قيد الشريد من أخبار يزيد
تأليف
محمد بن طولون
953 هـ
تحقيق
د. محمد زينهم محمد عزب
دار الصحوة للنشر
الطبعة الأولى
1406 هـ - 1986 م(/)
قيد الشريد من أخبار يزيد
للشيخ شمس الدين محمد بن طولون الدمشقي رحمه الله تعالى. آمين
تحقيق: د. محمد زينهم محمد عزب(1/21)
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر يا كريم
الحمد لله مظهر الحق ومبديه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وذويه.
وبعد.. ..
فهذا تعليق سميته قيد الشريد من أخبار يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ابن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أمير المؤمنين أبو خالد الأموي ولد سنة خمس أو ست أو سبع وعشرين، وبويع له بالخلافة في حياة أبيه، ثم أكد ذلك بعد موت أبيه في نصف رجب سنة ستين، فاستمر متولياً إلى أن توفي في الرابع عشر من ربيع الأول سنة أربع وستين. وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيق بن دلجة بن فناقة بن عدي بن زهير(1/23)
ابن حارثة الكلبي.
روى عن أبيه معاوية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))، وحدثنا آخر في الوضوء عنه ابنه خالد وعبد الملك بن مروان.
وقد ذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة وهي العليا وقال: له أحاديث.
وكان كثير اللحم، عظيم الجسم جميلاً صخم الهامة، محدد الأصابع غليظها مجدراً.(1/24)
وكان أبوه قد طلق أمه وهي حامل به، فرأت في المنام أنه خرج منها قمر من قبلها، فقصت رؤياها على أمها، فقال: ((إن صدقت رؤياك ليكون من يبايع له بالخلافة)).
وجلست أمه يوماً تمشطه وهو صبي صغير، وأبوه معاوية مع زوجته الحظية عنده في المنظرة وهي فاختة بنت قرظة، فلما فرغت من تمشيطه نظرت أمه إليه فأعجبها، فقبلت بين عينيه، فقال معاوية عند ذلك:
إذا مات لم تفلح مزينة بعده ... فنوطى عليه يا مزين التمايما
وانطلق يزيد يمشي وفاختة تتبعه بصرها، ثم قالت: لعن الله سواد ساقي أمك، فقال معاوية: أما والله إنه لخير من ابنك عبد الله. وهو ولده منها وكان أحمق. فقالت فاختة: لا والله ولكنك تؤثر هذا عليه،(1/25)
فقال: سوف أبين لك ذلك حتى تعرفيه قبل أن تقومي من مجلسك هذا، ثم دعا بابنها عبد الله فقال له: ((قد بدا لي أن أعطيك كلما تسألني في مجلسي هذا))، فقال: ((اشتر لي كلباً قارباً وحماراً فارهاً))، فقال: يا بني أنت حمار ونشتري لك حماراً. قم فاخرج، ثم قال لأمه: كيف رأيت؟ ثم استدعى بيزيد فقال: إني قد بدا لي أن أعطيك كلما تسألني في مجلسي هذا، فخر يزيد ساجداً ثم قال حين رفع رأسه: الحمد لله الذي بلغ أمير المؤمنين هذه المدة، وأراه في هذا الرأي، حاجتي أن تعقد لي العهد من بعدك، وتوليني العام صايفة المسلمين، وتأذن لي في الحج إذا رجعت، وتوليني الموسم، وتزيد أهل الشام عشرة لكل رجل في عطائه، وتجعل ذلك بشفاعتي، وتفرض لأيتام بني جمح وأيتام بني سهم وأيتام بني عدي، فقال ولأيتام بني عدي؟ فقال لأنهم حالفوا وانتقلوا إلى داري فقال معاوية: ((قد فعلت ذلك كله، وقبل وجهه ثم قال لفاختة بنت قرظة: كيف رأيت؟(1/26)
(فقالت): يا أمير المؤمنين أوصه بي، فأنت أعلم به مني ففعل.
وفي رواية: أن يزيد لما قال له أبوه: سلني حاجتك، قال له يزيد: أعتنقني من النار، أعتق الله رقبتك منها، قال: وكيف؟ قال: لأني وجدت في الآثار أنه ((من تقلد أمر الأمة ثلاثة أيام حرمه الله على النار))، فاعهد إلي بالأمر من بعدك، ففعل.
وقال العيني: رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاماً فقال له: اعلم أن الله أقدر عليك منك عليه، سوه لك، أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع عليك، والله لقد منعتني القدرة من الانتقام من ذوي الأحق، وإن أحسن لمن عفا لمن قدر.
قلت: وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا مسعود يضرب غلاماً فقال: ((اعلم أبا مسعود الله أقدر عليك منك عليه)).
قال العتبي: وقدم (زياد) بأموال كثيرة، وبسفط مملو جوهراً(1/27)
على معاوية، فسر بذلك معاوية، فقام زياد وصعد المنبر، ثم افتخر بما يفعله بأرض العراق من تمهيد الممالك لمعاوية، فقام يزيد فقال: إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن حزب زياد بن عبيد إلى حزب بني أمية، فقال له معاوية: ((اجلس فداك أبي وأمي)).
وعن عطاء بن السايب قال: غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره، فقال له الأحنف بن قيس: ((يا أمير المؤمنين إنما هم أولادنا نار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، إن غضبوا فأرضهم، وإن طلبوا فأعطهم، ولا تكن عليهم قفلاً فيملوا حياتك، ويتمنوا موتك)). فقال معاوية: ((لله درك يا أبا بحر)). ((يا غلام إيت يزيد فأقره مني السلام، وقل له: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بماية ألف درهم وماية ثوب))، فقال يزيد: ((من عند أمير المؤمنين؟)) فقال: الأحنف. ((فقال يزيد: لا جرم، لأقاسمنه)) فبعث إلى الأحنف بخمسين ألفاً وخمسين ثوباً.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا العلائي، ثنا ابن عائشة عن(1/28)
أبيه قال: كان يزيد في حداثته صاحب شراب يأخذ مأخذ الأحداث، فأحس معاوية بذلك، فأحب أن يعظه في رفق فقال: يا بني، ما أقدرك على أن تتصل إلى حاجتك من تهتك يذهب بمروتك وقدرك، ويشمت بك عدوك، ويسيء صديقك، ثم قال: يا بني إني منشدك أبياتاً فتأدب بها واحفظها فأنشده:
انصب جداراً في طلاب العلا ... واصبر على هجر الخبيث القريب
حتى إذا الليل أتى بالدجى ... واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فباشر الليل بما تشتهي ... فإنما الليل نهار الأريب
كم فاسق تحسبه ناسكاً ... قد باشر الليل بأمر عجيب
غطى عليه الليل أستاره ... فبات في أمن وعيش خصيب
ولدة الأحمق مكشوفة ... يسعى بها كل عدو مريب
وراوي هذه الأبيات محمد بن زكريا ضعيف، قلت: وهذا كما جاء في الحديث ((من ابتلى بشيء من القاذورات فليستتر يستره الله عز وجل)).(1/29)
وروى الواقدي والمدائني عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: [أنه] وفد إلى معاوية فأمر معاوية ابنه يزيد أن يأتيه فيعزيه في الحسن ابن علي، فلما دخل على ابن عباس رحب به وأكرمه وجلس عنده بين يديه، فأراد ابن عباس أن يرفع مجلسه فأبى وقال: إنما أجلس مجلس المعزي لا المهني. ثم ذكر الحسن فقال: رحم الله أبا محمد أوسع الرحمة وأفسحها وأعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وعوضك من مصابك ما هو خير لك ثواباً وخير عقباً، فلما نهض يزيد من عنده قال ابن عباس: ((إذا ذهب بنو حرب ذهب حلماء الناس)) ثم أنشد:
معاض عن العوراء لا ينطقونها ... وأصل وراثات الحلوم الأوائل
وقد كان يزيد أول من غزا القسطنطينية في سنة سبع وأربعين في قول يعقوب بن سقان، وقال خليفة بن خياط سنة خمسين، ثم حج بالناس في تلك السنة بعد مرجعه من هذه الغزوة من أرض الروم، وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أول جيش يغزو مدينة قبرص(1/30)
وقيصر مغفور لهم وهو الجيش الثاني الذي رآه عند أم حرام فقالت: ((أعوذ بالله أن تجعلني منهم)) فقال: ((أنت من الأولين)). يعني جيش معاوية حين غزا قبرص ففتحها سنة سبع وعشرين أيام عثمان ابن عفان وكانت معهم أم حرام (فماتت)) هناك بقبرص، ثم كان أمير الجيش الثاني ابنه يزيد بن معاوية، ولم تدرك أم حرام جيش يزيد هذا، وهذا من أعظم دلائل النبوة.
وقد أورد ابن عساكر ها هنا الحديث الذي رواه عامر عن الأعمش عن إبراهيم بن عبيدة عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس قومي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)).
كذلك رواه عبد الله بن حبق عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أورد من طريق حماد بن سلمة عن أبي محمد عن زرارة بن أوس: ((في القرن عشرون ومائة سنة فبعث الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في قرن آخره موت يزيد بن معاوية)).(1/31)
وقال أبو بكر بن عياش: ((حج بالناس يزيد بن معاوية في سنة إحدى وخمسين واثنين وخمسين و(ثلاث) وخمسين.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: ((ثنا أبو كريب، ثنا رشيد الدين، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج: أن معاوية قال ليزيد كيف تراك فاعلاً إذ وليت؟ قال: ((يمتع الله بك يا أمير المؤمنين قال: لتخبرني. قال: كنت والله عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب، فقال معاوية: سبحان الله، والله لقد جهدت على سيرة عثمان بن عفان فما أطقتها، فكيف بك وسيرة عمر؟
وقال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن العلي، قال: ((قال معاوية ليزيد وهو يوصيه عند الموت: يا يزيد اتق الله فقد وطأت لك هذا الأمر، (وتوليت)(1/32)
من ذلك ما وليت فإن يك خيراً فأنا أسعد به، وإن كان غير ذلك شقيت به فارفق بالناس واغمض عما بلغك من قول تؤذى به وتنتقص به، وطال عليه يهنك عيشك، وتصلح لك رعيتك، وإياك والمناقشة وحمل الغضب، فإنك تملك نفسك ورعيتك، وإياك وجفوة أهل الشرف واستهانتهم والتكبر عليهم. (لن) لهم ليناً بحيث لا يرون منك ضعفاً ولا جوراً، وأوطئهم فراشك، وقربهم إليك، وادنهم منك فإنهم يعلون لك حقك ولا تهنهم ولا تستخفن بحقهم فيهينوك ويستخفوا بحقك ويقعوا فيك، فإذا أردت أمراً فادع المسنين والتجربة من أهل الخير من المشايخ وأهل التقوى، فشاورهم ولا تخالفهم وإياك والاستبداد برأيك، فإن الرأي ليس في صدر واحد، وصدق من أشار عليك إذا حملك على ما تعرف، واحذف ذلك عن سياستك وخدمتك، وشمر إزارك، وتعاهد جندك، وأصلح نفسك تصلح لك الناس، لا تدع لهم فيهم مقالاً فإن الناس سراع إلى الشر واحضر الصلاة فإنك إذا فعلت ما أوصيك به عرف الناس لك حقك، وعظمت مملكتك وعظمت في أعين الناس، واعرف شرف أهل المدينة(1/33)
ومكة فإنهم أصلك وعشيرتك، واحفظ لأهل الشام شرفهم فإنهم أنصارك وحماتك وجندك الذين بهم تصول وتنتصر على أعدائك، وتصل إلى أهل طاعتك، واكتب إلى أمصارك بكتاب تعدهم فيه منك المعروف فإن ذلك يبسط آمالهم، وإن وفد عليك وافد من الكور كلها فأحسن إليهم وأكرمهم فإنهم لمن وراءهم، ولا تعتمد قول قاذف ولا عاجل فإني رأيتهم وزراء سوء)).
ومن وصية أخرى أن معاوية قال ليزيد: إن لي خليلاً من أهل المدينة فأكرمه قال: ((ومن هو؟ قال: عبد الله بن جعفر. فلما وفد -بعد موت معاوية- على يزيد أضعف جائزته التي كان معاوية يعطيه إياها، وكانت جائزته على معاوية ستمائة ألف فأعطاه يزيد ألف ألف. فقال له: ((بأبي أنت وأمي)). فأعطاه ألف ألف أخرى. فقال له ابن جعفر: ((والله لا أجمع (أمري) لأحد بعدك. ولما خرج ابن جعفر من عند يزيد وقد أعطاه ألفي ألف، رأى على باب بزيد بخاتى مبركات(1/34)
قد قدمن عليه هدية من خراسان، فرجع عبد الله بن جعفر إلى يزيد، فسأله منها ثلاث بخاتى، ليركب عليها إلى الحج والعمرة، وإذا وفد إلى الشام على يزيد، فقال يزيد للحاجب: ((ما هذه البخاتى التي بالباب؟)) ولم يكن نبوبها، فقال: يا أمير المؤمنين هي أربعمائة بختية جاءتنا تحمل أنواع الألطاف، وكان عليها أنواع من الأموال كلها، فقال: ((اصرفها إلى أبي جعفر بما عليها. فكان عبد الله بن جعفر يقول: أتلومونني على حسن الرأي في هذا يعني يزيد.
وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم، والحلم والفصاحة والشعر والشجاعة، وحسن الرأي في الملك، وكان حسن المعاشرة، وكان فيه أيضاً إقبال على الشهوات، وترك بعض الصلاة في بعض الأوقات وإقامتها في غالب الساعات.
وقد قال الإمام أحمد: ((حدثنا أبو عبد الرحمن، ثنا حيوة، حدثني بشير بن أبي عمرو الخولاني)): أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكون خلف(1/35)
بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غياً، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ويقرءون القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر)). قال بشير: فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ قال المنافق كافر، والفاجر يتأكل به والمؤمن يعمل به. تفرد به أحمد. وقال الحافظ أبو يعلى: ((ثنا زهير بن حرب، ثنا الفضل بن ذكين ثنا كامل أبو العلا سمعت أبا صالح، سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((تعوذوا بالله من سنة سبعين ومن إمارة الصبيان)).
وروى الزبير بن بكار عن عبد الرحمن بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال في يزيد بن معاوية:(1/36)
لست منا وليس خالك منا ... يا مضيع الصلاة للشهوات
قال: وزعم بعض الناس أن هذا الشعر لموسى بن سيار، ويعرف.
وروى عن عبد الله بن الزبير أنه سمع جارية له تتغنى بهذا البيت فضربها وقال: قولي:
أنت منا وليس خالك منا ... يا مضيع الصلوة للشهوات
وقال الحافظ أبو يعلى: ثنا الحكم بن موسى، ثنا يحيى بن حمزة، عن هشام بن الغار عن مكحول عن أبي عبيدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له: يزيد)).
وهذا منقطع بين مكحول وأبي عبيدة، بل معضل.
وقد رواه ابن عساكر، من طريق صدقة بن عبد الله الدمشقي، عن هشام بن الغار، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الحينى، عن أبي عبيدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال أمر هذه الأمة قائماً بالقسط حتى(1/37)
يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد)) ثم قال: وهو منقطع بين مكحول وأبي ثعلبة.
وقال أبو يعلى: ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان عن خالد، عن أبي العالية، قال: كنا مع أبي ذر بالشام فقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أول من يغير سنتي رجل من بني أمية))، ورواه خزيمة، عن بندار، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن عوف، حدثنا مهاجر بن أبي مخلد، حدثني أبو العالية، حدثني أبو مسلم عن أبي ذر فذكر نحوه. وفيه قصة وهي أن أبا ذر كان في غزاة عليهم يزيد بن أبي سفيان، فاغتصب يزيد من رجل جارية، فاستعان الرجل بأبي ذر، فأبى يزيد أن يردها عليه فأمره أبو ذر أن يردها عليه، ( ) فذكر له أبو ذر الحديث فردها وقال يزيد لأبي ذر: ((نشدتك الله، هو أنا؟)) قال: ((لا)). وكذا رواه البخاري في التاريخ وأبو يعلى عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، ثم قال البخاري والحديث معلول ولا يعرف أن أبا ذر قدم الشام زمن عمر بن الخطاب، قال: ((وقد مات يزيد بن أبي سفيان زمن عمر فولى مكانه أخاه(1/38)
معاوية. وقال عباس الدوري سألت ابن معين: أسمع أبو العالية من أبي ذر؟ قال: ((لا)). إنما يروى عن أبي مسلم عنه. قلت: ((فمن أبو مسلم هذا؟)) قال: ((لا أدري)).
وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذم يزيد بن معاوية كلها موضوعة لا يصح منها شيء، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه، والله أعلم.
وقال الحارس بن مسكين عن سفيان، عن يشيب، عن عرقلة بن المستظل قال: ((سمعت عمر بن الخطاب يقول: قد علمت ورب الكعبة متى نهلك العرب، إذا ساسهم من لم يدرك جاهلية ولم يكن له قدم في الإسلام)).
قلت: ((يزيد بن معاوية أكثر ما نقم عليه في عمله شرب الخمر وإتيان بعض الفواحش)). فأما قتل الحسين فإنه كما قال جده أبو سفيان يوم أحد لم يأمر بذلك ولم يسؤه. وقد قال: ((لو كنت أنا لم أفعل معه ما فعله ابن مرجانة)) يعني عبيد الله بن زياد. وقال للرسل الذين جاءوا برأسه: قد كان يكفيكم من الطاعة دون هذا. ولم يعطهم شيئاً، وأكرم آل بيت الحسين ورد عليهم جميع ما فقد لهم وأضعافه، وردهم إلى المدينة في محامل وأبهة عظيمة. وقد ناح أهله في منزله على الحسين، حتى كان أهل الحسين عندهم ثلاثة أيام. وقد قيل: إن يزيد فرح بقتل(1/39)
الحسين أول ما بلغه، ثم ندم على ذلك، فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ((إن يونس بن حبيب الجرمي حدثه قال: لما قتل ابن زياد الحسين ومن معه، بعث برءوسهم إلى يزيد، فسر بقتلهم أولاً وحسنت بذلك منزلة ابن زياد عنده، ثم لم يلبث إلا قليلاً حتى ندم فكان يقول: ((وما كان لو احتملت الأذى وأنزلته في داري وحكمته فيما يريد وإن كان علي في ذلك وكفٌ ووهنٌ في سلطاني حفظاً لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]، ورعاية لحقه وقرابته. ثم يقول: لعن ابن مرجانة، فإنه أخرجه واضطره، وقد كان سأله أن يخلى سبيله أو يأتيني به أو يكون بثغر من ثغور المسلمين حتى يتوفاه الله فلم يفعل بل آسى عليه، وقتله، فبغضني بقتله إلى المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة فأبغضني البر والفاجر بما استعظم الناس من قتلى حسيناً، مالي ولابن مرجانة لعنه الله وغضب عليه)).
ولما خرج أهل المدينة عن طاعته وخلعوه، وولوا عليهم ابن مطيع وابن حنظلة، لم يذكروا عنه وهم أشد الناس عداوة له إلا ما ذكر عنه من شرب الخمور، وإتيانه بعض القاذورات، ولم يتهموه بزندقة كما(1/40)
يقذفه بذلك بعض الروافض. بل كان فاسقاً، والفاسق لا يجوز خلعه لأجل ما يثور بسبب ذلك من الفتنة وغير ذلك. وقد كان في قتال أهل الحرة كفاية، ولكن تجاوز الحد بإباحة المدينة (لثلاثة) أيام فوقع بسبب ذلك شر عظيم.
وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعات أهل بيت النبوة ممن لم ينقض العهد، ولم يبايع أحداً بعد بيعته ليزيد، كما قال الإمام أحمد: ثنا إسماعيل بن علية، حدثني صخر بن جويرية، عن نافع، قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر بيته وأهله، ثم تشهد، ثم قال: ((أما بعد، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان، وإن من أعظم الغدر -إلا أن يكون الإشراك بالله- أن يبايع رجلٌ رجلاً على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته. فلا يخلعن أحدٌ منكم يزيد، ولا يسرعن أحد منكم في هذا الأمر فيكون السلم بيني وبينه)).
وقد رواه مسلم والترمذي من حديث صخر بن جويرية. وقال(1/41)
الترمذي: حسن صحيح. وقد رواه أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني عن صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر فذكر مثله.
ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية، فراودوه على خلع يزيد، فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: ((إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة، متحرياً للخير يسأل عن الفقه، ملازماً للسنة. قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعاً لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر لي الخشوع؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم (لشركاؤه)، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه. فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة)). فقال: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} ولست من أمركم في شيء. قالوا: ((فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك(1/42)
أمرنا. فقال: ما استحل القتال على ما (تريدون) مني عليه تابعاً ولا متبوعاً. قالوا: فقد قاتلت مع أبيك فقال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه. فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا. فقال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقاماً نحض الناس فيه على القتال. قال: سبحان الله آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذا ما نصحت الله في عباده. قالوا: إذاً نكرهك. قال: إذاً آمر الناس بتقوى الله وألا (يرضوا) المخلوق بسخط الخالق)) وخرج إلى مكة.
وقال أبو القاسم البغوي: ثنا مصعب الزبير، ثنا ابن أبي حازم، عن هشام، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن ابن عمر دخل وهو معه على ابن مطيع فلما دخل عليه قال: ((مرحباً بأبي عبد الرحمن ضعوا لي وسادة. فقال: إنما جئتك لأحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من نزع يداً من طاعة فإنه يأتي يوم القيامة لا حجة له، ومن مات مفارقاً فإنه يموت ميتة جاهلية)). وهكذا رواه مسلم من حديث هشام بن سعد، عن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر، وتابعه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، وقد رواه الليث، عن(1/43)
محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر - به وقال أبو جعفر الباقر: ((لم يخرج أحد من آل طالب، ولا من بني عبد المطلب في وقعة الحرة، ولما قدم مسلم بن عقبة أمير جيش يزيد أكرم أبى وأدناه في مجلسه وأعطاه كتاب أمان)).
وروى المدائني أن مسلم بن عقبة بعث روح بن زنباع إلى يزيد ببشارة (النصر) في الحرة، فلما أخبره بما وقع قال: ((واقوماه)). ثم دعا الضحاك بن قيس الفهرى فقال له: ما ترى ما لقي أهل المدينة، فما الذي يحييهم؟ قال: ((الطعام والأعطية))، فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطية، وهذا خلاف ما ذكره كذبه الروافض عنه من أنه شمت بهم واشتفى بقتلهم، وأنه أنشد [أبيات] شعر (ابن الزبعرى)(1/44)
في وقعة أحد التي يقول فيها:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حلت بقنابهم ركبها ... واستحر القتل في عبد الأشل
قد قتلنا الصفر من أشرافهم ... وعدلنا ميل بدر فاعتدل
وقد زاد بعض الروافض قبحهم الله فيها:
لعبت هاشم بالملك فلا ... ملك جا ولا وحى نزل
وقال أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان: حدثني محمد بن القاسم: سمعت الأصمعي يقول: سمعت هارون الرشيد ينشد ليزيد بن معاوية:
عامر بن عبد لؤى ... ختن ( ) وبنى عبد مناف(1/45)
ولها في المطيبين جدود ... ثم نالت مكارم الأحلاف
بنت عم النبي أكرم من يمشي ... بنعل على التراب وحاف
لن تراها على التبدل ( ) ... إلا كدرة الأصداف
وقال الزبير بن بكار: أنشدني عمي مصعب ليزيد بن معاوية:
آب هذا الهم فاكتنفا ... ثم من مر النوى فامتنعا
راعياً للنجم أرقبه ... إذا ما كوكب طلعا
حام حتى أننى لا أرى ... أنه بالغور قد وقعا
ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا
في قباب وسط سكرة ... حولها الزيتون قد ينعا
وقائلة لي حين شبهت وجهها ... ببدر الدجى يوماً وقد ضاق منهجى
تشبهني بالبدر هذا تناقص ... بقدري ولكن لست أول من هجى
ألم تر أن البدر عند كماله ... إذا بلغ التشبيه عاد كدملجى
فلا فخر أن شبهت بالبدر مبسمى ... وبالسحر أجفاني وبالليل مدعجى(1/46)
وقد ذكر الزبير بن بكار، عن أبي محمد الجذري قال: كانت بالمدينة جارية مغنية يقال لها سلامة من أحسن النساء وجهاً، وأتمهن عقلاً وأحسن قداً! قرأت القرآن، وروت السبعة. وكان عبد الرحمن بن حسان والأخوص بن محمد يجلسان إليها، فعلقت بالأخوص وصدت عن عبد الرحمن، (فرحل) ابن حسان إلى يزيد بن معاوية إلى الشام، فامتدحه ودله على سلامة وحسنها وجمالها وفصاحتها، وقال: لا تصلح إلا لك يا أمير المؤمنين، وأن تكون (من) يسامرك، فأرسل يزيد فاشتريت له وحملت إليه فوقعت منه موقعاً عظيماً وفضلها على جميع من عنده ورجع عبد الرحمن إلى المدينة فوجده مهموماً فأراد أن يزيده إلى ما به من الهم فقال:
يا مبتلى بالحب مقروحا ... لاقى من الحب تباريحا
أفحمه الحب فما ينثنى ... إلا بكاس الحب مصبوحا
وصار ما يعجبه مغلقا ... عنه وما يكره مفتوحا
قد حازها من أصبحت عنده ... ينال منها الشم والريحا
خليفة الله ونسل الهدى ... وعز قلباً منك مجروحا(1/47)
قال: فأمسك الأخوص عن جوابه، ثم غلبه وجده عليها فسار إلى يزيد فامتدحه، فأكرمه يزيد وحظى عنده، فدست إليه سلامة خادماً، وأعطته مالاً على أن يدخله إليها فأخبر الخادم يزيد بذلك فقال: امض لرسالتها ففعل، وأدخل الأخوص إليها، وجلس يزيد في مكان يراهما ولا يريانه فلما بصرت الجارية الأخوص بكت إليه، وبكى إليها وأمرت فألقى له كرسي فقعد عليه وجعل كل واحد منهما يشكوا إلى صاحبه شدة شوقه إليه، فلم يزالا يتحدثان إلى السحر، ويزيد يسمع كلامهما من غير أن يكون بينهما ريبة، حتى إذا هم الأخوص بالخروج قال:
أمسى فؤادي في هم وبلبالى ... من حب من لم أزل من على بال
فقالت:
أضحى المحبون بعد النأى اخرسوا ... وقد أيست وما أضحوا على حال
فقال:
والله والله لا أنساك يا شجني ... حتى يفارق مني الروح أوصالي(1/48)
فقالت:
والله ما خاب من أمسى وأنت له ... يا قرة العين في أهل وفي مال
قال: ثم ودعها. وخرج فأحضره يزيد ودعا بها، فقال: أخبراني عما كان في ليلتكما وأصدقاني، فأخبراه وأنشداه ما قالا فلم يحرفا منه حرفاً ولا غيرا شيئاً مما سمعه. فقال لها يزيد: أتحبينه؟ قالت: أي والله يا أمير المؤمنين.
حباً شديداً جرى كالروح في جسد ... فهل تفرق بين الروح والجسد
فقال: أتحبها؟ فقال: أي والله يا أمير المؤمنين.
حباً شديداً تليداً غير مطرف ... بين الجوانح مثل النار تضطرم
فقال يزيد: إنكما لتصفان حباً شديداً، خذها يا أخوص فهي لك. ووصله صلة سنية فرجع بها الأخوص إلى الحجاز وهو قرير العين.(1/49)
وقد روى أن يزيد كان قد اشتهر المعازف والقرود وشر الخمر والغناء والصيد واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب والنطاح بين الكباش والذئاب والقرود، وما من يوم إلا ويصبح فيه مخموراً، وكان يشد القرد على فرس سرجه بحبال، ويسوق به، ويلبس القرود قلانس الذهب، وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه. وقيل إن سبب موته أنه حمل قردة وجعل ينقرها فعضته، وذكروا عنه غير ذلك والله أعلم بالصحة.
وقال عبد الرحمن بن أبي مذعور: حدثني بعض أهل العلم قال: آخر ما تكلم به يزيد بن معاوية: ((اللهم لا تؤاخذني بما لم أحبه ولم أرده، واحكم بيني وبين عبيد الله بن زياد)). وكان نقش خاتمه ((آمنت بالله العظيم)).
مات يزيد بجوارين من قرى دمشق في أربع عشر شهر ربيع الأول، وقيل يوم الخميس النصف منه سنة أربع وستين، ثم حمل إلى دمشق، وصلى عليه ابنه معاوية أمير المؤمنين يومئذٍ ودفن بمقابر باب الصغير.
وفي أيامه وسع النهر المسمى بيزيد في ذيل جبل قاسيون، وكان جدولاً(1/50)
صغيراً فوسعه [فجرى فيه] أضعاف ما كان يجري فيه من الماء.
وقال ابن عساكر: ثنا أبو الفضل محمد بن محمد العبدي قاضي البحرين من لفظة وكتبه لي بخطه، قال: رأيت يزيد بن معاوية في النوم فقلت له: أنت قتلت الحسين. فقال: لا. فقلت له: ((هل غفر الله لك؟)) قال: ((نعم)) وأدخلني الجنة قلت فالحديث الذي يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى معاوية يحمل يزيد، فقال: ((رجل من أهل الجنة يحمل رجلاً من أهل النار)). فقال ليس بصحيح. قال ابن عساكر: ((وهو كما قال فإن يزيد بن معاوية لم يولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما ولد بعد العشرين من الهجرة. وولد ليزيد معاوية أبو ليلى، وخالد أبو هاشم، كان يقال: إنه أصاب علم الكيمياء، وأبو سفيان (وأمهم) أم هاشم بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وقد تزوجها بعد يزيد مروان بن الحكم وهي التي يقول فيها الشاعر:(1/51)
انعمي أم خالد ... رب ساع كقاعد
وعبد الله ويقال له الأسوار، وكان من أرمى العرب، وأمه أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر، وهو الذي يقول فيه الشاعر:
زعم الناس أن خير قريش ... كلهم حين يذكرون الأساور
وعبد الله الأصغر وأبو بكر وعتبة وعبد الرحمن والربيع ومحمد لأمهات أولاد شتى، ويزيد وحرب وعمر وعثمان، فهؤلاء خمسة عشر ذكراً، كان له من البنات عاتكة ورملة وأم عبد الرحمن وأم يزيد وأم محمد فهؤلاء خمس بنات، وقد انقرضوا كافة فلم يبق ليزيد عقب.
وقد اختلف العلماء في الترخيص في لعن يزيد بن معاوية، وهو رواية عن أحمد بن حنبل اختارها الخلال وأبو دكن عبد العزيز والقاضي أبو يعلى وابنه القاضي أبو الحسن، وانتصر لذلك أبو الفرج بن الجوزي في مصنف مفرد، وجوز لعنه، وصرح بجواز لعنه ولعن أعوانه الشيخ سعد الدين التفتازاني وغيره واستدلوا بما خرج البخاري من حديث عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول]: ((لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في(1/52)
الماء)). وأخرج مسلم من حديث دينار عن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء)). وأخرج النسائي عن ابن السائب بن خلاد، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخاف أهل المدينة أخافه الله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة لا صرفاً ولا عدلاً)).
وأخرج الدارقطني عن محمد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد الله قالا: ((خرجنا مع أبينا يوم الحرة وقد كف بصره فقال: ((تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ))، فقلنا: ((ياأبه وهل أحد يخيف رسول الله؟)) فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أخاف أهل هذا الحي من الأنصار فقد أخاف ما بين هذين يديه على جبينه)). قال الدارقطني: ((تفرد به سعد بن عبد الحميد لفظاً وإسناداً)).
قال ابن كثير: ((وقد أخطأ يزيد خطأً فاحشاً في قوله لأميره مسلم ابن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام، مع ما انضم إلى ذلك من قتل خلق من الصحابة وأبنائهم. وقد تقدم أنه قتل الحسين وأصحابه على يدي عبيد الله بن زياد، وقد وقع في هذه الأيام الثلاثة من المفاسد العظيمة في(1/53)
المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف. وقد أراد بإرسال مسلم توطئة لملكه ودواماً لأيامه من غير منازع ولا معارض، فعاقبه الله بنقض قصده، وحال بينه وبين ما يشتهيه فقصمه الله قاصم الجبابرة، وأخذه أخذ عزيز مقتدر {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمةٌ، إن أخذه أليمٌ شديدٌ}.
وإن كان استشهد يزيد بشعر (ابن الزبعرى) المار فلعنة الله عليه ولعنة اللاعنين، وإن لم يكن استشهد فلعنة الله على من وضعه عليه ليشنع عليه به.
ومنع من لعنه آخرون، صنفوا فيه أيضاً، آخرهم شيخنا المحيوى النعيمي الشافعي وقالوا: لئلا يجعل لعنه وسيلة إلى أبيه، لأنه واحد من الصحابة، وحملوا ما صدر عنه من سوء التصرفات على أنه نازلة وأخطاء، قالوا: إنه كان مع ذلك إماماً فاسقاً، والإمام إذا فسق لا يعزل بمجرد فسقه على أصح قولي العلماء بل ولا يجوز الخروج عليه لما في ذلك من إثارة الفتنة، ووقوع الهرج، وسفك الدماء الحرام، ونهب الأموال، وفعل الفواحش مع النساء (وغيرهم) قال ابن كثير:(1/54)
((وأما ما يذكره بعض الناس أن يزيد لما بلغه خبر أهل المدينة وما جرى عليهم عند الحرة من مسلم وجيشه فرح بذلك فرحاً شديداً، فإنه كان يرى أنه الإمام وقد خرجوا عن طاعته وأمروا عليهم غيره فله قتالهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ولزوم الجماعة كما أنذرهم بذلك على لسان النعمان ابن بشير وغيره)).
وقد جاء في الصحيح: ((من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائناً من كان)). والله أعلم.
قال العلامة السعد التفتازاني في آخر شرح العقائد للنسفي الحنفي: ((واتفقوا على جواز اللعن على من قتله أو أمر به أو أجازه ورضي به. والحق أن رضا يزيد بقتل الحسين رضي الله عنه، واستبشاره بذلك، وإهانته أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، مما تواتر معناه، وإن كان تفاصيله (آحاداً) فنحن لا نتوقف في شأن يزيد، بل في إيمانه لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه. وقال الشيخ كمال الدين الدميري في منظومته:
ومقتل الحسين أمر عجب ... إذ صار نصره على الناس وجب
فلعنة الله على من قتله ... ومن على سوء الصنيع حمله(1/55)
ونقل ابن الجوزي في ((تبصرته)) أنه وجد بقلم اليونان على حجر قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمائة عام:
أيرجو معشر قتلوا حسيناً ... شفاعة جده يوم الحساب
وأخرج أبو بكر الشافعي في ((الغيلانيات)) عن ابن عباس قال: ((أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم : ((أني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً)).
وسئل الإمام الجليل علي بن محمد الطبري المعروف بإلكيا الهراس من أئمة الشافعية عن يزيد بن معاوية فقال: ((لم يكن من الصحابة لأنه ولد في زمن عمر بن الخطاب، وأما قول السلف لعنه ففيه للإمام قولان تصريح وتلويح. وللإمام مالك كذلك قولان، وللإمام أبي حنيفة كذلك قولان، وللإمام الشافعي قول واحد التصريح دون التلويح، وكيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالنرد، و(المتصيد) بالفهد، ومدمن الخمر، وشعره فيها معلوم ومنه قوله:(1/56)
أقول لصحب ضمت الكاس شملهم ... وادعى صبابات الهوى متزعم
خذوا بنصيب من نعيم ولذة ... فكل وإن طال المدى يتصرم
وكتب فصلاً طويلاً ثم قلب الورقة وكتب: لو مددت ببياض لمددت العنان في (مجازى) هذا لرجل.
وقد أفتى الإمام الغزالي بخلاف ذلك فنقول: سئل حجة الإسلام أبو حامد الغزالي عمن يصرح بلعن يزيد بن معاوية، هل يحكم بفقه أم لا؟. وهل كان راضياً بقتل الحسين بن علي أم لا؟ وهل يسوغ الترحم عليه أم لا؟ فلينعم بالجواب مثاباً. فأجاب: لا يجوز لعن المسلم أصلاً، ومن لعن مسلماً فهو الملعون. وقد قال عليه السلام: ((ليس المسلم بلعان، وكيف يجوز لعن المسلم وقد نهينا عن لعن البهائم، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد صح إسلام يزيد بن معاوية، وما صح قتله الحسين، ولا أمره به ولا رضاه بذلك، ولا كان حاضراً حين قتل و(مهما) لا يصح ذلك منه(1/57)
ولا يجوز أن يظن ذلك به، فإن إساءة الظن أيضاً بالمسلم حرام وقد قال الله تعالى: {اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثمٌ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن الله حرم من المسلم دمه ماله عرضه، وأن يظن به ظن السوء)) ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين أو رضي به فينبغي أن يعلم أن به غاية الحماقة، فأمن قتل الملوك والأمراء والكبراء بحضرتنا لو أردنا أن نعلم حقيقة الأمر من الذي أمر بقتله، ومن الذي يرضى به، ومن الذي كرهه لم نقدر على ذلك، وإن كان قد قتل في جوارنا وزماننا ونحن نشاهده، فكيف بمن قتل في بلد بعيد وفي زمن انقضى، فكيف يعلم ذلك فيمن انقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في مكان بعيد، وقد تطرق التعصب في الواقعة وكثرت فيها الأحاديث من الجانبين، فهذا الأمر لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، وإذا لم يعرف وجب إحسان الظن بالمسلم، بل كل مسلم يمكن إحسان الظن به، ومع هذا، فلو ثبت على مسلم أنه قتل (مسلماً)، فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافر والقتل ليس بكفر بل معصية وقد أمرنا الله بإحسان الظن بالمسلم مهما أمكن، وإذا مات القاتل ربما مات بعد التوبة، والكافر لو تاب من كفره لم تجز لعنته فكيف بمؤمن تاب عن قتل. ولم يعرف أن قاتل(1/58)
الحسين مات قبل التوبة وقد قال الله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات}. (فإذن) لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين بعينه لم يروه النص، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى، ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع بل ولو لم يلعن إبليس طول عمره مع جواز اللعن عليه لا يقال له يوم القيامة: لم لا تلعن إبليس؟ ويقال للاعن: لم لعنت ومن أين عرفت أنه مطرود ملعون -والملعون هو المبعود من الله تعالى- وذلك علم الغيب؟ لا يعرف إلا من مات كافراً بأن ذلك علم بالشرع، وأما الترحم عليه فجائز، بل مستحب، بل هو داخل في قولنا اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنه كان مؤمناً والله أعلم بالصواب)). كتبه الغزالي.
وفي فتاوى الشيخ تقي الدين بن الصلاح، مسألة: ((رجل يعتقد أن يزيد بن معاوية أمر بقتل الحسين بن علي ورضي به طوعاً منه لا كرهاً، واختار ذلك. ويورد في ذلك أحاديث مروية عمن قال له ذلك الأمر، وهو مصر عليه ويسبه ويلعنه على ذلك. والمسئول خطوط العلماء ليكون رادعاً له أو حجة له أجاب: ((لم يصح عندنا أنه أمر بقتل الحسين(1/59)
رضي الله عنه، والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضى إلى قتله كرمه الله، إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذلك وأما سب يزيد ولعنه فليس ذلك من شأن المؤمنين، وإن صح أنه قتله أو أمر بقتله. وقد ورد في الحديث المحفوظ أن لعن المؤمن كقتله)). وقاتل الحسين لا يكفر بذلك وإنما ارتكب إثماً، [إنما] يكفر بالقتل قاتل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والناس في يزيد على ثلاث فرق: فرقة تحبه وتتولاه، وفرقة تسبه وتلعنه، وفرقة متوسطة في ذلك ولا تتولاه ولا تلعنه وتسلك به سبيل سائر (ملوك) الإسلام وخلفائهم غير الراشدين في ذلك وشبهه. وهذه الفرقة هي المصيبة (مذهبها) هو اللائق لمن يعرف سير الماضيين، ويعلم قواعد الشريعة الظاهرة جعلنا الله من خيار أهلها آمين. انتهى.
وفي فتاوى الشيخ محي الدين النووي: ((رجل يلعن الحجاج بن يوسف دائماً، ويحلف أنه من أهل النار)). الجواب: ((هو مخطئ ولا يحنث ولا نقطع له بدخوله الجنة)). انتهى.(1/60)
وقال حجة الإسلام أبو بكر أحمد بن الحسين الشافعي المعروف بابن الحداد في عقيدته: ((وإن خير هذه الأمة القرن الأول وهم الصحابة رضوان [الله] عليهم، وخيرهم العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وخير هؤلاء العشرة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ونعتقد حب آل محمد و(أزواجه) وسائر أصحابه، ونذكر محاسنهم، وننشر فضائلهم، ونمسك ألسنتنا وقلوبنا عن التطلع فيما شجر بينهم، ونستغفر الله لهم، ونتوسل إلى الله بهم، ونرى الجهاد والجمعة والجماعة إلى يوم القيامة. والسمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين واجب في طاعة الله دون معصيته، ولا يجوز الخروج عليهم ولا المفارقة لهم ولا نكفر أحداً من المسلمين بذنب عمله ولو كثر، ولا ندع الصلاة عليهم، بل يحكم فيهم بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونترحم على معاوية، ونكل سريرة يزيد إلى الله تعالى)) إلى آخر كلامه رحمه الله.
وقد ذكر العقيدة كلها ابن القيم في كتابه ((اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية)).
وقال العلامة جمال الدين الأردبيلي في كتاب ((البغاة)) من كتابه(1/61)
((الأنوار)) والباقون ليسوا بفسقة ولا كفرة لكنهم مخطئون فيما يفعلون ويذهبون إليه، فلا يجوز الطعن في معاوية فإنه من كتاب الصحابة، ولا يجوز لعن يزيد ولا تكفيره فإنه من جملة المؤمنين وأمره في مشيئة الله تعالى إن شاء رحمه وإن شاء عذبه قال الغزالي والمتولي وغيرهما: وحرم على الواعظ وغيره رواية قتل الحسين وحكايته، وما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم، فإنه مهيج على بعض الصحابة والطعن فيهم، وهم أعلام الدين تلقى الأئمة منهم رواية ونحن من الأئمة دراية، فالطاعن فيهم مطعون، طاعن في نفسه وفي دينه.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في كتابه ((معرفة الحديث))، وصاحب الروضة في كتابه ((الإرشاد)): الصحابة كلهم عدول، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم مائة ألف وأربعة عشر ألف صحابي عند وفاته صلى الله عليه وسلم والقرآن والأخبار مصرح بعدالتهم وجلالتهم ولما جرى عليهم محامل لا يحتمل ذكرها هذا الكتاب. انتهى.
وقال صاحب قصيدة يقول العبد في بدء ((الأماني في أصول الدين)) للأوشي الحنفي، قال شيخنا النعيمي، قيل إنه ابن الفرات وهو وهم:(1/62)
ولم يلعن يزيداً بعد موت ... سوى المكثار في الإغراء غالي
قال شارحها أبو البركات النسفي: وصرف يزيد للضرورة، وقال غيره: إنما لم يلعن يزيد لأنه قد روى عنه أنه لما رأى رأس الحسين قال: ((لقد قتلتك من كان الرحم بينك وبينه قاطعة، وتبرأ ممن قتل الحسين أو أعان عليه أو شاربه ظاهراً وباطناً)). هذا اعتقادنا ظاهراً، ونكل سريرته إلى الله تعالى.
وقال الحافظ أبو القاسم التيمي الطلحي الأصبهاني في كتابه ((الحجة في بيان المحجة)): فصل في ذكر يزيد بن معاوية وحاله: ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة، وإنا بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعم من أن يبايع رجل على بيعة الله ورسوله، ثم ينصب له القتال، وإني والله لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفصيل بيني وبينه)). قال رواه الإمام أحمد بن حنبل بنحوه عن عبد الصمد عن صخر بن جويرية، وفي البخاري في كتاب ((الفتن)) عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد كلاهما، عن نافع مولى ابن عمر. انتهى.(1/63)
قال أهل اللغة: الفصل القطيعة والهجران.
والأولى في هذا الباب أن يبنى الكلام فيه على مقدمات: أولها: ثبوت إسلامه ومن ثبت إسلامه لا يجوز لعنه. قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لعن المؤمن كقتله)) فإن شك أحد في إسلامه كان بمنزلة من شك في (إسلام) من في عصره وإذا ثبت ذلك فلا يدفع اليقين بالظن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلعن الكفار في الصلاة فأنزل الله سبحانه: {ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون}، فترك الدعاء عليهم واللعن. فإذا كان أمر الكفار في هذا المعنى إلى الله تعالى يتولى جزاءهم فأمر المسلم أولى أن يفوض إليه ذلك ليفعل فيه ما يستحقه المرء. ما ذكر من قتله الحسين بن علي فالذي ثبت عنده أهل الفضل أنه عبيد الله بن زياد لحفظ الكوفة، وكتب إليه أن يمنع من أراد الاستيلاء على الكوفة، فلما قصد الحسين بن علي الكوفة استقبله خيل ابن زياد يمنعوه من دخول الكوفة، فلم يتمكنوا من منعه إلا بقتله، هذا ما ثبت عند أهل النقل، مع ما ظهر من إنكاره قتله ولعنه عبيد الله بن زياد وقوله: قد كنا نرضى منك بدون قتله، وإظهاره(1/64)
النحيب والبكاء لقتله، وأنه جعل يضرب بيده على فخذه ويلعن قتله، وصلب قاتل الحسين، وقال: لقد عجل عليه ابن زياد قتله الله. ولم يثبت ضربه القضيب على أسنانه وإنما ثبت ذلك من فعل ابن زياد بالرواية الصحيحة هذا مع ما روى عن علي بن الحسين قال: ((أدخلنا على يزيد ونحن اثنا عشر غلاماً فقال: والله ما علمت بخروج أبي عبد الله -يعني الحسين بن علي- حين خرج ولا بقتله حين قتل)). ثم قال: {ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ} الآية. فقال له النعمان بن بشير: اصنع بهم ما كان يصنع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو رآهم بهذه الصورة - فبكى بكاءً شديداً وبكى أهل الدار حتى علت أصواتهم، ثم قال: ((فكلوا عنهم الغل وفك الغل بيده من عنق علي بن الحسين وأمر بحملهم إلى الحمام وغسلهم وأمر بضرب القباب عليهم، وأمر لهم بالطبخ وكساهم وأخرجهم جوائز كثيرة وقال أبو علي بن شاذان، رواية عن علي بن الحسين، قال: ((أدخلنا دمشق بعد أن شخصنا من الكوفة، فإذا الناس مجتمعون بباب يزيد، فأدخلت عليه وهو جالس على سرير وعنده الناس ساكتون من أهل الشام ومن أهل(1/65)
العراق والحجاز، وكنت قدام أهل بيتي فسلمت عليه فقال: ((أيكم علي بن الحسين؟ فقلت: أنا. فقال: ادنه، فدنوت. ثم قال: ادنه، فدنوت حتى علا صدري على فراشه، ثم قال: أما إنه لو [أن] أباك أتاني لوصلت رحمه وقضيت ما يلزمني من عنقه، ولكن عجل عليهم ابن زياد قتله الله)). فقلت: ((يا أمير المؤمنين أصابتنا جفوة)). فقال: ((يذهب الله عنكم الجفوة)). فقلت: ((يا أمير المؤمنين أموالنا قبضت فاكتب أن ترد علينا)). فكتب لنا بردها وقال: ((أقيموا عندي فإني أقضي حوائجكم وأفعل بكم وأفعل)). فقلت: ((بل بالمدينة أحب إلى قربى خير)). قال: ((لكم)) قلت: ((إن أهل بيتي قد تفرقوا فنأتيهم فيجتمعون ويحمدون الله على هذه النعمة)) فجهزنا وأعطانا أكثر ما ذهب منا من الكسوة والجهاز، وسرح معنا رسلاً إلى المدينة وأمرنا أن ننزل حيث شئنا.
قالت فاطمة بنت الحسين: ((دخلنا على نسائه فما بقيت امرأة من آل معاوية إلا تلقتنا تبكي وتنوح على الحسين)).
هذا ما نقل الثقات من أهل الحديث. وأما ما رواه أبو مخنف وغيره من الروافض فلا اعتبار بروياتهم، وإنما الاعتماد على نقل ابن أبي الدنيا(1/66)
وغيره ممن نقل هذه القصة على الصحة.
فصل. قيل: لما حضرت معاوية الوفاة جدد على يزيد الوصية بالحسين فقال: ((انظر الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه أحب الناس إلى الناس، فصل رحمه، وارفق به، وداره يصلح لك الأمر)).
(وأما) ما جرى بين علي ومعاوية، فقال السلف: السكوت عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا ذكر أصحابي فأمسكوا)). ومعلوم أنه ما أمر بالإمساك عن ذكر محاسنهم وإنما أمر بالإمساك عن ذمهم.
وقال عمر بن عبد العزيز: ((وسئل عن أمر الحرب التي جرت بينهم فقال: تلك دماء كف الله يدي منها فلا أحب أن أغمس لساني فيها، وأرجو أن يكونوا ممن قال الله فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غل}.(1/67)
فصل. قال قوم من المبتدعة (أبو سفيان) أبو معاوية قاتل النبي صلى الله عليه وسلم ، و(أمه) هند أكلت كبد حمزة، ومعاوية قاتل علياً، ويزيد قتل الحسين. والجواب عن ذلك أن يقال: (أبوه) كان [كذلك] قبل إسلامه، وإسلامه قد هدم ما كان قبله، قال الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((الإسلام يجب ما قبله)) قال أهل التفسير: نزل قوله تعالى: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودةً}، في (أبو سفيان)، أمره الله تعالى أن يتزوج ابنته وأن يجعل ابنه معاوية كاتب الوحي. وقال تعالى: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسناتٍ}. وأما هند أم معاوية فإنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وبايعت فنزل قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً}.. .. إلى قوله: {فبايعهن واستغفر لهن الله}(1/68)
فاستغفر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يضرها ما فعلت قبل ذلك. وشهد أبو سفيان مع النبي صلى الله عليه وسلم الطائف وفقدت عينه في سبيل الله وفقدت عينه الأخرى يوم اليرموك، وكان ينادي: ((يا نصر الله اقترب)). انتهى.
وذكر سعد الدين التفتازاني في شرحه لعقيدة النسفي الحنفي أن صاحب ((الخلاصة)) منهم وغيره وذكروا: ((أنه لا ينبغي لعن يزيد ابن معاوية))، ولا الحجاج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لعن المصلين ومن كان من أهل القبلة وما نقل من لعن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أهل القبلة لما أنه يعلم من أحوال الناس ما لا يعلمه غيره.
وقال الحافظ شمس الدين الذهبي في كتابه ((المقتنى في سرد الكنى)) الذي أخذه من كتاب ((النسائي))، من كتاب أبي أحمد الحاكم المطول، فرتبه على حروف المعجم وزاده وسهله، فقال آخر المكنيين بأبي محمد: أبو محمد عن زرارة بن أوفى قوله وعنه حماد بن سلمة: ((القرن ماية وعشرون عاماً بعث نبياً عليه الصلاة والسلام في قرن آخرهم يزيد ابن معاوية)). انتهى.(1/69)
وذكر الشيخ زين الدين بن رجب الحنبلي في ((ذيل طبقات الحنابلة)) من فتاوى الحافظ عبد الغني بن سرور القدسي فيما نقله من خط السيف ابن المجد أنه سئل عن يزيد بن معاوية، فأجاب: خلافته صحيحة. وقال بعض العلماء: بايعه ستون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنهم ابن عمر، وأما محبته ممن أحبه فلا ينكر عليه، ومن لا يحبه فلا يلزمه ذلك لأنه ليس من الصحابة الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلزم محبتهم إكراماً لصحبتهم. وليس ثم أمر يمتاز به عن غيره من الخلفاء التابعين كعبد الملك وبنيه، وإنما يمنع من التعرض للوقوع فيه، خوفاً من التسلق إلى أبيه وسكاً لباب الفتنة.
وذكر ابن رجب أيضاً في ترجمة الشيخ عبد المغيث بن زهير الحزبي المحدث عن ابن القطيعي، أن عبد المغيث حدث بينه وبين ابن الجوزي نفرة، كان يطعن على يزيد بن معاوية، وكان عبد المغيث يمنع من سبه، وصنف في ذلك كتاباً وأسمعه مصنف الآخر كتاباً سماه ((الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد)). قال: وقرأته عليه. قال ابن رجب: قلت: هذه المسألة وقع بينهما بسببها فتنة ويقال: إن عبد المغيث تبع أبا الحسن بن البنا، فإنه قيل: إنه صنف في منع ذم يزيد ولعنه، وابن الجوزي صنف في جواز ذلك، وحكى فيه أن القاضي أبا الحسين يعني ابن القاضي أبي يعلى بن الفرا صنف كتاباً فيمن يستحق اللعن وذكر يزيد وذكر كلام أحمد في ذلك. قال: ((وكلام أحمد إنما(1/70)
فيه لعن الظالمين جملة ليس فيه تصريح بجواز لعن يزيد معيناً، وقد ذكر القاضي فيه أن المعتمد نصوص الإمام أحمد في هذه المسألة. وأشار إلى أن فيه خلافاً عنه)). انتهى.
وقال الحافظ أبو الفضل بن حجر في باب قتال الروم من شرحه للبخاري عند الكلام على حديث أم حرام النبوي: ((أول جيش يغزون البحر قد أوجبت أي: وجبت - لهم الجنة ثم قال: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قبرص -يعني القسطنطينية- مغفور لهم)) وقال المهلب يعني ابن أبي صفرة المالكي في هذا الحديث: منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر ومنقبة لولده يزيد لأنه أول من غزا مدينة قبرص,
قال ابن حجر في شرحه: ((وكانت غزوة يزيد سنة اثنتين وخمسين من الهجرة، وفي تلك الغزوة مات أبو أيوب الأنصاري، وكان يزيد أمير ذلك الجيش بالاتفاق)). انتهى.(1/71)
وهذا في البخاري في باب صلاة النوافل جماعة أيضاً من كتاب ((التهجد)) حيث قال: قال محمود: ((محدثتها قوم فيه أبو أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته التي توفي فيها، ويزيد بن معاوية عليهم بأرض الروم فأنكرها على أبي أيوب، الحديث. قال ابن حجر في شرحه قوله ويزيد بن معاوية، أي ابن أبي سفيان [و] قوله عليهم أي: كان أميراً وذلك في سنة خمسين وقيل بعدها في خلافة معاوية ووصلوا في تلك الغزوة حتى حاصروا القسطنطينية)). انتهى.
وذكر قاضي الحنابلة البرهاني إبراهيم بن مفلح الحنبلي في كتابه ((المقصد الأسد)) في ذكر أصحاب الإمام أحمد عصمة بن أبي عصمة العكبري، قال أبو بكر الخلال كان صالحاً صحب أبا عبد الله، يعني أحمد بن حنبل حتى مات قال: ((سألته يعني الإمام أحمد أألعن يزيد بن معاوية؟)) [قال]: لا تكلم في هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لعن المؤمن كقتله)) وقال: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم)) قد كان يزيد منهم، فأرى الإمساك أحب إلي. انتهى.(1/72)
وقال الشيخ صلاح الدين الصفدي في تاريخه: ((زحر بن قيس الجعفي الكوفي شهد صفين مع علي بن أبي طالب، وكان شريفاً فارساً، وله ولد أشرف، كان خطيباً بليغاً، وفد على يزيد بن معاوية فأنزل له على المدائن في جماعة جعلهم هناك رابطة)) روى عنه الشعبي قال أحمد البجلي: ((هو كوفي تابعي ثقة من كبار التابعين، وقال أبو مخنف ثم عبيد الله بن زياد، نصب رأس الحسين في الكوفة فجعل يدار به ثم دعا زجر بن قيس فسرح معه برأس الحسين ورءوس أصحابه إلى يزيد، وكان مع زحر أبو بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان الأزدي فخرجوا حتى قدموا بها الشام على يزيد، فقال له يزيد: ((ويلك ما وراءك))، فقال: ((أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال، فعدونا عليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى إذا أخذت السيوف مأخذها من هام القوم جعلوا يهرعون إلى غير وزر ويلوذون منا بالآكام والحفر لواذاً كما لاذ الحمام من صقره، فوالله يا أمير المؤمنين ما كان إلا جزر وجزور، ونوصة قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجزرة، وثيابهم مزملة، وصدورهم معفرة، تصهرهم الشمس وتسعى عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقاع سبسب)). قال: ((فدمعت عين يزيد وقال:(1/73)
كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية -لعين عبيد الله وسمية جدته أم أبيه- أما والله لو أتى صاحبكم لعفوت عنه، رحم الله الحسين. ولم يصله بشيء. انتهى.
وقال في تاريخه المذكور في حرف المعجمة الشين: شمر بن ذي الجيوش أبو النابغة العامري، ثم الضباني حي من بني كلاب، كانت لأبيه صحبة، وهو تابعي أحد من قاتل الحسين، وحدث عن أبيه روى عنه أبو إسحاق السبيعي، وفد على يزيد مع أهل البيت وهو الذي اجتز رأس الحسين على الصحيح، قتله أصحاب المختار في حدود [(سنة من] الهجرة) لما خرج المختار وتطلب قتلة الحسين وأصابه. وإنما سمى أبوه الجوش لأنه كان صدره نابتاً قال خليفة العصفري: ((الذي ولي قتل الحسين شمر بن ذي الجوش، وأمير الجيش عمر بن سعد ابن مالك، قال محمد بن حسين: كنا (مع الحسين بن علي) بنهر كربلاء فنظر إلى شمر بن ذي الجوش فقال: صدق الله ورسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كأني أنظر إلى كلب أبقع يلغ في دماء أهل بيتي)). كان شمر أبرص. وقد مر شيء من حديثه في ترجمة الحسين بن علي. انتهى.(1/74)
وتصحيحه أن الشمر هو الذي احتز رأس الحسين المشهور خلافه.
قال الشيخ شمس الدين الكرماني في شرحه للبخاري، وكذا العماد ابن كثير في تاريخه وغيرهما، إن الذي حرص على قتل الحسين هو الشمر قبحه الله، وإن الذي ضربه أولاً هو زرعة بن شرمك التميمي، ثم جاء سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح، فوقع ثم نزل فذبحه وحز رأسه، وأن هذا هو الأشهر. وقد مر في كلام الصلاح في ((تاريخه)) في حرف الخاء المعجمة في ترجمة خولى بن يزيد الأصبحي من حمير أنه والذي احتز على الحسين بعد سنان بن أنس النخعي، حز خولى رأسه وأتى عبيد الله. وقال ابن مفلح في طبقاته في ترجمة مهنا بن الشاشي، وقال مهنا: سألت أحمد بن حنبل، عن يزيد بن معاوية فقال: ((هو الذي فعل بالمدينة ما فعل)). قلت: ((وما فعل؟)) قال: ((نهبها وأباحها ثلاثة أيام حتى أنهم وقعوا على النساء، قيل: إنه ألف حبل امرأة في تلك الأيام من غير زواج وولدت)). قلت: ((فنذكر عنه الحديث؟)) قال: ((لا نذكر عنه الحديث، لا ينبغي لأحد أن يكتب عنه حديثاً)). قلت: ((ومن كان معه بالمدينة حتى فعل ما فعل؟)) قال: ((أهل الشام)). قلت: ((فأهل مصر؟)) قال: ((لا، إنما كان أهل [مصر] في أمر عثمان)).(1/75)
وقال مهنا: سألت أحمد بن حنبل: ((ما أفضل الأعمال؟)) قال: ((طلب العلم لمن صحت نيته)). قلت: ((وأي شيء تصحيح النية؟)) قال: ((يتواضع فيه، وينفي عنه الجهل))، فائدة: قال الذهبي في العبر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة: ((عبد المغيث بن زهير أبو العز الحربي محدث بغداد وصالحها، وأحد من عنى بالأثر وبالسنة، سمع ابن الحصين وطبقته وتوفي في المحرم عن ثلاث وثمانين سنة وكان ثقة سنياً صاحب حرمة مبارك وصنف جزءاً في فضائل يزيد أتى فيه بالموضوعات)). انتهى.
وقال ابن مفلح في طبقاته: ((عبد المغيث بن زهير بن علوي الحزبي المحدث الزاهد أبو العز، سمع من أبي القسم ابن الحصين، وأبي غالب والقاضي أبي بكر الأنصاري. وخلق، وعنى بهذا الشأن، وقرأ على المشايخ، وكتب بخطه، وحصل الأصول، وتفقه على القاضي أبي يعلى، وكان صالحاً ديناً صدوقاً أيضاً، حسن الطريقة، جميل السيرة، حميد الأخلاق مجتهداً في اتباع السنة والآثار، جمع وصنف وحدث، ولم يزل يفيد الناس إلى حين وفاته وبورك له حتى حدث بجميع مروياته، وسمع الكبار وأثنى عليه الأئمة، منهم المنذري وابن القطيعي، ووقع بينه وبين ابن الجوزي نفرة بسبب الطعن على يزيد بن معاوية، كان عبد المغيث يمنع من سبه وصنف في ذلك مصنفاً وأسمعه وصنف ابن الجوزي مصنفاً وسماه (الرد على المتعصب العنيد المانع من(1/76)
ذم يزيد). وقرئ عليه، ومات الشيخ عبد المغيث وهما متهاجران. وللشيخ عبد المغيث مصنف في حياة الخضر خمسة أجزاء وله كتاب (الدليل الواضح في النهي عن ارتكاب الهوى الفاضح). يشتمل على تحريم الغناء وآلات اللهو، توفي ليلة الأحد ((الثالث عشر من)) المحرم سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وكانت جنازته مشهودة، ودفن بدكة قبر الإمام أحمد مع الشيوخ الكبار)). انتهى.(1/77)
خاتمة
قال الصلاح الصدفي في الوافي في حرف العين: ((عبد الملك بن عمير بن سويد بن حارثة اللخمي الكوفي أحد الأعلام، رأى علياً رضي الله عنه. قال: كنت عند عبد الملك بن مروان بقصر الكوفة حين جيء إليه برأس مصعب بن الزبير، فوضع بين يديه. فرآني قد ارتعت. فقال: مالك فقلت: يا أمير المؤمنين كنت بهذا القصر، في هذا الموضع مع عبيد الله بن زياد فرأيت رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما بين يديه في هذا المكان، ثم كنت فيه مع المختار بن أبي عبيدة الثقفي فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بن يديه، ثم كنت مع مصعب بن الزبير فرأيت رأس المختار بين يديه، ثم هذا رأس مصعب بن الزبير بين يديك. فقام عبد الملك من موضعه وأمر بهدم ذلك الطاق الذي كنا فيه)). انتهى.
قال شيخنا المحيوي النعيمي قلت: {وجزاؤا سيئةٍ سيئةٌ مثلها}، كما قال الله تعالى، والصوفية يقولون: ((الطريقة تأخذ حقها))، والأطباء يقولون: ((الطبيعة مكافية))، والناس يقولون: ((في الله الكفاية)). ورأيت في الوافي في حرف السين: سلمة بن كهيل(1/79)
الحضرمي، قال: ((رأيت رأس الحسين رضي الله عنه على العبأة وهو يقول: {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} ذكره في حرف جمع سماه ((بالحرف المعلم بتحريم لعن المسلم)). (غريزة) رأيت في تاريخ التقى بن قاضي شيبة ومن شعر الجوهري صاحب الصحاح رحمه الله تعالى:
رأيت فتى أشقرا أزرقا ... قليل الدماغ كثير الفضول
يفضل من جهله دائما ... يزيد بن هود على ابن البتول
وقال البدر الدماميني في مصابيح الجامع عندما قال فيه: ((أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم))، وقال المهلب: ((من هذا الحديث ثبت خلافة يزيد وفيه أنه من أهل الجنة)).
قال المنير: ((تحامل في تصحيحه خلافة يزيد ثم جعله من الشهود لهم بالجنة وما أراه إلا احتملته الحمية لبني أمية ولا خفاء في أن المغفرة ونحوها من آثار الخير إنما تتنزل على أسبابها وإنما تؤتى من أبوابها)). وحالة يزيد عند أهل السنة والجماعة ليست بهذه المثابة وتخصيص واحد من(1/80)
الأمة بقرائن تخرجه من العموم ليس ببدع، ولا خلاف في أن قوله عليه الصلاة والسلام ((مغفور لهم))، مشروط بكونهم من أهل الجنة والمغفرة، والمراد مغفور لمن وجد شرط المغفرة فيه منهم)). انتهى.
تم كتاب (القيد الشريد من أخبار يزيد) والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب، على يد الفقير إلى الله المعين، محمد بن محمود العدوي بشمس الدين لطف الله تعالى به عند حلول رمسه، وجعل يومه خيراً من أمسه وذلك بتاريخ ليلة الخميس بعد العشاء الآخرة بنحو ثلاثين درجة خامس جمادى الأولى من شهور سنة سبع وثلاثين وألف من هجرة النبي المختار عليه أفضل الصلاة والسلام من الملك العزيز الغفار، والحمد لله وحده، وكفى.(1/81)