
قوله عز وجل : { فإن جاؤوك } يعني اليهود { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك سيئاً } خيَّر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم فإن شاء حكم وإن شاء ترك قال الحسن ومجاهد والسدي نزلت في اليهوديين اللذين زنيا . وقال قتادة : نزلت في رجلين من قريظة والنضير قتل أحدهما الآخر . قال ابن زيد : كان حيي بن أخطب قد جعل للنضير ديتين وللقرضي دية واحدة لأنه كان من بني النضير فقالت قريظة : لا نرضى بحكم حيي ونتحاكم إلى محمد فأنزل الله هذه الآية يخير نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم .
( فصل )
اختلف علماء التفسير في حكم هذه الاية على قولين : أحدهما أنها منسوخة وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيراً فإن شاء حكم بينهم وإن شاء عرض عنهم ثم نسخ ذلك بقوله { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } فلزمه الحكم بينهم وزال التخير هذا القول مروي عن ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والسدي . والقول الثاني : إنها محكمة وحكام المسلمين بالخيار إذا ترافعوا إليهم فإن شاؤوا حكموا بينهم وأن شاؤوا أعرضوا عنهم وهذا القول مروي عن الحسن والشعبي والنخعي والزهري وبه ، قال أحمد : لأنه لا منافاة بين الآيتين .(2/284)
أما قوله فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ففيه التخيير بين الحكم والإعراض . وأما قوله { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ففيه كيفية الحكم إذا حكم بينهم قال الإمام فخر الدين الرازي : ومذهب الشافعي ، إنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه لأن إمضاء حكم الإسلام صغاراً لهم . فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك وهو التخيير المذكور في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين وأما إذا تحاكم مسلم وذمي وجب على الحاكم بينهم لا يختلف القول فيه لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة والله أعلم .
قوله تعالى : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } يعني بالعدل والاحتياط { إن الله يحب المقسطين } يعني العادلين فيما ولوا وحكموا فيه ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا » هذا من أحاديث الصفات فمن العلماء من قال فيه وفي أمثاله : نؤمن بها ولا نتكلم في تأويلها ولا نعرف معناها لكن نعتقد أن ظاهرها غير مراد وأن لها معنى يليق بالله . هذا مذهب جماهير السلف وطوائف من المتكلمين . ومنهم من قال : إنها تؤول بتأويل يليق بها وهذا قول أكثر المتكلمين . فعلى هذا قال القاضي عياض : المراد بكونه عن اليمين الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة والعرب تنسب الفعل المحمود والإحسان إلى اليمين وضده إلى اليسار قالوا واليمين مأخوذة من اليمن وقزله وكلتا يديه يمين مبني على أنه ليس المراد باليمين الجارحة تعالى الله عن ذلك فإنها مستحيلة في حقه تعالى وقوله { وما ولوا } بفتح الواو وضم اللام المخففة هكذا ذكره الشيخ محيي الدين في شرح مسلم . قال : ومعناه وما كانت له عليه ولاية وهذا الفضل لمن عدل فيما تقلده من الأحكام والله أعلم .(2/285)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
قوله تعالى : { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة } هذا تعجيب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فى تحكيم اليهود إياه مع علمهم بما فى التوراة تركهم قبول ذلك الحكم مع اعتقادهم صحته وعدولهم إلى حكم من يجحدون نبوته طلباً للرخصة لا جرم إن الله تعالى أظهر جهلهم وعنادهم لأنهم حكموا النبى صلى الله عليه وسلم فى أمر الزانيين ثم أعرضوا عن حكمه فى الآية لتقريع اليهود والمعنى وكيف يجعلونك حكماً بينهم ويرضون بحكمك وعندهم التوراة { فيها حكم الله } يعني الرجم الذي تحاكموا إليك من أجله { ثم يتولون من بعد ذلك } يعني ثم يعرضون عن حكمك الموافق لما فى كتابهم { وما أولئك } يعني اليهود { بالمؤمنين } يعني بكتابهم كما يزعمون . وقيل : معناه وما أولئك بالمصدقين .(2/286)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
قوله عز وجل : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } سبب نزول هذه الآية استفتاء اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أمر الزانيين وقد سبق بيانه والهدى هو البيان لأن التوراة مبينة صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبينة ما تحاكموا فيه والنور هو الكاشف للشبهات الموضح للمشكلات والتوراة كذلك . وقيل : الفرق بين الهدى والنور أن الهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والنور محمول على بيان أحكام التوحيد والنبوات والمعاد { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } أراد بالنبيين الذين بعثوا بعد موسى عليه السلام وذلك أن الله بعث فى بني إسرائيل ألوفاً من الأنبياء وليس معهم كتاب إنما بعثوا بإقامة التوراة وأحكامها ومعنى أسلموا : أي انقادوا لأمر الله تعالى والعمل بكتابه وهذا على سبيل المدح لهم وفيه تعريض باليهود لأنهم بعدوا عن الإسلام الذي هو دين الأنبياء عليهم السلام وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي : يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد صلى الله عليه وسلم وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً وتشريفاً له صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم وكان هذا الحكم فى التوراة . قال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن الأنبياء عليهم السلام ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين لله تعالى منقادين لأمره ونهيه . للذين هادوا يعني لليهود يعني يحكم بالتوراة لهم وفيما بينهم ويحملهم على أحكامها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم كما هو في التوراة ولم يوافقهم على ما أرادوه من الجلد وقال الزجاج وجائز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير على معنى : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا { والربانيون والأحبار } أما الربانيون فتقدم تفسيره فى سورة آل عمران وأما الأحبار فقال ابن عباس : هم الفقهاء . وقيل : هم العلماء الأحبار واحده حبر بفتح الحاء وكسرها لغتان . وقال الفراء : إنما هو حبر بكسر الحاء وإنما سمي به لمكان الحبر الذى يكتب به وذلك لأنه صاحب كتاب . وقال أبو عبيد : إنما هو حَبر بفتح الحاء والحبر العالم لما يبقى من أثر علومه في قلوب الناس وأفعاله الحسنة التى يقتدى بها وجمعه أحبار ومنه كعب الأحبار . وقيل : الحبر الأثر المستحسن ومنه الحديث : يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره أي جماله وبهاؤه . وإنما سمي العالم حبراً لما عليه من أثر جمال العلم وهل فرق بين الربانيين والأحبار أم لا؟ فيه خلاف ، فقيل : لا فرق . والربانيون ، والأحبار بمعنى واحد وهم : العلماء والفقهاء . وقيل : الربانيون أعلى درجة من الأحبار لأن الله تعالى قدمهم في الذكر على الأحبار .(2/287)
وقيل : الربانيون هم الولاة . والحكام والأحبار هم العلماء : وقيل : الربانيون علماء النصارى ، والأحبار : علماء اليهود . ومعنى الآية : يحكم بأحكام التوراة النبيون وكذلك يحكم بها الربانيون والأحبار . وقوله تعالى : { بما استحفظوا من كتاب الله } يعني بما استودعوا من كتاب الله . وقيل : هو أن يحفظوا كتاب الله فلا ينسوه وقيل هو أن يحفظوه فلا يضيعوا أحكامه وشرائعه . وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين معاً وذلك بأن يحفظوا كتاب الله فى صدورهم ويدرسونه بألسنتهم لئلا يسنوه وأن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه فإذا فعلوا كانوا قائمين بحفظه { وكانوا عليه شهداء } يعني : أن هؤلاء النبيين والربانيين والأحبار كانوا شهداء على كتاب الله ويعلمون أنه حق وصدق وأنه من عند الله { فلا تخشوا الناس واخشون } هذا خطاب لحكام اليهود الذين كانوا فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لا تخافوا أحداً من الناس فى إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والعمل بالرجم واخشون يعني فى كتمان ذلك { ولا تشتروا بآياتى ثمناً قليلاً } يعني ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه ثمناً قليلاً يعني الرشوة فى الأحكام والجاه عند الناس ورضاهم والمعنى كما نهيتكم عن تغير الأحكام لأجل خوف الناس كذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع فى المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } بمعنى : أن اليهود لما أنكروا حكم الله تعالى المنصوص عليه فى التوراة وقالوا إنه غير واجب عليهم ، فهم كافرون على الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآيات الثلاث وهي قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } فقال جماعة من المفسرين : الآيات الثلاث نزلت فى الكفار ومن غير حكم الله من اليهود ، لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة ، لا يقال إنه كافر وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك . ويدل على صحة هذا القول ما روي عن البراء بن عازب قال أنزل الله تبارك وتعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } فى الكفار لكها أخرجه مسلم وعن ابن عباس قال { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } إلى قوله هم الفاسقون هذه الآيات الثلاث فى اليهود خاصة قريظة والنضير أخرجه أبو داود . وقال مجاهد : فى هذه الآيات الثلاث من ترك الحكم بما أنزل الله رداً لكتاب الله فهو كافر ظالم فاسق .(2/288)
وقال عكرمة ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق وهذا قول ابن عباس أيضاً واختار الزجاج لأنه قال : من زعم أنّ حكماً من أحكام الله تعالى التي أتانا بها الأنبياء باطل فهو كافر . وقال طاوس : قلت لابن عباس أكافر من لم يحكم بما أنزل الله؟ فقال : به كفر وليس بكفر ينقل عن الملة كمن كفر بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر ونحو هذا روي عن عطاء . وقال : هو كفر دون الكفر . وقال ابن مسعود والحسن والنخعي : هذه الآيات الثلاث عامة فى اليهود وفي هذه الأمة فكل من ارتشى وبدل الحكم فحكم بغير حكم الله فقد كفر وظلم وفسق وإليه ذهب السدي لأنه ظاهر الخطاب . وقيل : هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عياناً عمداً وحكم بغيره وأما من خفي عليه النص أو أخطأ فى التأويل فلا يدخل فى هذا الوعيد والله أعلم بمراده .(2/289)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } يعني : وفرضنا على بني اسرائيل فى التوراة أن نفس القاتل بنفس المقتول وفاقاً فيقتل به وذلك أن الله تعالى حكم فى التوراة أن على الزاني المحصن الرجم وأخبر أن اليهود بدّلوه وغيروه وأخبر أيضاً أن فى التوراة أن النفس بالنفس وأن هؤلاء اليهود غيروا هذا الحكم وبدلوه ففضلوا بني النضير على بني قريظة فكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة أدوا إليهم نصف الدية وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة فغيروا حكم الله الذي أنزل فى التوراة .
قاب ابن عباس : أخبر الله بحكمه فى التوراة وهو أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص . قال : فما لهم يخالفون فيقتلون النفسين بالنفس ويفقأون العينين بالعين . ومعنى الآية : أن قاتل النفس يقتل بها إذا تكافأ الدمان ومذهب الشافعي : أنه لا يقتل مسلم بكافر لما صح من حديث علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقتل مسلم بكافر » الحديث أخرجاه فى الصحيحين وقوله تعالى : { والعين بالعين } يعني تفقأ بها { والأنف بألأنف } يعني يجدع به { والأذن بالأذن } يعني تقطع بها { والسن بالسن } يعني تقلع بها وأما سائر الأطراف والأعضاء فيجري فيها القصاص كذلك ، وقوله تعالى : { والجروح قصاص } يعني فيما يمكن أن يقتص منه وهذا تعميم بعد التخصيص ، لأن الله تعالى ذكر النفس والعين والأنف والأذن فخص هذه الأربعة بالذكر ثم قال تعالى : والجروح قصاص ، على سبيل العموم فيما يمكن أن يقتص منه كاليد والرجل والذكر والانثيين وغيرها وأما مالا يمكن القصاص فيه كرضّ في لحم أو كسر فى عظم أو جراحة فى بطن يخاف منها التلف فلا قصاص فى ذلك وفيه الأرش والحكومة . واعلم أن هذه الآية دالة على أن هذا الحكم كان شرعاً فى التوراة فمن قال شرع من قبلنا يلزمنا إلا ما نسخ منه بالتفصيل قال هذه الآية حجة فى شرعنا ومن أنكره قال إنها ليست بحجة علينا وأصل هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بعد البعثة هل هم متعبدون بشرع من تقدم من الأنبياء عليهم السلام؟ فنقل عن أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وعن أحمد فى أحد الروايتين عنه أنه كان متعبداً بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهة كتبهم المبدلة ونقل أربابها واختار ابن الحاجب من المتأخرين هذا المذهب وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان بعد البعثة متعبداً بشرع من قبله فيما لم ينسخ من الأحكام الباقية قبل شريعته لكنه لم يعتبر فيه قيد الوحي وهو الحق وإلا لم يبق للنزاع معنى إذ لا ينكر أحدا كون النبي صلى الله عليه وسلم متعبداً بعد البعثة بما أوحى إليه سواء كان من شريعة من قبله أم لا وذهبت الأشاعرة والمعتزلة إلى المنع من ذلك وهو اختيار الآمدي من المتأخرين واحتج الأولون لصحة مذهبهم بأن الإجماع منعقد على صحة الاستدلال بقوله : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } الآية مع أنه من شريعة من تقدم لأنه مذكور في التوراة .(2/290)
ومكتوب على بني إسرائيل : ولولا أنا متعبدون بشريعة من قبلنا لما صح هذا الاستدلال ، وقوله تعالى : { فمن تصدق به } يعني بالقصاص فلم يقتص من الجاني { فهو كفارة له } فى هاء له قولان : أحدهما أن الهاء فى له كناية عن المجروح وولي المقتول وذلك أن المجروح أو ولي المقتول إذا تصدق بالقصاص كان ذلك كفارة لذنوبه وهذا قول ابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص والحسن ويدل عليه ما روي عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « ما من رجل يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة » أخرجه الترمذي . وعن أنس قال : « ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو أخرجه أبو داود والنسائي » .
والقول الثاني : أن الضمير فى قوله له يعود إلى الجارح والقاتل يعني أن المجني عليه إذا عفا عن الجاني كان ذلك العفو كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به فى الآخرة وهذا قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل كما أن القصاص كفارة له فأما أجر العافي ، فعلى الله تعالى .
وقوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } : يعني لأنفسهم حيث لم يحكموا بما أنزل الله عز وجل .(2/291)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قوله عز وجل : { وقفينا على آثارهم } يعني وعقبنا على آثار النبيين الذين أسلموا { بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة } يعني أن عيسى عليه السلام كان مصدقا بأن التوراة منزلة من عند الله عزّ وجل وكان العمل بها واجباً قبل ورود النسخ عليها فإن عيسى عليه السلام نسخ بعض أحكام التوراة وخالفها { وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور } يعني فيه هدى من الجهالة وضياء من عمى البصيرة { ومصدقاً لما بين يديه من التوراة } هذا ليس بتكرار للأول لأن فى الأول الإخبار بأن عيسى مصدق لما بين يديه من التوراة . وفي الثاني : الإخبار بأن الإنجيل مصدق للتوراة ، فظهر الفرق بين اللفظين وأنه ليس بتكرار { وهدى وموعظة للمتقين } إنما قال : وهدى مرة أخرى لأن الإنجيل يتضمن البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيكون سبباً لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . وأما كون الإنجيل موعظة ، فلما فيه من المواعظ البليغة والزواجر والأمثال وإنما خص المتقين بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالمواعظ .
قوله تعالى : { وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه } قال أهل المعاني : قوله وليحكم يحتمل وجهين : أحدهما أن يكون المعنى وقلنا ليحكم أهل الإنجيل ، فيكون هذا إخباراً عما فرض عليهم فى وقت إنزاله عليهم من الحكم بما تضمنه الإنجيل ثم حذف القول لأن ما قبله من قوله وكتبنا وقفينا يدل عليه وحذف القول كثير .
والوجه الثاني : أن يكون قوله وليحكم ابتداء وفيه أمر للنصارى بالحكم بما فى كتابهم وهو الإنجيل .
فإن قلت فعلى هذا الوجه كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن قلت : إن المراد بهذا الحكم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن ذكره فى الإنجيل ووجوب التصديق بنبوته موجود فإذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد حكموا بما فى الإنجيل .
وقوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } يعني : فأولئك هم الخارجون عن طاعة الله عز وجل .
قوله عز وجل : { وأنزلنا إليك الكتاب } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني وأنزلنا إليك يا محمد القرآن { بالحق } يعني بالصدق الذي لا شك فيه أنه من عند الله { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب } يعني أن يصدق جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه { ومهيمناً عليه } قال ابن عباس يعني شاهداً على الكتب التي قبله ومنه قول حسان :
إن الكتاب مهيمن لنبينا ... والحق يعرفه ذوو الألباب
يريد أنه شاهد ومصدق لنبينا صلى الله عليه وسلم وإنما كان القرآن مهيمناً على الكتب التي قبله لأنه الكتاب الذي لا ينسخ ولا يغير ولا يبدل . وإذا كان القرآن كانت شهادته على التوراة والإنجيل والزبور وجميع الكتب المنزلة حقا وصدقاً .(2/292)
وقيل : المهيمن الأمين . وإنما كان القرآن أميناً على الكتب التي قبله فيما أخبر أهل الكتب عن كتبهم فإن قالوا ذلك فى القرآن فقد صدقوا وإلا فلا { فاحكم بينهم بما أنزل الله } يعني : إذا ترافع أهل الكتاب إليك يا محمد فاحكم بينهم بالقرآن الذي أنزل الله إليك { ولا تتبع أهواءهم } يعني : ولا تبع أهواء هؤلاء اليهود فى الحكم وقال ابن عباس لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن { عما جاءك من الحق } يعني ولا تنحرف عن الحق الذي جاءك من عند الله متبعاً أهواءهم ، وقوله : ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم لكن المراد به غير لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتبع أهواءهم قط .
وقوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } الخطاب فى قوله منكم للأمم الثلاثة أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين بدليل أن الله عز وجل قال قبل هذه { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } ثم قال بعد ذلك { وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم } ثم قال { وأنزلنا إليك الكتاب } ثم جمع فقال { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } والشرعة : الشريعة . يعني لكل أمة شريعة فللتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة والدين واحد وهو التوحيد . وأصل الشريعة من الشرع وهو البيان والإظهار فمعنى شرع بيَّن وأوضح . وقيل : هو من الشروع في الشيء . والشريعة في كلام العرب ، المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون ويسقون منها . وقيل : الشريعة الطريقة ثم استعير ذلك للطريقة الإلهية المؤدية إلى الدين والمنهاج الطريق الواضح وقال بعضهم الشريعة والمنهاج عبارتان عن معنى واحد والتكرير للتأكيد والمراد بهما : الدين وقال آخرون : بينهما فرق لطيف وهو أن الشريعة هي التي أمر الله بها عباده . والمنهاج : الطريق الواضح المؤدي إلى الشريعة .
قال ابن عباس : فى قوله شرعة ومنهاجاً سنة وسبيلاً . وقال قتادة : سبيلاً وسنة فالسنن مختلفة للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة يحل الله عز وجل فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه والدين الذي لا يقبل غيره هو التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم السلام وقال علي بن أبي : الإيمان منذ بعث آدم عليه السلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله ولكل قوم شريعة ومنهاج . قال العلماء : وردت آيات دالة على عدم التباين فى طريقة الأنبياء والرسل منها قوله : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } ووردت آيات دالة على حصول التباين بينهم منها هذه الآية وهي قوله { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } وطريق الجمع بين هذه الآيات أن كل آية دلت على عدم التباين فهي دالة على أصول الدين من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكل ذلك جاءت به الرسل من عند الله ولم يختلفوا فيه .(2/293)
وأما الآيات الدالة على حصول التباين بينهم ، فمحمولة على الفروع ، وما يتعلق بظواهر العبادات فجائز أن يتعبد الله عباده فى كل وقت بما يشاء فهذه طريق الجمع بين هذه الآيات والله أعلم بأسرار كتابه واحتج بهذه من قال إن شرع من قبلنا لا يلزمنا لأن قوله لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً يدل على أن كل رسول جاء بشريعة خاصة فلا يلزم أمة رسول الاقتداء بشريعة رسول آخر ثم قال تعالى : { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } يعني جماعة متفقة على شريعة واحدة ودين واحد لا اختلاف فيه { ولكن ليبلوكم } يعني ولكن أراد أن يختبركم { فيما آتاكم } يعني من الشرائع المختلفة هل تعلمون بها أم لا؟ فيتبين بذلك المطيع من العاصي والموافق من المخالف { فاستبقوا الخيرات } هذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يعني فبادروا يا أمة محمد بالأعمال الصالحات التي تقربكم إلى الله تعالى { إلى الله مرجعكم جميعاً } يعني المطيع والعاصي والموافق والمخالف { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } يعني : فيخبركم فى الآخرة بما كنتم فيه تختلفون من أمر الدين والدنيا . والمعنى : فيخبركم في الآخرة بما لا تشكون معه فيفصل بين المحق والمبطل والطائع والعاصي بالثواب والعقاب .(2/294)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
قوله تعالى : { وأن أحكم بينهم بما أنزل الله } قال ابن عباس : إن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس قال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم وأنّا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود ولم يخالفونا وأن بيننا وبين قومنا خصومة فتتحاكم إليك فاقض لنا عليهم نؤمن بك ونصدقك فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } يعني احكم بينهم يا محمد بالحكم الذي أنزله الله في كتابه { ولا تتبع أهواءهم } يعني فيما أمروك به .
قال العلماء : ليس في هذه الآية تكرار لما تقدم ، وإنما أنزلت فى حكمين مختلفين . أما الآية الأولى : فنزلت فى شأن رجم المحصن وأن اليهود طلبوا منه أن يجلده وهذه الآية نزلت فى شأن الدماء والديات حين تحاكموا إليه في أمر قتيل كان بينهم قال بعض العلماء هذه الآية ناسخة للتخيير فى قوله : { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } وقوله تعالى : { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } يعني : واحذر يا محمد هؤلاء اليهود الذين جاؤوا إليك أن يصرفوك ويصدوك بمكرهم وكيدهم فيحملوك على ترك العلم ببعض ما أنزل الله إليك في كتابه واتباع أهوائهم { فإن تولوا } يعني فإن أعرضوا عن الإيمان بك والرضا بالحكم بما أنزل الله عليك { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } يعني فاعلم يا محمد أن الله يريد أن يعجل لهم العقوبة فى الدنيا ببعض ذنوبهم وإنما خص بعض الذنوب لأن الله جازاهم فى الدنيا على بعض ذنوبهم بالقتل والسبي والجلاء وأخر مجازاتهم على باقي ذنوبهم إلى الآخرة { وإن كثيراً من الناس لفاسقون } يعني اليهود لأنهم ردوا حكم الله تعالى { أفحكم الجاهلية يبغون } يعني أفحكم الجاهلية هؤلاء اليهود قال ابن عباس : يعني بحكم الجاهلية ما كانوا عليه من الضلال والجور في الأحكام وتحريفهم إياها عما أمر الله به وقال مقاتل كانت بين بني النضير وقريظة دماء وهما حيان من اليهود وذلك قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فلما بعث وهاجر إلى المدينة تحاكموا إليه فقالت بنو قريظة بنو النضير إخواننا أبونا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فإن قتل بنو النضير منا قتيلاً أعطونا سبعين وسقاً من تمر وإن قتلنا منهم قتيلاً أخذوا منا مائة وأربعين وسقاً وأرش جراحتنا على النصف من جراحتهم فاقض بيننا وبينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضيري ، ودم النضيري وفاء من دم القرظي ليس لأحدهما فضل على الآخر فى دم ولا عقل ولا جراحة . فغضبت بنو النضير ، وقالوا : لا نرضى بحكمك فإنك لنا عدو وإنك ما تألو فى وضعنا وتصغيرنا . فأنزل الله : أفحكم الجاهلية يبغون . وقرئ بالتاء على الخطاب . والمعنى : قل لهم يا محمد أفحكم الجاهلية تبغون { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } يعني : أي حكم أحسن من حكم الله إن كنتم موقنين أنّ لكم رباً وأنه عدل في أحكامه .(2/295)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية وإن كان حكمها عاماً لجميع المؤمنين ، لأن خصوص السبب لا يمنع من عموم الحكم ، فقال قوم : نزلت هذه الآية فى عبادة بن الصامت رضي الله عنه وعبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين وذلك أنهما اختصما فقال عبادة إن لي أولياء من اليهود كثير عددهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله بن أبيّ : لكني لا أبرأ من ولاية اليهود فإن أخاف الدوائر ولا بد لي منهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه فقال : إذن أقبل فأنزل الله هذه الآية . وقال السدي : لما كانت وقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أماناً إني أخاف أن يدال علينا اليهود . وقال رجل آخر : أنا ألحق بفلان النصراني من أهل الشام وآخذ منه أماناً . فأنزل الله هذ الآية ينهاهم عن موالاة اليهود والنصارى .
وقال عكرمة : نزل فى أبي لبابة بن عبد المنذر لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا : ماذا يصنع بنا إذا نزلنا؟ فجعل اصبعه فى حلقه أشار إلى أنه الذبح وأنه يقتلكم فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } فنهى الله المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وأعواناً على أهل الإيمان بالله ورسوله وأخبر أنه من اتخذهم أنصاراً وأعواناً وخلفاء من دون الله ورسوله والمؤمنين فإنه منهم وإن الله ورسوله والمؤمنين منه براء { بعضهم أولياء بعض } يعني أن بعض اليهود أنصار لبعض على المؤمنين وأن النصارى كذلك يد واحدة على من خالفهم فى دينهم وملتهم { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } يعني ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين فينصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم لأنه لا يتولى مولى إلا وهو راض به وبدينه وإذا رضيه ورضى دينه صار منهم وهذا تعليم من الله تعالى وتشديد عظيم في مجانبة اليهود والنصارى وكل من خالف دين الإسلام { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } يعني أن الله لا يوفق من وضع الولاية في غير موضعها فتول اليهود والنصارى مع علمه بعداوتهم لله ولرسوله وللمؤمنين ، روي أن أبا موسى الأشعري قال : قلت لعمر بن الخطاب : إن لي كاتباً نصرانياً فقال : مالك وله قاتلك الله ألا اتخذت حنيفاً؟ يعني مسلماً أما سمعت قول الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } قلت : له دينه ولي كتابته : فقال : لا أكرّمهم إذا أهانهم الله ولا أعزهم إذا أذلهم الله ولا أدنيهم إذا أبعدهم الله .(2/296)
قلت : إنه لا يتم أمر البصرة إلا به . فقال : مات النصراني والسلام يعني : هب أنه مات فما تصنع بعده فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغنِ عنه بغيره من المسلمين .
قوله تعالى : { فترى الذين فى قلوبهم مرض } يعني فترى يا محمد الذين فى قلوبهم شك ونفاق { يسارعون فيهم } يعني يسارعون فى مودة اليهود وموالاتهم ومناصحتهم لأنهم كانوا أهل ثروة ويسار فكانوا يغشونهم ويخالطونهم لأجل ذلك . نزلت فى عبد الله بن أبي ، المنافق وفي أصحابه من المنافقين { يقولون } يعني المنافقين { نخشى أن تصيبنا دائرة } الدائرة من دوائر الدهر كالدولة التي تدول والمعنى . يقول المنافقون : إنما نخالط اليهود لأنا نخشى أن يدور علينا الدهر بمكروه ، ويعنون بذلك المكروه الهزيمة فى الحرب والقحط والجدب والحوادث المخوفة . قال ابن عباس : معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور علينا الأمر كما كان قبل محمد { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده } قال المفسرون : عسى من الله واجب لأن الكريم إذا أطمع في خير فعله وهو بمنزلة الواعد لتعلق النفس به ورجائها له والمعنى فعسى الله أن يأتي بالفتح لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار دينه على الأديان كلها وإظهار المسلمين على أعدائهم من الكفار واليهود والنصارى وقد فعل الله ذلك بمنّه وكرمه فأظهر دينه ونصر عبده . وقيل : أراد بالفتح فتح مكة . وقيل : فتح قرى اليهود مثل خيبر وفدك ونحوهما من بلادهم { أوأمر من عنده } يعني أنه تعالى يقطع أصل اليهود من أرض الحجاز ويخرجهم من بلادهم بلا كلفة وتعب ولا يكون للناس فيه فعل البتة كما ألقى فى قلوبهم الرعب فأخلوا ديارهم وخربوها بأيديهم ورحلوا إلى الشام .
وقوله تعالى : { فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } يعني فيصبح المنافقون الذين كانوا يوالون اليهود نادمين على ما حدثوا به أنفسهم أنّ أمر محمد لا يتم وقيل ندموا على دس الأخبار إلى اليهود .(2/297)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
{ ويقول الذين آمنوا } يعني ويقول الذين آمنوا في وقت إظهار الله تعالى نفاق المنافقين { أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم } وذلك أن المؤمنين كانوا يتعجبون من حال المنافقين عندما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود والنصارى ويقولون إن المنافقين حلفوا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعنا ومن أنصارنا والآن كيف صاروا موالين لأعدائنا من اليهود محبين للاختلاط بهم فبان كذب المنافقين في أيمانهم الباطلة { حبطت أعمالهم } أي بطل كل خير عملوه لأجل ما أظهروا من النفاق ومولاة اليهود { فأصبحوا خاسرين } يعني أنهم خسروا فى الدنيا بافتضاحهم وخسروا في الآخرة بإحباط ثواب أعمالهم وحصلوا بالعذاب الدائم المقيم .
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } يعني من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه وهو دين الإسلام فيبدله ويغيره بدخوله فى الكفر بعد الإيمان فيختار : إما اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من أصناف الكفر فلن يضر الله شيئاً وإنما ضرَّ نفسه برجوعه عن الدين الصحيح الذي هو دين الإسلام قال الحسن : علم الله تعالى أن قوماً سيرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه . وذكر صاحب الكشاف أن إحدى عشرة فرقة من العرب ارتدت ثلاث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم : بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار وهو الأسود العنسي وكان كاهناً فتنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج منها عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه الله تعالى على يد فيروز الديلمي في بيته فقتله فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بقتله ليلة قتل فسرَّ المسلمون بذلك وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبر قتله في آخر ربيع الأول . وبنو حنيفة وهم قوم مسيلمة الكذاب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله .
« أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك » فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب . أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين » وستأتي قصة قتله فيما بعد وبنو أسد وهم قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقاتله فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وارتد سبع فرق في خلافة أبي بكر الصديق وهم فزارة قوم عيينة بن حصن الفزاري وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة اليربوعي وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوجت نفسها من مسيلمة الكذاب .(2/298)
وكندة قوم الأشعث بن قيس الكندي وبنو بكر بن وائل قوم الحطم بن زيد فكفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفرقة واحدة ارتدت فى خلافة عمر بن الخطاب وهم غسان قوم جبلة بن الأيهم واختلف العلماء في المعنى بقوله تعالى : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب كما تقدم تفصيله إلا أهل المدينة وأهل مكة وأهل البحرين من بني عبد القيس فإنهم ثبتوا على الإسلام ونصر الله بهم الدين ولما ارتد مَن ارتد من العرب ومنعوا الزكاة همَّ أبو بكر بقتالهم وكره ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عمر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله » فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقاً أو قال عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . وقال أنس بن مالك : كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة ، وقالوا : هم أهل القبلة ، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بدّاً من الخروج على أثره ، فقال ابن مسعود : كرهنا ذلك فى الابتداء ثم حمدناه عليه في الانتهاء . وقال أبو بكر بن عياش : سمعت أبا حصين يقول : ما ولد بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصديق لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة وقالت عائشة : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرأبَّ النفاق ونزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها وبعث أبو بكر الصديق خالد بن الوليد في جيش كثير إلى بني حنيفة باليمامة وهم قوم مسيلمة الكذاب فأهلك الله مسيلمة على يد وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة ، فكان وحشي يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام أراد بذلك وحشي أنه في حال الجاهلية قتل حمزة وهو خير الناس وفي حال إسلامه قتل مسيلمة الكذاب وهو شر الناس وقال قوم : المراد بقوله تعالى : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } الأشعريون قوم أبي موسى الأشعري ، روي عن عياض بن غنم الأشعري قال لما نزلت هذه الآية { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/299)
« هم قوم هذا » يعني أبا موسى الاشعري أخرجه الحاكم في المستدرك وقيل هم أهل اليمن ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً الإيمان يمان والحكمة يمانية »
وقال السدي : نزلت في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوه على إظهار الدين ، وقيل : هم أحياء من أهل اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من أهل كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أخلاط الناس جاهدوا في سبيل الله يوم القادسية في خلافة عمر ، وعلى هذا التقدير ، تكون هذه الآية إخباراً عن الغيب وقد وقع الخبر على وفقه بحمد الله تعالى فتكون هذه الآية معجزة .
وأما معنى المحبة ، فيقال أحببت فلاناً بمعنى جعلت قلبي معرضاً بأن يحبه والمحبة إرادة ما تراه أو تظنه خيراً . ومحبة الله تعالى العبد ، إنعامه عليه وتوفيقه وهدايته إلى طاعته والعمل بما يرضى به عنه وأن يثيبه أحسن الثواب على طاعته وأن يثني عليه ويرضى عنه ومحبة العبد لله عزّ وجل أن يسارع إلى طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعل ما يوجب سخطه وعقوبته وأن يتحبب بما يوجب له الزلفى لديه جعلنا الله ممن يحبهم ويحبونه بمنّه وكرمه .
وقوله تعالى : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } هذه من صفات الذين اصطفاهم الله تعالى ووصفهم بقوله : يحبهم ويحبونه ، يعني أنهم أرقاء رحماء لأهل دينهم وإخوانهم من المؤمنين ولم يرد ذل الهوان بل أراد لين جانبهم لإخوانهم المؤمنين وهم من رقتهم ورحمتهم ولين جانبهم أشداء أقوياء غلظاء على أعدائهم الكافرين .
قال علي بن أبي طالب : أذلة على المؤمنين يعني أهل رقة على أهل دينهم أعزة على الكافرين أهل غلظة على من خالفهم في دينهم . وقال ابن عباس : تراهم كالولد لوالده والعبد لسيده وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته . وقال ابن الأنباري : أثنى الله على المؤمنين بأنهم يتواضعون للمؤمنين إذا لقوهم ويعنفون الكافرين إذا لقوهم . وقيل : إن الذل بمعنى الشفقة والرحمة كأنه قال راحمين للؤمنين مشفقين عليهم على وجه التذلل والتواضع وإنما أتى بلفظة على حتى يدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم لا لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم بل ذلك التذلل لأجل أنهم ضموا إلى علو منصبهم فضيلة التواضع ويدل على صحة هذا سياق الآية وهو قوله : { أعزة على الكافرين } يعني أنهم أشداء أقوياء في أنفسهم وعلى أعدائهم { يجاهدون في سبيل الله } يعني أنهم ينصرون دين الله { ولا يخافون لومة لائم } يعني لا يخافون عدل عادل فى نصرهم الدين وذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم فبين الله تعالى في هذه الآية أن من كان قوياً في الدين فإنه لا يخاف في نصره لدين الله بيده أو بلسانه لومة لائم وهذه صفة المؤمنين المخلصين إيمانهم لله تعالى ( ق ) .(2/300)
عن عبادة بن الصامت قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره على أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ثم قال تعالى : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصفهم بمحبة الله ولين جانبهم للمؤمنين وشدتهم على الكافرين وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم كل ذلك من فضل الله تعالى تفضل بهم عليهم ومن إحسانه إليهم { والله واسع عليم } يعني أنه تعالى واسع الفضل عليم بمن يستحقه .(2/301)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
قوله تعالى : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } قال ابن عباس : نزلت هذه الآية فى عبادة بن الصامت حين تبرأ من موالاة اليهود وقال : أوالي الله ورسوله والمؤمنين يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقال جابر بن عبد الله : نزلت فى عبد الله بن سلام وذلك أنه جاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن قومنا قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا ، فنزلت هذه الآية ، فقرأ : عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن سلام : رضينا بالله ربّاً وبرسوله نبياً وبالمؤمنين أولياء .
وقيل : الآية عامة في حق جميع المؤمنين لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض فعلى هذا يكون قوله تعالى : { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } صفة لكل مؤمن ويكون المراد بذكر هذه الصفات تمييز المؤمنين عن المنافقين لأن المنافقين كانوا يدعون أنهم مؤمنون إلا أنهم لم يكونوا يداومون على فعل الصلاة والزكاة فوصف الله تعالى المؤمنين بأنهم يقيمون الصلاة يعني بتمام ركوعها وسجودها فى مواقيتها ويؤتون الزكاة يعني ويؤدون الزكاة يعني ويؤدون زكاة أموالهم إذا وجبت عليهم .
أما قوله تعالى وهم راكعون فعلى هذا التفسير فيه وجوه :
أحدهما : أن المراد من الركوع هنا الخضوع والمعنى أن المؤمنين يصلون ويزكون وهم منقادون خاضعون لأوامر الله ونواهيه .
الوجه الثاني : أن يكون المراد منه أن من شأنهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإنما خص الركوع بالذكر تشريفاً له .
الوجه الثالث : قيل إن هذه الآية نزلت وهم ركوع . وقيل : نزلت في شخص معين وهو علي بن أبي طالب . قال السدي : مر بعلي سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه ، فعلى هذا قال العلماء : العمل القليل في الصلاة لا يفسدها والقول بالعموم أولى وإن كان قد وافق وقت نزولها صدقة علي بن أبي طالب وهو راكع . ويدل على ذلك ما روي عن عبد الملك بن سليمان قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عن هذه الآية { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } من هم؟ فقال : المؤمنون ، فقلت : إن ناساً يقولون هو علي ، فقال : علي من الذين آمنوا .
وقوله تعالى : { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا } يعني ومن يتول القيام بطاعة الله ونصر رسوله والمؤمنين . قال ابن عباس : يريد المهاجرين والأنصار ومن يأتي بعدهم { فإن حزب الله } يعني أنصار دين الله { هم الغالبون } لأن الله ناصرهم على عدوهم والحزب في اللغة أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبه يعني أهمه .(2/302)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً } قال ابن عباس : كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . ومعنى : اتخذوا دينكم هزواً ولعباً هو إظهارهم الإسلام بألسنتهم قولاً وهم على ذلك يبطنون الكفر ويسرونه { من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } يعني اليهود { والكفار } يعني عبدة الأصنام وإنما فصل بين أهل الكتاب والكفار وإن كان أهل الكتاب من الكفر لأن كفر المشركين من عبدة الأصنام أغلظ وأفحش من كفر أهل الكتاب { أولياء } يعني لا تتخذوهم أولياء والمعنى أن أهل الكتاب والكفار اتخذوا دينكم يا معشر المؤمنين هزواً وسخرية فلا تتخذوهم أنتم أولياء وأنصاراً { واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } يعني مؤمنين حقاً لأن المؤمن يأبى موالاة أعداء الله عز وجل .
قوله تعالى : { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً } قال الكلبي : كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها ، قالت اليهود : قد قاموا لا قاموا وصلوا لا صلوا ويضحكون على طريق الاستهزاء فأنزل الله هذه الآية . وقال السدي : نزلت هذه الآية في رجل من النصارى كان بالمدينة فكان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله يقول حرق الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وهو وأهله نيام فطارت منها شرارة فاحترق البيت واحترق هو وأهله . وقيل : إن الكفار والمنافقين كانوا إذا سمعوا حسدوا المسلمين على ذلك فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا محمد لقد أبدعت شيئاً لم يسمع بمثله فيما مضى من الأمم قبلك فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت الأنبياء قبلك ولو كان فيه خير لكان أولى الناس به الأنبياء فمن أين لك صياح كصياح العير فما أقبح هذا الصوت وما أسمج هذا الأمر؟ فأنزل الله عز وجل : { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } الآية وأنزل { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً } { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } يعني أن هزؤهم ولعبهم من أفعال السفهاء والجهال الذين لا عقل لهم .
قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني : قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذي اتخذوا دينك هزواً ولعباً { هل تنقمون منا } وهذا على سبيل التعجب من فعل أهل الكتاب والمعنى هل تجدون علينا في الدين إلا الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وبما أنزل على جميع الأنبياء من قبل وهذا ليس مما ينكر أو ينقم منه وهذا كما قال بعضهم :(2/303)
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنَّ فلول من قراع الكتائب
يعني أنه ليس فيهم عيب إلا ذلك وهذا ليس بعيب بل هو مدح عظيم لهم . قال ابن عباس : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع وعازوراء وزيد وخالد وأزار بن أبي أزار وأشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال : أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط - إلى قوله - ونحن له مسلمون الآية فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته ، وقالوا : والله لا نؤمن بمن آمن به ، فأنزل الله هذه الآية . وقيل : إنهم قالوا والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم فأنزل الله هذه الآية { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزلنا إلينا وما أنزل من قبل } وهذا هو ديننا الحق وطريقنا المستقيم فلم تنقمونه علينا { وأن أكثركم فاسقون } يعني أنما كرهتم إيماننا ونقمتموه علينا مع علمكم بأننا على الحق بسبب فسقكم وإقامتكم على الدين الباطل لحب الرياسة وأخذ الأموال بالباطل وإنما قال أكثركم لأن الله يعلم أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله وبرسوله . قوله عز وجل .(2/304)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
{ قل هل أنبئكم بشرٍّ من ذلك } هذا جواب لليهود لما قالوا ما نعرف ديناً شراً من دينكم . والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة هل أخبركم بشر من ذلك الذي ذكرتم ونقمتم علينا من إيماننا بالله وبما أنزل علينا { مثوبة عند الله } يعني جزاء .
فإن قلت : المثوبة مختصة بالإحسان لأنها في معنى الثواب ، فكيف جاءت في الإساءة؟ . قلت : وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله : تحية بينهم ضرب وجيع .
فإن قلت : هذا يقتضي أن الموصفين بذلك الدين محكوم عليهم بالشر لأنه تعالى قال بشر من ذلك ومعلوم أن الأمر ليس كذلك فما جوابه؟ . قلت : جوابه أن الكلام خرج على حسب قولهم واعتقادهم ، فإن اليهود حكموا بأن اعتقاد ذلك الدين شر فقال لهم : هب أن الأمر كذلك لكن من لعنه الله وغضب عليه ومسخ صورته شر من ذلك .
وقوله تعالى : { من لعنه الله } معناه هل أنبئكم بمن لعنه الله أو هو من لعنه الله ومعنى لعنه الله : أبعده وطرده عن رحمته { وغضب عليه } يعني وانتقم منه لأن الغضب إرادة الانتقام من العصاة { وجعل منهم القردة والخنازير } يعني من اليهود من لعنه الله وغضب عليه ومنهم من جعلهم قردة وخنازير قال ابن عباس : إن الممسوخين كلاهما أصحاب السبت فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير .
وقيل إن مسخ القردة كان من أصحاب السبت من اليهود ومسخ الخنازير كان في الدين كفروا بعد نزول المائدة في زمن عيسى عليه السلام ولما نزلت هذه الآية عيَّر المسلمون اليهود وقالوا لهم : يا إخوان القردة والخنازير وافتضحوا بذلك { وعبد الطاغوت } يعني : وجعل منهم عبد الطاغوت ، يعني من أطاع الشيطان فيما سول له والطاغوت هو الشيطان . وقيل : هو العجل . وقيل : هو الكهان والأحبار . وجملته أن كل من أطاع أحداً في معصية الله فقد عبده وهو الطاغوت { أولئك } يعني الملعونين والمغضوب عليهم والممسوخين { شرّ مكاناً } يعني من غيرهم ونسب الشر إلى المكان والمراد به أهله فهو من باب الكناية وقيل : أراد أن مكانهم سقر ولا مكان أشد شراً منه { وأضل عن سواء السبيل } يعني وأخطأ عن قصد طريق الحق .
قوله تعالى : { وإذا جاؤوكم قالوا آمنا } قال قتادة : نزلت في أناس من اليهود دخلواعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به وهم متمسكون بضلالتهم وكفرهم فكان هؤلاء يظهرون الإيمان وهم في ذلك منافقون ، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بحالهم وشأنهم { وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } يعني : إنهم دخلوا كافرين وخرجوا كما دخلوا كافرين لم يتعلق بقلوبهم شيء من الإيمان فهم كافرون في حالتي الدخول والخروج { والله أعلم بما كانوا يكتمون } يعني من الكفر الذي في قلوبهم .(2/305)
قوله عز وجل : { وترى كثيراً منهم } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . وترى يا محمد كثيراً من اليهود وكلمة « من » يحتمل أن تكون للتبعيض . ولعل هذه الأفعال المذكورة في هذه الآية ما كان يفعلها كل اليهود فلذا قال تعالى : وترى كثيراً منهم { يسارعون } . المسارعة في الشيء : المبادرة إليه بسرعة لكن لفظة المسارعة إنما تستعمل في الخير . ومنه قوله تعالى : يسارعون في الخيرات وضدها العجلة ، وتقال في الشر في الأغلب وإنما ذكرت لفظة في قوله يسارعون { في الإثم والعدوان وأكلهم السحت } الفائدة وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيها . والإثم اسم جامع لجميع المعاصي والمنهيات فيدخل تحته العدوان وأكل السحت ، فلهذا ذكر الله العدوان وأكل السحت بعد الإثم والمعاصي وقيل الإثم ما كتموه من التوراة والعدوان وما زادو فيها والسحت هو الرشا وما يأكلونه من غير وجهه { لبئس ما كانوا يعملون } يعني لبئس العمل كان هؤلاء اليهود يعملون وهو مسارعتهم إلى الإِثم والعدوان وأكلهم السحت .
قوله تعالى : { لولا } يعني هلا وهي هنا بمعنى التحضيض والتوبيخ { ينهاهم الربانيون والأحبار } قال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل والأحبار علماء أهل التوراة وقال غيره كلهم من اليهود لأنه متصل بذكرهم { عن قولهم الإثم } يعني الكذب { وأكلهم السحت } والمعنى هلا نهى الأحبار والرهبان ، اليهود عن قولهم الإثم وأكلهم السحت { لبئس ما كانوا يصنعون } يعني الأحبار والرهبان إذا لم ينهوا غيرهم عن المعاصي . وهذا يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأن الله تعالى ذمّ الفريقين في هذه الآية . قال ابن عباس : ما في القرآن أشد توبيخاً من هذه الآية . وقال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها .(2/306)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قوله عز وجل : { وقالت اليهود يد الله مغلولة } نزلت هذه الآية في فنحاص اليهودي . قال ابن عباس : إن الله قد بسط على اليهود حتى كانوا أكثر الناس أموالاً وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله ومحمداً صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف عنهم ما بسط عليهم من السعة .
فعند ذلك قال فنحاص : يد الله مغلولة يعني محبوسة مقبوضة عن الرزق والبذل والعطاء . فنسبوا الله تعالى إلى البخل والقبض تعالى الله عن قولهم علوَّاً كبيراً ، ولما قال هذه المقالة الخبيثة فنحاص ولم ينهه بقية اليهود ورضوا بقوله ، لا جرم لأن الله تعالى أشركهم معه في هذه المقالة فقال تعالى إخباراً عنهم : وقالت اليهود يد الله مغلولة . يعني نعمته مقبوضة عنا . وقيل : معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بقدر ما يبر به قسمه وذلك قدر ما عبد آباؤنا العجل .
والقول الأول أصح ، لقوله تعالى : ينفق كيف يشاء . واعلم أن غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود بدليل قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } والسبب أن اليد آلة لكل الأعمال لا سيما لدفع المال وإنفاقه وإمساكه فأطلقوا اسم السبب على المسبب وأسندوا الجود والبخل إلى اليد مجازاً فقيل للجواد الكريم فياض اليد ومبسوط اليد وقيل للبخيل مقبوض اليد .
وقوله تعالى : { غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا } يعني : أمسكت أيديهم عن كل خير وطردوا عن رحمة الله .
قال الزجاج : رد الله عليهم فقال : أنا الجواد الكريم وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسوكة . وقيل : هذا دعاء على اليهود علمنا الله كيف ندعو عليهم؟ فقال : غلت أيديهم أي في نار جهنم . فعلى هذا هو من الغل حقيقة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم وطرحوا في النار جزاء لهم على هذا القول ومعنى لعنوا بما قالوا عذبوا سبب ما قالوا فمن لعنتهم أنهم مسخوا في الدنيا قردة وخنازير وضربت عليهم الذلة والمسكنة والجزية وفي الآخرة لهم عذاب النار .
وقوله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } يعني أنه تعالى جواد كريم ينفق كيف يشاء وهذا جواب لليهود ورد عليهم ما افتروه واختلقوه على الله تعالى عن قولهم علواً كبيراً وإنما أجيبوا بهذا الجواب على قدر كلامهم .
وأما الكلام في اليد فقد اختلف العلماء في معناها على قولين : أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وعلماء أهل السنة وبعض المتكلمين أن يد الله صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه فيجب علينا الإيمان بها والتسليم ونمرها كما جاءت في الكتاب والسنة بلا كيف ولا تشبيه ولا تعطيل قال الله تعالى { لما خلقت بيدي } وقال النبي صلى الله عليه وسلم :(2/307)
« عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين »
والقول الثاني : قول جمهور المتكلمين وأهل التأويل ، فإنهم قالوا اليد تذكر في اللغة على وجوه ، أحدها : الجارحة وهي معلومة . وثانيهما : النعمة . يقال : لفلان عندي يد أشكره عليها . وثالثها : القدرة قال الله تعالى : { أولي الأيدي والأبصار } فسروه بذوي القوى والعقول لا يدلك بهذا الأمر والمعنى سلب كمال القدرة . ورابعها : الملك يقال هذه الضيعة في يد فلان أي في ملكه ومنه قوله تعالى { الذي بيده عقدة النكاح } أي يملك ذلك ، أما الجارحة فمنتفية في صفة الله عز وجل لأن العقل دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض تعالى الله عن الجسمية والكيفية والتشبيه علواً كبيراً فامتنع بذلك أن تكون يد الله بمعنى الجارحة وأما سائر المعاني ، التي فسرت اليد بها فحاصلة ، لأن أكثر العلماء من المتكلمين زعموا أن اليد في حق الله عبارة عن القدرة وعن الملك وعن النعمة وها هنا إشكالان :
أحدهما : أن اليد إذا فسرت بمعنى القدرة فقدرة الله واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين في قوله تعالى بل يداه مبسوطتان وأجيب عن هذا الإشكال بأن اليهود لما جعلوا قولهم { يد الله مغلولة } كناية عن البخل أجيبوا على وفق كلامهم فقال : بل يداه مبسوطتان . أي ليس الأمر على ما وصفتموه من البخل بل هو جواد كريم على سبيل الكمال فإن من أعطى بيديه فقد أعطى عل أكمل الوجوه .
الإشكال الثاني : أن اليد إذا فسرت بالنعمة فنص القرآن ناطق بتثنية اليد ونعم الله غير محصورة ولا معدودة ومنه قوله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } وأجيب عن هذا الإشكال بأن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها مثل : نعمة الدنيا ونعمة الدين ونعمة الظاهر ونعمة الباطن ونعمة النفع ونعمة الدفع . فالمراد بالتثنية ، المبالغة في وصف النعمة . أجاب أصحاب القول عن هذا بأن قالوا : إن الله تعالى أخبر عن آدم أنه خلقه بيديه ولو كان معنى خلقه لآدم بقدرته أو بنعمته أو بملكه لم يكن لخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم لأن جميع خلقه مخلوقون بقدرته وجميعهم في ملكه ومتقلبون في نعمه فلما خص الله آدم عليه السلام بقوله تعالى لما خلقت بيدي دون خلقه علم بذلك اختصاصه وتشريفه على غيره . ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن أبي الحسن الأشعري قولاً : أن اليد صفة قائمة بذات الله وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه على سبيل الكرامة لآدم واصطفائه له فلو كانت اليد عبارة عن القدرة امتنع كون آدم مصطفى بذلك لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات فلا بد من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء هذا آخر كلامه .(2/308)
وأجيب عن قولهم : إن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع كثيرة بأن الاسم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجمع ولا يؤدي عن الجنس أيضاً قالوا وخطأ في كلام العرب أن يقال ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم لأن الدرهم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما ولكن الواحد يؤدي عن جنسه ، كما تقول العرب : ما أكثر الدرهم في أيدي الناس . بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم ، لأن الواحد يؤدي عن الجمع فثبت بهذا البيان قول من قال : إن اليد صفة لله تعالى تليق بجلاله وإنها ليست بجارحة ، كما نقول : المجسمة تعالى الله عن قولهم علّواً كبيراً { ينفق كيف يشاء } يعني أنه تعالى يرزق كما يريد ويختار فيوسع على من يشاء ويقتّر على من يشاء لا اعتراض عليه في ملكه ولا فيما يفعله ( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تبارك وتعالى لما أنفق عليك وقال يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص ما بيده وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يرفع ويخفص وهذا الحديث أيضاً أحد أحاديث الصفات فيجب الإيمان به وإمراره كما جاء من غير تشبيه ولا تكييف .
وقوله تعالى : { وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً } يعني كلما نزلت عليك آية من القرآن كفروا بها فازدادوا شدة في كفرهم وطغياناً مع طغيانهم والمراد بالكثير علماء اليهود وقيل إقامتهم على كفرهم زيادة منهم فيه { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } يعني : ألقينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى . وقيل : ألقى ذلك بين طوائف اليهود ، فجعلهم مختلفين في دينهم متعادين متباغضين إلى يوم القيامة ، فإن بعض اليهود جبرية ، وبعضهم قدرية ، وبعضهم مشبهة وكذلك النصارى فرق كالملكانية ، والنسطورية ، واليعقوبية ، والمارونية .
فإن قلت ، فهذا المعنى أيضاً حاصل بين فرق المسلمين فكيف يكون ذلك عيباً على اليهود والنصارى حتى يذموا به . قلت : هذه البدع التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين .
أما في الصدر الأول ، فلم يكن شيء من ذلك حاصلاً بينهم فحسن جعل ذلك عيباً على اليهود والنصارى في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم { كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } يعني كلما أفسد اليهود وخالفوا حكم الله يبعث الله عليهم من يهلكهم .(2/309)
أفسدوا فبعث الله عليهم بختنصر البابلي ثم أفسدوا فبعث الله عليهم طيطوس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس وهم الفرس ثم أفسدوا . وقالوا : يد الله مغلولة فبعث الله المسلمين فلا تزال اليهود في ذلة أبداً وقال مجاهد : معنى الآية كلما مكروا في حرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأه الله تعالى وقال السدي : كلما أجمعوا أمرهم على شيء ليفسدوا به أمر محمد صلى الله عليه وسلم فرَّقه الله تعالى وكلما أوقدوا ناراً في حرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأها الله وأخمد نارهم وقذف في قلوبهم الرعب وقهرهم ونصر نبيه ودينه { ويسعون في الأرض فساداً } يعني ويجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر محمد صلى الله عليه وسلم من كتبهم . وقيل : إنهم يسعون بالمكر والكيد والحيل وليس يقدرون على غير ذلك { والله لا يحب المفسدين } يعني أن الله لا يحب من كانت هذه صفته . قال قتادة : لا نلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس فيها وهم أبغض خلق الله إليه .(2/310)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
قوله تعالى : { ولو أن أهل الكتاب آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه فيما جاء به { واتقوا } يعني اليهودية والنصرانية { لكفرنا عنهم سيئاتهم } يعني : لمحونا عنهم ذنوبهم التي عملوها قبل الإسلام لأن الإسلام يجب ما قبله { ولأدخلناهم جنات النعيم } يعني مع المسلمين يوم القيامة { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } يعني أقاموا أحكامهما بحدودهما وعملوا بما فيهما من الوفاء بالعهود والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن نعته وصفته موجودان فيهما .
فإن قلت : كيف يأمر أهل الكتاب بإقامة التوراة والإنجيل مع أنهما نُسخا وبدلا . قلت : إنما أمرهم الله تعالى بإقامة ما فيهما من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباع شريعته وهذا غير منسوخ لأنه موافق لما في القرآن .
وقوله تعالى : { وما أنزل إليهم من ربهم } فيه قولان أحدهما أن المراد به كتب أنبيائهم القديمة مثل كتاب شعياء وكتاب أرمياء وزبور داود وفي هذا الكتب أيضاً ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فيكون المراد بإقامة هذه الكتب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .
والقول الثاني : أن المراد بما أنزل من ربهم هو القرآن لأنهم مأمورون بالإيمان به فكأنه نزل إليهم من ربهم { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } يعني أن اليهود لما أصروا على تكذيب محمد وثبتوا على كفرهم ويهوديتهم أصابهم الله بالقحط والشدة حتى بلغوا إلى حيث قالوا { يد الله مغلولة } فأخبر الله أنهم لو تركوا اليهودية والكفر الذي هم عليه لانقلبت تلك الشدة بالخصب والسعة وهو قوله تعالى : { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } قال ابن عباس : معناه لأنزلت عليهم المطر وأخرجت لهم النبات والمراد من ذلك توسعة الرزق عليهم { منهم أمة مقتصدة } أي عادلة . والاقتصاد : الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير . أصله من القصد ، لأن من عرف مقصوداً طلبه من غير اعوجاج عنه . والمراد بالأمة المقتصدة : من آمن من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه والنجاشي وأصحابه الذين أسلموا { وكثير منهم } يعني من أهل الكتاب الذين أقاموا على كفرهم مثل كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود { ساء ما يعملون } يعني بئس ما يعملون من إقامتهم على كفرهم قال ابن عباس : عملوا بالقبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم .
قوله عز وجل : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } الآية روي عن الحسن أن الله تعالى لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاق ذرعاً وعرف أن من الناس من يكذبه ، فأنزل هذه الآية . وقيل : نزلت في عيب اليهود وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام فقالوا : أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ويقولون : تريد أن نتخذك حناناً كما اتخذت النصارى عيسى حناناً ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ، سكت ، فأنزل الله هذه الآية وأمره بأن يقول لهم :(2/311)
{ يا أهل الكتاب لستم على شيء } الآية .
وقيل : نزلت هذه الآية في أمر الجهاد وذلك أن المنافقين كرهوا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما علم من كراهية بعضهم له فأنزل الله هذه الآية .
وقيل : نزلت في قصة الرجم والقصاص وما سأل عنه اليهود ومعنى الآية يا أيها الرسول بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك مجاهراً به ولا تراقبن أحداً ولا نترك شيئاً مما أنزل إليك من ربك وإن أخفيت شيئاً من ذلك في وقت من الأوقات فلما بلغت رسالته وهو قوله تعالى { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } وقرئ رسالاته قال ابن عباس : يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالتي يعني أنه صلى الله عليه وسلم لو ترك إبلاغ البعض كان كمن لم يبلغ شيئاً مما أنزل الله إليه وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتم شيئاً مما أوحي إليه . روى مسروق عن عائشة قالت من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أنزل إليه فقد كذب؟ ثم قرأت { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } أخرجاه في الصحيحين بزيادة فيه .
وقوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } يعني يحفظك يا محمد ويمنعك منهم والمراد بالناس هنا الكفار فإن قلت أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته يوم أحد وقد أوذي بضروب من الأذى فكيف يجمع بين ذلك وبين قوله والله يعصمك من الناس .
قلت : المراد منه أنه يعصمه من القتل فلا يقدر عليه أحد أراده بالقتل ويدل على صحة ذلك ما روي عن جابر أنه غزى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه ونمنا معه نومة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا ، وإذا عنده أعرابي فقال : « إن هذا اخترط عليَّ سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً . فقال : من يمنعك مني؟ فقلت : الله ثلاثاً ولم يعاقبه وجلس » .
وفي رواية أخرى « قال جابر كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة فاخترطه فقال تخافني؟ . فقال : لا . فقال من يمنعك مني؟ قال : الله فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم »(2/312)
أخرجاه في الصحيحين وزاد البخاري في رواية له : أن اسم ذلك الرجل غورث بن الحارث ( ق ) .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : « سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال : ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة قال : فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة السلاح فقال من هذا؟ قال سعد بن أبي وقاص : فقال له رسول الله ما جاء بك؟ فقال : وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام » وعن عائشة قالت « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلاً حتى نزلت { والله يعصمك من الناس } فأخرج رسول الله من القبة فقال لهم أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله » أخرجه الترمذي . وقال : حديث غريب . وقيل في الجواب عن هذا : إن هذه الآية نزلت بعد ما شج رأسه في يوم أحد لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً وقوله { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } قال ابن عباس : معناه لا يرشد من كذبك وأعرض عنك . وقال ابن جرير الطبري : معناه إن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحق وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئت به من عند الله ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه .
قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء } يعني : قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى لستم على شيء من الدين الحق المرتضى عند الله ولستم على شيء مما تدعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى عليه السلام يا معشر اليهود ولا مما جاءكم به عيسى يا معشر النصارى فإنكم أحدثتم وغيرّتم .
قال ابن عباس : « جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف وراتع بن حرملة . قالوا يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها حق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » بلى : ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيه ما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فأنا برئ من إحداثكم « قالوا : فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الحق والهدى ولا نؤمن لك ولا نتبعك .(2/313)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
{ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } الآية وقد تقدم معنى إقامة التوراة والإنجيل وإنه يلزمهم العمل بما فيهما وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد تقدم تفسير ما أنزل إليكم من ربكم { وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً } وقوله تعالى { فلا تأسَ على القوم الكافرين } يعني فلا تحزن يا محمد على هؤلاء اليهود الذي جحدوا نبوتك ولم يؤمنوا بك فإنما يعود ضرر ذلك الكفر عليهم .
قوله عز وجل : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى } لما بين الله عز وجل أن هل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا ، بين في هذه الآية أن هذا الحكم عام في كل أهل الملل وأنه لا يحصل لأحد منهم فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً يرضاه الله ومن العمل الصالح الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه لا يتم الإيمان إلا به وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة .
وقوله تعالى : { والصابئون } ظاهر الإعراب ظاهر الإعراب يقتضي أن يقال : والصابئين ، وكذا قراءة أبي ّ بن كعب وابن مسعود وابن كثير من السبعة . وقرأ الجمهور بالرفع . ومذهب الخليل وسيبويه أنه ارتفع الصابئون بالابتداء على نية التأخير كأنا قيل { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } والصابئون كذلك فحذف خبره والحكمة في عطف الصابئين على من قبلهم هي أن الصابئين أشد الفرق المذكورة في هذه الآية ضلالاً فكأنه قال : كل هؤلاء الفرق إذا آمنوا وأتوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم حتى الصابئون ، فإنهم إذا آمنوا كانوا أيضاً كذلك ، وإنما سموا صابئين ، لأنهم صبئوا عن الأديان كلها ، بمعنى : خرجوا لأنهم صبئوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ولم يتبعوا ما جاءت به الرسل من عنده الله .
فإن قلت : قد قال الله تعالى في أول الآية إن الذين آمنوا ثم قال في آخر الآية فمن آمن فما فائدة هذا التكرار . قلت : فائدته أن المنافقين كانوا يظهرون الإسلام ويزعمون أنهم مؤمنون ، ففي هذا التكرار إخراجهم من قبيل المؤمنين فيكون معنى إن الذين آمنوا أي بألسنتهم لا بقلوبهم . ثم قال : من آمن يعني من ثبت على إيمانه ورجع عن نفاقه منهم . وقيل : فيه فائدة أخرى وهي أن الإيمان يدخل تحته أقسام كثيرة وأشرفها الإيمان بالله واليوم الآخر ففائدة التكرار التنبيه على أشرف أقسام الإيمان هذان القسمان وفي قوله { من آمن بالله } حذف تقديره من آمن بالله { واليوم الآخر } منهم وإنما حسن هذا الحذف لكونه معلوماً عند السامعين { وعمل صالحاً } يعني وضم إلى إيمانه العمل الصالح وهو الذي يراد به وجه الله تعالى { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } يعني في الآخر .(2/314)
قوله عز وجل : { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل } يعني أخذنا العهود عليهم في التوراة بأن يعملوا بما فيها من التوحيد والعمل بما أمرناهم به والانتهاء عما نهيناهم عنه { وأرسلنا إليهم رسلاً } يعني لبيان الشرائع والأحكام { كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم } يعني بما يخالف أهواءهم ويضاد شهواتهم من ميثاق التكليف والعمل بالشرائع { فريقاً كذبوا } يعني من الرسل الذين جاءتهم { وفريقاً يقتلون } يعني من الرسل وكان فيمن كذبوا عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وكان فيمن قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام وإنما فعلوا ذلك نقضاً للميثاق وجراءة على الله عز وجل ومخالفة لأمره .
قوله تعالى : { وحسبوا } يعني وظنّ هؤلاء الذين كذبوا الرسل وقتلوا الأنبياء { أن لا تكون فتنة } يعني أن لا يعذبهم الله ولا يبتليهم بذلك الفعل الذي فعلوه وإنما حملهم على هذا الظن الفاسد أنهم كانوا يعتقدون أن كل رسول جاءهم بشرع آخر غير شرعهم يجب عليهم تكذيبه وقتله . فلهذا السبب حسبوا أن لا يكون فعلهم ذلك فتنة يبتلون بها . وقيل : إنما قدموا على ذلك لاعتقادهم أن آباءهم وأسلافهم يدفعون عنهم العذاب في الآخرة { فعموا وصموا } يعني أنهم عموا عن الحق فلم يبصروه وصموا عنه فلم يسمعوه وهذا العمى هو كناية عن عمى البصيرة لا البصر وكذلك الصمم هو كناية عن منع نفوذ الحق إلى قلوبهم وسبب ذلك شدة جهلهم وقوة كفرهم وإعراضهم عن قبول الحق قال بعض المفسرين سبب هذا العمى والصمم عبادتهم العجل في زمن موسى عليه السلام { ثم تاب الله عليهم } يعني أنهم لما تابوا من عبادتهم العجل تاب الله عليهم { ثم عموا وصموا } يعني في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام لأنهم كذبوا عيسى وقتلوا زكريا ويحيى وقيل إن العمى والصمم الأول كان بعد موسى ثم تاب الله عليهم يعني ببعثه عيسى عليه السلام ثم عموا وصموا يعني بسبب الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم { كثير منهم } من اليهود لأن بعضهم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم مثل عبد الله بن سلام وأصحابه { والله بصير بما يعملون } يعني من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل .(2/315)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
قوله عز وجل : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } لما حكى الله عن اليهود ما حكاه من نقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل وغير ذلك شرع في الأخبار عن كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد فقال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } وهذا قول اليعقوبية والملكانية من النصارى لأنهم لا يقولون إن مريم ولدت إلهاً ولأنهم يقولون إن الإله جل وعلا حل في ذات عيسى واتحد به فصار إلهاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً { وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } يعني وقد كان المسيح قال هذا لبني إسرائيل عند مبعثه إليهم وهذا تنبيه على ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى ذلك لأنه عليه السلام لم يفرق بينه وبين غيره في العبودية والإقرار بالربوبية وإن دلائل الحدوث ظاهرة عليه { أنه يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة } يعني أنه من يجعل له شريكاً من خلقه فقد حرم الله عليه الجنة يعني إذا مات على شركه { ومأواه النار } يعني أنه يصير إلى النار في الآخرة { وما للظالمين } يعني وما للمشركين الذي ظلموا أنفسهم بالشرك { من أنصار } يعني ما لهم من أنصار ينصرونه ويمنعونهم من العذاب يوم القيامة .
قوله تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } وهذا قول المرقوسية والنساورية من النصارى . ولتفسير قول النصارى طريقان : أحدهما وهو قول أكثر المفسرين إنهم أرادوا بهذه المقالة أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة وأن الإلهية مشتركة بينهم وأن كل واحد منهم إله ويبين ذلك قوله تعالى للمسيح : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } ؟ فقوله ثالث ثلاثة فيه إضمار تقديره إن الله أحد ثلاثة آلهة أو واحد من ثلاثة آلهة . قال الواحدي : ولا يكفر من يقول إن الله ثالث ثلاثة ولم يرد به أنه ثالث ثلاثة آلهة لأنه ما من اثنين إلا والله ثالثهما بالعلم ويدل عليه قوله تعالى في سورة المجادلة { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم } وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم « يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما » ؟ . والطريق الثاني : أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون : إنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم أب وابن وروح القدس وهذه الثلاثة إله واحد كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة ، وعنوا بالأب الذات وبالابن الكلمة وبالروح الحياة وأثبتوا الذات والكلمة والحياة قالوا إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء باللبن ، وزعموا أن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد واعلم ان هذا الكلام معلوم البطلان لبديهة العقل ، فإن الثلاة لا تكون واحداً والواحد لا يكون ثلاثة ، ولا ترى في الدنيا مقالة أشد فساداً ولا أظهر بطلاناً من مقالة النصارى وعلى هذا أخبر الله عنهم في قوله { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } فهذا معنى مذهبهم وإن لم يصرحوا بأنه واحد من ثلاثة آلهة فذلك لازم لهم وإنما يمتنعون من هذه العبارة لأنهم إذا قالوا : إن كل واحد من الأقانيم إله فقد جعلوه ثالث ثلاثة .(2/316)
وقولهم بعد هذا : هو إله واحد فيه مناقضة لما قالوا أولاً فهذا بيان فساد قول النصارى ثم رد الله عليهم فقال تعالى : { وما من إله إلا إله واحد } يعني أنه ليس في الوجود إله واحد موصوف بالوحدانية لا ثاني له ولا شريك له ولا والد له ولا ولد له ولا صاحبة له إلا الله تعالى : { وإن لم ينتهوا عما يقولون } يعني وإن لم ينته النصارى عن هذه المقالة الخبيثة { ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } يعني ليصيبن الذين أقاموا على هذا القول الخبيث وهذا الدين الذي ليس بمرضى عذاب وجيع في الآخرة وإنما قال تعالى منهم لعلمه السابق أن من النصارى من سيؤمن ويخلص ويترك هذا القول ويعلم أنه فاسد ثم ندب سائر النصارى إلى التوبة من هذه المقالة الخبثية فقال تعالى : { أفلا يتوبون إلى الله } يعني من قولهم بالتثليث { ويستغفرونه } وهذا استفهام بمعنى الأمر أي : توبوا إلى الله واستغفروه من هذا الذنب العظيم فإنه تعالى يغفر الذنوب { والله غفور } يعني لمن استغفره وتاب إليه { رحيم } به وبسائر خلقه .
قوله عز وجل : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } يعني أن المسيح رسول من الله عز وجل ليس بإله كما إن الرسل الذين كانوا من قبله لم يكونوا آلهة وقد أتى عيسى عليه السلام بالمعجزات الدالة على صدقه كما أن الذين من قبله أتوا بالمعجزات الدالة على صدقهم { وأمه صديقة } يعني أنها كثيرة الصدق وقيل : سميت مريم صديقة ، لأنها صدقت بآيات ربها وكتبه . وقوله تعالى : { كانا يأكلان الطعام } في احتجاج على فساد قول النصارى بإلهية المسيح . يعني : أن المسيح وأمه مريم كانا بشرين يأكلان الطعام ويعيشان به كسائر بني آدم ، فكيف يكون إلهاً مَنْ يحتاج إلى الطعام ولا يعيش إلا به؟ وقيل : معناه أنه لو كان إلهاً كما يزعمون لدفع عن نفسه ألم الجوع وألم العطش ولم يوجد ذلك فكيف يكون إلهاً وقيل هذا كناية عن الحديث وذلك أن كل من أكل وشرب لا بد له من الغائط والبول ومن كانت هذه صفته فكيف يكون إلهاً؟
وبالجملة فإن فساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج إلى إقامة دليل عليه ثم قال تعالى : { انظر } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي انظر يا محمد { كيف نبين لهم الآيات } يعني الدالة على بطلان قولهم { ثم انظر أنى يؤفكون } أي كيف يصرفون عن استماع الحق وقبوله .(2/317)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
قوله تعالى : { قل أتعبدون من دون الله } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي : قل يا محمد لهؤلاء النصارى أتعبدون من دون الله { ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً } يعني لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم الله به من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال ولا يقدر أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم الله به من صحة الأبدان وسعة الأرزاق فإن الضار والنافع هو الله تعالى لا من تعبدون من دونه ومن لم يقدر على النفع والضر لا يكون إلهاً { والله هو السميع العليم } يعني أنه تعالى سميع لأقوالكم وكفركم عليهم بما في ضمائركم .
قوله عز وجل : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } الغلوّ : مجاوزة الحد وذلك أن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط فمجاوزة الحد والتقصير مذمومان في الدين { غير الحق } يعني : لا تغلوا في دينكم غلوا باطلا غير الحق وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم ثم غلوا في الإصرار عليه وكلا الفريقين من اليهود ولانصارى غلوا في عيسى عليه السلام ، أما غلوّ اليهود فالتقصير في حقه حتى نسبوه إلى غير رشدة ، وأما غلوّ النصارى فمجاوزة الحد في حقه حتى جعلوه إلههم وكلا الغلوين مذموم { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل } الأهواء جمع هوى وهو ما تدعو شهوة النفس إليه ، قال الشعبي : ما ذكر الله تعالى الهوى في القرآن إلا وذمه وقال أبو عبيدة : لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر لأنه لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال فلان يحب الخير ويريده والخطاب في قوله ولا تتبعوا أهواء قوم لليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم وهو المراد بقوله أهواء قوم قد ضلوا من قبل فبين الله تعالى أنهم كانوا على ضلاله { وأضلوا كثيراً } يعني من اتبعهم على ضلالتهم وأهوائهم { وضلوا عن سواء السبيل } يعني وأخطؤوا عن قصد طريق الحق .
قوله تعالى : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود } قال أكثر المفسرين : هم أصحاب السبت لما اعتدوا في السبت واصطادوا الحيتان فيه . قال داود عليه السلام : اللهم العنهم واجعلهم قردة فمسخوا قردة وستأتي قصتهم في سورة الأعراف { وعيسى ابن مريم } يعني وعلى لسان عيسى ابن مريم وهم كفار أصحاب المائدة لما أكلوا منها وادخروا ولم يؤمنوا قال عيسى عليه السلام اللهم العنهم واجعلهم خنازير فمسخوا خنازير وستأتي قصتهم .
وقال بعض العلماء : إن اليهود كانوا يفتخرون بآبائهم ويقولون نحن من أولاد الأنبياء عليهم السلام ، فأخبر الله تعالى بأنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء عليهم السلام .(2/318)
وقيل : إن داود وعيسى بشَّرا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولعنا من يكفر به { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } يعني ذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم ثم فسر الاعتداء والمعصية فقال تعالى : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } أي لا ينهى بعضهم بعضاً عن منكر . وقيل : معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ولا عن الإصرار عليه { لبئس ما كانوا يفعلون } اللام في لبئس لام القسم أي أقسم لبئس ما كانوا يفعلون يعني من ارتكاب المعاصي والعدوان . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلواذلك ، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } إلى قوله فاسقون ثم قال « كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا » زاد في رواية « أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم » أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي عنه فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم : { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } » وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال « لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا » قال الترمذي : هذا الحديث حسن غريب قوله أكيله وشريبه وقعيده هو المؤاكل والمشارب والمقاعد فعيل بمعنى فاعل وقوله : لتأطرنه ، الأطر العطف يعني لتعطفنه ولتردنه إلى الحق الذي خالفه والقصر والقهر على الشيء .(2/319)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
قوله عز وجل : { ترى كثيراً منهم } يعني من اليهود مثل كعب بن الأشرف وأصحابه { يتولون الذين كفروا } يعني : يوالون المشركين من أهل مكة وذلك حين خرجوا إليهم ليجيشوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن عباس : معناه ترى كثيراً من المنافقين يتولون اليهود { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } يعني بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة { أن سخط الله عليهم } يعني بما فعلوا من موالاة الكفار { وفي العذاب هم خالدون } يعني في الآخرة { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي } يعني ولو كان هؤلاء الذين يتولون الكفار يؤمنون بالله ويصدقونه بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنه نبي مبعوث إلى كافة الخلق { وما أنزل إليه } يعني ويؤمنون بالقرآن الذي أنزل إليه من ربه { ما اتخذوهم أولياء } يعني ولكن أكثرهم خارجون عن طاعة الله وأمره وإنما قال كثيراً لأنه علم أن منهم من سيؤمن مثل عبد الله بن سلام وأصحابه .
قوله تعالى : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } اللام في قوله لتجدن لام القسم تقديره والله يا محمد إنك لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا بك وصدقوك اليهود والذين أشركوا ووصف الله شدة عداوة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق وجعلهم قرناء المشركين عبدة الأصنام في العداوة للمؤمنين وذلك حسداً منهم للمؤمنين { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } ووصف لين عريكة النصارى وسهولة قبولهم الحق . قال بعضهم : مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر والأذى إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان مثل القتل ونهب المال بأنواع المكر والمكيد والحيل ، ومذهب النصارى خلاف اليهود ، فإن الإيذاء في مذهبهم حرام ، فحصل الفرق بين اليهود والنصارى . وقيل : إن اليهود مخصوصون بالحرص الشديد على الدنيا وطلب الرياسة ومن كان كذلك كان شديد العداوة لغيره .
وأما النصارى ، فإن فيهم من هو معرض عن الدنيا ولذتها وترك طلب الرياسة ومن كان كذلك فإنه لا يحسد أحداً ولا يعاديه بل يكون لين العريكة في طلب الحق لهذا قال تعالى : { ذلك بأن منهم } يعني من النصارى { قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون } ولم يرد به كل النصارى فإن معظم النصارى في عداوة المسلمين كاليهود بل الآية نزلت فيمن آمن من النصارى مثل النجاشي وأصحابه . والقس والقسيس : اسم رئيس النصارى والجمع قسيسون . وقال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم . وهذا مما وقع الوفاق بين اللغتين يعني العربية والرومية . وأما الرهبان ، فهو جمع راهب . وقيل : الرهبان واحد وجمعه رهابين وهم سكان الصوامع .
فإن قلت : كيف مدحهم الله بذلك مع قوله { ورهبانية ابتدعوها } قلت : إنما مدحهم الله في مقابلة ذم اليهود ووصفهم بشدة العداوة للمؤمنين ولا يلزم من هذا القدر أن يكون مدحاً على الإطلاق .(2/320)
وقيل : إنما مدح من آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فوصفهم بالتمسك بدين عيسى إلى أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنوا به واتبعوه فإن قلت : كفر النصارى أشد وأغلظ من كفر اليهود وأقبح فإن النصارى ينازعون في الإلهيات فيدعون أن لله ولداً واليهود ينازعون في النبوات فيقرون ببعض النبيين وينكرون بعضهم والأول أقبح فلم ذم اليهود ومدح النصارى؟ قلت : إنما هو مدح في مقابلة ذم وليس بمدح على الإطلاق وقد تقدم الفرق بين شدة عداوة اليهود ولين النصارى فلذلك ذم اليهود ومدح النصارى الذين آمنوا منهم . واختلف العلماء في من نزلت هذه الآية فقيل نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وأصحابه الذين أسلموا معه .
( ذكر قصة الهجرة الأولى وسبب نزول هذه )
قال ابن عباس وغيره من المفسرين في قوله { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } :
إن قريشاً ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فأذوهم وعذبوهم فافتتن من افتتن منهم وعصم الله من شاء منهم ومنع الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل بأصحابه ولم يقدر أن يمنعهم من المشركين ولم يؤمر بعد بالجهاد ، أمر أصحابه بالخروج إلى أرض الحبشة ، وقال : إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً فخرج إليها أحد عشر رجلاً وأربع نسوة سراً وهم : عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو حذيفة بن عقبة وامرأته سهلة بنت سهل بن عمرو ، ومصعب بن عمير ، وأبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة بنت أمية ، وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة ، وحاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء ، فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة بنصف دينار إلى أرض الحبشة وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهجرة الأولى . ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون فكان جميع من هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان ، فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وجماعة بهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردهم إليهم ، فدخل إليه عمرو وقال له : أيها الملك إنه قد خرج فينا رجل سفَّه عقول قريش وأحلامها وزعم أنه نبي وأنه قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم وأن قومهم يسألونك أن تردهم إليهم .(2/321)
فقال : حتى نسألهم فأمر بهم فأحضروا فلما أتوا باب النجاشي قالوا : يستأذن أولياء الله . فقال : ائذنوا لهم فمرحباً بأولياء الله . فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال الرهط من المشركين : أيها الملك ألا ترى أنا قد صدَقناك إنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها؟ فقال لهم الملك : ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا له : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة . فقال لهم النجاشي : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ فقال جعفر بن أبي طالب : يقول هو عبد الله ورسوله وكلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم العذراء ، ويقول في مريم إنها العذراء البتول . قال : فأخذ النجاشي عوداً في الأرض وقال : والله ما زال صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذا العود . فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم . فقال : هل تعرفون شيئاً مما أُنزل على صاحبكم؟ قالوا : نعم . قال : اقرؤوا ، فقرأ جعفر سورة مريم وهنالك قسيسون ورهبان وسائر النصارى فعرفوا ما قرأ فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق فأنزل الله فيهم { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون } إلى آخر الآيتين فقال النجاشي لجعفر وأصحابه ، اذهبوا فأنتم سيوف بأرضي يعني أنكم آمنون فرجع عمرو وأصحاب خائبين وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار وخير جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعلا أمره وقهر أعداءه وذلك في سنة ست من الهجرة وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت قد هاجرت مع زوجها ومات فأرسل النجاشي جارية يقال لها أبرهة إلى أم حبيبة يخبرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خطبها فسرت بذلك وأعطت الجارية أوضاحاً كانت لها وأذنت لخالد بن سعيد في نكاحها فأنكحا رسول الله صلى الله عليه وسلم على صداق مبلغه أربعمائة دينار وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي فأرسل إليها بجميع الصداق على يد جاريته أبرهة فلما جاءتها بالدنانير وهبتها منها خمسين ديناراً فلم تأخذها . وقالت : إن الملك أمرني أن لا أخذ منك شيئاً . وقالت : أنا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت بمحمد صلى الله عليه وسلم وآمنت به وحاجتي إليك أن تفرئيه مني السلام . قالت : نعم . فقالت قد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من دهن وعود وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عندها فلا ينكره . قالت أم حبيبة : فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحاصر خيبر فخرج من خرج إليه ممن قدم من الحبشة وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يسألني عن النجاشي وقرأت عيله السلام من أبرهة جارية الملك فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها السلام وأنزل الله عز وجل :(2/322)
{ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } يعني أبا سفيان وذلك بتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة ولما بلغ أبا سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة قال ذلك الفحل لا يجدع أنفه . وبعث النجاشي بعد خروج جعفر وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابنه أزهى في ستين رجلاً من أصحابه وكتب إليه يا رسول الله إني أشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك جعفراً وأسلمت لله رب العالمين وقد بعثت إليك ابنى أزهى وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول الله . فركبوا في سفينة في أثر جعفر حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخير ووافى مع جعفر سبعون رجلاً عليهم ثياب الصوف منهم اثنان وستون رجلاً من الحبشة وثمانية من الشام فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يس إلى آخرها فبكى القوم حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام فأنزل الله هذه الآية فيهم وهي قول : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } يعني : وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون وكانوا من أصحاب الصوامع .
وقيل : نزلت في ثمانين رجلاً أربعين من نصارى نجران من بني الحرث بن كعب واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية روميين من أهل الشام . وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب على شريعة من الحق بما جاء به عيسى عليه السلام فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به وصدقوه فأثنى الله عليهم بقوله : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون } يعني لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق .(2/323)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
قوله عز وجل : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول } يعني : وإذا سمعوا القرآن الذي أنزل إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم { ترى أعينهم تفيض من الدمع } يقال : فاض الإناء إذا امتلأ حتى يخرج منه ما فيه . وصفهم الله تعالى بسيل الدمع عند البكاء ورقة القلب عن سماع القرآن . قال ابن عباس : يريد النجاشي وأصحابه لما قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب سورة مريم . قال : فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة { مما عرفوا من الحق } يعني الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الحق { يقولون } يعني القسيسين والرهبان الذين سمعوا القرآن من جعفر عند النجاشي { ربنا آمنا } يعني بالقرآن وشهدنا أنه حق وصدق { فاكتبنا مع الشاهدين } يعني مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق { وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق } قال ابن عباس : لما رجع الوفد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لامهم قومهم على ترك دينهم . وقيل : إن اليهود عيروهم وقالوا تركتم دينكم فأجابوا بهذا الجواب . ومعنى الآية : وما لنا لا نؤمن بوحدانية الله وما جاءنا من الحق من عنده على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم { ونطمع } يعني : ونرجو بذلك الإيمان { أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } يعني مع أمة محمد صلى الله عليه قوله تعالى : { فأثابهم الله بما قالوا } يعني بالتوحيد الذي قالوه وإنما علق الثواب وهو قوله تعالى : { جنات تجري من تحتها الأنهار } بمجرد القول لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم فيما قالوا وهو المعرفة والبكاء المؤذنان بحقيقة الإخلاص واستكانة القلب ، لأن القول إذا اقترن بالمعرفة ، فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه بالثواب ، وقال ابن عباس : بما قالوا يريد سألوا يعني قولهم فاكتبنا مع الشاهدين { خالدين فيها } يعني في الجنات { وذلك جزاء المحسنين } يعني المؤمنين الموحدين المخلصين في إيمانهم { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } لما ذكر الله عز وجل الوعد لمؤمني أهل الكتاب وما أعد لهم من الجنات ذكر الوعيد لمن أقام منهم على كفره وتكذيبه وأطلق القول بذلك ليكون هذا الوعيد لهم ولمن جرى مجراهم في الكفر والتكذيب فقال والذين كفروا وكذبوا بآياتنا { أولئك أصحاب الجحيم } قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } قال علماء التفسير : إن النبي صلىلله عليه وسلم ذكر الناس يوماً ووصف القيامة فرقَّ الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم : أبو بكر ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وأبو ذر الغفاري ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسي ، ومعقل بن مقرن ، وتشاوروا واتفقوا على أنهم يترهبون ويلبسون المسوح ويجبون مذاكيرهم ويصومون الدهر ويقومون الليل ولا ينامون على الفرش ولا يأكلون اللحم والودك ولا يقربون النساء ولا الطيب ويسيحون في الأرض .(2/324)
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه ، فقال لامرأته : « أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه » ؟ فكرهت أن تكذب وكرهت أن تبدي سر زوجها ، فقالت يا رسول الله إن كان قد أخبرك عثمان فقد صدق . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء عثمان أخبرته بذلك فأتى هو وأصحابه العشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم « ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا » فقالوا بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أني لم أؤمر بذلك » ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فأني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني » ثم جمع الناس وخطبهم فقال : « ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب وشهوات الدنيا فإني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك للحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدو الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الديار والصوامع » فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } يعني الطيبات اللذيذات التي تشتهيها الأنفس وتميل إليها القلوب من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة فأعلم الله عز وجل بهذه الآية أن شريعة نبيه صلى الله عليه وسلم غير ما عزموا عليه من ترك الطيبات وأنه لا ينبغي أن تجتنب الطيبات المباحات ومعنى : لا تحرموا ، لا تعتقدوا تحريم الطيبات المباحات ، فإن من اعتقد تحريم شيء أحله الله فقد كفر . أما ترك لذات الدنيا وشهواتها والانقطاع إلى الله والتفرغ لعبادته من غير إضرار بالنفس ولا تفويت حق الغير ففضيلة لا مانع منها بل مأمور بها .
وقوله تعالى : { ولا تعتدوا } يعني : ولا تجاوزوا الحلال إلى الحرام . وقيل : معناه ولا تجبوا أنفسكم فسمى جب المذاكير اعتداء وقيل معناه ولا تعتدوا بالإسراف في الطيبات { إن الله لا يحب المعتدين } يعني المجاوزين الحلال إلى الحرام .(2/325)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
وقوله تعالى : { وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً } يعني : وكلوا أيها المؤمنون من رزق الله الذي رزقكم وأحله لكم من المطاعم والمشارب . قال عبد الله بن المبارك : الحلال ما أخذته من وجهه ، والطيب ما غذى وأنمى ، فأما الجامد كالطين والتراب وما لا يغذي فمكروه إلا على وجه التداوي . وعن ابن عباس : أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني إذا أصبت اللحكم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمت عليَّ اللحم فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً } أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وله عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل . وله عن أبي هريرة قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها قالت عائشة : ما كان الذراع أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن كان لا يجد اللحم إلا غباً وكان يعجل إليه الذراع لأنه أعجلها نضجاً أخرجه الترمذي .
وقوله تعالى : { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } هذا تأكيد للوصية بما أمر الله تعالى به وزاد التأكيد بقوله الذي أنتم به مؤمنون لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى أمر الله به وعما نهى عنه ، وفي الآية دليل على أن الله عز وجل قد تكفل برزق كل أحد من عباده فإنه تعالى لو لم يتكفل بذلك لما قال وكلوا مما رزقكم الله وإذا تكفل برزق العبد وجب أن لا يبالغ في الطلب والحرص على الدنيا وأن يعول على ما وعده الله وتكفل به فإنه تعالى أكرم من أن يخلف الوعد .(2/326)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } قال ابن عباس : « لما نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم - قالوا يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها كانوا قد حلفوا على ما اتفقوا عليه فأنزل الله عز وجل هذه الآية لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » وقد تقدم تفسير اللغو في الأيمان في سورة البقرة وقوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } يعني ولكن يؤاخذكم بما تعمدتم وقصدتم به اليمين ومنه قول الفرزدق :
ولست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم
وفي الآية حذف تقديره ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم فحذفه لأنه معلوم عند السامعين { فكفارته } يعني فكفارة إيمانكم التي عقدتموها إذا حنثتم { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } يعني من أقصد ذلك لأن من الناس من يسرف في إطعام أهله ومنهم من يقتر عليهم فأمر الله بالعدل في أداء الكفارة . وقيل : أراد بالأوسط في القيمة فلا يكون غالباً من أعلى الموجود ولا خسيس الثمن من أردأ الموجود بل الوسط في القيمة وقيل أراد بالأوسط الأفضل قال ابن عباس : كل شيء في كتاب الله أوسط فهو أفضل فعلى هذا يكون المعنى من خير ما تطعمون أهليكم وأفضله { أو كسوتم } هو معطوف على محل أوسط أي كما تطعمون المساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم فكذلك فاكسوهم من أوسط الكسوة { أو تحرير رقبة } يعني عتق رقبة والمراد جملة الشخص .
( فصل في حكم الآية وفيه مسائل )
المسألة الأولى : في بيان الكفارة وهي أربعة أنواع :
النوع الأول : من الكفارة الإطعام فيجب إطعام عشرة مساكين واختلفوا في قدر ما يطعم لكل مسكين فذهب قوم إلى أنه يطعم لكل مسكين مد من الطعام بمد النبي صلى الله عليه وسلم وهو رطل وثلث بالبغدادي من غالب قوت البلد وكذلك سائر الكفارات وهذا قول ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسليمان بن يسار وعطاء والحسن وإليه ذهب مالك والشافعي ويروى عن عمر وعلي وعائشة أنه يطعم لكل مسكين مدان من بر وهو نصف صاع وبه قال أهل العراق . وقال أبو حنيفة : إن أطعم من الحنطة فنصف صاع وإن أطعم من غيرها فصاع وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد . وقال أحمد بن حنبل : يطعم لكل مسكين مد من البر أو نصف صاع من غيرها مثل التمر والشعير : ومن شرط الإطعام تمليك الطعام للمساكين فلو عشاهم وغداهم لم يجزه وقال أبو حنيفة : يجزيه ذلك ولا يجوز إخراج القيمة في الكفارة كالدراهم والدنانير : وقال أبو حنيفة : يجوز ذلك ولا إخراج الدقيق والخبز في الكفارة بل يجب إخراج الحب ، وجوَّزه أبو حنيفة ولا يجوز صرف الكل إلى مسكين واحد في عشرة أيام .(2/327)
النوع الثاني : من الكفارات الكسوة واختلف العلماء في قدرها فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوباً واحداً مما يقع عليه اسم الكسوة إزار أو رداء أو قميص أو عمامة أو سراويل أو كساء ونحو ذلك وهذا قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعطاء وطاوس وإليه ذهب الشافعي . وقال مالك : يجب أن يكسو كل مسكين ما تجوز به الصلاة فيكسو الرجل ثوباً والمرأة ثوبين درعاً وخماراً . وقال أحمد : للرجال ثوباً وللمرأة ثوبين درعاً وخماراً وهو أدنى ما يجزى في الصلاة وقال ابن عمر : يجب قميص وإزار ورداء . وقال أبو موسى الأشعري : يجب ثوبان وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين وقال إبراهيم النخعي : يجب ثوب جامع كالملحفة .
النوع الثالث : من الكفارات العتق فيجب إعتاق رقبة مؤمنة وكذلك يجب في جميع الكفارات وأجاز أبو حنيفة والثوري إعتاق الرقبة الكافرة في جميع الكفارات إلا كفارة القتل فإن الله قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل ومذهب الشافعي أن المطلق يحمل على المقيد ولا يجوز إعتاق المرتد في الكفارات بالإجماع ويشترط أن تكون الرقبة سليمة الرق حتى لو أعتق في الكفارة مكاتباً أو أم ولد أو عبداً اشتراه بشرط العتق أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه فكل هؤلاء لا يجزى في إعتاق الكفارة وجوز أصحاب الرأي عتق المكاتب في الكفارة إذا لم يؤد من نجوم الكتابة شيئاً وجوزوا عتق القريب في الكفارة ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل فلا يجزى مقطوع اليد أو الرجل ولا الأعمى ولا الزمن ولا المجنون المطبق ويجوز عتق الأعور والأصم ومقطوع الأذنين والأنف لأن هذه العيوب كلها لا تضر بالعمل وعند أبي حنيفة كل عيب يفوت جنساً من المنفعة يمنع الجواز فيجوز عتق مقطوع إحدى اليدين ولا يجوز عتق مقطوع الأذنين في الكفارة .
النوع الرابع : من الكفارات الصوم وهو قوله تعالى : { فمن لم يجد } يعني الكفارة { فصيام ثلاثة أيام } يعني فإذا عجز من لزمته كفارة اليمين عن الإطعام أو الكسوة أو العتق وجب عليه صيام ثلاثة أيام وهو قوله تعالى : فصيام ثلاثة أيام ، يعني فعليه صيام ثلاثة أيام . قال الشافعي : إذا كان عنده قوته أو قوت عياله يومه وليلته وفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام وإن لم يكن عنده هذا القدر جاز له الصيام . وقال أبو حنيفة : يجوز له الصيام إذا لم يكن عنده من المال ما تجب فيه الزكاة فجعل من لا زكاة عليه عادماً . وقال الحسن : إذا لم يجد درهمين صام .(2/328)
وقال سعيد بن جبير : ثلاثة دراهم . واختلفوا في وجوب التتابع في الصيام عن كفارة اليمين على قولين : أحدهما : أنه يجب التتابع فيه قياساً على كفارة الظهار والقتل وهو قول ابن عباس ومجاهد وطاوس وعطاء وقتادة وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وأحد قولي الشافعي والقول الثاني : لا يجب التتابع في كفارة اليمين فإن شاء تابع وإن شاء فرق والتتابع أفضل وبه قال الحسن ومالك وهذا القول الثاني للشافعي .
المسألة الثانية : كلمة أو للتخيير بين الإطعام والكسوة والعتق فإن شاء أطعم وإن شاء كسا وإن شاء أعتق فبأيها أخذ المكفر فقد أصاب وخرج عن العهدة .
المسألة الثالثة : لا يجوز صرف شيء من الكفارات إلا إلى مسلم حر محتاج فلو صرف إلى ذمي أو عبد أو غني لا يجزيه . وجوز أبو حنيفة صرفها إلى أهل الذمة واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز .
المسألة الرابعة : اختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث فذهب قوم إلى جوازه لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من حلف على يمينه فرأى خيراً منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير » أخرجه الترميذي ( ق ) عن عبد الرحمن بن سمرة . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا عبد الرحمن لا تسأل الأمارة فإنها إن أتتك عن مسألة وكلت إليها وإن أتتك من غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفِّر عن يمينك » وهذا قول عمر وابن عباس وعائشة وعامة الفقهاء وبه قال الحسن وابن سيرين وإليه ذهب مالك والأوزاعي والشافعي . إلا أن الشافعي قال : إن كفر بالصوم قبل الحنث لا يجوز لأنه بدني إنما يجوز الطعام أو الكسوة أو العتق . وقال أبو حنيفة : لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث وقوله { ذلك } إشارة إلى ما تقدم ذكره من الإطعام أو الكسوة أو العتق أو الصوم عند العجز { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } يعني : وحنثتم ، لأن الكفارة لا تجب بمجرد اليمين إنما تجب بالحنث بعد اليمين وفيه إشارة إلى تقديم الكفارة على اليمين لا يجوز ، بل بعد اليمين وقبل الحنث كما تقدم { واحفظوا أيمانكم } يعني قللوا أيمانكم ففيه النهي عن كثرة الحلف ومنه قول الشاعر :
قليل الألايا حافظ ليمينه ... وصفه بأنه لا يحلف وقيل في معنى الآية : واحفظوا أيمانكم عن الحنث إذا حلفتم لئلا تحتاجوا إلى التكفير وهذا إذا لم يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه فإن حلف على ذلك فالأفضل ، بل الأولى أن يحنث نفسه ويكفر لما روي عن أبي موسى الشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خير منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير » أخرجاه في الصحيحين قوله تعالى : { كذلك يبين الله لكم آياته } يعني كما بيَّن لكم كفارة إيمانكم إذا حنثتم كذلك يبين لكم جميع ما تحتاجون إليه في أمر دينكم { لعلكم تشكرون } يعني نعمه التي أنعم بها عليكم أن بيَّن لكم آياته ومعالم شريعته .(2/329)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
{ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس } لما أنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } وقوله : { وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً } وكانت الخمر والميسر مما يتسطاب عندهم بين الله تعالى في هذه الآية أن الخمر والميسر غير داخلين في جملة الطيبات المحللات ، بل هما من جملة المحرمات والخمر كل ما خامر العقل وغطاه والميسر القمار وقد تقدم تفسيرهما في سورة البقرة والأنصاب هي الحجارة التي كانوا ينصبونها للعبادة ويذبحون عندها والأزلام هي القداح التي كانوا يستقسمون بها وتقدم تفسير ذلك . والرجس في اللغة الشيء الخبيث المستقذر { من عمل الشيطان } يعني من تزيينه وأغوائه ودعائه إياكم إليها وليس المراد أنها من عمل يديه { فاجتنبوه } يعني كونوا جانباً منه والضمير في قوله فاجتنبوه عائد إلى الرجس لأنه اسم جامع للكل كأنه قال إن هذه الأربعة الأشياء كلها رجس فاجتنبوه { لعلكم تفلحون } يعني لكم لكي تدركوا الفلاح إذا اجتنبتم هذه المحرمات التي هي رجس قوله تعالى : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر } اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فروى أبو ميسرة أن عمر بن الخطاب قال : اللهم بيِّن لنا في الخمر والميسر بياناً شافياً فنزلت الآية في سورة البقرة : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } الآية فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بيِّن لنا في الخمر والميسر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في سورة النساء : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فدعي عمر فقرئت عليه ثم قال : اللهم بين لنا في الخمر والميسر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في المائدة { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } فدعي عمر فقرئت عليه فقال انتهينا انتهينا أخرجه الترمذي من طريقين : وقال رواية أبي ميسرة هذه أصح وأخرجه أبو داود والنسائي . وروى مصعب بن سعيد عن أبيه قال : صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا فشربنا وذلك قبل أن تحرم زاد حتى انتشينا فتفاخرت الأنصار وقريش فقالت الأنصار نحن أفضل منكم فقال سعد بن أبي وقاص : المهاجرون خير منكم فأخذ رجل من الأنصار لحى جمل فضرب به أنف سعد ففزره فأتى سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } وقال ابن عباس : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا حتى ثملوا وعبث بعضهم ببعض فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول فعل بي هذا فلان أخي وكانوا أخوة ليس في قلوبهم ضغائن فأنزل الله تعالى تحريم الخمر في هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } وأما تفسير الآية فقوله تعالى إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر يعني إنما يزين لكم الشيطان شرب الخمر والقمار بالقداح وهو الميسر ويحسن ذلك لكم إرادة أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء بسبب شرب الخمر لأنها تزيل عقل شاربها فيتكلم بالفحش وربما أفضى ذلك إلى المقاتلة وذلك سبب إيقاع العداوة والبغضاء بين شاربيها .(2/330)
وأما الميسر ، فقال قتادة : كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقمر فيقعد حزيناً سليباً ينظر إلى ماله في يد غيره فيورثه ذلك العداوة والبغضاء فنهى الله عن ذلك وتقدم ما فيه والله أعلم بما يصلح خلقه فظهر بذلك أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس وهذا فيما يتعلق بأمر الدنيا وفيهما مفاسد تتعلق بأمر الدين وهي قوله تعالى : { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } لأن شرب الخمر يشغل عن ذكر الله وعن فعل الصلاة وكذلك القمار يشغل صاحبه عن ذكر الله وعن الصلاة .
فإن قلت : لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام في الآية الأولى ثم أفرد الخمر والميسر في هذه الآية؟
قلت : لأن الخطاب مع المؤمنين بدليل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا والمقصود نهيهم عن شرب الخمر واللعب بالقمار وإنما ضم الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر لتأكيد تحريم الخمر والميسر فلما كان المقصود من الآية النهي عن شرب الخمر والميسر لا جرم أفردهما بالذكر في آخر الآية والله أعلم .
قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } لفظة استفهام ومعناه الأمر أي انتهوا وهذا من أبلغ ما ينهى به لأنه تعالى ذم الخمر والميسر واظهر قبحهما للمخاطب كأنه قيل قد تدلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم منتهون مع هذه الأمور أم أنتم على ما كنتم عليه كأنكم لم توعَظوا ولم تنزجروا؟ وفي هذه الآية دليل على تحريم شرب الخمر لأن الله تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأصنام وعدَّد أنواع الفساد الحاصلة بهما ووعد بالفلاح عند اجتنابهما وقال فهل أنتم منتهون ومعناه الأمر وقد صح من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كل شراب أسكر فهو حرام » أخرجاه في الصحيحين وزاد الترمذي وأبو داود : ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام . الفرق بالتحريك إناء يسع ستة عشر رطلاً ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لن يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لن يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه فأن عاد الرابعة لم يقبل الله له أربعين صباحاً فإنه تاب لم يتب الله عليه وسقاه الله من نهر الخبال » قالوا يا أبا عبد الرحمن وما نهر الخبال؟ قال : صديد أهل النار أخرجه الترمذي . وقال : حديث حسن وأخرجه النسائي وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه » أخرجه أبو داود .(2/331)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
قوله عز وجل : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } يعني ، فيما أمركم به ونهاكم عنه { واحذروا } أي واحذروا مخالفة الله ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمركم به ونهاكم عنه { فإن توليتم } يعني فإن أعرضتم عما أمركم به ونهاكم عنه { فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } وهذا وعيد وتهديد لمن أعرض عن أمر الله ونهيه كأنه قال فاعلموا أنكم سببب توليكم وإعراضكم قد استحققتم العذاب والسخط .
قوله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية عن البراء بن عازب قال : مات ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر ، فلما نزل تحريم الخمر قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ قال : فنزلت : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية أخرجه الترمذي . وقال حديث : حسن صحيح . عن ابن عباس قال : قالوا يا رسول الله صلى الله أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر لما نزل تحريم الخمر فنزلت : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن ومعنى الاية { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } أي لا حرج ولا إثم عليهم فيما شربوا من الخمر وأكلوا من مال القمار في وقت الإباحة قبل التحريم قال ابن قتيبة يقال : لم أطعم خبزاً ولا ماء ولا نوماً قال الشاعر :
فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا
النقاخ الماء والبرد النوم { إذا ما اتقوا } يعني إذا ما اتقوا الشرك وقيل اتقوا ما حرم الله عليهم { وآمنوا } يعني بالله ورسوله { وعملوا الصالحات } أي وازدادوا من عمل الصالحات { ثم اتقوا وآمنوا } يعني اتقوا الخمر والميسر بعد التحريم فعلى هذا تكون الأولى إخباراً عن حال من مات وهو يشربها قبل التحريم أنه لا جناح عليه .
والثانية : خطاب لمن بقي بعد التحريم أمروا باتقائها والإيمان بتحريمها { ثم اتقوا } يعني ما حرم عليهم في المستقبل { وأحسنوا } يعني العمل . وقيل : المراد بالاتقاء الأول فعل التقوى وبالثاني المداومة عليها وبالثالث اتقاء الظلم مع ضم الإحسان إليه . وقيل : إن المقصود من التكرير التأكيد والمبالغة في الحث على الإيمان والتقوى وضم الإحسان إليهما ثم قال تعالى : { والله يحب المحسنين } يعني أنه تعالى يحب المتقربين إليه بالإيمان والأعمال الصالحة والتقوى والإحسان وهذا ثناء ومدح لهم على الإيمان والتقوى والإحسان لأن هذه المقامات من أشرف الدرجات وأعلاها ( م ) عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } إلى آخر الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لي : أنت منهم ومعناه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له إن ابن مسعود منهم يعني من الذين آمنوا وعملوا الصالحات والتقوى والإحسان .(2/332)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } نزلت هذه الآية عام الحديبية وكانوا محرمين ، فابتلاهم الله بالصيد ، فكانت الوحوش تغشى رحالهم من كثرتها فهمّوا بأخذها وصيدها فأنزل الله هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله } الآية اللام في ليبلونكم لام القسم أي ليخبرن طاعتكم من معصيتكم والمعنى يعاملكم معاملة المختبر بشيء من الصيد يعني بصيد البر دون البحر . وقيل : أراد الصيد في حالة الإحرام دون الإحلال وإنما قال بشيء من الصيد ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي نزل عندها أقدام الثابتين ويكون التكليف فيها صعباً شاقاً كالابتلاء ببذل الأموال والأرواح وإنما هو ابتلاء سهل كما ابتلي أصحاب السبت بصيد السمك فيه لكن الله عز وجل بفضله وكرمه عصم أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يصطادوا شيئاً في حالة الابتلاء ولم يعصم أصحاب السبت فمسخوا قردة وخنازير .
وقوله تعالى : { تناله أيديكم } يعني الفرخ والبيض وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد { ورماحكم } يعني كبار الصيد مثل حمر الوحش ونحوها . وقال ابن عباس : في قوله تناله أيديكم ورماحكم هو الضعيف من الصيد وصغير يبتلي الله به عباده في إحرامهم حتى لو شاؤوا نالوه بأيديهم فنهاهم الله أن يقربوه { ليعلم الله } أي : ليرى الله فإنه قد علمه فهو مجاز لأنه تعالى عالم لم يزل والمعنى يعاملكم معاملة المختبر . وقيل : معناه ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف وقيل هو من باب حذفا المضاف والتقدير ليعلم أولياء الله { من يخافه بالغيب } يعني : من يخاف الله ولم يره فلا يصطاد في حالة الإحرام شيئاً بعد النهي { فمن اعتدى بعد ذلك } يعني فصاد في حالة الإحرام بعد النهي { فله عذاب أليم } يعني في الدنيا . قال ابن عباس : هو أن يوجع ظهره وبطنه جلداً وتسلب ثيابه وهذا قول أكثر المفسرين في معنى هذه الآية لأنه قد سمى الجلد عذاباً وهو قوله وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين .(2/333)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
وقوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } جمع حرام . أي : لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بالحج والعمرة وقيل المراد منه دخول الحرم . يقال : أحرم إذا عقد الإحرام ، وأحرم : إذا دخل الحرم .
وقيل : هما مرادان بالآية فلا يجوز قتل الصيد للمحرم ولا في الحرم نزلت هذه الآية في أبي اليسر شد على حمار وحش فقتله وهو محرم ثم صار هذا الحكم عاماً فلا يجوز قتل الصيد ولا التعرض له ما دام محرماً ولا في الحرم . والمراد بالصيد ، كل حيوان متوحش مأكول اللحم وهذا قول الشافعي . وقال أبو حنيفة : هو كل حيوان متوحش سواء كان مأكولاً أو لم يكن فيجب عنده الضمان على من قتل سبعاً أو نمراً أو نحو ذلك واستثنى الشارع خمس فواسق فأجاز قتلهن ( ق ) .
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور » وفي رواية : « خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام » ( ق ) . عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحرم : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور » ولمسلم « خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم » وذكر نحوه . وفي رواية النسائي قال : « خمس يقتلن المحرم : الحية ، والعقرب ، والفأرة ، والغراب الأبقع ، والكلب العقور » قال ابن عيينة : الكلب العقور كل سبع ضار يعقر . وقاس الشافعي عليها جميع ما لا يؤكل لحمه ، قال : لأن الحديث يشتمل على أشياء بعضها سباع ضارية وبعضها هوام قاتلة وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا في معنى الهوام وإنما هو حيوان مستخبث اللحم . وتحريم الأكل ، يجمع الكل فاعتبره ورتب عليه الحكم . وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في كل ما لا يؤكل لحمه إلا الأعيان المذكورة في الحديث وقاسوا عليها الذئب فلم يوجبوا فيه كفارة .
قوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمداً } قال مجاهد والحسن وابن زيد : هو الذي يتعمد قتل الصيد مع نسيان الإحرام فعليه الجزاء .
أما إذا تعمد قتل الصيد ذكراً لإحرامه ، فلا جزاء عليه لأنه أعظم من أن يكون له كفارة . وقال ابن عباس والجمهور : يحكم عليه بالجزاء وإن تعمد القتل مع ذكر الإحرام وهذا مذهب عامة الفقهاء ، أما إذا قتل الصيد خطأ بأن قصد غيره بالرمي فأصابه ، فهو كالعمد في وجوب الجزاء وهذا مذهب جمهور المفسرين والفقهاء قال الزهري : نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ يعني ألحقت المخطئ بالمتعمد في وجوب الجزاء وقال سعيد بن جبير : لا أرى في الخطأ شيئاً وهذا قول شاذ لا يؤخذ به { فجزاء مثل ما قتل من النعم } يعني فعليه جزاء من النعم مثل ما قتل والمثل والشبه واحد واختلفوا في هذه المماثلة أهي بالخلقة أم بالقيمة والذي عليه جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم أن المماثلة في الخلقة معتبرة لأن ظاهر الآية يدل على ذلك وما لا مثل له فالقيمة ، وقال أبو حنيفة : المثل الواجب في قتل الصيد هو القيمة لأن الصيد المقتول إذا لم يكن له مثل فإنه يضمن بالقيمة وهذا لا نزاع فيه فكان المراد بالمثل هو القيمة في هذه الصورة فوجب أن يكون في سائر الصور كذلك لأن اللفظ الواحد لا يجوز حمله إلا على معنى واحد وأجيب عنه بأن حقيقة المماثلة أمر معلوم فيجيب رعايتها بأقصى الإمكان وإن لم تكن رعايتها إلا بالقيمة وجب الاكتفاء بها للضرورة وحجة الشافعي ومن وافقه في اعتبار المماثلة بالخلقة أن الصحابة حكموا في بلدان شتى وأزمان مختلفة بالمثل من النعم فحكموا في النعامة ببدنة وهي لا تساوي بدنة وحكموا في حمار الوحش ببقرة وهو لا يساوي بقرة وكذا في الضبع بكبش فدل ذلك على أنهم إنما نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبهاً من حيث الخلقة فحكموا به ولم يعتبروا القيمة فيجب في الظبي شاة وفي الأرنب سخل وفي الضب سخلة وفي اليربوع جفرة ويجب في الحمامة وكل ما عبَّ وهدر كالفواخت والقمري وذوات الأطواق شاة وما سواه من الطير ففيه القيمة في المكان الذي أصيب فيه .(2/334)
وروي عن عثمان وابن عباس أنهما حكما في حمام الحرم . وروي عن عمر أنه قضى في الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة .
وقوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } يعني يحكم بالجزاء في قتل الصيد رجلان صالحان عدلان من أهل ملتكم ودينكم وينبغي أن يكونا فقيهين فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به .
قال ميمون بن مهران : جاء أعرابي إلى أبي بكر الصديق ، فقال : إني أصبت من الصيد كذا وكذا فسأل أبو بكر بن كعب ، فقال الأعرابي : إني أتيتك أسألك وأنت تسأل غيرك ، فقال أبو بكر : وما أنكرت من ذلك؟ قال الله تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم فشاورت صاحبي فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به وقوله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة } يعني أن الكفارة هدي يساق إلى الكعبة وسميت الكعبة كعبة لارتفاعها والعرب تسمي كل بيت مرتفع كعبة . وإنما أريد الكعبة ، كل الحرم لأن الذبح لا يقع في الكعبة وعندها ملاقياً لها إنما يقع في الحرم وهو المراد بالبلوغ فيذبح الهدي بمكة ويتصدق به على مساكين الحرم هذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة له أن يتصدق به حيث شاء إذا وصل الهدي إلى الكعبة { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً } ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى أن كلمة - أو- في هذه الآية للتخيير وقال أحمد وزفر من أصحاب أبي حنيفة إنها للترتيب وهما روايتان .(2/335)
عن ابن عباس قال الشافعي إذا قتل صيداً له مثل فهو مخير بين ثلاثة أشياء : إن شاء ذبح المثل من النعم وتصدق به على مساكين الحرم وإن شاء قوم المثل دراهم والدراهم طعاماً ثم يتصدق به على مساكين الحرم وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوماً . وقال أبو حنيفة : يصوم عن كل نصف صاع يوماً . وعن أحمد روايتان كالقولين وأصل هذه المسألة أنّ الصوم مقدر بطعام اليوم فعند الشافعي مقدر بالمد وعند أبي حنيفة مقدر بنصف صاع وله أن يصوم حيث شاء لأنه لا نفع فيه للمساكين وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخيار في تعيين أحد هذه الثلاثة الأشياء إلى قاتل الصيد الذي وجب عليه الكفارة لأن الله أوجب عليه أحد هذه الثلاثة على التخيير فوجب أن يكون هو المخير بين أيها شاء وقال محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة التخيير إلى الحكمين لأن الله تعالى قال : { يحكم به ذوا عدل منكم } ومن قال : إن كلمة أو للترتيب ، قال : إن لم يجد الهدي اشترى طعاماً وتصدق به فإن كان معسراً صام وقال مالك : إن لم يخرج المثل من النعم يقوّم الصيد ثم يجعل القيمة طعاماً فيتصدق به أو يصوم . وقال أبو حنيفة : لا يجب المثل من النعم ، بل يقوم الصيد فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر أو صاع من غيره يوماً واختلفوا في موضع التقويم فقال جمهور الفقهاء يقوم في المكان الذي قتل فيه الصيد . وقال الشعبي : يقوم بمكة بثمن مكة لأنه يصرف بها .
وقوله تعالى : { ليذوق وبال أمره } يعني جزاء ذنبه . والوبال في اللغة ، الشيء الثقيل الذي يخاف ضرره . يقال : مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة وإنما سمى ذلك الله وبالاً لأن إخراج الجزاء ثقيل على النفس لأن فيه تنقيصاً للمال وهو ثقيل على النفس وكذا الصوم أيضاً ثقيل على النفس لأن فيه إنهاك البدن { عفا الله عما سلف } يعني قبل التحريم { ومن عاد } يعني إلى قتل الصيد مرة ثانية { فينتقم الله منه } يعني في الآخرة والانتقام المبالغة في العقوبة وهذا الوعيد لا يمنع إيجاب الجزاء في المرة الثانية والثالثة فإذا تكرر من المحرم قتل الصيد تكرر عليه الجزاء وهذا قول جمهور العلماء وقد روي عن ابن عباس والنخعي وداود الظاهري أنه إذا قتل الصيد مرة ثانية فلا جزاء عليه لأنه وعد بالانتقام منه .(2/336)
قال ابن عباس : إذا قتل المحرم صيداً متعمداً سئل هل قتل شيئاً من الصيد ، فإن قال نعم ، لم يحكم عليه . ويقال له : اذهب فينتقم الله منك وإن قال لم أقتل قبله شيئاً ، حكم عليه ، فإن عاد بعد ذلك لم يحكم عليه ، ولكن يملأ ظهره وصدره ضرباً وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيدوج وهو واد بالطائف : { والله عزيز ذو انتقام } يعني ممن عصاه . وإذا أتلف المحرم شيئاً من الصيد الذي لا مثل له من النعم مثل البيض وطائر صغير دون الحمام ففيه القيمة فيقوّم ثم يشتري بقيمته طعاماً ويتصدق به على محاويج الحرم أو يصوم عن كل مد يوماً .(2/337)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
قوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } المراد بالصيد ما صيد من البحر والمراد جميع المياه العذبة والمالحة .
فأما طعامه . فاختلفوا فيه فقيل : هو ما قذفه البحر ورمى به إلى الساحل يروى ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عمر وأبي أيوب وقتادة وقيل : صيد البحر طريه وطعامه مالحه . يروى ذلك عن سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والسدي .
ويروى عن ابن عباس ومجاهد كالقولين وجملة حيوان الماء على قسمين : سمك وغير سمك فأما السمك فجميعه حلال على اختلاف أجناسه وأنواعه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته » أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب فيحل أكله وقال أبو حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب وما عدا السمك فقسمان : قسم يعيش في البر والبحر كالضفدع والسرطان فلا يحل أكلهما وقال سفيان أرجو أن يكون بالسرطان بأس واختلفوا في الجراد فقيل هو من صيد البحر فيحل أكله للمحرم وذهب جمهور العلماء إلى أنه من صيد البر وأنه لا يحل للمحرم أكله في حال الإحرام فإن أصاب جرادة فعليه صدقة . قال عمر : في الجرادة تمرة . وعنه وعن ابن عباس قبضة من طعام وكذلك طير الماء فهو من صيد البر أيضاً وقال أحمد : يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح قال لأن التمساح يفترس ويأكل الناس . وقال ابن أبي ليلى ومالك يباح كل ما في البحر وذهب جماعة إلى أن ماله نظير من البر يؤكل فيؤكل نظيره من حيوان البحر مثل بقر الماء ونحوه ولا يؤكل ما لا يؤكل نظيره في البر مثل كلب الماء وخنزير الماء فلا يحل أكله .
قوله تعالى : { متاعاً لكم وللسيارة } يعني ينتفع به المقيمون والمسافرون فيتزودون منه .
قوله تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } ذكر الله عز وجل تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة أحدها في أول السورة وهو قوله : غير محلِّي الصيد وأنتم حرم .
والثاني قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } والثالث : هذه الآية وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً . كل ذلك لتأكيد تحريم قتل الصيد على المحرم واختلف العلماء هل يجوز للمحرم أن يأكل من لحم صيد صاده غيره فذهب قوم إلى أنه لا يحل ذلك بحال يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول طاوس وإليه ذهب الثوري واحتجوا على ذلك بما روي عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أبو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلما رأى ما في وجهه من الكراهة قال : إنا لم نرده عليك إلا أنّا حرم .(2/338)
أخرجاه في الصحيحين وذهب جمهور العماء إلى أنه يجوز للمحرم أن يأكل لحم الصيد إذا لم يصده بنفسه ولا صِيدَ له ولا بإشارته ولا أعان عليه .
وهذا قول عمر وعثمان وأبي هريرة وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي ويدل عليه ما روي عن أبي قتادة الأنصاري ، قال : كنت جالساً مع رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامنا والقوم محرمون وأنا غير محرم عام الحديبية ، فأبصروا حماراً وحشياً وأنا مشغول أخصف نعلاً فلم يؤذنوا بي وأحبوا لو أني أبصرته فالتفتُّ ، فأبصرته ، فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح . قالوا : لا والله لا نعينك عليه ، فغضبت ونزلت فأخذتهما ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات ، فوقعوا فيه يأكلون . ثم إنهم شكّوا في أكلهم إياه وهم حرم فرحنا وخبأت العضد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ك فسألته عن ذلك فقال : « هل معكم منه شيء؟ » فقلت نعم . فناولته العضد فأكل منها وهو محرم . وزاد في رواية : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : إنما هي طعمة أطعمكموها الله . وفي رواية : هو حلال فكلوه . وفي رواية قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا : لا؟ قال : كلوا ما بقي من لحمها » أخرجاه في الصحيحين وأجاب أصحاب هذا المذهب عن حديث الصعب بن جثامة بأنه إنما رده النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ظن أنه إنما صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله { واتقوا الله } يعني فلا تستحلُّوا الصيد في حال الإحرام ولا في الحرم ثم حذرهم بقوله { الذي إليه تحشرون } يعني في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم .(2/339)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
قوله عز وجل : { جعل الله الكعبة البيت الحرام } جعل بمعنى صبر . وقيل : معناه بيَّن وحكم . وقال مجاهد : سمي البيت كعبة لتربيعه . وقيل : لارتفاعه عن الأرض . وسمي البيت الحرام لأن الله حرمه وعظمه وشرفه وعظم حرمته وحرم أن يصطاد عنده وأن يختلى خلاه وأن يعضد شجره وأراد بالبيت الحرام ، جميع الحرم لما صح من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال « إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاه »
وقوله تعالى : { قياماً للناس } أصله قواماً لأنه سبب لقوام مصالح الناس في أمر دينهم ودنياهم وآخرتهم .
أما في أمر الدين فإنه به يقوم الحج وتتم المناسك ، وأما في أمر الدنيا فإنه تجبى إليه ثمرات كل شيء ويأمنون فيه من النهب والغارة فلو لقي الرجل قاتِل أبيه أو ابنه في الحرم لم يهجه ، وأما في أمر الآخرة فإن البيت جعل لقيام المناسك عنده وجعلت تلك المناسك التي تقام عنده أسباباً لعلو الدرجات وتكفير الخطيئات وزيادة الكرامات والمثوبات فلما كانت الكعبة الشريفة سبباً لحصول هذه الأشياء كانت سبباً لقيام الناس { والشهر الحرام } يعني وجعل الشهر الحرام قياماً للناس وأراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم الأربعة وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الفرد يعني وكذلك جعل الأشهر الحرم يأمنون فيها من القتال وذلك أن العرب كان يقتل بعضهم بعضاً ويغير بعضهم على بعض وكانوا إذا دخلت الأشهر الحرم أمسكوا عن القتال والغارة فيها فكانوا يأمنون في الأشهر الحرم فكانت سبباً لقيام مصالح الناس . { والهدي والقلائد } يعني وكذلك جعل الهدي والقائد سبباً لقيام مصالح الناس وذلك أنهم كانوا يأمنون بسوق إلى البيت الحرام على أنفسهم وكذلك كانوا يأمنون إذا قلدوا أنفسهم من لحاء شجر الحرام فلا يتعرض لهم أحد { ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض } يعني : أنه تعالى علم في الأزل بمصالح العباد وما يحتاجون إليه فجعل الكعبة البيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد يأمنون بها لأنه يعلم مصالح العباد كما يعلم ما في السموات وما في الأرض لأنه تعالى علم جميع المعلومات الكليات والجزئيات وهو قوله تعالى : { وأن الله بكل شيء عليم } يعني أنه تعالى لا تخفى عليه خافية { واعلموا أن الله شديد العقاب } يعني لمن انتهك محارمه واستحلها { وأن الله غفور رحيم } يعني لمن تاب وآمن ولما ذكر الله انواع رحمته بعباده ذكر بعدها أنه شديد العقاب لأن الإيمان لا يتم إلا بحصول الرجاء والخوف ثم ذكر بعده ما يدل على سعة رحمته وأنه غفور رحيم .(2/340)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
قوله تعالى : { ما على الرسول إلا البلاغ } يعني ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم إلا تبليغ ما أرسل به من الإنذار بما فيه قطع الحجج ، ففي الآية تشديد عظيم في إيجاب القيامة بما أمر الله وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت الحجة عليكم بذلك ولزمتكم الطاعة فلا عذر في التفريط { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } يعني أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوالكم ظاهراً وباطناً { قل لا يستوى الخبيث والطيب } يعني الحلال والحرام في الدرجة والرتبة ولا يعتد الردئ والجيد ولا المسلم والكافر ولا الصالح والطالح { ولو أعجبك كثرة الخبيث } يعني ولو سرك كثرة الخبيث لأن عاقبته عاقبة سوء . والمعنى : أن أهل الدنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدنيا وما عند الله خير وأبقى لان زينة الدنيا ونعيمها يزول وما عند الله يدوم . وقال ابن الجوزي : روى جابر بن عبد الله أن رجلاً قال : يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب » وقال مقاتل : نزلت في شريح بن ضبعة البكري وحجاج بن بكر وقد تقدمت القصة في أول السورة { فاتقوا الله } يعني فيما أمركم به أو نهاكم عنه ولا تعتدوه { يا أولي الألباب } يعني يا ذوي العقول السليمة { لعلكم تفلحون } قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فروي عن أنس بن مالك قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعنا مثلها قط فقال « لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً » قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين فقال رجل : من أبي؟ فقال فلان فنزلت هذه الآية { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } وفي رواية أخرى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت ا لشمس فصلى الظهر فقام على المنبر فذكر الساعة فذكر فيها أموراً عظاماً ثم قال : من أحب أن يسألني عن شيء فليسأل ، فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي فأكثر الناس البكاء وأكثر أن يقول سلوا فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال : من أبي؟ فقال : أبوك حذافة . ثم اكثر أن يقول سلوني فبرك عمر على ركبتيه فقال : « رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً » فسكت ثم قال : عرضت علي الجنة والنار أنفاً في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر .(2/341)
قال ابن شهاب : فأخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة ما سمعت بابن قط أعق منك أمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما تقارف أهل الجاهلية فتفضحها عن أعين الناس؟ فقال عبد الله بن حذافة : لو ألحقني بعبد أسود للحقته زاد في رواية أخرى قال قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } أخرجاه في الصحيحين ( خ ) .
عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أب؟ ويقول الرجل : تضل ناقته أين ناقتي؟ فأنزل الله هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } الآية كلها وقيل نزلت هذه الآية في شأن الحج عن علي بن أبي طالب قال لما نزلت { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عام؟ فسكت فقالوا يا رسول الله صلى الله في كل عام؟ قال : « لا ولو قلت نعم لوجبت » فأنزل الله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } أخرجه الترمذي وقال حديث غريب ( م ) .
عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله فقال : « يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا » فقال رجل : أفي كل عام؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ثم قال : « ذروني ما تركتكم ولو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه »
وروى مجاهد عن ابن عباس : لا تسألوا عن أشياء قال هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ألا ترى أنه يقول بعد ذلك ما جعل الله من بحيرة ولا كذا ولا كذا وقال عكرمة : إنها كانوا يسألون عن الآيات فنهوا عن ذلك ثم قال قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ومعنى الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء } جمع شيء { إن تبد لكم } أي تظهر لكم وتبن لكم { تسؤكم } يعني إن أمرتم بالعمل بها فإن من سأل عن الحج لم يأمن أن يؤمر به فلا يقدر عليه فيسوءه ذلك ومن سأل عن نسبه لم يأمن أن يلحقه النبي صلى الله عليه وسلم بغير أبيه فيفتضح ويسوءه ذلك { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } معناه : إن صبرتم حتى ينزل القرآن بحكم من فرض أو نهي أو حكم وليس في ظاهره شرح ما تحتاجون إليه ومست حاجتكم إليه فإذا سألتم عنه فحيئذ يبدى لكم ، ومثال هذا : أن الله عز وجل لما بيَّن عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل ولم يكن في عدد هؤلاء دليل على عدة التي ليست ذات قرء ولا حامل فسألوا عنها فأنزل الله عز وجل جوابهم في قوله(2/342)
{ واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } الآية { عفا الله عنها } يعني عن مسألتكم عن الأشياء التي سألتم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كره الله لكم السؤال عنها فلم يؤاخذكم بها ولم يعاقبكم عليها { والله غفور } يعني لمن تاب منكم { حليم } فلا يعجل بعقوبتكم . وقال عطاء : غفور يعني لما كان في الجاهلية . حليم : يعني عن عقابكم منذ آمنتم وصدقتم . وقال بعض العلماء : الأشياء التي يجوز السؤال عنها ، هي ما يترتب عليها أمر الدين والدنيا من مصالح العباد وما عدا ذلك فلا يجوز السؤال عنه ( ق ) .
عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته ( ق ) .
عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم « كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال » عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم « نهى عن الأغلوطات » أخرجه أبو داود . والأغلوطات صعاب المسائل التي تزل فيها أقدام العلماء ويؤيد ذلك قول أبي هريرة : شرار الناس الذين يسألون عن شرار المسائل كي يغلطوا بها العلماء . عن سلمان قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال « الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه فلا تتكلفوا » وعن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تقربوها وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها » هذان الحديثان أخرجهما في جامع الأصول ولم يعزهما إلى الكتب الستة .(2/343)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
{ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } قال المفسرون : يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها فأصبحوا بها كافرين ، وقوم موسى قالوا : أرنا الله جهرة ، فكان هذا السؤال وبالاً عليهم ، وقوم عيسى ، سألوا نزول المائدة عليهم ثم كذبوها . كأنه تعالى يقول : إن أولئك سألوا فلما أُعطوا سؤلهم كفروا به فلا تسألوا أنتم شيئاً فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك .
قوله تعالى : { ما جعل الله } أي ما أنزل الله ولا حكم به ولا شرعه ولا أمر به { من بحيرة } البحيرة : من البحر وهو الشق . يقال : بحر ناقته إذا شق أذنها فهي فعيلة بمعنى مفعولة { ولا سائبة } يعني المسيبة المخلاة { ولا وصيلة } الوصيلة : الشاة وكانت العرب في الجاهلية إذا ولدت لهم ذكراً أو أنثى قالوا وصلت أخاها { ولا حام } الحام : هو الفحل من الإبل يحمى ظهره فلا يركب ولا ينتفع به . قال ابن عباس : في بيان هذه الأوصاف ، البحيرة : هي الناقة إذا ولدت خمسة أبطن لم يركبوها ولم يجزّوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ ثم نظروا إلى خامس ولدها فإن كان ذكراً نحروه وأكله الرجال والنساء وإن كانت أنثى شقوا أذنها وتركوها وحرموا على الناس منافعها . وكانت منافعها للرجال خاصة فإذا ماتت حلت الرجال والنساء . وقيل كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثاً سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم سيب مع أمها ويفعل بها ما يفعل بأمها . وقيل : السائبة البعير الذي يسيب لآلهتهم وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض أو غاب له قريب نذر ، فقال : إنْ شفاني الله أو شفى الله مريضي أو قدم غائبي فناقتي هذه سائبة ثم يسيبها ، فلا تحبس عن ماء ولا مرعى ولا يركبها أحد ، فهي بمنزلة البحيرة والوصيلة من الغنم . كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكر ذبحوه وأكل منه الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وإن كانت ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها واستحيوا الذكر فلم يذبحوه من أجل الأنثى والحامي هو الفحل إذا ركب ولد ولده . وقيل : هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن . قالوا : حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى فإذا مات أكله الرجال والنساء ( ق ) عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء . قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار »(2/344)
ولمسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخا بني كعب وهو يجر قصبه في النار » ( خ ) عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « رأيت جهنم تحطم بعضها بعضاً ورأيت عمراً يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب » القُصْب بضم القاف وسكون الصاد المهملة الأمعاء كانت الجاهلية تفعل هذا في جاهليتهم فلما بعث الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أبطل ذلك بقوله « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام يعني ما بحر الله من بحيرة ولا سيب من سائبة ولا وصل من وصيلة ولا حمى من حام ولا أذن فيه ولا أمر به ولكنكم أنتم فعلتم ذلك من عند أنفسكم » ( خ ) عن ابن مسعود أن أهل الإسلام لا يسيبون وأن أهل الجاهلية كانوا يسيبون .
وقوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } يعني بقولهم إن الله أمرنا بهم { وأكثرهم لا يعقلون } أراد بالأكثر الاتباع يعني أن الاتباع لا تعقل أن هذا كذب وافتراء من الرؤساء على الله عز وجل .(2/345)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
{ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول } يعني : وإذا قيل لهؤلاء الذين بحروا البحائر وفعلوا هذه الأشياء أضافوها إلى الله كذباً تعالوا إلى ما أنزل الله يعني في كتابه وإلى الرسول يعني محمداً صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه كتابه ليبين لكم كذب ما تضيفونه إلى الله ويبين لكم الشرائع والأحكام وإن الذي تفعلونه ليس بشيء { قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } يعني قد اكتفينا بما أخذنا عنهم من الدين ونحن لهم تقع قال الله رداً عليهم { أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون } يعني إنما يصح الاقتداء بالعالم المهتدي الذي يبني قوله على الحجة والبرهان والدليل وأن آباءهم ما كانوا كذلك فيصح اقتداؤهم بهم .(2/346)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } قال بعض العلماء : هذا أمر من الله تعالى ومعناه احفظوا أنفسكم من ملابسة الذنوب والإصرار على المعاصي لأنك إذا قلت عليك زيداً معناه الزم زيداً وقيل معناه عليكم أنفسكم فأصلحوا واعملوا في خلاصها من عذاب الله عز وجل . وانظروا لها ما يقربها من الله عز وجل . لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، يعني لا يضركم كفر من كفر إذا كنتم مهتدين وأطعتم الله عز وجل فيما أمركم به ونهاكم عنه .
قال سعيد بن جبير ومجاهد : نزلت هذه الآية في أهل الكتاب اليهود والنصارى يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب فخذوا منهم الجزية واتركوهم . وقيل : لما قبلت الجزية من أهل الكتاب قال بعض الكفار : كيف تقبل الجزية من بعض دون بعض؟ فنزلت هذه الآية . وقيل : إن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار على كفرهم فقيل لهم : عليكم أنفسكم واجتهدوا في صلاحهم لا يضركم ضلال الضالين ولا جهل الجاهلين إذا كنتم مهتدين . فإن قلت هل يدل ظاهر هذه الآية على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قلت : لا يدل على ذلك والذي عليه أكثر الناس أن المطيع لربه عزَّ وجل لا يكون مؤاخذاً بذنوب أصحاب المعاصي فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثابت بدليل الكتاب والسنة . عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لايضركم من ضلَّ إذا اهتديتم } ولا تضعونها موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الناس إذا رأوا ظالماً فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وأخرجه أبو داود زاد فيه : « ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب »
وقال قوم في معنى الآية عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم قال ابن مسعود مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم ، ثم قال : إن القرآن نزل منه أي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه أي وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه أي وقع تأويلهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير ومنه أي يقع تأويلهن في آخر الزمان ومنه أي يقع تأويلهن يوم القيامة وهو ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة لم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فامروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا اختلفت قلوبكم وأهواؤكم وألبستم شيعاً وأذيق بعضكم بأس بعض فأمرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية .(2/347)
وقيل لابن عمر لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله يقول { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا هتديتم } فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا ليبلغ الشاهد الغائب فكنا نحن الشهود وأنت الغائب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم . وعن أبي أمية الشعباني قال أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف نصنع بهذه الآية قال : أية آية قلت { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } قال : أما والله لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال « ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن من ورائكم أيام الصبر فمن صبر فيهن قبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم »
وفي رواية : « قيل : يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم ، قال : لا بل أجر خمسين منكم » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وقيل في معنى الآية : إن العبد إذا عمل بطاعة الله واجتنب نواهيه لا يضره من ضل . وقال ابن عباس : قوله « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » يقول إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما أمرته به وعن صفوان بن محرز قال : دخل عليَّ شاب من أصحاب الأهواء فذكر شيئاً من أمره فقلت له : ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أوليائه { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وقال الحسن : لم يكن مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله . وقيل في معنى الآية : لا يضركم من كفر بالله وحاد عن قصد السبيل من أهل الكتاب إذا اهتديتم أنتم . قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في أهل الكتاب . وقال ابن زيد : كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءكم وضللتم وفعلت وفعلت وكان ينبغي لك أن تنصرهم وتفعل وتفعل فقال الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } قال الطبري : وأولى هذه الأقوال وأصح التأويلات عندنا في هذه الآية ما روي عن أبي بكر الصديق وهو العمل بطاعة الله وأداء ما لزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم لأن الله تعالى يقول :(2/348)
{ وتعاونوا على البر والتقوى } ومن التعاون على البر والتقوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم حتى يرجع عن ظلمه .
وقال عبد الله بن المبارك : هذه الآية أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الله تعالى قال : عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضاً ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والمكروهات والذي يؤكد ذلك أن معنى قوله : عليكم أنفسكم أي احفظوا أنفسكم وهذا أمر بأن نحفظ أنفسنا ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والله أعلم .
وقوله تعالى : { إلى الله مرجعكم جميعاً } يعني في الآخرة الطائع والعاصي والضال والمهتدي { فينبئكم بما كنتم تعملون } يعني فيخبركم بأعمالكم ويجزيكم عليها .(2/349)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } سبب نزول هذه الآية ما روي أن تميم بن أوس الداري ، وعدي بن بداء ، خرجا من المدينة في تجارة إلى الشام وهما نصرانيان ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلماً فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتاباً فيه جميع ما معه من المتاع وألقاه في متاعه ولم يخبر صاحبيه بذلك فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله إذا رجعا إلى المدينة ومات بديل ، ففتشا متاعه ، فوجدا فيه إناء من فضة منقوشاً بالذهب فيه ثلثمائة مثقال فغيباه ، ثم إنهما قضيا حاجتهما وانصرفا إلى المدينة فدفعا المتاع إلى أهل البيت ففتشوه فأصابوا الصحيفة وفيها تسمية ما كان معه فجاء أهل الميت إلى تميم وعدي فقالوا : هل باع صاحبنا شيئاً من متاعه قالا : لا . قالوا : فهل أتجر تجارة؟ قالا : لا . قالوا : فهل طال مرضه فأنفق شيئاً على نفسه قالا : لا . قالوا : إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه وإنا فقدنا إناء من فضة منقوشاً بالذهب فيه ثلثمائة مثقال فضة قالا : لا ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه ومَا لَنا بالإناء فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصرا على الإنكار وحلفا فأنزل الله هذه الآية هذا قول المفسرين . وروى الترمذي عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت قال تميم برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام بتجارتهما قبل الإسلام فأتيا إلى الشام بتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم : ولما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي فلما أتينا أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقد الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا ولا دفع إلينا غيره قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم على أهل دينه فحلف فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } إلى قوله { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي قال الترمذي : هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح .(2/350)
وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه قال ابن عباس : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مخوصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجدوا الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم قال وفيهم نزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وأخرج هذه الرواية الأخيرة البخاري في صحيحه فأما التفسير فقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } يعني ليشهد ما بينكم لأن الشهادة إنما يحتاج إليها عند وقوع التنازع والتشاجر { إذا حضر أحدكم الموت } يعني إذا قارب وقت حضور الموت { حين الوصية اثنان } لفظه خبر ومعناه الأمر يعني ليشهد اثنان منكم عند حضور الموت وأردتم الوصية { ذوا عدل منكم } يعني من أهل دينكم وملتكم يا معشر المؤمنين واختلفوا في هذين الاثنين فقيل هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي وقيل هما الوصيان لأن الآية نزلت فيهما ولأنه قال تعالى : { فيقسمان بالله } والشاهد لا يلزمه يمين وجعل الوصي اثنين تأكيداً فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور كقولك : شهدت وصية فلان بمعنى حضرت { أو آخران من غيركم } يعني من غير أهل دينكم وملتكم وهذا قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير والنخعي والشعبي وابن سيرين وابن شريح وأكثر المفسرين : وقيل : معناه من غير عشيرتكم وقبيلتكم وهم مسلمون . واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال إبراهيم النخعي وجماعة : هي منسوخة كانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ثم نسخت بقوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } لأن إجماع الأمة على أن شهادة الفاسق لا تجوز فشهادة الكفار وأهل الذمة لا تجوز بطريق الأولى وذهب قوم إلى أنها ثابتة لم تنسخ وهو قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير وابن سيرين وبه قال أحمد بن حنبل قالوا إذا لم يجد مسلمين يشهدان على وصيته وهو في أرض غربة فليشهد كافرين أو ذميين أو من أي دين كانا لأن هذا موضع ضرورة قال شريح : من كان بأرض غربة لم يجد مسلماً وصيته فليشهد كافرين على أي دين كانا من أهل الكتاب أو من عبدة الأصنام فشهادتهم جائزة في هذا الموضع ولا تجوز شهادة كافر على مسلم بحال إلا على وصيته في سفر لا يجد فيه مسلماً . عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ولم يجد أحداً من المسلمين حضر يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال أبو موسى هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصيته الرجل وتركته فأمضى شهادتهما أخرجه أبو داود .(2/351)
وقال قوم في قوله ذوا عدل منكم يعني من عشيرتكم وحيكم أو آخران من غيركم من غير عشيرتكم وحيكم وأن الآية كلها في المسلمين وهذا قول الحسن والزهري وعكرمة وقالوا لا تجوز شهادة كافر في شيء من الأحكام وهذا الشافعي ومالك وأبي حنيفة غير أن أبا حنيفة أجاز شهادة أهل الذمة فيما بينهم بعضهم على بعض واحتج من قال بأن هذه الآية محكمة بأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً وليس فيها منسوخ واحتج من أجاز شهادة غير المسلم في هذا الموضع بأن الله تعالى قال في أول الآية : { يا أيها الذين آمنوا } فعمَّ بهذا الخطاب جميع المؤمنين ثم قال بعده { ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم } فعلم بذلك أنهما من غير المؤمنين ، ولأن الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه يمين ولأن الميت إذا كان في أرض غربة ولم يجد مسلماً يشهده على وصيته ضاع ماله وربما كان عليه ديون أو عنده وديعة فيضيع ذلك كله وإذا كان ذلك كذلك احتاج إلى إشهاد من حضر من أهل الذمة وغيرهم من الكفار حتى لا يضيع ماله وتنفذ وصيته فهذا كالمضطر الذي أبيح له أكل الميتة في حال الاضطرار والضرورات قد تبيح شيئاً من المحظورات واحتج من منع ذلك بأن الله تعالى قال : { ممن ترضون من الشهداء } والكفار ليسوا مرضيين ولا عدولاً فشهادتهم غير مقبولة في حال من الأحوال .
وقوله تعالى : { إن أنتم ضربتم في الأرض } يعني : إن أنتم سافرتم في الأرض { فأصابتكم مصيبة الموت } يعني نزل بكم أسباب الموت فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما { تحبسونهما } يعني إن اتهمهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أن يوقفوهما { من بعد الصلاة } يعني من بعد صلاة العصر لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويجتنبون فيه الحلف الكاذب وقيل من بعد صلاة أهل دينهم لأنهما إذا كانا كافرين لا يحترمان صلاة العصر { فيقسمان بالله } يعني فيحلفان بالله . قال الشافعي : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان فيحلف بعد صلاة العصر إن كان بمكة بين الركن والمقام وإن كان بالمدينة فعند المنبر وإن كان في بيت المقدس فعند الصخرة وفي سائر البلاد في أشرف المساجد وأعظمها بها { إن ارتبتم } يعني إن شككتم أيها الورثة في قول الشاهدين وصدقهما ، فحلّفوهما وهذا إذا كانا كافرين أما إذا كانا مسلمين فلا يمين عليهما لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع { لا نشتري به ثمناً } يعني لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا ولا نحلف بالله كاذبين لأجل عوض نأخذه أو حق نجحده { ولو كان ذا قربى } يعني ولو كان المشهود له ذا قرابة منا وإنما خص القربى بالذكر لأن الميل إليهم أكثر من غيرهم { ولا نكتم شهادة الله } إنما أضاف الشهادة إليه لأنه أمر بإقامتها ونهى عن كتمانها { إنا إذاً لمن الآثمين } يعني إن كتمنا الشهادة أو خنّا فيها ولما نزلت هذه الآية صلى صلى الله عليه وسلم العصر ودعا تميماً وعدياً وحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يخونا شيئاً مما دفع إليهما فحلفا على ذلك فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما ثم ظهر الإناء من بعد ذلك قال ابن عباس وجد الإناء بمكة ، فقالوا : اشتريناه من تميم وعدي . وقيل : لما طالت المدة أظهروه فبلغ ذلك بني سهم ، فأتوهما في ذلك ، فقالا : إنا كنا اشتريناه منه . فقالوا لهما : ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه؟ قالا : لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم به فكتمناه لذلك فرفعوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم .(2/352)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
{ فإن عثر } يعني فإن اطلع وظهر والعثور الهجوم على أمر لم يهجم عليه غيره وكل من اطلع على أمر كان قد خفي عليه قيل له قد عثر عليه { على أنهما استحقا إثماً } يعني الوصيين ومعنى الآية فإن حصل العثور والوقوف على أن الوصيين كانا استوجبا الإثم بسبب خيانتهما وأيمانهما الكاذبة { فآخران } يعني من أولياء الميت وأقربائه { يقومان مقامهما } يعني مقام الوصيين في اليمين { من الذين استحق عليهم } يعني من الذين استحق عليهم الإثم وهم الورثة والمعنى إذا ظهرت خيانة الحالفين وبان كذبهما يقوم اثنان آخران من الذين جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته { الأوليان } يعني بأمر الميت وهم أهله وعشيرته { فيقسمان بالله } يعني فيحلفان بالله { لشهادتنا من شهادتهما } يعني أيماننا أحق وأصدق من أيمانهما { وما اعتدينا } يعني في أيماننا وقولنا إن شهادتنا أحق من شهادتهما { إنا إذاً لمن الظالمين } ولما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان لو وهما من أهل الميت وحلفا بالله بعد العصر ودفع الإناء إليهما وإنما ردت اليمين على أولياء الميت لأن الوصيين ادعيا أن الميت باعهما الإناء وأنكر ورثة الميت ذلك ومثل هذا أن الوصي إذا أخذ شيء من مال الميت قال : إنه أوصى له به وأنكر ذلك الورثة ردت اليمين عليه ولما أسلم تميم الداري بعد هذه القصة كان يقول صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأنا أتوب إلى الله وأستغفره .
وقوله تعالى : { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } يعني ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين على أولياء الميت بعد أيمانهم أدنى ، أجدر وأحرى أن يأتوا بالشهادة على وجهها يعني أن يأتي الوصيان وسائر للناس بالشهادة على وجهها فلا يخونوا فيها { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } أي وأقرب أن يخاف الوصيان أن ترد الأيمان على أولياء الميت فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ويغرّموا فربما لا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذه الحكم { واتقوا الله } يعني وخافوا الله أن تحلفوا أيماناً كاذبة أو تخونوا أمانة { واسمعوا } يعني المواعظ والزواجر وقيل معناه واسمعوا سمع إجابة { والله لا يهدي القوم الفاسقين } يعني : والله لا يرشد من كان على معصية وهذا تهديد وتخويف ووعيد لمن خالف حكم الله تعالى أو خان أمانته أو حلف أيماناً كاذبة وهذه الآية الكريمة من أصعب ما في القرآن من الآيات نظماً وإعراباً وحكماً والله أعلم بأسرار كتابه .(2/353)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
قوله عز وجل : { يوم يجمع الله الرسل } قال الزجاج هي متصلة بما قبلها تقديرها : واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل ، وقيل : تقدير : والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل . أي لا يهديهم إلى الجنة في ذلك اليوم وهو يوم القيامة وقيل إنها منقطعة عما قبلها وتقديره اذكر يا محمد يوم يجمع الله الرسل ذلك يوم القيامة { فيقول ماذا أجبتم } يعني فيقول الله تبارك وتعالى للرسل ماذا أجابكم أممكم وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم في دار الدنيا إلى توحيدي وطاعتي وفائدة هذا السؤال توبيخ أمم الأنبياء الذين كذبوهم { قالوا } يعني الرسل { لا علم لنا } قال ابن عباس : معناه لا علم لنا كعلمك فيهم لأنك تعلم ما أضمروا وما أظهروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا وأبلغ .
فعلى هذا القول ، إنما نفوا العلم عن أنفسهم وإن كانوا علماء لأن علمهم صار كلاعلم عند علم الله .
وقال في رواية أخرى : معناه لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا وهذا القول قريب من الأول . وقيل : معناه لا علم لنا بوجه الحكمة عن سؤالك إيانا عن أمر أنت أعلم به منا . وقيل : معناه لا حقيقة لعلمنا بعاقبة أمرهم لأنا كنا نعلم ما كان من أفعالهم وأقوالهم وقت حياتنا ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا ولا نعلم ما أحدثوا من بعدنا ومنه ما أخبر الله عن عيسى عليه السلام بقوله : { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم } ومنه ما روي عن انس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولن أي رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك » زاد في رواية « فأقول سحقاً لمن بدل بعدي » أخرجاه في الصحيحين وقال جمع من المفسرين إن للقيامة أهوالاً وزلازل تزول فيها القلوب عن مواضعها فيفزعون من هول ذلك ويذهلون عن الجواب ثم إذا ثابت إليهم عقولهم يشهدون على أممهم بالتبليغ .
وهذا فيه ضعف ونظر لأن الله تعالى قال في حق الأنبياء : { لا يحزنهم الفزغ الأكبر } ، وذكر الغمام فخر الدين الرازي وجهاً آخر وهو أن الرسل عليهم السلام لما علموا أن الله تعالى عالم لا يجهل وحليم لا يسفه وعادل لا يظلم علموا أن قولهم لا يفيد خيراً ولا يدفع شراً فرأوا أن الأدب في السكوت وفي تفويض الأمر إلى الله تعالى وعدله فقالوا لا علم لنا { إنك أنت علام الغيوب } يعني إنك تعلم ما غاب عنا من بواطن الأمور ونحن نعلم ما نشاهد ولا نعلم ما في البواطن .(2/354)
وقيل معناه إنك لا يخفى عليك ما عندنا من العلوم وأن الذي سألتنا عنه ليس بخاف عليك لأنك أنت علام الغيوب ومعناه العالم بأصناف المعلومات على تفاوتها ليس تخفى عليه خافية وبناء فعال بتاء التكثير ودلت الآية على جواز إطلاق العلام على الله تعالى كما يجوز إطلاق الخلافة عليه .
قوله عز وجل : { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } قال بعضهم : إن إذ قال الله تعالى : يا عيسى صلة لماذا أجبتم ولما كان المراد بقوله للرسل ما أجبتم توبيخ الأمم ومن تمرد منهم على الله وكان أشد الأمم احتياجاً وافتقاراً إلى التوبيخ والملامة النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام ووجه ذلك أن جميع الأمم إنما كان طعنهم في أنبيائهم بالتكذيب لهم وطعن هؤلاء النصارى تعدي إلى جلال الله تعالى حيث وصفوه بما لا يليق بجلاله من اتخاذ الزوجة والولد . ذكر الله في هذه الآية أنواع نعمه على عيسى عليه السلام التي تدل على أنه عبد وليس بإله والفائدة في ذكر هذه الحكاية تنبيه النصارى على قبح مقالتهم وفساد اعتقادهم وتوكيد الحجة عليهم . وقيل : فائدة ذلك إسماع الأمم يوم القيامة ما خص الله عيسى عليه السلام به من الكرامة ، وقيل : موضع إذا رفع بالابتداء على القطع ومعناه اذكر إذ قال الله : يا عيسى وإنما خرج قوله : إذ قال الله على لفظ الماضي دون المستقبل لأنه ورد على سبيل حكاية الحال . وقيل : تقديره إذ يقول الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعتمي عليك لفظه واحد والمراد به الجمع لأن الله تعالى عدد نعمه عليه في هذه الآية والمراد من ذكرها شكرها { وعلى والدتك } يعني بنعمته على مريم عليها السلام أنه تعالى : « أنبتها نباتاً حسناً وطهرها واصطفاها على نساء العالمين » .
ثم ذكر نعمه على عيسى عليه السلام فقال تعالى : { إذ أيدتك بروح القدس } يعني بجبريل عليه السلام لأن القدس هو الله تعالى وأضافه إليه على سبيل التشريف والتعظيم كإضافة بيت الله وناقة الله . وقيل : أراد بروح القدس الروح المطهرة لأن الأرواح تختلف باختلاف الماهية فمنها روح طاهرة مقدسة نورانية ومنها روح خبيثة كدرة ظلمانية فخضَّ الله عيسى بالروح المقدسة الطاهرة النورانية المشرفة { تكلم الناس في المهد } يعني تكلمهم طفلاً في حال الصغر { وكهلاً } يعني وفي حالة الكهولة من غير أن يتفاوت كلامك في هذين الوقتين وهذه معجزة عظيمة وخاصة شريفة ليست لأحد قبله . قال ابن عباس : أرسل الله عيسى عليه السلام وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه الله إليه { وإذ علمتك الكتاب والحكمة } يعني الكتابة وهي الخط والحكمة الفهم والاطلاع على أسرار العلوم { والتوراة والإنجيل } أي وعلمتك التوراة التي أنزلتها على موسى والإنجيل الذي أنزلته عليك { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني } يعني وإذ تجعل وتصور من الطين كصورة { الطير بإذني } { فتنفخ فيها } ذكر هنا فيها سورة آل عمران فيه يعني بالضمير في قوله فيها يعود إلى الهيئة بجعلها مصدراً كما يقع اسم الخلق على المخلوق وذلك لأن النفخ لا يكون في الهيئة إنما يكون في المهيأ وذي الهيئة ويجوز أن يعود الضمير إلى الطير لأنها مؤنثة قال الله تعالى :(2/355)
{ أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات } وأما الضمير المذكور في آل عمران في قوله فيه فيعود إلى الكاف يعني في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير { فتكون طيراً بإذني } وإنما كرر قوله بإذني تأكيداً لكون ذلك الخلق واقعاً بقدرة الله وتخليقه لا بقدرة عيسى عليه السلام وتخليقه لأن المخلوق لا يخلق شيئاً إنما خالق الأشياء كلها هو الله تعالى لا خالق لها سواه وإنما كان الخلق لهذا الطير معجزة لعيسى عليه السلام أكرمه الله بها وكذا قوله تعالى : { وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني } يعني وتشفي الأكمه وهو الأعمى المطموس البصر والأبرص معروف ظاهر { وإذ تخرج الموتى } يعني من قبورهم أحياء { بإذني } تفعل ذلك كله بدعائك والفاعل لهذه الأشياء كلها في الحقيقة هو الله تعالى لأنه هو المبرئ للأكمه والأبرص وهو محيي الموتى وهو على كل شيء قدير وإنما كانت هذه الأشياء معجزات لعيسى عليه السلام ووقعت بإذن الله تعالى وقدرته .
وقوله تعالى : { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } يعني واذكر نعمتي عليك إذ كففت وصرفت عنك اليهود ومنعتك منهم حين أرادوا قتلك { إذ جئتهم بالبينات } يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات التي ذكرت في هذه الآية وذلك أن عيسى عليه السلام لما أتى بهذه المعجزات العجيبة الباهرة قصد اليهود قتله فخلصه الله منهم ورفعه إلى السماء { فقال الذين كفروا منهم } يعني فقال الذين استمروا على كفرهم من اليهود ولم يؤمنوا بهذه المعجزات { إن هذا إلا سحر مبين } يعني ما جاءهم به عيسى عليه السلام من المعجزات .(2/356)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
قوله عز وجل : { وإذ أوحيت إلى الحواريين } يعني ألهمتهم وقذفت في قلوبهم فهو وحي إلهام كما أوحى إلى أم موسى وإلى النحل والحواريون هم أصحاب عيسى وخواصه { أن آمنوا بي وبرسولي } يعني عيسى عليه السلام { قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } لما وفقهم الله للإيمان ، قالوا : آمنا . وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام ، لأن الإيمان من أعمال القلوب والإسلام هو الانقياد والخضوع في الظاهر والمعنى أنهم آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم . قوله تعالى : { إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك } قال المفسرون : هذا على المجاز ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكَّوا في قدرة الله تعالى لكنه كما يقول الرجل لصاحبه هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام وإنما قصد بقوله هل تستطيع هل يسهل عليك وهل يخف أن تقوم معي فكذلك . معنى الآية : لأن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز وجل ومعترفين بكمال قدرته وإنما قالوا ذلك ليحصل لهم مزيد الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام ولكن ليطمئن قلبي . ولا شك أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث مزيد الطمأنينة في القلب ولهذا السبب قالوا وتطمئن قلوبنا وقال بعضهم هو على ظاهره . وقال : غلط القوم وقالوا ذلك قبل استحكام الإيمان والمعرفة في قلوبهم وكانوا بشراً فقالوا هذه المقالة فرد الله عليهم عند غلطهم بقوله : { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } يعني اتقوا الله إن كنتم مؤمنين يعني اتقوا الله أن تشكوا في قدرة الله عز وجل والقول الأول أصح وقيل في معنى الآية : هل يقبل ربك دعاءك ويعطيك بإجابة دعائك وسؤالك إنزال المائدة ، فقد ورد في الآثار : من أطاع الله أطاعه كل شيء { أن ينزل علينا مائدة من السماء } المائدة الخوان الذي عليه الطعام ولا يسمى مائدة إن لم يكن عليه طعام إنما يقال خوان أو طبق وأصلها من ماد يميد إذا تحرك كأنها تميد بما عليها من الطعام { قال } يعني عيسى مجيباً للحواريين { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } يعني اتقوا الله في هذا السؤال إن كنتم مؤمنين لأنه سؤال تعنت وقيل : أمرهم بالتقوى ليحصل لهم هذا السؤال ومعنى إن كنتم مؤمنين مصدقين فلا تشكوا في قدرة الله تعالى وقيل معناه اتقوا الله أن تسألوا شيئاً لم يسأله أحد من الأمم قبلكم فنهاهم عن اقتراح الآية بعد الإيمان .(2/357)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
{ قالوا نريد أن نأكل منها } يعني : قال الحواريون مجيبين لعيسى عليه السلام إنما نطلب نزول المائدة علينا لأن تأكل منها فإن الجوع قد غلب علينا . وقيل : معناه نريد ان نأكل منها للتبرك بها لا أكل حاجة { وتطمئن قلوبنا } يعني وتسكن قلوبنا ونستيقن قدرة الله تعالى لأنا ، وإن علمنا قدرة الله بالدليل ، فإذا شاهدنا نزول المائدة ازداد اليقين وقويت الطمأنينة { ونعلم أن قد صدقتنا } يعني : ونزداد إيماناً ويقيناً بأنك رسول الله { ونكون عليها من الشاهدين } يعني لله بالوحدانية ولك بالرسالة والنبوة . وقيل : معناه ونكون لك عليها من الشاهدين عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم ، فلما قالوا ذلك ، أمرهم عيسى أن يصوموا ثلاثين يوماً وقال لهم : إنكم إذا صمتم ذلك وأفطرتم فلا تسألون الله شيئاً إلا أعطاكم ، ففعلوا ذلك وسألوا نزول المائدة فعند ذلك { قال عيسى ابن مريم اللهم } قيل : إنه اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وبكى ثم دعا فقال اللهم { ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا } يعني عائدة من الله علينا وحجة وبرهاناً والعيد يوم السرور وأصله من عاد يعود إذا رجع والمعنى نتخذ ذلك اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيداً لعظمه ونصلي فيه نحن ومن يجيء من بعدنا فنزلت في يوم الأحد فاتخذه النصارى عيداً . وقال ابن عباس : معناه يأكل منها أول الناس كما يأكل آخرهم { وآية منك } أي وتكون المائدة دلالة على قدرتك دلالة على قدرتك ووحدانيتك وحجة بصدق رسولك { وارزقنا } أي ارزقنا ذلك من عندك وقيل : ارزقنا الشكر على هذه النعمة { وأنت خيرالرازقين } يعني وأنت خر من تفضل ورزق { قال الله } عز وجل مجيباً لعيسى { إني منزلها عليكم } يعني المائدة { فمن يكفر بعد منكم } يعني بعد نزول المائدة { فإني أعذبه عذاباً } يعني جنساً من العذاب { لا أعذبه أحداً من العالمين } يعني من عالمي زمانهم فجحدوا وكفروا بعد نزل المائدة فمسخوا خنازير . قال الزجاج : ويجوز أن يكون هذا العذاب معجلاً في الدنيا ويجوز أن يكون مؤخراً إلى الآخرة . قال عبد الله بن عمر : إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون . واختلف العلماء في نزول المائدة فقال الحسن ومجاهد : لم تنزل المائدة لأن الله لما أوعدهم على كفرهم بالعذاب بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا وقالوا : لا نريدها فلم تنزل عليهم فعلى هذا القول يكون معنى قوله تعالى : { إني منزلها عليكم } إن سألتم نزولها والصحيح الذي عليه جمهور العلماء والمفسرين أنها نزلت لأن الله تعالى قال : { إني منزلها عليكم } وهذا وعد من الله بإنزالها ولا خلف في خبره ووعده ولما روي عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد ، فمسخوا قردة وخنازير أخرجه الترمذي .(2/358)
وقال قد روي عن عمار من غير طريق موقوفاً وهو أصح . وقال ابن عباس : إن عيسى عليه السلام قال لهم : صوموا ثلاثين يوماً ثم اسألوا ما شئتم يعطيكموه فصاموا فلما فرغوا قالوا يا عيسى إنا لو عملنا عملاً لأحد فقضينا عمله لأطعمنا وسألوا المائدة الملائكة بمائدة يحملونها عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضوعها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم . وقال سلمان الفارسي : لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى صوفاً وبكى وقال : اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء الآية ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي تهوي إليهم منقضَّة حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه السلام وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة واليهود ينظرون إلى شيء لم ينظروا مثله ولم يجدوا ريحاً أطيب من ريحه فقال عيسى عليه السلام ليقم أحسنكم عملاً فليكشف عنها ويسمّ الله . فقال شمعون الصفار رأس الحواريين : أنت أولى بذلك منا . فقام عيسى عليه السلام فتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى بكاء كثيراً ثم كشف المنديل عنها وقال بسم الله خير الرازقين ، فإذا هو بسمكة مشوية ليس فيها شوك ولا عليها فلوس تسيل من الدسم وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد . فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عيسى : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة ولكنه شيء اخترعه الله بقدرته العالية . كلوا مما سألتم واشكروا يمددكم ويزدكم من فضله . فقالوا : يا روح الله كن أول من يأكل منها فقال عيسى : معاذ الله أن آكل منها يأكل منها من سألها ، فخافوا أن يأكلوا منها فدعا لها أهل الفاقة والمرض والبرص والجذام والمقعدين فقال : كلوا من رزق الله لكم الشفاء ولغيركم البلاء ، فأكلوا منها وهم ألف وثلثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض وزِمن ومبتلى وصدروا عنها وهم شباع ، وإذا السمكة بحالها حين أنزلت ثم طارت المائدة صعوداً وهم ينظرون إليها حتى توارت ولم يأكل منها مريض أو زَمِن أو مبتلى إلا عوفي ولا فقير إلا استغنى . وندم من لم يأكل منها .
وقيل : مكثت أربعين صباحاً تنزل ضحى فإذا نزلت اجتمع إليها الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء يأكلون منها ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى يفيء الفيء ، فإذا فاء الفيء ، طارت وهم ينظرون إليها حتى تتوارى عنهم وكانت تنزل غباً يوماً ويوماً لا تنزل فأوحى الله عز وجل إلى عيسى عليه السلام اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا وشككوا الناس فيها وقالوا : ترون المائدة حقاً تنزل من السماء ، فأوحى الله عز وجل عيسى لعيه السلام إني شرطت أن من كفر بعد نزولها عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين فقال عيسى عليه السلام عند ذلك(2/359)
{ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } فمسخ الله منهم ثلثمائة وثلاثين رجلاً باتوا ليلتهم مع نسائهم على فرشهم ثم أصبحوا خنازير يسعون في الطرق يأكلون العذرة من الكناسات والحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعموا إلى عيسى عليه السلام وبكوا ولما أبصرت الخنزير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف به وجعل عيسى عليه السلام يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برؤوسهم ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا . وقال كعب : أنزلت المائدة منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل شيء إلا اللحم وقال ابن عباس : أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم . وقال الكلبي : كان عليها خبز بر وبقل . وقال وهب بن منبه : أنزل الله أقرصة من شعير وحيتاناً فكان القوم يأكلون ويخرجون ثم يجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوا بأجمعهم وفضل . وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشياً حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل . وقال الكلبي ومقاتل : أنزل الله سمكاً وخمسة أرغفة فأكلوا منها ما شاء الله والناس ألف ونيف فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا الحديث ضحك من لم يشهد منهم وقالوا ويحكم إنما سحر أعينكم فمن أراد الله به خيراً ثبته ومن أراد فتنته رجع إلى كفره فمسخوا خنازير وليس فيهم صبي ولا أمرأة فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا وكذلك كل ممسوخ .(2/360)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
قوله عز وجل : { وإذا قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } الآية اختلف المفسرون في وقت هذا القول فقال السدي : قال الله لعيسى هذا القول حين رفعه إلى السماء بدليل أن حرف إذ يكون للماضي وقال سائر المفسرين : إنما يقول الله له هذا القول يوم القيامة بدليل قوله : { يوم يجمع الله الرسل } وذلك يوم القيامة وبدليل قوله { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وذلك يوم القيامة وأجيب عن حرف أذ بأنها قد تجيء بمعنى إذا كقوله { ولو ترى إذا فزعوا } يعني إذ فزعوا وقال الراجز ثم جزاك الله عني إذا جزى .
جنات عدن في السموات العلى ولفظ الآية في قوله : أأنت قلت للناس لفظ استفهام ومعناه الإنكار والتوبيخ لمن ادعى ذلك على عيسى عليه السلام من النصارى ، لأن عيسى عليه السلام لم يقل هذه المقالة ، فإن قلت إذا كان عيسى عليه السلام لم يقلها فما وجه هذا السؤال له مع علم الله بأنه لم يقله؟ قلت : وجه هذا السؤال تثبيت الحجة على قومه وإكذاب لهم في ادعائهم ذلك عليه وأنه أمرهم به فهو كما يقول القائل لآخر : أفعلت كذا؟ وهو يعلم أنه لم يفعله وإنما أراد تعظيم ذلك الفعل فنفى عن نفسه هذه المقالة . وقال : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم فاعترف بالعبودية وأنه ليس بإله كما زعمت وادعت فيه النصارى فإن قلت إن النصارى لم يقولوا بإلهية مريم ، فكيف قال : اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قلت إن النصارى لما ادعت في عيسى أنه إله ورأوا أن مريم ولدته لزمهم بهذه المقالة على سبيل التبعية وقوله تعالى إخباراًعن عيسى عليه السلام { قال سبحانك } يعني تنزيهاً لك عن النقائص وبراءة لك من العيوب قال أبو روق إذا سمع عيسى عليه السلام هذا الخطاب وهو قوله : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } ارتعدت مفاصلة وانفجرت من أصل كل شعرة من جسده عين من دم وقال مجيباً لله تعالى سبحانك { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } أي كيف أقول هذا الكلام ولست بأهل ولست أستحق العبادة حتى ادعو الناس إليها ولما بيَّن أنه ليس له أن يقول هذه المقالة وهذا المقام مقام التواضع والخشوع لعظمة الله تعالى شرع في بيان هل وقع ذلك منه أم لا؟ فقال : { إن كنت قلته فقد علمته } أسند العلم إلى الله تعالى وهذا هو غاية الأدب وإظهار المسكنة لعظمة الله تعالى وتفويض الأمر إلى علمه ثم قال { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } يعني تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم وقال ابن عباس تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك وقيل معناه تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي وقيل معناه تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة وقيل معناه تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل والنفس عبارة عن ذات الشيء يقال نفس الشيء وذاته بمعنى واحد .(2/361)
وقال الزجاج : النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته يقال تعلم جميع حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك . وقيل : معناه تعلم معلومي ولا أعلم معلومك وإنما ذكر هذا الكلام على طريقة المشاكلة والمطابقة وهو فصيح الكلام ثم قال : { إنك أنت علام الغيوب } يعني أنك تعلم ما كان وما سيكون وهذا تأكيد لما تقدم من قوله تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك .(2/362)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
قوله تعالى إخباراً عن عيسى { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } يعني ما قلت لهم إلا قولاً أمرتني به { أن اعبدوا الله } يعني قلت لهم اعبدوا الله { ربي وربكم } يعني وحده ولا تشركوا به شيئاً { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم } يعني وكنت أشهد ما يفعلون وأحصره ما دمت مقمياً فيهم { فلما توفيتني } يعني فلما رفعتني إلى السماء فالمراد به وفاة الرفع لا الموت { كنت أنت الرقيب عليهم } يعني الحفيظ عليهم المراقب لأعمالهم وأحوالهم والرقيب الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء { وأنت على كل شيء شهيد } يعني أنت شهدت مقاتي التي قلتها لهم وأنت الشهيد عليهم بعد ما رفعتني إليك لا تخفى عليك خافية فعلى هذا الشهيد هنا بمعنى الشاهد لما كان وما يكون أن يجوز أن يكون الشهيد هنا بمعنى العليم يعني أنت العالم بكل شيء فلا يعزب عن علمك شيء .
قوله عز وجل إخباراً عن عيسى عليه السلام { إن تعذبهم } يعني إن تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة بأن تميتهم على كفرهم { فإنهم عبادك } لا يقدرون على دفع ضر نزل بهم ولا جلب نفع لأنفسهم وأنت العادل فيهم لأنك أوضحت لهم طريق الحق فرجعوا عنه وكفروا { وإن تغفر لهم } يعني لمن تاب من كفره منهم بأن تهديه إلى الإيمان فإن ذلك بفضلك ورحمتك { فإنك أنت العزيز } يعني في الانتقام ممن تريد الانتقام منه لا يمتنع عليك ما تريده { الحكيم } في أفعالك كلها وهذا التفسير إنما يصح على قول السدي لأنه قال كان سؤال الله عز وجل لعيسى عليه السلام حين رفعه إلى السماء قبل يوم القيامة . أما على قول جمهور المفسرين إن هذا السؤال إنما يقع يوم القيامة ففي قوله { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } إشكال وهو أنه يليق بعيسى عليه السلام طلب المغفرة لهم مع علمه بأن الله تعالى لا يغفر لمن يموت على الشرك والجواب عن هذا الأشكال من وجوه أحدها أنه ليس هذا على طريق المغفرة ولو كان كذلك لقال فإنك أنت الغفور الرحيم ولكنه على تسليم الأمر إلى الله وتفويضه إلى مراده فيهم لأنه العزيز في ملكه الحكيم في فعله ويجوز في حكمته وسعة مغفرته ورحمته أن يغفر للكفار ، لكنه تعالى أخبر أنه لا يفعل ذلك بقوله { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الوجه الثاني : قيل معناه أن تعذبهم يعني أقامتهم على كفرهم إلى الموت وإن تغفر لهم يعني لمن آمن منهم وتاب ورجع عن كفره ، الوجه الثالث : قال ابن الأنباري : لما قال الله لعيسى { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله }(2/363)
لم يقع لعيسى إلا أن النصارى حكت عنه الكذب لأنه لم يقل ذلك وقول الكذب ذنب فيجوز أن يسأل له المغفرة والله أعلم بمراده وأسراره كتابه ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم { رب إنهن أضللن كثراً من الناس فمن تبعني فإنه مني } الآية وقول عيسى : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } فرفع يديه وقال اللهم أمتي أمتي فبكى فقال الله تعالى : يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فاسأله ما يبكيك ، فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك . عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حتى أصبح بآية والآية { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } أخرجه النسائي قوله عز وجل .(2/364)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
{ قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } اتفق جمهور العلماء على أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة والمعنى أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة لأنه يوم الإثابة والجزاء وما تقدم من صدقهم في الدنيا يتبين نفعه يوم القيامة والمراد بالصادقين النبيون والمؤمنون لأن الكفار لا ينفعهم صدقهم يوم القيامة . قال قتادة : متكلمان لا يخطئان يوم القيامة عيسى عليه السلام لأنه يقوم فيقول ما قص الله عنه ما قلت لهم إلا ما أمرتني به الآية فكان صادقاً في الدنيا والآخرة فينفعه صدقه . وأما المتكلم الآخرة فإبليس فإنه يقوم فيقول وقال الشيطان لما قضى الأمر الآية فصدق عدو الله فيما قال ولم ينفعه صدقه . وقال عطاء هو يوم من أيام الدنيا لأن الآخرة دار جزاء لا دار عمل وذهب في هذا القول إلى ظاهر الآية من أن الصدق النافع إنما يكون في الدنيا وهذا القول موافق لمذهب السدي حيث يقول إن هذه المخاطبة جرت مع عيسى عليه السلام حين رفع إلى السماء ، والوجه ما ذهب إليه الجمهور ثم ذكر الله تعالى ما لهم من الثواب على صدقهم فقال تعالى : { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً } فهذا إشارة إلى ما يحصل من الثواب الدائم الذي لا انقطاع له ولا انتهاء { رضي الله عنهم } يعني بطاعتهم له { ورضوا عنه } يعني بما أعطاهم من ثوابه وجزيل كرامته { ذلك } إشارة إلى ما ذكره من ثوابهم { الفوز العظيم } يعني أنهم فازوا بالجنة وبرضوانه عنهم ونجوا من النار { لله ملك السموات والأرض وما فيهن } عظم الله عز وجل نفس عما قال فيه النصارى يعني ، أن الذي له ملك السموات والأرض هو الذي يستحق الإلهية لا ما قالت النصارى من إلهة المسيح وأمه لأنهما جملة من السموات والأرض فهما عبيده وفي ملكه . وقيل : هو جواب السؤال مضمر في الكلام كأنه لما وعد الصادقين بالثواب العظيم قيل من يعطيهم ذلك قال الذي له ملك السموات والأرض ومن فيهن { وهو على كل شيء قدير } والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه .(2/365)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
قوله عز وجل : { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } قال كعب الأحبار : هذه الآية أول آية في التوراة وآخر آية في التوراة قوله تعالى : { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً } الآية وفي رواية عنه أن آخر آية في التوراة آخر سورة هود قال ابن عباس : افتتح الله الخلق بالحمد فقال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وختمه بالحمد فقال تعالى : { وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } وفي قوله : الحمد لله ، تعليم لعباده كيف يحمدونه أي : قولوا الحمد لله . وقال أهل المعاني لفظه خبر ومعناه الأمر أي احمدوا الله وإنما جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر لأنه أبلغ من البيان من حيث إنه جمع الأمرين ولو قيل احمدوا الله لم يجمع الأمرين فكان قوله الحمد لله أبلغ وقد تقدم معنى الحمد في تفسير سورة فاتحة الكتاب بما فيه مقنع الذي خلق السموات والأرض أي احمدوا الله خلق السموات والأرض وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد لأن السماء بغير عمد ترونها وفيها العبر والمنافع والأرض مسكن الخلق وفيها أيضاً العبر والمنافع { وجعل الظلمات والنور } الجعل هنا بمعنى الخلق أي وخلق الظلمات والنور . قال السدي : يريد بالظلمات ، ظلمات الليل والنهار ، وبالنور ، نور النهار . وقال الحسن : يعني بالظلمات الكفر وبالنور الإيمان . وقيل : يعني بالظلمات الجهل وبالنور العلم . وقيل : الجنة والنار . وقال قتادة : خلق الله السموات قبل الأرض وخلق الظلمات قبل النور وخلق الجنة قبل النار .
روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه ضل » ذكره البغوي بغير سند { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } يعني والذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يشركون وأصل العدل ، مساواة الشيء بالشي . والمعنى : أنهم يعدلون بالله غي الله ويجعلون له عديلاً من خلقه فيعبدون الحجارة مع إقرارهم بأن الله خلق السموات والأرض . وقال النضر بن شميل : الباء في قوله بربهم بمعنى عن أي عن ربهم يعدلون وينحرفون من العدول عن الشيء وقبل دخول ثم في قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون دليل على معنى لطيف وهو أنه تعالى دل به على إنكاره على الكفار العدل به وعلى تعجيب المؤمنين من ذلك ومثال ذلك : أن تقول لرجل أكرمتك وأحسنت إليك وأنت تنكرني وتجحد إحساني إليك فتقول ذلك منكراً عليه ومتعجباً من فعله .(2/366)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
{ هو الذي خلقكم من طين } يعني أنه تعالى خلق آدم من طين وإنما خاطب ذريته بذلك لأنه أصلهم وهم من نسله وذلك لما أنكر المشركون البعث وقالوا مَن يحيي العظام وهي رميم أعلمهم بهذه الآية أنه خلقهم من طين وهو القادر على إعادة خلقهم وبعثهم بعد الموت . قال السدي : لما أراد الله عز وجل أن يخلق آدم بعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بقبضة منها ، فقالت الأرض : إني أعوذ بالله منك أن تقبض مني فراجع ولم يأخذ منها شيئاً فقال : يا رب عاذت بك فبعث الله ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث الله ملك الموت فعاذت منه فقال : وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره وأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء؛ فلذا اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم ثم قال الله لملك الموت رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم اجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب » أخرجه أبو داود والترمذي وأما قوله تعالى : { ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده } فاختلف العلماء في معنى ذلك فقال الحسن وقتادة والضحاك : الأجل الأول ، من وقت الولادة إلى وقت الموت . والأجل الثاني : من وقت الموت إلى البعث ، وهو البرزخ .
ويروى نحو ذلك عن ابن عباس قال : لكل أحد أجلان : أجل إلى الموت ، وأجل من الموت إلى البعث ، فإن كان الرجل براً تقياً وصولاً للرحم زيد له من أجل البعث إلى أجل العمر ، وإن كان فاجراً قاطعاً للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث وذلك قوله : { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الأجل الأول أجل الدنيا ، والأجل الثاني أجل الآخرة . وقيل : الأجل هو الوقت المقدر فأجل كل إنسان مقدر معلوم عند الله لا يزيد ولا ينقص .
والأجل الثاني : هو أجل القيامة وهو أيضاً معلوم مقدر عند الله لا يعلمه إلا الله تعالى وقال ابن عباس في رواية عطاء عنه ثم قضى أجلاً يعني النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع عند الانتباه وأجل مسمى عنده هو أجل الموت وقيل هما واحد ومعناه ثم قضى أجلاً يعني قدَّر لأعماركم تنتهون إليها وهو أجل مسمى عنده يعني أن ذلك الأجل عنده لا يعلمه إلا هو والمراد بقوله عنده يعني في اللوح المحفوظ الذي لا يطلع عليه غيره { ثم أنتم تمترون } يعني ثم أنتم تشكون في البعث .(2/367)
قوله عز وجل : { وهو الله في السموات وفي الأرض } يعني وهو إله السموات وإله الأرض . وقيل : معناه وهو المعبود في السموات وفي الأرض . وقال محمد بن جرير الطبري : معناه وهو في السموات { يعلم سركم وجهركم } في الأرض . وقال الزجاج : فيه تقديم وتأخير تقديره وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض . وقيل : معناه وهو المنفرد بالتدبير في السموات وفي الأرض لا شريك له فيهما . والمراد بالسر ، ما يخفيه الإنسان في ضميره فهو من أعمال القلوب وبالجهر وما يظهر الإنسان فهو من أعمال الجوارح والمعنى : أن الله لا يخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض { ويعلم ما تكسبون } يعني من خير أو شر ، بقي في الآية سؤال وهو أن الكسب إما أن يكون من أعمال القلوب وهو المسمى بالسر أو من أعمال الجوارح وهو المسمى بالجهر فالأفعال لا تخرج عن هذين النوعين يعني السر والجهر فقوله ويعلم ما تكسبون يقتضي عطف الشيء بالجهر فالأفعال لا تخرج عن هذين النوعين يعني السر والجهر فقوله ويعلم ما تكسبون يقتضي عطف الشيء على نفسه وذلك غير جائز فما معنى ذلك وأجيب عنه بأنه يجب حمل قوله ويعلم ما تكسبون على ما يستحقه الإنسان على فعله وكسبه من الثواب والعقاب والحاصل فيه أنه محمول على المكتسب فهو كما يقال : هذا المال كسب فلان أي مكتسبه ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف على نفسه ذكره الإمام فخر الدين .(2/368)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{ وما تأتيهم } يعني أهل مكة { من آية من آيات ربهم } يعني من المعجزات الباهرات التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل انشقاق القمر وغير ذلك وقيل المراد بالآيات آيات القرآن { إلا كانوا عنها معرضين } يعني إلا كانوا لها تاركين وبها مكذبين { فقد كذبوا بالحق } يعني بآيات القرآن وقيل بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أتى به من المعجزات { لما جاءهم } يعني لما جاءهم الحق من عند ربهم كذبوا به { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } يعني فسوف يأتيهم أخبار استهزائهم إذا عذبوا في الآخرة .
قوله تعالى : { ألم يروا } الخطاب لكفار مكة يعني ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتي { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } يعني مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم الماضية والقرون الخالية . والقرن الأمة من الناس وأهل كل زمان قرن سموا بذلك لاقترانهم في الوجود في ذلك الزمان وقيل سمي قرناً لأنه زمان بزمان وأمة بأمة واختلفوا في مقدار القرن ، فقيل : ثمانون سنة . وقيل : ستون سنة . وقيل : أربعون سنة . وقيل : مائة وعشرون ، وقيل : مائة سنة . وهو الأصح لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بشر المازني : « إنك تعيش قرناً » فعاش مائة سنة . فعلى هذا القول : المراد بالقرن أهله الذين وجدوا فيه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم » يعني أصحابي وتابعيهم وتابعي التابعين { مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم } يعني أعطيناهم ما لم نعطكم يا أهل مكة وقيل أمددناهم في العمر والبسطة في الأجسام والسعة في الأرزاق مثل إعطاء قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم { وأرسلنا السماء عليهم مدراراً } مفعال من الدر يعني وأرسلنا المطر متتابعاً في أوقات الحاجة إليه والمراد بالسماء المطر سمي بذلك لنزوله منها { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } يعني : وفجرنا لهم العيون تجري من تحتهم والمراد منه كثرة البساتين { فأهلكناهم بذنوبهم } يعني بسبب ذنوبهم وكفرهم { وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } يعني وخلفنا من بعد هلاك أولئك أهل قرن آخرين وفي هذه الآية ما يوجب الاعتبار والموعظة بحال من مضى من الأمم السالفة والقرون الخالية فإنهم مع ما كانوا فيه من القوة وسعة الرزق وكثرة الأتباع أهلكناهم لما كفروا وطغوا وظلموا فكيف حال من هو أضعف منهم وأقل عدداً وعدداً وهذا يوجب الاعتبار والانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة .
قوله عز وجل : { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } الآية . قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وإنك رسوله فأنزل الله تعالى هذه الآية { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } يعني من عندي يعني مكتوباً في قرطاس وهو الكاغد والصحيفة التي يكتب فيه { فلمسوه بأيديهم } يعني فعاينوه ومسوه بأيديهم وإنما ذكر اللمس ، ولم يذكر المعاينة ، لأنه أبلغ في إيقاع العلم بالشيء من الرؤية ، لأن المرئيات قد يدخلها التخيلات كالبحر ونحوه بخلاف الملموس { لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } يعني لو أنزلنا عليهم كتاباً كما سألوه لما آمنوا به ولقالوا هذا سحر مبين كما قالوا في انشقاق القمر وأنه لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي بهم .(2/369)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
{ وقالوا } يعني مشركي مكة { لولا } يعني هلا { أنزل عليه } يعني على محمد { ملك } يعني نراه عياناً { ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر } يعني لفرغ الامر ولوجب العذاب وهذه سنة الله في الكفار أنهم متى اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا استوجبوا العذاب واستؤصلوا به { ثم لا ينظرون } يعني أنهم لا يمهلون ولا يؤخرون طرفة عين بل يعجل لهم العذاب { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } يعني ولو أرسلنا إليهم ملكاً لجعلناه في صورة رجل وذلك أن البشر لا يستطيعون أن ينظروا إلى الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها ولو نظر إلى الملك ناظر لصعق عند رؤيته ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الأنس كما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وكما جاء الملكان إلى داود عليه السلام في صورة رجلين وكذلك أتى الملائكة إلى إبراهيم ولوط عليهما السلام ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته التي خلق عليها صعق لذلك وغشي عليه .
وقوله تعالى : { وللبسنا عليهم ما يلبسون } يقال لبست الأمر على القوم إذا أشبهته عليهم وجعلته مشكلاً ولبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته ومعنى الآية وخالطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدروا أملك هو أم آدمي وقيل في معنى الآية إنا لو جعلنا الملك في صورة البشر لظنوه بشراً فتعود المسألة بحالها أنا لا نرضى برسالة البشر ولو فعل الله عز وجل ذلك صار فعل الله مثل فعلهم في التلبيس وإنما كان تلبيساً لأنهم يظنون أنه ملك وليس بملك أو يظنون أنه بشر وليس وإنما كان فعلهم تلبيساً لأنهم لبسوا على ضعفتهم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنما هو بشر مثلكم ولو رأوا الملك رجلاً للحقهم من اللبس مثل ما لحق بضعفائهم فيكون اللبس نقمة من الله وعقوبة لهم على ما كان منهم من التخليط في السؤال واللبس على الضعفاء .
قوله عز وجل : { ولقد استهزئ برسل من قبلك } يعني كما استهزئ بك يا محمد وفي هذه الآية تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له عما كان من تكذيب المشركين إياه واستهزائهم به إذ جعل له أسوة في ذلك بالأنبياء الذين كانوا قبله { فحاق } أي فنزل وقيل : أحاط ، وقيل : حل { بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } والمعنى : فنزل العذاب بهم ووجب عليهم من النقمة والعذاب جزاء استهزائهم أو في هذه الآية تحذير للمشركين أن يفعلوا لنبيهم كما فعل من كان قبلهم بأنبيائهم فينزل بهم مثل ما نزل بهم { قل سيروا في الأرض } أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين سيروا في الأرض معتبرين ومتفكرين وقيل هو سير الأقدام { ثم انظروا } فعلى القول الأول يكون النظر نظرة فكرة وعبرة وهو بالبصيرة لا بالبصر وعلى القول الثاني يكون المراد بالنظر نظر العين والمعنى ثم انظروا بأعينكم إلى آثار الأمم الخالية والقرون الماضية السالفة وهو قوله تعالى : { كيف كان عاقبة المكذبين } يعني كيف كان جزاء المكذبين وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك فحذر كفار مكة عذاب الأمم الخالية .(2/370)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قوله عز وجل : { قل لمن ما في السموات والأرض قل لله } هذا سؤال وجواب المعنى قل يا محمد لهؤلاء المكذبين العادلين بربهم لمن ملك ما في السموات والأرض فإن أجابوك وإلا فأخبرهم أن ذلك لله الذي قهر كل شيء وملك كل شيء واستعبد كل شيء لا للأصنام التي تعبدونها أنتم فإنها موات لا تملك شيئاً ولا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً وإنما أمره بالجواب عقب السؤال ليكون أبلغ في التأكيد وآكد في الحجة ولما بين الله تعالى كمال قدرته وتصرفه في سائر مخلوقاته أردفه بكمال رحمته وإحسانه إليهم فقال تعالى : { كتب على نفسه الرحمة } يعني أنه تعالى أوجب وقضى على نفسه الرحمة وهذا استعطاف منه للمتولين عنه الإقبال عليه وإخبار بأنه رحيم بعباده وأنه لا يعجل بالعقوبة بل يقبل التوبة والإنابة ممن تاب وأناب ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي » وفي البخاري : « أن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش » وفي رواية لهما أن الله لما خلق الخلق ، وعند مسلم لما قضى الله الخلق كتب في كتاب كتبه على نفسه فهو موضوع عنده ، زاد البخاري على العرش ثم اتفقا « إن رحمتي تغلب غضبي » ( ق ) عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءاً واحداً فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه » زاد البخاري في رواية له ولو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من العذاب . ولمسلم إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ( م ) عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة » ( ق ) عن عمر قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي تبتغي إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/371)
« أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا لا والله وهي تقدر أن تطرحه فقال صلى الله عليه وسلم الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها »
وقوله تعالى : { ليجمعنكم } اللام في قوله ليجمعنكم لام القسم تقديره والله ليجمعنكم { إلى يوم القيامة } يعني في يوم القيامة وقيل معناه في قبوركم إلى يوم القيامة { لا ريب فيه } أي لا شك فيه أنه آت { الذين خسروا أنفسهم } يعني بالشرك بالله أو غبنوا أنفسهم باتخاذهم الأصنام فعرضوا أنفسهم لسخط الله وأليم عقابه فكانوا كمن خسر شيئاً وأصل الخاسر الغبن يقال خسر الرجل إذا غبن في بيعه { فهم لا يؤمنون } يعني لما سبق عليهم القضاء بالخسران فهو الذي حملهم على الامتناع عن الإيمان .
قوله تعالى : { وله ما سكن في الليل والنهار } يعني وله ما استقر وقيل ما سكن وما تحرك فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر وقيل إنما خص السكون بالذكر لأن النعمة فيه أكثر وقال ابن جرير كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن الليل والنهار فيكون المراد منه جميع ما حصل في الأرض من الدواب والحيوانات والطير وغير ذلك مما في البر والبحر وهذا يفيد الحصر والمعنى أن جميع الموجودات ملك لله تعالى لا لغيره { وهو السميع } لأقوالهم وأصواتهم { العليم } بسرائرهم وأحوالهم .(2/372)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قوله عز وجل : { قل أغير الله أتخذ ولياً } قال مقاتل لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائه أنزل الله هذه الآية فقال قل لهم يا محمد أغير الله اتخذ ولياً يعني رباً ومعبوداً وناصراً ومعيناً وهو استفهام ومعناه الإنكار أي لا أتخذ غير الله ولياً { فاطر السموات والأرض } أي خالق السموات والأرض ومبدعهما ومبدئهما { وهو يطعم ولا يطعم } يعني وهو يرزق ولا يرزق وصف الله عز وجل نفسه بالغني عن الخلق وباحتياج الخلق إليه لأن من كان من صفته أن يطعم الخلق لاحتياجهم إليه وهو لا يطعم لاستغنائه سبحانه وتعالى عن الإطعام فهو غني عن الخلق ومن كان كذلك وجب أن يتخذ رباً وناصراً وولياً ومعبوداً { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } يعني من هذه الأمة والإسلام بمعنى الاستسلام يعني أمرت أن استسلم لأمر الله وأنقاد إلى طاعته { ولا تكونن من المشركين } يعني وقيل لي يا محمد لا تكونن من المشركين { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى عبادة غيري إن ربي أمرني أن أكون أول من أسلم ونهاني عن عبادة شيء سواه وإني أخاف إن عصيت ربي فعبدت شيئاً سواه عذاب يوم عظيم وهو عذاب يوم القيامة { من يصرف عنه } يعني العذاب { يومئذ } يعني يوم القيامة { فقد رحمه } يعني بأن أنجاه من العذاب ومن أنجاه من العذاب فقد رحمه وأتاه الثواب لا محالة وإنما ذكر الرحمة من صرف العذاب لئلا يتوهم أنه صرف العذاب فقط بل تحصل الرحمة من صرف العذاب عنه { وذلك الفوز المبين } يعني أن صرف العذاب وحصول الرحمة هو النجاة والفلاح المبين .
قوله تعالى : { وإن يمسسك الله بضر } يعني بشدة وبلية والضر اسم جامع لما ينال الإنسان من ألم ومكروه وغير ذلك مما هو في معناه { فلا كاشف له إلا هو } يعني فلا يدفع ذلك الضر إلا الله عز وجل : { وإن يمسسك بخير } يعني بعافية ونعمة والخير اسم جامع لكل ما ينال الإنسان من لذة وفرح وسرور ونحو ذلك { فهو على كل شيء قدير } يعني من دفع الضر وجلب الخير . وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى : لا تتخذ ولياً سوى الله لأنه هو القادر على أن يمسك بضر وهو القادر على دفعه عنك وهو القادر على إيصال الخير إليك وأنه لا يقدر على ذلك إلا هو فاتخذه ولياً وناصراً ومعيناً . وهذا الخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو عام لكل أحد والمعنى وأن يمسسك الله بضر أيها الإنسان فلا كاشف لذلك الضر إلا هو وإن يمسسك بخير أيها الإنسان فهو على كل شيء قدير من دفع الضر وإيصال الخير .(2/373)
عن ابن عباس قال : « كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقيل لي يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف » أخرجه الترمذي زاد فيه رزين تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وفيه « وإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن الصبر على ما تكره خير كثير واعلم أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ولن يغلب عسر يسرين » قال ابن الأثير وقد جاء نحو هذا أو مثله بطوله في مسند أحمد بن حنبل .(2/374)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
قوله عز وجل : { وهو القاهر فوق عباده } يعني وهو الغالب لعباده القاهر لهم وهم مقهورون تحت قدرته والقاهر والقهار معناه الذي يدبر خلقه بما يريد فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن ويفقر ويميت ويذل خلقه فلا يستطيع أحد من خلقه رد تدبيره والخروج من تحت قهره وتقديره وهذا معنى القاهر في صفة الله تعالى لأنه القادر والقاهر الذي لا يعجزه شيء أراده ومعنى فوق عباده هنا أن قهره قد استعلى على خلقه فهم تحت التسخير والتذليل بما علاهم به من الاقتدار والقهر الذي لا يقدر أحد على الخروج منه ولا ينفك عنه فكل من قهر شيئاً فهو مستعل عليه بالقهر والغلبة . وقال ابن جرير الطبري : معنى القاهر المتعبد خلقه العالي عليهم وإنما قال فوق عباده لأنه تعالى وصف نفسه بقهره إياهم ومن صفة كل قاهر شيئاً أن يكون مستعلياً عليه فمعنى الكلام إذاً والله الغالب عباده المذلل لهم العالي عليهم بتذليله إياهم فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه . وقيل : فوق عباده هو صفة الاستعلاء الذي تفرد به الله عز وجل : { وهو الحكيم } يعني في أمره وتدبير عباده { الخبير } يعني بأعمالهم وما يصلحهم .
قوله عز وجل : { قل أي شيء أكبر شهادة } قال الكلبي أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أرنا من يشهد أنك رسول الله فإنا لا نرى أحداً يصدقك ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر فأنزل الله عز وجل قل يعني يا محمد لهؤلاء المشركين الذي يكذبونك ويجحدون نبوتك من قومك أي شيء أكبر شهادة يعني أعظم شهادة فإن هم أجابوك وإلا { قل } أنت يا محمد { الله شهيد بيني وبينكم } قال مجاهد أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يسأل قريشاً أي شيء أكبر شهادة ثم أمره أن يخبرهم فيقول الله شهيد بيني وبينكم يعني يشهد لي بالحق وعليكم بالباطل الذي تقولونه والحاصل أنهم طلبوا شاهداً مقبول القول يشهد له بالنبوة فبيَّن الله تعالى بهذه الآية أن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى ثم بيَّن أنه يشهد له بالنبوة وهو المراد بقوله : { وأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به } يعني أن الله عز وجل يشهد لي بالنبوة لأنه أوحى إليّ هذا القرآن وهو معجزة لأنكم أنتم الفصحاء البلغاء وأصحاب اللسان وقد عجزتم عن معارضته فكان معجزاً وإذا كان معجزاً كان نزوله على شهادة من الله بأني رسوله وهو المراد بقوله لأنذركم به يعني أوحي إلى هذا القرآن لأخوفكم به وأحذركم مخالفة أمر الله عز وجل : { ومن بلغ } يعني وأنذر من بلغه القرآن ممن يأتي بعدي إلى يوم القيامة من العرب والعجم وغيرهم من سائر الأمم فكل من بلغ إليه القرآن وسمعه فالنبي صلى الله عليه وسلم نذير له قال محمد بن كعب القرظي من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه وقال أنس بن مالك لما نزلت هذه الآية كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل ( خ ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(2/375)
« بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار »
( شرح ما يتعلق بهذا الحديث )
فيه الأمر بإبلاغ ما جاء به النبي صلى الله عيله وسلم إلى من بعده من قرآن وسنة وقوله وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج الحرج الضيق والإثم ومعنى الحديث أنه مهما قلتم عن بني إسرائيل فإنهم كانوا في حال أكثر مما قلتم وأوسع وليس هذا فيه إباحة الكذب والإخبار عن بني إسرائيل لكن معناه الرخصة في الحديث عنهم على بعض البلاغ وإن لم يتحقق ذلك بنقل لأنه أمر قد تعذر لبعد المسافة وطول المدة عن ابن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « نضر الله أمرأ سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى له من سامع » أخرجه الترمذي وله عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه » عن ابن عباس قال « تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منك » أخرجه أبو داود موقوفاً .
وقوله تعالى : { أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى } يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذي جحدوا نبوتك واتخذوا آلهة غيري إنكم أيها المشركون لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها وإنما قال أخرى لأن الجمع يلحقه التأنيث كما قال تعالى : { ولله الأسماء الحسنى } { فما بال القرون الأولى } ولم يقل الأول ولا الأولين { قل لا أشهد } يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين لا أشهد بما تشهدون به أن مع الله آلهة أخرى بل أجحد ذلك وأنكره { قل إنما هو إله واحد } يعني قل لهم إنما الله إله واحد ومعبود واحد لا شريك له وبذلك أشهد { وإنني برئ مما تشركون } يعني أنا برئ من كل شيء تعبدونه سوى الله وفي هذه الآية دليل على إثبات التوحيد لله عز وجل وإبطال كل معبود سواه لأن كلمة إنما تفيد الحصر ولفظة الواحد صريح في التوحيد ونفي الشريك فثبت بذلك إيجاب التوحيد وسلب كل شريك والتبرؤ من كل معبود سوى الله تعالى قال العلماء يستحب لكل من أسلم أن يأتي بالشهادتين ويبرأ من كل دين خالف الإسلام لقوله تعالى : { وإنني برئ مما تشركون } .(2/376)
قوله عز وجل : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } المراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن كفّار مكة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنا سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر وأنكروا معرفته بين الله عز وجل أن شهادته له كافية على صحة نبوته وبين في هذه الآية أنهم يعرفونه وأنهم كذبوا في قولهم إنهم لا يعرفونه . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر بن الخطاب : إن الله عز وجل أنزل على نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بمكة { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام : يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم مني بابني فقال عمر وكيف ذاك؟ قال أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً ولا أدري ما يصنع النساء .
وقوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم } يعني : أهلكوا أنفسهم وغبنوها وأوبقوها في نار جهنم بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وفي الذينه خسروا أنفسهم قولان : أحدهما : أنه صفة الذين الأولى ويكون المقصود من ذلك وعيد المعاندين الذين يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم ويجحدون نبوته وهم كفار أهل الكتابين { فهم لا يؤمنون } يعني به .
والقول الثاني : إنه كلام مبتدأ ولا تعلق له بالأول وهم كفار مكة الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وذكروا في معنى الخسار وجهين : أحدهما : أنه الهلاك الدائم الذي حصل لهم بسبب كفرهم وإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
والوجه الثاني : أنه جعل لكل واحد من بني آدم منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل الكفار التي في الجنة وجعل للكفار منازل المؤمنين التي في النار فذلك هو الخسران .(2/377)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
قوله تعالى : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } يعني ومن أشد عناداً وأخطأ فعلاً وأعظم كفراً ممن اختلق على الله كذباً فزعم أن له شريكاً من خلقه وإلهاً يعبد من دونه كما قال المشركون من عبدة الأصنام ، أو ادعى أن له صاحبه وولداً كما قلت النصارى { أو كذب بآياته } يعني كذب بحجته وأعلام أدلته التي أعطاها رسله كما كذبت اليهود بمعجزات الأنبياء وقيل معناه أو كذب بآيات القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم { إنه لا يفلح الظالمون } يعني أنه لا ينجح القائلون على الله الكذب والمفترون على الله الباطل { ويوم نحشرهم جميعاً } أي اذكر يوم نحشر العابدين والمعبودين وهو يوم القيامة { ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون } يعني أنها تشفع لكم عند ربكم .
قوله عز وجل : { ثم لم تكن فتنتهم } يعني قولهم وجوابهم وقال ابن عباس معذرتهم والفتنة التجربة ، فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل له فتنة قال الزجاج في قوله ثم لم تكن فتنتهم معنى لطيف وذلك أن الرجل يفتتن بمحبوب ثم تصيبه فيه محنة فيبرأ من محبوبه فيقال لم تكن فتنته إلا بذلك المحبوب فكذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ثم لما رأوا العذاب تبرؤوا منها . يقول الله تبارك وتعالى ثم لم تكن فتنتهم ومحبتهم للأصنام إلا أن تبرؤوا منها وهو قوله تعالى : { إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } وذلك إذا شاهدوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى لأهل التوحيد فيقول بعضهم لبعض تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو من أهل التوحيد فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال الله تعالى : { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } يعني انظر يا محمد بعين البصيرة والتأمل إلى حال هؤلاء المشركين كيف كذبوا على أنفسهم يعني اعتذارهم بالباطل وتبرؤهم من الأصنام والشرك الذي كانوا عليه واستعمالهم الكذب مثل ما كانوا عليه في دار الدنيا وذلك لا ينفعهم وهو قوله : { وضل عنهم } يعني زال عنهم وذهب { ما كانوا يفترون } يعني ما كانوا يكذبون وهو قولهم إن الأصنام تشفع لهم وتنصرهم فبطل ذلك كله في ذلك اليوم .(2/378)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
قوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك } الآية . قال الكلبي : اجتمع أبو سفيان صخر بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحارث بن عامر يستمعون القرآن فقالوا للنضر يا أبا قتيبة ما يقول محمد؟ قال : ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية . وكان النضر كثير الحديث عن القرون الماضية وأخبارها فقال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول حقاً . فقال أبو جهل : كلا لا تقر بشيء من هذا وفي رواية للموت أهون علينا من هذا فأنزل الله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك } يعني إلى كلامك وقراءتك يا محمد { وجعلنا على قلوبهم أكنة } يعني أغطية جمع كنان { أن يفقهوه } يعني لئلا يفقهوه أو كراهية أن يفقهوه { وفي آذانهم وقراً } يعني وجعلنا في آذانهم صمماً وثقلاً وفي هذا دليل على أن الله تعالى يقلب القلوب فيشرح بعضها للهدى والإيمان فتقبله ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن به : { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } يعني : كل معجزة من المعجزات الدالة على صدقك لا يؤمنوا بها يعني لا يصدقوا بها ولا يقروا أنها دالة على صدقك { حتى إذا جاؤوك يجادلونك } يعني أنهم إذا رأوا الآيات واستمعوا القرآن إنما جاؤوا ليجادلوك ويخاصموك لا ليؤمنوا بها { يقول الذين كفروا إن هذا } أي ما هذا القرآن { إلا أساطير الأولين } يعني أحاديث الأولين من الأمم الماضية وأخبارهم وأقاصيصهم . وما سطروا : يعني وما كتبوا والأساطير جمع أسطورة وأسطارة . وقيل : واحدها سطر وأسطار جمع وأساطير جمع الجمع فعلى هذا لو قال قائل : لمَ عابوا القرآن وجعلوه أساطير الأولين وقد سطر الأولون في كتبهم الحكم والعلوم النافعة وما لا يعاب قائله؟ أجيب عنه : بأنهم إنما نسبوا القرآن إلى أساطير الأولين بمعنى أنه ليس بوحي من الله تعالى وإنما هو أخبار مجردة كما تروى أخبار الأولين . وقيل في معنى أساطير الأولين : إنها الترهات وهي عند العرب طرق غامضة ومسالك وعرة مشكلة . يقول قائلهم : أخذنا في الترهات ، بمعنى عدلنا عن الطريق الواضح إلى الطريق المشكل الذي لا يعرض فجعلت الترهات مثلاُ لما لا يعرف ولا يتضح من الأمور المشكلة الغامضة التي لا أصل لها .
قوله عز وجل : { وهم ينهون عنه } يعني ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم { وينأون عنه } يعني ويتباعدون عنه بأنفسهم نزلت في كفار مكة كانوا يمنعون الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وعن الاجتماع به وينهون عن استماع القرآن وكانوا هم كذلك .(2/379)
وقال ابن عباس : نزلت في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى المشركين عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعه منهم وينأى هو بنفسه عن الإيمان به بمعنى يبعد حتى روي أنه اجتمع إليه رؤوس المشركين وقالوا له خذ شاباً من أصبحنا وجهاً وادفع إلينا محمد . فقال : ما أنصفتموني أدفع إليكم ابني محمداً لتقتلوه ، وأربي لكم ابنكم وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا طالب إلى الإيمان فقال لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك ولكن أذنب عنك ما حييت وقال في ذلك أبياتاً :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر بذاك وقر منه عيونا
ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت ديناً قد علمت بأنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
وقوله تعالى : { وإن يهلكون إلا أنفسهم } يعني لا يرجع وبال كفرهم وفعلهم إلا عليهم { وما يشعرون } يعني بذلك .(2/380)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
قوله تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } يعني في النار فوضع على موضع في : كقوله : { على ملك سليمان } أي في ملك سليمان وقيل معناه إذ عرضوا على النار وجواب لو محذوف . والمعنى : ولو ترى الكفار الذين ينهون عنك وينأون عنك يا محمد في تلك الحالة لرأيت أمراً عجيباً وموقفاً فظيعاً { فقالوا } يعني الكفار { يا ليتنا نردّ } يعني إلى الدنيا { ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } تمنوا أن يردوا إلى الدنيا مرة أخرى حتى يؤمنوا ولا يكذبوا بآيات ربهم فرد الله عليهم ذلك فقال تعالى : { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } يعني ليس الأمر كما قالوا لو ردوا إلى الدنيا لأمنوا بل ظهر لهم ما كانوا يسرون في الدنيا من الكفر والمعاصي . وقيل : ظهر لهم ما كانوا يخفون من قولهم والله ربنا ما كنا مشركين أخفوا شركهم وكتموه فأظهره الله عليهم حين شهدت عليهم جوارحهم بما كتموا وستروا من شركهم وقيل ظهر لهم ما أخفوا من الكفر فعلى هذا تكون الآية في المنافقين { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } يعني في قولهم لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين : { وقالوا إن هذه إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } وهذا خبر عن حال منكري البعث وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخر الكفار عن أحوال القيامة وأهوالها وما أعد الله في الآخرة من الثواب للمؤمنين المطيعين وما أعد الله من العقاب للكفار والعاصين قالوا ، يعني الكفار ، إن هي أي ما هي إلا حياتنا الدنيا ، أي ، ليس لنا غير هذه الدنيا التي نحن فيها وما نحن بمبعوثين يعني بعد الموت . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا خبر من الله عن هؤلاء الكفار الذي وقفوا على النار أنهم لو ردوا إلى الدنيا لقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين .
قوله عز وجل : { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } يعني على حكم ربهم وقضائه ومسألته وقال مقاتل عرضوا على ربهم { قال أليس هذا بالحق } أي يقول الله يوم القيامة أليس هذا البعث والنشر بعد الموت الذي كنتم تنكرونه في الدنيا وتكذبون به وتقولون لا بعث ولا نشور حقاً { قالوا بلى وربنا } يعني أنهم اعترفوا بما كانوا ينكرونه فأجابوا وقالوا بلى والله إنه لَحق . وقيل : تقول لهم خزنة لانار بأمر الله أليس هذا بالحق يعني البعث حقاً فأجابوا بقولهم بلى وربنا قال ابن عباس : للقيامة مواقف ففي موقف ينكرون ويقولون والله ربنا ما كنا مشركين وفي موقف يعترفون بما كانوا ينكرونه في الدنيا { قال فذوقوا العذاب } أي يقول الله لهم ذلك أو الخزنة تقول لهم ذلك بأمر الله تعالى . وإنما خص لفظ الذوق ، لأنهم في كل حال يجدون ألم العذاب وجدان الذائق في شدة الإحساس { بما كنتم تكفرون } يعني هذا العذاب بسبب كفركم وجحودكم البعث بعد الموت .(2/381)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
قوله تعالى : { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } يعني خسروا أنفسهم بسبب تكذيبهم بالمصير إلى الله تعالى وبالبعث بعد الموت وهذا الخسران هو فوت الثواب العظيم في دار النعيم المقيم وحصول العذاب الأليم ، في دركات الجحيم { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة } يعني جاءتهم القيامة فجأة وسميت القيامة ساعة : لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تبارك وتعالى . وقيل : سميت ساعة لسرعة الحساب فيها لأن حساب الخلائق يوم القيامة يكون في ساعة أو أقل من ذلك { قالوا } يعني منكري البعث وهم كفار قريش ومن سلك سبيلهم في الكفر والاعتقاد { يا حسرتنا } يعني : يا ندامتنا والحسرة التلهف على الشيء الفائت وذكرت على وجه النداء للمبالغة والمراد تنبيه المخاطبين على ما وقع بهم من الحسرة { على ما فرطنا } يعني قصرنا { فيها } يعني في الدنيا لأنها موضع التفريط في الأعمال الصالحة والمعنى يا حسرتنا على الأعمال الصالحة التي فرطنا فيها في دار الدنيا . وقال محمد بن جرير الطبري : الهاء والألف في قوله فيها تعود إلى الصفقة ولكن اكتفى بدلالة قوله قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله عليها من ذكرها إذ كان معلوماً أن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرى ومعنى الآية قد وكس الذين كذبوا بلقاء الله ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به رضوان الله وجنته بالكفر الذي يستوجبون به سخط الله وعقوبته وهم لا يشعرون بذلك حتى تقوم الساعة .
فإذا جاءتهم الساعة بغتة ورأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم قالوا حينئذ : يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وروى الطبرى بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله يا حسرتنا ، قال : « يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون يا حسرتنا » .
وقوله تعالى : { وهم يحملون أوزارهم } يعني أثقالهم : { على ظهورهم } والأوزار : الخطايا والذنوب . وأصل الوزر : الثقل والحمل . يقال : وزرته إذا حملته وإنما قيل للذنوب أوزار ، لأنها تثقل ظهر من يحملها . قال قتادة والسدي : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحاً فيقول هل تعرفني؟ فيقول لا فيقول أنا عملك الصالح فاركبني فقد طالما ركبتك في الدنيا فذلك قوله : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً } يعني ركباناً .
وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً فيقول هل تعرفني؟ فيقول لا فيقول أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك فذلك معنى قوله { وهم يحملون أوزراهم على ظهورهم } .
وقال عمر بن هانئ : يحشر مع كل كافر عمله في صورة رجل قبيح كلما رأى هو صورته وقبحه زاده الله خوفاً فيقول له بئس الجليس أنت فيقول أنا عملك طالما ركبتني فلأركبنك اليوم حتى أخزيك على رؤوس الخلائق فيركبه ويتخطى به الناس حتى يقف بين يدي ربه تعالى فذلك قوله تعالى : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } .(2/382)
وقال الزجاج : الثقل كما يذكر في الوزن فقد يذكر في الحال والصفة يقال ثقل علي كلام فلان بمعنى كرهته فالمعنى أنهم يقاسون من ألم عقاب ذنوبهم مقاساة تثقل ذلك عليهم فعلى هذا القول يكون قوله { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } مجازاً عما يقاسونه من شدة العذاب . وقيل في معنى الآية : أوزارهم لا تزايلهم كما تقول شخصه نصب عيني أي ذكره ملازم لي { ألا ساء ما يزرون } يعني بئس الشيء شيئاً يحملونه .
وقال ابن عباس : بئس الحمل حملوا . قوله عز وجل : { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } أي باطل وغرور لا بقاء لها وهذا فيه رد على منكري البعث في قولهم { إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } فقال الله رداً عليهم وكذباً لهم { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } وهل المراد بهذه الحياة حياة المؤمن أو الكافر قولان : أحدهما : إن المراد بها حياة الكافر لأن المؤمن لا يزداد بحياته في الدنيا إلا خيراً لأنه يحصل في أيام حياته من الأعمال الصالحة والطاعة ، ما يكون سبباً لحصول السعادة في الآخرة؛ وأما الكافر فإن كل حياته في الدنيا وبال عليه قال ابن عباس يريد حياة أهل الشرك والنفاق .
والقول الثاني : إن هذا عام في حياة المؤمن والكافر لأن الإنسان يلتذ باللعب واللهو ثم عند انقضائه تحصل له الحسرة والندامة لأن الذي كان فيه من اللعب واللهو سريع الزوال لا بقاء له فبان بهذا التقرير أن المراد بهذه الحياة حياة المؤمن والكافر وأنه عام فيهما . وإنما شبه الحياة الدنيا باللعب واللهو لسرعة زوالها وقصر عمرها كالشيء الذي يُلعب به .
وقيل : معناه إن أمر الدنيا والعمل لها لعب ولهو فأما فعل الخير والعمل الصالح فهو من فعل الآخرة وإن كان وقوعه في الدنيا وقيل معناه وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو لأنه لا يجدي شيئاً ولاشتغالهم عما أمروا به ونسبوا إلى اللعب وقوله تعالى : { وللدار الآخرة } يعني الجنة واللام فيه لام القسم تقديره والله لدار الآخرة { خير } يعني من الدنيا وأفضل لأن الدنيا سريعة الزوال والانقطاع { للذين يتقون } يعني الشرك . وقيل : يتقون اللعب واللهو { أفلا تعقلون } إن الآخرة خير من الدنيا فيعملون لها .
قوله تعالى : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } يعني قد نعلم يا محمد إنه ليحزنك الذي يقوله المشركون لك ، قال السدي : التقى الأخنس بن شريق أبو جهل بن هشام فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال أبو جهل : والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله هذه الآية وقال ناجبة بن كعب : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما نتهمك ولا نكذبك ولكنا نكذب الذي جئت به ، فأنزل الله هذه الآية .(2/383)
عن علي بن أبي طالب أن أبا جهل قال للنبي إنا لا نكذبك ولكنا نكذب بما جئت به فأنزل الله فيهم { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } أخرجه الترمذي من طريقين وقال في أحدهما وهذا أصح ، ففي هذا الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية عما يواجهه به قومه لأنهم كانوا يعتقدون صدقه وأنه ليس بكذاب وإنما حملهم على تكذيبه على تكذيبه في الظاهر الحسد والظلم : { فإنهم لا يكذبونك } يعني أنهم لا يكذبونك في السر ، لأنهم قد عرفوا أنك صادق { ولكن الظالمين } يعني الكافرين { بآيات الله يجحدون } يعني في العلانية وذلك أنهم جحدوا القرآن بعد معرفة الصدق الذي أنزل عليه لعنادهم وكفرهم كما قال الله تعالى في حق غيرهم ، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً . وقيل : ظاهر الآية يدل على أنهم لم يكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم وإنما جحدوا آيات الله وهي القرآن الدال على صدقه ، فعلى هذا يكون المعنى : فإنهم لا يكذبونك لأنهم قد عرفوا صدقك وإنما جحدوا صحة نبوتك ورسالتك .(2/384)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
قوله عز وجل : { ولقد كذبت رسل من قبلك } يعني ولقد كذبت الأمم الخالية رسلهم كما كذبك قومك : { فصبروا على ما كذبوا وأوذوا } يعني أن الرسل عليهم السلام صبروا على تكذيب قومهم إياهم وصبروا على أذاهم ، فاصبر أنت يا محمد على تكذيب قومك وأذاهم لك كما صبر مَن كان قبلك من الرسل وهذا فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وإزالة حزنه على تكذيب قومه له وأذاهم إياه { حتى أتاهم نصرنا } يعني بإهلاك من كذبهم { ولا مبدل لكلمات الله } يعني ولا ناقض لما حكم الله به من إهلاك المكذبين ونصر المسلمين كما قال { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لَهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } وقال الله تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } ولا خلف فيما وعد الله به .
وقوله تعالى : { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } يعني ولقد أنزلت عليك في القرآن من أخبار المرسلين ما فيه تسلية لك وتسكين لقلبك . وقال الأخفش : من هنا صلة كما تقول أصابنا من مطر وقال غيره بل هي للتبعيض لأن الواصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قصص بعض الأنبياء وأخبارهم كما قال تعالى : { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } قوله تعالى : { إن كان كبر عليك إعراضهم } ذكر ابن الجوزي في سبب نزول هذه الآية : أن الحارث بن عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش فقال : ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات فإن فعلت آمنا بك فنزلت هذه الآية . رواه أبو صالح عن ابن عباس . ومعنى الآية : وإن كان عظم عليك يا محمد إعراض هؤلاء المشركين عنك وعن تصديقك والإيمان بك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص وكان إذا سألوه آية أحب أن يريهم الله ذلك طعماً في إيمانهم فقال الله عز وجل : { فإن استطعت أن تبتغي } يعني تطلب وتتخذ { نفقاً في الأرض } يني سرباً في الأرض والنفق سرب في الأرض تخلص منه إلى مكان آخر { أو سلماً في السماء } يعني : أو تتخذ مصعداً إلى السماء والسلم المصعد وهو مشتق من السلامة { فتأتيهم بآية } يعني بالآية : التي سألوا عنها . ومعنى الآية وإن كان كبر وعظم عليك إعراض قومك عن الإيمان بك فإن قدرت أن تذهب في الأرض أو تصعد إلى السماء فتأتيهم بآية تدلهم على صدقك فافعل وإنما حسن حذف جواب الشرط لأنه معلوم عند السامع والمقصود من هذا أن يقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعه عن إيمانهم ولا يتأذى بسبب إعراضهم عنه وعن الإيمان به ويدل عليه قوله تعالى : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } أخبر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم إنما تركوا الإيمان وأعرضوا عنه وأقبلوا على الكفر بمشيئة الله تعالى ونافذ قضائه فيهم وأنه لو شاء لجمعهم على الهدى : { فلا تكونن من الجاهلين } يعني بأن لو شاء الله لجمعهم على الهدى وأنه يؤمن بك بعضهم دون بعض وقيل معناه لا يشتد تحسرك على تكذيبهم ، إياك ولا تجزع من إعراضهم عنك فتقارب حال الجاهلين الذين لا صبر لهم وإنما نهاه عن هذه الحالة وغلَّط له الخطاب تبعيداً له عن هذه الحالة .(2/385)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
قوله عز وجل : { إنما يستجيب الذين يسمعون } يعني المؤمنين الذين فتح الله أسماع قلوبهم فهم يسمعون الحق ويستجيبون له ويبغونه وينتفعون به دون من ختم الله على سمع قلبه وهو قوله { الموتى } يعني الكفار الذين لا يسمعون ولا يستجيبون { يبعثهم الله } يعني يوم القيامة { ثم إليه يرجعون } فيجزيهم بأعمالهم { وقالوا } يعني رؤساء كفار قريش { لولا } يعني هلا { نزل عليه آية من ربه } يعني الملك ليشهد لمحمد بالنبوة وقيل الآية المعجزة الباهرة كمثل معجزات الأنبياء { قل } يعني قل لهم يا محمد { إن الله قادر على أن ينزل آية } يعني أنه تعالى قادر على إيجاد ما طلبوه وإنزال ما اقترحوه من الآيات والمعجزات الباهرات { ولكن أكثرهم لا يعلمون } يعني ماذا عليهم في إنزالها من العذاب إن لم يؤمنوا بها وقيل معناه إنهم لا يعلمون أن الله قادر على إنزال الآيات وقيل إنهم لا يعلمون وجه المصلحة في إنزالها قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } قال العلماء : جميع ما خلق الله عز وجل لا يخرج عن هاتين الحالتين إما أن يدب على الأرض ، أو يطير في الهواء ، حتى ألحقوا حيوان الماء بالطير ، لأن الحيتان تسبح في الماء كما أن الطير يسبح في الهواء . وإنما خص ما في الأرض بذكر دون ما في السماء وإن كان ما في السماء مخلوقاً لأن الاحتجاج بالشاهد أظهر وأولى مما لا يشهد وإنما ذكر الجناح في قوله بجناحيه للتوكيد كقولك كتبت بيدي ونظرت بعيني إلا أمم أمثالكم .
قال مجاهد : أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها . يريدون أن كل جنس من الحيوان أمة فالطير أمة والدواب أمة والسباع أمة تعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم كما يقال الإنس والناس ويدل على أن كل جنس من الدواب أمة ما روي عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم » أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي .
فإن قلت ثبت بالآية والحديث أن الدواب والطير أمم أمثالنا وهذه المماثلة لم تحصل من كل الوجوه فيما يظهر لنا فما وجه هذه المماثلة .
قلت : اختلف العلماء في وجه هذه المماثلة فقيل : إن هذه الحيوانات تعرف الله وتوحده وتسبّحه وتصلي له كما أنكم تعرفون الله وتوحدونه وتسبحونه وتصلّون له . وقيل : إنها مخلوقة لله كما أنكم مخلوقون لله عز وجل وقيل إنها يفهم بعضها عن بعض ويألف بعضها بعضاً كما أن جنس الإنسان يألف بعضهم بعضاً ويفهم بعضهم عن بعض . وقيل : أمثالكم في طلب الرزق وتوقي المهالك ومعرفة الذكر والأنثى .(2/386)
وقيل : أمثالكم في الخلق والموت والبعث بعد الموت للحساب حتى يقتص للجماء من القرنا وهو قوله تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } يعني في اللوح المحفوظ لأنه يشمل جميع أحوال المخلوقات وقيل إن المراد بالكتاب القرآن يعني أن القرآن مشتمل على جميع الأحوال : { ثم إلى ربهم يحشرون } يعني الدواب والطير قال ابن عباس : حشرها موتها . وقال أبو هريرة يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني تراباً ( م ) .
عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاء القرناء »(2/387)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
قوله عز وجل : { والذين كذبوا بآياتنا } يعني بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل : كذبوا بحجج الله وأدلته على توحيده { صم } يعني عن سماع الحق { وبكم } يعني عن النطق به والمعنى أنهم في حال كفرهم وتكذيبهم كمن لا يسمع ولا يتكلم ، ولهذا شبه الكفار بالموتى لأن الميت لا يسمع ولا يتكلم { في الظلمات } يعني في ظلمات الكفر ، حائرين مترددين فيها لا يهتدون سبيلاً { من يشأ الله يضلله } يعني عن الإيمان { ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } يعني ومن يشأ يجعله الله على دين الإسلام وفي هذا دليل على أن الهادي والمضل هو الله تعالى فمن أحب هدايته وفقه بفضله وإحسانه للإيمان به ومن أحب ضلالته تركه على كفره وهذا عدل منه لأنه تعالى هو الفاعل المختار لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
قوله تعالى : { قل أرأيتكم } يعني : قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين تركوا عبادة الله عز وجل وعبدوا غيره من الأصنام أخبروني تقول العرب أرأيتك بمعنى أخبرنا بحالك وأصله أرأيتم والكاف فيه للتأكيد : { إن أتاكم عذاب الله } يعني قبل الموت مثل ما نزل بالأمم الماضية الكافرة من : الغرق والخسف والمسخ والصواعق ونحو ذلك من العذاب { أو أتتكم الساعة } يعني القيامة { أغير الله تدعون } يعني في كشف العذاب عنكم { إن كنتم صادقين } يعني في دعواكم . ومعنى الآية أن الكفار كانوا إذا نزل بهم شدة وبلاء رجعوا إلى الله بالتضرع والدعاء وتركوا الأصنام فقيل لهم : أترجعون إلى الله في حال الشدة والبلاء ولا تعبدونه ولا تطيعونه في حال اليسر والرخاء؟ { بل إياه تدعون } يعني بل تدعون الله ، ولا تدعون غيره في كشف ما نزل بكم { فيكشف ما تدعون إليه إن شاء } يعني فيكشف الضر الذي من أجله دعوتموه وإنما قيد الإجابة بالمشيئة رعاية للمصلحة وإن كانت الأمور كلها بمشيئة الله تعالى : { وتنسون ما تشركون } يعني : وتتركون دعاء الأصنام التي تعبدونها فلا تدعونها لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع وقيل معناه أنكم في ترككم دعاء الأصنام بمنزلة من قد نسيها؛ وهذا معنى قول الحسن لأنه قال وتعرضون إعراض الناس لها .
قوله تعالى : { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } في الآية محذوف والتقدير ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك يا محمد رسلاً فخالفوهم وكفروا وحسن هذا الحذف لكونه معلوماً عند السامع { فأخذناهم بالبأساء } يعني بالفقر الشديد وأصله من البؤس وهو الشدة والمكروه وقيل : البأساء ، شدة الجوع { والضراء } يعني الأمراض والأوجاع والزمانة { لعلهم يتضرعون } يعني يخضعون ويتوبون والتضرع التخشع والتذلل والانقياد وترك التمرد وأصله من الضراعة وهي الذلة . ومقصود الآية ، أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قد أرسل من قبله رسلاً إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالبأساء والضراء وهي الشدة في النفس والمال فلم يخضعوا ولم يتضرعوا ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم { فلولا } يعني فهلا { إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } معناه نفي التضرع فلم يتضرعوا { ولكن قست قلوبهم } يعني ولكن غلظت قلوبهم فلم تضرع ولم تخشع بل أقاموا على كفرهم وتكذيبهم رسلهم { وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } يعني من الكفر والتكذيب وتزيين الشيطان إغواؤه بما في المعصية من اللذة . قال ابن عباس : يريد زين الشيطان الضلالة التي كانوا عليها فأصروا على معاصي الله عز وجل .(2/388)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
قوله عز وجل : { فلما نسوا ما ذكروا به } أي تركوا ما وعظوا به وقيل تركوا العمل بما أمرتهم به الرسل وإنما كان النسيان بمعنى الترك لأن التارك للشيء معرضاً عنه كأنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } يعني بدلنا مكان البأساء والرخاء والسعة في الرزق والعيش ومكان الضراء الصحة والسلامة في الأبدان والأجسام وذلك استدراج منه لهم . وقيل : فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الخير كان مغلقاً عنهم { حتى إذا فرحوا بما أوتوا } يعني فرحوا بما أوتوا من السعة والرخاء والصحة في الأبدان والمعيشة وظنوا أن ما كان نزل بهم من الشدة لم يكن انتقاماً من الله تعالى فإنهم لما فتح الله عليهم ما فتح من الخير والسعة فرحوا به وظنوا أن ذلك باستحقاقهم وهذا فرح قارون بما أوتي من الدنيا { أخذناهم بغتة } يعني جاءهم عذابنا فجأة من حيث لا يشعرون قال الحسن مكر بالقوم ورب الكعبة ، وقال أهل المعاني : إنما أخذوا في حال الرخاء والسلامة ليكون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من حال السلامة والعافية والتصرف فى ضروب اللذة ، فأخذناهم في آمن ما كانوا وأعجب ما كانت الدنيا إليهم { فإذا هم مبلسون } أى آيسون من كل خير ، وقال الفراء المبلس اليائس المتقطع رجاءه ولذلك يقال لمن يسكت عند انقطاع حجته ولا يكون له جواب قد أبلس وقال الزجاج المبلس الشديد الحزن والحسرة وقال أبو عبيدة المبلس النادم والحزين والإبلاس هو الإطراق من الحزن والندم روى عقب بن عامر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال « إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج ثم تلا { فلما نسوا ما ذكروا به } الآية » ذكره البغويي بغير سند وأسند ه الطبري .
وقوله تعالى : { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } أي آخرهم الذي يدبرهم . يقال : دبر فلان القوم ، إذا كان آخرهم . والمعنى : أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم تبق منهم باقية { والحمد لله رب العالمين } قال الزجاج : حمد الله نفسه على أن قطع دابرهم واستأصل شأفتهم ومعنى هذا أن قطع دابرهم نعمة أنعم الله بها على الرسل الذين أرسلوا اليهم فكذبوهم فذكر الحمد تعليماً للرسل ولمن آمن بهم ليحمدوا الله على كفايتهم إياهم شر الذين ظلموا وليحمد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ربهم ، إذ أهلك المشركين المكذبين . وقيل : معناه الثناء الكامل والشكر الدائم لله رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته بإظهار حجتهم على من خالفهم وإهلاك أعدائهم واستئصالهم العذاب .(2/389)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
قوله تعالى : { قل أرأيتم } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين : { إن أخذ الله سمعكم } يعني الذي تسمعون به فأصمكم حتى لا تسمعوا شيئاً { وأبصاركم } يعني وأخذ أبصاركم التي تبصرون بها فأعماكم حتى لا تبصروا شيئاً أصلاً { وختم على قلوبكم } يعني لا تفقهوا شيئاً أصلاً ولا تعرفوا شيئاً مما تعرفون من أمور الدنيا . وإنما ذكر هذه الأعضاء الثلاثة ، لأنها أشرف أعضاء الإنسان فإذا تعطلت هذه الأعضاء ، اختل نظام الإنسان وفسد أمره وبطلت مصالحه في الدين والدنيا . ومقصود هذا الكلام ذكر ما يدل على وجود الصانع الحكيم المختار وتقريره أن القادر على إيجاد هذه الأعضاء وأخذها هو الله تعالى المستحق للعبادة لا الأصنام التي تعبدونها وهو قوله تعالى : { من إله غير الله يأتيكم به } يعني يأتيكم بما أخذ الله منكم لأن الضمير في به يعود على معنى الفعل ويجوز أن يعود على السمع الذي ذكر أولاً ويندرج تحته غيره { انظر } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل معه غيره أن انظر يا محمد { كيف نصرف الآيات } يعني كيف نبين لهم العلامات الدالة على التوحيد والنبوة { ثم هم يصدفون } يعني يعرضون عنها مكذبين لها { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة } يعني فجأة { أو جهرة } يعني معاينة ترونه عند نزوله ، وقال ابن عباس ليلاً أو نهاراً { هل يهلك إلا القوم الظالمون } يعني المشركين لأنهم ظلموا أنفسهم بالشرك .
قوله عز وجل : { وما نرسل المرسلين إلا بمشرين } يعني لمن آمن بالثواب { ومنذرين } يعني لمن أقام على كفره بالعقاب والمعنى ليس في إرسالهم أن يأتوا الناس بما يقترحون عليهم من الآيات إنما أرسلوا بالبشارة والنذارة { فمن آمن وأصلح } يعني آمن بهم وأصلح العمل لله { فلا خوف عليهم } يعني حين يخاف أهل النار { ولا هم يحزنون } أي إذا حزن غيرهم { والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب } يعني يصيبهم العذاب { بما كانوا يفسقون } يعني بسبب ما كانوا يكفرون ويخرجون عن الطاعة .
قوله تعالى : { قل لا أقول لكم } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني : قل يا محمد لهؤلاء المشركين لا أقول لكم { عندي خزائن الله } نزلت حين اقترحوا عليه الآيات فأمره الله تعالى أن يقول لهم إنما بعثت بشيراً ونذيراً ولا أقول لكم عندي خزائن الله جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي والمعنى ليس عندي خزائن رزق الله فأعطيكم منها ما تريدون لأنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت رسولاً من الله فاطلب منه أن يوسع علينا عيشنا ويغني فقرنا فأخبر أن ذلك بيد الله لا بيدي { ولا أعلم الغيب } يعني فأخبركم بما مضى وما سيقع في المستقبل ، وذلك أنهم قالوا له : أخبرنا بمصالحنا ومضارنا في المستقبل حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار ، فأجابهم بقوله : ولا أعلم الغيب فأخبركم بما تريدون { ولا أقول لكم إني ملك } وذلك أنهم قالوا : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج النساء؟ فأجابهم بقوله : ولا أقول لكم إني ملك لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه البشر ويشاهد ما لا يشاهدون فلست أقول شيئاً من ذلك ولا أدّعيه فتنكرون قولي وتجحدون أمري .(2/390)
وإنما نفي عن نفسه الشريفة هذه الأشياء تواضعاً لله تعالى واعترافاً له بالعبودية وأن لا يقترحوا عليه الآيات العظام { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } يعني ما أخبركم إلا بوحي من الله أنزله عليّ ومعنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمهم أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي وأنه لا يعلم الغيب فيخبر بما كان وما سيكون وأنه ليس بملك حتى يطلع على ما لا يطلع عليه البشر إنما يتبع ما يوحى إليه من ربه عز وجل فما أخبر عنه من غيب بوحي الله إليه وظاهر الآية يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يجتهد في شيء من الأحكام بل جميع أوامره ونواهيه إنما كانت بوحي من الله إليه { قل هل يستوي الأعمى والبصير } يعني : المؤمن والكافر والضال والمهتدي والعالم والجاهل { أفلا تتفكرون } يعني أنهما لا يستويان .
قوله عز وجل : { وأنذر به } يعني وخوف بالقرآن والإنذار إعلام مع تخويف { الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } .
قال ابن عباس : يريد المؤمنين لأنهم يخافون يوم القيامة وما فيه من شدة الأهوال . وقيل : معنى يخافون يعلمون والمراد بهم كل معترف بالبعث من مسلم وكتابي وإنما خص الذين يخافون الحشر بالذكر دون غيرهم وإن كان إنذاره صلى الله عليه وسلم لجميع الخلائق لأن الحجة عليهم أوكد من غيرهم لاعترافهم بصحة المعاد والحشر . وقيل : المراد بهم الكفار لأنهم لا يعتقدون صحة ولذلك قال : يخافون أن يحشروا إلى ربهم ، وقيل : المراد بالإنذار جمع الخلائق فيدخل فيه كل مؤمن معترف بالحشر وكل كافر منكر له لأنه ليس أحد إلا وهو يخاف الحشر سواء اعتقد وقوعه أو كان يشكّ فيه ولأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وإنذاره لجميع الخلق { ليس لهم من دونه } يعني من دون الله { ولي } أي قريب ينفعهم { ولا شفيع } يعني يشفع لهم ثم إن فسرنا الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أن المراد بهم الكفار فلا إشكال فيه لقوله تعالى : { ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع } وإن فسرنا الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أن المراد بهم المؤمنون ففيه إشكال ، لأنه قد ثبت بصحيح النقل شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للمذنبين من أمته وكذلك تشفع الملائكة والأنبياء والمؤمنون بعضهم لبعض والجواب عن هذا الإشكال أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله لقوله عز وجل : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وإذا كانت الشفاعة بإذن الله صح قوله : { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } يعني حتى يأذن الله لهم في الشفاعة فإذا أذن فيها كان للمؤمنين ولي وشفيع { لعلهم يتقون } يعني ما نهيتم عنه .(2/391)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
قوله تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } قال سلمان وخباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وهما من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع صهيب وبلال وعمار وخباب في نفر في ضعفاء المؤمنين فلما رأوهم حوله ، حقّروهم فأتوه فقالوا : يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم وكانت عليهم جباب صوف لها رائحة ليس عليهم غيرها لجالسناك وأخذنا عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم « ما أنا بطارد المؤمنين » قالوا : فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فأقعدهم إن شئت . قال : نعم . قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً . قال : فأتى بالصحيفة ودعا علياً ليكتب . قال : ونحن قعود في ناحية إذا نزل جبريل عليه السلام بقوله : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } إلى قوله { أليس الله بأعلم الشاكرين } فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه وهو يقول سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تبارك وتعالى : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } الآية فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد ذلك وندنو منه حتى كانت ركبنا تمس ركبته فإذا بلغ الساعة التي يريد أن يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم وقال لنا « الحمد الله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات » .
وروي عن سعد بن أبي وقاص قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترؤون علينا . قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هزيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } أخرجه مسلم .
وقال الكلبي : قالوا له ، يعني أشراف قريش ، اجعل لنا يوماً ولهم يوماً . قال : لا أفعل . قالوا : فاجعل المجلس واحداً وأقبل علينا وولَِّ ظهرك إليهم . فأنزل الله هذه الآية . وقال مجاهد : قالت قريش لولا بلال وابن أم عبد يعني ابن مسعود لبايعناك فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال ابن مسعود : مر ملأ من قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا : يا محمد رضيت بهؤلاء بدلاً من قومك هؤلاء الذين مَنَّ الله عليهم من بيننا أنحن نكون تبعاً لهؤلاء اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فنزلت هذه الآية .(2/392)
وقال عكرمة : جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمداً يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنهم عبيدنا وعسفاءنا ، كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه به فقال عمر بن الخطاب : لو فعلت ذلك حتى ننظر ماالذي يريدون وإلى ماذا يصيرون فأنزل الله عز وجل هذه الآية { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم قوله أليس الله بأعلم بالشاكرين } فجاء عمر فاعتذر من مقالته . قلت بين هذه الروايات الرواية الأولى التي عن سلمان وخباب بن الأرث فرق كثير وبعد عظيم ، وهو أن إسلام سلمان كان بالمدينة ، وكان إسلام المؤلفة قلوبهم بعد الفتح وسورة الأنعام مكية . والصحيح ما روي عن ابن مسعود والكلبي وعكرمة في ذلك ، ويعضده حديث مسعد بن أبي وقاص المخرج في صحيح مسلم من أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاء ، يعني ضعفاء المسلمين ، والله أعلم .
وأما معنى الآية فقوله : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم . يعني : ولا تطرد هؤلاء الضعفاء ولا تبعدهم عن مجلسك لأجل ضعفهم وفقرهم . ثم وصفهم فقال تعالى الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي يعني صلاة الصبح وصلاة العصر . ويروى عنه أن المراد منه الصلوات الخمس . وإنما ذكر هذين الوقتين تنبيهاً على شرفهما ولأنهم مواظبون عليهما مع بقية الصلوات ، ولأن الصلوات تشتمل على القراءة والدعاء والذكر فعبر بالدعاء عن الصلاة لهذا المعنى . قال مجاهد : صليت الصبح مع سعيد بن المسيب فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاص فقال سعيد بن المسيب : ما أسرع الناس إلى هذا المجلس؟ فقال مجاهد : يتأولون قوله تعالى يدعون ربهم بالغداة والعشي قال أوفي هذا إنما هو في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن وقال ابن عباس إن ناساً من الفقراء كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال ناس من أشراف الناس نؤمن لك وإذا صلينا فأخِّر هؤلاء الذين معك فليصلوا خلفنا ، وقيل : المراد منه حقيقة الدعاء والذكر والمعنى : أنهم كانوا يذكرون ربهم ويدعونه طرفي النهار يريدون وجهه يعني يطلبون بعبادتهم وطاعتهم وجه الله مخلصين في عبادتهم له . وقال ابن عباس : يطلبون ثواب الله تعالى : { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء } يعني لا تكلف أمرهم ولا يكلفون أمرك .(2/393)
وقيل : ما عليك حسابهم رزقهم فتملهم وتطردهم عنك ولا رزقك عليهم إنما الرازق لجميع الخلق هو الله تعالى فلا تطردهم عنك : { فتطردهم فتكون من الظالمين } يعني بطردهم عنك وعن مجلسك . فقوله : فتطردهم ، جواب النفي وهو قوله ما عليك من حسابهم من شيء وقوله : فتكون من الظالمين ، جواب النهي وهو قوله ولا تطرد الذين يدعون ربهم واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية فقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لما همَّ بطرد الفقراء عن مجلسه لأجل الأشراف عاتبه الله على ذلك ونهاه عن طردهم وذلك يقدح في العصمة وقوله فتطردهم فتكون من الظالمين والجواب عن هذا الاحتجاج أن النبي صلى الله عليه وسلم ما طردهم ولا همَّ بطردهم ، لأجل استخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما كان هذا الهم لمصلحة وهي التلطف بهؤلاء الأشراف في إدخالهم في الإسلام فكان ترجيح هذا الجانب أولى وهو اجتهاد منه فأعلمه الله تعالى أن إدناء هؤلاء الفقراء أولى الهمِّ بطردهم فقربهم منه وأدناهم . وأما قوله فتطردهم فتكون من الظالمين فإن الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه فيكون المعنى أن أولئك الفقراء الضعفاء يستحقون التعظيم والتقريب فلا تهم بطردهم عنك فتضع الشيء في غير موضعه فهو من باب ترك الألفضل والأولى لا من باب ترك الواجبات والله أعلم .(2/394)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
قوله عز وجل : { وكذلك فتنَّا بعضهم ببعض } يعني وكذلك ابتلينا الغني بالفقير ، والفقير بالغني ، والشريف بالوضيع ، والوضيع بالشريف فكل أحد مبتلى بضده فكان ابتلاء الأغنياء فالشرفاء حسدهم لفقراء الصحابة على كونهم سبقوهم إلى الإسلام وتقدموا عليهم فامتنعوا من الدخول في الإسلام لذلك فكان فتنة وابتلاء لهم ، وأما فتنة الفقراء بالأغنياء ، فلما يرون من سعة رزقهم وخصب عيشهم فكان ذلك فتنة لهم { ليقولوا } يعني الأغنياء والشرفاء والرؤساء { أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا } يعني منَّ على الفقراء والضعفاء بالإسلام ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا اعتراض من الكفار على الله تعالى فأجابهم بقوله : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } يعني أنه تعالى أعلم بخلقه وبأحوالهم وأعلم بالشاكرين من الكافرين : قوله تعالى : { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم } قال عكرمة : نزلت في الذين نهى الله نبيه عن طردهم فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام .
وقال عطاء : نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم بن أبي عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد وقيل إن الآية على إطلاقها في كل مؤمن . وقيل : لما جاء عمر بن الخطاب واعتذر من مقالته التي تقدمت في رواية عكرمة وقال : ما أردت إلا الخير ، نزلت وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم { كتب ربكم } يعني فرض ربكم وقضى ربكم { على نفسه الرحمة } وهذا يفيد الوجوب وسبب هذا أنه تعالى يتصرف في عباده كيف يشاء وأراد فأوجب على نفسه الرحمة على سبيل الفضل والكرم لأنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين : { أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة } قال مجاهد : كل من عمل ذنباً أو خطيئة فهو بها جاهل واختلفوا في سبب هذا الجهل فقيل لأنه جاهل بمقدار ما استحقه من العقاب وما فاته من الثواب . وقيل إنه وإن علم أن عاقبة ذلك السوء والفعل القبيح مذمومة إلا أنه آثر اللذة العاجلة على الخير الكثير الآجل ومن آثر القليل على الكثير فهو جاهل وقيل إنه لما فعل فعل الجهال نسب إلى الجهل وإن لم يكن جاهلاً : { ثم تاب من بعده } يعني من بعد ارتكابه ذلك السوء ورجع عنه { وأصلح } يعني أصلح العمل في المستقبل ، وقيل أخلص توبته وندم على فعله { فأنه غفور } يعني لمن تاب من ذنوبه { رحيم } بعباده قال خالد بن دينار كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال : { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة } الآية . عن أبي سعيد الخدري قال : جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا فلما قام علينا رسل الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ فسلم ثم قال ما كنتم تصنعون؟ قلنا : يا رسول الله كان قارئ لنا يقرأ علينا وكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/395)
« الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم » وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا ليعدل بنفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتلحقوا وبرزت وجوههم ، قال فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحداً غيري . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة عام » أخرجه أبو داود .(2/396)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
وقوله عز وجل : { وكذلك نفصل الآيات } يعني وكما فصلنا لك يا محمد في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد وإبطال ما هم عليه من الشرك كذلك نميز ونبين لك أدلة حججنا وبراهيننا على تقرير كل حق ينكره أهل الباطل { ولتستبين } قرأ بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني وليظهر لك الحق يا محمد ويتبين لك { سبيل المجرمين } يعني طريق هؤلاء المجرمين وقرأ بالياء على الغيبة ومعناه ليظهر ويتضح سبيل المجرمين يوم القيامة إذا صاروا إلى النار .
قوله تعالى : { قل } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين { إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } يعني نهيت أن أعبد الأصنام التي تعبدونها أنتم من دون الله وقيل تدعونها عند شدائدكم من دون الله لأن الجمادات أخس من أن تعبد أو تدعى وإنما كانوا يعبدونها على سبيل الهوى وهو قوله تعالى { قل لا أتبع أهواءكم } يعني في عبادة الأصنام وطرد الفقراء { قد ضللت } يعني : { إذ } عبدتها { وما أنا من المهتدين } يعني لو عبدتها { قل } يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين { إني على بينة من ربي } قال ابن عباس : يعني على يقين من ربي ، وقيل : البيّنة الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل والمعنى : إني على بيان وبصيرة في عبادة ربي { وكذبتم به } يعني وكذبتم بالبيان الذي جئت به من عند ربي وهو القرآن والمعجزات الباهرات والبراهين الواضحات التي تدل على صحة التوحيد وفساد الشرك { ما عندي ما تستعجلون به } يعني العذاب ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم وكانوا يستعجلون به استهزاء وكانوا يقولون : يا محمد ائتنا بما تعدنا يعني من نزول العذاب ، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : ما عندي ما تستعجلون به لأن إنزال العذاب لا يقدر عليه إلا الله تعالى ولا يقدر أحد على تقديمه ولا تأخيره .
وقيل : كانوا يستعجلون بالآيات التي طلبوها واقترحوها فأعلم الله أن ذلك عنده ليس عند أحد من خلقه . وقيل : كانوا يستعجلون بقيام الساعة ومنه قوله تعالى يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها { إن الحكم إلا لله } يعني الحكم الذي يفصل به بين الحق والباطل والثواب للطائع والعقاب للعاصي أي ما الحكم المطلق إلا لله ليس معه حكم فهو يفصل بين المختلفين ويقضي بإنزال العذاب إذا شاء { يقص الحق } قرئ بالصاد المهملة . ومعناه : يقول الحق لأن كل ما أخبر به فهو وحق وقرئ يقض بالضاد المعجمة من القضاء يعني أنه تعالى يقضي القضاء الحق { وهو خير الفاصلين } يعني وهو خير من بين وفصل وميز بين المحق والمبطل لأنه لا يقع في حكمه وقضائه جور ولا حيف على أحد من خلقه .(2/397)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
{ قل لو أن عندي ما تستعجلون به } يعني : من إنزال العذاب . والاستعجال ، المطالبة بالشيء قبل وقته ، فلذلك كانت العجلة مذمومة ، والإسراع تقديم الشيء في وقته ، فلذلك كانت السرعة محمودة . والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين المستعجلين لنزول العذاب لو أن عندي ما تستعجلون به لم أمهلكم ساعة ولكن الله حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة .
قوله تعالى : { لقضي الأمر بيني وبينكم } لا نفصل ما بيني وبينكم ولأتاكم ما تستعجلون به من العذاب { والله أعلم بالظالمين } يعني أنه أعلم بما يستحقون من العذاب والوقت الذي يستحثونه فيه وقيل علم أنه سيؤمن بعض من كان يستعجل بالعذاب فلذلك أخره عنهم قال والله أعلم بالظالمين وبأحوالهم . قوله عز وجل : { وعنده مفاتح الغيب } المفتاح الذي يفتح به المغلاق جمعه مفاتيح ويقال فيه تفتح بكسر الميم وجمعه مفاتح والمفتح بفتح الميم الخزانة وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهي مفتح وجمعه مفاتح فقوله وعنده مفاتح الغيب يحتمل أن يكون المراد منه المفاتيح التي يفتح بها ويحتمل أن يكون المراد منه الخزائن . فعلى التفسير الأولى فقد جعل للغيب مفاتيح على طرق الاستعارة ، لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالإغلاق ، فمن علم كيف يفتح بها ويتوصل إلى ما فيها ، فهو عالم . وكذلك ها هنا لأن الله تعالى لما كان عالماً بجميع المعلومات وما غاب منها وما لم يغب عن هذا المعنى بهذه العبارة .
وعلى التفسير الثاني ، يكون المعنى وعنده خزائن الغيب والمراد منه القدرة الكاملة على كل الممكنات ثم اختلفت أقوال المفسرين في قوله وعنده مفاتح الغيب { لا يعلمها إلا هو } فقيل : مفاتيح الغيب خمس وهي ما روي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى ، لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله ، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله ، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا يدري أحد متى يجيء المطر » .
وفي رواية أخرى : « لا يعلم أحد ما تغيض الأرحام ، ولا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ، ولا يعلم متى الساعة إلا الله » ، أخرجه البخاري . وقال الضحاك ومقاتل : مفاتح الغيب : خزائن الأرض ، وعلم نزول العذاب ، وقال عطاء : هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب . وقيل : هو انقضاء الآجال وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم . وقيل : هو علم ما لم يكن بعد أن يكون إذ يكون كيف يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون وقال ابن مسعود : أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء إلا مفاتح الغيب .(2/398)
وقال ابن عباس : إنها خزائن غيب السموات والأرض من الأقدار والأرزاق { ويعلم ما في البر والبحر } قال مجاهد : البر المفاوز والقفاز ، والبحر القُرى والأمصار لا يحدث فيها شيء إلا وهو يعلمه . وقال جمهور المفسرين : هو البر والبحر المعروفان ، لأن جميع الأرض إما بر وإما بحر وفي كل واحد منهما من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته ما يدل على عظيم قدرته وسعة علمه { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } يريد ساقطة وثابتة والمعنى أنه يعلم عدد ما يسقط من الورق وما بقي على الشجر من ذلك ويعلم كم انقلبت ظهراً لبطن إلى أن تسقط على الأرض { ولا حبة في ظلمات الأرض } قيل : هو الحب المعروف يكون في بطن الأرض قبل أن ينبت . وقيل : هي الحبة التي في الصخرة التي في أسفل الأرضين { ولا رطب ولا يابس } قال ابن عباس : الرطب الماء واليابس البادية . وقال عطاء : يريد ما ينبت وما لا ينبت . وقيل : المراد بالرطب الحي واليابس الميت . وقيل : هو عبارة عن كل شيء لأن جميع الأشياء إما رطبة وإما يابسة .
فإن قلت إن جميع هذه الأشياء داخلة تحت قوله وعنده مفاتح الغيب فَلِمَ أفرد هذه الأشياء بالذكر وما فائدة ذلك؟ .
قلت : لما قال الله تعالى وعنده مفاتح الغيب على سبيل الإجمال ذكر من بعد ذلك الإجمال ما يدل على التفصيل ، فذكر هذه الأشياء المحسوسة ليدل بها على غيرها ، فقدم ذكر البر والبحر لما فيهما من العجائب والغرائب من المدن والقرى والمفاوز والجبال وكثرة ما فيها من المعادن والحيوان ، وأصناف المخلوقات مما يعجز الوصف عن إدراكها ، ثم ذكر بعد ذلك ما هو أقل من ذلك وهو مشاهد لكل أحد لأن الورقة الساقطة والثابتة يراها كل أحد ، لكن لا يعلم عددها وكيفية خلقها إلا الله تعالى ثم ذكر بعد ذلك ما هو أصغر من الورقة وهي الحبة . ثم ذكر بعد ذلك مثالاً يجمع الكل وهو الرطب واليابس فذكر هذه الأشياء وأنه لا يخرج شيء منها عن علمه سبحانه وتعالى فصارت هذه الأمثال منبهة على عظمة عظيمة وقدرة عالية وعلم واسع فسبحان العليم الخبير .
قوله تعالى : { إلا في كتاب مبين } فيه قولان : أحدهما أن الكتاب المبين هو علم الله الذي لا يغير ولا يبدل .
والثاني : أن المراد بالكتاب المبين ، هو اللوح المحفوظ ، لأن الله كتب فيه علم ما يكون وما قد كان قبل أن يخلق السموات والأرض . وفائدة إحصاء الأشياء كلها في هذا الكتاب ، لتقف الملائكة على إنفاذ علمه ونبه بذلك على تعظيم الحساب وأعلم عباده أنه لا يفوته شيء مما يصنعونه لأنه من أثبت ما لا ثواب فيه ولا عقاب في كتاب فهو إلى إثبات ما فيه ثواب وعقاب أسرع .
قوله تعالى : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } يعني يقبض أرواحكم إذا نمتم بالليل { ويعلم ما جرحتم } ما كسبتم { بالنهار ثم يبعثكم فيه } أي يوقظكم فيه أي في النهار { ليقضى أجل مسمى } يعني أجل الحياة إلى الممات يريد استيفاء العمر على التمام { ثم إليه مرجعكم } في الآخرة { ثم ينبئكم } أي يخبركم { بما كنتم تعملون } .(2/399)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
قوله تعالى : { وهو القاهر فوق عباده } يعني وهو العالي عليهم بقدرته لأن كل من قهر شيئاً وغلبه فهو مستعلٍ عليه بالقهر والقدرة . فهو كما يقال : أمرُ فلانٍ فوقَ أمرِ فلانٍ ، يعني : أنه أقدر منه . وأغلب هذا مذهب أهل التأويل في معنى لفظة فوق في قوله : { وهو القاهر فوق عباده } وأما مذهب السلف . فيها : فإمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تأويل ولا إطلاق على جهة والقاهر هو الغالب لغيره المذلل له والله تعالى هو القاهر لخلقه وقهر كل شيء بضده فقهر الحياة بالموت والإيجاد بالإعدام والغنى بالفقر والنور بالظلمة .
وقوله تعالى : { ويرسل عليكم حفظة } يعني أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم والمراد بالحفظة الملائكة الذي يحفظون أعمال بني آدم من الخير والشر والطاعة والمعصية وغير ذلك من الأقوال والأفعال قيل إن مع كل إنسان ملكين ملكاً عن يمينه وملكاً عن شماله فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال اصبر عليه لعله يتوب منها فإن لم يتب منها كتبها عليه صاحب الشمال . وفائدة جعل الملائكة موكلين بالإنسان أنه إذا علم أن له حافظاً من الملائكة موكلاً به يحفظ عليه أقواله وأفعاله في صحائف تنشر له وتقرأ عليه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد كان ذلك زاجراً له عن فعل القبيح وترك المعاصي . وقيل : المراد بقوله ويرسل عليكم حفظة ، هم الملائكة الذين يحفظون بني آدم ويحفظون أجسادهم . قال قتادة : حفظه يحفظون على ابن آدم رزقه وأجله وعمله { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } يعني أعوان ملك الموت الموكلين بقبض أرواح البشر .
فإن قلت قال الله تعالى في أية : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } وقال في آية أخرى : { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } وقال هنا توفته رسلنا فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ قلت وجه الجمع بين هذه الآيات أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى ، فإذا حضر أجل العبد ، أمر الله ملك الموت بقبض روحه ولملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه فحصل الجمع بين الآيات . وقيل : المراد من قوله توفته رسلنا ملك الموت وحده وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له . وقال مجاهد : جعلت الأرض لملك الموت مثل اطشت يتناول من حيث شاء وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم وقال أيضاً : ما من أهل بيت شعر ولا مدر إلا وملك الموت يطيف بهم كل يوم مرتين . وقيل : إن الأرواح إذا كثرت عليه يدعوها فتستجيب له وقوله : { وهم لا يفرطون } يعني الرسل لا يقصرون فيما أمروا به ولا يضيعونه .(2/400)
قوله عز وجل : { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } يعني ثم رد العباد بالموت إلى الله في الآخرة وإنما قال مولاهم الحق لأنهم كانوا في الدنيا تحت أيدي موال بالباطل والله مولاهم وسيدهم ومالكهم بالحق { ألا له الحكم } يعني لا حكم إلا له { وهو أسرع الحاسبين } يعني أنه تعالى أسرع من حسب لأنه لا يحتاج إلى فكر وروية وعقد يد فيحاسب خلقه بنفسه لا يشغله حساب بعضهم عن بعض .
قوله تعالى : { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } يعني يا محمد ، قل لهؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام من دون الله من ذا الذي ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه وتحيرتم وأظلمت عليكم الطرق ومن ذا الذي ينجيكم من ظلمات البحر إذا ركبتم فيه فأخطأتم الطريق وأظلمت عليكم السبل فلم تهتدوا وقيل : ظلمات البر والبحر مجاز عما فيهما من الشدائد والأهوال وقيل الحل على الحقيقة أولى . فظلمات البر هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب وظلمات البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضاً الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك فالمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان فيه إلا إلى الله سبحانه وتعالى لأنه هو القادر على كشف الكروب وإزالة الشدائد وهو المراد من قوله : { تدعونه تضرعاً وخفية } يعني فإذا اشتد بكم الأمر تخلصون له الدعاء تضرعاً منكم إليه واستكانة . جهراً وخفية : يعني سراً وحالاً { لئن أنجانا من هذه } قائلين في حال الدعاء والتضرع لئن أنجيتنا من هذه الظلمات وخلصتنا من الهلاك { لنكونن من الشاكرين } يعني لك على هذه النعمة والشكر وهو معرفة النعمة مع القيام بحقها لمن أنعم بها .(2/401)
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
{ قل الله ينجيكم منها } يعني من الظلمات والشدائد التي أنتم فيها { ومن كل كرب } يعني وهو الذي ينجيكم من كل كرب أيضاً والكرب هو الغم الشديد الذي يأخذ بالنفس { ثم أنتم تشركون } يريد أنهم يقرون بأن الذي أنجاهم من هذه الشدائد هو الله تعالى ثم إنهم بعد ذلك الإقرار يشركون معه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع .
قوله عز وجل : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } أي : قل يا محمد لقومك إن الله هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم يعني الصيحة والحجارة والريح والطوفان كما فعل بقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط { أو من تحت أرجلكم } يعني الرجفة والخسف كما فعل بقوم شعيب وقارون . وقال ابن عباس ومجاهد : عذاباً من فوقكم ، يعني أئمة السوء والسلاطين الظلمة أو من تحت أرجلكم يعني عبيد السوء . وقال الضحاك : من فوقكم يعني من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم يعني السفلة { أو يلبسكم شيعاً } الشيع جمع شيعة وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة وأشياع وأصله من التشيع . ومعنى الشيعة : الذين يتبع بعضهم بعضاً : وقيل : الشيعة هم الذين يتقوى بهم الإنسان . قال الزجاج : في قوله أو يلبسكم شيعاً يعني يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط إنفاق فيجعلكم فرقاً مختلفين يقاتل بعضكم بعضاً وهو معنى قوله : { ويذيق بعضكم بأس بعض } قال ابن عباس : قوله أو يلبسكم شيعاً يعني الأهواء المختلفة ويذيق بعضكم بأس بعض يعني أنه يقتل بعضكم بيد بعض . وقال مجاهد : يعني أهواء متفرقة وهو ما كان فيهم من الفتن والاختلاف . وقال ابن زيد : هو الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف والأهواء وسفك بعضهم دماء بعض . ثم اختلف المفسرون فيمن عني بهذه الآية فقال قوم عني بها المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وفيهم نزلت هذه الآية . قال أبو العالية : في قوله { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } الآية . قال : هن أربع وكلهن عذاب فجاءت اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ألبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض وبقيت اثنتان وهما لا بد واقعتان يعني الخسف والمسخ . وعن أبي بن كعب نحوه وهن أربع خلال وكلهن واقع قبل يوم القيامة مضت ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ألبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض ثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم . وقال مجاهد : في قوله من فوقكم أو من تحت أرجلكم لأمة محمد فأعفاهم منه أو يلبسكم شيعاً ما كان بينهم من الفتن والاختلاف زاد غيره ويذيق بعضكم بأس بعض يعني ما كان فيهم من القتل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خ ) عن جابر قال لما نزلت هذه الآية قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(2/402)
« أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض قال هذا أهون أو هذا أيسر » ( م ) .
عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلاً ثم انصرف إلينا فقال : « سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها » عن خباب بن الأرت قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فأطالها فقالوا يا رسول الله صليت صلاة لم تكن تصليها قال : « أجل إنها صلاة رغبة ورهبة إني سألت الله فيها ثلاثة فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا تهلك أمتي بسنة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها » أخرجه الترمذي وقوله تعالى : { انظر كيف نصرف الآيات } أي انظر يا محمد كيف نبين دلائلنا وحجتنا لهؤلاء المكذبين { لعلهم يفقهون } يعني يفهمون ويعتبرون فينزجروا ويرجعوا عما هم عليه من الكفر والتكذيب .(2/403)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
قوله تعالى : { وكذب به قومك } يعني بالقرآن { وهو الحق } يعني في كونه كتاباً منزلاً من عند الله وقيل الضمير في به يرجع إلى العذاب وهو الحق يعني أنه نازل بهم أن أقاموا على كفرهم وتكذيبهم . وقيل : الضمير يرجع إلى تصريف الآيات وهو الحق لأنهم كذبوا كونها من عند الله { قلت لست عليكم بوكيل } . أي : قل يا محمد لهؤلاء المكذبين لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الحق بل إنما أنا منذر والله هو المجازي لكم على أعمالكم وقيل معناه إنما أدعوكم إلى الله وإلى الإيمان به ولم أومر بحربكم ، فعلى هذا القول ، تكون الآية منسوخة بآية السيف . وقيل في معنى الآية : قل لست عليكم بوكيل ، يعني حفيظاً إنما أطالبكم بالظاهر من الإقرار والعلم لا بما تحويه الضمائر والأسرار فعلى هذا تكون الآية محكمة { لكل نبأ مستقر } أي لكل خبر من أخبار القرآن حقيقة ومنتهى ينتهي إليه إما في الدنيا وإما في الآخرة . وقيل لكل خبر يخبر الله به وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير فكان ما وعدهم به من العذاب في الدنيا وقع يوم بدر { وسوف تعلمون } يعني صحة هذا الخبر إما في الدنيا وإما في الآخرة .
قوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } الخطاب في وإذا للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى وإذا رأيت يا محمد هؤلاء المشركين الذين يخوضون في آياتنا يعني القرآن الذي أنزلناه إليك والخوض في اللغة هو الشروع في الماء والعبور فيه ، ويستعار للأخذ في الحديث والشروع فيه . يقال : تخاوضوا في الحديث وتفاوضوا فيه ، لكن أكثر ما يستعمل الخوض في الحديث على وجه اللعب والعبث وما يذم عليه ومنه قوله { وكنا نخوض مع الخائضين } وقيل : الخطاب في وإذا رأيت لكل فرد من الناس . والمعنى : وإذا رأيت أيها الإنسان الذين يخوضون في آياتنا وذلك أن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في الاستهزاء بالقرآن وبمن أنزله وبمن أنزل عليه ، فنهاهم الله أن يقعدوا معهم في وقت الاستهزاء بقوله { فأعرض عنهم } يعني فاتركهم ولا تجالسهم { حتى يخوضوا في حديث غيره } يعني حتى يكون خوضهم في غير القرآن والاستهزاء به { وإما ينسينك الشيطان } يعني فقعدت معهم { فلا تقعد بعد الذكرى } يعني إذا ذكرت فقم عنهم ولا تقعد { مع القوم الظالمين } يعني المشركين قوله تعالى : { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } قال المسلمون : كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبداً؟ وفي رواية ، قال المسلمون ، إنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم فأنزل الله هذه الآية { وما على الذين يتقون } يعني يتقون الشرك والاستهزاء من حسابهم من حساب المشركين من شيء يعني ليس عليهم شيء من حسابهم ولا آثامهم { ولكن ذكرى } يعني ولكن ذكروهم ذكرى .(2/404)
وقيل : معناه ولكن عليكم أن تذكروهم { لعلهم يتقون } يعني لعل تلك الذكرى تمنعهم من الخوض والاستهزاء .
( فصل )
قال سعيد بن المسيب وابن جريج ومقاتل : هذه الآية منسوخة بالآية التي في سورة النساء وهي قوله تعالى : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم أيات الله يكفر بها ويستهزأ بها } وذهب الجمهور إلى أنها محكمة لا نسخ فيها لأنها خبر والخبر لا يدخله النسخ لأنها إنما دلت على أن كل إنسان إنما يختص بحساب نفسه لا بحساب غيره ، وقيل : إنما أباح لهم القعود معهم بشرط التذكير والموعظة فلا تكون منسوخة .(2/405)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
{ وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } الخطاب للنبي . يعني : وذر يا محمد هؤلاء المشركين الذين اتخذوا دينهم الذي أمروا به ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً وذلك حيث سخروا به واستهزؤوا به وقيل إنهم اتخذوا عبادة الأصنام لعباً ولهواً . وقيل : إن الكفار إذا سمعوا القرآن لعبوا ولهوا عند سماعه . وقيل إن الله جعل لكل قوم عيداً فاتخذ كل قوم دينهم يعني عيدهم لعباً ولهواً يلعبون ويلهون فيه إلا المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة وتكبيراً وفعل الخير فيه مثل عيد الفطر وعيد النحر ويوم الجمعة { وغرتهم الحياة الدنيا } يعني أنهم اتخذوا دينهم لعباً ولهواً لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا وغلب حبها على قلوبهم فأعرضوا عن دين الحق واتخذوا دينهم لعباً ولهواً ومعنى الآية : وذَرْيا محمد الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً واتركهم ولا تبالِ بتكذيبهم واستهزائهم وهذا يقتضي الإعراض عنهم ثم نسخ ذلك الإعراض بآية السيف وهو قول قتادة والسدي . وقيل : إنه خرج مخرج التهديد فهو كقوله { ذرني ومن خلقت وحيداً } وهذا قول مجاهد فعلى هذا تكون الآية محكمة . وقيل : المراد بالإعراض عنهم : ترك معاشرتهم ومخالطتهم لا ترك الإنذار والتخويف ويدل عليه قوله : { وذكر به } يعني وذكر بالقرآن وعِظْ به هؤلاء المشركين { أن تبسل نفس بما كسبت } أي لئلا تبسل نفس وأصل البسل في اللغة : التحريم وضم الشيء ومنعه . وهذا عليك بسل : أي حرام ممنوع . فمعنى تبسل نفس بما كسبت : ترتهن وتحبس في جهنم وتحرم من الثواب بسب بما كسبت من الآثام .
وقال ابن عباس : تبسل تهلك . وقال قتادة : تحبس يعني في جهنم . وقال الضحاك : تحرق بالنار . وقال ابن زيد : تؤخذ يعني بما كسبت . وقيل : تفضح . والمعنى : وذكرهم بالقرآن ومواعظه وعرفهم الشرائع لكي لا تهلك نفس وترتهن في جنهم بسبب الجنايات التي اكتسبت في الدنيا وتحرم الثواب في الآخرة { ليس لها } يعني لتلك النفس التي هلكت { من دون الله ولي } أي قريب يلي أمرها { ولا شفيع } يعني يشفع لها في الآخرة { وإن تعدل كل عدل } يعني وإن تفتد بكل فداء والعدل الفداء { لا يؤخذ منها } يعني العدل وتلك الفدية { أولئك الذين } إشارة إلى الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا { أبسلوا بما كسبوا } يعني أسلموا إلى الهلاك بسبب ما اكتسبوا { لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } ذلك لهم بسبب كفرهم .
قوله تعالى : { قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } يعني : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى دين آبائك أندعو يعني أنعبد من دون الله يعني الأصنام التي لا تنفع من عبدها ولا تضر من ترك عبادتها { ونرد على أعقابنا } يعني ونرد إلى الشرك { بعد إذ هدانا الله } يعني إلى دين الإسلام والتوحيد { كالذي استهوته الشياطين في الأرض } يعني كالذي ذهبت به الشياطين فألقته في هوية من الأرض وأصله من الهوى وهو النزول من أعلى إلى أسفل { حيران } يقال : حارَ فلان في الأمر ، إذا تردد فيه فلم يهتد إلى الصواب ولا المخرج منه { له أصحاب يدعونه إلى الهدى } يعني لهذا المتحير الذي استهوته الشياطين أصحاب على الطريق المستقيم { ائتنا } يعني يقولون له ائتنا وهذا مثل ضربه الله لمن يدعو إلى عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولمن يدعو إلى عبادة الله عز وجل الذي يضر وينفع يقول مثلهما كمثل رجل في رفقة ضل به الغول والشيطان عن الطريق المستقيم فجعل أصحابه ورفقته يدعونه إليهم يقولون : هلم إلى الطريق المستقيم وجعل الغيلان يدعونه إليهم فبقي حيران لا يدري أين يذهب فإن أجاب الغيلان ضل وهلك وإن أجاب أصحابه اهتدى وسلم { قل إن هدى الله هو الهدى } يعني أن طريق الله الذي أوضحه لعباده ودينه الذي شرعه لهم هو الهدى والنور والاستقامة لا عبادة الأصنام ففيه زجر عن عبادتها كأنه يقول لا تفعل ذلك فإن هدى الله هو الهدى لا هدى غيره { وأمرنا لنسلم } أي وأمرنا أن نسلم ونخلص العبادة { لرب العالمين } لأنه هو الذي يستحق العبادة لا غيره .(2/406)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
{ وأن أقيموا الصلاة واتقوه } يعني وأمرنا بإقامة الصلاة والتقوى لأن فيهما ما يقرب إليه { وهو الذي إليه تحشرون } يعني في يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم .
قوله عز وجل : { وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق } يعني إظهاراً للحق فعلى هذا تكون الباء بمعنى اللام لأنه جعل صنعه دليلاً على وحدانيته . وقيل : خلقها بكمال قدرته وشمول علمه وإتقان صنعه وكل ذلك حق . وقيل خلقها بكلامه الحق وهو قول كن فيه دليل على أن كلام الله تعالى ليس بمخلوق لأنه لا يخلق مخلوق بمخلوق { ويوم يقول كن فيكون } . وقيل إنه راجع إلى خلق السموات . والمعنى : اذكر يوم قال للسموات والأرض كن فيكون . قيل : يرجع إلى القيام ويدل عليه سرعة البعث والحساب كأنه قال : ويوم يقول للخلق موتوا فيموتون وقوموا للحساب فيقومون أحياء { قوله الحق } يعني أن قول الله تبارك وتعالى للشيء إذا أراده كن فيكون حق وصدق وهو كائن لا محالة { وله الملك يوم ينفخ في الصور } إنما أخبر عن ملكه يومئذ وإن كان الملك له سبحانه وتعالى خالصاً في كل وقت في الدنيا والآخرة لأنه لا منازع يومئذ يدعي الملك وأنه المنفرد بالملك يومئد وأن من كان يدعي الملك بالباطل من الجبابرة والفراعنة وسائر الملوك الذين كانوا في الدنيا قد زال ملكهم واعترفوا بأن الملك لله الواحد القهار وإنه لا منازع له فيه واعلموا أن الذي كانوا يدعونه من الملك في الدنيا باطل وغرور .
واختلف العلماء في الصور المذكور في الآية فقال قوم : هو قرن ينفخ فيه وهو لغة أهل اليمن : قال مجاهد : الصور قرن كهيئة البوق ويدل على صحة هذا القول ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما الصور؟ « قال قرن ينفخ فيه » أخرجه أبو داود والترمذي .
عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كيف أنتم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ فكان ذلك ثقل على أصحابه » فقالوا كيف نفعل يا رسول الله وكيف نقول؟ قال : « قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا ، وربما قال توكلنا على الله » أخرجه الترمذي . وقال أبو عبيدة : الصور جمع صورة والنفخ فيه إحياؤها بنفخ الروح فيها . وهذا قول الحسن ومقاتل . والقول الأول أصح لما تقدم في الحديث ولقوله تعالى في آية أخرى : ثم نفخ فيه أخرى : ولإجماع أهل السنة أن المراد بالصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل نفختين ، نفخة الصعق ، ونفخة البعث للحساب .
وقوله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } يعني أنه تعالى ما غاب عن عباده وما يشاهدونه فلا يغيب عن عمله شيء { وهو الحكيم } يعني في جميع أفعاله وتدبير خلقه { الخبير } يعني بكل ما يفعلونه من خير أو شر .(2/407)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } اختلف العلماء في لفظ آزر فقال محمد بن إسحاق والكلبي والضحاك : آزر اسم أبي إبراهيم وهو تارح ضبطه بعضهم بالحاء المهملة وبعضهم بالخاء المعجمة فعلى هذا يكون لأبي إبراهيم اسمان : آزر وتارح مثل يعقوب وإسرائيل اسمان لرجل واحد فيحتمل أن يكون اسمه الأصلي آزر وتارح لقب له وبالعكس والله سماه آزر وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارح ليعرف بذلك وكان آزر أبو إبراهيم من كوثي وهي قرية من سواد الكوفة . وقال سليمان التيمي : آزر سب وعيب . ومعناه في كلامهم المعوج . وقيل : الشيخ الهرم وهو بالفارسية وهذا على مذهب من يجوز أن في القرآن ألفاظاً قليلة فارسية . وقيل : هو المخطئ فكان إبراهيم عابه وذمه بسبب كفره وزيغه عن الحق . وقال سعيد بن المسيب ومجاهد : آزر اسم صنم كان والد إبراهيم يعبده وإنما سماه بهذا الاسم لأن من عبد شيئاً أو أحبه جعل اسم ذلك المعبود أو المحبوب اسماً له فهو كقوله { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } وقيل : معناه وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والصحيح هو الأول أن أزر اسم لأبي إبراهيم لأن الله تعالى سماه به وما نقل عن النسابين والمؤرخين أن اسمه تارح ففيه نظر لأنهم إنما نقلوه عن أصحاب الأخبار وأهل السير من أهل الكتاب ولا عبرة بنلقهم .
وقد أخرج البخاري في أفراده من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبره » الحديث فسماه النبي صلى الله عليه وسلم آزر أيضاً ولم يقل أباه تارخ فثبت بهذا ان اسمه الأصلي آزر لا تارخ والله أعلم .
وقوله تعالى : { أتتخذ أصناماً آلهة } معناه : اذكر لقومك يا محمد قول إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة تعبدها من دون الله الذي خلقك ورزقك . والأصنام : جمع صنم وهو التمثال الذي يتخذ من خشب أو حجارة أو حديد أو ذهب أو فضة على صورة الإنسان وهو الوثن أيضاً { إني أراك وقومك في ضلال مبين } يعني : يقول إبراهيم لأبيه آزر : إني أراك وقومك الذي يعبدون الأصنام معك ويتخذونها آلهة في ضلال يعني عن طريق الحق مبين يعني بيَّن لمن أبصر ذلك فإنه لا يشك أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع وهذه الآية احتجاج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم ومحاجته لأبيه وقومه لأنهم كانوا يعظمون إبراهيم صلى الله عليه وسلم ويعترفون بفضله فلا جرم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه في معرض الاحتجاج على مشركين قوله عز وجل : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض } معناه وكما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه والحق في خلاف قومه وما كانوا عليه من الضلال في عبادة الأصنام نريه ملكوت السموات والأرض فلهذا السبب عبر عن هذه الرؤية بلفظ المستقبل في قوله وكذلك نرى إبراهيم لأنه تعالى كان أراه بعين البصيرة أن أباه وقومه على غير الحق فخالفهم فجزاه الله بأن أراه بعد ذلك ملكوت السموات والأرض فحسنت هذه العبارة لهذا المعنى .(2/408)
والملكوت : الملك زيدت فيه التاء للمبالغة كالرهبوت والرغبوت ، والحرموت من الرهبة والرغبة والرحمة .
قال ابن عباس : يعني خلق السموات والأرض . وقال مجاهد وسعيد بن جبير : يعني آيات السموات والأرض وذلك أنه أقيم على صخرة وكشف له عن السموات حتى رأى العرش والكرسي وما في السموات من العجائب وحتى رأى مكانه في الجنة فذلك قوله : { وآتيناه أجره في الدنيا } يعني أريناه مكانه في الجنة وكشف له عن الأرض حتى نظر إلى أسفل الأرضين ورأى ما فيها من العجائب . قال البغوي : وروي عن سليمان ورفعه بعضهم عن علي قال : لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلاً على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال له تبارك وتعالى : « يا إبراهيم أنت رجل مجاب الدعوة فلا تدعون على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال : إما أن يتوب إلي فأتوب عليه وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني وإما أن يبعث إلي فإن شئت عفوت وإن شئت عاقبت » وفي رواية ، وإن تولى فإن جهنم من ورائه ، قال قتادة : ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار ، واختلف في هذه الرؤية هل كانت بعين البصر أو بعين البصيرة على قولين : أحدهما إنها كانت بين البصر الظاهر فشق لإبراهيم السموات حتى رأى العرش وشق له الأرض حتى رأى ما في بطنها .
والقول الثاني : إن هذه الرؤية كانت بعين البصيرة لأن ملكوت السموات والأرض عبارة عن الملك وذلك لا يعرف إلا بالعقل فبان بهذا أن هذه الرؤية كان بعين البصيرة ، إلا أن يقال : المراد بملكوت السموات والأرض نفس السموات والأرض .
وقوله تعالى : { وليكون من الموقنين } عطف على المعنى ومعناه { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض } ليستدل به { وليكون من الموقنين } واليقين : عبارة عن علم يحصل بسب التأمل بعد زوال الشبهة ، لأن الإنسان في أول الحال لا ينفك عن شبهة وشك ، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت ، صارت سبباً لحصول اليقين والطمأنينة في القلب وزالت الشبهة عند ذلك : قال ابن عباس في وليكون من الموقنين جلال له الأمر سره وعلانيته فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله تعالى : إنك تستطيع هذا فردَّه الله كما كان قبل ذلك فمعنى الآية على هذا القول وكذلك أريناه ملكوت السموات والأرض ليكون ممن يوقن علم كل شيء حساً وخبراً .(2/409)
وقوله تعالى : { فلما جن عليه الليل } يقال جن الليل وأجن إذا أظلم وغطى كل شيء وأجنه الليل وجن عليه إذا ستره بسواده { رأى كوكباً قال هذا ربي } .
( ذكر القصة في ذلك )
قال أهل التفسير وأصحاب الأخبار والسير : ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان الملك وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته وكان له كهان منجمون ، فقالوا له : إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه . ويقال : إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء . وقال السدي : رأى نمرود في منامه كأن كوكباً قد طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعاً شديداً ، فدعا السحرة والكهان وسألهم عن ذلك ، فقالوا : هو مولد يولد في ناحيتك في هذه السنة يكون هلاكك وزوال ملكك وهلاك أهل دينك على يديه ، فأمر بذبح كل غلام يولد في تلك السنة في ناحيته وأمر بعزل النساء عن الرجال وجعل على كل عشرة ، رجلاً يحفظهم فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لأنهم كانوا لا يجامعون في المحيض فإذا طهرت من الحيض حالوا بينهما . قالوا : فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها فحملت بإبراهيم . وقال محمد بن إسحاق : بعث نمرود إلى كل رجل امرأة حبلى بقربه فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت جارية صغيرة لم يعرف الحبل في بطنها . وقال السدي : فخرج نمرود بالرجال إلى العسكر وعزلها عن النساء تخوفاً من ذلك المولود فمكثت بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحداً من قومه إلا آزر فبعث إليه فأحضره عنده وقال له : إن لي إليك حاجة أحب أن أوصيك بها ولم أبعثك فيها إلا لثقتي بك فأقسمت عليك ألا تدنو من أهلك . فقال آرز : أنا اشح على ديني من ذلك فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجة الملك ، ثم قال : لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما دخل على أم إبراهيم ونظر إليها لم يتمالك حتى واقعها فحملت من ساعتها بإبراهيم . قال ابن عباس : لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود : إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملت به أمه الليلة ، فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادة أم إبراهيم وأخذها المخاض ، خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها . قالوا : فوضعته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء ثم رجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت وأن الولد في موضع كذا ، فانطلق إليه أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سرباً في النهر فواراه فيه وسد بابه بصخرة مخافة السباع .(2/410)
وكانت أمه تختلف إليه فترضعه . وقال محمد بن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم وأصلحت من شأنه ما يصح بالمولود ثم سدت عليها باب المغارة ثم رجعت إلى بيتها . وكانت تختلف إليه لتنظر ما فعل فتجده حياً وهو يمص إبهامه . قال أبو روق : قالت أم إبراهيم لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من أصبع ماء ، ومن أصبع لبناً ، ومن أصبع سمناً ، ومن أصبع عسلاً ، ومن أصبع تمراً . وقال محمد بن إسحاق : كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل فقالت : ولدت غلاماً فما صدقها وسكت عنها . وكان إبراهيم يشب في اليوم كالشهر وفي الشهر كالسنة فلم يمكث في المغارة إلا خمسة عشر شهراً حتى قال : أخرجيني فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض . وقال : إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وساقني لربي الذي ما لي إله غيره ونظر في السماء فرأى كوكباً قال : هذا ربي ثم أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال : لا أحب الآفلين .
فلما رأى القمر بازغاً ، قال : هذا ربي وأتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب ثم طلعت الشمس قال هكذا إلى آخره ثم رجعت به إلى أبيه آزر قد استقامت وجهته وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم ينادهم بذلك . فلما رجعت به أمه ، أخبرته أنه ابنه وأخبرته بما صنعت به فسر بذلك وفرح فرحاً شديداً . وقيل : إنه مكث في السرب سبع سنين . وقيل : ثلاث عشرة سنة وقيل سبع عشرة سنة . قالوا : فلما شب إبراهيم وهو في السرب قال لأمه : من ربي؟ قالت : أنا . قال : فمن ربك؟ قالت : أبوك : فمن رب أبي؟ قالت : اسكت ، ثم رجعت إلى زوجها فقالت أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك . ثم أخبرته بما قال فأتاه أبو آزر فقال إبراهيم : يا أبتاه من ربي؟ قال : أمك . قال : فمن رب أمي؟ قال : انا . قال : فمن ربك؟ قال : نمرود . قال فمن رب نمرود؟ فلطمه لطمة وقال : اسكت .
فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فأبصر كوكباً قال : هذا ربي ويقال إنه قال لأبويه : أخرجاني ، فأخرجاه من باب السرب حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم فسأل أباه ما هذه؟ قال : إبل وخيل وغنم . فقال إبراهيم : ما لهذه بد من أن يكون لها إله وهو ربها وخالقها . ثم نظر ، فإذا المشتري قد طلع ويقال إنها الزهرة ، وكانت تلك الليلة من آخر الشهر فتأخر طلوع القمر فرأى الكوكب قبل القمر فذلك قوله عز وجل : { فلما جن عليه الليل } يعني ستره بظلامه رأى كوكباً قال { هذا ربي } ثم اختلف العلماء في وقت هذه الرؤية وفي وقت هذا القول هل كان قبل البلوغ أو بعده على قولين : أحدهما أنه كان قبل البلوغ في حال طفوليته وذلك قبل قيام الحجة عليه فلم يكن لهذا القول الذي صدر من إبراهيم في هذا الوقت اعتبار ولا يترتب عليه حكم لأن الأحكام إنما تثبت بعد البلوغ .(2/411)
وقيل : إن إبراهيم لما خرج من السرب في حال صغره ونظر إلى السماء وما فيها من العجائب ونظر إلى الأرض وما فيها من العجائب وكان قد خصه الله بالعقل الكامل والفطرة السليمة تفكر في نفسه وقال لا بد لهذا الخلق من خالق مدبر وهو إله الخلق ، ثم نظر في حال تفكره فرأى الكوكب وقد أزهر ، فقال : هذا ربي على ما سبق إلى وهمه وذلك في حال طفوليته وقبل استحكام النظر في معرفة الرب سبحانه وتعالى واستدل أصحاب هذا القول على صحته بقوله { لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } قالوا وهذا يدل على نوع تحير وذلك لا يكون إلا في حال الصغر وقبل البلوغ وقيام الحجة وهذا القول ليس بسديد ولا مَرْضي لأن الأنبياء معصومون في كل حال من الأحوال وأنه لا يجوز أن يكون لله عز وجل رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو بالله عارف وله موحد وله من كل منقصة منزه ومن كل معبود سواه برئ وكيف يتوهم هذا على إبراهيم وقد عصمه الله وطهره وآتاه رشده من قبل وأراه ملكوت السموات والأرض أفبرؤية الكوكب يقول معتقداً هذا ربي؟ حاشا إبراهيم صلى الله عليه وسلم من ذلك لأن منصبه أعلى وأشرف من ذلك صلى الله عليه وسلم .
والقول الثاني : الذي عليه جمهور المحققين إن هذه الرؤية وهذا القول كان بعد بلوغ إبراهيم وحين شرفه الله بالنبوة وأكرمه بالرسالة ثم اختلف أصحاب هذا القول في تأويل الآية ومعناها فذكروا فيها وجوهاً :
الوجه الأول : أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرج قومه بهذا القول ويعرفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم النجوم وعبادتها لأنهم كانوا يرون أن كل الأمور إليها ، فأراهم إبراهيم أنه معظِّمُ ما عظموه فلما أفل الكوكب والقمر والشمس أراهم النقص الداخل على النجوم بسبب الغيبوبة والأقوال ليثبت خطأ ما كانوا يعتقدون فيها من الألوهية . ومثل هذا كمثل الحواري الذي ورد على قوم كانوا يعبدون صنماً فأظهر تعظيمه فأكرموه لذلك حتى صاروا يصدرون عن رأيه في كثير من أمورهم إلى أن دهمهم عدو لا قبل لهم به فشاوروه في أمر هذا العدو فقال : الرأي عندي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما نزل بنا ، فاجتمعوا حول الصنم يتضرعون إليه فلم يغنِ شيئاً فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يدفع ، دعاهم الحواري وأمرهم أن يدعو الله عز وجل ويسألوه أن يكشف ما نزل بهم ، فدعو الله مخلصين ، فصرف عنهم ما كانوا يحذرون فأسلموا جميعاً .(2/412)
الوجه الثاني : أن إبراهيم عليه السلام قال هذا القول على سبيل الاستفهام وهو استفهام إنكار وتوبيخ لقومه وتقديره : أهذا ربي الذي تزعمون ، وإسقاط حرف الاستفهام كثير في كلام العرب ومنه قوله تعالى : { أفإن مت فهم الخالدون } يعني أفهم الخالدون . والمعنى أيكون هذا رباً ودلائل النقص فيه ظاهرة .
الوجه الثالث : أن إبراهيم عليه السلام قال ذلك على وجه الاحتجاج على قومه يقول هذا ربي بزعمكم فلما غاب قال لو كان إلهاً كما تزعمون لما غاب فهو كقوله { ذق إنك أنت العزيز الكريم } يعني عند نفسك وبزعمك وكما أخبر عن موسى عليه السلام بقوله تعالى : { انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً } يريد إلهك بزعمك .
الوجه الرابع : إن في هذه الآية إضماراً تقديره يقولون { هذا ربي } وإضمار القول كثير في كلام العرب ومنه قوله تعالى : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا } أي يقولان { ربنا تقبل منا } الوجه الخامس : إن الله تعالى قال في حقه { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين } ثم قال بعده { فلما جن عليه الليل } والفاء تقتضي التعقيب فدل هذا أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض وبعض الإيقان ومن كان معه بهذه المنزلة العالية الشريفة لا يليق بحاله أن يعبد الكواكب ويتخذها رباً .
فأما الجواب عن قوله : { لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } فإن الأنبياء عيلهم السلام لم يزالوا يسألون الله التثبيت ومنه قوله { واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام } قوله تعالى : { فلما أفل } يعني غاب والأفول غيبة النيرات { قال } يعني إبراهيم { لا أحب الآفلين } يعني لا أحب رباً يغيب ويطلع لأن أمارات الحدوث فيه ظاهرة .(2/413)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
قوله تعالى : { فلما رأى القمر بازغاً } يعني طالعاً منتشر الضوء { قال هذا ربي } معناه ما تقدم من الكلام في الكوكب { فلما أفل } يعني غاب { قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } يعني إن لم يثبتني ربي على الهدى وليس المراد انه لم يكن مهتدياً لأن الأنبياء لم يزالوا على الهداية من أول الفطرة وفي الآية دليل على أن الهداية من الله تعالى لأن إبراهيم أضاف الهداية لله تعالى : { فلما رأى الشمس بازغة } يعني طالعة { قال هذا ربي } يعني هذا الطالع أو أنه إشارة إلى الضياء والنور لأنه رأى الشمس أضوأ من الكوكب والقمر وقيل إنما قال هذا ولم يقل هذه لأن تأنيث الشمس غير حقيقي فلهذا أتى بلفظ التذكير { هذا أكبر } يعني من الكوكب والقمر { فلما أفلت } يعني فلما غابت الشمس { قال يا قوم إني برئ مما تشركون } يعني أنه لما أثبت إبراهيم عليه السلام بالدليل القطعي أن هذه النجوم ليست بآلهة ولا تصلح للربوبية تبرأ منها وأظهر لقومه أنه برئ مما يشركون ولما أظهر خلاف قومه وتبرأ من شركهم أظهر ما هو عليه من الدين الحق فقال { إني وجهت وجهي } يعني إني صرفت وجه عبادتي وقصرت توحيدي { للذي فطر السموات والأرض } يعني للذي خلقهما وأبدعهما { حنيفاً } يعني مائلاً عن عبادة كل شيء سوى الله تعالى . وأصل الحنف : الميل ، وهو ميل عن طريق الضلالة إلى طريق الاستقامة . وقيل : الحنيف هو الذي يستقبل الكعبة في صلاته { وما أنا من المشركين } تبرأ من الشرك الذي كان عليه قومه .
قوله عز وجل : { وحاجَّه قومه } يعني وخاصمه قومه وذلك لما أظهر إبراهيم عليه السلام عيب آلهتهم التي كانوا يعبدونها وأظهر التوحيد لله عز وجل خاصمه قومه وجادلوه في ذلك فقال : أتحاجوني في الله . يعني تجادلونني في توحيدي لله وقد هداني وقد بين لي طريق الهداية إلى توحيده ومعرفته . وقال البغوي : لما رجع إبراهيم إلى أبيه وصار من الشباب بحالة تسقط عنه طمع الذابحين وضمه آزر إلى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم يبيعها فيذهب إبراهيم وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يكتريها أحد فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فصوب فيه رؤوسها وقال اشربي استهزاء بقومه وبما هم فيه من الضلالة حتى فشا استهزاؤه بها في قومه وأهل قريته حاجه قومه يعني خاصمه وجادله قومه في دينه { قال } يعني إبراهيم { أتحاجّوني في الله وقد هدان } يعني إلى توحيده ومعرفته { ولا أخاف ما تشركون به } وذلك أنهم قالوا له : احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسَّك بخبل أو جنون لعيبك إياها فأجابهم بقوله ولا أخاف ما تشركون به فإنها جمادات لا تضر ولا تنفع وإنما يكون الخوف ممن يقدر على لانفع والضر وهو قوله { إلا أن يشاء ربي شيئاً } يعني لكن أن يشأ ربي شيئاً كان ما يشاء لأنه قادر على النفع والضر وإنما قال إبراهيم ذلك لاحتمال أن الإنسان قد يصيبه في بعض حالاته وأيام عمره ما يكرهه فلو أصابه مكروه نسبوه إلى الأصنام فنفى هذه الشبهة بقوله { إلا أن يشاء ربي شيئاً } وهذا استثناء منقطع وليس هو من الأول في شيء . والمعنى ولكن إن شاء ربي شيئاً كان { وسع ربي كل شيء علماً } يعني أحاط علمه بكل شيء فلا يخرج شيء عن علمه { أفلا تتذكرون } يعني أفلا تعتبرون أن هذه الأصنام جمادات لا تضر ولا تنفع وأن الضار هو الذي خلق السموات والأرض ومن فيهما .(2/414)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
{ وكيف أخاف ما أشركتم } يعني وكيف أخاف الأصنام التي أشركتم بها لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع { ولا تخافون أنكم أشركتم بالله } يعني وأنتم لا تخافون وقد أشركتم بالله وهو من أعظم الذنوب { ما لم ينزل به عليكم سلطاناً } يعني ما ليس لكم فيه حجة وبرهان { فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } يعني يقول من أولى بالأمن من العذاب في يوم القيامة الموحد أم المشرك { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } وهذا فصل قضاه الله بين إبراهيم وبين قومه يعني أن الذين يستحقون الأمن يوم القيامة هم الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم . وقيل : هو من تمام كلام إبراهيم في المحاجَّة لقومه . والمعنى : إن الذين يحصل لهم الأمن يوم القيامة هم الذين آمنوا يعني آمنوا بالله وحده ولم يشركوا به شيئاً ولم يلبسوا إيمانهم بظلم يعني ولم يخلطوا إيمانهم بشرك ( ق ) .
عن ابن مسعود قال : لما نزلت { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } شق ذلك على المسلمين وقالوا أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا قول لقمان لابنه { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لَظلم عظيم } » وفي رواية ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه وذكره . وقيل : في معنى قوله ولم يلبس إيمانهم بظلم ، يعني : ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم وذلك بأن يفعل بعض ما نهى الله عنه أو يترك ما أمر الله به فعلى هذا القول تكون الآية على العموم لأن الله لم يخص معنى من معاني الظلم دون غيره والصحيح أن الظلم المذكور في هذه الآية هو الشرك لما تقدم من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر الظلم هنا بالشرك وفي الآية دليل على أن من مات لا يشرك بالله شيئاً كانت عاقبته الأمن من النار لقوله { أولئك } يعني الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم { لهم الأمن } يوم القيامة من عذاب النار { وهم مهتدون } يعني إلى سبيل الرشاد . وقوله تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } يعني ما جرى بين إبراهيم وبين قومه واستدل على حدوث الكوكب والقمر والشمس بالأفول وقيل لما قالوا لإبراهيم إنّا نخاف عليك من آلهتنا لسبك إياها قال أفلا تخافون أنتم منها إذ سويتم بين الصغير والكبير في العبادة أن يغضب الكبير عليكم؟ وقيل : إنه خاصم قومه المشركين فمالوا أي الفريقين أحق بالأمن من يعبد إلهاً واحداً مخلصاً له الدين والعبادة أم من يعبد أرباباً كثيرة فدلوا من يعبد إلهاً واحداً فقضوا على أنفسهم فكانت هذه حجة إبراهيم عليه { نرفع درجات من نشاء } يعني بالعلم والفهم والعدل والفضيلة كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهتدى إلى محاجَّة قومه .(2/415)
وقيل : نرفع درجات من نشاء في الدنيا بالنبوة والعلم والحكمة وفي الآخرة بالثواب على الأعمال الصالحة { إن ربك حكيم عليم } يعني أنه تعالى حكيم في جميع أفعاله عليم بجميع أحوال خلقه لا يفعل شيء إلا بحكمة وعلم .
قوله عز وجل : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب } لما أظهر إبراهيم عليه السلام دينه وغلب خصمه بالحجج القاطعة والبراهين القوية والدلائل الصحيحة التي فهمه الله تعالى إياه وهداه إليها عدد الله نعمه عليه وإحسانه إليه بأن رفع درجته في عليين وأبقى النبوة في ذريته إلى يوم الدين فقال تعالى : { ووهبنا له } يعني لإبراهيم إسحاق يعني ابنا لصلبه ويعقوب يعني ابن إسحاق وهو ولد الولد { كلاًّ هدينا } يعني هدينا جميعهم إلى سبيل الرشاد ووفقناهم إلى طريق الحق والصواب { ونوحاً هدينا من قبل } يعني من قبل إبراهيم أرشدنا نوحاً ووفقناه للحق والصواب ومنَنّا عليه بالهداية { ومن ذريته } اختلفوا في الضمير إلى من يرجع فقيل يرجع إلى إبراهيم يعني ومن ذرية إبراهيم { داود وسلميان } وقيل : يرجع إلى نوح وهو اختيار جمهور المفسرين ، لأن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور ولأن الله ذكر في جملة هذه الذرية لوطاً وهو ابن أخي إبراهيم ولم يكن من ذريته فثبت بهذا أن هاء الكناية ترجع إلى نوح وقال الزجاج : كلا القولين جائز لأن ذكرهما جميعاً قد جرى . وداود هو ابن بيشا وكان ممن آتاه الله الملك والنبوة وكذلك سليمان بن داود { وأيوب } هو أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم { ويوسف } هو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم { وموسى } هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب { وهارون } هو أخو موسى وكان أكبر منه بسنة { وكذلك نجزي المحسنين } يعني : وكما جزينا إبراهيم على توحيده وصبره على أذى قومه كذلك نجزي المحسنين على إحسانهم .(2/416)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
{ وزكريا } هو ابن آذن بن بركيا { ويحيى } هو ابن زكريا { وعيسى } هو ابن مريم بنت عمران { والياس } .
قال ابن مسعود : هو إدريس وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل وقال محمد بن إسحاق : هو الياس بن سنا بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران . وهذا هو الصحيح لأن أصحاب الأنساب يقولون : إن إدريس جد نوح لأن نوحاً بن لامك متوشلخ بن أخنوخ وهو أدريس ولأن الله تعالى نسب الياس في هذه الآية إلى نوح وجعله من ذريته { كل من الصالحين } يعني أن كل من ذكرنا وسمينا من الصالحين { وإسماعيل } هو ابن إبراهيم وإنما أخر ذكره إلى هنا لأنه ذكر إسحاق وذكر أولاده من بعده على نسق واحد فلهذا السبب أخر ذكر إسماعيل إلى هنا { واليسع } هو ابن أخطوب بن العجوز { ويونس } هو ابن متى { ولوطاً } هو ابن أخي إبراهيم : { وكلاًّ فضلنا على العالمين } يعني على عالمي زمانهم . ويستدل بهذه الآية من يقول إن الأنبياء أفضل من الملائكة لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل فيه الملك فيقتضي أن الأنبياء أفضل من الملائكة .
واعلم أن الله تعالى ذكر هنا ثمانية نبياً من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب لا بحسب الزمان ولا بحسب الفضل ، لأن الواو لا تقتضي الترتيب ولكن هنا لطيفة أوجبت هذا الترتيب وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم السلام بنوع من الكرامة والفضل ، فذكر أولاً نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول الأنبياء وإليهم ترجع أنسابهم جميعاً ثم من المراتب المعتبرة بعد النبوة الملك والقدرة والسلطان قد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظاً وافراً من المراتب : الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع بينهما وهو يوسف عليه السلام فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن أعطاه الله ملك مصر مع النبوة ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليهم السلام كثرة المعجزات وقوة البراهين وقد خص الله تعالى موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا والإعراض عنها وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى والياس عليهم السلام ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء من لم يبق له أتباع ولا شريعة وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .
قوله تعالى : { ومن آبائهم } يعني ومن آباء الذين سميناهم ومَن هنا للتبعيض لأن من آباء بعضهم من لم يكن مسلماً { وذرياتهم } يعني ومن ذرياتهم أي بعضهم لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد وكان في ذرية بعضهم من هو كافر كابن نوح { وإخوانهم } يعني ومن إخوانهم والمعنى أن الله تعالى وفق من آباء المذكورين ومن أخوانهم وذرياتهم للهداية وخالص الدين وهو قوله تعالى : { واجتبيناهم } يعني اخترناهم واصطفيناهم { وهديناهم } يعني وأرشدناهم { إلى صراط مستقيم } أي إلى دين الحق { ذلك هدى الله } قال ابن عباس : ذلك دين الله الذي كان عليه هؤلاء الأنبياء .(2/417)
وقيل : المراد بهدى الله معرفة الله وتنزيهه عن الشركاء والأضداد والأنداد { يهدي به من يشاء من عباده } يعني يوفق من يشاء من عباده ويرشده إلى دينه وطاعته وخلع الأضداد والشركاء { ولو أشركوا } يعني هؤلاء الذين سميناهم { لحبط } يعني لبطل وذهب { عنهم ما كانوا يعملون } من الطاعات قبل ذلك لأن الله تعالى لا يقبل مع الشرك من الأعمال شيئاً .(2/418)
أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
قوله عز وجل : { أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة } يعني أولئك الذين سميناهم من الأنبياء أعطيناهم الكتب التي أنزلناها عليهم وآتيناهم العلم والفهم وشرفناهم بالنبوة وإنما قدم ذكر الكتاب والحكمة على النبوة وإن كانت النبوة هي الأصل لأن منصب النبوة أشرف المراتب والمناصب فذكروا أولاً الكتاب والحكم لأنما يدلان على النبوة { فإن يكفر بها هؤلاء } يعني فإن يجحد بدلائل التوحيد والنبوة كفار قريش { فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } قال ابن عباس : هم الأنصار وأهل المدينة . وقيل : هم المهاجرون والأنصار وقال الحسن وقتادة : هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدم ذكرهم واختاره الزجاج قال : والدليل عليه قوله { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وقال رجاء العطاردي : هم الملائكة وفيه بعد لأن اسم القوم لا ينطلق إلا على بني آدم وقيل هم الفرس . قال ابن زيد : كل من لم يكفر فهو منهم سواء كان ملكاً أو نبياً أو من الصحابة أو التابعين وفي الآية دليل على أن الله تعالى ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم ويقوي دينه ويجعله عالياً على الأديان كلها وقد جعل ذلك فهو إخبار عن الغيب . . . قوله تعالى : { أولئك الذين هدى الله } يعني النبيين الذين تقدم ذكرهم لأنهم هو المخصوصون بالهداية { فبهداهم اقتده } إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني فبشرائعهم وسننهم اعمل وأصل الاقتداء في اللغة طلب موافقة الثاني للأول في فعله . وقيل أمره أن يقتدي بهم في أمر الدين الذي أمرهم أن يجمعوا عليه وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن جميع النقائص التي لا تليق بجلاله في الأسماء والصفات والأفعال . وقيل : أمره الله أن يقتدي بهم في جميع الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية والصفات الرفيعة الكاملة مثل : الصبر على أذى السفهاء ، والعفو عنهم . وقيل : أمره أن يقتدي بشرائعهم إلا ما خصه دليل آخر فعلى هذا القول يكون في الآية دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا .
( فصل )
احتج العلماء بهذه الآية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . بيانه أن جميع خصال الكمال وصفات الشرف وكانت متفرقة فيهم فكان نوح صاحب احتمال على أذى قومه ، وكان إبراهيم صاحب كرم وبذل مجاهدة في الله عز وجل ، وكان إسحاق ويعقوب من أصحاب الصبر على البلاء والمحن ، وكان داود عليه السلام وسليمان من أصحاب الشكر على النعمة ، قال الله فيهم : { اعملوا آل داود شكراً } وكان أيوب صاحب صبر على البلاء ، قال الله فيه { إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب } وكان يوسف قد جمع بين الحالتين ، يعني : الصبر والشكر ، وكان موسى صاحب الشريعة الظاهرة والمعجزات الباهرة ، وكان زكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد في الدنيا ، وكان إسماعيل صاحب صدق وكان يونس صاحب تضرع وإخبات ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم وجمع له جميع الخصال المحمودة المتفرقة فيهم فثبت بهذا البيان أنه صلى الله عليه وسلم كان أفضل الأنبياء لما اجتمع فيه من هذه الخصال التي كانت متفرقة في جميعهم والله أعلم .(2/419)
وقوله تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجراً } يعني : قل يا محمد لا أطلب على تبليغ الرسالة جعلاً قيل لما أمره الله تعالى بالاقتداء بالنبيين وكان من جملة هداهم عدم طلب الأجر على إيصال الدين وإبلاغ الشريعة لا جرم اقتدى بهم فقال : لا أسألكم عليه أجراً { إن هو } يعني ما هو يعني القرآن { إلا ذكرى للعالمين } يعني أن القرآن موعظة وذكرى لجميع العالم من الجن والإنس وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى جميع الخلق من الجن والإنس وإن دعوته عمَّت جميع الخلائق .
قوله عز وجل : { وما قدروا الله حق قدره } قال ابن عباس : لما عظموا الله حق عظمته وعنه أن معناه ما آمنوا أن الله على شيء قدير . وقال أبو العالية : ما وصفوا الله حق وصفه . وقال الأخفش : ما عرفوا الله حق معرفته . يقال : قدر الشيء إذا حزره وسبره وأراد ان يعلم مقداره يقال قدره يقدره بالضم قدراً ثم يقال لمن عرف شيئاً هو يقدره قدره وإذا لم يعرفه بصفاته يقال فيه إنه لا يقدر قدره فقوله { وما قدروا الله حق قدره } يصح فيه جميع الوجوه المذكورة في معناه { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } يعني الذين قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه حق معرفته إذ لو عرفوه حق معرفته لما قالوا هذه المقالة ، ثم اختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية على قولين :
أحدهما : أنها نزلت في كفار قريش وهذا على قول من يقول إن جميع السورة مكية وهو قول السدي . ويروي ذلك عن مجاهد وصححه الطبري قال : لأن من أول السورة إلى هذا الموضع هو خبر عن المشركين من عبدة الأصنام وكان قوله { وما قدروا الله حق قدره } موصولاً بذلك غير مفصول عنه فلا يكون قوله إذ قالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } خبراً عن غيرهم وأورد فخر الدين الرازي على هذا القول إشكالاً وهو أن كفار قريش ينكرون نبوة جميع الأنبياء فكيف يمكن إلزامهم بنبوة موسى وأيضاً فما بعد هذه الآية لا يليق بكفار قريش إنما يليق بحال اليهود وأجاب عنه بأن كفار قريش كانوا مختلطين باليهود وقد سمعوا منهم أن موسى جاءهم بالتوراة وبالمعجزات الباهرات وإنما أنكر كفار قريش نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيمكن إلزامهم بقوله { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } وأجاب عن كون سياق الآية لا يليق إلا بحال اليهود بأن كفار قريش واليهود لما كانوا مشتركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يبعد أن بعض الآية يكون خطاباً لكفار قريش وبعها خطاباً لليهود .(2/420)
والقول الثاني : في سبب نزول هذه الآية وهو قول جمهور المفسرين أنها نزلت في اليهود وهذا على قول من يقول : إن هذه الآية نزلت بالمدينة وأنها من الآيات المدنيات التي في السور المكية . قال ابن عباس : نزلت سورة الأنعام بمكة إلا ست آيات منها قوله : { وما قدروا الله حق قدره } فإنها نزلت بالمدينة ثم اختلف القائلون بهذا القول في اسم من نزلت هذه الآية فيه فقال سعيد بن جبير : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أما تجدون في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين وكان حبراً سميناً فغضب . وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء فقال أصحابه الذين معه ويحك ولا على موسى فقال والله ما أنزل الله على بشر من شيء فأنزل الله { وما قدروا الله حق قدره } { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } نوراً وهدى للناس الآية . قال البغوي : وفي القصة أن مالك بن الصيف لما سمعت اليهود منه تلك المقالة عتبوا عليه وقالوا : أليس الله أنزل التوراة على موسى فلمَ قلت ما أنزل الله على بشر من شيء؟ فقال مالك بن الصيف : أغضبني محمد فقلت ذلك . فقالوا له : وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق؟ فنزعوه عن الحبرية وجعلوا مكانه كعب الأشرف . وقال السدي : لما نزلت هذه الآية في فنحاص بن عازوراء اليهودي وهو القائل هذه المقالة . وقال ابن عباس : قالت اليهود يا محمد أنزل الله عليك كتاباً؟ قال : نعم فقالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتاباً فأنزل الله : { وما قدروا الله حق قدره } { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } الآية وقال محمد بن كعب القرظي : جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب؟ فقالوا يا أبا القاسم ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحاً يحملونها من عند الله فأنزل الله { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } الآية التي في سورة النساء فلما حدثهم بأعمالهم الخبيثة جثا رجل منهم وقال : ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئاً فانزل الله : { وما قدروا الله حق قدره } إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء وأورد الرازي على هذا القول إشكالاً أيضاً وهو أنه قال : إن اليهود مقرون بإنزال التوراة على موسى فكيف يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء مع اعترافهم بإنزال التوراة ولم يجب عن هذا الإشكال بشيء وأجيب عنه بأن مراد اليهود إنكار إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فقط ولهذا ألزموا بملا لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى فقال تعالى : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } أي : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين أنكروا إنزال القرآن عليك بقولهم ما أنزل الله على بشر من شيء من أنزل التوراة على موسى وفيه هذا الإلزام توبيخ اليهود بسوء جهلهم وإقدامهم على إنكار الحق الذي لا ينكر { نوراً وهدى للناس } يعني التوراة ضياء من ظلمة الضلالة وبياناً يفرق بين الحق والباطل من دينهم وذلك قبل أن تبدل وتغير { تجعلونه قراطيس } يكتبونه في قراطيس مقطعة { تبدونها } يعني القراطيس المكتوبة { وتخفون كثيراً } يعني ويخفون كثيراً مما كتبوه في القراطيس وهو ما عندهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في التوراة ومما اخفوه أيضاً آية الرجم وكانت مكتوبة عندهم في التوراة { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } أكثر المفسرين على أن هذا خطاب لليهود ومعناه : أنكم علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من قبل .(2/421)
قال الحسن : جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به . وقال مجاهد : هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علمهم على لسان نيبه صلى الله عليه وسلم { قل الله } هذا راجع إلى قوله : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } فإن أجابوك يا محمد وإلا فقل أنت الله الذي أنزله : { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } يعني : دعهم يا محمد فيما هم فيه يخوضون من باطلهم وكفرهم بالله . ومعنى يلعبون : يستهزؤون ويسخرون . وقيل : معناه يا محمد إنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار هذا المبلغ العظيم فحينئذ لم يبق عليك من أمرهم شيء فذرهم فيما هم فيه من الخوض واللعب وفيه وعيد وتهديد للمشركين . وقال بعضهم : هذا منسوخ بآية السيف وفيه بُعد لأنه مذكور لأجل التهديد والوعيد .(2/422)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } يعني : وهذا القرآن كتاب أنزلناه من عندنا عليك يا محمد كثير الخير والبركة دائم النفع يبشر المؤمنين بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية . وأصل البركة : النماء والزيادة وثبوت الخير { مصدق الذي بين يديه } يعني من الكتب الإلهية المنزلة من السماء على الأنبياء عين أنه موافق لما في التوراة والإنجيل وسائر الكتب ، لأنها اشتملت جميعها على التوحيد والتنزيه لله من كل عيب ونقيصه وتدل على البشارة والنذارة فثبت بذلك كون القرآن مصدقاً لجميع الكتب المنزلة { ولتنذر } قرئ بالتاء يعني ولتنذر يا محمد وبالياء ومعناه ولينذر الكتاب { أم القرى } يعني مكة وفيه حذف تقديره ولتنذر أهل القرى وسميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها . قاله ابن عباس : وقيل : لأنها أقدم القرى وأعظمها بركة . وقيل : لأنها قبلة أهل الأرض { ومن حولها } يعني جميع البلاد والقرى التي حولها شرقاً وغرباً { والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } يعني : والذين يصدقون بقيام الساعة وبالمعاد والبعث بعد الموت يصدقون بها الكتاب وأنه منزل من عند الله عز وجل وقيل ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك أن الذي يؤمن بالآخرة يؤمن بالوعد والوعيد والثواب والعقاب ومن كان كذلك فإنه يرغب في تحصيل الثواب ورد العقاب عنه وذلك لا يحصل إلا بالنظر التام فإذا نظر وتفكر علم بالضرورة أن دين محمد أشرف الأديان وشريعته أعظم الشرائع { وهم على صلواتهم يحافظون } يعني يداومون عليها في أوقاتها . والمعنى : أن الإيمان بالآخرة يحمل على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك يحمل على المحافظة على الصلاة ، وفائدة تخصيص الصلاة بالذكر دون سائر العبادات ، التنبيه على أنها أشرف العبادات بعد الإيمان بالله تعالى ، فإذا حافظ العبد عليها يكون محافظاً على جميع العبادات والطاعات قوله عز وجل : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } يعني ومن أعظم خطأ وأجهل فعلاً ممن اختلق على الله كذباً فزعم أن الله بعثه نبياً وهو في زعمه كذاب مبطل { أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء } قال قتادة : نزلت هذه الآية في مسيلمة الكذاب بن ثمامة . وقيل مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة وكان صاحب نيرجات وكهانة وسجع ادعى النبوة باليمن وزعم أن الله أوحى إليه وكان قد أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسولين : فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشهدان أن مسيلمة نبي؟ قالا : نعم . فقال لهما : النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ( ق ) .
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة »(2/423)
وفي لفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رأيت في المنام كأن في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي ، يقال لأحدهما : مسيلمة صاحب اليمامة والعنسي صاحب صنعاء » قوله فأوحى إليّ أن أنفخهما يروى بالخاء المهملة ومعناه الرمي والدفع من نفخت الدابة برجلها إذا دفعت ورمحت ويروى بالخاء المعجمة من النفخ يريد أنه نفخهما فطارا عنه وهو قريب من الأول فأما مسيلمة الكذاب فإنه ادعى النبوة باليمامة من اليمن وتبعه قوم من بني حنيفة وكان صاحب نيرجات فاغترّ قومه بذلك وقتل مسيلمة . الكذاب في زمن خلافة أبي بكر الصديق قتله وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب وكان وحشي يقول : قتلت خير الناس يعني حمزة وقتلت شر الناس يعني مسيلمة وأما الأسود العنسي بالنون فهو عبهلة بن كعب وكان يقال له ذو الحمار ادعى النبة باليمن في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقتل والنبي صلى الله عليه وسلم حي لم يمت وذلك قبل موته بيومين وأخر أصحابه بقتله وقتله فيروز الديلمي فقال النبي صلى الله عليه وسلم فاز فيروز يعني بقتلة الأسود العنسي فمن قال إن هذه الآية يعني قوله تعالى : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء } انزلت في مسيلمة الكذاب والأسود العنسي يقول : إن هذه الآية مدنية نزلت بالمدينة وهو قول لبعض علماء التفسير تقدم ذكره في أول السورة ومن قال إن هذه الآية مكية وقال : إنها نزلت في شأنهما يقول إنها خبر عن غيب قد ظهر ذلك فيما بعد والله أعلم .
وقوله تعالى : { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } قال السدي : نزلت في عبد الله بن أبي سرح القرشي وكان قد أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه سمعياً بصيراً كتب عليماً حكيماً وإذا أملى عليه عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً فلما نزلت { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } أملاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك أحسن الخالقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتبها فهكذا نزلت فشك عبد الله بن أبي سرح وقال : لئن كان محمد صادقاً فقد أوحي إلي مثل ما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم رجع عبد الله بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة والنبي صلى الله عليه وسلم نازل بمر الظهران وقال ابن عباس نزل قوله ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله في المستهزئين وهو جواب لقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا قال العلماء وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذباً في ذلك الزمان وبعده لأنه لا يمنع خصوص السبب من عموم الحكم : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } يعني ولو ترى يا محمد حال هؤلاء الظالمين إذ أنزل بهم الموت لرأيت أمراً عظيماً وغمراته شدائده وسكراته وغمرة كل شيء معظمة وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ثم وضعت في موضع الشدائد والمكاره { والملائكة باسطوا أيديهم } يعني بالعذاب يضربون وجوههم وأدبارهم وقيل : باسطوا أيديهم لقبض أرواحهم { أخرجوا أنفسكم } يعني يقولون لهم أخرجوا أنفسكم .(2/424)
فإن قلت : إنه لا قدرة لأحد على إخراج روحه من بدنه فما فائدة هذا الكلام .
قلت : معناه يقولون لهم أخرجوا أنفسكم كرهاً لأن المؤمن يحب لقاء الله بخلاف الكافر وقيل معناه يقولون لهم خلصوا أنفسكم من هذا العذاب أن قدرتم على ذلك فيكون هذا القول توبيخاً لهم لأنهم لا يقدرون على خلاص أنفسهم من العذاب في ذلك الوقت { اليوم تجزون عذاب الهون } يعني الهوان { بما كنتم تقولون على الله غير الحق } يعني ذلك العذاب الذي تجزونه بسبب ما كنتم تقولون على الله غير الحق { وكنتم عن آياتنا تستكبرون } يعني وبسبب ما كنتم تتعظمون عن الإيمان بالقرآن ولا تصدقونه .(2/425)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
قوله تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى } يعني وحداناً لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم وهذا خبر من الله عز وجل عن حال الكافرين يوم القيامة وكيف يحشرون إليه ماذا يقول لهم في ذلك اليوم وفي قوله للكافرين ولقد جئتمونا فرادى تقريع وتوبيخ لهم لأنهم صرفوا هممهم في الدنيا إلى تحصيل المال والولد والجاه وأفنوا أعمارهم في عبادة الأصنام فلم يغن عنهم كل ذلك شيئاً يوم القيامة فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا { كما خلقناكم أول مرة } يعني جئتمونها حفاة عراة غرلاً يعني قلفاً كما ولدتهم أمهاتهم في أول مرة في الدنيا لا شيء عليهم ولا معهم ( ق ) .
عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : « أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً » { كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين } ( ق ) عن عائشة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « تحشر الناس حفاة غراة غرلاً » قالت عائشة : فقلت الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال « الأمر أشد من أن يهمهم ذلك » روى الطبري بسنده عن عائشة أنها قرأت قول الله عز وجل { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } فقالت : يا رسول الله واسوأتاه إن الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لكل امرئ منهم يومئذ شيء يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض » وقوله تعالى : { وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } يعني وتركتم الذي أعطيناكم وملكناكم من الأموال والأولاد والخدم والخول وكل ما أعطى الله العبد خوله فيه من المال والعبيد وراء ظهوركم يعني في الدنيا { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } يعني أن المشركين زعموا أنهم إنما عبدوا هذه الأصنام « لأنها تشفع لهم عند الله يوم القيامة لأنها شركاء الله تعالى الله عن ذلك فإذا كان يوم القيامة وبخ الله المشركين وقرعهم بهذه الآية ثم قال تعالى : { لقد تقطع بينكم } قرئ بنصب النون من بينكم ومعناه لقد تقطع ما بينكم من الوصل أو يكون معناه لقد تقطع الأمر بينكم وقرئ بينكم برفع النون ، ومعناه لقد تقطع وصلكم والبين من الأضداد يكون وصلاً ويكون هجراً { وضل عنكم ما كنتم تزعمون } يعني : وذهب وبطل ما كنتم تكذبون في الدنيا .(2/426)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
قوله عز وجل : { إن الله فالق الحب والنوى } لما تقدم الكلام على تقرير التوحيد وتقرير النبوة ، أردفه بذكر الدلائل على كمال قدرته وعلمه وحكمته تنبيهاً بذلك على أن المقصود الأعظم هو معرفة الله سبحانه وتعالى بجميع صفانه وأفعاله وأنه مبدع الأشياء وخالقها ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها وتعريقاً منه خطأ ما كانوا عليه من الإشراك الذي كانوا عليه . والمعنى : أن الذي يستحق العبادة دون غيره هو الله الذي فلق الحب عن النبات والنواة عن النخلة . وفي معنى فلق قولان : أحدهما : أنه بمعنى خلق ومعنى الآية على هذا القول : « أن الله خالق الحب والنوى » وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه وبه . قال الضحاك ومقاتل : قال الواحدي : ذهبوا بفالق مذهب فاطر . وأنكر الطبري هذا القول وقال لا يعرف في كلام العرب فلق الله الشيء بمعنى خلق . ونقل الأزهري عن الزجاج جوازه فقال : وقيل الفلق الخلق ، وإذا تأملت الخلق ، تبين لك أن أكثره عن انفلاق ومعنى هذا الكلام أن جميع الأشياء كانت قبل الوجود في العدم فلما أوجدها الله تعالى وأخرجها من العدم إلى الوجود فكأنه فلقها وأظهرها .
والقول الثاني : وهو قول الأكثرين أن الفلق هو الشق ثم اختلفوا في معناه على قولين : أحدهما : وهو مروي عن ابن عباس قال : فلق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة وهو قول الحسن والسدي وابن زيد . قال الزجاج : بشق الحبة اليابسة فيخرج منها ورقاً أخضر .
والقول الثاني : وهو قول مجاهد إنه الشقان اللذان في الحب والنوى والحب هو الذي ليس له نوى كالحنطة والشعير والأرز وما أشبه ذلك والنوى جمع نواة وهي ما كان على ضد الحب كالرطب والخوخ والمشمش وما أشبه ذلك ومعنى قوله : { فالق الحب والنوى } أنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر على ذلك قدر من الزمان أظهر الله تبارك وتعالى من تلك الحبة ورقاً أخضر ثم يخرج من ذلك الورق سنبلة يكون فيها الحب ويظهر من النواة شجرة صاعدة في الهواء وعروقاً ضاربة في الأرض فسبحان من أوجد جميع الأشياء بقدرته وإبداعه وخلقه .
وقوله تعالى : { يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي } قال ابن عباس : في رواية عنه : يخرج من النطفة بشراً حياً ويخرج النطفة الميتة من الحي وهذا قول الكلبي ومقاتل . قال الكلبي : يخرج النسمة الحية من النطفة الميتة ويخرج الفرخة من البيضة ويخرج النطفة الميتة والبيضة الميتة من الحي . وقال ابن عباس في رواية أخرى : يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن فجعل الإيمان بمنزلة الحياة والكفر بمنزلة الموت وهذا قول الحسن .(2/427)
وقيل : معناه يخرج الطائع من العاصي والعاصي من الطائع . وقال السدي : يخرج النبات من الحب والحب من النبات وهذا اختيار الطبري لأنه قال عقب قوله { إن الله فالق الحب والنوى } .
فإن قلت كيف قال ومخرج الميت من الحي بلفظ اسم الفاعل بعد قوله { يخرج الحي من الميت } وما السبب في عطف الاسم على الفعل .
قلت : قوله { ومخرج الميت من الحي } عطف على قوله : { فالق الحب والنوى } وقوله : { يخرج الحي من الميت } كالبيان والتفسير لقوله { فالق الحب والنوى } لأن فلق الحب والنوى واليابس وإخراج النبات والشجر منه من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي من النبات في حكم الحيوان وقوله { ذلكم الله } يعني ذلكم الله المدبر الخالق الصانع لهذه الأشياء المحيي المميت لها { فأنى تؤفكون } يعني فأنى تصرفون عن الحق فتعبدون غير الله الذي هو خالق الأشياء كلها وفيه دليل أيضاً على صحة البعث بعد الموت لأن القادر على إخراج البدن من النطفة قادر على إخراجه من التراب للحساب قول تعالى : { فالق الإصباح } أي شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده والإصباح مصدر سمي به الصبح . وقال الزجاج : الإصباح والصبح واحد وهما أول النهار .
فإن قلت ظاهر الآية يدل على أنه تعالى فلق الصبح ، والظلمة هي التي تنلفق بالصبح فما معنى ذلك؟ قلت ذكر العلماء فيه وجوهاً :
الأول : أن يكون المراد فالق ظلمة الصبح وذلك لأن الصبح صبحان : فالصبح الأول هو البياض المستطيل الصاعد في الألفق كذنب السرحان وهو الذئب ثم تعقبه ظلمة بعد ذلك ويسمى هذا الصبح الفجر الكاذب لأنه يبدو في الأفق الشرقي ثم يضمحل ويذهب ثم يطلع بعده الصبح الثاني ، وهو الضوء المستطير في جميع الأفق الشرقي ويسمى الفجر الصادق لأنه ليس بعده ظلمة والحاصل من هذا أن يكون المعنى : فالق ظلمة الصبح الأول بنور الصبح الثاني .
الوجه الثاني : أنه تعالى كما شق ظلمة الليل بنور الصباح فكذلك يشق نور الصبح بضياء النهار فيكون معنى قوله : { فالق الإصباح } أي فالق الصباح بنورالنهار .
الوجه الثالث : أن يراد فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش في آخر الليل الذي يلي الصبح .
الوجه الرابع : أن يكون المعنى فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر إذا انصدع الفجر وانفلق وسمي الفجر فلقاً بمعنى مفلوق .
الوجه الخامس : الفلق بمعنى الخلق يعني خالق الإصباح . وعلى هذا القول يزول الإشكال . والصبح هو الضوء الذي يبدو أول النهار . والمعنى أنه تعالى مبدي ضوء الصبح وخالقه ومنوره .
وقوله تعالى : { وجعل الليل سكناً } السكن ما سكنت إليه واسترحت به . يريد أن الناس يسكنون في الليل سكون راحة لأن الله جعل الليل لهم كذلك . قال ابن عباس : إن كل ذي روح يسكن فيه لأن الإنسان قد أتعب نفسه في النهار فاحتاج إلى زمان يستريح فيه ويسكن عن الحركة وذلك هو الليل { والشمس والقمر حسباناً } يعني أنه تعالى قدر حركة الشمس والقمر في الفلك بحسبان معين .(2/428)
قال ابن عباس : يجريان إلى أجل جعل لهما يعني عدد الأيام والشهور والسنين وقال الكلبي منازلهما بحسبان لا يجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما { ذلك } إشارة إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية من الأشياء التي خلقها بقدرته وكمال علمه وهو المراد بقوله { تقدير العزيز العليم } فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه .
قوله عز وجل : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } جعل هنا بمعنى خلق يعني والله الذي خلق لكم هذه النجوم أدلة لتهتدوا بها إذا ضللتم الطريق وتحيرتم فيه ، فامتنّ الله على عباده بأن جعل لهم النجوم ليهتدوا بها في المسالك والطرق في البر والبحر إلى حيث يريدون ويستدلون بالنجوم أيضاً على القبلة فيستدلون على ما يريدون في النهار بحركة الشمس وفي الليل بحركة الكواكب ومن منافعها أيضاً أنه تعالى خلقها زينة للسماء ورجوماً للشياطين كما قال : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين } { قد فصلنا الآيات } يعني قد بينّ الآيات الدالة على توحيدنا وكمال قدرتنا { لقوم يعلمون } أن ذلك مما يستدل به على وجود الصانع المختار وكمال علمه وقدرته .
قوله تعالى : { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } يعني والله الذي ابتدأ خلقكم أيها الناس من آدم عليه السلام فهو أبو البشر كلهم وحواء مخلوقة منه عيسى أيضاً لأن ابتداء خلقه من مريم وهي من بنات آدم فثبت أن جميع الخلق من آدم عليه السلام { فمستقر ومستودع } قرئ فمستقر بكسر القاف وفتحها . يقال : قر في مكانه واستقر فمن كسَر القاف قال : المستقر بمعنى القارّ . والمعنى : منكم مستقر يعني في الأرحام . ومن فتح القاف جعله مكاناً فالمستقر نفسه المقر فيكون المعنى لكم مقر .
وأما المستودع فهو مثل أودع فيجوز أن يكون اسماً للإنسان الذي استودع ذلك المكان ويجوز أن يكون المكان نفسه .
فمن قرأ فمستقر بفتح القاف جعل المستودع مكاناً ، والمعنى : فلكم مكان استقرار ومكان استيداع ومن كسر القاف جعل المعنى منكم مستقر ومنكم مستودع يعني منكم من استقر ومنكم من استودع والفرق بين المستقر والمستودع أن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع ، لأن المستقر من القرار والمستودع معرض لأن يرد .
ولهذا اختلفت عبارات المفسرين في معنى هذين اللفظين فروي عن ابن عباس أنه قال المستقر في أرحام الأمهات والمستودع في أصلاب الآباء ثم قرأ { ونقر في الأرحام ما نشاء } ويؤيد هذا القول أن النطفة لا تبقى في صلب الأب زماناً طويلاً والجنين يبقى في بطن الأم زماناً طويلاً ، ولما كان المكث في بطن الأم أكثر من صلب الأب حمل المستقر على الرحم والمستودع على الصلب .(2/429)
وروي عنه أنه قال : بالعكس يعني أن المستقر صلب الأب والمستودع رحم الأم . ووجه هذا القول ، أن النطفة حصلت في صلب الأب قبل رحم الأم فوجب حمل المستقر على الصلب والمستودع على الرحم . وقال ابن مسعود : المستقر في الرحم إلى أن يولد والمستودع في القبر إلى أن يبعث وقال مجاهد : المستقر على ظهر الأرض في الدنيا لقوله : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } والمستودع عند الله في الآخرة . وقال الحسن : المستقر في القبر والمستودع في الدنيا وكان يقول يا ابن آدم أنت مستودع في أهلك إلى أن تلحق بصاحبك يعني القبر وقيل المستودع في القبر والمستقر إما في الجنة والنار ، لأن المقام فيهما يقتضي الخلود والتأبيد { قد فصلنا الآيات } قد بينّا الدلائل الدالة على التوحيد بالبراهين الواضحة والحجج القاطعة { لقوم يفقهون } يعني لقوم يفهمون عن الله آياته ودلائلة الدالة على توحيده لأن الفقه هو الفهم .(2/430)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
قوله عز وجل : { وهو الذي أنزل من السماء ماء } يعني المطر وقيل إن الله ينزل المطر من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض { فأخرجنا به } يعني بالماء أنزلناه من السماء { نبات كل شيء } يعني كل شيء ينبت وينمو من جميع أصناف النبات ، وقيل معناه أخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء غذاء كل شيء من : الأنعام والبهائم والطير والوحش وأرزاق بني آدم وأقواتهم مما يتغذون به فينبتون عليه وينمون { فأخرجنا منه خضراً } يريد أخضر مثل عور وأعور . والأخضر هو جميع الزروع والبقول الرطبة { نخرج منه حباً متراكباً } يعني : يخرج من ذلك الأخضر سنابل فيها الحب يركب بعضها فوق بعض مثل : سنبل القمح والشعير والارز والذرة وسائر الحبوب وفي تقديم الزرع على النخيل دليل على الأفضلية ولأن حاجة الناس إليه أكثر لأنه القوت المألوف { ومن النخل من طلعها قنوان دانية } يعني من ثمرها . يقال : أطلعت النخلة إذا أخرجت طلعها وطلعها كفراها قبل أن ينشق عن الإغريض . والإغريض : يسمى طلعاً أيضاً وهو ما يكون في قلب الطلع والطلع أول ما يبدو ويخرج من ثمر النخل كالكيزان يكون فيه العذق فإذا شق عنه كيزانه سمي عذقاً وهو القنو وجمعه قنوان مثل : صنو وصنون . دانية أي قريبة التناوي ينالها القائم والقاعد وقال مجاهد : متدلية . وقال الضحاك : قصار ملتصقة بالأرض وفيه اختصار وحذف تقديره ومن النخل ما قنوانها دانية قريبة ومنها ما هي بعيدة عالية فاكتفى بذكر القريبة عن البعيدة لشدة الاهتمام بها ولأنها أسهل تناولاً من البعيدة لأن البعيدة تحتاج إلى كلفة { وجنات من أعناب } يعني وأخرجنا من ذلك بساتين من أعناب { والزيتون والرمان } يعني وأخرجنا شجرة الزيتون وشجر الرمان { مشتبهاً } قال قتادة مشتبهاً ورقها مختلفاً ثمرها لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان { وغير متشابه } يعني ومنها غير متشابه في الورق والطعم . واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه الآية أربعة أنواع من الشجرة بعد ذكر الزرع وإنما قدم الزرع على سائر الأشجار لأن الزرع غذاء وثمار أشجار فواكه والغذاء مقدم على الفواكه وإنما قدم النخلة على غيرها لأن ثمرتها تجري مجرى الغذاء ، وفيها من المنافقع والخواص ما ليس في غيرها من الأشجار وإنما ذكر العنب عقب النخلة؛ لأنها من أشرف أنواع الفواكه ثم ذكر عقبه الزيتون لما فيه من البركة والمنافع الكثرة في الأكل وسائر وجوه الاستعمال ثم ذكر عقيبه الرمان لما فيه من المنافع أيضاً لأنه فاكهة ودواء ثم قال تعالى : { انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } يعني ونضجه وإدراكه . والمعنى انظروا نظر استدلال واعتبروا كيف أخرج الله تعالى هذه التمرة الرطبة اللطيفة من هذه الشجرة الكثيفة اليابسة وهو قوله : { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } يعني يصدقون أن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار قادر على أن يحيى الموتى ويبعثهم وإنما احتج الله عليهم بتصريف ما خلق ونقله من حال إلى حال وهو ما يعلمونه قطعاً ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها وإخراج سائر أنواع النبات والثمار منها وأنه لا يقدر على ذلك أحد إلا الله تعالى ليبين أنه تعالى كذلك قادر على أن يحييهم بعد موتهم ويبعثهم يوم القيامة فاحتج عليهم بهذه الأشياء لأنهم كانوا ينكرون البعث .(2/431)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
قوله تعالى { وجعلوا لله شركاء الجن } قال الحسن : معناه أطاعوا الجن في عبادة الأوثان . وهو اختيار الزجاج . قال : معناه إنهم أطاعوا الجن فيما سولت لهم من شركهم فجعلوهم شركاء لله . وقال الكلبي : نزلت في الزنادقة أثبتوا الشرك لاثنين في الخلق فقالوا الله خالق النور والناس والدواب والأنعام وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب ونقل هذا القول ابن الجوزي عن ابن السائب ونقله الرازي عن ابن عباس . قال الإمام فخر الدين : وهذا مذهب المجوس . وإنما قال ابن عباس : هذا قول الزنادقة ، لأن المجوس يلتبسون بالزندقة ، لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل من السماء سماه بالزند والمنسوب إليه زندي ثم عرب : فقيل : زنديق فإذا جمع ، قيل : زنادقة . ثم إن المجوس قالوا : كل ما يكون في هذا العالم من الخير فهو من يزدان يعني النور وجميع ما في العالم من الشر فهو من الظلمة يعني إبليس ثم اختلف المجوس فالأكثرون منهم على أن إبليس محدث ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة والأقلون منهم قالوا : إنه قديم وعلى كلا القولين فقد اتفقوا على أنه شريك الله في تدبير هذا العالم فما كان من خير فمن الله وما كان من شر فمن إبليس تعالى الله عن قولهم علوّاً كبيراً .
فإن قلت فعلى هذا القول إنما أثبتوا لله شريكاً واحداً وهو إبليس فكيف حكى الله أنهم جعلوا له شركاء قلت : إن إبليس له أعوان من جنسه وحزبه وهم شياطين الجن يعملون أعماله فصح ما حكاه الله عنهم من أنهم جعلوا له شركاء الجن ومعنى الآية وجعلوا الجن شركاه لله واختلفوا في معنى هذه الشركة فمن قال إن الآية في كفار العرب قال إنهم لما أطاعوا الجن فما أمروهم به من عبادة الأصنام فقد جعلوهم شركاء لله ومن قال إنها في المجوس قال إنهم أثبتوا إلهين اثنين النور والظلمة ، وقيل إن كفار العرب قالوا الملائكة بنات الله وهم شركاؤه فعلى هذا القول فقد جعلوا الملائكة من الجن وذلك لأنهم مستورون عن الأعين .
وقوله { وخلقهم } في معنى الكناية قولان : أحدهما : أنها تعود إلى الجن فيكون المعنى : والله خلق الجن فكيف يكون شريك الله من هو محدث مخلوق .
والقول الثاني : إن الكناية تعود إلى الجاعلين لله شركاء فيكون المعنى : وجعلوا لله الذي خلقهم شركاء لا يخلقون شيئاً .
وهذا كالدليل القاطع بأن المخلوق لا يكون شريكه لله وكل ما في الكون محدث مخلوق والله تعالى هو الخالق لجميع ما في الكون فامتنع أن يكون لله شريك في ملكه { وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } أي اختلقوا وكذبوا يقال : اختلق واخترق على فلان إذا كذب عليه وذلك أن النصارى وطائفة من اليهود ادعوا أن لله ابناً ، وكفار العرب ادعوا أن الملائكة بنات الله وكذبوا على الله جميعاً فيما ادعوه وقوله { بغير علم } كالتنبيه على ما هو الدليل القاطع على فساد هذا القول لأن الولد جزء من الأب والله سبحانه وتعالى لا يتجزأ فثبت بهذا فساد قول من يدعي أن لله ولداً ثم نزه الله تعالى نفسه عن اتخاذ الولد وعن هذه الأقاويل الفاسدة فقال تعالى : { سبحانه وتعالى عما يصفون } فقوله سبحانه فيه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وقوله تعالى يعني هو المتعالي عن كل اعتقاد باطل وقول فاسد ، أو يكون المعنى : المتعالي عن اتخاذ الولد والتشريك وقوله { عما يصفون } يعني عما يصفونه به من الكذب .(2/432)
قوله عز وجل : { بديع السموات والأرض } الإبداع عبارة عن تكوين الشيء على غير مثال سبق والله تعالى خلق السموات والأرض على غير مثال سبق { أنى يكون له ولد } يعني من أين يكون له ولد { ولم تكن له صاحبة } لأن الولد لا يكون إلا من صاحبة أنثى ولا ينبغي أن تكون لله صاحبة لأنه ليس كمثله شيء { وخلق كل شيء } يعني أن الصاحبة والولد في جملة من خلق لأنه خالق كل شيء وليس كمثله شيء فكيف يكون الولد لمن لا مثل له وإذا نسب الولد والصاحبة إليه فقد جعل له مثل والله تعالى منزه عن المثلية وهذه الآية حجة قاطعة على فساد قول النصارى { وهو بكل شيء عليم } يعني أنه تعالى عالم بجميع خلقه لا يعزب عن علمه شيء وعلمه محيط بكل شيء .
قوله تعالى : { ذلكم الله ربكم } يعني ذلكم الله الذي من صفته أنه خلق السموات والأرض وأبدعهما على غير مثال سبق { وأنه بكل شيء عليم } هو ربكم الذي يستحق العبادة لا من تدعون من دونه من الأصنام لأنها جمادات لا تخلق ولا تضر ولا تنفع ولا تعلم والله تعالى هو الخالق الضار النافع { لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه } يعني أنه هو الذي يستحق العبادة فاعبدوه وأطيعوه { وهو على كل شيء وكيل } يعني أنه هو تعالى على كل شيء خلق رقيب حفيظ ، يقوم بأرزاق جميع خلقه .(2/433)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
قوله عز وجل : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } قال جمهور المفسرين معنى : الإدراك الإحاطة بكنه الشيء وحقيقته فالأبصار ترى البارئ جل جلاله ولا تحيط به كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به . وقال سعيد بن المسيب في تفسيره : قوله لا تدركه الأبصار ، لا تحيط به الأبصار . وقال ابن عباس : كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به .
( فصل )
تمسك بظاهر الآية قوم من أهل البدع ووهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة وقالوا : إن الله تبارك وتعالى لا يراه أحد من خلقه وإن رؤيته مستحيلة عقلاً ، لأن الله أخبر أن الأبصار لا تدركه وإدراك البصر عبارة عن الرؤية ، إذ لا فرق بين قوله أدركته ببصري ورأيته ببصري فثبت بذلك أن قوله لا تدركه الأبصار بمعنى لا تراه الأبصار وهذا يفيد العموم ومذهب أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة وأن رؤيته غير مستحيلة عقلاً واحتجوا لصحة مذهبهم بتظاهر أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، ومن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تبارك وتعالى للمؤمنين في الآخرة قال الله تبارك وتعالى : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } ففي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وقال تعالى : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } قال الشافعي رحمه الله : حجب قوماً بالمعصية وهي الكفر فثبت أن قوماً يرونه بالطاعة وهي الإيمان وقال مالك لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الكفار بالحجاب وقال تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } وفسروا هذه الزيادة بالنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى يوم القيامة .
وأما دلائل السنة فما روي عن جرير بن عبد الله البجلي قال « كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } » أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة : « أن ناساً قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضامون في القمر ليلة البدر؟ قالوا لا يا رسول الله قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا لا يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكم ترونه » كذلك أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي وليس عنده في أوله أن أناساً سألوا ولا في آخره ليس دونها سحاب . عن أبي رزين العقيلي قال : « قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه مخلياً به يوم القيامة؟ قال : نعم قلت وما آية ذلك من خلقه؟ قال : يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخلياً به قلت بلى قال : » فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله يعني القمر فالله جل وأعظم «(2/434)
أخرجه أبو داود وأما الدلائل العقلية ، فقد احتج أهل السنة أيضاً بهذه الآية على جواز رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ، وتقريره ، أنه تعالى تمدح بقوله لا تدركه الأبصار فلو لم يكن جائز الرؤية وتحقيق هذا أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث تمتنع رؤيته فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم ، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية . ثم إنه قدر على حجب الأبصار عنه كانت القدرة دالة على المدح والعظمة فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة ، لأن موسى صلى الله عليه وسلم سأل الرؤية بقوله : أرني أنظر إليك وذلك يدل على جواز الرؤية ، إذ لا يسأل نبي مثل موسى ما لا يجوز ويمتنع وقد علق الله الرؤية على استقرار الجبل بقوله فإن استقر مكانه فسوف تراني . استقرار الجبل جائز . والمعلق على الجائز جائز . وأما الجواب عن تمسك المعتزلة بظاهر هذه الآية في نفي الرؤية ، فاعلم أن الإدراك غير الرؤية ، لأن الإدراك هو الإحاطة بكنه الشيء وحقيقته ، والرؤية : المعاينة للشيء من غير إحاطة . وقد تكون الرؤية بغير إدراك كما قال تعالى في قصة موسى : قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا وكان قوم فرعون قد رأوا قوم موسى ولم يدركوهم ولكن قاربوا إدراكهم إياه فنفى موسى الإدراك مع إثبات الرؤية بقوله كلا والله تعالى يجوز أن يرى في الآخرة من غير إدراك ولا إحاطة لأن الإدراك هو الإحاطة بالمرئي وهو ما كان محدوداً وله جهات والله تعالى منزه عن الحد والجهة لأنه القديم الذي لا نهاية لوجوده فعلى هذا أنه تعالى يرى ولا يدرك وقال قوم : إن الآية مخصوصة بالدنيا . قال ابن عباس في معنى الآية : لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة وعلى هذا القول فلا فرق بين الإدراك والرؤية قالوا ويدل على هذا التخصيص قوله : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } فقوله : { يومئذ ناظرة } مقيد بيوم القيامة على هذا يمكن الجمع بين الآيتين وقال السدي : البصر بصران : بصر معاينة وبصر علم فمعنى قوله { لا تدركه الأبصار } لا يدركه علم العلماء ونظيره ولا يحيطون به علماً هذا وجه حسن أيضاً والله أعلم .
وقوله تعالى : { وهو يدرك الأبصار } يعني أنه تعالى يرى جميع المرئيات ويبصر جميع المبصرات لا يخفى عليه شيء منها ويعلم حقيقتها ومطلع على ماهيتها فهو تعالى لا تدركه أبصار المبصرين وهو يدركها { وهو اللطيف الخبير } قال ابن عباس : بأوليائه الخبير بهم .(2/435)
وقال الزهري : معنى اللطيف الرفيق بعباده . وقيل هو الموصل الشيء إليك برفق ولين . وقيل هو الذي ينسى عباده ذنوبهم لئلا يخجلوا وأصل اللطف دقة النظر في الأشياء . وقال أبو سليمان الخطابي : اللطيف هو اللين بعباده يلطف بهم من حيث لا يعلمون ويوصل إليهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون . وقال الأزهري : اللطيف في أسماء الله تعالى معناه الرفيق بعباده . وقيل : هو اللطيف حيث لم يأمر عباده بفوق طاقتهم وينعم عليهم فوق استحقاقهم . وقيل : هو اللطيف بعباده حيث يثني عليهم عند الطاعة ولم يقطع عنهم بره وإحسانه عند المعصية . وقيل : هو الذي لطف عن أن تدركه الأبصار وهو يدركها .
قوله تعالى : { قد جاءكم بصائر من ربكم } البصائر : جمع البصيرة ، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به . والمعنى : قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والحجج التي تبصرون بها الهدى من الضلالة والحق من الباطل . وقيل : إن الآيات والبراهين ليست في أنفسها بصائر إلا أنها لقوّتها توجب البصائر لمن عرفها ووقف على حقائقها فلما كانت هذه الآيات والحجج والبراهين أسباباً لحصول البصائر سميت بصائر { فمن أبصر } يعني فمن عرف الآيات واهتدى بها إلى الحق { فلنفسه } يعني فلنفسه أبصر ولها عمل لأنه يعود نفع ذلك عليه { ومن عمي } يعني ومن جهل ولم يعرف الآيات ولم يستدل بها إلى الطريق { فعليها } يعني فعلى نفسه عمى ولها ضر وكان وبال ذلك العمى عليه لأن الله تعالى غني عن خلقه { وما أنا عليكم بحفيظ } يعني وما أنا عليكم برقيب أحصي عليكم أعمالكم وأفعالكم إنما أنا رسول من ربكم إليكم أبلغكم ما أرسلت به إليكم والله هو الحفيظ عليكم لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأحوالكم . وقيل معناه لا أقدر أن أدفع عنكم ما يريده الله بكم وقيل معناه لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ الوكيل وهذا كان قبل الأمر بقتال المشركين فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بآيات السيف وعلى القول الأول ليست منسوخة والله أعلم .
قوله عز وجل : { وكذلك نصرف الآيات } يعني وكذلك نبين الآيات ونفصلها في كل وجه كما صرفناها وبينها من قبل { وليقولوا درست } يعني وكذلك نصرف الآيات لتلزمهم الحجة وليقولوا درست . وقيل : معناه لئلا يقولوا درست وقيل اللام فيه لام العاقبة ومعناه عاقبة أمرهم أن يقولوا درست يعني قرأت على غيرك . يقال : درس الكتاب يدرسه دراسة إذا أكثر قراءته وذلله للحفظ . قال ابن عباس : وليقولوا ، يعني أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن درست يعني تعلمت من يسار وجبر وكانا عبدين من سبي الروم ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله وقال الفراء : معناه تعلمت من اليهود وقرئ دارست بالألف بمعنى قارأت أهل الكتاب من المدارسة التي هي بين اثنين يعني يقولون قرأت على أهل الكتاب وقرؤوا عليك وقرئ درست بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء ومعناه أن هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة فدرست وانمحت من قولهم فرس الأثر إذا محي وذهب أثره { ولنبينه لقوم يعلمون } يعني القرآن وقيل : معناه نصرف الآيات لقوم يعلمون .(2/436)
قال ابن عباس : يريد أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد وقيل : معنى الآية وكذلك نصرف الآيات ليسعد بها قوم ويشفى بها آخرون فمن أعرض عنها وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « درست أو درست فهو شقي ومن تبين له الحق وفهم معناها وعمل بها فهو سعيد » وقال أبو إسحاق : إن السبب الذي أداهم إلى أن قالوا درست هو تلاوة الآيات عليهم وهذه اللام تسميها أهل اللغة لام الصيرورة يعني صار عاقبة أمرهم أن قالوا دارست فصار ذلك سبباً لشقاوتهم وفي هذا دليل على أن الله تعالى جعل تصريف الآيات سبباً لضلالة قوم وشقاوتهم وسعادة قوم وهدايتهم .(2/437)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
قوله تعالى : { اتبع ما أوحي إليك من ربك } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني اتبع يا محمد ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك وهو القرآن فاعمل به وبلغه إلى البادي ولا تلتفت إلى قول من يقول : دارست أو درست . وفي قوله اتبع ما أوحي إليك من ربك تعزية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم وإزالة الحزن الذي حصل له بسبب قولهم درست ونبه بقوله تعالى : { لا إله إلا هو } أنه سبحانه وتعالى واحد فرد صمد لا شريك له وإذا كان كذلك فإنه تجب طاعته ولا يجوز تركها بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين وقوله تعالى : { وأعرض عن المشركين } قيل : المراد منه في الحال لا الدوام وإذا كان كذلك لم يكن النسخ وقيل : المراد ترك مقالتهم فعلى هذا يكون الأمر بالإعراض منسوخة بآية القتال قوله عز وجل : { ولو شاء الله ما أشركوا } قال الزجاج : معناه لو شاء الله لجعلهم مؤمنين وهذا نص صريح في أن شركهم كان بمشيئة الله تعالى خلافاً للمعتزلة في قولهم لم يرد من أحد الكفر والشرك فالآية رد عليهم { وما جعلناك عليهم حفيظاً } يعني : وما جعلناك يا محمد على هؤلاء المشركين رقيباً ولا حافظاً تحفظ عليهم أعمالهم . وقال ابن عباس في رواية عطاء : وما جعلناك عليهم حفيظاً تمنعهم منّا ومعناه إنك لم تبعث لتحفظ المشركين من العذاب وإنما بعثت مبلِّغاً فلا تهتهم بشركهم فإن ذلك بمشيئة الله تعالى : { وما أنت عليهم بوكيل } يعني وما أنت عليهم بقيِّم تقوم بأرزاقهم وما أنت عليهم بمسيطر ، فعلى التفسير الأول تكون الآية منسوخة بآية السيف وعلى قول ابن عباس : لا تكون منسوخة .
قوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم } الآية قال ابن عباس : لما نزلت : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } قال المشركون يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدواً بغير علم وقال قتادة : كان المؤمنون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله عن ذلك لئلا يسبوا الله لأنهم قوم جهلة لا علم لهم بالله عز وجل . وقال السدي : لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش انطلقوا بنا لندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان عمه يمنعه فلما مات قتلوه . فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبيّ ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن أبي البختري إلى أبي طالب ، فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه فدعاه جاء النبي صلى الله عليه وسلم : فقال له أبو طالب : إن هؤلاء قومك وبنو عمك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/438)
« وما يريدون » ؟ قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك . فقال له أبو طالب : قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن أعطيتكم هذا فهل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم العجم وأدت لكم الخراج؟ فقال أبو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ فقال : « قولوا لا إله إلا الله » « فأبوا ونفروا » فقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي فقال : « يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها إرادة أن يؤيسهم » فقالوا : لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ونشتمن من يأمرك فأنزلت : { ولا تسبوا الذين تدعون من دون الله } يعني ولا تسبوا أيها المؤمنون الأصنام التي يعبدها المشركون فيسبوا الله عدواً بغير علم يعني فيسبوا الله ظلماً بغير علم لأنهم جهلة بالله عز وجل . قال الزجاج : نهوا في ذلك الوقت قبل القتال أن يلعنوا الأصنام التي كانت عبدها المشركون . وقال ابن الأنباري : هذه الآية منسوخة أنزلها الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة فلما قواه بأصحابه نسخ هذه الآية ونظائرها بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . وقيل إنما نهوا عن سب الأصنام وإن كان في سبها طاعة وهو مباح لما يترتب على ذلك من المفاسد التي هي أعظم من ذلك وهو سب الله عز وجل وسب رسوله وذلك من أعظم المفاسد فلذلك نهوا عن سب الأصنام وقيل لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا آلهتكم فيسبوا ربكم فأمسك المسلمون عن سب آلهتهم فظاهر الآية وإن كان نهياً عن سب الأصنام فحقيقته النهي عن سب الله تعالى لأنه سبب لذلك .
وقوله تعالى : { كذلك زينا لكل أمة عملهم } يعني كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان كذلك زينا لكل أمه عملهم من الخير والشر والطاعة والمعصية وفي هذه الآية دليل على تكذيب القدرية والمعتزلة حيث قالوا لا يحسن من الله خلق الكفر وتزيينه .
وقوله تعالى : { ثم إلى ربهم مرجعهم } يعني المؤمن والكافر والطائع والعاصي { فينبئهم بما كانوا يعملون } يعني في الدنيا ويجازيهم على ذلك .(2/439)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
قوله عز وجل : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } قال محمد بن كعب القرظي والكلبي : قالت قريش يا محمد إنك تخبرنا أن موسى كانت له عصاً يضرب بها الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى فأتنا بآية حتى نصدقك ونؤمن بك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أي شيء تحبون » ؟ قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً وابعث لنا بعض موتانا نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل؟ وأرنا الملائكة يشهدون لك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن فعلت بعض ما تقولون أتصدقوني » ؟ قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعك أجمعون . وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يدعو الله عز وجل أن يجعل الصفا ذهباً فجاءه جبريل فقال ما شئت أن شئت أصبح ذهباً ولكن إن لم يصدقوك لنعذبهم وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « بل يتوب تائبهم » فأنزل الله عز وجل : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } يعني وحلفوا بالله جهد أيمانهم يعني وحلفوا بالله جهد أيمانهم يعني أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأشدها . قال الكلبي ومقاتل : إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه { لئن جاءتهم آية } يعني كما جاءت من قبلهم من الأمم { ليؤمنن بها } يعني ليصدقن بها { قل } يعني قل يا محمد { إنما الآيات عند الله } يعني أن الله تعالى قادر على إنزالها روما يشعركم } يعني : وما يدريكم . ثم اختلف في المخاطبين بقوله وما يشعركم فقيل هو خطاب للمشركين الذين أقسموا بالله وقيل هو خطاب للمؤمنين واختلفوا في قوله { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } فقرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر عن عاصي إنها بكسر الألف على الابتداء وقالوا تم الكلام عند قوله وما يشعروكم على معنى وما يدريكم ما يكون منهم ثم ابتداء فقال : { إنها إذا جاءت لا يؤمنون } فمن جعل الخطاب للمشركين قال معناه وما يشعركم أيها المشركون أنها يعني الآيات إنها إذا جاءت آمنتم . ومن جعل الخطاب للمؤمنين قال معناه وما يشعركم أيها المؤمنون إذا جاءت آمنوا لأن المؤمنين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يريهم ما اقترحوا حتى يؤمنوا فخاطبهم الله بقوله : { وما يشعركم } ثم ابتدأ فقال تعالى إنها : { إذا جاءت لا يؤمنون } وهذا في قوم مخصوصين حكم الله عز وجل عليهم بأنهم لا يؤمنون وذلك لسابق علمه فيهم وقرأ الباقون أنها بفتح الألف وجعلوا الخطاب في ذلك للمؤمنين لأن المؤمنين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنزال الآيات حتى يؤمن المشركون بها إذا رؤوها لأن المشركين كانوا حلفوا أنهم إذا جاءتهم آية آمنوا وصدقوا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنزال الآيات لذلك فقال الله تعالى : وما يشعركم أيها المؤمنون أن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون فعلى هذا اختلفوا في لفظة لا من قوله لا يؤمنون فقيل هي صلة والمعنى وما يشعركم إنها إذا جاءت يؤمنون وقيل هي على بابها وفيه حذف والمعنى وما يشعركم أنها إذا جاءتهم يؤمنون أو لا يؤمنون وقيل إن بمعنى لعل في قوله إنها إذا جاءت وكذلك هو في قراءة أبيّ بن كعب لعلها إذا جاءت وهذا سائغ في كلام العرب تقول العرب : أئت السوق أنك تشتري لنا شيئاً ، بمعنى لعلك ومنه قول عدي بن زيد :
أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
يعني لعل منيتي .(2/440)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
قوله تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } قال ابن عباس : يعني ونحول بينهم وبين الإيمان فلو جئناهم بالآيات التي سألوها لما آمنوا بها . والتقليب هو تحويل الشيء وتحريكه عن وجهه إلى وجه آخر لأن الله تعالى إذا صرف القلوب والأبصار عن الإيمان بقيت على الكفر { كما لم يؤمنوا به أول مرة } يعني كما لم يؤمنوا بما قبل ذلك من الآيات التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل انشقاق القمر وغير ذلك من المعجزات الباهرات ، وقيل : أول مرة يعني الآيات التي جاء بها موسى وغيره من الأنبياء .
وقال ابن عباس : المرة الأولى دار الدنيا يعني لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة قبل مماتهم وفي الآية دليل على أن الله تعالى : { يهدي من يشاء ويضل من يشاء } وأن القلوب والأبصار بيده وفي تصريفه فيقيم ما شاء منها ويزيغ ما أراد منها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك » فمعنى قوله بقلب أفئدتهم نزيغها عن الإيمان ونقلب أبصارهم عن رؤية الحق ومعرفة الصواب وإن جاءتهم الآية التي سألوها فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بالله ورسوله وبما جاء من عند الله ، فعلى هذا تكون الكناية في به عائدة على الإيمان بالقرآن وبما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل سؤالهم الآيات التي اقترحوها .
وقوله تعالى : { ونذرهم في طغيانهم يعمهون } يعني ونترك هؤلاء المشركين الذين سبق علم الله أنهم لا يؤمنون في تمردهم على الله واعتدائهم عيله يترددون لا يهتدون إلى الحق .
قوله عز وجل : { ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة } قال ابن جريج : نزلت في المستهزئين ، وذلك أنهم أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش ، فقالوا : يا محمد ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل وأرنا الملائكة يشهدن لك أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلاً فنزلت هذه الآية جواباً لهم . والمعنى : ولو أنا نزلنا إليهم الملائكة حتى يشهدوا لك بالرسالة { وكلمهم الموتى } يعني كما سألوا { وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً } يعني وجمعنا عليهم كل شيء قبلاً قبيلاً ، قيل القبيل الكفيل بصحة ما تقول ما آمنوا وهو قوله : { ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } يعني إلا أن يشاء الله الإيمان منهم وفيه دليل على أن جميع الأشياء بمشيئة الله تعالى حتى الإيمان والكفر ، وموضع المعجزة أن الأشياء المحشورة منها ناطق ومنها صامت فإذا أنطق الله الكل حتى يشهدوا له بصحة ما يقول كان ذلك في غاية الإعجاز .(2/441)
وقيل قبلاً من المقابلة والمواجهة ، والمعنى : وحشرنا عليهم كل شيء مواجهة ومعاينة { ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } أخبر الله أن الإيمان بمشيئة الله لا كما ظنوا أنهم متى شاؤوا آمنوا ومتى شاؤوا لم يؤمنوا ، وقال ابن عباس : ما كانوا ليؤمنوا هم أهل الشقاء إلا أن يشاء الله هم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أنهم يدخلون في الإيمان . وصحح الطبري قول ابن عباس قال : لأن الله عم بقوله ما كانوا ليؤمنوا القوم الذين تقدم ذكرهم في قوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } ثم استثنى منهم أهل السعادة وهم الذين شاء لهم الإيمان .
قوله تعالى : { ولكن أكثرهم يجهلون } يعني يجهلون أن ذلك كذلك ويحسبون أن الإيمان إليهم متى شاؤوا آمنوا ومتى شاؤوا كفروا ، وليس الأمر كذلك بل الإيمان والكفر بمشيئة الله تعالى فمن شاء له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر وفي هذا دليل لمذهب أهل السنة أن الأشياء كلها بمشيئة الله تعالى ورد على القدرية والمعتزلة في قوله : إن الله أراد الإيمان من جميع الكفار .(2/442)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
قوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً } قيل هو منسوق على قوله تعالى كذلك زينّا لكل أمة عملهم ، أي كما فعلنا ذلك كذلك جعلنا لكل نبي عدواً . وقيل : معناه كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء أعداء كذلك جعلنا لك أعداء وفيه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له يقول الله تبارك وتعالى : كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك عدواً ليعظم ثوابه على ما يكابده من أذى أعدائه وعدو واحد يراد به الجمع يعني جعلنا لكل نبي أعداء { شياطين الإنس والجن } اختلف العلماء في معنى شياطين الإنس والجن على قولين :
أحدهما : أن المراد شياطين من الإنس وشياطين من الجن والشيطان كل عات متمرد من الجن والإنس وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء ، وهو قول مجاهد وقتادة . قالوا : وشياطين الإنس أشد تمرداً من شياطين الجن لأن شيطان الجن إذا عجز عن إغواء المؤمن الصالح وأعياه ذلك استعان على إغوائه بشيطان الإنس ليفتنه ، ويدل على صحة هذا القول ما روي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « هل تعوذب بالله من شيطان الجن والإنس قلت يا رسول الله وهل للإنس من شيطان؟ قال نعم هم شر من شياطين الجن » ذكره البغوي بغير سند وأسنده الطبري . وقال مالك بن دينار : إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي .
القول الثاني : إن الجميع من ولد إبليس وأضيف الشياطين إلى الإنس على معنى أنهم يغوونهم ، وهذا قول عكرمة والضحاك والكلبي والسدي . ورواية عن ابن عباس قالوا : والمراد بشياطين الإنس التي مع الإنس وبشياطين الجن التي مع الجن وذلك أن إبليس قسم جنده قسمين فبعث فريقاً منهم إلى الجن وفريقاً إلى الإنس فالفريقان شياطين الجن والإنس بمعنى أنهم يغوونهم ويضلّونهم وكلا الفريقين أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم ولأولياءه من المؤمنين والصالحين . ومن ذهب إلى هذا القول قال : يدل على صحته أن لفظ الآية يقتضي إضافة الشياطين إلى الإنس والجن والإضافة تقتضي المغايرة فعلى هذا يكون في الشياطين نوع مغاير للإنس والجن وهم أولاد إبليس .
وقوله تعالى : { يوحي بعضهم إلى بعض } يعني يلقي ويسرّ بعضهم إلى بعض ويناجي بعضهم بعضاً وهو الوسوسة التي يلقيها إلى من يريد إغوائه ، فعلى القول الأول : إن شياطين الإنس والجن يسر بعضهم إلى بعض ما يفتنون به المؤمنين والصالحين ، وعلى القول الثاني : إن أولاد إبليس يلقى بعضهم بعضاً في كل حين فيقول شيطان الإنس لشيطان الجن أضللت صاحبي بكذا وكذا فأضلَّ أنت صاحبك بمثله ويقول شيطان الجن لشيطان الإنس كذلك فذلك وحي بعضهم إلى بعض .(2/443)
وقوله : { زخرف القول } يعني باطل القول والزخرف هو الباطل من الكلام الذي قد زين ووشي بالكذب وكل شيء حسن مموه فهو زخرف { غروراً } يعني أن الشياطين يغرون بذلك القول الكذب المزخرف غروراً وذلك أن الشياطين يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم ويغرونهم بها غروراً { ولو شاء ربك ما فعلوه } يعني ما فعلوا الوسوسة التي يلقيها الشياطين في قلوب بني آدم ، والمعنى أن الله تعالى لو شاء لمنعَ الشياطين من إلقاء الوسوسة إلى الإنس والجن ولكن الله يمتحن من يشاء من عباده بما يعلم أنه الأجزل له في الثواب إذا صبر على المحنة { فذرهم وما يفترون } يعني فخلِّهم يا محمد وما زين لهم إبليس وغرهم به من الكفر والمعاصي فإني من ورائهم .
قوله تعالى : { ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } قال ابن عباس : ولتميل إليه وأصل الصغو في اللغة الميل ، أصغى إلى كذا مال إليه . ويقال صغوت أصغو وصغيت أصغى لغتان . قال ابن الأنباري : اللام في ولتصغى متعلقة بفعل مضمر معناه وفعلنا بهم ذلك لكي تصغي إلى الباطل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وقال غيره اللام متعلقة بيوحي تقديره ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروا بذلك ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة والضمير في إليه يرجع إلى زخرف القول ، ليغروا بذلك ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة والضمير في إليه يرجع إلى زخرف القول والمعنى أن قلوب الكفار تميل إلى زخرف القول وباطله وتحبه وترضى به وهو قوله : { وليرضوه } يعني يرضون ذلك القول المزخرف الباطل { وليقترفوا ما هم مقترفون } وليكتسبوا من الأعمال الخبيثة ما هم مكتسبون .(2/444)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
قوله عز وجل : { أفغير الله أبتغي حكماً } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أفغير الله أطلب حكاً قاضياً يقضي بيني وبينكم وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل بيننا وبينك حكماً ، فأمره الله تعالى أن يجيبهم بهذا الجواب والحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة ، غير أن بعض أهل المعاني قال : الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم من شأنه أن يحكم والحكم أهل أن يتحاكم إليه وهو الذي لا يحكم إلا بالحق فالله تعالى حكم لا يحكم إلا بالحق فلما أنزل الله على محمد القرآن فقد حكم له بالنبوة وهو قوله تعالى : { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً } يعني علماء اليهود والنصارى { يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } يعني يشهدون أن هذا القرآن منزل من عند الله وذلك لما ثبت عندهم بالدلائل الدالة على ذلك ، وقيل المراد بهم علماء الصحابة ورؤساؤهم مثل : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونظرائهم يعلمون أن هذا القرآن منزل من ربك بالحق فآمنوا به وصدقوه { فلا تكونن من الممترين } يعني فلا تكونن يا محمد من الشاكّين أن علماء أهل الكتاب يعلمون أن هذا القرآن حق وأنه منزل من عند الله وقيل : معناه فلا تكونن في شك مما قصصنا عليك أنه حق وصدق فهو من باب التهييج لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك قط ، وقيل : الخطاب وإن كان في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد به غيره . والمعنى : فلا تكونن أيها الإنسان السامع لهذا القرآن في شك أنه منزل من عند الله لما فيه من الإعجاز الذي لا يقدر على مثله إلا الله تبارك وتعالى .
قوله تعالى : { وتمت كلمة ربك } وقرئ كلمات ربك على الجمع فمن قرأ على التوحيد قال : الكلمة قد يراد بها الكلمات الكثيرة إذا كانت مضبوطة بضابط واحد كقولهم قال الشاعر في كلمته يعني في قصيدته ، وكذلك القرآن كلمة واحدة لأنه شيء واحد في إعجاز النظم وكونه حقاً وصدقاً ومعجزاً ومن قرأ بالجمع قال لأن الله قال في سياق الآية { لا مبدل لكلماته } فوجب الجمع في اللفظ الأول إتباعاً للثاني { صدقاً وعدلاً } يعني صدقاً فيما وعد وعدلاً فيما حكم وقيل إن القرآن مشتمل على الأخبار والأحكام فهو صادق فيما أخبر عن القرون الماضية والأمم الخالية وعما هو كائن إلى قيام الساعة . وفيما أخبر عن ثواب المطيع في الجنة وعقاب العاصي في النار وهو عدل فيما حكم من الأمر والنهي والحلال والحرام وسائر الأحكام { لا مبدل لكلماته } يعني لا مغير لقضائه ولا رادّ لحكمه ولا خلف لمواعيده ، وقيل : لما وصف كلماته بالتمام في قوله وتمت كلمة ربك والتمام في كلام الله لا يقبل النقص والتغيير والتبديل .(2/445)
قال الله تعالى : { لا مبدل لكلماته } لأنها مصونة عن التحريف والتغيير والتبديل باقية إلى يوم القيامة وفي قوله : { لا مبدل لكلماته } دليل على أن السعيد لا ينقلب شقياً ولا الشقي ينقلب سعيداً ، فالسعيد من سعدَ في الأزل والشقي من شقيّ في الأزل وأورد على هذا أن الكافر يكون شقياً بكفره فيسلم فينقلب سعيداً بإسلامه وأجيب عنه بأن الاعتبار بالخاتمة فمن ختم له بالسعادة كان قد كتب سعيداً في الأزل ومن ختم له بالشقاوة كان شقياً في الأزل والله أعلم .
وقوله تعالى : { وهو السميع } يعني لما يقول العباد { العليم } بأحوالهم قوله عز وجل : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } قال المفسرون إن المشركين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أكل الميتة وذلك أنهم قالوا للمسلمين كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلوا ما قتل ربكم؟ فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإن تطع أكثر من في الرض في أكل الميتة ، وكان الكفار يومئذ أكثر أهل الأرض يضلوك عن سبيل الله ، يعني يضلوك عن دين الله الذي شرعه لك وبعثك به وقيل معناه لا تطعهم في معتقداتهم الباطلة فإنك إن تطعهم يضلوك عن سبيل الله يعني يضلوك عن طريق الحق ومنهج الصدق ثم أخبر عن حال الكفار وما هم عليه فقال تعالى : { إن يتبعون إلا الظن } يعني أن هؤلاء الكفار الذين يجادلونك ما يتبعون في دينهم الذي هم عيله إلا الظن وليسوا على بصيرة وحق في دينهم وليسوا بقاطعين أنهم على حق لأنهم اتبعوا أهواءهم وتركوا التماس الصواب والحق واقتصروا على اتباع الظن والجهل { وإن هم إلا يخرصون } يعني يكذبون وأصل الخرص الحزر والتخمين ، ومنه خرص النخلة إذا حزر كمية ثمرتها على الظن من غير يقين ويسمى الكذب خرصاً لما يدخله من الظنون الكاذبة وقيل : إن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له خرص لأن قائله لم يقله عن علم ويقين { إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله } يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يا محمد إن ربك هو أعلم منك ومن جميع خلقه أيّ الناس يضل عن سبيله { وهو أعلم بالمهتدين } يعني وهو أعلم أيضاً من كان على هدى واستقامة وسداد ولا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه فأخبر تعالى أنه أعلم بالفريقين الضال والمهتدي وأنه يجازي كلاًّ بما يستحق .(2/446)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
قوله تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } هذا جواب لقول المشركين حيث قالوا للمسلمين أتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل ربكم؟ فقال الله تعالى للمسلمين فكلوا أنتم ما ذكر اسم الله عليه من الذبائح : { إن كنتم بآياته مؤمنين } وقيل كانوا يحرمون أصنافاً من النعم ويحلون الميتة فقيل : أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله ، فعلى هذا القول تكون الآية خطاباً للمشركين .
وعلى القول الأول تكون الآية خطاباً للمسلمين وهو الأصح لقوله في آخر الآية : { إن كنتم بآياته مؤمنين } { وما لكم ألاّ تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } يعني وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا وما يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهذا تأكيد في إباحة ما ذبح على اسم الله دون غيره : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } يعني وقد بين لكم الحلال من الحرام فيما تطعمون . وقال جمهور المفسرين : المراد بقوله وقد فصل لكم ما حرم عليكم المحرمات المذكورة في قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به } وأورد الإمام فخر الدين الرازي ها هنا إشكالاً فقال : في سورة الأنعام مكية وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة ، وقد فصل يجب أن يكون ذلك المفصل متقدماً على هذا المحل والمدني متأخر على المكي فيمتنع كونه متقدماً ثم قال بل الأولى أن يقال قوله تعالى بعد هذه الآية { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير } وهذه الآية وإن كانت مذكورة بعد هذه الآية بقليل إلا أن هذا القدر من المتأخر لا يمنع أن يكون هو المراد قال كاتبه ولما ذكره المفسرون وجه وهو أن الله لما علم أن سورة المائدة متقدمة على سورة الأنعام في الترتيب لا في النزول حسن عود الضمير في قوله وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلى ما هو متقدم في الترتيب وهو قوله { حرمت عليكم الميتة } الآية والله أعلم بمراده .
قوله تعالى : { إلا ما اضررتم إليه } يعني إلا أن تدعوكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة فيباح لكم ذلك عند الاضطرار { وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم } يعني وإن كثيراً من الذين يجادلونكم في أكل الميتة ويحتجون عليكم في ذلك بقولهم أتأكلون ما تذبحون ولا تأكلون ما يذبحه الله ، وإنما قالوا هذه المقالة جهلاً منهم بغير علم منهم بصحة ما يقولون بل يتبعون أهواءهم ليضلوا أنفسهم وأتباعهم بذلك . وقيل : المراد به عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من بحرَ البحائر وسيَّب السوائب وأباح الميتة وغير دين إبراهيم عليه السلام { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } يعني إن ربك يا محمد هو أعلم بمن تعدى حدوده فأحل ما حرم وحرم ما أحل الله فهو يجازيهم على سوء صنيعهم .(2/447)
قوله عز وجل : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } يعني وذروا أيها الناس ما يوجب الإثم وهي الذنوب والمعاصي كلها سرها وعلانيتها قليلها وكثيرها ، قال الربيع بن أنس : نهى الله عن ظاهر الإثم وباطنه أن يعمل به سراً وعلانية وقال سعيد بن جبير : في هذه الآية الظاهر منه قوله : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } ونكاح المحارم من الأمهات والبنات والأخوات والباطن الزنا ، وقال السدي : أما الظاهر فالزواني في الحوانيت وهنَّ أصحاب الرايات .
وأما الباطن فالمرأة يتخذها الرجل صديقة فيأتيها سراً ، وقال الضحاك : كان أهل الجاهلية يستسرون بالزنا ويرون أن ذلك حلالاً ما كان سراً فحرم الله السر منه والعلانية ، وقال ابن زيد : ظاهر الإثم التجرد من الثياب والتعري في الطواف والباطن الزنا ، وقال الكلبي : ظاهر الإثم طواف الرجال بالبيت نهاراً عراة وباطنه طواف النساء بالليل عراة وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك إلى أن جاء الإسلام فنهى الله عن ذلك كله . وقيل : إن هذا النهي عام في جميع المحرمات التي نهى الله عنها وهو الأصح لأن تخصيص العام بصورة معينة من غير دليل لا يجوز ، فعلى هذا القول يكون معنى الآية وذروا ما أعلنتم به وما أسررتم من الذنوب كلها ، قال ابن الأنباري : وذروا الإثم من جميع جهاته . وقيل : المراد بظاهر الإثم الإقدام على الذنوب من غير مبالاة وباطنه ترك الذنوب لخوف الله عز وجل لا خوف الناس وقيل المراد بظاهر الإثم أفعال الجوارح وباطنه أفعال القلوب فيدخل في ذلك الحسد والكبر والعجب إرادة السوء للمسلمين ونحو ذلك .
وقوله عز وجل : { إن الذين يكسبون الإثم } يعني إن الذين يعملون بما نهاهم الله عنه ويرتكبون ما حرم عليهم من المعاصي وغيرها { سيجزون } يعني في الآخرة { بما كانوا يقترفون } يعني بما كانوا يسكبون في الدنيا من الآثام وظاهر هذا النص يدل على عقاب المذنب أنه مخصوص بمن لم يتب لأن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب العبد من الذنب توبة صحيحة لم يعاقب وزاد أهل السنة في ذلك ، فقالوا : المذنب إذا لم يتب فهو في خطر المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه بفضله وكرمه ، وقوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } قال بن عباس : الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها ، وقال عطاء الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام اه .
( فصل )
اختلف العلماء في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله عليها فذهب قوم إلى تحريمها سواء تركها عامداً أو ناسياً : وهو قول ابن سيرين والشعبي ونقله الإمام فخر الدين الرازي عن مالك ، ونقل عن عطاء أنه قال : كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام أو شراب فهو حرام .(2/448)
احتجوا في ذلك بظاهر هذه الآية . وقال الثوري وأبو حنيفة : إن ترك التسمية عامداً لا تحل وإن تركها ناسياً تحل . وقال الشافعي : تحل الذبيحة سواء ترك التسمية عامداً أو ناسياً ، ونقله البغوي عن ابن عباس ومالك ونقل ابن الجوزي عن أحمد روايتين : فيما إذا ترك التسمية عامداً وإن تركها ناسياً حلت فمن أباح أكل الذبحة التي لم يذكر اسم الله عليها قال : المراد من الآية الميتات وما ذبح على اسم الأصنام بدليل أنه قال تعالى في سياق الآية { وإنه لفسق } وأجمع العلماء على أن آكل ذبيحة المسلم التي تُرك التسمية عليها لا يفسق واحتجوا أيضاً في إباحتها بما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قلت يا رسول الله إن هنا أقواماً حديثاً عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان فما ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا قال « اذكروا أنتم اسم الله وكلوا » قالوا لو كانت التسمية شرطاً للإباحة لكان الشك في وجودها مانعاً من أكلها كالشك في أصل الذبح وقول الشافعي في أول الآية وإن كان عاماً بحسب الصيغة غلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة وهي قوله وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم أنكم لمشركون علمنا أن المراد من هذا العموم هو الخصوص والفسق ذكر اسم غير الله في الذبح ما قال في آخر السورة { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه } إلى قوله { أو فسق أهل لغير الله به } فصار هذا الفسق الذي أهلّ لغير الله به مفسراً لقوله { وإنه لفسق . }(2/449)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } مخصوصاً بما { أهلَّ لغير الله به } والله أعلم .
وقوله تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } يعني أن الشياطين يوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوكم ويخاصمون محمداً صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن المشركين قالوا يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها فقال : الله قتلها قالوا فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتله الكلب والصقر حلال وما قتله الله حرام فأنزل الله عز وجلّ هذه الآية ، وقال عكرمة : لما نزلت هذه الآية في تحريم الميتة كتبت فارس ، وهم المجوس ، إلى مشركي قريش أنْ خاصموا محمداً وقولوا له إن ما ذبحت فهو حلال ، وما ذبحه الله فهو حرام فأنزل الله : وأن الشياطين ، يعني مردة الإنس وهم المجوس ، ليوحون إلى أوليائهم ، يعني مشركي قريش ، وكان فارس والعرب مولاة ومكاتبة على الروم ، فعلى هذا يكون المراد بالوحي المكاتبة في خفية { وإن أطعتموهم } يعني في أكل الميتة ، وما حرم الله عليكم { إنكم لمشركون } يعني أنكم إذاً مثلهم في الشرك ، قال الزجاج : فيه دليل على أن كل من أحل شيئاً مما حرم الله أو حرم شيئاً مما أحل الله فهو مشرك إنما سمي مشركاً لأنه أثبت حاكماً غير الله عز وجل ومن كان كذلك فهو مشرك .
قوله عز وجل : { أو من كان ميتاً فأحييناه } يعني أو من كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جعل الإيمان حياة لأن الحي صاحب بصر يهتدي به إلى رشده ولما كان الإيمان يهدي إلى الفوز العظيم والحياة الأبدية شبهه بالحياة { وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس } يعني وجعلنا له نوراً يستضيء به في الناس ويهتدي به إلى قصد السبيل ، قيل : النور هو الإسلام لأنه يخلص من ظلمات الكفر لقوله : يخرجهم من الظلمات إلى النور .
وقال قتادة : هو كتاب الله القرآن لأنه بينة من الله مع المؤمنين بما يعمله { كمن مثله في الظلمات } يعني كمن هو في ظلمة الكفر وظلمة الجهالة وظلمة عمى البصيرة { ليس بخارج منها } يعني من تلك الظلمات وهذا مثل ضربه الله تعالى لحال المؤمن والكافر فبين أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتاً فأحياه وأعطاه نوراً يهتدي به في مصالحه وأن الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها ليس بخارج منها فيكون متحيراً على الدوام ، ثم اختلف المفسرون في هذين المثالين هل هما مخصوصان بإنسانين معينين أو هما عامّان في كل مؤمن وكافر؟ فذكروا في ذلك قولين : أحدهما أن الآية في رجلين معينين ثم اختلفوا فيهما فقال ابن عباس في قوله وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس يريد حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم كمن مثله في الظلمات يريد بذلك أن أبا جهل بن هشام وذلك أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلم بفرث فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل ، وكان حمزة قد رجع من صيد وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد فأقبل حمزة غضبان حتى علا أبا جهل وجعل يضربه بالقوس ، وجعل أبو جهل يتضرع إلى حمزة ويقول : يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به سفَّه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا؟ فقال حمزة : ومن أسفه منكم عقولاً تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، فأسلم حمزة يومئذ فأنزل الله هذه الآية .(2/450)
وقال الضحاك : نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل . وقال عكرمة والكلبي : نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل ، وقال مقاتل : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وذلك أن أبا جهل قال زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا نحن وهم كفرسي رهان ، قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نؤمن حتى يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت هذه الآية .
والقول الثاني : وهو قول الحسن في آخرين أن هذه الآية عامة في حق كل مؤمن وكافر وهذا هو الصحيح لأن المعنى إذا كان حاصلاً في الكل دخل فيه كل أحد .
وقوله تعالى : { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } قال أهل السنة ، المزين هو الله تعالى ويدل عليه قوله زينّا لهم أعمالهم ولأن حصول الفعل يتوقف على حصول الدواعي وحصوله لا يكون إلا بخلق الله تعالى فدل ذلك على أن المزين هو الله تعالى ، وقالت المعتزلة المزين هو الشيطان ويرده ما تقدم .(2/451)