بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الإخوة القائمين على هذا الموقع
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
إليكم هذه الكتب من مؤلفات الدكتور خالد كبير علال ، من عنده شخصيا
لاستفادة الفردية في الموقع و خارجه ،و لا يجوز استغلالها للأغراض التجارية ، و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته .
دراسات نقدية هادفة عن مواقف الصحابة
-بعد وفاة الرسول الكريم(ص)-
قضية التحكيم في موقعة صفّين
-بين الحقائق و الأباطيل-
(سنة37ه)
الدكتور خالد كبير علال
-حاصل على دكتوراه دولة في التاريخ الإسلامي من جامعة الجزائر-
دار البلاغ الطبعة الأولى
-الجزائر- -1423/2002م-
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين ،و بعد : هذا هو البحث السادس من سلسلة : دراسات نقدية هادفة عن مواقف الصحابة ، بعد وفاة الرسول –صلى الله عليه و سلم - ، و هو بحث خصصته لدراسة حادثة هامة و خطيرة ، من حوادث الفتنة الكبرى و قضاياها . و قد اتبعت فيه منهجا علميا موضوعيا ، جمعت فيه كل الروايات –التي قدرت على جمعها- و لها علاقة بقضية التحكيم في موقعة صفّين ، بين الصحابيين أبي موسى الأشعري و عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- و قد أخضعت تلك الروايات للنقد العلمي إسنادا و متنا-على قدر المستطاع- و أحسب-و الله أعلم – أن البحث قد جاء بالجديد المفيد ، و أنه –إن شاء الله- سيثلج قلوب الباحثين عن الحق ، و يكشف عن شبهات و مفتريات الطاعنين في الصحابة الكرام .
و أرجو أن يجد هذا البحث إقبالا لدى المختصين و المثقفين ، و أن يسد ثغرة طالما تسلل منها خصوم الصحابة ،و أن يفتح أفاقا للبحث العلمي الموضوعي ، عن تاريخ الصحابة خاصة ، و تاريخ المسلمين عامة . و أسأل الله –عزّ و جل- أن يجعله خالصا لوجه الكريم ،و أن ينفع به قارئه ،و أن يمدني العون و التوفيق لإصدار باقي بحوث السلسلة ، إنه تعالى سميع مجيب .
خالد كبير علال(1/1)
-أستاذ جامعي-
الفصل الأول: التحقيق في مسألة القتال في موقعة الجمل و صفين(36-37ه)
عندما عزم عليّ-رضي الله عنه – على قتال أهل الشام ،و سمع أن طلحة و الزبير و عائشة –رضي الله عنهما – و معهم أهل مكة ، قد توجّهوا إلى البصرة ، أسرع ليسبقهم إليها . فلما التقى الطرفان هناك ، جرت بينهما مساع توّجت بالصلح ، لكن قتلة عثمان افسدوا عليهم صلحهم ،و دفعوهم إلى الاقتتال ، فتقابلت الطائفتان المؤمنتان في موقعتي الجمل-بالبصرة- ،و صفيّن-على شاطئ نهر دجلة شرق بلاد الشام- ، فكانت حصيلة القتلى بين الجانبين ، اكثر من 60 ألفا ، حسب ما ذكرته الروايات التاريخية (1) . فما هو سبب هذا القتال ؟ و ما هي مواقف الصحابة منه ؟ .
أولا : سبب القتال في موقعتي الجمل و صفيّن :
يعتبر الخلاف في قضية قتلة الخليفة عثمان-رضي الله عنه- هو السبب في حدوث القتال بين المسلمين في موقعتي الجمل و صفيّن ، فأهل الشام طالبوا بالاقتصاص من قتلة عثمان و جعلوه شرطا لبيعة علي بن أبي طالب .و أهل مكة استنفروا الناس و جمعوهم ، للمطالبة بدم الخليفة المقتول . لكن الإمام علي خالف هؤلاء ، و كان يرى ضرورة تأخير القصاص من قتلة عثمان ، و أصر على موقفه ،و على استخدام القوة تجاه من خالفه و لم يبايعه (2) .
__________
(1) انظر مثلا : ابن كثير : البداية و النهاية ، ط3 ، مكتبة المعارف 1981 ،ج7 ص: 245 ، 275 . و المسعودي : مروج الذهب و معادن الجوهر ، الجزائر ، موفم للنشر 1989 ج 2ص: 419-420
(2) انظر : ابن كثير : نفس المصدر ج 7ص: 228، 229 ، 230 .و ابن تيمية : منهاج السنة النبوية ، بيروت المكتبة العلمية ، د ت ج3 ص: 1 ، 2 .(1/2)
و كان كبار الصحابة بالمدينة المنورة قد طلبوا من الإمام علي إقامة الحدود للأخذ بدم أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، فاعتذر بعدم قدرته على تنفيذها الآن . و عندما طلب منه الزبير و طلحة –رضي الله عنهما – أن يولي أحدهما- الزبير- على الكوفة و الآخر على البصرة ، ليأتيانه بالجنود من هاتين المدينتين ، فيتقوّى بهم على قتلة عثمان و جهلة الأعراب الذين معه ، قال لهم : مهلا حتى أنظر في الأمر .(1) و رأيهما هذا وجيه و جدير بالأخذ ، فلو تبناه الإمام علي –رضي الله عنه- لكان في مقدوره أن يضع به حدا لدعاة الفتنة و يقتص به منهم . لكن عليا لم يستجب لهما فكان ذلك-على ما يبدو- هو السبب الذي دفعهما إلى استئذان علي بن أبي طالب للخروج إلى مكة المكرمة ، فالتحقا بها و جمعها الناس للمطالبة بدم عثمان .
__________
(1) الطبري : تاريخ الأمم و الملوك ، بيروت دار الكتب العلمية ، 1997 نج2 ص: 703 ،و ابن كثير : المصدر السابق ج 7 ص: 228، 229 .(1/3)
و يرى الباحث أبو الأعلى المودودي ، أن قرار علي بن أبي طالب بتأخير القصاص من قتلة عثمان كان صوابا ، لأن تطبيقه مباشرة قد يؤدي إلى تعصب القبائل لهم (1) . نعم قد تكون المصلحة في تأخير القصاص لدفع شر هؤلاء ، ريثما يتمكّن منهم . لكن يجب أن لا ننس أن الاقتصاص من هؤلاء المجرمين واجب شرعي(ابن تيمية: المصدر السابق دج3 ص:201) ، و أنه مما لا شك فيه-أيضا- أن مقاتلة المطالبين بدم عثمان ليس بالأمر الهين و ليس هو بالأمر المحبذ شرعا و لا عقلا ، فهم يطالبون بمطلب شرعي ، و عددهم كبير جدا-و من ورائهم قبائلهم- فمجموع قتلة عثمان لا يزيد عن : 2500 شخص ، في حين عدد جيش هؤلاء أكثر من 30 الف جندي (2) . لذا كان على الإمام علي –في موقفه من قتلة عثمان- ان يسعى لإضعافهم ،و يخطط للاقتصاص منهم ، لكن الذي حدث هو أنه عندما اتخذ قرار قتال أهل الشام –و هو في صالح المجرمين- كانوا في جيشه و حاربوا معه ، فساهم هو –من حيث يدري او لا يدري – في تقوية شوكتهم ،و توفير الحماية لهم ، و هم بدورهم عزّزوا مواقعهم في عسكره ،و صار بعضهم من كبار قادته ، كالأشتر النخعي ،و حكيم بن جبلة(3) . فأصبح من الصعب جدا عل الإمام علي أن يقتص من منهم ، و التاريخ شاهد على أنه لم يقتص منهم .
ثانيا : تباين مواقف الصحابة من القتال :
__________
(1) المودودي: الخلافة و الملك ، الجزائر دار الشهاب د ت 1988 ص: 49 .
(2) انظر: ابن كثير : المصدر السابق ج 7 ص: 238 و ما بعدها .
(3) ابن كثير : المصدر السابق ج 7 ص: 223، 236 ، 274 .(1/4)
تباينت مواقف الصحابة من القتال في موقعتي الجمل و صفيّن تباينا واضحا ، فمنهم من اعتزل الفتنة كلية ، و منهم من قاتل مع أهل العراق ، و منهم من قاتل مع أهل مكة و الشام ز فالذين اعتزلوا القتال كان عددهم كبيرا ، منهم :عمران بن حصين ، و سعد ابن أبي وقاص ،و أسامة بن زيد ،و محمد بن مسلمة ، و عبد الله بن عمر ، و أبو هريرة ، و ابو موسى الأشعري ،و سعيد بن زيد ، و عبد الله بن مغفل ،و ابو برزة السلمي ،و زيد بن ثابت(1) –رضي الله عنهم – و هؤلاء يحبون عليا و يوالونه و يقدمونه في الخلافة-بعد عثمان- لكنهم خالفوه في موقفه من القتال ، فقد اعتقدوا أنه قتال فتنة ، ليس بواجب و لا بمستحب ،و كانت معهم نصوص حديثية سمعوها من الرسول –عليه الصلاة و السلام- تحذّر من المشاركة في الفتنة ، القاعد فيها خيّر من القائم ،و القائم فيها خيّر من الماشي ، و الماشي خيّر من الساعي (2) .
__________
(1) انظر : ابن تيمية : منهاج السنة ج 1ص: 145 ،و ج2ص: 219 .و ابن عبد البر: الاستيعاب ، ج1 ص: 171. و الذهبي : سيّر أعلام النبلاء ،ط 3 بيروت مؤسسة الرسالة ، 1985 ج 1ص: 93، 103، ج2ص: 375 ج3ص: 23 ، 128 ، 445 . و ابن كثير : البداية ج8 ص: 377 ، 449 .و محمد آمحزون : تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة ، ط3 الرياض دار طيبة ، 1999 ن ج2 ص: 169 ، 170 .
(2) ابن تيمية : المصدر السابق ج 1ص: 144-145 ،و ج3 ص: 220-221 . و بدر الدين الحنبلي : مختصر فتاوى ابن تيمية ، بيروت دار الكتب العلمية ، د ت ، ص: 489 .(1/5)
و كان الصحابي عمران بن حصين –رضي الله عنه –يحث على اعتزال الحرب ،و ينهي عن بيع السلاح ، و يقول : هو بيع السلاح في الفتنة (1) . وأما أبو موسى الأشعري –رضي الله عنه- فكان يجمع الناس و يحذرهم من المشاركة في الفتنة و يثبطهم عن القتال ،و يذكّرهم بما سمعه من الرسول –عليه الصلاة و السلام – في اعتزال الفتنة (الطبري: المصدر السابق ج3ص: 26،28،37ن38 ) . و يروى أنه عندما التقى أسامة بن زيد بالإمام علي-رضي الله عنهم –قال له علي: ما كنا نعدك إلا من أنفسنا يا أسامة فلم لا تدخل معنا ؟ فقال أسامة : يا أبا الحسن انك و الله لو أخذت بمشفر-الشفة- الأسد لأخذت بمشفره الآخر ن حتى نهلك جميعا ، أو نحيا جميعا ، فأما هذا الأمر الذي أنت فيه ، فو الله لا أدخل فيه أبدا (الذهبي : المصدر السابق ج2ص:360-361) . و عندما انطلق علي بن أبي طالب لمحاربة أهل الشام اعترض له الصحابي الجليل عبد بن سلاّم –رضي الله عنه- الطريق و نصحه بالرجوع عن قرار القتال ، فلم يسمع له .و لما لم تعجب نصيحته بعض أصحاب علي ، سبّوه ، فقال لهم علي: دعوه فنعم الرجل من أصحاب النبي –صلى الله عليه و سلم-(2) .
__________
(1) الذهبي: المصدر السابق ، ط مصر ن دار المعارف د ت ج 2ص: 364 . و ابن تيمية : المصدر السابق ج 2ص: 219 .
(2) ابن كثير : المصدر السابق ج 7 ص: 234 .(1/6)
و أما عبد الله بن عمر (ت73ه) –رضي الله عنهما- فقد حرص على ألا يقترب من الفتنة أبدا ، و لا يكون سببا في قتل أحد(1). فعندما بويع الإمام علي بالخلافة –بالمدينة المنورة- كلّف ابن عمر بالسيّر إلى بلاد الشام ، فأبى و أسرّ على موقفه ، و وجد حلا لنفسه بأن هرب إلى مكة ( الذهبي: المصدر السابق ج3 ص: 224 ، 228) . و روي أن الإمام علي كان يغبط ابن عمر ،و سعد بن أبي وقاص في موقفهما من الفتنة ، بقوله : (( لله منزل نزله عبد الله بن عمر ،و سعد بن مالك-ابن أبي وقاص- لئن كان ذنبا لصغير مغفور ، و لئن كان حسنا إنه لعظيم مشكور ))(2) .
__________
(1) يروى أنه ندم في آخر حياته انه لم يقاتل الفئة الباغية ، لكن الروايات اختلفت عنه في تحديد من هي الفئة الباغية التي قصدها ، فقيل التي حاربت عليا ، و قيل هي طائفة ابن الزبير ،و قيل هي : الحجاج بن يوسف و طائفته . الذهبي : المصدر السابق ج3ص: 229-،232.و ابن عبد البر: المصدر السابق ج1 ص: 171-172 .
(2) الذهبي : نفس المصدر ج 1ص: 120.(1/7)
و كان الصحابي أهبان بن صفي البصري يردد –في اعتزاله للفتنة- حديثا قال له فيه الرسول –عليه الصلاة و السلام-: (( في الفتنة اتخذ سيفا من خشب ))رواه احمد و الترمذي .و يروى أنه عندما التقى بعلي بن أبي طالب و عاتبه على عدم الانضمام إليه ، ذكر له الحديث السابق ، فتركه و حثه على طاعة ما أوصاه به رسول الله (ابن عبد البر:المصدر السابق ج1ص: 205 ) ، و عندما قيل للصحابي محمد بن مسلمة الأنصاري-رضي الله عنه- : ألا تخرج للنهي و الأمر ؟ قال : قال لي الرسول –صلى الله عليه و سلم- ستكون فرق و فتنة و اختلاف ، فأكسر سيفك ، و اقطع وترك ،و اجلس في بيتك . و هذا الصحابي هو الذي قال فيه رسول الله : (( لا تضرّه الفتنة ))(1) رواه ابو داود . و عندما أرسل علي للصحابي الحكم بن عمرو الغفاري (ت51ه)-رضي الله عنهما- يطلب منه الانضمام إليه في حربه لأهل الشام ، رد عليه بقوله : (( إني سمعت رسول الله –صلى الله عليه و سلم-يقول : إذا كان الأمر هكذا اتخذ سيفا من خشب )) ( الذهبي : المصدر السابق –ط مصر ج 2 ص: 340 ) .و كاد الصحابي جرير بن عبد الله البجلي(ت51ه)-رضي الله عنه –أن يدخل في الفتنة ثم تراجع و اعتزلها ، و كان يقول : لا أقاتل من يقول لا إله إلا الله (2) .و عندما ندب علي أهل المدينة للخروج معه للقتال ، لم يوافقوه و أبوا الخروج معه ؛ فكلّم عبد الله بن عمر شخصيا للخروج معه ، فقال له : انا رجل من المدينة . ثم كرر عليهم دعوته للسيّر معه عندما سمع بخروج أهل مكة إلى البصرة ، فتثاقل عنه أكثرهم ، و استجاب له مابين : 4-7 من البدريين (ابن كثير : المصدر السابق ج7ص:231،234) .
__________
(1) نفس المصدر ج 2 ص: 268 .و ابن سعد : الطبقات الكبرى ج3 ص: 339 .و ابن كثير : المصدر السابق ط دار المعرفة بيروت ج8 ص: 416 .
(2) الذهبي : المصدر السابق ج 2 ص: 384 .و ابن كثير : المصدر السابق ج 8 ص: 447 .(1/8)
و أما الصحابة الذين قاتلوا مه أهل العراق ، ففي مقدمتهم : علي بن أبي طالب ، و عبد الله بن مسعود ، و عمار بن ياسر، و سهل بن حنيف ، و عثمان بن حنيف ، و الحسن و الحسين ،و جابر بن عبد الله ، و عديّ بن حاتم ، و خوات بن جبير، -رضي الله عنهم -(1) . فبخصوص الإمام علي، فإنه قد أعلن لجنده ان موقفه في قتاله لأهل الشام هو مجرد اجتهاد شخصي ، رأى فيه انه يحقق الطاعة و وحدة الجماعة ، و لم يدع ان معه نصوصا سمعها من رسول الله –عليه الصلاة و السلام-(2) . و قد كانت أمامه عدة خيارات لتذليل الصعاب التي واجهته ، منها : أن ابنه الحسن نصحه بالبقاء في المدينة و لا يغادرها حتى تصله بيعة كل الأمصار .(ابن كثير :المصدر السابق ج7ص:230،231) . و في هذه الحالة كان في إمكانه أن يكثف اتصالاته مع أهل الشام لوضع خطة مشتركة للاقتصاص من قتلة عثمان أولا ، ثم بعد ذلك يكون الاتفاق السلمي بين الطرفين ثانيا بعد زوال مبرر امتناع المطالبين بدم عثمان كشرط للبيعة . و من تلك الخيارات – أيضا- أن الصحابيين طلحة و الزبير-رضي الله عنهما-قد اقترحا عليه-أي على علي- ان يعينهما واليين ليأتيانه بالعساكر من البصرة و الكوفة ، فيتقوى بهم على قتلة عثمان ، فيقتص منهم و يقطع دابرهم ، و لا يبقى لأهل الشام حجة في عدم بيعتهم له . و كان في مقدوره-أيضا- ان يرسل –مثلا- من يثق فيهم إلى الأمصار ليأتوه بالجنود ، فيتمكن بهم من وضع حد لشرذمة من المجرمين لا يزيد عددهم عن ك 2500 فرد _( ابن كثير :" المصدر السابق ج7ص: 238 و ما بعدها ) . مع العلم أن قتال هؤلاء كما هو واجب ، فهو أيضا أولى و أسهل من قتال أهل الشام ؛ لكن
__________
(1) الذهبي: الخلفاء الراشدون ، حققه حسام الدين القدسي ط 1 بيروت ، دار الجيل 1992 ص: 329، 389 .و ابن تيمية : منهاج السنة ج3 ص: 156، 220 ،221،و ج4 ص: 121 .
(2) الذهبي:الخلفاء: 388، 389، 390 .و ابن تيمية : نفسه 3/:156، 220 221 ،و ج4 ص: 121 .(1/9)
الإمام علي اتبع خيارا آخر ، لاعتقاده أن حل قضية أهل الشام هي أسبق من قضية الاقتصاص من قتلة عثمان ، فجاء رأيه موافقا لرأي رؤوس الفتنة الذين حسّنوا له الخروج إلى العراق ، و قد حذّره عبد الله بن عباس من موافقة هؤلاء ، لكنه طاوعهم و لم يسمع له .(1) ظنا منه أن القتال تحصل به الطاعة و الجماعة ، لكن الأمر انعكس تماما ، فزاد الأمر شدة ، و تفرّقت الأمة ،و ضعف جانب علي ،و تقوى جانب من قاتله في نهاية الأمر ( ابن تيمية: المصدر السابق ج4ص: 121) . كل ذلك جعله -في نهاية المطاف- يظهر ندمه على ما حصل ،و يسارع إلى قبول وقف القتال في موقعة صفّين( أنظر الفصل الثاني) ،و يغبط الذين اعتزلوا الفتنة (2) .
و أشير هنا إلى أنه وجد من الصحابة من كان في معسكر الإمام علي ، و لم يكن موافقا له في قتاله لأصحاب الجمل و أهل الشام ، منهم : ابنه الحسن- رضي الله عنه - ، فقد كان كارها للقتال ، و عندما تأهب والده للخروج قال له :يا أبتي دع هذا ، فإن فيه سفكا لدماء المسلمين ،و اختلاف بينهم ، فلم يقبل منه و صمم على القتال ( ابن كثير : البداية ج 7ص: 230) ثم كرر له النصيحة عندما انطلق في المسير للقتال ، فلم يستجب له ، و مع ذلك خرج معه و هو كاره للقتال ، لذلك وجدناه عندما تولى الخلافة -بعد والده - صالح معاوية بن أبي سفيان-رضي الله عنهما- و تنازل له عن الخلافة (3)
__________
(1) ابن كثير : المصدر السابق ج 7 ص: 229 .
(2) الذهبي : سير أعلام النبلاء ج 1 ص: 120 .
(3) الذهبي: المصدر السابق ج 3 ص: 261ن 264 . و ابن كثير:البداية ج 7 ص: 235-236.و الطبري: المصدر السابق ج3ص:11-12.(1/10)
و منهم أيضا الصحابيان عبد الله بن عباس ،و عقبة بن عمرو البدري الأنصاري -رضي الله عنهما- فالأول نصح عليا بعدم الخروج للقتال ،و حذّره من موافقة رؤوس الفتنة الذين حسّنوا له الخروج إلى العراق من أجل القتال ، فلم يستجب له ( ابن كثير: المصدر السابق ج 7ص: 229 ) . و الثاني كان واليا لعليّ على الكوفة ، فلما نشب القتال في موقعة صفين كان يعلن رفضه للقتال ،و يدعوا إلى الصلح ،و عندما سمع بعض شيعة علي يقولون : إن الله هلك أعداءه ، و أظهر أمير المؤمنين. قال : إني و الله ما أعده ظفرا أن تظهر إحدى الطائفتين على الأخرى،ز فقالوا له :ماذا تريد ؟ قال : الصلح . و كان يقول –أيضا- : إن الفتح أن يحقن الله دماءهم و يصلح بينهم . و عندما سمع به علي بن أبي طالب ،و كلّمه في الأمر ،و أصرّ على موقفه عزله عن ولاية الكوفة(1) .
__________
(1) الذهبي: الخلفاء الراشدون ص : 403 . و سيّر أعلام النبلاء ط مصر ج2 ص: 353 .(1/11)
و أما بالنسبة للصحابة الذين قاتلوا مع أهل مكة في موقعة الجمل ، فأشهرهم : طلحة و الزبير –رضي الله عنهما – فقد بايعا عليا تحت تهديد قتلة عثمان ، وطلبا منه تعيينهما واليين ليأتيانه بالجنود من الكوفة و البصرة ليتقوى بهم في الاقتصاص من المجرمين ، فلم يستجب لهما ، عندها استأذناه في الخروج إلى مكة فأذن لهما ، فالتحقا بها و شرع في تنفيذ خطتهما- التي اقتراحاها سابقا على علي – فاستنفرا الناس للمطالبة بدم عثمان . و هما بعملهما هذا لم ينكرا حق علي في الخلافة (1) ، و إنما كانت لهما وجهة نظر سعيا في تحقيقها للاقتصاص من قتلة عثمان . و عملهما هذا كان في مقدور الإمام علي الاستفادة منه ، عن طريق الاتفاق معهما للأخذ بدم الخليفة الشهيد ، و هو الشيء الذي تم بالفعل عندما تصالح معهما على ذلك في موقعة الحمل، لكن قتلة عثمان افسدوا عليهم صلحهم ( ابن كثير : المصدر السابق ج7 ص: 238 و ما بعدها ) لكن الشيء المؤسف و الغريب جدا أن هذا العمل التعاوني بين الطائفتين المؤمنتين ، لم نسمع انه حدث مرة أخرى لقطع دابر قتلة عثمان ، و هو امر ليس بالأمر الصعب ، فهو واجب ،و أولى و أسهل من القتال الذي جرى في موقعة صفّين
__________
(1) ابن كثير : المصدر السابق ج 7 ص: 228، 229 ، 230 و ما بعدها .(1/12)
و أما الصحابة الذين قاتلوا مع أهل الشام ، فمنهم : معاوية و عمرو بن العاص ،و فضالة بن عبيد الأنصاري ،و مسلمة بن مخلد ،و النعمان بن بشير ،و معاوية بن أبي خديج الكندي ،و أبو غادية الجهني ،و حبيب بن مسلمة ،و أبو الأعور السلمي ،و بشر بن أرطأة العامري ،و عقبة بن عامر الجهني(1)-رضي الله عنهم – و قد روي أن عدد الصحابة الذين قاتلوا مع معاوية بلغ 300 صحابي ، لكن هذه الرواية إسنادها ليّن لا يحتج بها في علم مصطلح الحديث (2) .و ذكر المؤرخ شمس الدين الذهبي أنه قد قاتل مع معاوية جماعة يسيرة من الصحابة ، و قاتل معه عدد كبير من التابعين و الفضلاء (سيّر أعلام النبلاءج3 ص:128 ) .
__________
(1) الذهبي: الخلفاء الراشدون ص: 331 .و سيّر أعلام النبلاء ط مصر ج 2 ص: 334 وج 3ص: 91
(2) الذهبي:السير ج 3 ص: 157 .و محمود الطحان : تيسير مصطلح الحديث ، الجزائر دار رحاب ص:153 .(1/13)
و أشير هنا إلى أن الروايات قد اختلفت في تقدير عدد الصحابة -الذين شاركوا في الفتنة - اختلافا كبيرا ، فقيل أنه قاتل مع علي 24 صحابيا ،و قيل : 150 صحابيا ، و قيل : 800 صحابي (1) ،و قدّرهم المؤرخ اليعقوبي ب: 1100 صحابي ،و حددهم المؤرخ المسعودي ب: 2800 صحابي(2) . و روي أن عدد الصحابة الذين قاتلوا مع أهل الشام بلغ : 300 صحابي( الذهبي: سيّر أعلام ج3 ص: 157 ) .و في روايات أخرى أن مجموع الصحابة الذين شاركوا يوم الجمل بلغ أربعة من الأصحاب فقط ، و قيل واحد فقط ممن شهد بدرا . و قيل أن مجموعهم لم يصل إلى 100 ، بل لم يبلغ ثلاثين(30) صحابيا ، و قدرهم الشيخ تقي الدين بن تيمية بنحو : 100 صحابي في المجموع(3).
__________
(1) الذهبي: الخلفاء الراشدون ص: 329، 330 .و ابن كثير: البداية ج7 ص: 255 . وخليفة خياط : تاريخ خليفة خياط ج1ص:180.
(2) تاريخ اليعقوبي ، بيروت دار الفكر 1956 ج2 ص: 134 .و مروج الذهب ج 2 ص: 421 .
(3) الذهبي : سيّر أعلام النبلاء ج 3 ص: 157 . و الخلفاء الراشدون ص: 186 .و ابن تيمية : منهاج السنة ج 3 ص: 186 . و ابن كثير : المصدر السابق ج 7ص: 253 .و أبو بكر الخلال : السنة ج2 ص:466 .(1/14)
فهذه الأرقام المتضاربة تعكس –في عمومها- خلفيات و نوايا رواتها ، فالمبالغون في تضخيم عدد الصحابة في صف علي ، يقصدون بذلك التأكيد على أن كثيرا من الصحابة قاتلوا معه ،و أن الذين قاتلوه هم –في معظمهم- من المنحرفين . و المقلون في تقدير العدد يهدفون إلى التأكيد على أن الغالبية العظمي من الصحابة اعتزلوا الفتنة ، و أن القتال جرى بين العوام و الأشرار و الأوباش و الرعاع . و الحقيقة أنه لا يمكن قبول الروايات التي حددتهم ب: 1،و 4 ،و 10 ، لأنه من الثابت تاريخيا أن أعلاما من الصحابة شاركوا في الفتنة ، يزيد عددهم عن عشرة ، و قد أحصيت منهم طائفة بلغ عددها 35 صحابيا(1) .
__________
(1) منهم 21 صحابيا مع علي ( الذهبي:الخلفاءص:329 ) و الباقي مع الطرف الآخر و قد ذكرناهم سابقا .(1/15)
و في مقابل ذلك فإن ما ذكره المؤرخان اليعقوبي(ت292ه) ،و المسعودي(ت346ه) ، هو عدد مبالغ فيه جدا ، لأن روايات أخرى تعارضه ،و أن المصنفات الأخرى التي أرّخت للفتنة لم تذكر هذا العدد الكبير من الصحابة المشاركين في القتال، من حيث عددهم الإجمالي ،و لا من حيث أسمائهم . و أنا شخصيا استبعد جدا ما رواه هذان المؤرخان ، لأن تضخيم العدد من ورائه نزعتهما الشيعية المغالية ، و الشيعة عند المحقيقين لا وزن لرواياتهم ،و حذّروا من الأخذ عنهم ، لأنهم يتعمدون الكذب( ابن تيمية : المصدر السابق ج 1ص: 13) .و قد كانت شيعة الكوفة حريصة جدا على تلطيخ كل إنسان بمشاركته في الفتنة ( الخلال : المصدر السابق ج2 ص:467). كما لا يخفى علينا أن اليعقوبي و المسعودي لم يذكرا للخبر- الذي زعماه- إسنادا لكي ننقد رجاله . و حتى إذا فرضنا-جدلا- صحة ما روياه فإن عدد الصحابة الذين شاركوا في الفتنة يبقى قليلا ، بالمقارنة إلى عددهم الإجمالي المقدر ب: 10 ألآف صحابي عند بداية الفتنة(1) فأين 2800 صحابي من مجموع 10 آلاف . و يبدو لي أن العدد القريب من الصحة هو ما ذهب إليه الشيخ ابن تيمية من أنه قريب من مائة .
__________
(1) الخلال : المصدر السابق ج2ص: 466.و ابن تيمية : منهاج السنة ج3ص: 186 .و ابو بكر بن العربي : العواصم من القواصم ،حققه محب الدين الخطيب ط1 د ن 1986 نص: 187 .(1/16)
و يتبين مما ذكرناه عن مواقف الصحابة من الفتنة ان منهم من بايع عليا و قاتل معه ،و منهم من بايعه و لم يقاتل معه ،و منهم من بايعه و قاتله-كطلحة و الزبير- و منهم من لم يبايعه و قاتله –أهل الشام- . مع أن الغالبية الساحقة من الصحابة قد اعتزلت الفتنة و لم تشارك فيها .و قد ذهب الباحث أبو الأعلى المودودي إلى القول بان المعتزلين للفتنة كانت نواياهم حسنة أملا في درئها ، غير أن موقفهم منها أدى إلى تفاقمها ، وبث الشك في قلوب الناس ،و كان على الأمة أن تتعاون مع علي بن أبي طالب ، لاستعادة الأمن و السلام للخلافة(1). و أقول-ردا عليه- : إن الأمر على عكس ما ذهب إليه المودودي ، لأن المعتزلين للفتنة احتجوا بأحاديث صحيحة عن الرسول-صلى الله عليه و سلم- مدحهم فيها و صوّب رأيهم(2) . لكن الذين خاضوها لم يحتجوا باحاديث للنبي –عليه الصلاة و السلام – ، و إنما اعتمدوا على آرائهم و اجتهاداتهم(3) . كما أن مشاركة المعتزلين للفتنة في الحرب مع علي ما كانت لتوقف الحرب بل تزيدها ضراوة لأن كل أطراف الحرب كانت مصرة على مواقفها . أليس عدم خوضهم فيها أضعفها ،و جنّب كثيرا من الناس الاكتواء بها ؟ فهل يصح بعد هذا أن يقال أن اعتزالهم للفتنة زاد في تفاقمها ؟ مع العلم أن المعتزلين للحرب لم ينكروا حق علي في الخلافة و أهليته لها ،و إنما خالفوه عندما عزم على القتال ،و هم لم يكونوا على استعداد للخوض في دماء المسلمين و ترك قناعاتهم ،و ما سمعوه من الرسول-صلى الله عليه و سلم- ،و يتبعون عليا في رأي رآه ، خالفه فيه كثير من كبار الصحابة .و هو في إصراره على القتال لم يحقق ما كان يرجوه ، فلا هو اقتص من قتلة عثمان ،و لا انتصر على أهل
__________
(1) الخلافة و الملك ص: 76-77 .
(2) سيأتي ذكرها قريبا ، و انظر : البخاري : صحيح البخاري ، الجزائر ، دار الشهاب ج8 ص: 92
(3) الذهبي: الخلفاء الراشدون ص: 389 . و ابن تيمية : منهاج السنة ج3ص: 156، 220-221 .(1/17)
الشام ،و لا تحكّم في جيشه .و لماذا لا يقال -أيضا- إنه كان على الإمام علي أن يضع يده مع المعتزلين للحرب ،و يتعاون مع المطالبين بدم عثمان ، ليقتص من المجرمين ، و بذلك تسقط حجة المنادين بالاقتصاص ،و يعود الأمن و السلام للخلافة الإسلامية ؟ .
ثالثا : الحكم الشرعي في القتال في موقعتي الجمل و صفّين :
توجد نصوص قرآنية و حديثية ، يجب استحضارها و تدبرها ،و استخدامها كضوابط شرعية تنير لنا الطريق ، عند دراستنا لحوادث الفتنة و ملابساتها . منها قوله تعالى : (( و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى ، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ، فإن فاءت فاصلحوا بينهما و اقسطوا إن الله يحب المقسطين ، إنما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين أخويكم و اتقوا الله لعلكم ترحمون))-سورة الحجرات/9،10- فالله عزّ و جل قد سمى المقتتلين مؤمنين ،و جعلهم اخوة رغم ما حدث بينهم من بغي و قتال .و قد نصت هتان الآيتان على وجود طائفتين مقتتلتين ، و أمرت طائفة ثالثة بالإصلاح بينهما ، فإن أبت إحداهما الصلح و استمرت في القتال ، وجب قتالها حتى تفيء إلى أمر الله . و هذه الحالة لا تنطبق تمام الانطباق على ما جرى بين أهل العراق و الشام . فالمبادأة بالقتال لم تأت من أهل الشام ، و إنما جاءت من علي و أصحابه ( ابن تيمية: منهاج السنة ج2ص: 202،204،205 ) ، فعندما لم يبايعه أهل الشام قرر قتالهم .و الآية أمرت بقتال الباغي الذي حمل السلاح و أبى أن يضعه ،و لم تأمر بقتال الباغي مطلقا ، لذلك ذهب أكثر العلماء إلى القول بأن قتال البغاة لا يجوز إلا أن يبدءوا الامام بالقتال كما حدث في قتال الإمام علي للخوارج ، فإن قتاله لهم متفق عليه بين العلماء بالأحاديث الصحيحة عن الرسول-عليه الصلاة و السلام – بخلاف قتاله في صفين ، فإن أهل الشام لم يبدؤوا بقتاله ، بل امتنعوا عن مبايعته-حتى يقتص من قتلة عثمان- و كان (( أئمة(1/18)
السنة كمالك و أحمد و غيرهما ، يقولون أن قتاله للخوارج مأمور به ،و أما قتاله في الجمل و صفين فهو قتال فتنة )) ( ابن تيمية: المصدر السابق ج4 ص:204) ، فإذا التزم قوم الإسلام و أقاموا الصلاة ،و آتوا الزكاة ،و امتنعوا عن دفعها للإمام لم يجز له قتلهم عند أكثر العلماء ، كأبي حنيفة و أحمد ،و إنما قاتل أبو بكر الصديق-رضي الله عنه- مانعي الزكاة لأنهم امتنعوا من دفعها مطلقا . و البغي لا يخرج صاحبه عن الإيمان ،و لا يوجب له النار ،و لا يمنعه الجنان(1) .
و جاء في صحيح البخاري أن النبي-عليه الصلاة و السلام- قال : (( ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم ،و القائم فيها خير من الماشي ،و الماشي فيها خير من الساعي ، من تشرّف لهل تستشرفه ، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به)) ( صحيح البخاري ج8 ص: 92 ) .فالحديث صريح في الحث على اعتزال الفتنة و التحذير من الخوض فيها ، و أن القاعدين عنها أحسن من الخائضين فيها . و قد كان الصحابي أبو موسى الأشعري(ت44ه) –رضي الله عنه- يجمع الناس بمسجد الكوفة و شوارعها ،و يذكّرهم بهذا الحديث ،و يحثهم على القعود عن الفتنة(2) .
و روى أبو داود عن الرسول –ص- أنه قال عن الصحابي محمد بن مسلمة (ت43ه)- : (( لا تضرّه الفتنة ))(3).و هو من نجباء الصحابة ، شهد بدرا و المشاهد الأخرى( الذهبي: السير ج2 ص:266) ،و اعتزل الفتنة كلية ، لذلك مدحه الرسول –عليه الصلاة و السلام- و دلّ قوله فيه على أن القتال لم يكن واجبا و لا مستحبا ، إذ لو كان كذلك لم يكن ترك هذا الصحابي للقتال ، مما يمدح به ، بل كان فعل الواجب أو المستحب أفضل من تركه (4).
__________
(1) ابن تيمية: المصدر السابق ج4 ص: 204، 205 .
(2) الطبري: المصدر السابق ج 3 ص: 26، 28 ، 37، 38 .
(3) ابن تيمية : المصدر السابق ج1 ص: 144-145 .و الذهبي: سيّر أعلام النبلاء ج2 ص: 268 .
(4) ابن تيمية : نفسه ج1 ص: 145 .(1/19)
و ثبت عند مسلم أن الرسول –صلى الله عليه وسلم – قال: (( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق )) ،و رواية أخرى (( أدنى الطائفتين إلى الحق )) . فالحديث ذكر ثلاث طوائف – على حين فرقة بين المسلمين – اثنتان مسلمتان ،و ثالثة مارقة ، فالمسلمتان هما أهل العرق و أهل الشام ،و المارقة هم الخوارج الذين مرقوا على الإمام علي –رضي الله عنه- و دل الحديث-أيضا- على أن لكل من الطائفتين المسلمتين تعلّق بالحق ، لكن طائفة علي ، أقرب إليه من طائفة معاوية ، لأن طائفة علي هي التي قاتلت الخوارج المارقين (1) .
__________
(1) نفس المصدر ج 2 ص: 220.و ابن كثير : البداية ج 7 ص: 279، 280ن 290 و ما بعدها .و بدر الدين الحنبلي: المصدر السابق ص: 489 . و ابن العربي : العواصم ص : 123 .(1/20)
و روى البخاري و مسلم و غيرهما ، أن النبي –عليه الصلاة و السلام- قال : (( إن عمارا تقتله الفئة الباغية )) و كان عمار-رضي الله عنه – مع أهل العراق ، و قد قتله أهل الشام في صفّين ، فالحديث دلّ على أن الفئة الباغية هي التي تقتل عمارا ، و من المحتمل أن الحديث لا يشمل كل أهل الشام ، وإنما أريد به تلك العصابة- الفئة- التي حملت على عمار حتى قتلته ، ،و هي طائفة من العسكر (1) .و روي أن معاوية تأوّل الطائفة التي قتلت عمارا بأنها هي الطائفة التي جاءت به ، فردّ عليه علي بقوله : فالمسلمون إذن هم الذين قتلوا حمزة و ليس المشركون .و عند ابن تيمية أن ما ذهب غليه معاوية ضعيف ،و ان ما قاله علي هو الصواب( الخلافة و الملك ص: 90 )) . لكن لا يغيب عن البال أن في الطائفتين بغاة ، فالذين قتلوا عمارا بغاة و هم من أهل الشام ،و الذين قتلوا الخليفة عثمان أعظم بغيا و جرما من هؤلاء ، و هم مع جيش العراق ، مما يجعل ما ذهب إليه معاوية بن أبي سفيان له وجه من الصحة ، فقتلة عثمان هم السبب في مجيء عمار و غيره . و في هذا الأمر يرى الباحث محب الدين الخطيب ان قتلة عثمان هم الفئة الباغية ، فكل مقتول يوم الجمل و صفين فإثمه عليهم لأنهم هم الذين أججوا نار الفتنة بين المسلمين ، ابتداء بعثمان و انتهاء بعلي ،و مرورا بطلحة و الزبير و عمار –رضي الله عنهم - (2) .
__________
(1) ابن تيمية : الخلافة و الملك ، الجزائر ، دار الشهاب ص: 90 .و بدر الدين الحنبلي:المختصر ص:486 .
(2) ابن العربي: المصدر السابق هامش ص : 124 .(1/21)
و يرى ابن تيمية ان من قاتل عليا كان باغيا ، لكن بغيه لا يخرجه من الإيمان ،و لا يوجب له النار ،و لا يمنعه من الجنان ، لأن البغي إذا كان بتأويل فصاحبه مجتهد ،و قد اتفق أهل السنة على أنه لا تفسّق أية طائفة من الطائفتين ،و إن كانت إحداهما باغية ، لأنهم متأوّلون مجتهدون ، و المجتهد المخطئ لا يكفّر و لا يفسّق ،و إن تعمد البغي فهو ذنب من الذنوب ، يرفع عقابه بالتوبة و الحسنات الماحية ،و المصائب المكفرة ،و شفاعة الرسول ،و دعاء المؤمنين(1) .
و جاء في صحيح البخاري أن الرسول –عليه الصلاة و السلام- قال عن الحسن بن علي : (( إن ابني هذا سيد و لعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين )) (صحيح البخاري ج8 ص: 98-99) ، فأصلح الله به بين أهل العراق و الشام ، و يدل مدح رسول الله للحسن بالإصلاح بين الطائفتين المسلمتين ، على أن الإصلاح هو المحمود ، و لو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يكن تركه محمودا (2) .
و أشير هنا إلى أن أئمة أهل السنة ، كمالك و الأوزاعي و أحمد ، لم يصوّبوا القتال في موقعتي الجمل و صفّين ، لأنه كان قتال فتنة ، غير مأمور به ،و تركه خير من فعله (3) . فعلي لم يكن ملزما بقتال أهل الشام ، لمجرد امتناعهم عن بيعته ، مع كونهم ملتزمين بشعائر الإسلام ،و يطالبون بحق شرعي ، كما أن أهل الشام لم يكن لهم أن يمتنعوا عن بيعته و طاعته ، بل كان عليهم أن يبايعوه و يضعوا يدهم في يده . و على كل فإن الطائفتين مؤمنتان متأولتان يستغفر لهم كلهم و يترحّم عليهم ، لقوله تعالى: (( و الذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ،و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ))-سورة الحشر/10-.
__________
(1) ابن تيمية : منهاج السنة ج2 ص: 220 .
(2) نفسه ج2 ص: 220 .
(3) نفس المصدر ج 1ص:144، ج4ص:281 .(1/22)
كما أنه لا يخفى علينا أنه لم تتحقق من الفتنة مصلحة للمسلمين ، في دينهم و لا في دنياهم ، بل نقص الخير و ازداد الشر ، و سفكت الدماء و قويت العداوة و البغضاء،و تفرّقت الأمة و لم تجتمع على إمام واحد ، و ضعفت طائفة الإمام علي التي كانت أقرب إلى الحق ،و قويت طائفة أهل الشام ( ابن تيمية : المصدر السابق ج2ص:156،223) .و معلوم ان الفعل الذي تكون مصلحته راجحة على مفسدته ، يحصل به من الخير اعظم مما يحصل من عدمه ، فترك القتال كان أفضل و أصلح و أخير .و قد كان علي يرى في القتال طريقا إلى الجماعة و الطاعة ، فاجتهد في الدماء كما اجتهد الخليفة عثمان في الأموال ، و أمر الدماء أخطر و أعظم ، فحصل بها من الشر أضعاف ما حصل من إعطاء الأموال(1) .و يبدو لي أن عليا لو اجتهد أكثر لكسب أهل مكة و الشام، ثم وجه سلاحه للاقتصاص من قتلة عثمان ، و تطهير جيشه منهم ، لأمكنه تجنب كثير من المآسي ، و لما انتهى به الأمر إلى نهايته المأسوية المعروفة .
__________
(1) ابن تيمية : المصدر السابق ج2 ص: 204،223ن ج3ص: 175، 237 .(1/23)
و يتبيّن مما ذكرناه ، أن النصوص الشرعية قد حذّرت من الفتنة ،و حثّت على اعتزالها ، و صنّفت المسلمين إلى أربع طوائف ، أولها اعتزلت القتال ، و قد مدحها الرسول –عليه الصلاة و السلام – على موقفها .و ثانيها و ثالثها طائفتان مسلمتان اقتتلتا عن اجتهاد ، لكل منها تعلق بالحق ، لكن طائفة العراق كانت أقرب إلى الحق من طائفة أهل الشام . و رابعها طائفة مارقة ، جاءت الأحاديث في ذمها و قد قاتلها الإمام علي . مع العلم أن المعتزلين للفتنة المبايعين لعلي لم يقاتلوا معه ، لأنهم فرّقوا بين صحة إمامته ،و بين وجوب القتال معه ، فلا يلزم كونه إماما صحة قتاله لأهل مكة و الشام(1) . و أما الآيات و الأحاديث المتعلقة بالفتنة فهي معالم هادية ،و ضوابط شرعية تعصم الإنسان من الانحراف عن الجادة ،و تمنعه من السقوط في مهاوي الرفض و النصب ،و تنير له طريق أهل السنة ، و تمكنه من معرفة حكم الشرع في القتال الذي جرى بين المسلمين في موقعتي الجمل و صفين .
الفصل الثاني :
مسالة التحكيم في موقعة صفّين (37ه)
أولا : موقف أهل العراق من دعوة أهل الشام إلى الصلح :
لما طالت حرب صفّين بين الطائفتين المسلمتين(سنة:37ه) ،و اشتد الحال على أهل الشام ،و ترجّحت كفة أهل العراق، اقترح عمرو بن العاص على معاوية –رضي الله عنهما- رفع المصاحف ، فوافقه و أمر جيشه برفعها ، فرفعها أهل الشام و دعوا إلى الاحتكام إلى كتاب الله(2) . فما هو موقف الإمام علي و أصحابه من دعوة هؤلاء إلى وقف القتال ؟ ،و ما هو مضمون اتفاق وقف القتال ؟ .
(أ ) موقف الإمام علي و أصحابه من وقف القتال:
__________
(1) محمد آمحزون : المرجع السابق ج 2 ص: 169 .
(2) الطبري : المصدر السابق ج 3 ص: 101 . و اليعقوبي : المصدر السابق ج2 ص: 134 .(1/24)
تزعم الرواية -الشائعة - التي رواها المؤرخون (1) عن الإخباري أبي مخنف لوط بن يحي (ت157ه) ، أنه لما رفع أهل الشام المصاحف ، قال علي –رضي الله عنه – لأصحابه : إن في الأمر مكيدة و يجب الاستمرار في القتال ، و أن رؤوس أهل الشام ، كمعاوية ،و عمرو بن العاص ،و ابن أبي معيط ،و حبيب بن مسلمة ،و ابن أبي سرح ،و الضحاك بن قيس ، ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن ،و أنه قد صحبهم أطفالا و رجالا ، فكانوا شر أطفال و شر رجال . لكن أصحابه لم يوافقوه ، و قالوا له : ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله ، فنأبى أن نقبله . ثم تقدمت إليه –أي إلى علي- جماعة من القراء (2) -الخوارج - و طالبوه بالموافقة على وقف القتال ،و هددوه بالقتل أو يدفعونه إلى خصمه إن لم يوافق ، فرضخ لهم و وافقهم بعدما حذّرهم من مغبة فعلهم هذا ، و أمر قادته بوقف القتال (3). ثم عندما اختار أهل الشام ابن العاص ممثلا عنهم في التحكيم ، اقترح عليّ على أصحابه أحد الرجلين : ابن عباس أو الأشتر النخعي كممثل عنه ، لم يوافقه الأشعث بن قيس و القراء-دعاة وقف القتال- و اختاروا أبا موسى الأشعري ممثلا عن العراقيين ، فلم يقبل علي ، لكن إصرارهم على موقفهم اضطره إلى الموافقة على تعيين أبا موسى ممثلا للعراقيين في
__________
(1) منهم : الطبري ،و اليعقوبي ،و المسعودي ،و ابن الأثير ،و ابن الجوزي ،و الذهبي ، و ابن كثير .
(2) منهم : مسعر بن فذكي التميمي ،و زيد بن حصين الطائي . الطبري: المصدر السابق ج 3ص: 101 .
(3) انظر : الطبري: نفس المصدر ج3 ص: 101، 102، 103،105،106،107.و المسعودي : المصدر السابق ج2ص: 469 .و اليعقوبي : المصدر السابق ج 2 ص: 134 .و ابن كثير : البداية ج 7 ص: 191 ، 192، 195 ، 291، 295 . و ابن الأثير : الكامل في التاريخ ج3 ص: 193 .و ابن الجوزي ك المنتظم ج5 ص: 121، 122 123. ابن طاهر المقدسي : البدء و التاريخ ج 5 ص:221 220 .و الذهبي : سير أعلام النبلاء ج2 ص: 283، 284 .(1/25)
التحكيم المرتقب عند اجتماع الحكمين . ثم كتب الطرفان وثيقة الصلح (صفر 37ه) ،و فيها تم الاتفاق على أن يلتقي الحكمان ببلدة دومة الجندل-على الطريق بين دمشق و المدينة- في رمضان من سنة 37ه ،و لهما أن يؤخرا اللقاء إن أرادا ذلك إلى العام المقبل و يكون اللقاء ببلدة أذرح-جنوب بادية الشام بين الأردن و السعودية- ، و عليهما أن يحتكما إلى الكتاب و السنة (1) .
ذلك هو موجز الرواية المشهورة عن وقف القتال في صفّين، و اختيار الحكمين و كتابة وثيقة الصلح ، و هي التي سأنقدها اسنادا و متنا لإظهار قيمتها التاريخية من حيث الصحة و البطلان . ففيما يخص إسنادها فإن من رواتها : أبو مخنف لوط بن يحي(ت157ه) ، قال عنه علماء الجرح و التعديل هو: إخباري تالف لا يوثق به ، ضعيف ليس بثقة و ليس بشيء ، و انه شيعي محترق صاحب أخبارهم (2).فهذا الرجل إذن مطعون فيه ، و غير موضوعي ، و هذا يعني أن روايته مرفوضة من حيث الإسناد.
__________
(1) انظر : المصادر السابقة ،و ابن قتيبة: الإمامة و السياسة ، الجزائر ، موفم ، ج1 ص: 196ن 197 .
(2) الذهبي : ميزان الاعتدال حققه محمد البجاوي ، بيروت دار احياء الكتب العربية ، ج 3 ص: 419-420(1/26)
و أما متنها فسأنقده من عدة جوانب ، أولها : موقف القراء من وقف القتال و التحكيم ، فهي –على ما ذكره الطبري-ذكرت أن القراء وافقوا على وقف القتال و اجبروا عليا على موافقتهم . لكن هذه الرواية يوجد ما يدفعها و يناقضها ، فمن ذلك أنه روي أن عليا-رضي الله عنه – عندما رجع من صفين إلى الكوفة انفصلت عنه جماعة من القراء –الخوارج- بمكان يعرف بحروراء ،و خرجت عليه و آذنته بالحرب( الطبري: المصدر السابق ج3ص: 105) ، و هذا يعني ان هؤلاء لم يكونوا موافقين على وقف القتال و الصلح منذ البداية ، لذلك خرجوا على علي بن أبي طالب . و قد يقال –دفعا لما ذهبت إليه – انه روي أن القراء لما اعتزلوا عليا أرسل إليهم ابن عباس ، ثم التحق به و ناظرهم فقالوا له : نحن الآن غير موافقين على وقف القتال و التحكيم ، و أننا قد كفرنا ،و ها نحن نعترف بذنوبنا و نتوب ، ثم طالبوه بالتوبة فتاب عما صدر عنه ، فبايعوه و دخلوا معه الكوفة ( الطبري:المصدر السابق ج3ص: 105 ) . و هذا خبر غير صحيح ، لأن هذا الاتفاق المزعوم بين علي و الخوارح ينقضه أمران ، أولهما ان الطرفين حدثت بينهما معركة النهروان الشهيرة(1).و ثانيها أن عليا استمر على عهده مع اهل الشام ، و لم ينقضه و أرسل ممثله إلى التحكيم بدومة الجندل (الطبري: المصدر السابق ج 3ص: 111) .
__________
(1) انظر : الطبري: المصدر السابق ج 3 ص: 115 و ما بعدها .(1/27)
و مما يزيد الأمر وضوحا ،و يدل على أن الخوارج كانوا رافضين للصلح ابتداء ،و لم يرفضوه بعد صفّين ، ان هناك روايات ذكرت ذلك ، أولها أن الذي أجبر عليا على وقف القتال و الصلح هو الأشعث بن قيس ،مع كثير من أهل اليمن، و ليس القراء و إنما هم -و على رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي- أنكروا على الإمام علي قبوله التحكيم ، و قالوا له : إنك أوصلتنا إلى الفرقة و المعصية و الذل في الدنيا و الآخرة ، ثم دعوه إلى قتال عدوهم ( ابن قتيبة: المصدر السابق ج1 ص: 190) .و الرواية الثانية ، فيها أنه لما حمل الأشعث بن قيس كتاب الصلح ليقرأه على الناس ،و مر بطائفة من بني تميم و قرأه عليهم ، قال له رجل يعرف بعروة بن أدية : (( تحكّمون في أمر الله عز و جل الرجال ، لا حكم إلا لله ، ثم شد بسيفه و ضرب عجز دابته ضربة خفيفة و اندفعت الدابة ، و صاح به أصحابه : أن أملك يدك ، فرجع )) ، فغضب للأشعث قومه و أناس كثير من اليمن ، و كاد الأمر ان يؤدي إلى فتنة لولا تدخل العقلاء (الطبري: المصدر السابق ج3ص: 104 ) . فهذه الرواية صريحة في أن الرجل الرافض للصلح هو من القراء –الخوارج- لأنه رفع شعارهم : لا حكم إلا لله .و هذه الحادثة كانت قبل الانتهاء من معركة صفين .
و الرواية الثالثة مفادها أن عليا لما أراد إرسال ممثله للتحكيم المتفق عليه ،أتاه رجلان من الخوارج ، هما : زرعة بن برج الطائي و حرقوص بن زهير السعدي ،و طالباه بالتوبة عن خطيئته ،و بالرجوع عن التحكيم ،و الخروج إلى مقاتلة عدوهم ، فقال لهما : إنكم قد عصيتموني في البداية ، و أنه قد اعطى العهد و لا يستطيع نكثه (1) .فهذه الرواية تشير إلى أن الخوارج كانوا رافضين للصلح قبل أن يجتمع الحكمان ،.و فيها –أيضا – نقض دعوى ان عليا اتفق مع الخوارج ،و أنه تاب عما صدر منه ،و ان الخوارج بايعوه من جديد ،و دخلوا معه إلى الكوفة .
__________
(1) الطبري : المصدر السابق ج3 ص: 113 .(1/28)
و الرواية الرابعة إسنادها صحيح ، رواها الإمام أحمد و ابن أبي شيبة ، و مفادها انه لما أرسل أهل الشام مصحفا لأهل العراق ،و وافق علي بن أبي طالب على عرضهم ، جاءته الخوارج – و هم القراء أنذاك- و أنكروا عليه فعلته ، و طالبوه بالنهوض لقتال أهل الشام(1) . و الرواية السادسة هي خبر موجز ، ذكره الإمام البخاري ، و يحتاج إلى شرح لفهمه ، و مفاده أن التابعي حبيب بن أبي ثابت قال : أتيت أبا وائل أسأله ، فقال: كنا بصفين ، فقال رجل –أرسله معاوية- : ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله ، فقال علي : نعم . فقال سهل بن حنيف -للقراء -: اتهموا أنفسكم ،و في رواية : اتهموا رأيكم ، و ذكّرهم بيوم الحديبية عندما عارضوا الصلح الذي تم بين الرسول- صلى الله عليه و سلم- وبين المشركين ، فأنزل الله سورة الفتح تأييدا لرسوله(2) . و قد ساق هذا الصحابي حديث الحديبية ، للقراء عندما رفضوا الصلح و التحكيم و أصروا على مواصلة القتال ، فدعاهم إلى مطاوعة إمامهم علي ،و لا يخالفونه لأنه اعلم بالمصلحة منهم ، و ذكّرهم بما جرى يوم الحديبية بمعارضة الصحابة للصلح ، ثم ظهر لهم أن رسول الله كان على صواب( محمد أمحزون: المرجع السابق ج2 ص:218 ) .
__________
(1) ابن كثير : المصدر السابق ج7 ص: 291 . و محمد آمحزون : المرجع السابق ج 2 ص: 216-217 .
(2) صحيح البخاري كتاب التفسير ، باب : إذ يبايعونك تحت الشجرة و كتاب: الإعتصام بالكتاب و السنة .(1/29)
و يتبيّن مما ذكرناه ، أن الخوارج كانوا رافضين لوقف القتال و التحكيم منذ البداية ، وان الرواية الشائعة عنهم من أنهم هم الذين دعوا إلى وقف القتال و الصلح ،و اجبروا عليا على الموافقة ، هي رواية غير صحيحة . وهذا الرأي قال به بعض الخوارج الإباضيين المعاصرين ، منهم : ابو اسحاق اطفيش ،و سليمان بن داود بن يوسف ، فالأول ذكر أن الخوارج أبوا التحكيم ،و أنكروا على عليّ رضوخه لدعاة وقف القتال و التحكيم ،و على رأسهم الأشعث بن قيس ( الفرق بين الإباضية و الخوارج ، دم د ت ص : 7، 8 ).و الثاني أنكر أن يكون الخوارج هم الذين ألزموا عليا على قبول التحكيم ثم تراجعوا عن رأيهم ،و قال إن هذا زعم باطل لا سند له ،و أن الأشعث بن قيس و قومه –من أهل اليمن- هم الذين أرغموا عليا على قبول التحكيم و اختيار أبي موسى الأشعري(1) . و يرى الباحث محمد أمحزون أن الزعم بأن القراء يتحملون مسؤولية وقف القتال و التحكيم و تعيين أبي موسى الأشعري حكما ، ما هو إلا (( فرية تاريخية اخترعها الإخباريون الشيعة الذين كان يزعجهم أن يظهر علي –رضي الله عنه- بمظهر المتعاطف مع معاوية و أهل الشام ،و أن يرغب في الصلح مع أعدائهم التقليديين .و من جهة أخرى يحمّلون المسؤولية أعدائهم الخوارج و يتخلّصون منها ،و يجعلون دعوى الخوارج تناقض نفسها ، فهم الذين أجبروا عليا على قبول التحكيم ، و هم الذين ثاروا عليه بسبب التحكيم )) (2) . لكن الملاحظ أن الشيعة و الخوارج لم يعترفوا بالحقيقة ، فلم يعترف أي واحد منهم ان عليا قبل الصلح طواعية و عن اقتناع ، فالشيعة قالوا أن الخوارج أجبروه على ذلك ،و الخوارج قالوا أن الأشعث بن قيس و قومه هم الذين حملوه على قبول الصلح .
__________
(1) الخوارج هم أنصار الإمام علي ، الجزائر ، دار البعث ص: 104، 105، 106 ن107 .
(2) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة ج2 ص: 215 .(1/30)
و أما الجانب الثاني في نقدنا لرواية الطبري السابق ذكرها ، فهو يخص ما روته من أن عليا رفض وقف القتال و التحكيم ،و إنما وافق على ذلك مجبرا ، و هذا الخبر المشهور ينقضه خبر صحيح ، رواه احمد بن حنبل و البخاري و ابن أبي شيبة ، مفاده انه لما أرسل أهل الشام بمصحف إلى علي بن أبي طالب ،و دعوه إلى الإحتكام إليه ،و قالوا له : بيننا و بينكم كتاب الله : (( ألم تر إلى الذين أتوا نصيبا من الكتاب ، يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم و هم معرضون ))-سورة آل عمران /23- . فقال علي : نعم أنا أولى بذلك ، بيننا و بينكم كتاب الله . فجاءه القراء- الخوارج – و انكروا عليه فعلته (1) . فيتبين من هذا أن الإمام علي قبل التحكيم من تلقاء نفسه بعيدا عن أي ضغط ، تماشيا مع ما يوجبه الشرع من الرجوع إلى الكتاب و السنة .
__________
(1) البخاري : صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب إذ يبايعونك تحت الشجرة .و ابن كثير : البداية ج7 ص: 291 .و محمد أمحزون : المرجع السابق ج2 ص: 216-217 .(1/31)
و الجانب الثالث في نقدنا للرواية المشهورة ، يخص ما روته عن علي من أنه قال عن رؤوس أهل الشام -لما رفعوا المصاحف- : (( فإن معاوية ،و عمرو بن العاص ، و ابن أبي معيط ،و حبيب بن مسلمة ، ابن أبي سرح ، و الضحاك بن قيس ، ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن ، أنا أعرف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالا و صحبتهم رجالا ، فكانوا شر أطفال و شر رجال )) ( الطبري: المصدر السابق ج3ص:101 ) . و هذا النص يحمل في طياته دليل بطلانه ، لأنه إذا كان علي بن أبي طالب ولدسنة (18أو20ق ه)، فإنه من الطبيعي جدا أن يصحب في طفولته معاوية (ولدسنة:17ق ه) ،و عمرو بن العاص(ولد سنة:20ق ه) لأنهما من سنه ، لكن لا يمكن ان يصحب في طفولته حبيب بن مسلمة، و الضحاك بن قيس ،و الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، لأن الأول و لد سنة 2 ق ه ،و الثاني ولد سنة: 8ه أو نحو: 4ق ه ، و الثالث كان صبيا عند فتح مكة (1)، و علي كبير متزوّج ! . و مما يزيد هذه الرواية بطلانا أنها ذكرت من بين رؤوس أهل الشام : عبد الله بن سعد بن أبي سرح ،و عقبة بن أبي معيط ، فالأول لم يبايع عليا و لا معاوية ،و اعتزل الفتنة ،و التحق بفلسطين إلى أن توفي بها سنة : 36ه قبل معركة صفين . و الثاني هو الآخر اعتزل الفتنة و لم ينظم إلى أية طائفة(2) .
( ب) :مضمون وثيقة الصلح :
__________
(1) انظر: الذهبي: سيّر أعلام النبلاء ج 3 ص: 162، 189 .و ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب ، دمشق ، دار بن كثير ، ج1 ص:222 .و ابن هشام : مختصر سيرة بن هشام ، الجزائر ، مكتبة النهضة ص: 262 .و ابن كثير: البداية ج8 ص: 643 . أحمد بن حنبل : المسند رقم الحديث : 16426 ج4 ص :32 . البيهقي : سنن البيهقي ج 9ص: 54-55 .
(2) الذهبي :السير ج 3 ص: 33 ،35 .و الخلفاء ص: 318 .و ابن العماد :شذرات ج 1 ص: 210 .و الطبري: المصدر السابق ج2 ص: 647 . و ابن العربي : العواصم: 96 .و ابن حبان : الثقات ج 3 ص: 430 .(1/32)
روى الطبري –نقلا عن أبي مخنف لوط- أن كتاب التحكيم نص على أن يحتكم الحكمان إلى كتاب الله ، فإن لم يجدا فيه فبالسنة الجامعة غير المفرقة .و في رواية أخرى أن يحتكما إلى القرآن و يختارا لأمة محمد –عليه الصلاة و السلام- ( الطبري: المصدر السابق ج3 ص: 103، 105) .و ذكر اليعقوبي و المسعودي أنه على الحكمين أن يحتكما إلى كتاب الله و لا يتجاوزانه ،و لا يحيدان عنه إلى هوى و مداهنة ( تاريخ اليعقوبي: ج2ص: 135.و مروج الذهب ج2ص: 471-472) . و سينصب نقدي لهذه الروايات على الإسناد أولا ، فرواية الطبري الأولى في إسنادها أبو مخنف لوط بن يحي ، و هو اخباري تالف متعصب لا يوثق به ( الذهبي : ميزان الإعتدال ج3ص:419-420) .و أما روايته الثانية ففي إسنادها : عبد الله بن أحمد ،و سليمان بن يزيد ، فالأول غير ثقة ،و الثاني ليس بالقوي لا يحتج به ( الذهبي: نفس المصدرج2ص:228،390،391) .و أما رواية اليعقوبي و المسعودي ، فهما لم يذكرا لما أورداه إسنادا ، و من ثم فلا قيمة لما ذكراه من حيث الإسناد ، مع العلم أنه يجب علينا اعتبار كل منهما الراوي الوحيد في إسناد روايته ، و بما أنهما مؤرخان شيعيان ، فإنه لا يوثق بهما ، لأن أهل العلم بالنقل اتفقوا على أن الشيعة هم أكذب الطوائف ،و الكذب فيهم قديم ،و حذّروا من الأخذ عنهم ، لأنهم يضعون الحديث و يتخذونه دينا(1) .
__________
(1) ابن تيمية : المنهاج ج1 ص: 13 و الذهبي ميزان الاعتدال ج3 ص: 420، 558 ، 559 ج4 ص: 304 .(1/33)
و أما ثانيا ، فإن هذه الروايات لم تتفق على المصدر الذي يحتكم إليه الحكمان ، فالأولى نصت على أنهما يحتكمان إلى الكتاب أولا ، ثم السنة ثانيا . و الثانية اكتفت بذكر الكتاب دون ذكر لشيء آخر .و الثالثة أكدت على ضرورة الاحتكام إلى القرآن الكريم دون غيره ، فلا يتجاوز و لا يحاد عنه . أفلا يبعث هذا التباين الواضح الغريب على الشك في صحة هذه الروايات ؟ و ألا يدل ذلك على تلاعب الإخباريين بها ؟ .
و ثالثا أن هذه الروايات قد أشارت إلى المصدر الذي يحتكم إليه الحكمان ، لكنها ضربت صفحا عن الموضوع الذي يناقشانه و يبتان فيه ، . أليس من الغريب جدا أن لا يذكر موضوع النزاع الذي يبحث له الحكمان عن حل ! ؟ . لكن الرواية الثالثة لمّحت لذلك بطريقة غامضة حين قالت : (( فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن ،و يخفضا ما خفض القرآن ، و أن يختارا لأمة محمد –صلى الله عليه و سلم- ))(1). لكنها لم تقل لنا ماذا يختار الحكمان لأمة محمد ، فهل يختاران لها حلا لقضية قتلة عثمان التي أوصلت المسلمين إلى الاقتتال ، أم يختاران لها خليفة جديدا يتولى أمر الناس ؟ . ليس لتلك الروايات إجابة عن هذا الإشكال ، مما يدل على تلاعب الرواة بها . لكن هذا الإشكال أزالته رواية أخرى رواها الذهبي حددت موضوع التحكيم صراحة ، و فيها أن عليا و معاوية –رضي الله عنهما- قد نصا في وثيقة الصلح على ان من ولاه الحكمان الخلافة فهو الخليفة ،و من اتفقا على خلعه خلع(2). لكن هذا الخبر تطعن فيه أمور ، أولها أنه يفتقد إلى الإسناد ،و ثانيها أنه تعرّض لقضية الخلافة في وقت كان سبب الخلاف هو قضية الاقتصاص من قتلة عثمان و ليس مسألة الخلافة ، فجيش الشام لم يكن ينكر أحقية الإمام علي في الخلافة ، و إنما كان يطالب بالاقتصاص من قتلة عثمان كشرط للبيعة . و ثالثها أن أهل الشام لم يكونوا في موقف قوة
__________
(1) الطبري: المصدر السابق ج 3 ص: 105 .
(2) الذهبي : الخلفاء الراشدون ص: 332 .(1/34)
لكي يشترطوا ذلك الشرط الخطير ، فهم يكفيهم أن يرفع عنهم العراقيون سيوفهم- بعدما ترجّحت كفتهم – لينجوا بأنفسهم ، كما أن أهل العراق من المستبعد جدا أن يقبلوا بإمكانية تغيير علي بمعاوية و كفة الحرب لصالحهم . فإقحام موضوع الخلافة في وثيقة الصلح لا ينسجم مع سياق الحوادث و أسباب النزاع في الجمل و صفين ؛ الأمر الذي يؤكد أن هذه الرواية قد تعرّضت للتحريف و التلاعب .
و ختاما لهذا المبحث يتبين لنا منه أن الزعم بأن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-قد أجبر على وقف القتال و قبول الصلح هو زعم باطل ، و الصواب هو أن عليا هو الذي وافق عليه طواعية دون إكراه ، لا من الأشعث بن قيس و قومه ، و لا من الخوارج الذين أصروا على مواصلة القتال لا على وقفه . كما أن مضمون وثيقة الصلح يؤكد تعرضها للتحريف و التلاعب .
ثانيا :التحقيق في مسألة قرار الحكمين :
اجتمع الحكمان : أبو موسى الأشعري ،و عمرو بن العاص –رض- بدومة الجندل ، و قيل بأذرح( 37ه ) ، للبت في التحكيم الذي نص عليه اتفاق الصلح في موقعة صفين ،و حضر معهما جماعة من الصحابة المعتزلين للحرب كعبد الله بن عمر، و عبد الله بن الزبير، مع حضور نحو : 800 رجل من أهل الشام و العراق كشهود على التحكيم(1) .فماذا دار بين الحكمين ؟ و على ماذا اتفقا ؟
(1): الرواية المشهورة عن اجتماع الحكمين :
__________
(1) الطبري: المصدر السابق ج3 ص: 101، 105،106 .و اليعقوبي : المصدر السابق ج2 ص: 135 .و المسعودي : ج2 ص:475 .(1/35)
روى الطبري عن أبي مخنف لوط ين يحي ، أن مما دار بين الحكمين أن عمرو بن العاص اقترح على أبي موسى الأشعري تولية معاوية بن أبي سفيان الخلافة ، أو يتولاها هو شخصيا ، فرفض أبو موسى و قال له :إن هذا الأمر شورى بين المسلمين ،و لأهل الدين و الفضل ، ثم اقترح عليه تعيين عبد الله بن عمر ، فأبى عمرو بن العاص ،و اقترح هو بدوره ابنه عبد الله ،و وصفه بالفضل و الصلاح ، فقال أبو موسى : ابنك رجل صدق ، لكنك غمسته في هذه الفتنة . و في نهاية الأمر اتفق الحكمان على خلع معاوية و علي ، وأن يجعل الأمر شورى بين المسلمين ، فنهض أبو موسى ليعلن الاتفاق، فتقدم إليه عبد الله بن عباس و حذّره من أن يخدعه ابن العاص ،و أمره بأن لا يتقدم عليه في الكلام لأنه-أي عمرو- رجل غادر ، إذا تكلمت أنت الأول خالفك بعد ذلك .و تقول الرواية ان ابن عباس حذّر أبا موسى لأنه كان مغفلا ، ثم تقدم أبو موسى و قال أمام الحاضرين : (( إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ،و لا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيّ و رأي عمرو عليه ،و هو أن نخلع عليا ومعاوية و تستقبل هذه الأمة هذا الأمر ، فيولوا منهم من أحبوا عليهم ، و إني قد خلعت عليا و معاوية ، فاستقبلوا أمركم و ولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا ، ثم تنحى و أقبل ابن العاص فقام مقامه ، فحمد الله و أثنى عليه و قال : إن هذا قد قال ما سمعتم و خلع صاحبه ، و أنا اخلع صاحبه كما خلعه ،و اثبت صاحبي معاوية ، فإنه ولي عثمان بن عفان و الطالب بدمه و أحق الناس بمقامه )) ، فقال أبو موسى : مالك لا وفقك الله ، غدرت و فجرت ! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث ،و تتركه يلهث . فقال عمرو : إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا ، ثم انصرف مع أهل الشام إلى معاوية ،و سلّموا عليه بالخلافة . و قال ابن عباس : قبّح الله رأي أبي موسى ، حذّرته و أمرته بالرأي فما عقل . فكان أبو موسى يقول : حذرني ابن عباس(1/36)
غدرة الفاسق ، لكنني أطمأننت إليه ،و ظننت أنه لن يؤثر شيئا على نصيحة الأمة(1) .
و في رواية أخرى لابن قتيبة و المسعودي أن الحكمين اتفقا على خلع علي و معاوية ، و تعيين عبد الله بن عمر بن الخطاب خليفة للمسلمين( الإمامة و السياسة ج1ص: 203.و مروج الذهب ج2ص:478،479).و في رواية –لابن العماد الحنبلي- أن الحكمين اتفقا على أن يخلع كل واحد صاحبه ، فخلع أبو موسى عليا ، و لم يخلع عمرو بن العاص معاوية بن أبي سفيان(2) .
ذلك هو موجز الرواية المشهورة عن اجتماع الحكمين و ما انتهيا إليه ، و سينصب نقدي لها على الإسناد و المتن ، ففيما يخص الإسناد فإن من رجالها –حسب رواية الطبري- أبو مخنف لوط و هو اخباري متعصب ضعيف لا يوثق به عند علماء الجرح و التعديل ،و هذا يعني أن رواياته مرفوضة من حيث الإسناد .و أما متنها فهو في غاية الاضطراب و الغرابة ،و سينصب نقدي له على: موضوع الاجتماع ، و شخصية الحكمين ، و قرا الحكمين.
فبخصوص الموضوع ، فإن الرواية قد صرّحت أن الحكمين قد ناقشا موضوع الخلافة و اتخذا منه موقفا مشتركا . و هذا أمر مشكوك في صحته ،و مستبعد جدا و يصعب تصديقه ، لأن سبب الخلاف بين الطائفتين هو قضية قتلة عثمان و ليس مسألة الخلافة ، إذ لم يكن هذا الأمر قد ظهر ، و لم يكن أهل الشام يطالبون بالخلافة لمعاوية ،و ما كانوا ينكرون حق علي فيها . فهل يعقل أن يترك الحكمان البت في سبب الفتنة ، و يناقشان أمرا غير مطروح البتة ! ؟ . أليس هذا من علامات تلاعب الإخباريين بالرواية و تصرّفهم فيها ؟ .
__________
(1) الطبري: المصدر السابق ج 3 ص: 111، 112،113 . الذهبي: الخلفاء ص: 333 .و ابن سعد : الطبقات الكبرى ج 1ص: 24 ،و ج4 ص: 194 .و المسعودي:مروج ج2 ص: 280 . و ابن الأثير : الكامل ج 3 ص: 207 .و اليعقوبي : المصدر السابق ج 2 ص: 135-136 .و ابن العماد : شذرات ج1 ص: 215
(2) شذرات الذهب ج 1ص: 215 .(1/37)
و أما بالنسبة لشخصية الحكمين أبي موسى ، ابن العاص-رضي الله عنهما- فإن الرواية المشهورة قد وصفت الأول بأنه مغفل و ضعيف الرأي ، و الثاني وصفته بأنه مكار و مخادع و داهية ، فهل لهذه المزاعم من صحة ؟ فبالنسبة لأبي موسى فإن المعروف عنه يتنافى تماما مع ما وصفته به رواية التحكيم ، فقد أرسله الرسول-عليه الصلاة و السلام- إلى اليمن مع معاذ بن جبل ،و ولاه عمر بن الخطاب إمارة البصرة و الكوفة ،و أثنى عليه بالفهم و خصّه بكتابه الشهير في آداب القضاء و قواعده .و كان من أعلم الصحابة و اقضاهم و جاهد زمن الرسول و بعده ،و هو الذي فتح مدينتي اصفهان و تستر(1) .فهل يعقل أن يكون من هذه صفاته و أعماله مغفلا ضعيف الرأي ؟ و هل يقود المغفل الجيوش و يتولى القضاء و الإمارة ؟ أليس ما اتهم به أبو موسى هو بهتان مكشوف و كذب مفضوح ؟
و قد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي المالكي(ق:6ه) أن الطائفة التاريخية الركيكة عندما أرادت تزييف التاريخ روّجت بين الناس أن أبا موسى كان أبلها ضعيف الرأي محدود القوى ،و أن عمرو بن العاص كان داهية ضربت الأمثال بدهائه ، كل ذلك ليسهل لها تحقيق ما أرادته ( العواصم ص : 127 ) .و مما يؤسف له أن الباحث توفيق المدني قد وقع تحت تأثير مزيفي التاريخ ، عندما أساء الأدب مع الصحابي أبي موسى الأشعري ، فوصفه بأنه درويش و لم يستح من ذلك(2) .و إني لأتعجب منه كيف تجرأ على وصف صحابي جليل بذلك الوصف المشين المكذوب، إرضاء لمؤلف كتاب : الخوارج هم أنصار الإمام علي(3) .
__________
(1) انظر: الذهبي : السير ج2 ص: 274،275،279 .و ابن العربي: العواصم ، هامش ص: 126-127 .
(2) سليمان بن داود: الخوارج هم أنصار الإمام علي/: 16 .و توفيق المدني قدّم لهذا الكتاب المليء بالكذب
(3) سبق و أن أثبتنا أن عليا وافق على وقف القتال طواعية ،و أن الخوارج هم الذين عارضوه ، فعندما لم يوافقهم خرجوا عليه بالسلاح فقاتلهم ، فكيف يكونون أنصاره ؟ ! .(1/38)
و أما عمرو بن العاص ، فقد شهد له التاريخ بالفطنة و الذكاء و الحزم ، و أنه أسلم قبل الفتح و هاجر إلى المدينة طواعية ، و مدحه الرسول-صلى الله عليه و سلم- بالإيمان عندما قال : (( أسلم الناس و آمن عمرو بن العاص ))- حديث حسن رواه أحمد و الترمذي-،و ولاه إمرة جيش غزوة ذات السلاسل و تحت إمرته كبار الصحابة ، و حديثه مروى في الصحيحين و غيرهما من كتب الحديث(1) . لذا فإنه من المستبعد جدا أن يصدر عنه ما نسب إليه من مكر و خداع و كذب , و إنما المحترفون المزيفون للتاريخ وجدوا في شخصيته فرصة للطعن فيه عن طريق المبالغة في وصف دهائه ، ليسهل لهم الكذب و التحريف و التلاعب بالإخبار .
و فيما يخص قرار الحكمين و ما جرى بينهما من نقاش ، فيلاحظ عليه أولا أن هنالك اختلافا بين الروايات في الأمر الذي اتفق عليه الحكمان ، فرواية تقول أنهما اتفقا على خلع علي و معاوية ، و تركا الأمر شورى بين المسلمين. و أخرى تقول أنهما خلعا الاثنين و عينا ابن عمر خليفة للمسلمين ، و رواية ثالثة تقول أنهما اتفقا على أن يخلع كل واحد صاحبه ، دون التطرّق لمصير الخلافة ، أفلا يدل هذا الاختلاف في قرار الحكمين على تلاعب الرواة بتلك الروايات ؟.و ثانيا إنه يتبين للمتدبر فيما جرى بين الحكمين-حسب الروايات- أن في الأمر ما يوحي بأنه مدبر و مخطط له سلفا ،و أنه مسرحية غير محبوكة الأدوار ، حاكها محترفوا تزوير التاريخ ، فمن ذلك أن رواية الطبري زعمت أن أبا موسى عندما أراد التكلم ، تدخل ابن عباس فنصحه و حذّره من مكر ابن العاص ، و كأن أبا موسى طفل لا يفهم و غبي أبله ، و هذا باطل لا يصح في حقه ،و قد سبق و أن بينت أنه كان عالما متبحرا ،و قائدا مظفرا ،و قاضيا فطنا ،و أميرا محنكا .
__________
(1) الذهبي: المصدر السابق ج 3 ص: 55،56 .(1/39)
و ثالثا أن الروايات التي ذكرت حادثة التحكيم قد ضخّمت أمر من يتكلم الأول ، الأمر الذي جعل ابن عباس يتدخل و ينصح أبا موسى بالتأخر ليسبقه ابن العاص، ثم أظهرت الرواية أن أبا موسى لم يستجب و لم يتفطن للحيلة فكان ذلك سبب فشله و مكر عمرو به . و هذا –في اعتقادي- تعليل مضحك سخيف ،و كلام فارغ يدل على تلاعب الرواة بتلك الروايات، لأن المسألة ليست في التقدم و التأخر ، فإذا افترضنا أن ابن العاص كان فعلا يريد المكر بأبي موسى ، ففي مقدوره أن يتكلم هو الأول و يحقق ما خطط له ، فيقول –مثلا- : لقد وافق أبو موسى على خلع علي و معاوية ، و أنا أوافقه على خلع علي ، و لا أوافقه على عزل معاوية ، فهو ولي عثمان و المطالب بدمه،و أولى من يخلفه في منصبه . أليس بهذا التصرف يكون قد قطع الطريق كلية أمام أبي موسى ؟
و رابعا انه يلاحظ على ما جرى بين الحكمين-بناء على ما قالته الروايات-أنهما تسابا و تشاتما ،و طعن بعضهما في بعض .و هذا أمر مستبعد جدا ، لأنه يتنافى مع المتواتر من أخلاق الصحابة و آدابهم ، و قد مدحهم القرآن الكريم و أثنى عليهم . و قد يزعم الطاعنون في الصحابة بان هؤلاء –بعدما اقتتلوا – انحرفوا عن الشرع ،و فقدوا أخلاقهم و آدابهم . و هذا زعم باطل لا يصدق على الصحابة ، لأنهم دخلوا في الفتنة مجتهدين متأولين طالبين للحق ،و لم يدخلوها منحرفين ظالمين خارجين عن الدين ، فهم طائفتان مؤمنتان مقتتلتان ، يصدق عليهم قوله تعالى : (( و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا . . .)) .(1/40)
و لأبي بكر بن العربي ،و ابن تيمية ، رأيان في قرار التحكيم جديران بالتدبر و التنويه ، فالأول يقول : إن الناس قد تحّكموا في أمر التحكيم (( فقالوا فيه ما لا يرضاه الله ،و إذا لحظتموه بعين المروءة –دون الديانة- رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب- في الأكثر- عدم الدين ، و في الأقل جهل مبين))، و أما ما روى عما جرى بين الحكمين فهو(( كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط و إنما هو شيء أخبر به المبتدعة ،و وضعته التاريخية للملوك فتوارثه أهل المجانة و الجهارة بمعاصي الله و البدع ))(1) .و أما الثاني فيرى أن الحكمين عندما التقى اتفقا على عزل معاوية بن أبي سفيان عن ولايته على الشام لا عزله عن كونه خليفة ، لأنه لم يكن خليفة و لم يدع لنفسه الخلافة إلا بعد اجتماع الحكمين(2) .
و ختاما لهذا المبحث يتبين من مناقشتنا للرواية المشهورة عن اجتماع الحكمين ، أن إسنادها غير صحيح ،و متنها مضطرب مشكوك فيه ،و مظاهر التحريف بادية عليه ، لذا لا يمكن الوثوق فيها و الاحتجاج بها و الاطمئنان إليها ،و يزيدها ما يأتي ضعفا و استبعادا .
(2): روايات تخالف الرواية المشهورة عن قرار الحكمين :
__________
(1) العواصم من القواصم ص : 125، 128 .
(2) ابن تيمية : متهاج السنة ج 2 ص:202، ج3 ص: 222 .(1/41)
هي ثلاث روايات تخالف المشهور عن قرار الحكمين ، أولها ما رواه الطبري عن الشهاب الزهري ، مفادها أن الحكمين لما اجتمعا حضرت طائفة من الصحابة المعتزلين للحرب ،و وفد أهل الشام ،و لم يحضر وفد أهل العراق ، فكان الذي جرى بين الحكمين أن قال عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري : (( يا أبا موسى أأنت على أن نسمي رجلا يلي أمر هذه الأمة ؟ فسمه لي فإن أقدر على أن أتابعك ، فلك عليّ أن أتابعك ،و إلا فلي عليك أن تتابعني . قال أبو موسى : أسمي لك عبد الله بن عمر …..فقال عمرو : إني أسمي لك معاوية بن أبي سفيان ، فلم يبرحا مجلسهما حتى تسابا ، ثم خرجا إلى الناس فقال أبو موسى : إني وجدت مثل عمرو بن العاص مثل الذين قال الله –عز و جل –فيهم : (( و اتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها )) – سورة الأعراف /175- ، فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال : أيها الناس وجدت مثل أبي موسى ، كمثال الذي قال عز و جل : (( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا ))-سورة الجمعة/5- ،و كتب كل واحد منهما مثله الذي ضربه لصاحبه إلى الأمصار ))(1) .
هذه الرواية إسنادها غير صحيح ، لأن من رجاله : عبد الله بن أحمد ،و سليمان بن يزيد ، الأول غير ثقة ، و الثاني ليس بالقوي و لا يحتج به (الذهبي : ميزان الاعتدال ج2 ص:228،390،391 ) ، و هي تشبه الرواية المشهورة فيما جرى بين الحكمين ، لكنها ذكرت ما لم يرد في الرواية المشهورة فقد ذكرت أن وفد العراق لم يحضر إلى التحكيم ،و أن الحكمين تسابا قبل خروجهما إلى الناس ، فلما خرجا إليهم طعن كل منهما في الآخر ثم تفرّقا دون ذكر لحكاية الاتفاق و العزل و المكر . فهذه الرواية – على ضعفها-يمكن استخدامها كدليل ضعيف لنقد الرواية المشهورة الضعيفة هي الأخرى ، لضرب الضعيف بالضعيف ، و اظهار مدى تلاعب الاخباريين بالروايات التاريخية و تصرفهم فيها .
__________
(1) الطبري: المصدر السابق ج 3 ص: 105-106 .(1/42)
و أما الرواية الثانية فرواها المسعودي ، و فيها أنه لم تم اللقاء ، قال عمرو بن العاس لأبي موسى : (( سم ّ من شئت حتى أنظر معك ، فسمّ أبو موسى ابن عمر و غيره ، ثم قال لعمرو : قد سميت أنا ، فسمّ أنت ، قال : نعم أسمي لك أقوى هذه الأمة ،و أسداها رأيا ،و اعلمها بالسياسة ، : معاوية بن أبي سفيان ، قال : لا و الله ما هو لذلك بأهل ، قال : فآتيك بآخر ليس هو بدونه ، قال : من هو ؟ قال : أبو عبد الله بن العاص،-أي نفسه- فلما قالها علم أبو موسى أنه يلعب به ، فقال : فعلتها لعنك الله ،و لعن الذي أرسلك )) ، فتسابا و لم يخطبا على الناس و تفرقا ، فلحق أبو موسى بمكة ،و انصرف عمرو بن العاص إلى منزله و لم يذهب إلى معاوية(1) .
فهذا الخبر رواه المسعودي بلا إسناد –كعادته في معظم ما يرويه- ،و هو يتفق مع الرواية المشهورة في حدوث السب و الطعن ، لكنه يخالفها في أن الحكمين لم يتفقا على شيء ،و أنهما انصرفا دون أن يخطبا في الناس ،و أن ابن العاص لم ينصرف إلى معاوية لمبايعته بالخلافة و إنما انصرف إلى منزله . و هذا خلاف جوهري بين الروايتين ، يزيد الرواية المشهورة ضعفا و استبعادا ، و يؤكد ما قلته سابقا من أن الرواة قد تلاعبوا برواية التحكيم و حرّفوها .
__________
(1) مروج الذهب ج 2 ص: 481 .(1/43)
و الرواية الثالثة رواها أبو بكر بن العربي عن الدارقطني بإسناده إلى التابعي صاحب الإمام علي : حضين بن المنذر(1) ، و فيها أنه لما عزل عمرو بن العاص معاوية ، جاء حضين بن المنذر فضرب فسطاطه قريبا من فسطاط معاوية ، فبلغ خبره معاوية فأرسل إليه ، فقال : إنه بلغني عن هذا –أي عمرو بن العاص- كذا و كذا – أي عزله لعلي و معاوية- فأذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه .- ثم يقول حضين -: فأتيته فقلت اخبرني عن الأمر الذي وليت انت و أبو موسى ، كيف صنعتما فيه ؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا ،و الله ما كان الأمر على ما قالوا ،و لكن قلت لأبي موسى : ما ترى في هذا الأمر ؟ قال: أرى أنه في النفر الذين توفى رسول الله –صلى الله عليه و سلم- و هو عنهم راض . قلت : فأين تجعلني أنا و معاوية ؟، فقال: إن يستعن بكما ففيكما معونة ،و إن يستغن عنكما ، فطالما استغنى أمر الله عنكما ))(2) .
__________
(1) باقي رجال الإسناد هم : ابراهيم بن همام ،و أبو يوسف الفلوسي و هو يعقوب بن عبد الرحمن بن جرير ,،و الأسود بن شيبان ،و عبد الله بن مضارب . ابن العربي : العواصم هامش ص : 129 .
(2) نفسه ص : 129 .(1/44)
فهذه الرواية أكدت أن عمرو بن العاص لم يخن أبا موسى الأشعري ، و أنه عزل معاوية و لم يثبته ، وفقا للاتفاق الذي تم بينهما . و أنه-أيضا – انكر ما أشاعه الناس عن التحكيم ، من خداع و سب و مكر ، و ذكر أنه وافق أبا موسى في اقتراحه ترك أمر الخلاف للصحابة الذين توفى الرسول و هو عنهم راض ، ثم انصرفا و لم يذهب هو إلى معاوية . فهذا الخبر يناقض الرواية المشهورة عن قرار الحكمين ،و يقلبها رأسا على عقب ، لكنه لم يبين مقصود الحكمين من الأمر الذي اتفقا عليه و أرجعاه إلى كبار الصحابة ، أهو أمر الخلافة ، أم هو أمر قتلة عثمان ؟ و في هذا الشأن يرى الباحث محب الدين الخطيب أن الأمر الذي اتفق الحكمان على تركه لأعيان الصحابة هو الإمامة(1) .لكن الباحث محمد أمحزون يرى أنه : (( ليس من شك في أن أمر الخلاف الذي رأى الحكمان رده إلى الأمة أو إلى أهل الشورى ليس إلا أمر الخلاف بين علي و معاوية حول قتلة عثمان ، و هو ما أطبقت على ذكره المصادر الإسلامية ، أما الخلاف حول الخلافة فلم يكن نشأ عندئذ ، و لم يكن معاوية مدعيا للخلافة ،و لا منكرا حق علي فيها ، و إنما كان ممتنعا عن بيعته و عن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلبا عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون ، مستفيدا من طاعة الناس له ، بعد أن بقي واليا فيها زهاء عشرين سنة )). ثم ذكر هذا الباحث رواية عن القاضي أبي بكر الباقلاني مفادها أن الحكمين ما اتفقا قط على خلع علي بن أبي طالب عن الخلافة(2) .
__________
(1) ابو بكر بن العربي : المصدر السابق هامش ص: 129 .
(2) تحقيق مواقف الصحابة ج2 ص: 233-234 .(1/45)
و أنا أوافق الباحث محمد أمحزون فيما ذهب إليه من أن مسألة قتلة عثمان هي التي أرجأ الحكمان البت فيها إلى كبار الصحابة ، لأن هذه القضية هي سبب القتال ،و هي التي تتفق مع سياق الحوادث التاريخية ، و لأن رواية الدارقطني و الباقلاني لم تذكرا أن الحكمين عزلا عليا عن الخلافة ، مما يؤكد أنهما لم يتناقشا في موضوع الخلافة ، لأنه كان محسوما ،و لم يكن أحد ينازع عليا فيه .
لكن إذا كانت قضية قتلة عثمان هي التي بتّ فيها الحكمان ،و لم يكن أمر الخلافة موضوعا للمناقشة ، فعن ماذا عزل معاوية بن أبي سفيان ؟ . لم تصرّح رواية الدارقطني عن ماذا عزل ، لكن يبدو أن العزل خصّ أحد أمرين أو هما معا ، الأول عزل معاوية عن إمارة الشام ، و الثاني إبعاده من أن يكون ضمن كبار الصحابة الذين يتولون البت في مسألة قتلة عثمان . و الثالث عزله عن الأمرين . فبخصوص عزله عن الشام فهو أمر مستبعد جدا ، ليس له علاقة مباشرة بموضوع اجتماع الحكمين –هو قتلة عثمان- ،و لأنه ليس حلا عمليا بسبب ما يجده من معارضة أكيدة من معاوية و أهل الشام ، و يزيد الأمر تعقيدا . لذا فالاحتمال الثاني هو الوارد و المقصود ، و يدعمه قول عمرو بن العاص في رواية الدارقطني حين قال : (( قلت فأين تجعلني أنا و معاوية ؟ فقال –أي أبو موسى- إن يستعن بكما ففيكما معونة ،و إن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما))، فقوله هذا فيه إشارة إلى أن ابن العاص و معاوية قد استبعدا من جماعة الصحابة التي تتولى أمر البت في قتلة عثمان .(1/46)
و أما مصير اتفاق الحكمين ، فإنه من الثابت أنه لم يعرف طريقه إلى التطبيق ، ربما لأن عليا-رضي الله عنه- قد انشغل بمشاكل جيشه ،و أنه لم يكن في مقدوره الاقتصاص من قتلة عثمان بعدما تغلغلوا في جيشه و تموقعوا فيه ، خاصة بعدما خرج عليه الخوارج بسيوفهم ،و السبئية بأفكارهم الملحدة . و يبدو من جهة أخرى أن معاوية لم يكن متحمسا للمشاركة الفعالة لتنفيذ قرار الحكمين بسبب صعوبة تنفيذه ، فهو مشغول بإمارته في الشام ،و علي في نزاع مع الخوارج و السبئية . و لأنه- معاوية- على ما يبدو لم يكن راضيا كل الرضى عن قرار الحكمين عندما عزلاه عن جماعة الصحابة الذين يبتون في أمر قتلة عثمان ، و مما يدعم ذلك أن ابن العاص عندما فارق أبا موسى لم يذهب إلى معاوية ليخبره بقرار الحكمين ، و إنما التحق ببيته لإحساسه أن معاوية قد لا يرضيه ذلك العزل.
و ختاما لهذا الفصل يتبين منه أن الروايات الثلاث الأخيرة تخالف الرواية المشهورة في خبرها عن قرار الحكمين ، و أنها أثبتت أن الإخباريين قد تلاعبوا برواية التحكيم و حرفوها . و أن رواية الدارقطني هي الرواية الصحيحة ، لخلو إسنادها من المعروفين بالكذب(1) –كما هو حال الروايات السابقة ، كرواية الطبري- ،و لأنها خلت من المطاعن و الشكوك التي أثيرت في نقدنا للروايات السابقة الذكر . و لأنها –أيضا- لا تتعارض مع أخلاق الصحابة ،و تتوافق مع سياق الحوادث التاريخية .
الخاتمة
__________
(1) انظر: الذهبي : الكاشف ، حققه احمد الخطيب ط1 ، جدة دار القبلة 192 ج1 ص: 251، 340 . و راجع : الضعفاء للعقيلي ،و كتاب المجروحين لابن حبان ،و ميزان الاعتدال للذهبي ج 2 ص: 506 .(1/47)
تبين من دارستنا لمواقف الصحابة الكرام من القتال في موقعتي الجمل و صفين ، أنهم انقسموا حيالها إلى ثلاث طوائف ، الأولى اعتزلت الفتنة كلية و نأت بنفسها بعيدا عن الفئتين المتاقتلتين ، و هي بموقفها هذا مدحها رسول الله –عليه الصلاة و السلام- في نصوص عديدة ، دلّت على أن اعتزال الفتنة هو الأولى،و أن القتال لم يكن واجبا و لا مستحبا .و الثانية و الثالثة هما الطائفتان المتقاتلتان من أهل العراق و من أهل مكة و الشام ،و قد كان لكل منهما تعلق بالحق ، كانت شيعة علي أقرب إليه من شيعة معاوية .
و اتضح أيضا أن عليا-رضي الله عنه- قد وافق على وقف القتال طواعية دون إكراه من أحد ، رغبة منه في حقن الدماء ، و أن الخوارج كانوا معارضين له في مسعاه .و أن الرواية المشهورة عن اجتماع الحكمين غير صحيحة لم تصمد أمام النقد العلمي إسنادا و لا متنا ، و قد خالفتها روايات أخرى زادتها ضعفا و استبعادا ، أهمها رواية الدارقطني الصحيحة الإسناد و المتن .
تم و لله الحمد
فهرس المحتويات
(-) المقدمة ……………………………………………………3
(-) الفصل الأول التحقيق في مسألة القتال في موقعتي الجمل و صفّين
أولا : سبب القتال في موقعتي الجمل و صفين ……4
ثانيا: تباين مواقف الصحابة من القتال ………… . 5
ثالثا: الحكم الشرعي في القتال يوم الحمل و صفين 16.
(-) الفصل الثاني مسألة التحكيم في موقعة صفين (37ه ) 22 -43
أولا : موقف العراقيين من دعوة أهل الشام للصلح … 22
أ : موقف الإمام علي و أصحابه… …………… 22
ب: مضمون وثيقة الصلح ……………………. 29
ثانيا: التحقيق في مسألة قرار الحكمين ………………… 31
أ: الرواية المشهورة عن اجتماع الحكمين… ……32
ب: روايات تخالف الرواية المشهورة … …………38
(-) الخاتمة ………………………………………………………. 44
(-) فهرس المحتويات :…… ……………………………… 45(1/48)