سلسلة مكتبة ابن القيم (1)
فوائد حديثية
وفيه
فوائد في الكلام على حديث الغمامة وحديث الغزالة والضب وغيره
تأليف
الإمام الحافظ محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي الحنبلي
الشهير بابن قيم الجوزية
المتوفى سنة 751هـ رحمه الله تعالى
تحقيق وتخريج
أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
أبي معاذ إياد بن عبداللطيف القيسي
دار ابن الجوزي
الطبعة الأولى
1416 هـ - 1995 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
فائدة أخرى من كلام الشيخ، الإمام، العالم، مفتي المسلمين، ناصر السنة المحمدية، أبي عبد الله، شمس الدين، محمد بن أبي بكر بن [أيوب]، الزرعي، الحنبلي، [الشهير بابن قيم الجوزية]، تغمده الله برحمته آمين؛ قال:
الحمد لله، أما حديث الغمامة؛ فلم يروه البخاري ولا مسلم ولا أحدٌ من أصحاب الصحيح، وإنما رواه الترمذي في ((جامعه))؛ فقال:(1/21)
حدثنا الفضل بن سهل أبو العباس الأعرج البغدادي حدثنا عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح أخبرنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى [الأشعري] عن أبيه؛ قال:
خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخٍ من قريشٍ، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به ولا يخرج إليهم ولا يلتفت. قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء؛ فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة [أسفل] من غضروف كتفه مثل التفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل؛ قال: أرسلوا إليه. فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه؛ فقال: انظروا إلى(1/22)
فيء الشجرة مال عليه. [قال]: فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه؛ فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم؛ فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارجٌ في هذا الشهر، فلم يبق طريقٌ إلا بعث إليه بأناسٍ، وإنا قد أخبرنا خبره بعثنا إلى طريقك هذا. فقال: هل خلفكم أحدٌ هو خير منكم؟ قالوا: [إنما] اخترنا خيرة لك لطريقك هذا. قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه؛ هل يستطيع أحدٌ من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه. وأقاموا معه، قال: أنشدكم الله؛ أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب. فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه أبو بكر بلالاً وزوده [الراهب] من الكعك والزيت.
قال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه)).
فهذا الحديث لا يعرف إلا بهذا السند، وهو حديث منكر جداً من وجوه:(1/23)
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في هذه المرة إلى الشام مع عمه أبي طالب كان له من العمر ثلاث عشرة سنة.
قال أبو عمر بن عبد البر: ((خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه في تجارةٍ إلى الشام سنة ثلاث عشرة من الفيل، فرآه بحيرا الراهب؛ فقال: احتفظوا به؛ فإنه نبي، وخرج إلى الشام في تجارة لخديجة بنت خويلد، فرآه نسطور الراهب وقد أظلته غمامة؛ فقال: هذا نبي، وذلك سنة خمس وعشرين)).
وقال محمد بن سعد في ((طبقاته)): أنبأنا محمد بن عمر حدثني محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين؛ قالوا:
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة خرج به أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة ونزلوا بالراهب بحيرا؛ فقال لأبي طالب في السر ما قال، وأمره أن يحتفظ به أبو طالب معه؛ فرده إلى مكة.(1/24)
وقال الحارث بن أبي أسامة في ((مسنده)): أنبأ أبو عبد الله محمد ابن سعد أخبرنا خالد بن خداش حدثنا معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز أن عبد المطلب -أو أبا طالب شك خالد-؛ قال: لما مات عبد الله عطف على محمد قال: فكان لا يسافر سفراً إلا كان معه فيه، وأنه توجه نحو الشام فنزل منزلاً؛ فأتاه راهبٌ، فقال: إن فيكم رجلاً صالحاً، ثم قال: أين أبو هذا الغلام؟ قال: فقال: هأنا ذا وليه أو هذا وليه. قال: احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود [قوم] حسدٌ وإني أخشاهم عليه. قال: ما أنت تقول ذلك، ولكن الله يقوله. فرده قال: اللهم إني أستودعك محمداً. ثم إنه مات.
ففي هذه الآثار أن خروجه إلى الشام مع عمه أبي طالب كان وله اثنتا عشرة سنة، ومعلوم أن بلالاً ذلك الوقت لم يكن موجوداً؛ فإنه مات سنة(1/25)
عشرين من الهجرة في خلافة عمر وله ثلاثة وستون سنة أو نحوها؛ فيكون مولده بعد سفر النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه بسبع سنين، ويكون للصديق حينئذ من العمر عشر سنين؛ فكيف يبعث من عمره عشر سنين مع النبي صلى الله عليه وسلم من ولد بعد ذلك بسبع سنين؟! هذا من المحال البين.
وكأن أبا عمر رحمه الله لما علم أن ذلك محال؛ قال: إن قصة(1/26)
إظلال الغمامة له كان في خروجه إلى الشام المرة الثانية في تجارة خديجة وله خمس وعشرون سنة، وأن الراهب الذي اجتمعوا به كان نسطوراً، وهذا خلاف الحديث الأول، وهو وهم أيضاً؛ فإن أبا طالب لم يكن معهم في هذه المرة الثانية، وإنما كان مع ميسرة غلام خديجة، كما قال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر بن واقد الأسلمي أنبأ موسى بن شيبة عن عميرة بنت عبيد الله بن كعب بن مالك عن أم سعد بنت سعد بن الربيع عن نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية؛ قالت:(1/27)
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة قال له أبو طالب: أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً في عيرانها؛ فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك. وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له؛ فأرسلت إليه في ذلك وقالت: أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك. قال أبو طالب: هذا رزق ساقه الله إليك. فخرج مع غلامها ميسرة، وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدما بصرى من الشام، فنزلا في ظل شجرةٍ؛ فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيٌ. ثم قال لميسرة: أفي عينيه حمرةٌ؟ قال: نعم، لا تفارقه. قال: هو نبيٌ، وهو آخر الأنبياء. ثم باع سلعته فوقع بينه وبين رجل تلاحٍ؛ فقال له: احلف باللات والعزى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حلفت بهم قط، وإني لأمر فأعرض عنهما. فقال الرجل: القول قولك. ثم قال لميسرة: هذا والله نبيٌ تجده أحبارنا منعوتاً في كتبهم، وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس، فوعى ذلك كله وكان الله قد ألقى عليه المحبة من ميسرة؛ فكان كأنه عبدٌ له، وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران؛ قال ميسرة: يا محمد! انطلق إلى خديجة فأخبرها بما صنع الله لها على وجهك؛ فإنها تعرف لك ذلك. فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية لها، فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعيره وملكان يظلان(1/28)
عليه؛ فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرها بما ربحوا في وجههم؛ فسرت بذلك، فلما دخل ميسرة عليها أخبرته بما رأت، فقال ميسرة: قد رأيت هذا منذ خروجنا من الشام، وأخبرها بما قال نسطور الراهب، وبما قال الآخر الذي خالفه في البيع.
ففي هذا الحديث بيان أن خروجه كان في هذه المرة مع ميسرة ولم يكن مع عمه، وقصة الغمامة إنما جاءت في المرة الأولى التي كان فيها أبو طالب فحصل الوهم [من نقلها إلى السفرة الثانية، والذي روي في القصة الثانية إنما هو إظلال الملكين وقد] ذكر ابن إسحاق في(1/29)
((السيرة)) قصة خروجه إلى الشام مع عمه أبي طالب، وذكر أن الذي رجع به إلى مكة عمه؛ فقال: كان أبو طالب هو الذي إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده، وكان إليه ومعه، ثم إن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجراً، فلما تهيأ للرحيل وأجمع المسير؛ هب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بزمام ناقته وقال: يا عم! إلى من تكلني؟ لا أب لي ولا أم. فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً. فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له وكان أعلم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيهم فيما يزعمون يتوارثونه كابراً عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا، وكانوا كثيراً ما يمرون به قبل ذلك لا يكلمهم ولا يعرض لهم؛ حتى إذا كان ذلك العام نزلوا به قريباً من صومعته، فصنع لهم طعاماً كثيراً، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريباً منه؛ فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول(1/30)
الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيراً؛ نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام، فصنع ثم أرسل إليهم؛ فقال: إني قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروا كلكم، صغيركم وكبيركم، وحركم وعبدكم. فقال له رجل منهم: يا بحيرا! إن لك اليوم لشأناً، ما كنت تصنع هذا فيما مضى وقد كنا نمر بك كثيراً؛ فما شأنك اليوم؟ فقال له بحيرا: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاماً تأكلون منه كلكم. فاجتمعوا [إليه] وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم -لحداثة سنه في رجال القوم- تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا في القوم لم يجد الصفة التي يعرف ويجد عنده، قال: يا معشر قريش! لا يتخلف أحد منكم عن طعامي هذا. قالوا له: يا بحيرا! ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام هو أحدث القوم سناً تخلف في رحالهم. قال: فلا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم. فقال رجل من قريش: واللات والعزى إن هذا للؤمٌ بنا يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه ثم أقبل به حتى أجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده في صفته، حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرقوا؛ قام بحيرا فقال له: يا غلام! أسألك باللات والعزى ألا أخبرتني عما أسألك عنه. وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما؛ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئاً؛ فوالله ما أبغضت شيئاً بغضهما قط. فقال بحيرا: فبالله ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال: اسألني عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثم نظر إلى(1/31)
ظهره؛ فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ منه أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك. فقال: بني. فقال له بحيرا: ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى (به). قال: صدقت. قال: ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود؛ فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن [عظيم]؛ فأسرع به إلى بلاده. فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
ولم يذكر ابن إسحاق من حدثه بذلك، ولا ذكر أن أبا بكر أرسل معه بلالاً، وهو كان أعلم من أن يذكر ذلك.
وأما حديث قراد عبد الرحمن بن غزوان الذي ساقه الترمذي، فقال العباس بن محمد الدوري وقد رواه عن عبد الرحمن: ((ليس في الدنيا(1/32)
مخلوقٌ يحدث به غير قراد أبي نوحٍ، وسمع هذا الحديث أحمد بن حنبل ويحيى بن معين من قراد. قال: وإنما سمعاه من قراد لأنه من الغرائب والأفراد التي تفرد بروايتها عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه)).
وسمعت الحافظ أبا عبدالله محمد بن عثمان يقول: ((عبد الرحمن ابن غزوان أبو نوح قراد حدث عنه أحمد والكبار، وكان يحفظ وله مناكير، وسئل أحمد بن صالح عن حديث لقراد عن الليث عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: لي مماليك(1/33)
أضربهم.. .. الحديث؛ فقال: هذا حديث موضوع. وقال أبو أحمد الحاكم: روى عن الليث حديثاً منكراً.
وقال الحافظ أبو عبد الله: قلت: أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى في سفر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مراهق مع أبي طالب إلى الشام قصة بحيرا، ومما يدل على أنه باطل قوله: ((فرده أبو طالب وبعث معه أبو بكر بلالاً))، قال: وبلالا لم يكن خلق بعد وأبو بكر كان صبياً.
وقال ابن حبان: كان يخطئ يتخالج القلب منه لروايته عن الليث عن الزهري عن عروة عن عائشة قصة المماليك)).
وقد روى الحاكم حديث عبد الرحمن بن غزوان هذا في ((المستدرك))، وقال: ((هو على شرط مسلم))، وليس كما قال فإن(1/34)
مسلماً إذا احتج بثقة لم يلزمه أن يصحح جميع ما رواه، ويكون كل ما رواه على شرطه؛ فإن الثقة قد يغلط ويهم، ويكون الحديث من حديثه معلولاً علة مؤثرة فيه مانعة من صحته فإذا احتج بحديث من حديث غير معلول؛ لم يكن الحديث المعلول على شرطه، والله أعلم.(1/35)
فصل : ولو صح هذا الحديث لم يكن فيه أن الغمامة كانت تظله دائماً:(1/36)
أين سار وأين نزل؛ فإن هذا كذبٌ قطعاً، وهو صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم قدراً وأعلى منزلة من أن يحتاج في مناقبه ومعجزاته إلى الكذب عليه؛ فإن معجزاته وفضائله وما خصه الله به يفوق الحصر، والتظليل بالغمام ليس من خصائص النبوة؛ فإن الله سبحانه ظلل الغمام على بني إسرائيل في التيه؛ فقال تعالى: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم}، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما رمى الجمرة ستره(1/49)
بلال أو أسامة بثوبٍ من حر الشمس، وكانوا في السفر إذا أتوا على شجرةٍ لها ظل تركوها له صلى الله عليه وسلم؛ فنزل تحتها، وكان في أسفاره يصيبه الحر والشمس مع أصحابه في الله وفي مرضاته وطاعته، وذلك أعظم لأجره وأكمل لمنزلته عند الله كما كان يصيبه الجوع والأذى، ولو شاء الله لأجرى جبال الذهب والفضة معه، وكانت الطير تظل سليمان بن داود وعسكره(1/50)
في أسفارهم فلا يصيبهم حر الشمس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على الله منه وأصحابه (أكرم على الله من أصحابه)، وكانوا يسافرون في حر الشمس ولا تظلهم الطير ولم يكن ذلك لتفضيل سليمان وبني إسرائيل على نبينا وأصحابه، وكذلك كانت الريح تحمل سليمان وعسكره؛ فلا يجدون تعب السفر وكان نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما يطوون المراحل بالليل والنهار على الدواب وعلى أرجلهم وهم أكرم الخلق على الله، وما اختار الله لرسوله أكمل وأفضل وخير مما اختاره لسواه، وقد عرض عليه أن يكون ملكاً نبياً أو أن يكون عبداً رسولاً، وعرض عليه مفاتيح خزائن(1/51)
الدنيا؛ فلم يؤثرها، وقال: بل أجوع يوماً وأشبع يوماً؛ فليس في إصابة الشمس والحر والبرد والجوع هضم من منزلته ولا نقص من مرتبته صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته أجل وأعظم وأظهر وأصح من تظليل الغمامة، وقد أغناه الله بتلك المعجزات الباهرة والآيات المتظاهرة عن أن ينسب إليه ما لم يصح عنه، وفي ذلك جناية عظيمة على الدين وعلى جنابه الكريم صلى الله عليه وسلم، وتطريق(1/52)
للزنادقة وغيرهم من الكفار إلى القدح في دين الإسلام بهذين النوعين عظيمة؛ فالأول يقصد ضرره بالذات، والثاني يقصد نفعه بما يضره به وتقويته بما يوهنه به؛ فالأول يجاهد بما يجاهد به المنافقون والكفار، والثاني يكشف عن جهله بما يبن الحق لأولي الأبصار، والله المستعان وعليه التكلان.
فصل: وأما حديث الغزالة
فقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ إجازة أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني حدثنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة الغفاري حدثنا علي بن قادم حدثنا أبو العلاء خالد بن طهمان عن عطية عن أبي سعيد الخدري؛ قال:
مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بظبية مربوطة إلى خباء؛ فقالت: يا رسول الله! حلني حتى أذهب فأرضع خشفي ثم أرجع فتربطني! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيد قوم وربيطة قوم. قال: فأخذ عليها فحلفت له فحلها، فما مكثت إلا قليلاً حتى جاءت وقد نفضت ما في ضرعها؛ فربطها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خباء أصحابها فاستوهبها منهم، فوهبوها له؛ فحلها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/53)
((لو تعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سميناً أبداً)).
قال: وروي من وجه آخر ضعيف: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي أخبرنا أبو علي حامد بن محمد الهروي حدثنا بشر بن موسى حدثنا أبو حفص عمرو بن علي حدثنا يعلى بن إبراهيم الغزال حدثنا الهيثم بن جماز عن أبي كثير عن زيد بن أرقم؛ قال:
كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض سكك المدينة، فمررنا بخباء أعرابي؛ فإذا ظبية مشدودة إلى الخباء، فقالت: يا رسول الله! إن هذا الأعرابي اصطادني ولي خشفان في البرية، وقد تعقد اللبن في أخلافي؛ فلا هو يذبحني فأستريح، ولا يدعني فأرجع إلى خشفي بالبرية؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تركتك ترجعين؟ قالت: نعم، وإلا عذبني الله عذاب(1/54)
العشار. فأطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تلبث أن جاءت تلمظ؛ فشدها رسول الله إلى الخباء وأقبل الأعرابي ومعه قربة؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتبيعنيها؟ قال: هي لك يا رسول الله. فأطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال زيد بن أرقم: فأنا والله رأيتها تسيح في البرية وهي تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.(1/55)
فأما الحديث الأول فقال محمد بن عثمان الحافظ: إسناده ضعيف.(1/56)
تداوله ثلاثة فيهم ضعف، وليسوا بمتهمين بالوضع بل لهم(1/57)
غلط، والحديث غريب فيه نكارة.
وأما الحديث الثاني؛ فليس بصحيح، وإسناده مظلم تداوله يعلى وشيخه الهيثم وشيخه أبو كثير، ولا يعرفون.
قال الحافظ محمد بن عثمان: ((فأنا أتهم يعلى به، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم غنيةً عن هذه الواهيات)).(1/58)
قلت: أما علي بن قادم؛ فقال يحيى بن معين: ((هو ضعيف)).
قال ابن عدي: ((وقد نقم على علي بن قادم أحاديث رواها عن الثوري غير محفوظة))؛ قال: ((وهو ممن يكتب حديثه)).
فأما خالد بن طهمان؛ فهو أبو العلاء الإسكافي، قال يحيى بن معين: ((اختلط قبل موته بعشر سنين وكان قبل ذلك ثقة، وكان في تخليطه كل ما جاوءه به [ورآه] قرأه)).
وقال عثمان بن سعيد: ((سألت يحيى بن معين عن أبي العلاء الخفاف؛ فقال: ضعيف)).
وأما الهيثم بن جماز؛ فقال الإمام أحمد: ((منكر الحديث)) فترك(1/59)
حديثه، وقال النسائي: ((متروك الحديث))، وقال يحيى بن معين: ((ليس بشيء))، وقال الدارقطني: ((ضعيف))، وقال أبو حاتم بن حبان: ((كان من العباد البكائين ممن غفل عن الحديث والحفظ واشتغل بالعبادة حتى كان يروي المعضلات عن الثقات توهماً، فلما ظهر ذلك منه؛ بطل الاحتجاج به)).
قلت: وقد أنكر [عليه] عدة أحاديث منها:
ما رواه عن يزيد بن أبان عن أنس بن مالك؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((ما من صوت أحب إلى الله من صوت لهفان)).
وهذا لا أصل له عن أنس.
ومنها: حديثه عن عمران القصير عن نافع عن ابن عمر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/60)
((لا تتكلموا في القدر؛ فإنه سر الله فلا تفشوا الله في سره)).
وهذا أيضاً باطل عن ابن عمر.
وأما يعلى بن إبراهيم الغزال مجهول لا يعرف ونكرة لا تتعرف، وكذلك أبو كثير شيخه.(1/61)
فصل: وأما حديث الضب
فقال البيهقي: أخبرنا أبو منصور أحمد بن علي الدامغاني ثنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ثنا محمد بن علي بن الوليد السلمي ثنا محمد بن عبد الأعلى ثنا معتمر بن سليمان ثنا كهمس عن داود بن (أبي) هند عن عامر عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في محفل من أصحابه؛ إذ جاء أعرابيٌ من بني سليم قد صاد ضباً وجعله في كمه ليذهب إلى رحله فيشويه ويأكله، فلما رأى الجماعة؛ قال: ما هذه؟ قالوا: هذا الذي يذكر أنه نبي. فجاء حتى شق الناس، فقال: واللات والعزى ما اشتملت النساء على ذي لهجة أبغض إلي منك ولا أمقت، ولولا أن يسميني قومي عجولاً لعجلت عليك وقتلتك؛ فسررت بقتلك الأسود والأحمر والأبيض وغيرهم. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! دعني فأقوم فأقتله. فقال: يا عمر! أما علمت أن الحليم كاد يكون نبياً. ثم أقبل على الأعرابي؛ فقال: ما حملك على أن(1/65)
قلت ما قلت، وقلت غير الحق ولم تكرمني في مجلسي؟! قال: وتكلمني أيضاً!! استخفافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، واللات والعزى لا آمنت بك، أو يؤمن بك هذا الضب؟! وأخرج الضب من كمه وطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ضب! فأجابه الضب بلسان عربي مبين يسمعه القوم جميعاً: لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة. قال: من تعبد يا ضب؟ قال: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عقابه. قال: فمن أنا يا ضب؟ قال: رسول رب العالمين وخاتم النبيين، وقد أفلح من صدقك، وقد خاب من كذبك. قال الأعرابي: لا (أتبع) أثراً بعد عين، والله لقد جئتك وما على ظهر الأرض [أحدٌ] أبغض إلي منك، وإنك اليوم أحب إلي من والدي ومن عيني ومني، وإني لأحبك بداخلي وخارجي وسري وعلانيتي، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداك بي، إن هذا الدين يعلو ولا يعلى، ولا يقبل إلا بصلاةٍ، ولا تقبل الصلاة إلا بقرآنٍ. قال: فعلمني. فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم قل هو الله أحد. قال: زدني؛ فما سمعت في البسيط ولا في الرجز أحسن من هذا. قال: يا أعرابي! إن هذا كلام الله ليس بشعر، إن قرأت قل هو الله أحد مرة؛ كان لك كأجر من قرأ (ثلث القرآن، وإن قرأت مرتين؛ كان لك كأجر من قرأ) ثلثي القرآن، وإذا قرأتها ثلاث مرات كان لك كأجر من قرأ القرآن كله. قال(1/66)
الأعرابي: نعم الإله إلهنا، يقبل اليسير ويعطي الجزيل. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك مال؟ قال: فقال: ما في بني سليم قاطبة رجل هو أفقر مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اعطوه. فأعطوه حتى أبطروه، فقام عبد الرحمن بن عوف؛ فقال: يا رسول الله! عندي ناقة عشراء دون البختي وفوق [الأعرابي] تُلْحِق ولا تُلْحَق، أهديت لي يوم تبوك أتقرب بها إلى الله عز وجل وأدفعها إلى الأعرابي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد وصفت ناقتك فأصف ما لك عند الله يوم القيامة؟ فقال: نعم. فقال: لك ناقة من زمردةٍ؛ قوائمها [من] زبرجدٍ أخضر، وعنقها من زبرجد أصفر، عليها هودج وعلى الهودج السندس والإستبرق، تمر بك على الصراط كالبرق الخاطف، يغبطك بها كل من رآك يوم القيامة. فقال عبد الرحمن: قد رضيت. فخرج الأعرابي فلقيه ألف أعرابي من سليم على ألف دابة معهم ألف سيف وألف رمح؛ فقال لهم (ابن عوف): [أين] تريدون؟ [فقالوا]: نذهب إلى هذا الذي سفه آلهتنا فنقتله. قال: لا تفعلوا، أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ثم دخلوا؛ فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم، فتلقاهم بلا رداء فنزلوا عن ركابهم يقبلون ما ولو منه وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فقالوا: يا رسول الله! مرنا بأمرك. قال: كونوا تحت راية(1/67)
خالد بن الوليد. فلم يؤمن من العرب ولا غيرهم ألف غيرهم.
قال البيهقي: قد أخرجه شيخنا أبو عبد الله الحافظ في المعجزات بالإجازة عن أبي أحمد بن عدي الحافظ؛ فقال: كتب إلى عبد الله بن عدي الحافظ بخطه يذكر أن محمد بن علي بن الوليد السلمي حدثهم؛ فذكره وزاد في آخره، قال أبو أحمد: قال لنا محمد بن علي السلمي: كان ابن عبد الأعلى يحدث بهذا مقطوعاً، وحدثنا بطوله من أصل كتابه مع رغيف الوراق. قال البيهقي: وروي ذلك من حديث عائشة وأبي هريرة وما ذكرنا هو أمثل الأسانيد.
قلت: سمعت شيخنا الحافظ أبا عبد الله محمد بن عثمان يقول: محمد بن علي بن الوليد السلمي البصري، روى أبو بكر البيهقي حديث الضب من طريقه بإسناد نظيف، ثم قال البيهقي: ((الحمل فيه على السلمي هذا)). قال أبو عبد الله: ((قلت: صدق والله البيهقي؛ فإنه خبر باطل)).
قلت: ومما يشهد ببطلانه وكذبه قطعاً أن غزوة تبوك كانت بعد أن استوثقت أرض العرب إسلاماً وأسلم حاضرهم وباديهم، وفي هذا الخبر(1/68)
أن سليماً (جاءت) لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تبوك، وهذا من المحال؛ فتباً لواضعه ما كان أجهله بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه، وسليمٌ أوعبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلاماً ودخلت معه يوم الفتح، ولما مرت على أبي سفيان عند خطم الجبل سأل عنها العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: من هؤلاء؟ قال: سليم. فقال أبو سفيان: مالي ولسليم وسليم ألفت ذلك [اليوم] مع من ألف؛ فكيف يجتمع منهم بعد ذلك وبعد غزوة تبوك ألف ضارب سيف وحامل رمح ويجيئون لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما كذب عليه أحدٌ إلا وكشف الله ستره وبين أمره، وكان في نفس حديثه ما يبين له كذبه، عرفه من عرفه وجهله من جهله؛ فالحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام ديناً.(1/69)
فصل: وأما حديث الناقة
فرواه الحاكم في ((المستدرك)) من حديث يحيى بن عبد الله المصري عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه؛ قال:
كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ دخل أعرابي جهوري على ناقة حمراء، فأناخ بباب المسجد فدخل فسلم، فقالوا: يا رسول الله! إن الناقة مسروقة. قال: أثم بينة؟ قالوا: نعم. قال: يا علي! خذ حق الله من الأعرابي إن قامت عليه البينة. فأطرق الأعرابي ساعة؛ فقال: قم يا أعرابي لأمر الله وإلا فادل بحجتك. فقالت الناقة من خلف الباب: والذي بعثك بالحق؛ إن هذا ما سرقني ولا ملكني أحدٌ سواه. قال: يا أعرابي! بالذي أنطقها ما قلت؟ قال: قلت: اللهم إنك لست برب استحدثناك وذكر باقي الخبر.(1/70)
ثم قال الحاكم: ((رواة هذا الحديث ثقات، ويحيى لست أعرفه بعدالةٍ ولا جرح)).
قال أبو عبد الله محمد بن عثمان: ((هو الذي اختلقه)).
قلت: قبح الله واضعه ما أجهله بشرع الله ودينه؛ فإن هذه الناقة لم يدعها أحد ولا جاء الذي سرقت منه. فقال: هذا سرق ناقتي. وحد السرقة لا يقام إلا إذا ادعى المسروق منه السرقة. وطالب بالمال، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقيم هذه السرقة بمجرد قول القائل هذه الناقة مسروقة، ولا ببينةٍ تشهد أنها مسروقة ما لم يأت مالكها يدعي ذلك ويطالب بها.(1/71)
فصل: وأما حديث نزول المائدة عليه وعلى إلياس وأكلهما منها
فرواه الحاكم في ((مستدركه)): حدثنا أحمد بن سعيد المعداني [ببخارى] حدثنا عبد الله بن محمود [حدثنا عبدان بن سيار] حدثنا أحمد بن عبد الله البرقي حدثنا يزيد بن يزيد البلوي ثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي عن مكحول عن أنس؛ قال:
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزل منزلاً؛ فإذا رجل في الوادي يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة المغفورة المثاب لها. فأشرفت على الوادي؛ فإذا رجل طوله ثلاث مئة ذراع وأكثر، فقال (لي): من أنت؟ قلت: أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أين هو؟ قلت: هو ذا يسمع كلامك. قال: فأته وأقرئه مني السلام، وقل له: أخوك إلياس يقرئك السلام. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته؛ فجاء حتى عانقه، [ثم] قعدا يتحدثان؛ فقال [له]: يا رسول الله! إني إنما آكل في كل سنة يوماً وهذا يوم فطري؛ فآكل وأنا وأنت؟ فنزلت عليهما مائدة من السماء عليها خبزٌ وحوت وكرفس، فأكلا وأطعماني وصليا العصر ثم ودعه، ثم رأيته [مر] على السحاب نحو السماء.
قال الحاكم: ((هذا صحيح الإسناد)).(1/72)
قال أبو عبد الله الحافظ: ((بل موضوع قبح الله واضعه، وما كنت أحسب ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى أن يصحح هذا، [وآفته] فإما أن يكون البلوي افتراه أو ابن سيار)).(1/73)
فصل: وأما حديث ((لولا محمد ما خلقت آدم ولا خلقت الجنة والنار))
ففي الباب حديثان موضوعان:
أحدهما: قال الحاكم: حدثنا علي بن حمشاد ثنا هارون بن العباس الهاشمي ثنا جندل بن والق ثنا عمرو بن أوس ثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن ابن المسيب عن ابن عباس؛ قال:(1/74)
أوحى الله إلى عيسى أن آمن بمحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به؛ فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب؛ فكتبت عليه لا إله إلا الله فسكن)).
ثم قال: صحيح. قلت: وسقط من النسخة محمد رسول الله.
قال أبو عبد الله محمد بن عثمان: أظنه موضوعاً على سعيد.
والحديث الثاني من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده [عن عمر بن الخطاب] عن النبي صلى الله عليه وسلم:
لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب! أسألك بحق محمد لما غفرت لي. قال: وكيف عرفت محمداً؟ قال: لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك؛ رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق(1/75)
إليك. قال: صدقت يا آدم، ولولا محمد ما خلقت.(1/76)
قال الحاكم: صحيح.
[قال (شيخ الإسلام) ابن تيمية محمد ابن عثمان: بل موضوع. زاد محمد: وعبد الرحمن واهٍ].
قال الحاكم: وهو أول حديث ذكرته له في هذا الكتاب وفيه مجهول، وهو عبد الله بن مسلم الفهري، لا ندري من هو عن إسماعيل بن مسلمة عن عبد الرحمن بن زيد.
فصل: وأما (حديث) تكليم حمارة يعفور له
فرواه محمد بن مزيد أبو جعفر مولى بني هاشم عن أبي حذيفة موسى بن مسعود عن عبد الله بن(1/78)
حبيب الهذلي عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي منظور وكانت له صحبة؛ قال:
لما فتح الله عز وجل على نبيه خيبر أصابه أربعة أزواج نعال، وأربعة أزواج خفاف، وعشرة أواقي ذهب وفضة، وحماراً. قال: فكلمه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال له: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدي ستين حماراً كلهم لم يركبهم إلا نبي، ولم يبق من نسل جدي غيري ولا من الأنبياء غيرك، أتوقعك أن تركبني وقد كنت قبلك لرجل من اليهود، وكنت أعثر به عمداً، وكان يجيع بطني ويضرب ظهري. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد سميتك يعفوراً، يا يعفور! أتشتهي الإناث؟ قال: لا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركبه في حاجته، فإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرجل فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ جاء إلى بئر كانت لأبي الهيثم بن التيهان، فتردى فيها؛ فصارت قبره؛ جزعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/79)
رواه أبو حاتم بن حبان في كتاب ((المجروحين)) له من حديث هذا الكذاب الدجال محمد بن مزيد، ثم قال: ((هذا حديث لا أصل له، وإسناده ليس بشيء، ولا يجوز الاحتجاج بهذا الشيخ)).
وقال أبو الفرج بن الجوزي في ((موضوعاته)):
((هذا حديث موضوع؛ فلعن الله واضعه، فإنه يقصد القدح في الإسلام والاستهزاء به)).
قلت: هذه الأحاديث وأمثالها هي التي جرأت الزنادقة والملاحدة على الطعن في الإسلام والقدح في الدين؛ فالجناية على الإسلام بالوضاعين والكذابين يضاهي الجناية عليه من الزنادقة والطاعنين، والله عز وجل يؤيد من ينافح عن رسوله تأييداً خاصاً ويفتح له في معرفة نقد الحق من الباطل فتحاً بيناً، وذلك من تمام حفظه لدينه وأنه لا يزال من عباده(1/80)
طائفة قائمة بنصره إلى أن يأتي أمر الله، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.
فصل: وأما حديث حياة الخضر
فقد ورد فيه عدة أحاديث لا يصح منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث واحد، ولولا الإطالة؛ لسقناها وذكرنا أحوال رواتها، وقد ذكر تلك الأحاديث أبو الحسين ابن المنادي أحد أئمة الإسلام [وبين بطلانها، ثم قال: ((والخضر وإلياس مضيا لسبيلهما، وقد روي عن أهل الكتاب] أنه شرب من ماء الحياة ولا يوثق بقولهم.
قال: وجميع الأخبار في ذكر الخضر واهية الصدور والأعجاز، ولا تخلو من أمرين:
إما أن تكون أدخلت من حديث بعض الرواة المتأخرين استغفالاً.
وإما أن يكون القوم عرفوا حالها فرووها على جهة التعجب؛ فنسبت إليهم على جهة التحقيق. قال: وأكثر المغفلين مغرورون بأن الخضر باقٍ والتخليد لا يكون لبشر، قال عز وجل: {وما جعلنا لبشرٍ من(1/81)
قبلك الخلد}، ثم ذكر عن إبراهيم الحربي أنه سئل عن تعمير الخضر؛ فأنكر ذلك، وقال:
هو متقادم الموت. قال: وسئل غيره عن تعميره وأن طائفة من أهل زماننا يرونه ويروون عنه؛ فقال: من أحال على غائب لم ينتصف منه وما ألقى ذكر هذا بين الناس إلا الشيطان.
وقد سئل محمد بن إسماعيل البخاري عن الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: ((وكيف يكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يبقى على رأس مئة سنة ممن هو على ظهر الأرض أحد)) ))، حكاه أبو الفرج بن الجوزي عنه.
قال أبو الفرج: ((وقد اغتر خلق كثير من المهوسين أن الخضر حيٌ إلى اليوم، وروى أنه التقى بعلي بن أبي طالب وبعمر بن عبد العزيز، وأن خلقاً كثيراً [من الصالحين] رأوه وصنف بعض من سمع الحديث ولم(1/82)
يعرف علله كتاباً جمع فيه ذلك ولم يسأل عن أسانيد ما نقل، وانتشر الأمر إلى أن جماعة من المتصفين بالزهد يقولون: رأيناه وكلمناه؛ فواعجباً ألهم (فيه) علامة يعرفونه بها، وهل يجوز لعاقل أن يلقى شخصاً فيقول [له الشخص]: أنا الخضر فيصدقه؟!)).
ثم ساق الأحاديث المروية في ذلك، وبين أنها باطلة موضوعة.
[وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يحتج على أنه مات وليس في الأحياء، بقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر في دعائه: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض))، ولم يكن الخضر فيهم، إنما كانوا ثلاث مئةٍ وثلاثة عشر كلهم أصحابه، قال: وقد قال الخضر لموسى: {هذا فراق بيني وبينك}؛ ففارق موسى كليم الرحمن، ثم أصبح يطوف على كل مجهول وكل جاهل لا يعرف دين الإسلام ويصاحبهم ويجتمع بهم، ويترك(1/83)
المساجد والجمع والجماعات والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
قال: ومن قال: رأيت الخضر؛ فإما كاذبٌ، وإما ملبوسٌ بأن يرى جنياً يقول [له]: أنا الخضر؛ فيصدقه بجهله.
قلت: وقد يكون اسم ذلك الجني الخضر كما يتسمى به الإنس كثيراً، وقد يرى شخصاً مجهولاً فيقول له ذلك الشخص: أنا الخضر فيصدقه، وهذا كله سببه الجهل وقلة العلم، وقد ثبت في ((الصحيح)) عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: ((أرأيتكم ليلتكم هذه؛ فإنه على رأس مئةٍ سنة لا يبقى على الأرض ممن هو اليوم على ظهر الأرض)) يريد النبي صلى الله عليه وسلم انخرام ذلك القرن.
قال شيخ الإسلام: ((لو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويكون معه ويجاهد الكفار معه ولا يتخلف عنه، كما أن موسى وعيسى وسائر الأنبياء لو كانوا أحياء؛ لوجب عليهم اتباعه والجهاد معه))].
ويدل على ما قال [شيخنا] قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمنن به(1/84)
ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين}. قال ابن عباس: ((ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمدٌ وهو حيٌ ليؤمنن به، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمدٌ وهم أحياء ليؤمنن به وليتبعنه))؛ فالخضر إن كان نبياً وجب عليه أن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم ويكون معه وينصره، وإن كان ولياً؛ فكذلك، [قال شيخنا: ((ولو كان الخضر حياً كما يقول من يزعم ذلك؛ لم يجز لنا أن نأخذ عنه شيئاً من الدين، لأن ما يقوله إن كان مخالفاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لم يجز لنا قبوله، وإن كان موافقاً له؛ فإنما قبلنا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ فأي حاجة بنا إلى الخضر؟!)).(1/85)
قال: ((وأكمل مراتب الخضر لو كان حياً أن يكون من جملة أتباعه صلى الله عليه وسلم الواقفين على شريعته وأمره ونهيه)).
قال: ((ومن اعتقد أن أحداً يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى؛ فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ فإن الخضر قال لموسى: إني على علمٍ من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله لا أعلمه. ولو قال هذا أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ممن بعث إليه كفر، قال: وموسى لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولهذا لم يعرفه الخضر حين سلم عليه حتى عرفه بنفسه وقال: أنا موسى. فقال له الخضر: موسى بني إسرائيل؟ فقال: نعم.
قال: ومن جهل هؤلاء الضلال أنهم يزعمون أنه نقيب الأولياء، وأنه يعرف كل ولي لله ومكانه واسمه وحاله، وقد خفي عليه موسى كليم الرحمن الذي طبق ذكره الأرض؛ فلم يعرفه حتى تعرف إليه].(1/86)
فصل: وأما حديث عوج ابن عنق
[فإنه] وإن كان جماعة من المفسرين والإخباريين ذكروه في كتبهم؛ [فهو كذب مختلقٌ، سمعت شيخنا أبا العباس بن تيمية يقول ذلك مراراً]، وهو من وضع أهل الكتاب، ولا يخفى على العاقل إذا تدبر الحديث وتأمله أنه من أبين الكذب، وأن الكذب ينادي عليه في سوق من يزيد، وأظنه من وضع زنادقة اليهود الذين غرضهم السخرية من أتباع الرسل؛ فإن في حديثه: ((إنه كان يأخذ السمكة من قرار البحر ويشويها في عين الشمس))، وهذا يكون طوله على هذا الحساب(1/88)
مسيرة ألفي عام أو أكثر ولا تضبط القوى البشرية طول مثل هذا بالذرعان، وفيه: ((أنه خاض البحر فما وصل إلى حجزته))، وهذا من المحال، وفيه: ((أنه قلع صخرة على قدر عسكر موسى فرسخاً في فرسخ وحملها على رأسه فتقورت وصارت في رقبته كالطوق))، وفيه: ((أنه لم يركب مع نوح في السفينة وقال له لما رآها: هذه قصعتك، وأن الطوفان لم يغرقه))، ومن له أدنى معرفة يقطع بكذب هذا؛ فإن الله سبحانه أغرق أهل الأرض كلهم زمن الطوفان؛ فلم ينج منه إلا أصحاب السفينة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم إن خلق آدم وطوله ستون ذراعاً في السموات، [وأن] الخلق لم يزل ينقص حتى الآن، والعجب ممن يخفى عليه كذب هذا الحديث وبطلانه كيف يرويه(1/89)
ويذكره في تفسير أصدق الكلام؛ حتى قال الثعلبي: أجمع العلماء على(1/90)
أن عوجاً قتله موسى؛ فيا عجباً من [أين] هذا الإجماع الذي لم يصح (منه نقل واحد عن موسى وبين الثعلبي وبين موسى ما) يمكنه تصحيح نقل واحد عنه؛ إلا ما قاله الله ورسوله، والنبي صلى الله عليه وسلم وإن أذن في الحديث عن بني إسرائيل؛ فلم يأذن في تصديقهم في كل ما يحدثون به، بل [قد] قال: ((إذا حدثكم أهل الكتاب؛ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم))، وهذا إنما هو فيما يحتمل الصدق والكذب، فأما ما هو معلوم الصدق؛ فلا يجوز تكذيبهم فيه، وما هو معلوم الكذب لا يجوز تصديقهم فيه؛ فالأقسام ثلاثة، وهذا من المتيقن كذبه ولا يتناوله إذن النبي صلى الله عليه وسلم في التحديث به ونهيه عن تصديقه وتكذيبه، والله أعلم.
فصل: وأما حديث قدوم هامة بن هيم بن لاقيس [بن] إبليس على النبي صلى الله عليه وسلم وإسلامه(1/91)
فرواه البيهقي من حديث محمد بن أبي معشر قال: أخبرني أبي عن نافع عن ابن عمر؛ قال: قال عمر رضي الله عنه:
بينا نحن قعود مع النبي صلى الله عليه وسلم على جبل من جبال تهامة؛ إذ أقبل شيخ بيده عصا فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، ثم قال: نغمة جن وغنتهم! من أنت؟ قال: أنا هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس. قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال: فما بينك وبين إبليس إلا أبوان؛ فكم أتى عليك من الدهور؟ قال: قد أفنيت الدنيا عمرها إلا قليلاً، ليالي قتل قابيل هابيل كنت غلاماً ابن أعوام، أفهم الكلام، وآمر بالآجام، وآمر بإفساد الطعام، وقطعية الأرحام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس عمل الشيخ المتوسم والشاب المتلوم. قال: ذرني من الترادد إني تائب إلى الله، إني كنت مع نوح في مسجده مع من آمن به من قومه؛ فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى وأبكاني، وقال: لا جرم أني على ذلك من النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. قال: قلت: يا نوح! إني ممن أشركت في دم السعيد الشهيد هابيل بن آدم؛ فهل تجد لي عند ربك من توبة؟ قال: يا هام! هم بالخير وافعله قبل الحسرة والندامة، إني قرأت فيما أنزل الله علي أنه ليس من عبد تاب إلى الله بالغ أمره ما بلغ إلا تاب الله عليه، قم فتوضأ واسجد(1/92)
لله سجدتين، قال: ففعلت من ساعتي ما أمرني به؛ فناداني: ارفع رأسك فقد نزلت توبتك من السماء. قال: فخررت لله ساجداً. ثم ذكر أنه كان مع هود وزار يوسف، ولقي موسى فعلمه من التوراة وحمله السلام على عيسى (بن مريم عليهما السلام)، ولقي عيسى وحمله السلام على محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم علمه الواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت والمعوذتين.
قال البيهقي: ((أبو معشر المدني قد روى عنه الكبار؛ إلا أن(1/93)
[أهل] العلم بالحديث يضعفونه، وقد روي هذا الحديث من وجه آخر أقوى منه)).
قلت: [ورواه الحاكم في ((صحيحه)) وشانه به وبأمثاله من الأكاذيب، قال أبو جعفر العقيلي في كتابه]: وقد رواه من طريق إسحاق ابن بشر الكاهلي عن أبي معشر، ثم قال: ((الحمل فيه على الكاهلي)).
قلت: ولكن البيهقي ساقه من طريق عبد الله بن حماد الآملي عن [ابن] أبي معشر.
ورواه ابن أبي الدنيا ثنا محمد بن صالح بن النطاح ثنا محمد بن(1/94)
عبد الله أبو سلمة الأنصاري ثنا مالك بن دينار عن أنس؛ فذكره.(1/95)
[فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ((هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم]، وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي في ((موضوعاته))، وأما طريق ابن أبي الدنيا؛ فقال أبو حاتم بن حبان في كتابه ((المجروحين)) في ترجمته: ((منكر الحديث جداً، يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، لا يجوز الاحتجاج به، روى عن حميد عن أنس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((من كسح مسجداً من مساجد الله تعالى؛ فكأنما غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مئة غزوة، وكأنما حج أربع مئة حجة، وكأنما أعتق أربع مئة نسمة، وكأنما صام أربع مئة يوم)).(1/96)
فصل: وأما حديث وصي عيسى بن مريم وظهوره في زمن عمر بن الخطاب
فرواه الحاكم وابن أبي الدنيا والبيهقي وغيرهم، وله طرق منها طريق أبي عمرو بن السماك عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الرحمن بن(1/97)
إبراهيم الراسبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر؛ قال:
كتب عمر بن الخطاب إلى سعد وهو بالقادسية أن وجه نضلة بن معاوية الأنصاري إلى حلوان العراق يغير على ضواحيها؛ قال: فوجه سعد نضلة في ثلاث مئة فارس؛ فخرجوا حتى أتوا حلوان العراق، فأغاروا على ضواحيها، وأصابوا غنيمة وسبياً، فأقبلوا يسوقون الغنيمة والسبي حتى رهقت بهم العصر وكادت الشمس أن تغرب؛ فألجأ نضلة الغنيمة والسبي إلى سفح الجبل، ثم قام فأذن، فقال: الله أكبر الله أكبر. قال: ومجيب من الجبل يجيبه: كبرت كبيراً يا نضلة. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال: كلمة الإخلاص يا نضلة. ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله. قال: هو الذي بشرنا به عيسى ابن مريم وعلى رأس أمته تقوم الساعة. ثم قال: حي على الصلاة. قال: طوبى لمن مشى إليها، وواظب عليها. ثم قال: حي على الفلاح. قال: قد أفلح من أجاب محمداً وهو البقاء لأمته. ثم قال: الله أكبر الله أكبر. قال: أخلصت الإخلاص يا نضلة؛ فحرم الله جسدك على النار. قال: فلما فرغ من أذانه قمنا فقلنا: من أنت يرحمك الله؛ أملكٌ أنت، أم ساكن من الجن، أم من عباد الله؟ أسمعنا صوتك وأرنا شخصك؛ فإنا وفد الله ووفد رسوله ووفد عمر بن الخطاب. قال: فانفلق الجبل عن هامة كالرجل أبيض الرأس واللحية، عليه طمران من صوف؛ فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقلنا: وعليك السلام ورحمة الله، من أنت؟ قال: أنا زريب بن برثملا وصي العبد الصالح عيسى ابن مريم، أسكنني هذا الجبل ودعا لي بطول البقاء إلى نزوله من السماء، فأما إذا فاتني لقي محمد؛ فأقرؤوا عمر مني السلام، وقولوا له: يا عمر!(1/98)
سدد وقارب فقد دنا الأمر. وذكر باقي الحديث.(1/99)
قال الحاكم: ((كذا قال عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي عن مالك بن أنس ولم يتابع عليه، وإنما يعرف هذا الحديث بمالك بن الأزهر عن نافع وهو رجل مجهول لم يسمع بذكره في غير هذا الحديث)).
ثم ساقه البيهقي من حديث محمد بن حرب عن ابن لهيعة عن مالك ابن الأزهر عن نافع عن ابن عمر، ثم قال:(1/100)
((الحديث بهذا الإسناد أشبه وهو ضعيف بمرة)).
ورواه ابن أبي الدنيا عن الصلت بن مسعود الجحدري: [ثنا] حماد بن زيد ثنا عبد الله بن يحيى عن أبي جعفر محمد بن علي.
قال أبو الفرج (ابن الجوزي في ((موضوعاته)): ((حديث زريب باطل وأكثر رواته مجاهيل)) )، وسمعت [الشيخ تقي الدين] ابن تيمية يقول: إنه كذبٌ موضوع.
فصل: وأما حديث قس بن ساعدة الإيادي الطويل
[و] أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع [منه] كلاماً لم يحفظه حتى رواه (له) بعض الصحابة عنه، وقال في آخره:(1/101)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رحم الله قساً، إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده، وله طرق منها طريق محمد بن حسان السمتي ثنا محمد بن الحجاج اللخمي عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس.
ومحمد بن حجاج هذا قال يحيى بن معين: كذاب.(1/102)
ومنها طريق محمد بن المهدي الأيبوردي عن أبيه عن سعيد بن هبيرة عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه [عن أنس.
ومنها طريق القاسم بن عبد الله بن مهدي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي] عن ابن عيينة عن أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ومنها طريق محمد بن عيسى الإخباري عن أبيه عن علي بن سليمان(1/103)
عن سليمان بن علي عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه.
ويروى عن مجهول عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
وروي عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم ولم يسمه.(1/104)
قال أبو الفتح الأزدي: ((هذا حديث موضوع)).
وذكره أبو الفرج بن الجوزي في ((موضوعاته)).
فصل: وأما أحاديث فضائل سور القرآن
من قرأ سورة كذا وكذا فله من الأجر كذا وكذا من أول سور القرآن إلى آخره، ويذكرها الثعلبي في أول(1/106)
السورة والزمخشري في آخرها؛ فموضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن الجوزي: ((لم أعجب من الواحدي والثعلبي إذ أورداه في ((التفسير))، وإنما عجبت من أبي بكر ابن أبي داود كيف فرقه على كتابه الذي صنفه في ((فضائل القرآن)) وهو يعلم أنه حديث محال؟!)).
وقال علي بن الحسن: سمعت ابن المبارك يقول: حديث أبي: من قرأ سورة كذا فله كذا إلى آخره أظن الزنادقة وضعته.
ذكره العقيلي في كتابه [عنه].
وقال أبو الحسن الحمامي المقرئ: أنبأ الحسن بن محمد أنبأ الحسن بن علي الدامغاني ثنا محمد بن النضر النيسابوري، سمعت(1/107)
محمود بن غيلان يقول: سمعت مؤملاً يقول: [حدثني] شيخ بفضائل القرآن الذي روي عن أبي بن كعب؛ فقلت للشيخ: من حدثك؟ فقال: شيخ بواسط. فصرت إليه فقال: حدثني شيخ بالبصرة. فصرت إليه، فقال: حدثني شيخ بعبادان. فصرت إليه، فأدخلني بيتاً؛ فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ، فقال: هذا الشيخ حدثني. فقلت: يا شيخ! من حدثك؟ قال: لم يحدثني أحد ولكن [قد] رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن، فوضعنا لهم هذا لنصرف قلوبهم إلى القرآن.
قلت: وقد روي من حديث عكرمة عن ابن عباس [في فضائل القرآن] (وهو موضوع أيضاً، ذكر أبو عمرو وابن الصلاح في ((علوم الحديث)) له: ((إنه قيل لنوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورةً سورةً؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن)، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة و((مغازي محمد بن إسحاق))؛ فوضعت هذه الأحاديث [حسيةً. قال:] وهكذا جاء الحديث الطويل الذي يروى عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل القرآن سورة سورة، بحث(1/108)
باحثٌ عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه، وإن أثر الوضع لبين عليه، ولقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين [في] إيداعه تفاسيرهم، والله أعلم)).
قلت: الذي صح في فضائل السور حديث فضل الفاتحة والبقرة وآل عمران وسورة الإخلاص والمعوذتين، وأحاديثها في ((الصحيح)).
فصل: وأما صلاة الرغائب
فأحاديثها كلها مكذوبة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/109)
فصل: وأما حديث صلاة ليلة النصف من شعبان
فكلها باطلة لا يصح منها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمنها الصلاة المتداولة بين الناس والمسماة بالألفية، وهي ما رواه الكذابون من حديث سفيان الثوري عن ليث عن مجاهد عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم.(1/110)
فصل: واعلم أن صلوات الأسبوع لياليه وأيامه كلها كذب من أولها إلى آخرها
وقد ذكرها أبو طالب المكي في كتابه المسمى بـ ((قوت القلوب))، وتبعه على ذكرها [الشيخ] أبو حامد الغزالي في ((إحيائه))، وكل صلاة (فيها) من قرأ الفاتحة كذا وكذا مرة، وقل هو الله أحد أو المعوذتين أو آية الكرسي أو غيرها من السور بالتعيين مع العدد أو بدونه؛ فكذبٌ من أولها إلى آخرها، وكل صلاة فيها من سبح الله كذا وكذا مرة،(1/111)
واستغفره كذا وكذا مرة، (وصلى علي كذا وكذا مرة، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله كذا وكذا مرة)، ونحو ذلك من الأذكار؛ فكذب كلها من أولها إلى آخرها، وكل صلاة فيها من فعل كذا فله كذا وكذا قصر في الجنة وكذا وكذا حورية وكذا وكذا مدينة؛ فكذب كلها، وكل صلاة فيها أعطي ثواب كذا وكذا أو ثواب نبي واحد أو ثواب ألف صديق أو ألف شهيد ونحو ذلك من العدد؛ فكذب كلها.
والذي صح من النوافل مضبوط محصور لا يقبل الزيادة وهو السنن الراتبة العشر أو الاثنا عشر؛ أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وفي الأربع بعد الظهر حديث في ((السنن)) لا يقاوم هذه، والوتر وقيام الليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وصلاة الضحى وقيام رمضان وإحياء العشر الأواخر منه وصلاة الجنازة والكسوف والاستسقاء والعيدين وصلاة الاستخارة وتحية المسجد والصلاة(1/112)
عقيب الوضوء وركعتا الطواف ويلي هذه صلاة التوبة، [سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) يقول: يستحب لكل من أذنب أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويدل عليه حديث علي بن أبي طالب الذي رواه عن أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم].
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا شعبة عن عثمان ابن المغيرة؛ قال: سمعت علي بن ربيعة من بني أسد يحدث عن أسماء أو ابن أسماء من بني فزارة؛ قال: قال علي: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما من مسلم يذنب ذنباً ثم يتوضأ فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله لذلك الذنب؛ إلا غفر له. وقرأ هاتين الآيتين: {ومن يعمل سوءً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً. والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله}.(1/113)
وكذلك صلاة الفتح إذا فتح الله على الإسلام بلداً للكفار أو حصناً يستحب له أن يصلي ثمان ركعاتٍ كما كان أمراء المسلمين قديماً يفعلون ذلك، ويسمونها صلاة الفتح اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ثبت عنه في ((الصحيحين)) أنه صلى يوم فتح مكة في بيت أم هانئ ثمان ركعات. قال شيخنا: وظن بعض الناس أن هذه كانت صلاة الضحى وأخذه من قولها: ((وذلك ضحى))؛ أي: وذلك الفعل كان في وقت الضحى.(1/114)
قلت: ويدل على ذلك قول أم هانئ: ((ما رأيته صلاها قبلها ولا بعدها))، ولو كانت تلك صلاة الضحى لم يخصها بذلك اليوم، ويدل عليه قول عائشة في ((صحيح مسلم)): ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم [صلى صلاة الضحى قط)). [قال شيخنا: كان صلى الله عليه وسلم] يستغني عنها بقيام الليل، فمن لم يقم الليل؛ فالضحى بدلٌ له عن قيام الليل].
فصل: وأما صلاة التسبيح، وصلاة الحاجة، وصلاة يوم عاشوراء وإحياء ليلته، وصلاة ليلتي العيدين وإحياؤهما، وصلاة خاصة بليلة النحر، وصلاة ليوم العيد بعد صلاة العيد، وصلاة ليوم عرفة، وصلاة لإضاعة الصلاة، وصلاة لرؤية مكان العبد من الجنة، وصلاة لرؤية الله في المنام، وصلاة لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلاة لحفظ القرآن، وصلاة لقضاء الحوائج؛ فلا يصح شيء منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أكثرها موضوعة عليه، وأمثلها صلاة التسبيح.(1/115)
فصل في المنع من اتخاذ المسجد طريقاً وأن لا يمر فيه بلحمٍ ولا يتخذ سوقاً
روى زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((خصال لا تنبغي في المساجد لا تتخذ طرقاً، ولا يشهر فيها سلاح، ولا ينشر فيها نبلٌ، ولا يمر فيها بلحمٍ [نيٍ]، ولا يضرب فيها حدٌ، ولا يقص فيها جراحة، ولا تتخذ سوقاً)).(1/116)
رواه ابن عدي.
قال ابن حبان: ((يجب تجنب رواية زيد وداود جميعاً؛ فزيد يروي المناكير عن المشاهير، فاستحق التنكب عن روايته، وكذلك داود حدث عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات؛ فتجب مجانبة روايته)).
قلت: ما سوى الله ولا حفاظ دينه بين زيد بن جبيرة وداود بن الحصين! فقال الشديد في الرجال يحيى بن معين: ((داود ثقة))، وقال النسائي: ((ليس به بأس))، وقال أبو زرعة: ((لين))، وقال أبو داود: ((أحاديثه عن عكرمة مناكير وأحاديثه عن شيوخه مستقيمة))، وقال عباس الدوري: ((كان داود بن الحصين عندي ضعيفاً))، وقال لي يحيى: ((ثقة))، وقال [مرة]: ((ليس به بأس))، وروى عنه مالك وهو لا يروي إلا(1/117)
عن ثقةٍ عنده، واحتج الناس بحديثه في العرايا، وصحح أحمد حديثه عن عكرمة عن ابن عباس في طلاق ركانة، وصحح هو وغيره حديثه في رد النبي صلى الله عليه وسلم زينب على أبي العاص بالنكاح الأول.
وأما زيد بن جبيرة؛ فقال البخاري وغيره: ((متروك))، وقال أبو(1/118)
حاتم: ((لا يكتب حديثه))، وقال ابن عدي: ((عامة يا يرويه لا يتابع عليه))، وابن عدي إنما ساق هذا الحديث فيما أنكر عليه لا على داود.
فصل في تعاهد النعل عند دخول المسجد
عن ابن عمر يرفعه: ((تعاهدوا نعالكم عند أبواب المساجد))، رواه الدارقطني في ((الأفراد))، تفرد به يحيى بن هاشم بن كثير بن قيس أبو زكريا السمسار، قال يحيى: ((هو دجال هذه الأمة، قيل له: أتراه وضع هذه(1/119)
الأحاديث؟ فقال: هو لا يحسن وضع هذه الأحاديث، ولكن وضعت له)).
وقال أحمد بن حنبل: ((لا يكتب عنه)).
وقال النسائي: ((متروك الحديث)).
وقال محمد بن عبد الرحيم: ((كان يضع الحديث)).
وقال أبو علي الحافظ: ((كان يكذب)).
وقال ابن عدي: ((كان ببغداد يضع الحديث)).
وقال ابن حبان: ((كان [ممن] يضع الحديث على الثقات)).(1/120)
فصل أين يوضع النعل إذا صلى
عن ابن عباس يرفعه:
((إذا صليت فصل في نعليك، فإن لم تفعل فضعهما تحت قدميك، ولا تضعهما عن يمينك ولا عن يسارك فتؤذي الملائكة والناس، فإذا وضعتهما بين يديك كأنما بين يديك قبلة)).
وهذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرويه إبراهيم بن سالم أبو خالد النيسابوري؛ قال ابن عدي: ((يروي عن عبد الله بن عمران البصري أحاديث مناكير))، وذكر (من) مناكيره عن سلمان مرفوع:
((إن آدم أهبط إلى الهند ومعه السندان والمطرقة والكلبتان وأهبطت حواء بجدة)).(1/121)
وأما عبد الله بن عمران، فسئل عنه أبو حاتم؛ فقال: ((شيخ)).
فصل في الصلاة في النعال
عن معاذ بن جبل يرفعه: ((إذا جئتم إلى الصلاة فانتعلوا)).
قال ابن الجوزي: ((المتهم بوضع هذا الحديث محمد بن الحجاج، وله أحاديث كثيرة موضوعة لا أصل لها)).
رواه ابن عدي في ((الكامل)).
وروى أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً: ((خذوا زينة الصلاة. قالوا: يا رسول الله! وما زينة الصلاة؟ قال: البسوا نعالكم فصلوا فيها)).(1/122)
وفيه محمد بن الفضل عن كرز بن وبرة عن عطاء عن أبي هريرة، وعن عطاء عن جابر.
قال الإمام أحمد: محمد بن الفضل ليس بشيء، حديثه حديث أهل الكذب.
وروى العقيلي من حديث عباد بن جويرة عن الأوزاعي عن قتادة عن أنس مرفوعاً:
((خذوا زينتكم عند كل مسجد. قال: صلوا في نعالكم)).(1/123)
قال أحمد والبخاري: ((عباد بن جويرية كذاب)).
قلت: والصلاة في النعلين سنة نص عليه الإمام أحمد، وثبت في ((الصحيحين)) عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه.(1/124)
وثبت في ((المسند)) عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه.
وفي ((السنن)) عن عبد الله بن عمرو أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي حافياً ومنتعلاً.
وفي ((السنن)) عن أبي هريرة؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال:
((إذا صلى أحدكم فخلع نعليه؛ فلا يؤذ بهما أحداً، ليجعلهما بين رجليه أو ليصل فيهما)).
وفي ((السنن)) عن شداد بن أوس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(1/125)
((خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا أخفافهم)).
فالشهادة على حديث معاذ وأبي هريرة المتقدمين بالوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه سنته في الصلاة على النعال فيها نظر، نعم، هما حديثان منكران لا يثبتان، والله أعلم.
فصل في أنه لا صلاة لجار المسجد إلا [في] المسجد
عن جابر بن عبد الله، قال: فقد النبي صلى الله عليه وسلم قوماً في صلاة فقال: ما خلفكم عن الصلاة؟ فقالوا: لحاء كان بيننا. فقال: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.(1/126)
وعن أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)).
وعن علي رضي الله عنه؛ قال: من كان جار المسجد فسمع المنادي ينادي فلم يجبه من غير عذر؛ فلا صلاة له.(1/127)
رواهما الدارقطني.
وضعف حديث جابر بمحمد بن سكين الشقري المؤذن.
وضعف حديث أبي هريرة بسليمان بن داود اليمامي.
وضعف حديث علي بالحارث الأعور.
ورواه ابن الجوزي في ((موضوعاته)) من حديث عائشة مرفوعاً،(1/128)
وحمل فيه على عمر بن راشد، وقال: قال ابن حبان: ((لا يحل ذكر عمر بن راشد إلا على سبيل القدح فيه)).
قلت: وهذا الحديث له أصل صحيح، ولم يصب من أدخله في الموضوعات.
قال ابن ماجه في ((سننه)): حدثنا عبد الحميد بن بيان الواسطي ثنا هشيم عن شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((من سمع النداء فلم يأته؛ فلا صلاة له إلا من عذر)).
وقال قاسم بن أصبغ كتابه: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا سليمان بن حرب ثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((من سماع النداء فلم يجب؛ فلا صلاة له إلا من عذر)).(1/129)
فلو أفاق مجنون بإسناد حديث لأفاق بهذا، وكلهم أئمة حفاظ أعلام.
وقال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن أبي جناب عن مغراء العبدي عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر. قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض؛ لم تقبل منه الصلاة التي صلى)).
وأبو جناب الكلبي يحيى بن أبي حية اختلف فيه:(1/130)
فكان يحيى القطان يقول: ((لا أستحل أن أروي عنه))،
وقال عمرو بن علي: ((متروك الحديث))،
وقال النسائي وعثمان بن سعيد ويحيى: ((ضعيف))،
وقال ابن معين مرة: ((ليس به بأس؛ إلا أنه كان يدلس))، وكذلك قال أبو نعيم،
وقال يحيى مرة: ((هو صدوق))،
وقال ابن حبان: ((كان يدلس عن الثقات بما سمع من الضعفاء،(1/131)
فالتزق به المناكير التي يرويها عن المشاهير؛ [فوهاه يحيى بن سعيد القطان]، فحمل عليه أحمد بن حنبل حملاً شديداً)).
وأما المغراء العبدي؛ فثقة لم يضعف، قال أبو داود: ((وروا عنه أبو إسحاق))، وقال البخاري: ((روى عنه أبو إسحاق الهمذاني [والليث] والحسن بن عبيد الله)).
وقد روى أبو داود عن سليمان بن حرب: حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي رزين عن ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله! إني رجل ضرير البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني؛ فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم. قال: لا أجد لك رخصةً.(1/132)
ورواه مسلم في ((صححيه)) عن أبي هريرة؛ قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فذكر نحوه.
وروى مسلم في ((صحيحه)) عن ابن مسعود؛ قال:
من سره أن يلقى الله غداً مسلماً؛ فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى (مسجد من هذه المساجد) المساجد؛ إلا كتب الله (له) بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف))؛ فهذه الأحاديث كلها(1/133)
تقوي حديث: ((لا صلاة لجار المسجد (إلا في المسجد) ))، بل معناها كلها واحد، وقد رواها الإمام أحمد في ((مسائل ابنه صالح)) عن ابن مسعود وعائشة وابن عباس وعلي بن أبي طالب موقوفاً عليهم؛ فأنزل درجاته أن يكون موقوفاً، وهذه المرفوعات أصوله، وبالله التوفيق.
قال صالح بن أحمد: قال أبي: الصلاة جماعة أخشى أن تكون فريضة، ولو ذهب الناس يجلسون عنها لتعطلت المساجد، يروى عن علي وابن مسعود:
((من سمع النداء فلم يجب؛ فلا صلاة له)).
(وحدثني أبي ثنا هشيم عن يحيى -يعني أبا حيان التيمي- عن أبيه عن علي؛ قال:
((لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)) ).
حدثني أبي ثنا هشيم عن منصور عن الحسن عن علي؛ قال:(1/134)
((من سمع النداء فلم يأته؛ لم تجاوز صلاته رأسه إلا من عذر)).
حدثني أبي ثنا وكيع ثنا معشر عن أبي حصين عن أبي بردة عن أبي موسى؛ قال:
((من سمع النداء فلم يجب من غير عذر؛ فلا صلاة له)).
حدثني أبي ثنا وكيع ثنا سلمان بن المغيرة عن أبي موسى الهلالي عن ابن مسعود:(1/135)
((من سمع المنادي فلم يجب من غير عذر؛ فلا صلاة له)).
وحدثني أبي ثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن عدي بن ثابت عن عائشة؛ قالت:
((من سمع المنادي فلم يجب من غير عذر؛ لم يجد خيراً ولم يرد به)).
حدثني أبي ثنا وكيع ثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس:
((من سمع النداء فلم يجب من غير عذر؛ فلا صلاة له)).(1/136)
حدثني أبي حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن علي؛ قال:
((لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. قيل: ومن جار المسجد؟ قال: من سمع المنادي)).
فصل في الامتناع من حضور المسجد لأجل البرد
عن جابر بن عبد الله عن بلال؛ قال: أذنت في ليلةٍ باردةٍ، شديدٌ بردها فلم يأت أحدٌ، ثم أذنت ثانيةً فلم يأت أحدٌ، ثم أذنت ثالثة فلم يأت أحدٌ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((ما لهم يا بلال؟ قلت: لبدهم البرد. فقال: اللهم اكسر عنهم البرد. قال بلال: فلقد رأيتهم يتروحون في الصبح، أو قال في الضحى.(1/137)
وعن محمد بن المنكدر عن جابر عن أبي بكر عن بلال نحوه.
والحديثان باطلان، [أما] حديث جابر؛ فرواه أبو جعفر العقيلي عن البخاري عن داود بن مهران عن أيوب بن سيار عن ابن المنكدر عنه، وقال: ((ليس لإسناده أصل ولا يحفظ إسناده ولا متنه)).
قلت: البلاء فيه من أيوب بن سيار وهو أيضاً في طريق الحديث الآخر، وقد رواه ابن عدي من طريقه وقال:
((لا يرويه بهذا الإسناد عن ابن المنكدر سوى أيوب)).
قال يحيى: ((أيوب كذاب)).(1/138)
وقال النسائي: ((متروك الحديث)).
وسئل عنه ابن المديني؛ فقال: ((ذاك عندنا غير ثقة، لا يكتب حديثه)).
وقال السعدي: ((غير ثقة)).
ومن حديثه المنكر عن ابن المنكدر عن جابر عن أبي بكر عن بلال يرفعه:
((أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم لأجوركم)).(1/139)
وهذا باطل.
وفي إسناد حديث جابر عن أبي بكر متهم آخر وهو محمد بن زيد المستملي غير ثقة.
فصل في انضمام المساجد يوم القيامة بعضها إلى بعض
روى ابن عدي في ((الكامل)) من حديث ابن عباس يرفعه:
((تذهب الأرضون يوم القيامة إلا المساجد؛ فإنها ينضم بعضها إلى بعض)).
موضوع، قال ابن الجوزي: ((والمتهم به أصرم بن حوشب))،
قال يحيى: ((هو كذاب خبيث))،(1/140)
وقال البخاري ومسلم والنسائي: ((متروك)).
وقال ابن حبان: ((كان يضع الحديث على الثقات))،
وقال الدارقطني: ((منكر الحديث)).
وهذا الحديث رواه عن قرة بن خالد عن الضحاك عن ابن عباس.
وبهذا الإسناد أيضاً: ((أنا الأول وأبو بكر المصلي، وعمر الثالث، والناس بعدنا على السبق، الأول فالأول)).(1/141)
قلت: وهذا الكلام حق وهو معروف من كلام بعض السلف:
((سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وتبعه عمر)).
وبهذا الإسناد: ((المنفق يقرضني والمصلي يناجيني))، وهذا حق ولكنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن حديثه عن هشام عن أبيه عن عائشة مرفوعاً:
((أذيبوا طعامك بالصلاة، ولا تناموا عليه فتقسموا قلوبكم))،(1/142)
ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو باطل عليه، وهو صاحب حديث:
((إذا كان أول ليلة من رمضان؛ نادى الجليل رضوان خازن الجنة نجد جنتي وزينها للصائمين)).(1/143)
فصل في اتخاذ المسجد بيتاً
ذكر الخطيب في ((تاريخه)) من حديث أبي الدرداء؛ أنه قال لابنه: ((يا بني! لا يكن بيتك إلا المسجد، فإن المساجد بيوت المتقين، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((من يكن المسجد بيته ضمن الله الروح والرحمة والجواز على الصراط إلى الجنة)).(1/144)
وذكره ابن الجوزي في كتاب ((الأحاديث الواهية))، والصواب تحويله إلى ((الموضوعات))، وهو باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي الدرداء.
وفيه عمرو بن جرير عن إسماعيل بن أبي خالد،
قال أبو حاتم الرازي: ((عمرو يكذب)).
وقال الدارقطني: ((متروك)).
وقال صاحب ((المغنى في الضعفاء)): ((متهم واهٍ)).
قال الدارقطني: وروى عبد الله بن المختار عن محمد بن واسع(1/145)
عن [ابن أبي الدرداء عن] أبي الدرداء؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المساجد بيوت الله في الأرض؛ فقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيته بالرحمة والجواز على الصراط.(1/146)
ورواه حماد بن سلمة عن محمد بن واسع؛ أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان، قال: والمرسل هو المحفوظ.
فصل في النهي عن حديث الدنيا في المساجد
روينا في ((الغيلانيات)) من حديث ابن مسعود يرفعه:
((سيأتي على الناس زمان يقعدون في المساجد حلقاً حلقاً مناهم الدنيا، لا تجالسوهم، ليس لله فيهم حاجة)).(1/147)
قال ابن الجوزي: ((لا يصح والمتهم به بزيع أبو الخليل)).
قال الدارقطني: ((لم يحدث به غيره))، قال: ((وهو متروك))،(1/148)
وقال ابن أبي حاتم: ((حديثه شبه الموضوع))، قال:
((وقال أبي: هو ذاهب الحديث))،
وقال ابن عدي: ((أحاديثه مناكير لا يتابعه عليها أحد))،
وقال ابن حبان: ((يأتي عن الثقات بأشياء موضوعات كأنه المتعمد لها)).
فصل في كراهية السؤال في المسجد
عن ابن عمر [يرفعه]:
((ينادي منادٍ يوم القيامة: أين بغضاء الله؟ فيقوم سؤال المساجد)) )).
فيه جعفر بن أبان، قال ابن حبان:(1/149)
((رأيته بمصر يروي عن يحيى بن بكير، ونعيم بن حماد، وابن أبي مريم، وعبد الله بن يوسف التنيسي والمصريين، ثم قدم علينا مكة فحضرته مع جماعةٍ من أصحابنا لنختبر ما عنده؛ فسمعته يملي عليهم فقال فيما أملى:
حدثنا محمد بن رمح المصري ثنا الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((من سر المؤمن فقد سرني، ومن سرني فقد سر الله عز وجل، ومن سر الله باهى به الملائكة وأدخله الجنة على أي حالٍ كان))،
قال: ((وسمعته يقول فيما يملي: حدثنا محمد بن رمح ثنا الليث عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((ينادي منادٍ يوم القيامة: أين بغضاء الله؟)) الحديث المتقدم؛ فقلت: يا شيخ! اتق الله ولا تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنك لم تسمع مما تحدث به شيئاً. فقال لي: لست مني في حلٍ، إنما أنتم تحسدونني لإسنادي، فلم أزايله حتى حلف أن لا يحدث بمكة بعد أن خوفته بالسلطان مع جماعةٍ كانوا معنا من إخواننا من أهل العراق والشام وغيرهما؛ فحلف أن لا يحدث ما دام بمكة، فلم يحدث بها بعد ذلك إلى أن خرج بعد الموسم)).
وقد عورض هذا الحديث بما روى أبو داود في ((سننه)) عن(1/150)
عبد الرحمن بن أبي بكر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((هل منكم أحدٌ أطعم اليوم مسكيناً. فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبزٍ بين يدي عبد الرحمن فأخذتها فدفعتها إليه))، ولو كان السؤال في المسجد حراماً لزجره أبو بكر رضي الله عنه ولما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقراره.(1/151)
فصل في الأمر بتقصير بناء المساجد
الدارقطني عن ليث بن أبي سليم عن أيوب السختياني عن أنس يرفعه:
((ابنوا المساجد [واتخذوها] جماً)).
قال عبد الحق: ((لم يتابع ليث على هذا وهو ضعيف، وغيره يرويه عن أيوب عن عبد الله بن شقيق قوله)).
قلت: وهو أشبه بالصواب، وعن ليث أيضاً عن مجاهد عن ابن عمر: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في مسجدٍ مشرف.(1/152)
فصل في منع الصبيان من المساجد وجعل المطاهر على أبوابها وغير ذلك مما يصان عن المساجد
عن واثلة وأبي الدرداء وأبي أمامة قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وسل سيوفكم، وإقامة حدودكم، ورفع أصواتكم وخصوماتكم، وجمروها في الجمع، واجعلوا على أبوابها المطاهر)).
رواه أبو أحمد بن عدي من حديث العلاء بن كثير الدمشقي.
قال الإمام أحمد: ((ليس بشيء))،
وقال البخاري: ((منكر الحديث))،
وقال ابن حبان: ((كان يروي الموضوعات عن الأثبات)).(1/153)
وهذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/154)
وقد روى محمد بن مجيب الكذاب الأشر عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي؛ قال: صلينا العصر مع عثمان أمير المؤمنين، فرأى خياطاً في ناحية المسجد؛ فأمر بإخراجه، فقيل له: يا أمير المؤمنين! يكنس المسجد ويغلق الأبواب ويرش أحياناً. فقال عثمان: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((جنبوا صناعكم مساجدكم)).(1/155)
وذكر فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عباس عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه نهى أن تتخذ المساجد طرقاً، أو تقام فيه الحدود، أو تنشد فيها الأشعار، أو يرفع فيها الصوت. وذكر باقي الحديث.
وفرات هذا دجال منكر الحديث، ولا سيما عن ميمون بن مهران،
قال يحيى: ((ليس بشيء))،
وقال البخاري: ((منكر الحديث تركوه))، وقال مرة: ((متروك))،
وقال السعدي والرازي وأبو زرعة: ((ضعيف الحديث))،
وقال الدارقطني: ((متروك))،(1/156)
وقال ابن عدي: ((وعامة أحاديثه خاصة عن ميمون بن مهران مناكير)).
قلت: وليس المتن بمنكر، وهو من تعظيم حرمات المساجد، ولهذا الحديث وإن لم يصح شواهد:
فروى أبو داود في ((سننه)) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن ينشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه شعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة.
وهو حديث حسن من رواية عمرو بن شعيب [عن أبيه] عن جده، وقد صحح جماعةٌ من أئمة المحدثين حديثه عن أبيه عن جده، واحتج به الأئمة الأربعة وغيرهم.(1/157)
وروى ابن عدي من حديث إسماعيل بن مسلم المكي عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس يرفعه:
((لا يقتل الوالد بالولد، ولا تقام الحدود في المساجد)).(1/159)
قال عبد الحق: ((وإسماعيل بن مسلم هذا ضعيف، وله أحاديث غير محفوظة هذا منها)).
وفي ((مسند البزار)) من حديث ابن مسعود يرفعه: ((جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم)).
وهو من رواية موسى بن عمير أبي هارون الجعدي مولى آل جعدة بن هبيرة، قال البزار: ((ليس لهذا الحديث أصل من حديث عبد الله)).
قال الدارقطني: ((خلط أبو حاتم في موسى بن عمير، وهم ثلاثة اتفقت أسماؤهم وأنسابهم كلهم موسى بن عمير؛ فأعلاهم سناً وأقدمهم(1/160)
موسى بن عمير العنبري، وهو من الثقات، حدث عنه وكيع بن الجراح وأبو نعيم، يحدث عن علقمة بن وائل بن حجر ونظرائه من تابعي أهل الكوفة، وهو ثقة.
والذي يليه: موسى بن عمير، الذي يحدث عن أنس وهو شيخ ضعيف مجهول لا أعلم روي عنه غير هذا الحديث، يعني: حديثه عن أنس يرفعه:
((إن في الجنة نهراً يقال له رجب أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، من صام من رجب يوماً سقاه الله من ذلك النهر)).(1/161)
والثالث: موسى بن عمير أبو هارون الجعدي مولى آل جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي، وهو ضعيف، وهو الذي روى عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله يرفعه:
((الخلق عيال الله؛ فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)).
قلت: الحديث معروف من غير هذه الطريق.(1/162)
وروى أيضاً بهذا الإسناد:
((حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وادفعوا أنواع البلاء بالدعاء)).(1/163)
وهو الذي يروي عن مكحول عن أبي أمامة مرفوعاً:
((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))، وهو باطل بهذا الإسناد.
وهو معروف من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن(1/164)
عفان وعن ابن مسعود، ومن حديث مصعب بن سعد [عن سعد]،(1/165)
ومن حديث النعمان بن سعد عن علي)) انتهت ترجمة موسى بن(1/166)
عمير.
وروى عمر بن هارون عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول:
((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسل السيف في المسجد)).(1/167)
وعمر بن هارون هذا قال فيه يحيى: ((كذاب خبيث، ليس حديثه بشيء))،(1/168)
وقال النسائي: ((متروك الحديث))،
وقال أبو زرعة: [غير ثقة].
قلت: والمتن ليس بمنكرٍ؛ فله أصل في ((الصحيح))، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر من دخل المسجد بنشابٍ أن يمسك بنصولها.
وفي ((مصنف عبد الرزاق)) عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسل السيف في المسجد.
فصل في الصلاة في السفينة
فيه حديث ابن عباس وابن عمر رواهما الدارقطني.
وحديث ابن عباس: ((لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب إلى(1/169)
الحبشة قال: يا رسول الله! كيف أصلي في السفينة؟ قال: صل فيها قائماً؛ إلا أن تخاف الغرق)).
وفيه حسين بن علوان، قال الدارقطني: ((متروك))، وكذلك قال أبو حاتم والنسائي، وقال ابن حبان: ((كان يضع الحديث على هشام وغيره وضعاً لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب)).
(قلت): وهو صاحب حديث، ((أربع لا يشبعن من أربع: أرض من مطر، وعين من نظر، وأنثى من ذكر، وعالم من علم)).
رواه عن هشام عن أبيه عن عائشة، ولو زادها خامسة لصدق في كذبه(1/170)
وهي: ((وكذاب من كذب))، ومن كذبه بهذا الإسناد:
((السخاء شجرة في الجنة أغصانها في الدنيا، فمن تعلق بغصن منها قاده إلى الجنة، والبخل شجرة في النار)) الحديث.
وهو صاحب حديث عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء ثم خرج دخلت [بعده] ولا أرى [أثر] شيء إلا أني أجد ريح الطيب. فذكرت ذلك له فقال: أما علمت أنا معاشر الأنبياء [نبتت] أجسامنا على أجساد أهل الجنة، فما خرج منها ابتلعته الأرض)).(1/171)
رواه عن هشام عن أبيه عنها.
وبه: ((إياكم عن رضاع الحمقى؛ فإن لبن الحمقى يعدي)).
وبه: ((لو علم أمتي ما في الحلبة لاشتروها بوزنها ذهباً))،
وبه: ((أكثر الحيض عشرة وأقله ثلاث)).(1/172)
وبه: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ادهن بدهنٍ جعله في راحته اليسرى وبدأ بحاجبيه ثم شاربيه ثم رأسه)).
وبه: ((وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفساء أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك؛ فتغتسل وتصلي، ولا يقربها زوجها في الأربعين)).
قال ابن حبان: ((وليس لهذه الأحاديث كلها أصول لأنها كلها موضوعة إلا حديث السخاء؛ فإنه يقرب من حديث الأعرج عن أبي هريرة)).
قال الدارقطني: ((وحديث الأعرج موضوع عن يحيى بن سعيد عن(1/173)
الأعرج، وهما ضعيفان جداً: عمرو بن جميع، وسعيد بن محمد الوراق)).
فصل:
وأما حديث ابن عمر؛ فرواه الدارقطني أيضاً من حديث بشر بن فأفأ: حدثنا أبو نعيم ثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن ابن عمر: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في السفينة، قال: قائماً إلا أن تخاف الغرق.(1/179)
قال الدارقطني: ((بشر بن فأفأ ضعيف)).
وبالجملة؛ فهذه الأحاديث وإن كان في إسنادها مقال؛ فليست منكرة المتن، والحكم في الصلاة في السفينة عليها إن أمكنه أن يصلي قائماً، فإن تعذر عليه القيام وإلا سقط عنه؛ فلها أصل في الصحيح وإن لم يمكن أن يصحح هذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/180)