قضية المحكم والمتشابه وأثرها على القول بالتفويض
ملخص البحث ............
تناول البحث قضية المحكم والمتشابه وأثرها على القول بالتفويض ، أو بتعبير آخر العلاقة بين المحكم والمتشابه الذي ورد في قوله تعالي : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } (آل عمران:7) ، وأثر ذلك على القول بالتفويض ، والبحث مقسم بعد المقدمة إلي مبحثين وخاتمة ، تناول المبحث الأول موقف السلف والخلف من المحكم والمتشابه وقضية التفويض ، وقد اشتمل على ذكر المقصود بمصطلح السلف والخلف ، سواء بالنسبة للعامل الزمني أو العامل المنهجي ثم تعريف المحكم والمتشابه والتفويض لغة واصطلاحا ، وحصر الآراء التي فسرت معنى المحكم والمتشابه في القرآن الكريم ، ثم تناول المبحث طرح الرؤية السلفية في فهم المعنى والكيفية وعلاقته بالمحكم والمتشابه بأسلوب بسيط .
أما المبحث الثاني فقد تناول العلاقة بين فهم المحكم والمتشابه وقضية التفويض ، وقد اشتمل على ذكر حقيقة مذهب الخلف في نصوص الصفات ، وأمثلة معاصرة على اعتقاد الخلف أن مذهب السلف هو التفويض ، ثم تناول الحديث عن أثر عقيدة التفويض في الدعوة إلى عدم الكلام في نصوص الصفات عند العوام ، وأيضا أسباب القول بالتفويض ولوازمه .
وقد اشتملت الخاتمة على أبرز النتائج ، وكان من أهمها التنبه إلى خطورة القول بالتفويض ، وسلب كلام اللَّه عن معناه ، أو محاولة تقبيح إثبات الصفات في نفس السامع ، تحت مسمى التجسيم وإثبات الأعضاء والجوارح لله ، وأنه بالمقارنة بين موقف السلف والخلف من قضية المحكم والمتشابه وعلاقتها بمسألة التفويض ، يظهر أن الفهم الصحيح لمعنى المحكم والمتشابه سوف يؤثر إيجابا أو سلبا على ظهور الحق في قضية التفويض .(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده اللَّه فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، أما بعد ..
فقد اشتبه على كثير من إخواننا - الذين نحسبهم على خير في كل ما يبذلونه لخدمة دينهم ورفعة إسلامهم - حقيقة مذهب السلف في قضية التفويض ، حيث ظنوا أن مذهب السلف في نصوص الصفات - أو ما يطلقون عليه الصفات الخبرية أو النصوص الموهمة للتشبيه والجسمية - هو تفويض معاني النصوص والكف عن طلب العلم بها ، ويجعلون دليلهم في ذلك ، ما ثبت عن الإمام مالك بن أنس رحمه اللَّه ، أن رجلا جاءه وقال له : يا أبا عبد اللَّه : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (1) ، كيف استوى ؟! فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، فإني أخاف أن تكون ضالا وأمر به فأخرج (2).
__________
(1) ه:5 .
(2) للالكائي : أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري ، 1402هـ ، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، تحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان ، الرياض ، دار طيبة 3/398 .(1/2)
والحقيقة أننا إذا دققنا النظر في قول الإمام مالك رحمه اللَّه ، علمنا أنه فرق في جوابه بين أمرين أساسيين ، هما أصل الفهم الذي امتاز به السلف الصالح عن غيرهم في باب الصفات ، أولهما : معنى الاستواء على العرش ، أو معاني الألفاظ التي ورد بها الأدلة السمعية في باب الصفات وسائر الغيبيات بوجه عام ، وثانيهما : كيفية الاستواء على العرش أو الكيفية الغيبية التي تؤول إليها دلالة هذه الألفاظ ، فالمعنى الوارد في نصوص الكتاب والسنة يستوعبه الذهن من خلال فهمه للألفاظ العربية التي نزل بها الوحي ، أما الكيفية فهي المدلول الحقيقي الذي ينطبق عليه اللفظ ، فلفظ الاستواء في الآية السابقة ، لفظ ينطبق على صفة من صفات أفعال الله ، لها كيفية حقيقية غيبية تليق بجلاله ، ما رأيناها ، لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - : ( تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ ) (1) .
وكذلك الكيفية لا تخضع لأقيستنا التمثيلية والشمولية ، لأننا ما رأينا لها مثيلا نصفها أو نحكم عليها من خلاله ، وذلك ما نص عليه قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (2) ، فاللفظ احتوى على مدلول حقيقي يثبت وصف الله عز وجل بالاستواء على العرش ، وقد أمرنا أمر الله بالإيمان به والتصديق بوجوده.
__________
(1) خرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب ذكر ابن صياد ، (2931) 4/2240 .
(2) لشورى:11.(1/3)
ولما غضب الإمام مالك على السائل ، غضب لأنه جاء يسأل عن كيفية الاستواء الغيبية التي تخرج عن إدراك أجهزة الحواس البشرية ، ولا يمكن للإمام مالك رحمه الله أن يخترع له جوابا يصف فيه الكيفية التي عليها استواء اللَّه على العرش ، لعلمه أن ذلك قول على اللَّه بلا علم ، وقد قال الله عز وجل : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا } (1) ، وقال أيضا : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } (2) .
أما لو جاء السائل مالكا يسأله عن معنى الاستواء في لغة العرب التي خاطبنا اللَّه بها ، أو سأله عن الآية : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (3) ، ما الذي تضيفه للمسلم في موضوع الإيمان باللَّه ؟ لما غضب عليه مالك ، إذ أن حق السائل على أهل العلم ، البيان والفهم ، وأن يدرك معاني نصوص القرآن والسنة ، وقد أمره اللَّه بذلك فقال : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } (4) .
__________
(1) لإسراء:36 .
(2) لأعراف:33 .
(3) ه:5 .
(4) لنحل:43 .(1/4)
والجواب عند ذلك بيِّن واضح ، ومعنى الكلام معلوم مفهوم ، ولن يعجز الإمام مالك عن الإجابة ، إذ أن استواء اللَّه على عرشه ، له وجود حقيقي غيبي ، ويعنى في اللغة العلو والارتفاع ، تماما مثلما يسأل صاحب اللسان الأعجمي عن ترجمة هذه الآية ، فإن المترجم لن يترجم له ما لم يره من الكيفية التي عليها الاستواء ، ولا يمكنه ذلك بحال من الأحوال ، وإنما سيشرح له بلغته معنى العلو والارتفاع على العرش ، وأن اللَّه ليس كمثله شيء في استوائه ، ويبين له ضرورة الإيمان بوجود حقيقة الاستواء ، وأن له كيفية معينة تليق بجلال اللَّه ، يعلمها الله عز وجل ولا نعلمها نحن إلى غير ذلك مما يبين مراد الله من الآية .
فالآية أوجبت الإيمان باستواء حقيقي ، لا نعلم كيفيته ويجب أن نسلم لله به وعلى ذلك ، فإن معتقد الإمام مالك الذي يمثل مذهب السلف الصالح ، هو تفويض العلم بالكيفية الغيبية فقط ، أما المعنى فهو معلوم ظاهر من لغة العرب ومراد مفهوم من الآية ، وهذا واضح بيِّن في كلامه ، حيث قال : الاستواء غير مجهول أي معلوم المعنى ، والكيف غير معقول أي مجهول للعقل البشرى بسبب عجزه عن إدراكه .(1/5)
ومن ثم لو قلنا كما قال الخلف من الأشعرية ، بأن مالكا فوض العلم بالمعنى لا الكيفية ، فإن ذلك يؤدى إلى لوازم عديدة ، أبرزها القول بأن كلام اللَّه بلا معنى ، وسبب ذلك هو الخطأ في فهم اعتقاد مالك ، أو عدم التوفيق في فهم حقيقة المذهب السلفي ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه معقبا على قول مالك في الاستواء : ( وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول ، فليس في أهل السنة من ينكره ، وقد بين أن الاستواء معلوم ، كما أن سائر ما أخبر به معلوم ، ولكن الكيفية لا تعلم ولا يجوز السؤال عنها ، لا يقال : كيف استوى ؟ ولم يقل مالك رحمه الله الكيف معدوم ، وإنما قال الكيف مجهول ) (1) .
وإلحاقا بهذا الموضوع يأتي هذا البحث الذي يتناول العلاقة بين فهم قضية المحكم والمتشابه وأثر ذلك على القول بالتفويض ، كيف تطرد القضيتان سلبا وإيجابا ؟ وقد قسمت البحث بعد المقدمة إلى مبحثين وخاتمة على النحو التالي :
المبحث الأول : موقف السلف والخلف من المحكم والمتشابه وقضية التفويض .
وقد اشتمل على عدة مطالب :
المطلب الأول : المقصود بمصطلح السلف والخلف .
المطلب الثاني : تعريف المحكم والمتشابه والتفويض لغة واصطلاحا .
المطلب الثالث : رؤية سلفية في فهم المعنى والكيفية وعلاقته بالمحكم والمتشابه .
المبحث الثاني : العلاقة بين فهم المحكم والمتشابه وقضية التفويض .
وقد اشتمل على عدة مطالب :
المطلب الأول : حقيقة مذهب الخلف في نصوص الصفات .
المطلب الثاني : أمثلة معاصرة على اعتقاد الخلف أن مذهب السلف هو التفويض .
المطلب الثالث : أسباب القول بالتفويض ولوازمه .
الخاتمة : وقد اشتملت على أبرز النتائج .
المبحث الأول
__________
(1) بن تيمية : شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ، 1381 هـ ، الرياض ، مجموع الفتاوي ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ، رسالة الإكليل ، 2/33 ، ط دار الإفتاء بالسعودية .(1/6)
موقف السلف والخلف من المحكم والمتشابه وقضية التفويض
المطلب الأول : المقصود بمصطلح السلف والخلف .
السَّلف :_ لغة هو الماضي ، كقول الله عز وجل : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهي فَلَهُ مَا سَلَفَ } (1) ، وقوله : { وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } (2) ، قال ابن منظور : ( سلف يسلف سلفا ، مثال طلب يطلب طلبا أي مضى ، والقوم السلاف المتقدمون ، سلف الرجل آباؤه المتقدمون ، والجمع أسلاف سلاف ، وقال ابن بري : سلاف ليس بجمع لسلف ، وإنما هو جمع سالف للمتقدم ، وجمع سالف أيضا سلف ، ومثله خالف وخلف ، ويجيء السلف على معان القرض والسلم وكل عمل قدمه العبد ) (3) .
ولما كان كل ماض سلف ، فقد شاع إطلاق مصطلح السلف على الجيل المؤسس الذي أقام الدين وطبق منهج الإسلام ، جيل الصحابة الذي تلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم البيان النبوي للبلاغ القرآني ، ثم انضم إليهم من اهتدى بهديهم ، واقتدى بسنة نبيهم ، من التابعين وتابع التابعين ، وأئمة المذاهب الفقهية الكبرى .
ويمكن تحديد من يدخل تحت اصطلاح السلف بصورة أكثر دقة من خلال أمرين أساسيين أو عاملين مجتمعين ، عامل زمني وآخر منهجي :
__________
(1) لبقرة:275 .
(2) لنساء:22 .
(3) بن منظور : محمد بن المكرم الأفريقي ، 1307 هـ ، بيروت ، لسان العرب ، نشر دار صادر ، 9/158، وانظر أيضا : المناوي : محمد عبد الرؤوف ، 1410هـ ، بيروت ، التوقيف علي مهمات التعاريف ، نشر دار الفكر المعاصر 1/412 .(1/7)
أولا : العامل الزمني :_ ويتناول كل من أدرك عصر خير القرون ، ويشير إلي ذلك حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : ( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ ) (1) .
والقرن أهل زمان واحد متقارب ، اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة ، ويقال : إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبي أو رئيس يجمعهم على ملة واحدة ، أو مذهب أو عمل ، ويطلق القرن أيضا على مدة من الزمان ، ذكر الجوهري : أن مدة القرن بين الثلاثين والثمانين ، وذكر ابن الأعرابي : أنه من عشر إلى سبعين ثم قال : هذا هو القدر المتوسط من أعمار أهل كل زمن ، وهذا أعدل الأقوال ، وهو مأخوذ من الأقران (2) .
يقول ابن حجر : ( وقد ظهر أن الذي بين البعثة وأخر من مات من الصحابة ، مائة سنة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل ، على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل ، وإن اعتبر ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، فيكون مائة سنة أو تسعين أو سبعا وتسعين ، وأما قرن التابعين ، فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين ، وأما الذين بعدهم فإن اعتبر منها ، كان نحوا من خمسين ، فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان والله أعلم ) (3) .
__________
(1) خرجه البخاري في كتاب الرقاق ، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها (6065) 5/2362 .
(2) بن حجر : أحمد بن علي أبو الفضل العسقلاني الشافعي (1379) ، فتح الباري شرح صحيح البخاري ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي , محب الدين الخطيب ، بيروت ، دار المعرفة ، 7/5 .
(3) بن حجر : فتح الباري ، 7/5 .(1/8)
وإذا نظرنا إلى المدة الزمنية التي تحدد العامل الزمني في إطلاق مصطلح السلف على من أدركها ، نجدها تنتهي بتغيير العقيدة المعتمدة على مستوى الخلافة الإسلامية من الطريقة السلفية إلى الطريقة الاعتزالية ، وذلك إلى حدود العشرين ومائتين ، كما أشار إلى ذلك ابن حجر بقوله : ( واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين ـ ممن يقبل قوله ـ من عاش إلى حدود العشرين ومائتين ، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا ، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ، ورفعت الفلاسفة رؤوسها ، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القران ، وتغيرت الأحوال تغيراً شديداً ، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن ، وظهر قوله - صلى الله عليه وسلم - : ثم يفشو الكذب ظهورا بينا حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات ، والله المستعان ) (1) .
الزمني فهذه الفترة الزمنية فترة العصر الذهبي ، الذي يمثل نقاء الفهم والتطبيق لكل ما ورد في الكتاب والسنة ، وذلك قبل ظهور المذاهب التي وفدت بعد الفتوحات ، وأدخلت مختلف الفلسفات غير الإسلامية .
فعصر السلف الصالح يمتد من زمن النبوة إلى زمن المحنة ، عندما تولى أهل الاعتزال إدارة الخلافة الإسلامية في عهد الخليفة المأمون ، من خلفاء بنى العباس ، حيث فرض على الناس مذهبهم بقوة الدولة ، وامتحن علماء السلف في قضية خلق القرآن ، وتعطيل الصفات الإلهية .
__________
(1) بن حجر 7/6 .(1/9)
ثانيا : العامل المنهجي :_ من تحقق فيه العامل الزمني السابق ، وأدرك عصر السلف الصالح لا يشمله اصطلاح السلف إلا بتحقيق العامل المنهجي ، فطريقة السلف طريقة الإيمان والتسليم ، يؤمنون بكل خبر ورد في القرآن ، ويصدقون به تصديقا جازما يبلغ حد اليقين ، وينفذون كل أمر شرعي تنفيذا كاملا ، ويعلمون أن ما جاء في القرآن وصحيح السنة ، لا يمكن أن يعارض صريح العقل والحكمة ، فالله عز وجل هو الذي خلق العقل ، وهو الذي أرسل إليه النقل ، ومن المحال أن يرسل إليه ما يفسده ، كما أنه سبحانه وتعالى أعلم بصناعته لعقل الإنسان ، وأعلم بما يصلحه في تنوع الزمان والمكان ، فإذا وضع نظاما ببالغ علمه وحكمته ، ممثلا في دينه وشرعته ، هداية وإرشادا لتوجيه صنعته ، كان من المحال أن يضل الإنسان أو يشقى ، أو يعيش معيشة ضنكا ، إذا اتبع هداية اللَّه عز وجل ، يقول تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقى } (1) .
__________
(1) ه:123 .(1/10)
فالعامل المنهجي في تحديد مصطلح السلف يكون فيه المسلم موافقا لطريقة السلف والأئمة كمالك والسفيانين والحمادين ، أعنى سفيان بن عيينة وسفيان الثوري ، وحماد بن زيد وحماد بن سلمة ، وكذلك عبد الله بن المبارك ، والليث بن سعد ، والإمام أبو حنيفة النعمان ، والإمام أحمد بن حنبل ، قامع البدعة وناصر السنة ، والإمام الشافعي وعلي بن المديني والإمام البخاري ، والإمام مسلم وأبو داود والترمذي ، وابن ماجة والنسائي والدارمي وغيرهم ، فطريقتهم هي الطريقة التي دل القران عليها وأرشد إليها ، وهي أكمل الطرق وأصحها ، يتوافق فيها العقل مع النقل ولا يتخذون النقل مطية للعقل ، بل يرون الحق فيما نزل من عند الله ، ويتهمون أنفسهم وعقولهم إذا عارضت كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وصفهم وحالهم كما ورد في قوله تعالى : { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } (1) .
فكل من تحقق فيه هذا العاملان فهو سلفي بالمعنى الاصطلاحي ، وكل من أعقبهم وجاء بعدهم وسار على دربهم واعتقد صحة نهجهم ، فهو خير خلف لخير سلف وإن لم يدخل تحت السلف اصطلاحا (2) .
__________
(1) بأ:6 .
(2) نظر المزيد عن العامل المنهجي : ابن تيمية : درء تعارض العقل والنقل ، (1391هـ) ، تحقيق محمد رشاد سالم الرياض دار الكنوز الأدبية 6/250 وما بعدها ، شرح العقيدة الأصفهانية (1415) ، تحقيق إبراهيم سعدي ، الرياض ، مكتبة الرشد ، 2/80 وابن قيم الجوزية : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (1398م) ، تحقيق محمد بدر الدين النعساني ، بيروت ، نشر دار الفكر ، ص302 .(1/11)
الخلف :_ لغة القرن بعد القرن ، يقال : هؤلاء خلف سوء لناس لاحقين بناس أكثر منهم ، والخلف أيضا ساكن اللام ومفتوحها ما جاء من بعد يقال : هو خلف سوء من أبيه ، وخلف صدق من أبيه ، إذا قام مقامه (1) ، قال ابن المطرز : ( خلف فلان فلانا جاء خلفه ، ومنها خلفة الشجر وهي ثمر يخرج بعد الثمر الكثير ، وخلفة النبات ، ما ينبت في الصيف بعدما يبس العشب ، وكذلك ما زرع من الحبوب بعد إدراك الأولى يسمى خلفة ، وخلفته خلافة كنت خليفته ) (2) .
أما الخلف في الاصطلاح فيمكن تحديده أيضا من خلال أمرين أساسيين أو عاملين مجتمعين ، عامل زمني وآخر منهجي :
أولا : العامل الزمني :_ ويتناول كل من أعقب عصر السلف ولم يدرك عصر خير القرون ، وبدايته الرسمية منذ سيطرة المعتزلة على الخلافة الإسلامية في عصر المأمون بن هارون ، وإن كان ظهور المنهج الكلامي أسبق من ذلك ، إلا أنه لم يكن على مستوى الخلافة .
ثانيا : العامل المنهجي :_
العامل المنهجي في تحديد مصطلح الخلف ، هو اتباع أصحابه للمنهج الكلامي والمنطق اليونانى ، واعتباره أصلا يسيرون على نهجه ، وميزانا لقياس الأمور العقائدية ، وما عارض ذلك من نصوص الوحي جعلوها أدلة لفظية لا تفيد اليقين ، أو مجازات واستعارات لا حقيقة لها ، وأن العقل عارضها فيجب تقديمه عليها ، وأنها أخبار آحاد لا يجوز أن يحتج بها على أصولهم ، هذا الاتجاه هو ما عرف بمذهب الخلف قديما ويصدق عليه من سار على دربهم حديثا ، قال ابن حجر العسقلانى :
__________
(1) لرازي : محمد بن أبي بكر بن عبد القادر ، (1415) ، مختار الصحاح ، بيروت ، مكتبة لبنان ، 1/78 .
(2) بن المطرز : أبو الفتح ناصر الدين ، (1979م) ، المغرب في ترتيب المعرب ، حلب ، نشر مكتبة أسامة بن زيد1/286.(1/12)
( وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم ، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان ، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلا يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ، ولو كان مستكرها ، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه ، هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل ، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل ، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف ، واجتنب ما أحدثه الخلف ) (1) .
ويقول أبو القاسم اللالكائي : (فلم تزل الكلمة مجتمعة ، والجماعة متوافرة على عهد الصحابة الأول ، ومن بعدهم من السلف الصالحين ، حتى نبغت نابغة في أول إمارة المروانية ، تنازع في القدر وتتكلم فيه ، حتى سئل عبد الله بن عمر ، فروى له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بإثبات القدر والإيمان به ، وحذر من خلافه ، وأن ابن عمر ممن تكلم بهذا أو اعتقده بريء منه وهم براء منه ، وكذلك عرض على ابن عباس وأبي سعيد الخدري وغيرهما ، فقالا له مثل مقالته ) (2) .
المطلب الثاني : تعريف المحكم والمتشابه والتفويض لغة واصطلاحا .
المحكم لغة :_
__________
(1) بن حجر :فتح الباري 13/253 .
(2) للالكائي : أبو القاسم هبة الله بن الحسن ، (1402) ، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، تحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان ، الرياض ، دار طيبة 1/16.(1/13)
من الحكم والقضاء ، والعلم والفقه ، وهو مصدر حكم يحكم ، والمحكم الذي لا اختلاف فيه ولا اضطراب ، فعيل بمعنى مفعل أحكم فهو محكم ، وفي حديث ابن عباس : ( قرأت المحكم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) (1) ، يريد المفصل من القرآن لأنه لم ينسخ منه شيء ، وقيل : هو ما لم يكن متشابها لأنه أحكم بيانه بنفسه ولم يفتقر إلى غيره (2) .
المتشابه لغة : _
الشبه ضرب من النحاس ، يلقى عليه دواء فيصفر ، وسمي شبها لأنه شبه بالذهب ، وفي فلان شبة من فلان أي شبيهه ، وتقول : شبهت هذا بهذا ، وأشبه فلان فلانا ، وأشبه الشيء الشيء ماثله ، والمشبهات من الأمور المشكلات ، تشابه الشيئان أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا ، وشبه فلان علي إذا خلط ، واشتبه الأمر (3) .
المحكم والمتشابه في الاصطلاح :
يمكن بالتتبع والاستقراء حصر الآراء التي فسرت معنى المحكم والمتشابه في القرآن الكريم في الوجوه الآتية :
1- المحكم ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره ، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل .
2- المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا ، والمتشابه ما يحتمل وجوها ، فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي ، صار المتشابه محكما .
3- المحكم ناسخه وحرامه وحلاله وفرائضه وما نؤمن به ونعمل عليه ، والمتشابه منسوخه وأمثاله وأقسامه وما نؤمن به ولا نعمل به .
4- المحكم الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له والمتشابه ما فيه تصريف وتحريف وتأويل .
__________
(1) خرجه البخاري بسنده عن سعيد بن جبير قال : وقال ابن عباس : ( ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بن عشر سنين وقد قرأت المحكم ) (4748) 4/1922.
(2) بن منظور : لسان العرب 12/141 .
(3) لفراهيدي : أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد ، كتاب العين ، تحقيق د.مهدي المخزومي ود.إبراهيم السامرائي ، نشر دار ومكتبة الهلال 3/404 ، مجمع اللغة العربية : المعجم الوسيط ، نشر دار المعارف ، ط3 ، 1/490 .(1/14)
5- المحكم ما كان قائما بنفسه ، لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره ، والمتشابه ما يرجع فيه إلى غيره .
ويذكر السيوطي أن ما لم يأت في القرآن بلفظه البتة مما يقصده علماء القرآن ، من وقوع النظم الواحد على صور شتى ، تتشابه في أمور وتختلف في أخرى ، يطلقون عليه متشابه النظم أو متشابه اللفظ (1) ، يقول الزركشي في البرهان عن المتشابه من هذا النوع : ( ويكثر في إيراد القصص والأنباء ، وحكمته التصرف في الكلام وإتيانه على ضروب ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك مبتدأ به ومتكرر ) (2) .
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ } (3) ، مع قوله : { وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ } (4) .
وربما يطلق المتشابه كصفة مدح لجميع القرآن ، ولفظ المتشابه بهذا المعنى هو الوارد في قول الله تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه ِ } (5) .
__________
(1) لسيوطي : جلال الدين ، (1354) ، الإتقان في علوم القرآن ، القاهرة ، طبعة مصطفي البابى الحلبي ، 3/390 .
(2) لزركشي : بدر الدين ، (1972) ، البرهان في علوم القرآن للإمام ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، بيروت ، طبعة دار المعرفة ، 1/112.
(3) لبقرة:48 .
(4) لبقرة:123 .
(5) لزمر:23 .(1/15)
أما تبيان كيف أن المتشابه بهذا الإطلاق نعت كمال لجميع القرآن ، فإنه من الجلي أن صوغ مادة التشابه في هذه الآية يقضى بأن الكتاب الكريم ذو أجزاء ، كلها يشبه بعضها بعضا من حيث الصحة والإحكام ، والبناء على الحق والصدق ومنفعته الخلق ، وتناسب ألفاظه وتناسقهما في التخير والإصابة ، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت (1) .
والتشابه بهذا المعنى الذي يعم جميع القرآن على نحو ما رأينا ، لا يتنافي بحال مع وصف الإحكام المذكور في قول الله تعالى :
{ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (2) .
والذي يعم هو الآخر القرآن الكريم بأسره ، بل يجب الأخد بكلا الوصفين جميعا في كتاب الله عز وجل ، دون أن يأتي كلام الحق في ذلك باطل من بين يديه أو من خلفه ، وذلك بأن التناقض إنما يلزم إذا كان بين المادتين في هاتين الآيتين تقابل التضاد ، وكيف وكل منهم صفة مدح ، لا يمكن أن تدل على ما يضاد الأخرى ، وإنما على ما يؤيدهما ويشد من أزرهما، وبانطوائهما معا في صفته شاهد صدقه وآية تنزيل رب العالمين .
وأما الإحكام فمعناه أن أي القرآن كلها قد نظمت نظما محكما لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من جهة الهدف والغاية ، أو أنها أحكمت بالحجج والدلائل ، أو جعلت حكمة ، فنقول : حُكِم إذا صار محكما ، لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية ، وإذن فالقرآن بهذا المعنى محكم في تشابهه ، متشابه في إحكامه (3) .
__________
(1) لزمخشري : الكشاف 4 /95 .
(2) ود:1.
(3) لبيضاوي : تفسير القرآن ، (1416هـ) تحقيق عبد القادر عرفات العشا حسونة ، بيروت نشر دار الفكر ، 3/219 .(1/16)
وقد يرد لفظ المتشابه في القرآن مقولا على بعض منه مخصوص ، مقابلا وقسيما للبعض الآخر الذي يقال عليه وصف المحكم ، وبحيث لا يجتمع هذان الوصفان المتقابلان في شيء واحد ، وذلك هو ما جاء في قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } (1) ، وهذا المعنى هو الذي ينصرف إليه لفظ المتشابه عند الإطلاق ، والتجرد من القرينة ، وإن الناظر في هذين الوصفين المتقابلين ، واللذين لا يصدق واحد منهما على ما يصدق عليه الآخر من القرآن ، ليرى اختلافا عظيما بين العلماء في تبيان هذا المعنى ، وهذا ما يهمنا في هذا البحث .
التفويض لغة واصطلاحا :_
فوض إليه الأمر صيره إليه وجعله الحاكم فيه ، قال الله جل وعز : { فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ } (2) ، أي أتكل عليه ، وفي حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ : ( ثُمَّ قُلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ ) (3) ، أي رددته إليك ، والتفويض في النكاح التزويج بلا مهر ، وقوم فوضى مختلطون ، وقيل : هم الذين لا أمير لهم ، ولا من يجمعهم ، وصار الناس فوضى : أي متفرقين ، وقوم فوضى : أي متساوون لا رئيس لهم ، ونعام فوضى : أي مختلط بعضه ببعض (4) .
__________
(1) ل عمران/7 .
(2) افر:44 .
(3) خرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب فضل من بات علي الوضوء ، رقم (244) 1/97 .
(4) لفراهيدي : كتاب العين 7/64 ، وابن منظور : لسان العرب 7/210 .(1/17)
أما التفويض في الاصطلاح ، فهو زعم وادعاء من قبل الخلف الأشعرية بأن عقيدة السلف في نصوص الصفات ، هو تفويض العلم بالمعنى لا الكيفية ، فبعد موت أبى الحسن الأشعري الذي أعلن اتباعه للمنهج السلفي ، ظن علماء الخلف من الأشعرية كالقاضي أبى بكر الباقلاني : (402هـ) ، وأبى إسحاق الإسفراييني : ( ت418هـ) ، وأبى إسحاق الشيرازي : (476هـ ) ، وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني : (478هـ ) ، وفخر الدين الرازي ( 606هـ) ، وكأبى حامد الغزالي الصوفي : (505هـ) ، والآمدي والإيجى وابن فورك والشهرستانى ، وغيرهم من علماء الخلف الأشعرية ، ظن هؤلاء أن مذهب السلف الصالح هو التفويض .
والتفويض عندهم هو القول بأن معنى النص مجهول ولا يعلمه أحد من السلف ، وأنهم فوضوا العلم به إلى الله ، أو ردوا العلم بالمعنى إلى الله لعدم علمهم به ، كالأعجمي حين ينظر إلى القرآن ، والأمر ليس كذلك كما سنرى ، فالسلف فوضوا العلم بالكيفية الغيبية إلى الله ، أو ردوا العلم بكيفية الصفات إلى الله ، أما المعنى فهو معلوم واضح من دلالة اللغة العربية التي نزل بها القرآن .(1/18)
وحجتهم في ذلك اعتقادهم الخاطئ أن النصوص القرآنية والنبوية في الغيبيات أو باب والصفات موهمة للتشبيه والجسمية ، ومعانها من المتشابهات ودون المحكمات ، وبقى الحال على هذا الفهم عند كثير من الناس حتى الآن ، فأغلبهم يخطئون في فهم عقيدة الإمام مالك بن أنس رحمه اللَّه ، عندما سأله سائل وقال له : يا أبا عبد اللَّه : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (1) ، كيف استوى ؟! فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، فإنى أخاف أن تكون ضالا وأمر به فأخرج ) (2) .
حيث ظنوا أن مالكا دعا إلى عدم التعرض للآيات بتفسير معناها ، وإيجاب تفويض العلم بالألفاظ إلى الله ، وأمر عقيدة السلف التي قررها الإمام مالك ليس كذلك ، فمعتقد الإمام مالك هو تفويض العلم بالكيفية إلى اللَّه فقط ، أما المعنى فهو معلوم ظاهر من لغة العرب ومراد من مفهوم الآية ، وهذا واضح بيِّن في كلامه حيث قال : الاستواء غير مجهول ، أي معلوم المعنى ، والكيف غير معقول أي مجهول للعقل البشرى بسبب عجزه عن إدراكه ، ومن ثم لو قلنا كما قال الخلف من الأ شعرية بأن مالكا فوض العلم بالمعنى لا الكيفية ، فهذا يجعل السلف كالأعاجم والأميين الذين لايعلمون الكتاب إلا أمانى ، كما ورد في قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } (3) .
المطلب الثالث : رؤية سلفية في فهم المعنى والكيفية وعلاقته بالمحكم والمتشابه .
__________
(1) ه:5 .
(2) للالكائي : أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري ، 1402هـ ، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، تحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان ، الرياض ، دار طيبة 3/398 .
(3) لبقرة:78.(1/19)
لما قال علماء الخلف من الأشعرية بأن نصوص الصفات الإلهية موهمة للتشبيه والجسمية ، تغير تبعا لذلك مفهوم المحكم والمتشابه عندهم وعند أتباعهم ، من معنى سلفي يعتبر المتشابه من القرآن آيات معلومات المعنى واضحات الدلالة ، ظاهرها مراد في حق الله ، وليس كمثله شيء في حقائقها وأن المجهول فقط وهو كيفية الصفات الإلهية التي دلت عليها هذه الآيات ، تغير مفهوم المتشابه عندهم إلى اعتبار هذه النصوص نصوصا تدل على ظاهر باطل محال ، يحمل التشبيه والتجسيم ويجب صرفه عن الصورة المنفرة التي صورها لربهم ، كل ذلك ليجعلوا الناس مؤيدين لآرائهم وأصولهم ، مهيئين لقبول تأويلهم وتبديلهم .
ثم طرحوا بديلا آخر أمام الناس كخيار ينسبونه لعقيدة السلف ، وهو القول بأن نصوص الصفات الإلهية ، معانيها معان مجهولة أعجمية ، يفوض فيها الأمر والعلم إلى الله ، ثم ألصقوا هذا الطرح بدعوى التسليم وعدم الخوض في توحيد الصفات كما كان شأن السلف ، ومن هنا كان لابد من تحقيق الأمر في قضية المحكم والمتشابه ، وتجليته بصورة جديدة تبين حقيقة الفهم السلفي الصحيح .
يذكر أبو بكر الجصاص أن كلا من المحكم والمتشابه في القرآن ينقسم إلى معنيين : أحدهما يصح وصف القرآن بجميعه ، والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض ، قال الله تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (1) ، فوصف جميع القرآن في هذه المواضع بالإحكام ، وقال تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه ِ } (2) ، فوصف جميعه بالمتشابه ، ثم قال في موضع آخر :
__________
(1) ود:1.
(2) لزمر:23 .(1/20)
{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } (1) ، فوصف هاهنا بعضه بأنه محكم وبعضه متشابه ، والإحكام الذي عم به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول ، وأما موضع الخصوص في قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } ، فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل سامعه إلا معنى واحدا (2) .
ويحاول أبو بكر الجصاص في كلامه السابق ، أن يبلور آراء الناس في المحكم والمتشابه ، لأنهم اختلفوا اختلافا عظيما في قضية العلم بتأويل المتشابه بهذا الإطلاق الأخير ، هل هو مقصور على الله تعالى ، أو هو بحيث يتأتى للراسخين في العلم أيضا ؟
ومن أبرز المتشابه بهذا الإطلاق في القرآن ، ما يعرف لدى علماء الخلف والمتكلمين بآيات الصفات الخبرية ، أو متشابه الصفات ، كالآيات التي جاء فيها ذكر صفات الذات والأفعال ، مثل الوجه واليد والجنب والفوقية ، والاستواء والمجيء والرضا والغضب وغير ذلك من الصفات الإلهية .
__________
(1) ل عمران:7.
(2) لجصاص : أبو بكر ، (1405هـ ) أحكام القرآن ، تحقيق محمد الصادق قمحاوي ، بيروت ، نشر دار إحياء التراث العربي 2/286 .(1/21)
ويهمنا أن نبين مقدمة هامة مبنية على ما سبق من الآراء في المحكم والمتشابه ، فجميع الأراء في معنى المحكم والمتشابه ، تكاد تتمثل في أن المحكم هو المعلوم الواضح ، الذي يمكن تحديده وتمييزه ، كتمييز الصورة في المرآة المصقولة عند تحديد معالمها ، وضبط ملامحها ، والتمكن من وصفها ، فما لا يحتمل إلا وجها واحداً يصبح معلوما مميزا ، كما أن المتشابه عكس المحكم ، وهو المجهول الذي لا يعلم ، إما من التشابه والتماثل كقوله تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ِ } (1) ، أي أشبهت قلوب مشركى العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو (2) وإما من الاختلاط وعدم التمييز بين الأشياء كقول الله تعالى عن بنى إسرائيل : { إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ِ } (3) .
وعلى هذا المعنى السابق للمحكم والمتشابه ، سوف ننظر إلى الآية السابعة من آل عمران والتي هي محل بحثنا في قضية المحكم والمتشابه وأثرها على القول بالتفويض ، يقول تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ } .
__________
(1) لبقرة:118.
(2) بن كثير : تفسير القرآن العظيم (1401هـ) ، بيروت ، دار الفكر ، 1/163 .
(3) لبقرة:70 .(1/22)
كثير من علماء الخلف الأشعرية ، يعتبرون معاني نصوص الصفات الإلهية من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله مستدلين بهذه الآية ، وفي هذا نظر ، حيث يترتب علي ذلك من اللوازم الباطلة ما لا يرضاه المسلم على كلام الله ، يقول أبو محمد بن قدامة المقدسي :
( وكل ما جاء في القرآن ، أو صح عن المصطفي عليه السلام من صفات الرحمن ، وجب الإيمان به وتلقيه بالتسليم والقبول ، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل ، وترك التعرض لمعناه ونرد علمه إلى قائله ، ونجعل عهدته على ناقله ، اتباعا لطريق الراسخين في العلم ) (1) .
ويقول الشيخ أحمد الرفاعي معبرا عن فهمه في قضية المحكم والمتشابه : ( فعاملوا الله بحسن النيات ، واتقوه في الحركات والسكنات ، وصونوا عقائدكم من التمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسنة ، لأن ذلك من أصول الكفر ، قال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه ِ } ، والواجب عليكم وعلى كل مكلف في المتشابه ، الإيمان بأنه من عند الله ، أنزله على عبده سيدنا رسول الله ، وما كلفنا سبحانه وتعالى تفصيل علم تأويله ، قال جلت عظمته : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } ، فسبيل المتقين من السلف تنزيه الله تعالى عما دل عليه ظاهره ، وتفويض معناه المراد منه إلى الحق تعالى وتقدس ، وبهذا سلامة الدين ) (2) .
__________
(1) بن قدامة : أبو محمد المقدسي ، (1406هـ) ، لمعة الاعتقاد الهادي إلي سبيل الرشاد ، ، تحقيق بدر بن عبد الله البدر ، الكويت ، نشر الدار السلفية ، ص 8:7 .
(2) لرفاعي : أحمد بن علي بن ثابت الحسيني ، (1408هـ) البرهان المؤيد ، ، تحقيق عبد الغني نكهمي ، بيروت ، نشر دار الكتاب النفيس ، ص 15.(1/23)
فهؤلاء يدعون إلى ترك التأويل والبعد عن طريقة الخلف لعدم قناعتهم بها ، لكن الطرح الذي يقدمونه لأتباعهم يزعمون فيه أن طريقة السلف هي الكف معاني نصوص الصفات ومنع البحث عن مدلول الآيات ، ثم يجعلون ذلك سبيل المتقين ، ظنا منهم أن الظواهر تدل على التشبيه والمعاني الكفرية ، فلا هم فهموا طريقة السلف ولا صوبوا طريقة الخلف .
وهؤلاء إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ، لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } (1) ، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ، فهذا الظن الفاسد أوجب قولهم : طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم ، تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر ، وقد تقولوا على طريقة السلف ، ولم يقتنعوا في قرارة أنفسهم بطريقة الخلف (2) .
__________
(1) لبقرة:78 .
(2) نظر في هذا المعني : ابن تيمية : مجموع الفتاوى 5/9 .(1/24)
يقول شارح الطحاوية في وصف حالهم في باب الصفات : ( يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات وما يخالفه إما أن يتأوله تأويلا يحرفون فيه الكلم عن مواضعه وإما أن يقولوا هذا متشابه لا يعلم أحد معناه فيجحدوا ما أنزله من معانيه وهو في معنى الكفر بذلك لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب ، كما قال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) (1) ، وقال تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } (2) أي إلا تلاوة من غير فهم معناه ، وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القرآن فعمل به واشتبه عليه بعضه ، فوكل علمه إلى الله كما أمره النبي بقوله : ( فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه فامتثل ما أمر به ) (3) .
__________
(1) لجمعة:5.
(2) لبقرة:78 .
(3) لحنفي : ابن أبي العز ، شرح العقيدة الطحاوية 585 .(1/25)
وسبب ذلك كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة ، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر ، وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى ، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى - وهي التي يسمونها طريقة السلف - وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف - وهي التي يسمونها طريقة الخلف - فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل وتعطيل السمع ، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات ، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه ، فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم ، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين ، بمنزلة الصالحين من العامة ، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي ، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله (1) .
والحقيقة أن الفهم السلفي لمسألة المحكم والمتشابه التي وردت في آية آل عمران ، يتسم بالدقة ويتسق مع اعتقادهم في التوحيد ، لاسيما في توحيد الصفات ، فهم لما آمنوا بصفات حقيقية جاءت بها الأدلة السمعية ، وفرقوا بين فهم المعنى الذي حواه اللفظ العربي وفهم الكيفية ، وفقوا في تفسير المحكم والمتشابه .
فإذا كان المحكم هو المعلوم الواضح المعنى ، وكان المتشابه عكس المحكم وهو المجهول الذي لا يعلم - على نحو ما تقدم - فإنهم يعتبرون معاني نصوص الصفات محكمات ، والكيفية الغيبية فقط من المتشابهات التي لا يعلمها إلا الله .
أما إذا كان معنى النص معلوما ، والكيفية التي دل عليها معلومة أيضا ، كانت الآية محكمة لأهل العلم على تفاوتهم في المعرفة والفهم ، كما هو الحال في جميع آيات الأحكام ، ولذلك - والله أعلم - سميت نصوص التكليف بما تحويه من أحكامٍ أحكاماً ، لوضوح معناها والعلم بكيفية أدائها .
__________
(1) بن تيمية : مجموع الفتاوى 5/9 بتصرف .(1/26)
وإن كان المعنى معلوما والكيف مجهولا ، كان النص محكم المعنى متشابه الكيف ، وإذا قيل في عرف السلف هذا النص متشابه ، فيحمل على هذا المعنى ، أي أنه متشابه باعتبار الكيف لا المعنى ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (ت:241هـ) : ( فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله عز وجل : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } (1) ، ونحو هذا من متشابه القرآن ) (2) .
وكما روى أبو القاسم بسنده عن سليمان بن يسار ، أن رجلا من بني غنيم يقال له صبيغ بن عسل ، قدم المدينة وكانت عنده كتب ، فجعل يسأله عن متشابه القرآن ، فبلغ ذلك عمر ، فبعث إليه ، وقد أعد له عراجين النخيل ، فلما دخل عليه جلس ، قال : من أنت ؟ ، قال : أنا عبد الله صبيغ ، قال عمر : وأنا عبد الله عمر ، وأومأ عليه فجعل يضربه بتلك العراجين ، فما زال يضربه حتى شجه وجعل الدم يسيل عن وجهه ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين ، فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي (3) .
ويقول ابن بطة العكبري (ت: 378هـ) : ( فالجهمي ينكر أن المؤمنين يرون ربهم في القيامة ، فإذا سئل عن حجته في ذلك نزع بآيات من متشابه القرآن ) (4) .
__________
(1) لقصص: من الآية 88 .
(2) حمد بن حنبل : أبو عبد الله الشيباني ، (1408هـ) ، العقيدة رواية أبي بكر الخلال ، تحقيق عبد العزيز عز الدين السيروان ، دمشق ، نشر دار قتيبة ، ص77.
(3) للالكائي : شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 4/635 .
(4) بن بطة : أبو عبد الله عبيد الله بن محمد العكبري الحنبلي (1418هـ) ، الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة ، تحقيق د.عثمان عبد الله آدم الأثيوبي ، الرياض ، نشر دار الراية 3/70 .(1/27)
فهؤلاء جميعا يقصدون بمتشابه القرآن ، ما يؤدى الخوض فيه إلى الضلال من جهة التجهم على وصف الغيبيات ، وتصوير ما فيها من الكيفيات ، وتمثيلها من خلال الأقيسة التي تحكم سائر المخلوقات ، أو القول بتعطيل الصفات ، وتأويلها على غير مراد الله من الآيات ، والنتيجة التي نصل إليها من هذه الرؤية ، أن القرآن جميعه محكم المعنى لقوله تعالى عن جميع آيات القرآن : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (1) ، أي أحكمت باعتبار المعنى ، فليس في القرآن كلام بلا معنى ، أما من جهة الكيفية التي دلت عليها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، فبعضها محكم معلوم ، وبعضها متشابه مجهول ، وهذا المقصود بقول الإمام مالك رحمه الله :
( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ) ، وهو المعنى المشار إليه في قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } (2) ، فلو سأل سائل عن استواء الله الذي ورد في قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } هل هو من المحكمات أم من المتشابهات ؟ قيل له : الاستواء محكم المعنى ، متشابه الكيف .
__________
(1) ود:1.
(2) ل عمران:7 .(1/28)
فما عاينه الإنسان من الكيفيات التي تتعلق بالمخلوقات ، والتي دلت عليها ألفاظ الآيات ككيفية أداء الصلاة والزكاة والصيام وأفعال الحج وما شابه ذلك ، فهذا محكم المعنى والكيفية ، فلو سأل مسلم أعجمي لا يعرف العربية عن معنى الصلاة في قوله تعالى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } (1) ، لقيل له بلسانه : الصلاة ، أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم ، فيسأل عن كيفية أدائها ؟ فيقال له : أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأن نحاكيه تماما في الكيفية فقال مبينا ذلك في بعض الأحاديث النبوية : ( وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ) (2) .
أما إذا كان المعنى معلوما ، والكيف الذي دل عليه المعنى مجهولا ، كانت الآية من المتشابه باعتبار الكيف لا المعنى ، كما في جميع الأخبار والنصوص التي وردت في وصف عالم الغيب ، فالجنة مثلا ، سمعنا عن وجود ألوان النعيم فيها ، وأخبرنا اللَّه بذلك في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعلى الرغم من ذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن كيفية ألوان النعيم فيها : ( قَالَ اللَّهُ : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } ) (3) .
__________
(1) لبقرة:3 .
(2) خرجه البخاري في كتاب الآذان ، باب من قال فليؤذن في السفر مؤذن برقم (602) 1/226.
(3) لسجدة:17 ، والحديث أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق ، باب ما جاء في صفة الجنة ، برقم (3072) 3/1185.(1/29)
فتأمل قوله : ( ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ) ماذا يعنى ؟ هل يعنى معنى الآيات والنصوص التي وردت عن وصف الجنة ، أم الكيفية التي دلت عليها ؟ فإن قيل المعنى : فخطأ ، لأننا سمعنا به في الكتاب والسنة ، كما أن المعنى لا يرى بعين البصر ، وإنما يدرك بعين البصيرة ، وإن قيل الكيف فصواب ، لأننا لم نره ولم نر له مثيلا .
فالمتشابه كيفية الموجودات في الجنة ، لا المعنى الذي يدل عليها ، وعلى ذلك فجميع آيات الصفات محكمة المعنى متشابهة في الكيفية فقط ، فلا يدخل في المتشابه معاني الآيات التي وصف اللَّه بها نفسه ، كما اعتقد الخلف ذلك في مذهب السلف ، وإلا لكانت الآيات بلا معنى ، وكانت ألفاظها معطلة عن الهداية والبيان ، فقوله تعالى : { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } أي باعتبار الكيف لا المعنى .
وجميع آيات القرآن لها معنى معلوم عند الراسخين في العلم ، حسب اجتهادهم في تحصيله ، وعليه جاء قول ابن عباس - رضي الله عنه - في آية آل عمران : ( أنا من الراسخين في العلم ) (1) .
فالمتشابه هو الذي استأثر اللَّه بعلمه من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا هو والتي أخبرنا بها في كتابه ، ومن ثم فإن القرآن كله محكم باعتبار المعنى الذي دل عليه اللفظ وباعتبار الكيفية ففيه المحكم والمتشابه ، قال ابن تيميه رحمه اللَّه معقبا على قوله تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } (2) : ( وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات ، وما لا يعقل له معنى لا يتدبر ) (3) .
__________
(1) بن جرير : أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، ، تحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر ، مراجعة الشيخ أحمد محمد شاكر ، القاهرة ، طبعة دار المعارف ، 6/170 .
(2) ورة ص:29 .
(3) بن تيمية : رسالة الإكليل ضمن مجموعة الرسائل 2/8 .(1/30)
وقال أيضا في قوله تعالى : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } (1) ، ( فلم يستثن شيئا منه نهي عن تدبره ، واللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره اللَّه ، وطلب فهمه ومعرفة معناه ، فلم يذمه اللَّه بل أمر بذلك ومدح عليه ) (2) .
وقد ذكر أن الصحابة والتابعين ، لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب اللَّه ، أو قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه ، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين ، أن في القرآن آيات لا تعلم معناها ولا يفهمها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ولا أهل العلم والإيمان جميعهم ، وإنما قد ينفون علم بعض الناس وهذا لا ريب فيه (3) .
شكل توضيحي
1-النص المتعلق بالمخلوق في عالم الشهادة من جهة الإحكام والتشابه+معاني الألفاظ التي يستوعبا الذهن=معلومة محكمة.
2-النص المتعلق بالمخلوق في عالم الشهادة من جهة الإحكام والتشابه+الحقائق والكيفيات التي دلت عليها الألفاظ=موجودة معلومة محكمة.
3-النص المتعلق بعالم الغيب وأوصاف الله من جهة الإحكام والتشابه+معاني الألفاظالتي يستوعبا الذهن=معلومة محكمة
4-النص المتعلق بعالم الغيب وأوصاف الله من جهة الإحكام والتشابه+الحقائق والكيفياتالتي دلت عليها الألفاظ=موجودة مجهولة متشابهة.
__________
(1) حمد:24 .
(2) بن تيمية : رسالة الإكليل 2/8 .
(3) بن تيمية : رسالة الإكليل 2/15 .(1/31)
ويذكر ابن القيم رحمه الله ، أننا لو قلنا كما قال الخلف : إن قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ } يتناول المعنى ، يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، بل يقرؤون كلاما لا يعقلون معناه ، فهم متناقضون أفحش تناقض ، فإنهم يقولون النصوص تجري على ظاهرها وتأويلها باطل ، ثم يقولون لها تأويل لا يعلمه إلا الله (1) ، وقول هؤلاء باطل فإن الله سبحانه أمر بتدبر كتابه وتفهمه وتعقله ، وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء لما في الصدور ، وحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصفات والقدر والأفعال ، واللفظ الذي لا يعلم ما أراد به المتكلم ، لا يحصل به حكم ولا هدى ولا شفاء ولا بيان (2) .
__________
(1) بن قيم الجوزية : أبو عبد الله أحمد بن أبي بكر أيوب ، (1418هـ) ، الصواعق المرسلة علي الجهمية والمعطلة ، تحقيق د. علي بن محمد الدخيل الله ، الرياض ، نشر دار العاصمة ، 3/921 بتصرف .
(2) لسابق : 3/921 .(1/32)
وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، فإن التأويل في عرف السلف ، المراد به الحقيقة التي يؤول إليه الكلام ، كالتأويل في مثل قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } (1) ، وكقوله تعالى : { وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } (2) ، فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به والمنهي عنه ، تأويله تنفيذه ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : ( كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ ) (3) .
وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو وقوعة ، وهو نفس الحقيقة التي أخبر الله عنها ، وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ، ولهذا قال مالك وربيعة : ( الاستواء معلوم والكيف مجهول ) (4) .
__________
(1) لأعراف:53 .
(2) وسف:100.
(3) واه البخاري في كتاب الأذان باب التسبيح والدعاء في السجود برقم (784) 1/281 .
(4) بن القيم : الصواعق 3/921 بتصرف .(1/33)
وفي رده على الخلف في زعمهم أن آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله ، يذكر ابن القيم أن التشابه والإحكام نوعان ، تشابه وإحكام يعم الكتاب كله وتشابه وإحكام يخص بعضه دون بعض ، فإن أردتم بتشابه آيات الصفات النوع الأول فنعم هي متشابهة غير متناقضة يشبه بعضها بعضا ، وكذلك آيات الأحكام ، وإن أردتم أنه يشتبه المراد بها بغير المراد ، فهذا وإن كان يعرض لبعض الناس ، فهو أمر نسبي إضافي ، فيكون متشابها بالنسبة إليه دون غيره ، ولا فرق في هذا بين آيات الأحكام وآيات الصفات ، فإن المراد قد يشتبه فيهما بغيره على بعض الناس دون بعض ، وقد تنازع الناس في المحكم والمتشابه تنازعا كثيرا ولم يعرف عن أحد من الصحابة قط أن المتشابهات آيات الصفات بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك ، فكيف تكون آيات الصفات متشابهة عندهم ، وهم لا يتنازعون في شيء منها ، وآيات الأحكام هي المحكمة ، وقد وقع بينهم النزاع في بعضها ؟ (1) .
والمقصود أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاما لا معنى له ، و لا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة لا يعلمون معناه كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ ، سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون أو كان للتأويل معنيان يعلمون أحدهما و لا يعلمون الآخر (2) .
توجيه الوقف في الآية السابعة من آل عمران :_
__________
(1) لسابق 3/921 بتصرف .
(2) لسابق 3/922 بتصرف .(1/34)
وعلى هذا المنهج السلفي لفهم المحكم والمتشابه يمكن تفسير آية آل عمران ، بأن الله يخبر أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب ، أي بينات واضحات الدلالة ، لا التباس فيها على أحد ، سواء من جهة المعنى أو الكيفية ، وهي أصل الدين وقوام العبودية ، وتتمثل في الأحكام الشرعية الدينية ، فلا بد من وضوحها وبيان معانيها ، ولا بد من وصف كيفيتها لسائر الناس ، دون اشتباه أو التباس ، فهن حجة الرب وعصمة العباد ، ودفع خصوم الباطل ، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه ، وفي هذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما : ( المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمر به ويعمل به ) (1) ، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والسدي أنهم قالوا : المحكم الذي يعمل به (2) .
وأخر متشابهات كآيات الصفات من حيث اشتراك الألفاظ والكلمات عند تجردها عن الإضافة والتخصيص والتركيب لا من حيث المعنى المراد ، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ، ألا يصرفن إلى الباطل ، ولا يحرفن عن الحق ، ولهذا قال الله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } ، أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ، { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ِ } ، إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة ، وينزلوه عليها { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه ِ } أي تحريفه على ما يريدون (3) .
__________
(1) بن كثير : تفسير 1/347 ، وابن جرير :جامع البيان 3/172 ، والسيوطي :الدر المنثور 2/144.
(2) لبغوي : أبو محمد الحسين بن مسعود ، (1407هـ) ، معالم التنزيل ، بيروت ، دار المعرفة ، 1/279.
(3) بن كثير : تفسير 1/347.(1/35)
روى عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أنها قَالَتْ : ( تَلا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ، فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّي اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ ) (1) .
وقوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ } ، يجب الوقف هاهنا ، إذا كان المقصود هو العلم بكيفية الحقائق الغيبية وكيفية الصفات الإلهية ، فلا يعلم ذلك إلا الله ، ويجوز الوقف على قوله سبحانه : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } إذا كان المقصود هو العلم بمعاني الآيات القرآنية ، سواء المتعلقة بالخالق أو المخلوق ، وكذلك كيفية أداء الأحكام الشرعية ، أو كيفية ما دلت عليه الآيات في الإخبار عن سائر المخلوقات في الدنيا .
قال ابن كثير : ( وأما إن أريد بالتأويل التفسير والبيان والتعبير عن الشيء فالوقف على قوله : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } ، لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ) (2) .
المبحث الثاني
العلاقة بين فهم المحكم والمتشابه وقضية التفويض
المطلب الأول : حقيقة مذهب الخلف في نصوص الصفات :
__________
(1) خرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن ، باب تفسير سورة آل عمران برقم (4273) 4/1655.
(2) بن كثير : تفسير 1/348.(1/36)
يعتقد الخلف من الأشعرية والماتريدية أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، التي وردت في الصفات الخبرية موهمة للتشبيه والجسمية ، وظاهرها باطل غير مراد ، فإما أن تؤول وإما أنها من أخبار الآحاد التي لا تفيد اليقين في أمور الاعتقاد (1) .
وقد بنوا ذلك على أصول عقلية ، زعموا أنها أمور يقينية ، واعتبروها أصول الدين والفيصل المبين في النظر إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فما وافق تلك الأصول من النصوص والآيات فهو دليل لهم ، وما خالف أصولهم وتقسيمهم للتوحيد ، فينبغي عندهم التعامل معه بأي وسيلة ، إما بادعاء مجاز أو تأويل ، أو تهوين وتعطيل ، أو تقبيحها في نفس السامع حتى تبدو ضربا من المستحيل المهم أن يقر بأن ظاهرها الذي ورد في التنزيل ، باطل ومستحيل ويجب صرفه إلى شيء آخر.
فالتوحيد عندهم مبنى على قولهم : إن الله واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له ، وهم يدرجون تحت شعار أنه لا ينقسم نفي علو الله على خلقه ومباينته لمصنوعاته ونفي ما ينفونه من صفاته ، ويقولون : إن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركبا منقسما مشابها للحوادث (2) .
__________
(1) نظر في هذا المعني : الشيخ محمد عبده ، (1966م) ، رسالة التوحيد ، نشر مطابع دار الكتاب العربي ص 17 وما بعدها ، وجمال الدين : أحمد بن محمد بن سعيد ، (1998م) ، أصول الدين ، تحقيق عمر وفيق الداعوق ، بيروت ، نشر دار البشائر الإسلامية ، ص63.
(2) بن تيمية : درء تعارض العقل والنقل 1/225.(1/37)
يقول الرازي وهو من أعمدة المذهب الأشعري في نفي علو الله على خلقه وتعطيل استوائه على عرشه : ( لو كان الله مختصا بالمكان لكان الجانب الذي في يمينه يلي ما على يساره ، فيكون مركبا منقسما فلا يكون أحدا في الحقيقة ، فيبطل قوله : { قل هو الله أحد } ) (1) .
وهم لما نفوا الاستواء وعطلوا علو الفوقية بهذه الحجج العقلية ،ساءت سمعتهم عند عامة المسلمين ، فالله يقول صراحة هو على العرش ، وهم يقولون صراحة ليس على العرش ، فما المخرج من هذه المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه ؟ والجواب في قول أحدهم :
( لو سئلنا عن قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، لقلنا المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو ، ومنه قول العرب استوى فلان على المملكة أي استعلى عليها واطردت له ، ومنه قول الشاعر :
__________
(1) لرازي : فخر الدين ، (1406هـ) ، أساس التقديس ، تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا ، القاهرة ، طبعة مكتبة الكليات الأزهرية ص 203.(1/38)
قد استوى بشر على العراق : من غير سيف أو دم مهراق ) (1) .
وهذا تحريف للكلم عن مواضعه في ثوب التأويل ، فالتأويل يقبل إن كان بدليل صحيح ، لكن العرب لا تعرف أبدا استوى بمعنى استولى ، بل إن أهل اللغة لما سمعوا ذلك أنكروه غاية الإنكار ولم يجعلوه من لغة العرب .
__________
(1) بد الملك : بن عبد الله بن يوسف ، (1987م) ، لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة ، تحقيق د. فوقية حسين ، بيروت ، نشر عالم الكتب ص 108 ، والشاعر هو الأخطل النصراني الحاقد علي الإسلام والمسلمين ، قال ابن كثير في التعقيب علي هذا البيت : ( هذا البيت تستدل به الجهمية علي أن الاستواء بمعني الاستيلاء ، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل علي ذلك ، ولا أراد الله عز وجل باستوائه علي عرشه استيلاءه عليه ، ولا نجد أضعف من حجج الجهمية ، حتى أداهم الإفلاس من الحجج إلي بيت هذا النصراني المقبوح ) انظر البداية والنهاية 9/295 ، والعجب كل العجب أن قوة احتجاج الأشعرية بهذا البيت علي نفي الاستواء أقوي من قوة الاحتجاج بكلام الله علي إثباته ، مع أن الأخطل النصراني المشرك هو القائل في شعره مستهزءا بالصلاة والصيام والأضاحي : ولست بصائم رمضان يوما : ولست بآكل لحم الأضاحي - ولست بزائر بيتا بعيدا : بمكة ابتغي فيه صلاحي - ولست بقائم كالعير أدعو ... : ... قبيل الصبح حي علي الفلاح ، انظر السابق 9/263 ، وابن الجوزي : (1412هـ) ، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ، تحقيق محمد ومصطفي عبد القادر عطا ، بيروت ، دار الكتب العلمية 7/36 .(1/39)
روى الحسن بن محمد الطبري عن أبي عبد الله نفطويه النحوي ، قال أخبرني أبو سليمان ، قال : ( كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله ما معنى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ؟ قال : إنه مستو على عرشه كما أخبر ، فقال الرجل : إنما معنى استوى استولى ، فقال له ابن الأعرابي : ما يدريك ؟ العرب لا تقول استولى فلان على الشيء حتى يكون له فيه مضاد ، فأيهما غلب قيل قد استولى عليه ، والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر ) (1) .
وقال أبو سليمان الخطابي وهو من أئمة اللغة : ( وزعم بعضهم أن الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء ، ونزع فيه إلى بيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله ، ولو كان الاستواء ها هنا بمعنى الاستيلاء لكان الكلام عديم الفائدة ، لأن الله تعالى قد أحاط علمه وقدرته بكل شيء وكل بقعة من السماوات والأرضين وتحت العرش ، فما معنى تخصيصه العرش بالذكر؟! ثم إن الاستيلاء إنما يتحقق معناه عند المنع من الشيء ، فإذا وقع الظفر به قيل استولى عليه فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده ! ) (2) .
__________
(1) بن القيم : (1415هـ) ، حاشية ابن القيم علي سنن أبي داود ،بيروت ، دار الكتب العلمية 3/18.
(2) بن تيمية : (1392هـ) ، بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ، مكة المكرمة ، نشر مطبعة الحكومة 2/438.(1/40)
ومعلوم أن كل تأويل لا يحتمله اللفظ في أصل وضعه ، وكما جرت به عادة الخطاب بين العرب هو نوع من التزوير والتدليس ، والخلط والتلبيس ، الذي يضيع ثوابت القول وقواعد الكلم ، فأهل العلم يعلمون أن إثبات الاستواء والنزول ، والوجه واليد والقبض والبسط ، وسائر صفات الذات والفعل لا يسمى في لغة العرب التي نزل بها القرآن تركيبا ولا انقساما ولا تمثيلا ، وكان أولى بالصحابة والتابعين ، وهم أئمة اللغة وأسياد الفهم أن يعترض واحد منهم على الأقل ويقول : كيف نؤمن بهذه الصفات التي تدل على التركيب والانقسام في الذات ؟ (1) .
ولذلك فإن كثيرا ممن نشأ في الأوساط التي يسودها مذهب الخلف أنكروا تأويلهم المتعسف للنصوص ، وادعوا أن السكوت وتفويض الأمر إلى الله هو المسلك المفضل ، ظنا منهم أنهم على عقيدة السلف الصالح ، فظهرت قضية التفويض التي وسم بها السلف متأثرة بعقيدة الخلف في فهم المحكم والمتشابه ، وعدم التمييز بين كون معاني نصوص الصفات محكمات ، وكون الكيفية الغيبية هي فقط من المتشابهات ، وقد سرى هذا الاعتقاد منذ ظهور المذهب الأشعري حتى عصرنا هذا .
__________
(1) نظر أنواع التأويلات الباطلة وأمثلتها من كلام الأشعرية في مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص43 وما بعدها ، و درء تعارض العقل والنقل 1/226 وما بعدها.(1/41)
يقول أبو سعيد النيسابوري (ت:478) : ( لأصحابنا في ذلك طريقان ، أحدها الإعراض عن التأويل والإيمان بها كما جاءت والإيمان بها صحيح وإن لم يعرف معناها ، وهذا الطريق أقرب إلى السلامة ، ومن أصحابنا من صار إلى التأويل ، والاختلاف صادر عن اختلاف القراءتين في قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ .. الآية } ، فمن صار إلى الوقف على قوله : وما يعلم تأويله إلا الله ، أعرض عن التأويل ، وجعل قوله والراسخون في العلم كلاما مبتدأ ، ومعناه أن العلماء يقولون آمنا به ، ومن صار إلى الوقف على قوله والراسخون في العلم ، فيكون معناه أن الله تعالى يعلم تأويله ، والراسخون في العلم أيضا يعلمون تأويله ، صار إلى التأويل ) (1) .
فعلى الرغم من كونه يذكر في كلامه موقف السلف من المحكم والمتشابه ، إلا أنه نسب إليهم الإيمان بنصوص الصفات وإن لم يعرفوا معناها ، وجعلهم بمنزلة الأعاجم والأميين .
ويقول مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي (ت:1033) : ( ومن المتشابه الاستواء في قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وهو مذكور في سبع آيات من القرآن ، فأما السلف فإنهم لم يتكلموا في ذلك بشيء جريا على عادتهم في المتشابه ، من عدم الخوض فيه مع تفويض علمه إلى الله تعالى والإيمان به ) (2) ، ثم يستدل على ذلك بقول الإمام مالك : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة (3) .
المطلب الثاني : أمثلة معاصرة على اعتقاد الخلف أن مذهب السلف هو التفويض .
__________
(1) لنيسابوري : أبو سعيد ، (1987م) ، الغنية في أصول الدين ، تحقيق عماد الدين أحمد حيدر ، بيروت ، نشر مؤسسة الخدمات والأبحاث الثقافية ، ص 77.
(2) لمقدسي : مرعي بن يوسف الكرمي (1406هـ) أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات ، تحقيق شعيب الأرناؤوط بيروت مؤسسة الرسالة 1/120.
(3) لسابق 1/120.(1/42)
[1] - قال صاحب جوهرة التوحيد رحمه اللَّه :
وكل نص أوهم التشبيه : أوله أو فوِّض ورم تنزيها
ويذكر شارح الجوهرة تحت هذا البيت في قوله تعالى : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } (1) وحديث الصحيحين :
( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ ، يَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ) (2) ، يقول : فالسلف يقولون : مجيء ونزول لا نعلمه ) (3) .
فادعى الناظم والشارح معا أن مذهب السلف الصالح هو تفويض المعنى ، وهذا باطل لأنه جعل كلام اللَّه بلا معنى ، وجعل السلف بمنزلة الجهلة الذين خاطبهم اللَّه بالألغاز والأحاجي وما لا يفهم معناه ، ولا يعقل أن نسمع رجلا أجنبيا يتحدث بلغة لا نفهمها ، ولا نعلم لسان أهلها ، ثم نقول بعد سماعنا له : كلامك جيد ، ووصفك سليم ، وكلامك ليس فيه باطل ، ونحن نصدق كل ما تقول !
وإذا كان هذا مستقبحا بين البشر فكيف نقبله في كلام اللَّه عز وجل ؟! فالسلف لم يقولوا : مجيء ونزول لا نعلمه ، كما ادعى شارح الجوهرة ، وإنما قالوا : مجيء ونزول لا نعلم كيفيته ، وفرق بينهما عظيم .
[2] - قال الشيخ أمين محمود خطاب عن نصوص الصفات : ( إن السلف فوضوا علم المراد منها إلى اللَّه تعالى . فقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، يقول فيه السلف ، هو مصروف عن ظاهره ، ويفوضون علم المراد منه إلى اللَّه ) (4) .
__________
(1) لفجر:22.
(2) خرجه البخاري في كتاب الجمعة برقم (1145) .
(3) رح البيجورى على الجوهرة ، طبعة المعاهد الأزهرية ص109.
(4) لفتاوى الأمينية ص97.(1/43)
والسلف الصالح ما قالوا هذا ، وإنما قالوا في الآية : هي على ظاهرها والمعنى معلوم واضح ، والمجهول هو الكيف فقط ، ولكن الأشعرية ظنوا أن الظاهر منها يتحتم أن يكون الظاهر من استواء بلقيس على عرشها ، ولو سئل أحدهم : هل رأيت استواء بلقيس ؟ فيقول : لا ، يقال له : وهل رأيت له مثيلا ؟ فيقول : نعم ، فيقال عند ذلك : معنى استواء بلقيس معلوم ، وكيفية استوائها معلومة أيضا من رؤيتك للمثيل ، لكن إذا سئل : هل رأيت استواء اللَّه ؟ فيقول : لا ، فيقال : وهل رأيت له مثيلا ؟ فيقول { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1) ، فيقال له : كيف حكمت أن الظاهر في استواء اللَّه يماثل الظاهر في استواء بلقيس ؟ أليس هذا قول على اللَّه بلا علم ؟ إنما يكفي أن القول إن معنى استواء اللَّه معلوم ، وهو العلو والارتفاع ، وكيفية استوائه معلومة لله مجهولة لنا .
[3] - ما ذكره الشيخ إبراهيم الدسوقي في مقالته عن قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وآراء العلماء في المتشابه إذ يقول : ( فذهب السلف إلى التفويض في المعنى الذي أراده اللَّه تعالى ، بعد الإيمان به والتنزيه عن الظاهر المستحيل ) ثم ينسب ذلك إلى الأئمة الأربعة وأنهم يدينون لله بهذه العقيدة (2) .
فهؤلاء جميعا مع فضلهم وحسن ظننا بهم ، ظنوا أن اعتقاد السلف الصالح هو التفويض ، وعند التحقيق نجد الأمر يمكن في إثباتهم للصفة من عدمه ، فهل استواء الله علي عرشه حقيقة موجودة ولها كيفية ؟ أم أنهم لا يؤمنون بهذه الحقيقة الغيبية ؟ فلا خلاف بين السلف في وجود كيفية حقيقية للاستواء ، وإنما الخلاف بين السلف ومخالفيهم من الأشعرية وغيرهم ، في ادعائهم جهل السلف بمعنى الاستواء وتفويض العلم به إلى الله ، فالكيفية لها وجود حقيقي معلوم لله ومجهول لنا .
__________
(1) لشورى:11.
(2) نظر مجلة الأزهر عدد محرم سنة 1414 هـ ص28 ، وانظر أيضا مجموعة الرسائل للشيخ الفاضل حسن البنا ص330.(1/44)
ومن ثم فالقول بأن الاستواء غير معلوم ، أو لا نعلمه ، أو نجهله ، قول باطل ، وكذلك القول بأن معنى الاستواء غير معلوم قول باطل أيضا ، أما القول بأن كيفية الاستواء فقط غير معلومة ، أو مجهولة لنا ، فهو الحق الذي دلت عليه الأدلة .
وهنا مسألة تتطلب الشرح والتفصيل ، وهي مسألة الظاهر ، هل هو مراد أو غير مراد ؟ فإذا قال القائل ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد ، فإنه يقال لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك ، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين ، أو ما هو من خصائصهم ، فلا ريب أن هذا غير مراد ، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا ، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم ، من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه ، لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال ، والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين:
1- تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ ، حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر ، ولا يكون كذلك .
2- وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ ، لاعتقادهم أنه باطل (1) .
__________
(1) بن تيمية : مجموع الفتاوى 3/43 ، درء التعارض بين العقل والنقل 7/128.(1/45)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأعلم أن من المتأخرين من يقول مذهب السلف ، إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد ، وهذا اللفظ مجمل ، فان قوله ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين ، مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلى أنه مستقر في الحائط الذي يصلى إليه ، وأن الله معنا ظاهره أنه إلى جانبنا ، ونحو ذلك ، فلا شك أن هذا غير مراد ، ومن قال من السلف إن هذا غير مراد ، فقد أصاب في المعنى لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث ، فان هذا المحال ليس هو الظاهر ، إلا أن يكون هذا المعنى ممتنع ، وصار يظهر لبعض الناس ، فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار ، معذورا في هذا الإطلاق ) (1) .
أثر عقيدة التفويض في الدعوة إلى عدم الكلام في نصوص الصفات عند العوام :_
__________
(1) لسابق 5/8.(1/46)
نظرا لأن بعض المنتسبين لمذهب الخلف ، قد يواجهون بقوة عند قولهم بتأويل نصوص الصفات ، لا سيما إذا كان التأويل أقرب إلى التحريف ، فإنهم يتملصون من مواجهة الحق بدعوى السكوت وعدم الخوض في المتشابه كما هو حال السلف ، أو زعمهم أن مسائل الصفات لا يترتب عليها عمل ولا سلوك ، فيكفينا المحكم من القرآن والسنة وما يدعوا إلى تأليف القلوب ، وهذه دعوة قديمة منذ أن ظهرت عقيدة التفويض ، ولم يدراك كثير من الناس ما عليه السلف ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن قول القائل : لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها ، إما أن يريد بذلك أنه لا تتلى هذه الآيات وهذه الأحاديث عند عوام المؤمنين ، فهذا مما يعلم بطلانه بالاضطرار من دين المسلمين ، بل هذا القول إن أخذ على إطلاقه فهو كفر صريح ، فإن الأمة مجمعة على ما علموه بالاضطرار من تلاوة هذه الآيات في الصلوات فرضها ونفلها واستماع جميع المؤمنين لذلك ، وكذلك تلاوتها وإقرائها واستماعها خارج الصلاة ، هو من الدين الذي لا نزاع فيه بين المسلمين ، وكذلك تبليغ الأحاديث في الجملة هو مما اتفق عليه المسلمون ، وهو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين ، إذ ما من طائفة من السلف والخلف إلا ولا بد أن تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من صفات الإثبات أو النفي ، فإن الله يوصف بالإثبات ، وهو إثبات محامده بالثناء عليه وتمجيده ، ويوصف بالنفي ، وهو نفي العيوب والنقائص عنه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.(1/47)
وأما أن يريد أنه لا يقال حكمها كذا وكذا ، إقرارا أو تأويلا أو غير ذلك ، فإن أراد هذا فينبغي لقائل ذلك ، أن يلتزم ما ألزم به غيره ، فلا ينطق في حكم هذه الآيات والأحاديث بشيء ، ولا يقول الظاهر مراد أو غير مراد ، ولا التأويل سائغ ، ولا هذه النصوص لها معان أخر ونحو ذلك ، إذ هذا تعرض لآيات الصفات وأحاديثها على هذا التقدير ، وإذا التزم هو ذلك ، وقال لغيره التزم ما التزمته ولا تزد عليها ولا تنقص منها فإن هذا عدل ، بخلاف ما إذا نهي غيره عن الكلام عليها مع تكلمه هو عليها كما هو الواقع .
وكذلك قوله : ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها ، إن أراد أنها أنفسها لا تكتب ولا يفتى بها ، فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام كما تقدم ، وإن أراد لا يكتب بحكمها ولا يفتي المستفتي عن حكمها ، فيقال له فعليك أيضا أن تلتزم ذلك ، ولا تفتي أحدا فيها بشيء من الأمور النافية ، وحينئذ يكون أمرك لغيرك بمثل ما فعلته عدلا ، أما أن يجيء الرجل إلى هذه النصوص فيتصرف فيها بأنواع التحريفات والتأويلات جملة أو تفصيلا ، ويقول لأهل العلم والإيمان : أنتم لا تعارضوا ولا تكلموا فيها ، فهذا من أعظم الجهل والظلم والإلحاد في أسماء الله وآياته .
كما أن سلف الأمة وأئمتها ما زالوا يتكلمون ويفتون ويحدثون العامة والخاصة بما في الكتاب والسنة من الصفات ، وهذا في كتب التفسير والحديث والسنن أكثر من أن يحصيه إلا الله .
وقد قيل : إن مالكا لما صنف الموطأ قال : جمعت هذا خوفا من الجهمية أن يضلوا الناس ، لما ابتدعت الجهمية النفي والتعطيل (1) .
المطلب الثالث : أسباب القول بالتفويض ولوازمه .
أسباب القول بالتفويض :_
__________
(1) بن تيمية : الفتاوى الكبرى 5/14 .(1/48)
أولا : الأصول العقلية المستمدة من الفلسفة اليونانية كقولهم بنفي حلول الحوادث ليتوصلوا إلى تعطيل الصفات الفعلية كالاستواء والنزول والرضا والغضب ، وقولهم بنفي الجسمية ليتوصلوا إلى تعطيل الصفات الخبرية كالوجه واليدين وغيرها ، وقولهم بنفي التحيز والجهة ليتوصلوا إلى تعطيل العلو والفوقية .
ثانيا : ومن الأسباب الرئيسية أيضا ، دعوى الخوف على عقائد العوام ، وإلزام قطاع كبير من المسلمين بانتحال هذه المذاهب ، كتبني بعض المؤسسات التعليمية لهذا الأمر ، كما قال صاحب جوهرة التوحيد :
وكل نص أوهم التشبيه : أوّله أو فوِّض ورم تنزيها
فيدعى أن مذهب السلف الصالح هو التفويض ، ومن ثم يشب طالب العلم من مهده على ذلك وهو لا يعرف غير هذا الاعتقاد ، حتى يصبح أستاذا كبيرا في الجامعة ، أو مدرسا في المادة يدافع عما درسه بقوة ، ظنا منه أنه على شيء ، وإذا ظهر لهم الحق في هذا الموضوع فقل من لا تأخذه عزة المكانة ، فيتراجع عن عقيدته ليلحق في ركب السلف .
ثالثا : تقليد بعض المشاهير الذين تبنوا القول بالتفويض عن حسن نية ، كتبني بعض الجماعات الإسلامية لعقيدة مؤسسيها ، دون نظر أو تمحيص ، ومحاولتهم الخلط بين قضية التفويض ومذهب السلف .
رابعا : الجهل بمذهب السلف من ناحية وانعدام القناعة بالمذهب الأشعري من ناحية أخرى ، إذ أن الخلف من الأشعرية وغيرهم قاموا بلىّ أعناق النصوص بصورة لا تخفي على عاقل ، فأغلبهم لا يقر في نفسه تفسير الاستواء بالاستيلاء والقهر والغلبة ، وإذا أقر به على مضد ، أقر به ليتملص من إثبات صفة الاستواء التي ظاهرها عنده باطل قبيح ، فإذا خلا بنفسة تردد على ذهنه سؤال لا يفارقه ، ومن الذي نازع اللَّه على العرش حتى قهره واستولى عليه ؟! فلا يجد جوابا شافيا ، فيُرضى نفسه بالسكوت والتفويض وترك الأمر برمته مدعيا أن هذا مذهب السلف .
لوازم القول بالتفويض :_(1/49)
فوجب على العقلاء من المسلمين التنبه إلى خطورة القول بالتفويض ، وسلب كلام اللَّه عن معناه ، أو محاولة تقبيح إثبات الصفات في نفس السامع ، تحت مسمى التجسيم وإثبات الأعضاء والجوارح لله ، لأن القول بالتفويض يؤدى إلى إلزامات قبيحة ، يتمثل أبرزها فيما يلي :
[1] - أن القرآن ملئ بالحشو الذي لا فائدة منه ، مما يحتم حذفه ليوصف بالكمال ، وهذا باطل لقوله تعالى : { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (1) .
[2] – أن اللَّه خاطب عباده بالألغاز والأحاجي ، وهو قادر على عكس ذلك ، وهذا باطل لأنه يؤدى إلى القول بأن كلام اللَّه بلا معنى ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } (2) ، وقال سبحانه : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } (3) ، فوصف كلامه بأنه أحسن الحديث .
[3] - أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ ما لا يعلم ولم يفهم ما جاء في التنزيل ، وهذا باطل ، لقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (4) .
__________
(1) صلت:42.
(2) لنحل:103.
(3) لزمر:23.
(4) براهيم:4.(1/50)
[4] - أن الصحابة خدعوا أنفسهم بادعائهم الفهم ، وموافقة النبي صلى الله عليه وسلم في إيمان لا يعلمون حقيقته ، وهذا باطل لقوله تعالى عنهم : { أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } (1)ولقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } (2) ، فكيف يزدادون إيمانا بتلاوة ما ليس له معنى ؟ .
[5] - أن القول بالتفويض يلزم منه أن ظاهر النصوص يحمل معنى مستهجن يخاف المفوض من مواجهته ، وهذا باطل لأن اللَّه عز وجل أمرنا بتدبر آياته وفهمها في حدود مدركاتنا ، فقال جل ذكره : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } (3) .
وفي الحقيقة إن القول بالتفويض ما هو إلا محاولة للهروب من مواجهة الأدلة لقوة ما ورد فيها من إثبات الصفات .
الخاتمة
__________
(1) لأنفال:74.
(2) لأنفال:2.
(3) لنساء:82.(1/51)
بالمقارنة بين هذين موقف السلف والخلف من قضية المحكم والمتشابه وعلاقتها بمسألة التفويض ، يظهر لنا أن الفهم الصحيح لمعنى المحكم والمتشابه سوف يؤثر إيجابا أو سلبا على ظهور الحق في قضية التفويض ، فاللفظ العربي أو النص الذي نزل به القرآن ، يحمل معني يستوعبه الذهن ، وهو واضح بين مراد في حق من قيد به ، فهو محكم غير متشابه ومعلوم غير مجهول ، والقول بتفويض المعني عند ذلك عبث وقدح في البلاغ عن الله ، أما الحقائق والكيفيات الغيبية أو المشهودة التي دلت عليها النصوص والألفاظ ، فإن تعلق ذلك بالمخلوق في عالم الشهادة في حدود مدارك الإنسان ، فإن الكيفية محكمة أيضا غير مجهولة لأن مرئية معلومة ، أما إن تعلق ذلك بالخالق أو بالمخلوقات في عالم الغيب ، فالكيفية من المتشابه المجهول الذي استأثر الله بعلمه ، وينبغي علينا تفوضها إلي الله ، والراسخون في العلم مهما بلغ علمهم فلن يدعي أحدهم أنه يعلم كيفية الحقائق في الغيبيات أو كيفية الذات والصفات ، فهذه عقيدة السلف في العلاقة بين المحكم والمتشابه ومسألة التفويض .
أما عقيدة الخلف فإنهم جعلوا المعني المتبادر من نصوص الصفات معني باطل يدل على التشبيه والتجسيم وإثبات الجوارح والأعضاء ، متصورين الذات الإلهية في صورة الذات الإنسانية ، ثم استقبحوا هذه الصورة التي تخيلوها من دلالة النصوص ، وأوجبوا تأويل المعني أو تفويضه ، لأنه تعارضت في أذهانهم بزعمهم الأدلة السمعية والعقلية ، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية ، أو نحو ذلك من عبارات الأشعرية ، فجعلوا المعني متشابها مجهولا كبديل عن تأويلهم لكتاب الله .(1/52)
ونحن إذا نظرنا إلى كتاب الله واستقرأنا جميع الأدلة النقلية التي تتعلق بالأمور الغيبية على وجه العموم وبذات الله وصفاته على وجه الخصوص ، لا نجد آية واحدة أو حديثا يتحدث عن كيفية الذات وصفاتها ، أو كيفية الموجودات التي في عالم الغيب ، وكل ما ورد كان الهدف منه إثبات وجود ذات الله وصفاته وأفعاله على التفصيل الوارد في الكتاب والسنة ، وبكيفية تليق بالله يعلمها هو ولا نعلمها نحن ، وهذا يتطلب كلاما يحمل معنى مفهوما .
وعلى هذا المفهوم جاءت أقوال السلف الصالح في نصوص الصفات وسائر الغيبيات : ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) (1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله معقبا : ( قولهم أمروها كما جاءت يقتضى إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظ دالة على معان ، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال : أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم غير مراد أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ : بلا كيف ، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول ) (2) ، وعلى ذلك أيضا جاء قول الإمام مالك بن أنس رحمه الله : ( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ) .
__________
(1) لنساء:82.
(2) بن تيمية : الفتوى الحموية ص28.(1/53)
وربما زعم بعضهم أن قول السلف في الاستواء معلوم ، يعنى أن آية الاستواء موجودة في القرآن ، وقد رد شيخ الإسلام مجيبا عن هذه الشبهة : ( فإن قيل معنى قوله : الاستواء معلوم أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه !! ، قيل : هذا ضعيف ، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل ، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن ، وقد تلا الآية ، وأيضا لم يقل - يعنى الإمام مالك - ذكر الاستواء في القرآن - يعنى معلوم - ولا إخبار الله بالاستواء - يعنى معلوم - وإنما قال الاستواء معلوم .. وأيضا فإنه قال : والكيف مجهول ، ولو أراد ذلك لقال : معنى الاستواء مجهول ، أو تفسير الاستواء مجهول ، أو بيان الاستواء غير معلوم ، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء ، لا العلم بنفس الاستواء ، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه ) (1) .
وختاما أدعو إخواننا الذين يظنون أن مذهب السلف هو تفويض معاني النصوص التي خاطبنا اللَّه بها إلى إعادة النظر في الأمر حتى لا يظلم المذهب السلفي من ناحية ولا يدعون إلى غير الحق من ناحية أخرى ، وقد قال العلامة ابن القيم : ( فلا سعادة للعباد ولا صلاح لهم ولا نعيم إلا بأن يعرفوا ربهم ويكون هو وحده غاية مطلوبهم والتقرب إليه قرة عيونهم ) (2) ، فكيف تتم هذه السعادة في ظل عقيدة التفويض ؟
وإذا كان قبول العمل عند الله يعود إلى صدق النية وقوله صلى الله عليه وسلم :( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) (3) . ، فالنية وحدها لا تكفي إذ لا بد من شرط المتابعة لمن سلف واجتناب بدعة من خلف .
__________
(1) بن تيمية : رسالة الإكليل ضمن مجموعة الرسائل الكبرى 2/33.
(2) بن القيم : مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 1/47.
(3) خرجه البخاري في كتاب بدء الوحي برقم (1).(1/54)