آداب الحسن البصري وزهده ومواعظه
تأليف
الإمام جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي
(597 هـ)
رحمه الله تعالى
تحقيق
سليمان الحرش
دار النوادر
الطبعة الثالثة
1428 هـ - 2007 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم وعليه توكلت
الحمد لله أهل الحمد ومستحقه، ومستخلصه لنفسه، ومستوجبه على خلقه، الأول بلا ابتداءٍ، والآخر بلا انتهاءٍ، الذي ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وقفت -أدام الله عزك وتأييدك- على ما التمسته، ورغبت فيه، وحرصت عليه من جمع ما هو مفترقٌ في الكتب، من آداب الحسن بن أبي الحسن البصري -رحمة الله عليه-؛ وزهده، ومواعظه، فأجبتك إلى ذلك، وجمعت ما تيسر لي جمعه، وأثبت ما انتهت القدرة إليه؛ حرصاً على بلوغ مرادك، وقضاءً لواجب حقك، وبالله أستعين، وهو حسبي ونعم الوكيل، وقد رسمت ما جمعته من ذلك على ثمانية فصول:
الفصل الأول: في ذكر منشئه، وصفة أحواله وأفعاله.
الفصل الثاني: فيما روي عنه من الآداب، ومكارم الأخلاق.
الفصل الثالث: فيما أورده من الحكم، والمواعظ مختصراً على جهة البلاغة والإيجاز.(1/21)
الفصل الرابع: في ذم الدنيا، ونهيه عن التعلق بها.
الفصل الخامس: فيما روي عنه عند تلاوة القرآن من الحكم والمواعظ.
الفصل السادس: فيما أورده على جهة الاستغفار والدعاء، ونهيٍ عن التصنع والرياء.
الفصل السابع: في مكاتباته للخلفاء، ومقاماته مع الأمراء.
الفصل الثامن: فيما روي عنه من المواعظ والحكم من سائر الأشياء.(1/22)
الفصل الأول في ذكر منشئه، وصفة أحواله وأفعاله
هو الحسن بن أبي الحسن البصري. كان أبوه مولى لرجل من الأنصار، وكانت أمه مولاةً لأم سلمة؛ زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، ربي في حجرها، وأرضعته بلبانها، ودر عليه ثديها؛ لبرها به، ومحبتها له، فعادت عليه بركة النبوة، فتكلم بالحكمة، وارتقى في الصلاح والمعرفة إلى أفضل رتبةٍ، وكان -رحمه الله- أحد المتقين، ومن أولياء الله الصديقين.
روي في الخبر: أن عائشة -رضي الله عنها- سمعت الحسن يتكلم، فقال: من هذا الذي يتكلم بكلام الصديقين؟
وقيل لعلي بن الحسين -رضي الله عنهما-: إن الحسن يقول: ليس(1/23)
العجب لمن هلك كيف هلك؟ وإنما العجب لمن نجا كيف نجا؟ فقال علي: سبحان الله! هذا كلام صديق.
وروي عن الأعمش أنه كان يقول: ما زال الحسن يعتني بالحكمة حتى نطق بها.
وسمعه آخر وهو يعظ، فقال: لله دره، إنه لفصيحٌ، ذو لفظٍ صحيحٍ إذا وعظ.
وكان الحسن دائم الحزن، كثير البكاء، مطالباً نفسه بالحقائق، بعيداً من التصنع، لا يظهر التقشف، وإن كان بادياً عليه، ولا يدع التجمل، ولا يمتنع من لبس جيد الثياب، ولا يتخلف عن مؤاكلة الناس، ولا يتأخر عن إجابة الداعي إلى الطعام، وكان له سمتٌ يعرفه به من لم يكن رآه.
روي أن رجلاً دخل البصرة، ولم يكن رأى الحسن، فسأل عنه الشعبي فقال: ادخل المسجد -عافاك الله- فإذا رأيت رجلاً لم تر مثله قط رجلاً، فذلك هو الحسن.
وقيل: ورد أعرابي البصرة، فقال: من سيد هذا المصر؟ فقالوا: الحسن بن أبي الحسن، قال: فيم ساد أهله؟ قالوا: استغنى عما في أيديهم من دنياهم، واحتاجوا إلى ما عنده من أمر دينهم، فقال الأعرابي: لله دره، هكذا فليكن السيد حقاً.
وقيل: مر به راهبان، فقال أحدهما لصاحبه: مل بنا إلى هذا الذي يشبه سمته سمت المسيح؛ لننظر ما عنده. فلما قربا منه، سمعاه يقول:(1/24)
يا عجباً لقومٍ أمروا بالزاد، ونودوا بالرحيل، وحبس أولهم على آخرهم، فهم ينتظرون الورود على ربهم؛ ثم هم بعد ذلك في سكرةٍ يعمهون! ثم بكى حتى بل لحيته. فقال الراهبان: حسبنا ما سمعناه من الرجل، ثم انصرفا عنه.
وكان أهل البصرة إذا قيل لهم: من أعلم أهلها، ومن أورعهم، ومن أزهدهم، ومن أجملهم؟ بدؤوا به، وثنوا بغيره. فكانوا إذا ذكروا البصرة، قالوا: شيخها الحسن، وفتاها بكر بن عبد الله المزني.
وقال عبد الواحد بن زيدٍ: لو رأيت الحسن، لقلت: صب على هذا حزن الخلائق؛ من طول تلك الدمعة، وكثرة ذلك النشيج.
وقيل له: صف لنا الحسن، فقال: رحم الله أبا سعيدٍ، كان -والله- إذا أقبل كأنه رجع من دفن حميمه، وإذا أدبر كأن النار فوق رأسه، وإذا جلس كأنه أسيرٌ قدم لتضرب عنقه، وإذا أصبح كأنه جاء من الآخرة، وإذا أمسى كأنه مريضٌ أضناه السقم.
قال يونس بن عبد الله: ما رأيت الحسن قط ضاحكاً بملء فيه.
وقيل: جلس محمد بن واسع إلى ثابت بن محمدٍ البناني، فرآه يضحك في مجلسه ويمزح، فقال: عافاك الله! إنك لتمزح في مجلسك، ولقد كنا نجلس إلى الحسن فكأنه إذا خرج إلينا كأنه جاء من الآخرة يحدثنا عن أهوالها.(1/25)
فقال ثابتٌ: رحم الله الحسن، كان من أهل الحق والجد، وأنى لنا نظرةٌ منه؟! وما نحن والحسن إلا كما قال الأول:
وابن اللبون إذا ما لزم في قرنٍ ... لم يستطع صولة البزل المقاعيس
وقيل: اعتزل الحسن الناس يوماً، فدخل عليه رجلٌ، فقال: يا أبا سعيد! أصلحك الله، لقد خفنا عليك الوحشة، فقال: يابن أخي! لا يستوحش مع الله -سبحانه وتعالى- إلا أحمق.
وقال حميدٌ خادم الحسن: قال لي الشعبي يوماً: أريد أن تعلمني إذا خلا الحسن لأجتمع به خالياً، فأعلمت بذلك الحسن، فقال: عرفه، وليأت إذا شاء. فخلا الحسن يوماً، فأعلمت الشعبي، فبادر وأتينا منزل الحسن، فوجدناه مستقبل القبلة وهو يقول: ابن آدم! لم تكن فكونت، وسألت فأعطيت، وسئلت فبخلت، بئس والله -ويحك- ما صنعت! فسلمنا عليه، ووقفنا ساعةً، فما التفت إلينا، ولا شعر بنا، فقال الشعبي: الرجل -والله- في غير ما نحن فيه، فانصرفنا ولم نجتمع به.
وقيل له يوماً: كيف أصبحت يا أبا سعيد؟ فقال: والله ما من انكسرت به سفينةٌ في لجج البحر بأعظم مني مصيبةً، قيل: ولم ذلك؟ قال: لأني من ذنوبي على يقينٍ، ومن طاعتي وقبول عملي على وجلٍ، لا أدري أقبلت مني، أم ضرب بها وجهي؟ فقيل له: فأنت تقول ذلك يا أبا سعيد؟! فقال: ولم لا أقول ذلك؟! وما الذي يؤمنني أن يكون الله(1/26)
سبحانه وتعالى قد نظر إلي وأنا على بعض هناتي نظرةً مقتني بها، فأغلق عني باب التوبة، وحال بيني وبين المغفرة، فأنا أعمل في غير معتملٍ؟
وقال له آخر: كيف حالك يا أبا سعيد؟ فقال: شر حالٍ، قال: ولم ذلك؟ قال: لأني امرؤٌ أنتظر الموت إذا أصبحت، وإذا أمسيت، ثم لا أدري على أي حالةٍ أموت؟
ودخل عليه رجلٌ وهو يبكي، فقال: ما يبكيك -أصلحك الله-؟ فقال: (أخاف) والله أن يدخلني مالكي النار ولا يبالي.
وسأله عن الطامة رجلٌ؟ فقال: هي الساعة التي يدفع الناس فيها إلى عذاب جهنم وبئس المصير؛ نعوذ بالله من النار، ومن عملٍ يؤدي إلى النار.
وذكرت النار يوماً في مجلسه فقال: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يخرج غداً من النار رجلٌ بعد أن يقيم فيها أعواماً))، ثم قال الحسن: ليتني كنت ذلك الرجل.
وكان يقول: ما صدق عبدٌ بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولا والله ما صدق عبدٌ بالنار إلا ظهر ذلك في لحمه ودمه.
وقيل لأبي سليمان الداراني: إن الحسن كان يقول: من أراد أن(1/27)
يخشع قلبه، ويغزر دمعه، فليأكل في نصف بطنه، فقال أبو سليمان: رحم الله أبا سعيدٍ، كان -والله- من القوم الذين مهدوا لأنفسهم، وناقشوها الحساب قبل يوم الحساب، وإني لأرجو أن يكون من الفائزين، رحمه الله تعالى.
وكان رجلٌ من أهل المسجد الحرام يقول: ما كنت أريد أن أجلس إلى قومٍ إلا وفيهم من يحدث عن الحسن بن أبي الحسن البصري، رحمه الله.
وقيل له يوماً: يا أبا سعيد! أي شيءٍ يدخل الحزن في قلبك؟ فقال: الجوع، قال: فأي شيءٍ يخرجه؟ قال: الشبع.
وكان يقول: توبوا إلى الله من كثرة النوم والطعام.
وكان يقول: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من عبدٍ جوع نفسه إلا لم يكن لأحدٍ ثوابٌ أفضل من ثوابه ذلك اليوم، إلا لمن جاء بمثل ما جاء به، -يريد: من صام لله سبحانه-.
وقال مالك بن دينارٍ: دخلت يوماً على الحسن وهو يأكل، فقال: كل يابن أخي! فقلت: أكلت، فقال: وإن فعلت، فأسعدني! فقلت، والله لقد شبعت، فقال الحسن: يا سبحان الله! ما كنت إخال أن مؤمناً يأكل حتى يشبع، فلا يقدر أن يساعد أخاه.
وقيل: حضر الحسن وليمةً، وحضرها رجلٌ من المتقشفين، فلما قدمت الحلواء، رفع يده رياءً وتصنعاً، فأكل الحسن، وقال: كل(1/28)
يا لكع، فلنعمة الله عليك في الماء البارد أعظم من نعمته عليك في الحلواء.
وقيل: إن الرجل كان اختزل من الطعام دجاجةً، فقال الحسن: رد ما هو عليك حرامٌ، وكل إن شئت ما هو لك حلالٌ، واحذر الرياء والتصنع؛ فإن الله تعالى يمقت فاعلهما.
وقيل: رأى الحسن شيخاً في جنازة، فلما فرغ من الدفن، قال له الحسن: يا شيخ! أسألك بربك: أتظن أن هذا الميت يود أن يرد إلى الدنيا فيزيد من عمله الصالح، ويستغفر الله من ذنوبه السالفة؟ فقال الشيخ: اللهم نعم! فقال الحسن: فما بالنا لا نكون كلنا كهذا الميت؟! ثم انصرف وهو يقول: أي موعظةٍ؟ ما أبلغها لو كان بالقلوب حياةٌ؟ ولكن لا حياة لمن تنادي.
ولقيه رجلٌ -وهو يريد المسجد في ليلةٍ مظلمةٍ ذات ردغٍ- فقال: أفي مثل هذه الليلة تخرج يا أبا سعيدٍ؟! فقال: يا ابن أخي! هو التسديد أو الهلكة.
وكان -رحمه الله- صاحب ليلٍ.
وكان يقول: ما رأيت شيئاً من العبادة أشد من الصلاة في جوف الليل، وإنها لمن أفعال المتقين.
وكان يقول: صلاة الليل فرضٌ على المسلمين، ولو قدر حلب شاةٍ أو فواق ناقةٍ.(1/29)
وكان يقول: إذا لم تقدر على قيام الليل، ولا صيام النهار، فاعمل أنك محرومٌ؛ قد كبلتك الخطايا والذنوب.
وكان يقول: منع البر النوم، ومن خاف الفوات أدلج.
وقال له رجلٌ: يا أبا سعيدٍ! أعياني قيام الليل، فما أطيقه، فقال: يابن أخي! استغفر الله، وتب إليه، فإنها علامة سوءٍ.
وكان يقول: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل.
وقيل: حاول الحسن الصلاة ليلةً، فلم تطاوعه نفسه، فجلس سائر الليلة لم ينم فيها حتى أصبح، فقيل له في ذلك، فقال: غلبتني نفسي على ترك الصلاة، فغلبتها على ترك النوم، وايم الله! لا أزال بها كذلك حتى تذل وتطاوع.
وكان يقول: إن النفس أمارةٌ بالسوء، فإن عصتك في الطاعة، فاعصها أنت في المعصية.
وقيل لعبد الواحد صاحب الحسن: أي شيءٍ بلغ الحسن فيكم إلى ما بلغ، وكان فيكم علماء وفقهاء؟ فقال: إن شئت عرفتك بواحدةٍ، أو اثنتين، فقلت: عرفني بالاثنتين، فقال: كان إذا أمر بشيءٍ أعمل الناس به، وإذا نهى عن شيءٍ أترك الناس له، قلت: فما الواحدة؟ قال: لم أر أحداً قط سريرته أشبه بعلانيته منه.
وقيل للحسن في شيءٍ قاله: ما سمعنا أحداً من الفقهاء يقول هذا! فقال: وهل رأيتم فقيهاً قط؟! إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، الدائب على العبادة، الذي لا يداري ولا يماري، ينشر(1/30)
حكمة الله، إن قبلت منه، حمد الله، وإن ردت عليه، حمد الله.
وقيل: خطب إليه رجلٌ ابنته، وبذل لها مئة ألف درهمٍ، فقالت أمها: زوجه؛ فقد أرغبها في الصداق، وبذل لها ما ترى، فقال الحسن: إن رجلاً بذل في صداق امرأةٍ مئة ألفٍ لجاهلٌ مغرورٌ يجب ألا يرغب في منكاحته، ولا يحرص على مصاهرته. وترك تزويجه، وزوجها من رجلٍ صالحٍ.
وقيل: شاوره رجلٌ فقال: يا أبا سعيد! لي ابنةٌ أحبها، وقد خطبها رجالٌ من أهل الدنيا، فمن ترى لي أن أزوجها؟ فقال: زوجها من تقي، إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
وقيل ليوسف بن عبيدٍ: هل تعرف رجلاً يعمل بعمل الحسن؟ فقال: رحم الله الحسن، والله ما أعلم أحداً يقول بقوله، فكيف يعمل بعمله؟! كان -والله- إذا ذكرت النار عنده كأنه لم يخلق إلا لها، وما رئي قط إلا وكأن النار والجنة بين عينيه خشيةً ورجاءً، لا يغلب أحدهما صاحبه.
وقال حميدٌ خادم الحسن: دخلنا على الحسن في بعض علله نعوده، فقال: مرحباً وأهلاً بكم، حياكم الله بالسلام، وأحلنا وإياكم دار المقام.
فقلنا: عظنا يرحمك الله! فإنا نرجو الانتفاع بما نسمع منك.
فقال: هذه علانيةٌ حسنةٌ إن صدقتم وصبرتم واتقيتم، معاشر إخواني! لا يكن حظكم من الخير سماعه بأذنٍ، وخروجه من أذنٍ، فإنه من رأى محمداً صلى الله عليه وسلم رآه غادياً ورائحاً، لم يضع لبنةً على لبنةٍ، ولا قصبةً على قصبةٍ، بل رفع له صلى الله عليه وسلم علم الهداية، فشمر إليه، فهنيئاً لمن اتبع سببه، واقتفى أثره، الوحا الوحا، ثم النجاء النجاء، علام تفرحون(1/31)
ولا تحزنون؟ أتيتم ورب الكعبة! كأنكم -والله- والأمر قد جاء معاً، والسعيد من اعتد له.
قال أبو عبد الرحمن: دخلنا على الحسن وهو عليلٌ، فأحضر كتاباً ليكتب وصيةً، ثم قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: فإن الحسن عبد الله وابن أمته، يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، من لقي الله بها صادقاً لسانه، مخلصاً قلبه، أدخله الله الجنة.
ثم قال: سمعت معاذاً يقول ذلك، ويوصي به أهله، ثم قال معاذٌ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، ويوصي به أهله.
وقيل: لما احتضر الحسن، جزع جزعاً شديداً، فقال له ولده، لقد أفزعتنا بجزعك هذا يا أبت، فقال: يا بني! قد جاء الحق، وزهق الباطل، وها أنا أصاب بنفسي التي لم أصب بمثلها.
وقال مالك بن دينارٍ: رأيت الحسن -رحمة الله عليه- في منامي -بعد أن مات- مسروراً، شديد البياض، تبرق مجاري دموعه، فقلت: ألست من الموتى؟ فقال: بلى! قلت: فماذا صرت إليه بعد الموت .. فلعمري لقد طال حزنك في الدنيا؟ فقال: رفع -والله- لنا ذلك الحزن علم الهداية إلى منازل الأبرار، فحللنا بثوابه مساكن المتقين، وايم الله! إن ذلك إلا من فضل الله علينا. قلت: فما تأمرنا به يا أبا سعيدٍ؟ قال: وما عسى؟ إن أطول الناس حزناً في الدنيا أطولهم فرحاً في الآخرة.
وقال صالح المري: دخلت على الحسن يوماً، فسمعته ينشد:(1/32)
ليس من مات فاستراح بميتٍ ... إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من تراه كئيباً ... كاسفاً باله قليل الرجاء
وكان إذا أصبح وفرغ من تسبيحه، أنشد:
وما الدنيا بباقيةٍ لحي ... ولا حي على الدنيا بباقي
وإذا أمسى، بكى وتمثل:
يسر الفتى ما كان قدم من تقىً ... إذا عرف الداء الذي هو قاتله
قال حميدٌ: دخلنا على الحسن يوماً، فوجدناه يبكي وينشد:
دعوه لا تلوموه دعوه ... فقد علم الذي لم تعلموه
رأى علم الهدى فسما إليه ... وطالب مطلباً لم تطلبوه
أجاب دعاءه لما دعاه ... وقام بأمره وأضعتموه
بنفسي ذاك من فطنٍ لبيبٍ ... تذوق مطعماً لم تطعموه
قال: وسمعته يوماً آخر يبكي ويقول: أي رب! متى أؤدي شكر نعمتك التي لا تؤدى إلا بنعمةٍ محدثةٍ، ومعونةٍ مجددةٍ؟! ما أخسر صفقة من صرف عن بابك، وضرب دونه حجابك! ثم أنشد:
إذا أنا لم أشكرك جهدي وطاقتي ... ولم أصف من قلبي لك الود أجمعا
فلا سلمت نفسي من السقم ساعةً ... ولا أبصرت عيني من الشمس مطلعا
ثم استغفر وبكى، وقال: القلب الذي يحب الله يحب التعب، ويؤثر النصب، هيهات، لا ينال الجنة من يؤثر الراحة. من أحب سخا. من(1/33)
أحب سخا بنفسه إن صدق، وترك الأماني؛ فإنها سلاح النوكى.
وقال له رجلٌ يوماً: يا أبا سعيد! ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً؟! قال: لأنهم خلوا بالرحمن، فألبسهم من نوره، فهو يبدو على وجوههم.
وقيل له: يا أبا سعيد! كيف ترى في الرجل يذنب، ثم يتوب، ثم يعود؟! فقال: ما أعرف هذا من أخلاق المؤمنين.
وذكر بحضرته الصحابة -رضوان الله عليهم- فقال: قدس الله أرواحهم، شهدوا وغبنا، وعلموا وجهلنا، فما أجمعوا عليه اتبعنا، وما اختلفوا فيه وقفنا.
وكان يقول: كنس المساجد وعمارتها بالذكر نقود الحور العين.
وكان يقول: حقيقٌ على من عرف أن الموت مورده، والقيامة موعده، والوقوف بين يدي الجبار مشهده، أن تطول في الدنيا حسرته، وفي العمل الصالح رغبته.
واتصل به أن رجلاً اغتابه، فبعث إليه بطبقٍ فيه رطبٌ وقال: أهديت إلي باغتيابك لي حسناتك، فكافأتك عليها، فاستحيا الرجل، ولم يعد لذكره بسوءٍ.
وكان إذا رأى أن رجلاً كثير البطالة غير مشتغلٍ بما يعنيه من أمر دينه، أنشده:
يسرك أن تكون رفيق قومٍ ... لهم زادٌ وأنت بغير زاد
وكان يقول: يابن آدم! نهارك ضيفك، فأحسن إليه؛ فإنك إن أحسنت(1/34)
إليه/ ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه، ارتحل بذمك، وكذلك ليلتك.
وولد له غلامٌ فهنأه جلساؤه، وقالوا: بارك الله لك في هيبته، وزادك من نعمته، فقال: الحمد لله على كل حسنةٍ، ونسأل الله الزيادة من كل نعمةٍ، ولا مرحباً بمن إن كنت عائلاً أنصبني، وإن كنت غنياً أذهلني، وبمن لا أرضى بسعيي له سعياً، ولا بكدي له في الحياةٍ كداً، حتى أشفق عليه من الفاقة بعد وفاتي، وأنا في حالٍ لا يصل إلي من همه حزنٌ، ولا من فرحه سرورٌ.
وكان يقول: إن خوفك حتى تلقى الأمن؛ خيرٌ من أمنك حتى تلقى الخوف.
وكان يقول: ما رأيت شيئاً لا شك فيه أصبح شكاً لا يقين فيه، من يقيننا بالموت، وعملنا لغيره.
وكان يقول: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من صدقةٍ أفضل من صدقة اللسان))، قيل: يا رسول الله! وما صدقة اللسان؟ قال: ((الشفاعة الحسنة، يخفي الله بها الذميمة، ويقضي الحاجة، ويفرج الكربة)).(1/35)
الفصل الثاني فيما أورده من الآداب ومكارم الأخلاق
روي عن الحسن -رحمه الله- أنه كان يقول: قضاء حاجة أخٍ مسلمٍ أحب إلي من اعتكاف شهرٍ.
وسأله رجلٌ عن حسن الخلق ما هو؟ فقال: البذل، والعفو، والاحتمال.
وكان يقول: مروءة الرجل: صدق لسانه، واحتماله مؤنة إخوانه، وبذله المعروف لأهل زمانه، وكفه الأذى عن جيرانه.
وكان يقول: لو شاء الله -عز وجل- لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم، ولو شاء لجعلكم فقراء ولا غني فيكم، ولكن ابتلى بعضكم ببعضٍ لينظر كيف تعملون.
ثم دل عباده على مكارم الأخلاق، فقال -جل جلاله-: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
وقال: عدة الكريم: فعلٌ وتعجيلٌ، وعدة اللئيم: تسويفٌ وتطويلٌ.(1/36)
وكان يقول: ما أنصفك من كلفك إجلاله، ومنعك ماله.
وقال: كنا نعد البخيل منا الذي يقرض أخاه الدرهم؛ إذ كنا نعامل بالمشاركة والإيثار. والله! لقد كان أحد من رأيت وصحبت يشق إزاره فيؤثر أخاه بنصفه، ويبقى له ما بقي، ولقد كان الرجل ممن كان قبلكم يصوم، فإذا كان عند فطره، مر على بعض إخوانه، فيقول: إني صمت هذا اليوم لله، وأردت إن تقبله الله مني أن يكون لك فيه حظٌ، فهلم شيئاً من عشائك، فيأتيه الآخر ما تيسر من ماءٍ وتمرٍ يفطر عليه يبتغي أن يكسبه أجراً، وإن كان غنياً عن الذي عنده.
وكان يقول: أدركت أقواماً، وإن الرجل منهم ليخلف أخاه في أهله وولده أربعين سنةً بعد موته.
وكان يقول: إذا دخل الرجل بيت صديقه، فلا بأس عليه أن يتناول مما حضر من طعامه وفاكهته بغير إذنه.
وكان يقول: ما من نفقةٍ إلا والعبد يحاسب عليها، إلا نفقته على والديه فمن دونهما، أو نفقته على أخيه في الله، وصاحبه في طاعته؛ فإنه روي أن الله -سبحانه وتعالى- يستحيي أن يحاسبه عليها.
وكان يقول: ليس من المروءة أن يربح الرجل على أخيه.
وكان يقول: احذر ممن نقل إليك حديث غيرك، فإنه سينقل إلى غيرك حديثك.
وكان يقول: ابن آدم! عملك لك، انظر على أي حالٍ تحب أن تلقى عليها ربك؟
وكان يقول: إن لأهل الخير علامةً يعرفون بها: صدق الحديث، وأداء(1/37)
الأمانة، والوفاء بالعهد، وقلة الفخر والخيلاء، وصلة الرحم؛ ورحمة الضعفاء، وبذل المعروف، وحسن الخلق، وسعة الحلم، وبث العلم، وقلة مثافنة النساء.
وكان يقول: ابن آدم! عف عن محارم الله تكن عابداً، وارض بما قسم الله تكن غنياً، وأحسن جوار من جاورك تكن مؤمناً، وأحبب للناس ما تحب لنفسك تكن عدلاً، وأقلل الضحك؛ فإنه يميت القلب كما يموت البدن.
وكان يقول: أيها الناس! إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون.
وكان يقول: الصبر كنزٌ من كنوز الجنة، وإنما يدرك الإنسان الخير كله بصبر ساعةٍ.
وكان يقول: من أعطي درجة الرضا، كفي المؤن، ومن كفي المؤن، صبر على المحن.
وقيل: تساب رجلان بحضرة الحسن، فقام المسبوب وهو يمسح العرق عن وجهه، ويتلو: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}، فقال الحسن: لله دره، عقلها -والله- حين ضيعها الجاهلون.
وقال: ابن آدم! لتصبرن أو لتهلكن.
وقال: لقد روي: أن رجلاً شتم أبا ذر -رحمه الله- فقال: إن بيني وبين الجنة عقبةٌ، إن جزتها، فأنا خيرٌ مما تقول، وإن عوج بي دونها إلى(1/38)
النار، فأنا أشر مما قلت، فانته أيها الرجل؛ فإنك تصير إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقيل: شتم رجلٌ رجلاً، فقال: لولا أن الله -عز وجل- [يسمع، لأجبتك].
وكان يقول: الصبر صبران: صبرٌ عند المصيبة، وصبرٌ عن المعصية، فمن قدر على ذلك، فقد نال أفضل الصبرين.
وكان يقول: ما من جرعةٍ أحب إلى الله -عز وجل- من جرعة مصيبةٍ موجعةٍ يتجرعها صاحبها بحسن عزاءٍ وصبرٍ، أو جرعة غيظٍ يحملها بفضل عفوٍ وحلمٍ.
وكان يقول: ابن آدم! إنك لن تجمع إيماناً وخيانةً، كيف تكون مؤمناً ولا يأمنك جارك؟ أو تكون مسلماً ولا يسلم الناس منك، أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)).
وكان -عليه السلام- يقول: ((ليس بمؤمنٍ من خاف جاره بوائقه)).(1/39)
ثم يقول الحسن -رحمه الله-: ابن آدم! إنك لا تستحق حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، فأصلح عيب نفسك، فإنك لا تصلح عيباً إلا وجدت عيباً آخر أنت أولى بإصلاحه.
ابن آدم! إن تكن عدلاً، فاجعل لك عن عيوب الناس شغلاً؛ فإن أحب العباد إلى الله من كان كذلك.
وقيل: أنشده رجلٌ يوماً:
وأجرأ من رأيت بظهر غيبٍ ... على عيب الرجال ذوو العيوب
فقال: لله در القائل! إنه كما قال.
وكان يقول: ابن آدم! ما أوهنك وأكثر غفلتك! تعيب الناس بالذنوب، وتنساها من نفسك، وتبصر القذى في عين أخيك، وتعمى عن الجذع معترضاً في عينيك، ما أقل إنصافك، وأكثر حيفك!.
وكان يقول: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)). وذلك أن الله -عز وجل- غفر لهم ذنوبهم، بما أسدوه من المعروف إلى خلقه في دار الدنيا، ثم يقول لهم يوم القيامة: هبوا حسناتكم لمن شئتم، فقد غفرت لكم سيئاتكم، فيهبون حسناتهم، فيكونون أهل معروفٍ في الآخرة، كما كانوا في الدنيا.
وسئل: أي الأخلاق أفضل؟ فقال: الجود والصدق.(1/40)
وكان يقول: أدركت قوماً ما كان أحدهم بديناره ولا بدرهمه أحق به من أخيه المسلم، فما بالكم -معشر الناس- تحملون على ما به تؤاخذون، وعليه تحاسبون؟!
وسمع رجلاً يحاسب آخر، ويقول: بقي لي عليك دانقٌ، فقال: لا تدنقوا فيدنق الله عليكم، لعن الله الدانق، ومن دنق الدانق.
وكان يقول: إنه لا دين لمن لا مروءة له.
وكان يقول: من حبس الطعام أربعين يوماً يطلب إغلاءه، ثم لو طحنه، وخبزه، وأطعمه المساكين، لم ينج من إثمه، ولا يسلم من ذنبه.
وكان يقول: ليس حسن الجوار كف الأذى، وإنما حسن الجوار احتمال الأذى.
وكان يقول: أربعٌ من كن فيه عصمه الله -عز وجل- من الشيطان، وعافاه من النار: من ملك نفسه عند الرهبة والرغبة، والحدة والشهوة.
وكان يقول: العلم خير تراثٍ، والأدب أزين خدينٍ، والتقوى خير زادٍ، والعبادة أربح بضاعة، والعقل خير وافدٍ، وحسن الخلق خير قرين، والحلم خير وزيرٍ، والقناعة أفضل غنىً، والتوفيق خير معينٍ، وذكر الموت أوعظ واعظٍ.
وكان يقول: لا تكن ممن يجمع علم العلماء، وحكم الحكماء، ويجري في الحق مجرى السفهاء.
وكان يقول: أربعٌ من كن فيه أدخله الله الجنة، ونشر عليه الرحمة: من(1/41)
بر والديه، ورفق بمملوكه، وكفل اليتيم، وأعان الضعيف.
وكان يقول: إن الحسد في دين المسلم أسرع من الآكلة في جسده.
وكان يقول: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((العلم علمان: علمٌ في القلب، فذلك العلم النافع، وعلمٌ على اللسان، فذلك حجة الله على ابن آدم)).
وكان يقول: المؤمن الكيس الفطن، الذي كلما زاده الله إحساناً، ازداد من الله خوفاً.
وكان يقول: المؤمن أحسن عملاً، وأشدهم من الله خوفاً، لو أنفق في سبيل الله ملء الأرض ذهباً، ما أمن حتى يعاين، ويقول أبداً: لا أنجو، لا أنجو، والمنافق يقول: سواد الناس كثيرٌ، وما عسى ذنبي في جملة الذنوب؟ إن الله رحيمٌ، وسيغفر لي.
ثم يقول الحسن: ابن آدم! تعمل بالسيئات، وتتمنى على الله الأماني؟!
وكان يقول: من ساء خلقه، عذب نفسه، ومن كثر ماله، كثرت ذنوبه، ومن كثر كلامه، كثر سقطه.
وكان يقول: لولا العلم، كان الناس كالبهائم.
وروي عنه: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يقول: إن مما(1/42)
يصفي لك ود أخيك أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحب الأسماء إليه، وأن توسع له في المجلس، ثم يقول الحسن: لقد علمكم السلف الصالح الأدب ومكارم الأخلاق، فتعلموا، رحمكم الله.
وكان يقول: ما بالنا يلقى أحدنا أخاه فيحفي السؤال عنه، ويدعو له ويقول: غفر الله لنا ولك، وأدخلنا جنته، فإذا كان الدينار والدرهم، فهيهات؟! ويحكم ما هكذا كان سلفكم الصالح، فعلام تركتم الاقتداء، وقد أمرتم به؟!
وكان يقول: أيها الناس! ما بالنا نتقارب في العافية، وإذا نزل البلاء تباينا؟! ما هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نعوذ بالله من خلافٍ عليهم.
وسمع رجلاً يكثر الكلام، فقال: يا بن أخي! أمسك عليك لسانك، فقد قيل: ما شيءٌ أحق بسجنٍ من لسانٍ.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم)).
وكان يقول: لسان العارف من وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلم تفكر، فإن كان الكلام له، تكلم به، وإن كان عليه، سكت، وقلب الجاهل وراء لسانه، كلما هم بكلامٍ، تكلم به.(1/43)
وكان يقول: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: ((إن بدلاء أمتي لا يدخلون الجنة بكثرة صلاةٍ ولا صيامٍ، ولكن يدخلونها برحمة الله، وسلامة الصدور، وسخاوة الأنفس، والرحمة لكافة المسلمين)).
وكان يقول: روي أن منادياً ينادي يوم القيامة: ليقم من كان له أجرٌ على الله، فلا يقوم إلا رجلٌ قضى لأخيه حاجةً، أو عفا له عن مظلمةٍ، أو أسدى إليه نعمةً.
وكان يقول: العاقل لا يشتري عداوة رجلٍ واحدٍ بمودة ألف رجلٍ، إنه إن فعل ذلك، خسر ولم يربح.
وكان يقول: عز الشريف أدبه، وتقواه حسبه.
وكان يقول: من رمى أخاه بذنبٍ قد تاب إلى الله -عز وجل- منه؛ لم يمت حتى يبتلى بمثل ذلك الذنب.
وقيل: سأله الربيع بن صبيحٍ، فقال: يا أبا سعيد! ما تقول في(1/44)
العشر ركعاتٍ التي بعد صلاة العشاء، أتطوعٌ هي أم سنةٌ؟ فقال: ليست بسنةٍ، إنها لو كانت سنةً، ما وسع المسلم تركها، ولكن يابن أخي! من أدب العبد المسلم، وقوام أمره إذا عود نفسه من الخير عادةً، أو تعبد لله عبادةً، أن يدأب فيها، ويقيم دهره عليها.
وكان يقول: مكتوبٌ في التوراة: الغنى في القناعة، والسلامة من الناس، والعافية في رفض الشهوة، والنجاة في ترك الرغبة، والتمتع في الدهر الطويل بالصبر في العمر القصير.
ثم يقول: تأدبوا -رحمكم الله- بآداب الله؛ وحافظوا على ما في كتب الله؛ تكونوا من أولياء الله.
وكان يقول: ما أنعم الله على عبدٍ نعمةً؛ إلا وعليه فيها تباعةٌ، إلا ما كان من نعمته على سليمان بن داود -عليهما السلام-؛ فإن الله عز وجل- يقول: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك غير حسابٍ}.
وكان يقول: ما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل.
وكان يقول: إنما أنت أيها الإنسان عدد، فإذا مضى لك يومٌ، فقد مضى بعضك.(1/45)
وكان يقول: رحم الله ابن مسعودٍ كأنه عاينكم حين قال: زاهدكم راغبٌ ومجتهدكم مقصرٌ، وعالمكم جاهلٌ.
وكان يقول: من خاف الله، أخاف الله سبحانه منه كل شيءٍ، ومن خاف الناس، أخافه الله من كل شيءٍ.
وكان يقول: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: خالطوا وزايلوا.
ثم يقول الحسن: خالطوا الناس في الأخلاق الكريمة، وزايلوهم في الأفعال القبيحة.
وكان يقول: يجب على المسلم لأهل ملته أربعة أشياء: معونة محسنهم، وإجابة داعيهم، والاستغفار لمذنبهم، والدعوة إلى الحق لمدبرهم.
وكان يقول: من وافق من أخيه المسلم شهوةً، أو قضى له حاجةً، غفر له ما تقدم من ذنبه.
وكان يقول: روي أن الله -عز وجل- قال لآدم -عليه السلام-: يا آدم! أربعٌ فيهن جميع الأمر لك ولولدك من بعدك؛ واحدةٌ لي، وواحدةٌ لك، وواحدةٌ بيني وبينك، وواحدةٌ بينك وبين الناس. فأما التي لي، فأن تعبدني لا تشرك بي شيئاً، وأما التي لك، فعملك أجزيك به أفقر ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك، فعليك الدعاء، وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين الناس، فأن تصحبهم بما تريد أن يصحبوك به.(1/46)
وكان يقول: الفهم وعاء العلم، والعلم دليل العمل، والعمل قائد الخير، والهوى مركب المعاصي، والمال داء المنكرين، والدنيا سوق الآخرة، والويل كل الويل لمن قوي بنعم الله على معاصيه.
وكان يقول: ابن آدم! إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه بما وقر في القلب، وصدقته الأعمال.
وقيل: نعي داود الطائي للحسن -رحمه الله-، فقال: غفر الله له، والله لقد كان كالعافية لا يعرف قدرها إلا عند فقدها، سمع ذلك حبيب بن أوسٍ فقال:
والحادثات وإن أصابك بؤسها ... فهو الذي حقاً أنال نعيمها
وقيل: دعاه يوماً رجلٌ من المتكبرين، فناده: [يا أبو سعيد! فقال: شغلك بالدوانيق وجمعها منعك يابن أخي أن تقول:] يا أبا سعيد! ثم قال: تعلموا -رحمكم الله- العلم للأديان، والطب للأبدان، والنحو لتقويم اللسان.
وكان يقول: من لحن في القرآن، فقد كذب على الله؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- قال: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}، واللحن من أكبر الباطل.(1/47)
وقال له رجلٌ: إنك يا أبا سعيدٍ لا تلحن! فقال: يابن أخي! لقد سبقت اللحن.
وقيل له: ما المروءة؟ قال: ألا تطمع فتذل، ولا تسأل فتقل.
وكان يقول: إذا لم تكن حليماً، فتحلم، وإذا لم تكن عالماً، فتعلم، فقلما تشبه رجلٌ بقومٍ إلا كان منهم.
وكان يقول: أربعٌ من كن فيه كان كاملاً، ومن تعلق بواحدةٍ منهن كان من صالحي قومه: دينٌ يرشده، أو عقلٌ يسدده، أو حسبٌ يصونه، أو حياءٌ يوقره.
وكان يقول: إلى من يشكو المسلم إذا لم يشك لأخيه المسلم؟ ومن ذا الذي يلزمه من نفسه مثل الذي يلزمه؟ إن المسلم مرآة أخيه المسلم، يبصره عيبه، ويغفر له ذنبه. قد كان من قبلكم من السلف الصالح، يلقى الرجل الرجل فيقول: يا أخي! ما كل ذنوبي أبصر، ولا كل عيوبي أعرف، فإذا رأيت خيراً فمرني، وإذا رأيت شراً فانهني، وقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: رحم الله امرأً أهدى إلينا مساوينا، وكان أحدهم يقبل موعظة أخيه، فينتفع بها.
وكان يقول: المؤمن شعبةٌ من المؤمن، يحزن إذا حزن، ويفرح إذا فرح.
وكان يقول: إن لك من خليلك نصيباً، فتخير الإخوان والأصحاب، وجانب الأمر الذي يعاب.
وكان يقول: ترفعوا عن بعض الأمر؛ فإن الرجل ليأكل الأكلة، ويدخل المدخل، ويجلس المجلس بغير قلبه، ويذهب دينه، وهو لا يشعر.(1/48)
وقيل له: يا أبا سعيد! إن قوماً يحضرون مجلسك يحفظون عليك سقطات كلامك ليعنتوك بذلك، فقال: يابن أخي! لا يكن في ذلك عليك شيءٌ؛ فإني طمعت نفسي في دخول الجنان، ومجاورة الرحمن، ومرافقة الأنبياء عليهم السلام، ولم أطعمها في السلامة من الناس.
وكان يقول: من طلب العلم لله، لم يلبث أن يرى ذلك في خشوعه، وزهده، وتواضعه.
وكان يقول: احرصوا على حضور الجنائز؛ فإن فيها ثلاثة أجور: أجراً لمن عزى، وأجراً لمن صلى، وأجراً لمن وارى، وقد روي: ((أن من تبع جنازةً توارى غفر له سبعون موبقةً)).
وقيل: لما توفيت النوار زوجة الفرزدق، حضر جنازتها وجوه أهل البصرة، وحضر الحسن، فسايره الفرزدق؛ وقال له: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد؟ قال: وما يقولون؟ قال: يقولون: حضر هذا القبر خير الناس، وشر الناس، قال الحسن: ومن يريدون بذلك؟ قال: يزعمون أنك -رحمك الله- خير الناس، وأني شر الناس، فقال الحسن: لست بخيرهم، ولست بشرهم، ولكن ما أعددت لمثل هذا اليوم؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ستين سنةً، فلما دفنت النوار قال الفرزدق:
أخاف وراء القبر إن لم تعافني ... أشد من القبر التهاباً وأضيقا
إذا قادني يوم القيامة قائدٌ ... عنيفٌ وسواقٌ يسوق الفرزدقا(1/49)
لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزوقا
فبكى الحسن حتى انتحب، وقال: إن من الشعر لحكمةً، ثم قال: يرحمك الله أبا فراس! اعمل لمثل اليوم إن كنت ذا نظرٍ صحيحٍ؛ فإنك تقدم على جوادٍ عدلٍ، وكأن قد، ثم افترقا، ومات الفرزدق، فرئي في النوم وهو يقول: رحمت بيومي مع الحسن.
وكان الحسن يقول: أيها الناس! إياكم والتسويف؛ فإني سمعت بعض الصالحين يقول: نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب، ثم لا نتوب حتى نموت.
وكان يقول: في الطعام اثنتا عشرة خصلةً: أربعٌ فريضةٌ، وأربعٌ سنةٌ، وأربعٌ أدبٌ.
أما الفريضة: فالتسمية، واستطابة الأصل، والرضا بالموجود، والشكر على النعمة.
وأما السنة: فالجلوس على الرجل اليمنى، والأكل من بين يدي الآكل، وتناول الطعام بثلاثة أصابع اليد اليمنى، ولعق الأصابع.
وأما الأدب: فغسل اليد قبل الطعام وبعده، وتصغير اللقم، وإجادة المضغ، وصرف البصر عن وجوه الآكلين.
وقيل: جلس يوماً، فأتته امرأةٌ لم تر الناس مثلها، فقالت: يا أبا سعيدٍ! أيجوز للرجل أن يتزوج من النساء أربعاً؟ قال: نعم، فقالت: فهل يجوز مثل ذلك للنساء؟ قال: لا، قالت: فلم؟ قال: لأن الله -عز وجل-(1/50)
أحل ذلك للرجال، وحرمه على النساء، فقالت: بعيشك يا أبا سعيد! لا تفت بذلك أزواج النساء، ثم انصرفت، وأتبعها الحسن بصره، وقال: ما على من ملك هذه ألا يرى غيرها. قيل: وما رئي الحسن قبلها ولا بعدها مال إلى شيءٍ من الدنيا ولا عرج عليه.
وقيل: كان لرجلٍ من الصالحين عند رجلٍ وديعةٌ، فمات المودع فجأةً، فسأل صاحبها عنها، فقال ورثة الميت: ما نعلم لها موضعاً، فجاء الرجل إلى الحسن فأخبره، فقال له: ائت زمزم فتوضأ وصل مخلصاً، ثم ادع باسم صاحبك الذي أودعته، فإن أجابك، فسله عن أمانتك التي أودعته، ففعل، ولم يجبه أحدٌ، فأتى الحسن فأخبره، فقال له: ائت اليمن فقف عند وادي برهوت، وادع صاحبك باسمه، فإذا أجابك فسله، فأتى اليمن، وفعل ما أمره الحسن به، فأجابه الرجل، فسأله عن أمانته، فعرفه مكانها، ثم قال السائل: يا أخي! ألم تك رجلاً صالحاً، فما الذي دهاك حتى ألقيت حيث أنت؟ فقال: كنت قاطعاً للرحم، نعوذ بالله من سوء القضاء.
وكان الحسن يقول: جهد البلاء أربعةٌ: كثرة العيال، وقلة المال، وجار السوء في دار المقام، وزوجةٌ تجور.
وكان يقول: أعز الأشياء: درهمٌ حلالٌ، وأخٌ في الله إن شاورته في دنياك وجدته متين الرأي، وإن شاورته في دينك وجدته بصيراً به.(1/51)
وكان يقول: يكون الرجل عالماً، ولا يكون عابداً، ويكون عابداً، ولا يكون عاقلاً، ولقد كان مسلم بن يسارٍ عابداً عالماً عاقلاً.
وكان يقول: لله در بكر بن عبد الله، لقد سمعته يأمر بالحلم، ويحث على العفو، ويقول: أيها الناس! أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم؛ فقد كان أبو الدرداء يقول: أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب.
وكان الحسن يقول: من تسربل العقل، أمن من الهلكة.
وكان يقول: المغبون من غبن عقله.
وكان يقول: اصحب الناس بمكارم الأخلاق، فإن الثواء بينهم قليلٌ.
قال يونس بن حبيب: سمعت الحسن البصري -رحمه الله- يقول: اثنان لا يصطحبان أبداً: القناعة والحسد، واثنان لا يفترقان أبداً: الحرص والحسد.
وكان يقول: يسود الرجل بعقله وبحيائه وحلمه.
وكان يقول: لا تأت إلا من تأمل نائله، أو تخاف سطوته، أو ترجو بركة دعائه، أو تقتبس من علمه.(1/52)
الفصل الثالث فيما أورده من الحكم والمواعظ مختصراً على جهة البلاغة والإيجاز
سمع الحسن رجلاً يقول: اللهم أهلك الفجار، فقال: إذا تستوحش الطريق، ويقل المتصرفون.
وكان يقول: إن هذا الدين قوي، وإن الحق ثقيلٌ، وإن الإنسان ضعيفٌ، فليأخذ أحدكم ما يطيق؛ فإن العبد إذا كلف نفسه من العمل فوق طاقتها، خاف عليها السآمة والترك.
وكان يقول: المرض زكاة البدن، كما أن الصدقة زكاة المال، فكل جسمٍ لا يشتكي كمثل مالٍ لا يزكى.
وكان يقول: أفضل العمل الفكرة والورع، فمن كانت حياته كذلك، نجا، وإلا، فليحتسب حياته.
وكان يقول: الفكرة مرآةٌ تريك حسنتك من سيئتك، ومن اعتمد عليها أفلح، ومن أغفلها افتضح.
وقال له رجلٌ يوماً: يا أبا سعيدٍ! كنت حدثتني بحديثٍ فنسيته، فقال الحسن: لولا النسيان، لكثر الفقهاء.(1/53)
وقال أبان: دخلت على الحسن المسجد، فقلت: هل صليت -رحمك الله؟- فقال: لا! قلت: فإن أهل السوق قد صلوا، فقال: ومن يأخذ عن أهل السوق دينه؟! إن نفقت سلعتهم أخروا الصلاة، وإن كسدت قدموها.
وكان يقول: احذر ثلاثة لا تمكن الشيطان فيها من نفسك: لا تخلون بامرأةٍ ولو قلت: أعلمها القرآن، ولا تدخل على السلطان ولو قلت: آمره بالمعروف وأنهاه عن المنكر، ولا تجلس إلى صاحب بدعةٍ؛ فإنه يمرض قلبك، ويفسد عليك دينك.
وكان يقول: تفقد الحلاوة في ثلاثةٍ: في الصلاة، والقراءة، والذكر، فإن وجدت ذلك، فامض وأبشر، وإلا فاعلم أن بابك مغلقٌ، فعالج فتحه.
وكان يقول: لولا ثلاثةٌ ما طأطأ ابن آدم رأسه: الموت، والمرض، والفقر، وإنه بعد ذلك لوثابٌ.
وكان يقول: أيها الناس! إنا والله ما خلقنا للفناء، ولكنا خلقنا للبقاء، وإنما ننقل من دارٍ إلى دارٍ.
نظم ذلك أبو العلاء المعري فقال:
خلق الناس للبقاء فظلت ... أمةٌ يحسبونهم للنفاد(1/54)
إنما ينقلون من دار أعمالٍ ... إلى دار شقوةٍ أو رشاد
وكان يقول: من وقر صاحب بدعةٍ، فقد سعى في هدم الإسلام.
وكان يقول: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ((إذا مدح الفاسق، غضب الله تعالى)).
وكان يقول: احذروا العابد الجاهل، والعالم الفاسق؛ فإن فيهما فتنةً لكل مفتونٍ.
وكان يقول: ابن آدم! لا يغرنك أن تقول: المرء مع من أحب؛ فإنك لن تلحق الأبرار إلا بأعمالهم، وأن اليهود والنصارى ليحبون أنبياءهم، ولا والله ما يحشرون معهم، ولا يدخلون في زمرتهم، وإنهم لحصب جهنم هم لها واردون.
وكان يقول: لا تزال هذه الأمة بخير، ولا تزال في كنف الله وستره، وتحت جناح ظله ما لم يرفق خيارهم بشرارهم، ويعظم أبرارهم فجارهم، ويمل قراؤهم إلى أمرائهم، فإذا فعلوا ذلك، رفعت يد الله عنهم، وسلط عليهم الجبابرة فساموهم سوء العذاب، ولعذاب الآخرة أشق وأبقى، وقذف في قلوبهم الرعب.
وقيل: رأى الحسن نعيم بن رضوان يمشي مشية المتكبر، فقال:(1/55)
انظروا إلى هذا ليس فيه عضوٌ إلا ولله تعالى فيه نعمةٌ، وللشيطان لعنةٌ.
وكان يقول: يحاسب الله سبحانه المؤمنين يوم القيامة بالمنة والفضل، ويعذب الكافرين بالحجة والعدل.
وكان يقول: يا عجباً لألسنةٍ تصف، وقلوبٍ تعرف، وأعمالٍ تخالف.
وكان يقول: من دخل مداخل التهمة، لم يكن له أجر الغيبة.
ورأى شيخاً يعبث بالحصى ويقول: اللهم زوجني الحور العين! فقال: يسأل الحور العين، ويلعب كما يلعب المجانين.
وكان يقول: من أحب أن يعلم ما هو فيه؟ فليعرض عمله على القرآن، ليتبين له الخسران من الرجحان.
وكان يقول: رحم الله عبداً عرض نفسه على كتاب الله، فإن وافق أمره، حمد الله، وسأله المزيد، وإن خالف، استعتب، ورجع من قريبٍ.
وكان يقول: يا عجباً لابن آدم! حافظاه على رأسه، لسانه قلمهما، وريقه مدادهما، وهو بين ذلك يتكلم بما لا يعنيه.
وكان يقول: ابن آدم! تحب أن تذكر حسناتك، وتكره أن تذكر سيئاتك، وتؤاخذ غيرك بالظن، وأنت مقيمٌ على اليقين، مع علمك بأنك قد وكل بك ملكان يحفظان عليك قولك وعملك.
ابن آدم! إن اللبيب لا يمنعه جد الليل من جد النهار، ولا جد النهار من جد الليل، قد لازم الخوف قلبه، إلى أن يرحمه ربه.
وكان يقول: إياكم والمدح؛ فإنه الذبح.
ولقد روي أن رجلاً مدح بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه السلام:(1/56)
((قطعتم ظهره، لو سمعها ما أفلح بعدها أبداً)).
وكان يقول: ما أنصف ربه عبدٌ اتهمه في نفسه، واستبطأه في رزقه.
وكان يقول: لا شيء أولى بأن تقيده من لسانك، ولا شيء أولى بألا تقبله من هواك.
وكان يقول: ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام الممسك من نفسك.
وكان يقول: ابن آدم! إنك لست بسابقٍ أجلك، ولا بمغلوبٍ على رزقك، ولا بمرزوقٍ ما ليس لك، فلم تكدح؟ وعلام تقتل نفسك؟
ولقي أعرابي الحسن: فقال: أصلحك الله! أعلمني ديناً مبسوطاً، لا ذاهباً شطوطاً، ولا هابطاً هبوطاً، فقال الحسن: يا ابن أخي! لئن قلت ذاك، لقد أحسنت؛ إن خير الأمور [لأوسطها.
وكان يقول: من لم يجرب الأمور] خدع، ومن صارع الحق صرع.
وكان يقول: ابن آدم بين ثلاثة أشياء: بليةٌ نازلةٌ، ونعمةٌ زائلةٌ، ومنيةٌ قاتلةٌ.
وقال: ابن آدم غرضٌ للبلايا، والرزايا، والمنايا. ثم ينتحب ويبكي ويقول: {ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار}.(1/57)
ولما بلغ الحسن مصرع الحسين بن علي -رضي الله عنهما- انتحب وتأوه، وقال: واحسرتاه ماذا لقيت هذه الأمة، قتل ابن دعيها ابن نبيها! اللهم كن له بالمرصاد {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون}.
وكان يقول: ابن آدم! قدم ما شئت من عملٍ صالحٍ أو غيره؛ فإنك قادمٌ عليه، وأخر ما شئت أن تؤخر؛ فإنك راجعٌ إليه.
وكان يقول: من أدرك آخر الزمان، فليكن حلساً من أحلاس بيته.
وكان يقول: ما لي أسمع حسيساً، ولا أرى أنيساً؟!
وقيل: إنه خرج خارجي بالجزيرة، فقال: برأيٍ منكرٍ فأنكره، وأراد تغييره، فوقع فيما هو أشد وأنكر منه.
وكان يقول: من ذم نفسه في الملأ، فقد مدحها، وبئس ما صنع.
وكان يقول: لولا البدلاء، لخسفت الأرض، ولولا الصالحون، لهلكت الأمة، ولولا العلماء لكان الناس كالبهائم، ولولا السلطان لأكل الناس بعضهم بعضاً، ولولا الحمقى لخربت الدنيا، ولولا الريح لأنتن ما بين السماء والأرض.
وكان يقول: ثلاثة من قواصم الظهر: إمامٌ تطيعه فيضلك، وجارٌ إن علم خيراً ستره، وإن علم شراً نشره، وفقرٌ ظاهرٌ لا يجد صاحبه متلذذاً.
وقال العلاء بن زيادٍ: قلت للحسن: رجلان تفرغ أحدهما للعبادة، واشتغل الآخر بالسعي على عياله، أيهما أفضل؟ فقال الحسن: ما اعتدل(1/58)
الرجلان، الذي تفرغ للعبادة أفضل وأحسن صنعاً.
وكان يقول: إذا رأيت في ولدك ما تكره، فاستعتب ربك، وتب إليه؛ فإنما ذلك شيءٌ أردت به أنت.
قوله -رحمه الله-: فاستعتب ربك؛ أي: راجعه وتب إليه، واستغفره ذنوبك.
وكان يقول: إذا أظهر الناس العلم، وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا في الأرحام، لعنهم الله -جل ثناؤه- فأصمهم وأعمى أبصارهم.
وسأله رجلٌ عن الغيبة ما هي، وما يوجبها؟ فقال: هي -والله- عقوبة الله -عز وجل- يحلها بالعباد إذا عصوه، وتأخروا عن طاعته.
وقيل له: يا أبا سعيد! من أين أتي على الخلق؟
قال: من قلة الرضا عن الله -عز وجل-.
فقيل له: فمن أين دخل عليهم قلة الرضا عن الله -عز وجل-؟
فقال: من جهلهم بالله، وقلة المعرفة به.
وكان يقول: هجران الأحمق قربةٌ إلى الله، ومواصلة العاقل إقامةٌ لدين الله، وإكرام المؤمن خدمةٌ لله، ومصارمة الفاسق عونٌ من الله.
وكان يقول: لا تكن شاة الراعي أعقل منك؛ تزجرها الصيحة، وتطردها الإشارة.
وكان يقول: سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول: اجتهدوا في(1/59)
العمل، فإن قصر بكم ضعفٌ، فكفوا عن المعاصي.
وكان يقول: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لم يؤت الناس في الدنيا خيراً من اليقين والعافية، فاسألوهما الله عز وجل))، ثم يقول الحسن: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . باليقين طلبت الجنة، وباليقين هرب من النار، وباليقين صبر على المكروه، وباليقين أديت الفرائض، وفي المعافاة خيرٌ كثيرٌ.
وكان يقول: المؤمن لا يلهو حتى يغفل، فإذا تفكر حزن.
وكان يقول: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم تزده صلاته من الله -عز وجل- إلا بعداً، ولم تزده عنده -جل ثناؤه- إلا مقتاً.
وكان يقول: المراعي لعمله كالمدافع في الحرب عن نفسه، بل مراعاة العمل أفضل وأكثر أجراً.
وكان يقول: ابن آدم! تستحل المحارم، وتأتي الجرائم، وتركب العظائم، وتتمنى على الله الأماني! ستعلم -أي فاجر- حين لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ.
وكان يقول: ترك الخطيئة أهون من معالجة التوبة، فسمع ذلك محمد بن واسعٍ، فقال: رحم الله الحسن، صدق -والله- لو وافق قلباً(1/60)
للطاعة فارغاً، وعقلاً من غلبة الشهوة سالماً.
وكان يقول: ابن آدم! مالك وللشر، وهذا الخير صاف؟! ابن آدم! اتق الكبائر؛ فإنك لا تزال بخيرٍ ما لم تصب كبيرةً تغير عليك قلبك، وتهدم صالح عملك.
وكان يقول: لله در أهل الحق، كانت درة عمر -رضي الله عنه- أهيب من سيف الحجاج.
وقيل: يا أبا سعيد! من أشد الناس صراخاً يوم القيامة؟ فقال: رجلٌ سن سنة ضلالةٍ، فاتبع عليها، ورجلٌ يسيء الملكة، ورجلٌ رزق نعمةً، فاستعان بها على معصية الله -عز وجل-.
وكان يقول: المؤمن يلقاه الزمان بعد الزمان بأمرٍ واحدٍ، ووجهٍ واحدٍ، ونصيحةٍ واحدةٍ، وإنما يتبدل المنافق؛ ليستأكل كل قومٍ، ويسعى بكل ربحٍ.
وكان يقول: المؤمن صدق قوله فعله، وسره علانيته، ومشهده مغيبه. والمنافق كذب قوله فعله، وسره علانيته، ومشهده مغيبه.
وقال له رجلٌ: أيحسد المؤمن؟ فقال: لا أبا لك! من أنساك إخوة يوسف، وما فعل بهم الحسد؟
وكان يقول: ثلاثةٌ لا غيبة فيهم: الفاسق المعلن بفسقه؛ أن يذكر ذلك منه، وصاحب البدعة؛ أن يذكر ببدعته، والإمام الجائر؛ أن يذكر بجوره.
قال حميدٌ خادم الحسن: قلت له يوماً: يا أبا سعيد! -أصلحك الله- أما ترى ما الناس فيه من الاختلاط؟(1/61)
قال: يا أبا الخير! أصلح أمر الناس أربعةٌ، وأفسدهم اثنان، فأما الذين أصلحوا أمر الناس، فعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوم السقيفة، حين قالت الأنصار: منا أميرٌ ومنكم أميرٌ، فقام عمر فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الأئمة من قريش))؟ قالوا: بلى! قال: أولستم تعلمون أنه قدم في الصلاة أبا بكرٍ؟ قالوا: بلى، قال: فأيكم يتقدم على أبي بكر؟ قالوا: لا أحد، فسلمت الأنصار، ولولا فعلة عمر لتنازع الناس الخلافة، وادعتها كل طائفةٍ إلى يوم القيامة.
ثم الذي فعله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- حين شاور الناس في شأن أهل الردة، فكلهم أشار عليه بأن يقبل منهم ما أطاعوا به من الصلاة، ويدع لهم الزكاة، فقال -رضي الله عنه-: والله لو منعوني عقالاً كانوا يعطونه رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه، ولولا الذي فعله أبو بكرٍ -رضي الله عنه- لألحد الناس في الزكاة إلى يوم القيامة.
ثم الذي فعله عثمان -رضي الله عنه- حين جمع الناس على مصحفٍ، جمع القرآن فيه، وكانوا يقرؤونه على حروفٍ، فيقول قومٌ: قراءتنا أفضل من قراءتكم، حتى كاد بعضهم يكفر بعضاً، ولولا الذي فعله عثمان -رضي الله عنه- لألحد الناس في القرآن إلى يوم القيامة.
ثم الذي فعله علي -رضي الله عنه- حين قاتل أهل البصرة، فلما فرغ القتال، قسم بين أصحابه ما حوى العسكر من أموالهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين! هلا تقسم علينا أبناؤهم ونساؤهم؟ فأنكر عليهم ما طلبوه من ذلك، وقال: فمن يأخذ أم المؤمنين في سهمه؟ إنكاراً لما ذهبوا إليه، وطالبوه به.(1/62)
ثم قال: أرأيتم هؤلاء يكن [الموالي هل] أبناؤهن ورجالهن، أتلزموهن العدة، فيرثن الربع، والثلث، والسدس؟ فقالوا: نعم! لو كن إماءً، لما كان لهن ميراثٌ، ولا عليهن عدةٌ، فعلموا صواب ما ذهب إليه، وسلموا لأمره، ورضوا بحكمه، ولولا ما فعله علي -رضوان الله عليه- ما علم الناس كيف تكون مقاتلة أهل القبلة.
وأما الأميران اللذان أفسدا أمر الناس:
فما فعله عمرو بن العاص، من رفعه المصاحف، وقوله ما قال حتى حكمت الخوارج، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة، وقد كان علي -رضي الله عنه- فهم ما أراده عمروٌ، وقال: كلمة حق أريد بها باطل.
والأمر الثاني: ما فعله المغيرة بن شعبة، حين كتب إليه معاوية -رحمه الله-: اقدم إلي مغيرة! لأعلمك، فتأخر عنه أياماً، ثم ورد عليه، فقال معاوية: ما أبطأ بك؟ قال المغيرة: أمرٌ بدأته كرهت أن آتي قبل إحكامه، قال: ما هو؟ قال: أخذت البيعة ليزيد على أهل الكوفة، قال: أوفعلت ذلك؟ قال: بلى! قال: فارجع إلى عملك وتمم ما بدأته، فلما خرج، قال له أصحابه: ما وراءك؟ قال: وضعت -والله- رجل معاوية غرزي، لا تزال فيه إلى يوم القيامة.
قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم، وصارت الخلافة تتوارث، ولولا ذلك لكانت شورى، لا يليها إلا من اتفق على فضله، واستحقاقه الإمامة إلى يوم القيامة.
وكان يقول: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يأتي على الناس زمانٌ، لا تنال(1/63)
المعيشة فيه إلا بركوب المعصية، فإذا كان ذلك الزمان قبح التزويج، وحلت العزبة)).
وكان يقول: لقد مضى بين أيديكم أقوامٌ، لو أنفق أحدهم عدد الحصى، لخشي ألا يقبل منه، ولا ينجو؛ لعظم الأمر في نفسه.
وسئل عن علي -رضي الله عنه- فقال: كان -والله- سهماً صائباً من مرامي الله تعالى، وكان رباني هذه الأمة، في ذروة فضلها وشرفها، كان ذا قرابةٍ قريبةٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أبا الحسن والحسين -رضي الله عنهما-، وزوج فاطمة الزهراء، لم يكن بالسروقة لمال الله، ولا بالبرومة في أمر الله، ولا بالملولة في حق الله، أعطى القرآن عزائمه، وعلم ما له فيه وما عليه -رضي الله تعالى عنه-.(1/64)
الفصل الرابع في ذم الدنيا ونهيه عن التعلق بها
قال هشام بن حسان: سمعت الحسن يقول: والله ما أحدٌ من الناس بسط له في أمرٍ من أمور دنياه، فلم يخف أن يكون ذلك مكراً به، واستدراجاً له، إلا نقص ذلك من عمله، ودينه، وعقله، ولا أحدٌ أمسك الله الدنيا عنه، ولم ير أن ذلك خيرٌ له، إلا نقص ذلك من عمله، وبان العجز في رأيه.
وكان يقول: ما من مسلمٍ رزق يوماً بيومٍ فلم يعلم أن ذلك خيرٌ له، إلا كان عاجز الرأي.
وكان يقول: إن الله -عز وجل- ليعطي العبد من الدنيا؛ مكراً به، ويمنعه؛ نظراً له.
وكان يقول: أدركت أقواماً كانت الدنيا أهون عندهم من التراب الذي تمشون عليه.
وكان يقول: رحم الله أقواماً كانت الدنيا عندهم وديعةً، حتى ردوها إلى من ائتمنهم عليها، ثم راحوا خفافاً غير مثقلين، ولقد أدركت أقواماً كانت الدنيا تتعرض لأحدهم، وإنه لمجهودٌ، فيتركها مخافة الساعة.(1/65)
وكان يقول: والله ما بلغت الدنيا ولا انتهى قدرها إلى أن يضيع الرجل فيها حسبه ودينه.
وكان يقول: والله ما عجبت من شيء كعجبي من رجلٍ لا يحسب حب الدنيا من الكبائر؛ وايم الله! إن حبها لمن أكبر الكبائر، وهل تشعبت الكبائر إلا من أجلها؟ وهل عبدت الأصنام، وعصي الرحمن، إلا لحب الدنيا؟ فالعارف لا يجزع من ذلها، ولا ينافس بقربها، ولا يأسى لبعدها.
وكان يقول: يحشر الناس عراةً يوم القيامة، ما خلا أهل الزهادة في الدنيا.
وكان يقول: أيها الناس! والله ما أعز هذا الدرهم أحدٌ إلا أذله الله تعالى يوم القيامة؛ لقد ذكر أن إبليس، لما ضرب الدينار والدرهم، أعزهما، وجعلهما على رأسه، وقال: من أحبكما، فهو عبدي حقاً، أصرفه كيف أشاء.
وقال: إذا أحب بنو آدم الدنيا، فما أبالي ألا يعبدوا صنماً، ولا يتخذوا إلهاً غير الله رباً، حبهم الدنيا يورثهم المهالك.
وكان يقول: رأينا من أعطي الدنيا بعمل الآخرة، وما رأينا من أعطي الآخرة بعمل الدنيا.
وكان يقول: المؤمن لا يصفو له في الدنيا عيشٌ.
وكان يقول: لقد روي عن المسيح -عليه السلام- قال: الدنيا لإبليس مزرعةٌ، والناس له حراثون.
وكان يقول: من عرف ربه، أحبه، وآثر ما عنده، ومن عرف الدنيا وغرورها، زهد فيها.(1/66)
وقيل له: يا أبا سعيد! هل نرى الله -عز وجل- في دار الدنيا؟ فقال: لا، قيل: فهل نراه في دار الآخرة؟ قال: نعم، قيل: وما الفرق بين ذلك؟ فقال: إن الدنيا فانيةٌ، وفانٍ كل ما فيها، وإن الآخرة باقيةٌ، وباقٍ كل ما فيها، ومحالٌ أن يرى الباقي بالفاني، والقديم الأزلي بالمحدث، فإذا كان يوم القيامة، خلق الله -عز وجل- لعباده أبصاراً باقيةً، يرون بها ربهم؛ تفضلاً عليهم، وإكراماً لهم.
وكان يقول: روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو راقدٌ على سريرٍ مرمولٍ بالشريط، وقد أثر في جنبه أثر الحبل، فدمعت عيناه، فقال النبي -عليه السلام-: ((ما لك يابن الخطاب؟))، فقال: ذكرت كسرى وقيصر، وما هما فيه من الملك والنعم؛ ورأيتك وأنت رسول الله، وصفيه، ومصطفاه، وحبيبه، تنام على سريرٍ مرمولٍ بالشريط! فقال -عليه السلام-: ((أما ترضى يا عمر أن يكون لهما الدنيا، ولنا الآخرة؟))، فقال: رضيت يا رسول الله، قال -عليه السلام-: ((فاعلم يا عمر أن الأمر كذلك))، وقال -عليه السلام-: ((إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب سافر في يومٍ صائفٍ، فرفعت له شجرةٌ ذات ظل ظليلٍ، فقال تحتها، ثم راح وتركها)).
قال الحسن: ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويلعق أصابعه، ويأكل على الأرض، ويقول -عليه السلام-:(1/67)
((إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد)).
وكان يقول: لقد كانت فاكهة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يستظرفونها خبز البر، فما بالكم عباد الله تستفرهون المراكب، وتستلينون الملابس، وتلونون الأطبخة؟! ثم يقول: ويحكم! أما تستحون من طول ما لا تستحيون؟! ألا تكونون كما كان سلفكم الصالح؟!
وكان يقول: من نافسك في دينك، فنافسه، ومن نافسك في دنياك، فألقها في نحره.
وكان يقول: أيها الناس! أدركت أقواماً، وصحبت طوائف، ما كانوا يفرحون بشيءٍ من الدنيا أقبل، ولا يحزنون على شيءٍ منها أدبر، ولهي عندهم أهون من التراب الذي تطؤونه بأرجلكم.
كان أحدهم يعيش دهره لم يجدد له ثوبٌ، ولا نصب له قدرٌ على نارٍ، ولا يجعل بينه وبين الأرض سترٌ، كانوا يخافون يوماً تشخص فيه الأبصار، وتعمى القلوب.
وكان يقول: ابن آدم! لا تعلق قلبك بشيءٍ من الدنيا، تعلقها شر تعلقٍ، اقطع عنك حبائلها، وأغلق دونك أبوابها.(1/68)
وليكن حسبك -أيها المغرور- منها ما يبلغك المحل، وإياك أن تظن أنك تباهي يوم القيامة بمالك وولدك، هيهات أن ينفعك شيءٌ من ذلك يوم يقوم الحساب، ذلك يوم تذهب الدنيا فيه بحالها، وتبقى الأعمال قلائد في أعناق عمالها.
وكان يقول: أيها الناس! خذوا صفو الدنيا، ودعوا كدرها؛ فليس الصفو ما عاد كدراً، ولا الكدر ما عاد صفواً. دعوا ما يريبكم إلى مالا يريبكم؛ ترتجى السلامة في العاجلة والآجلة لكم. وقد رأيت أقواماً كانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرم عليكم منها.
وكان يقول: ما أعطي رجلٌ شيئاً من الدنيا إلا قيل له: خذه ومثله من الحرص.
وكان يقول: من حمد الدنيا، ذم الآخرة، وليس يكره لقاء الله إلا مقيمٌ على سخطه.
وكان يقول: ابن آدم! ما أعطاك الله تعالى الدنيا إلا اختباراً، ولا زواها مذ خلقها عن عباده المؤمنين إلا اختباراً.
قال الحسن بن جعفرٍ: سمعت مالك بن دينارٍ يقول: الدينار والدرهم أهون من النوى، فعرفت ذلك الحسن بن أبي الحسن، فقال: يرحم الله مالكاً، هما أهون علي من الحصباء، النوى تأكله الدواب، وينتفع به الناس، والدراهم تقتل من كسبها من غير حلها، وتهوي به في نار جهنم وبئس المصير.
وكان يقول: إن مما يزهد ذا الهمة في الدنيا، ويلزمه تركها، ويوجب عليه ألا يحرص عليها: علمه بأن الأرزاق لم تقسم فيها على قدر الأخطار.(1/69)
وكان يقول: صحبت أقواماً كان أحدهم يأكل على الأرض، وينام عليها، منهم صفوان بن محرزٍ، كان قد عود نفسه أكل رغيفٍ، وكان يقول: إذا أتيت إلى أهلي، وأصبت رغيفاً، فجزى الله الدنيا عن طلابها والراغبين فيها شراً، وكان آخر يقول: إذا أكلت من طعامكم رغيفاً، وشربت كوز ماءٍ، فعلى دنياكم العفاء.
وكان الحسن يقول: أهينوا الدنيا، فأكرم ما تكون حين تهان.
ولقد روي: إذا كانت الدنيا في القلب، نفرت عنها الآخرة؛ لأنها عزيزةٌ كريمةٌ.
وكان يقول: ابن آدم! إن لك عاجلة وآجلة، فلا تؤثرن عاجلتك على آجلتك فتندم، واعلم أنك إن تبع دنياك بآخرتك تربحهما، وإن تبع آخرتك بدنياك تخسرهما.
ابن آدم! إنه لا يضرك ما زوي عنك من دنياك إذا ادخر لك خير آخرتك، وما ينفعك خير ما أصبت منها إذا حرمن خير آخرتك.
ابن آدم! إن الدنيا مطيةٌ، إن ركبتها حملتك، وإن حملتها أثقلتك.
ابن آدم! إنك مرتهنٌ بعملك، واردٌ عليك أجلك، معروضٌ على ربك، فخذهما في يديك لما بين يديك؛ فعند الموت يأتيك الخبر اليقين، {يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونٌ. إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ}.
وكان يقول: لله در بكر بن عبد الله حين قال: الدنيا ما مضى منها فحلمٌ، وما بقي منها فأماني وإثمٌ.(1/70)
وكان الحسن يقول: إن كان بغيتك من الدنيا ما يكفيك، فأدنى ما فيها يكفيك، وإن كان الذي تعمل منها ما يكفيك، فليس شيءٌ يكفيك.
وكان يقول: إن هذا الموت فضح الدنيا، فلم يترك لأحدٍ بها فرحاً.
وكان يقول: لئن كانت الدنيا ملئت باللذات، فلقد حشيت بالآفات، ووجبت من أجلها التباعات.
وكان يقول: ابن آدم! إياك أن تكون صاحب دنيا، لها ترضى، ومن أجلها تغضب، وعليها تقاتل، وفيها تتعب وتنصب، ارفضها إلى النار إن كنت طالب الجنة، أو فدع التمني يا لكع؛ فإن حكيماً يقول:
وإن امرأً دنياه أكبر همه ... لمستمسكٌ منها بحبل غرور
ابن آدم! الثواء هاهنا قليلٌ، والعذاب هنالك كثيرٌ طويل، لقد روي عن بعض الزاهدين أنه كان يقول: الدنيا والدةٌ للموت، ناقضةٌ للمبرم، مرتجعةٌ للعطية، وكل من فيها يجري إلى ما لا يدري، وكل مستقرٌ فيها غير راضٍ بها، وذلك دليلٌ على أنها ليست بدار قرارٍ.
وكان يقول: ابن آدم! إياك والتسويف؛ فإنه مهلكٌ، يعمد أحدكم إلى رزق الله فينفقه في البناء والتبذير، والسرف والمخيلة، وفي زينة الحياة الدنيا، ولعل أحدكم أن ينفق مثل دينه في بلوغ هواه، ولا يتصدق بدرهمٍ واحدٍ طغياناً في رزق الله، وهرباً عن حق الله، ستعلم يا لكع!
وكان يقول: إن المؤمن كيسٌ، نظر فأبصر، وتفكر فاعتبر، ثم عمد إلى دنياه فهدمها، وبنى آخرته، ولم يهدم آخرته لبناء دنياه، ولم يزل ذلك عمله حتى لقي ربه فرضي عنه وأرضاه، وإن المنافق عمد فنافس عن دنياه، وعمي عن آخرته، اتخذ الدنيا إلهاً، ويحه! ألها خلق؟ أم بالجمع(1/71)
لها أمر، سيعلم المغرور يوم {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام}.
ابن آدم! لا غناء بك عن نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، فعليك به؛ فإنه سيأتي بك إلى نصيبك من الدنيا، فينظمه لك نظماً يزول معك حيث تزول.
وكان يقول: ابن آدم! وصفت لك الدنيا، وغابت عنك أمور الآخرة، وقرب منك الأجل، وأمرت بالعمل، وحق الله ألزم لك، فاعمل لمعادك، فلن يرضى ربك منك إلا بأداء ما فرض عليك.
ابن آدم! إذا رأيت الناس في خيرٍ، فنافسهم، وإذا رأيتهم في هلكةٍ من طلب الدنيا، فذرهم وما اختاروا لأنفسهم، ولقد رأيت أقواماً آثروا عاجلتهم على آجلتهم، ودنياهم على آخرتهم، فافتضحوا، وذلوا، وهلكوا، وعوقبوا بموت القلوب.
وكان يقول: عقوبة العلماء موت قلوبهم؛ لطلبهم الدنيا بعمل الآخرة.
وكان يقول: أيها المغرورون! إنما الدنيا جيفةٌ ينهشها عشاقها، فهي تقتل بعضهم ببعضٍ، وهم لا يشعرون، من ركن إليها، ذل واقتصر، ومن زهد فيها، عز واقتدر.
وقيل: مر الحسن برجلٍ وهو ينشد:
فإما ليس بي قبحٌ ولكن ... عسى يغتر بي حمقٌ لئيم
فقال: الله أكبر! وايم الله! لو كان للدنيا شعرٌ، لكان هذا.(1/72)
ويقال: إن من شعره -رحمه الله- في صفة الدنيا:
أحلام نومٍ أو كظل زائلٍ ... إن اللبيب بمثلها لا يخدع
وكان يقول: ابن آدم! سوطاً سوطاً، جمعاً جمعاً في وعاءٍ، ونبذاً في وكاءٍ، تركب الذلول، وتلبس اللين، كأن قد قيل: مات وأفضى -والله- إلى الآخرة. إن المؤمن عمل أياماً يسيرةً، فوالله ما ندم أن قد أصاب من نعيم الدنيا ورخائها، مع استهانته بها، وهضمه لها، وتزوده لآخرته منها، لم تكن الدنيا في نفسه على مقدارٍ، ولا رغب في نعيمها، ولا فرح برخائها، ولا تعاظم في نفسه شيءٌ من بلائها، مع احتسابه الأجر عند الله عز وجل-، مضى راغباً راهباً، فلم يلتمس ثواب الدنيا، ولا عرج على نعيمها، فهنيئاً له، أمن الله بذلك روعته، ويسر حسابه، وآمنه عقابه.
وكان يقول: إنما الغدو والرواح وحظ من الدلجة والاستقامة لا يلبثنك أن تقدم على الله وهو راضٍ عنك، فيدخلك الجنة، فتكون من المفلحين.
وكان يقول: أيها الناس! إن الله لا يخدع عن جنته، ولا يعطيها أحداً من عباده بالأماني.
وكان يقول: أيها الناس! عليكم بالزهادة في الدنيا؛ فقد روي أن عيسى -عليه السلام- كان يقول: إدامي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، واصطلائي في الشتاء الشمس، وسراجي القمر، وراحلتي رجلاي، وفاكهتي ما تنبت الأرض، ويعلم الله أني أبيت ولا شيء لي، وأصبح ولا شيء لي، وأحسب أن ليس على الأرض أغنى مني.(1/73)
وكان الحسن يقول: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بعض أيامه: والذي نفس محمدٍ بيده! ما أصبح اليوم في آل محمدٍ من طعامٍ))، وإنهم لتسعة أبياتٍ.
قال الحسن: أما والله ما قالها صلى الله عليه وسلم استبطاء لرزق ربه، ولا طلباً لما لم يعطه، ولكن لتتأسى به أمته، وتعلم أن لا قدر للدنيا عنده.
وكان يقول: لقد عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاتيح الدنيا، وخزائن الأرض، ولا ينقصه الله من أجره شيئاً، فأبى أن يقبلها، وكره أن يخالف ربه، وأن يحب ما أبغضه، أو يرفع ما وضعه، ولقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب)).
وكان الحسن يقول: روي أنه يؤتى بالدنيا يوم القيامة مع كل زينةٍ كانت فيه مذ خلقها الله -عز وجل- إلى يوم القيامة، تتصرم فتقول: يا رب! اجعلني لأحد أوليائك، فيقول الله سبحانه: اسكتي، فما خلقت خلقاً هو أبغض إلي منك، وممن آثرك واختارك على ما عندي.(1/74)
وكان الحسن يقول: المؤمن أسيرٌ في الدنيا، يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن حتى يلقى ربه.
وقال له رجلٌ يوماً: يا أبا سعيد! أي اللباس أحب إليك؟ قال: أغلظه، وأخشنه، وأوضعه عند الناس، فقال الرجل: أليس قد روي: ((إن الله جميلٌ يحب الجمال))؟! فقال: يا ابن أخي! لقد ذهبت إلى غير المذهب، لو كان الجمال عند الله اللباس، لكان الفجار إذاً عنده أوجه من الأبرار، إنما لجمال: التقرب إلى الله بعمل الطاعات، ومجانبة المعاصي، ومكارم الأخلاق ومحاسنها، وكذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: ((بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
ولقد روي أن عيسى -عليه السلام- قال للحواريين: أجيعوا أكبادكم، وشعثوا رؤوسكم، وضعوا عليها جلباب الحزن؛ لعلكم ترون ربكم بعيون قلوبكم.
وكان يقول: قيل للحسن بن علي -رضي الله عنهما-: من أعظم الناس(1/75)
قدراً؟ فقال: من لا يبالي الدنيا في يد من كانت.
وقيل له: فمن أخسر الناس صفقةً؟ قال: من باع الباقي بالفاني.
وقيل له: من أعظم الناس قدراً؟ قال: من لا يرى الدنيا لنفسه قدراً.
ويروى أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس؟ فقال -عليه السلام-: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)).
وكان الحسن يقول: إذا أصبح العبد وجبت عليه أربعة أشياء: حب الله تعالى، وحب دين الله، وحب الآخرة، وبغض الدنيا.
وقال له رجلٌ: يا أبا سعيد! ما تقول في الدنيا؟ فقال: وما عسى أن أقول في دارٍ حلالها حسابٌ، وحرامها عقاب؟ فقال الرجل: تالله ما رأيت كلاماً أوجز من كلامك، فقال الحسن: بل كلام عمر بن عبد العزيز أوجز وأبلغ من كلامي؛ حيث كتب إليه عامل حمص: إن سورها قد تهدم،(1/76)
واحتاج إلى الإصلاح؟ فكتب إليه: حصن مدينتك بالعدل، ونقها من الظلم، تأمن عليها المخاوف، وترج لها السلامة.
وكان يقول: روي أن الله تعالى أوحى إلى الدنيا: من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه.(1/77)
ومن هذا الفصل
ما روي عنه -رضي الله عنه- في قصر الأمل
كان الحسن -رحمه الله تعالى- يقول: ابن آدم! طأ الأرض بقدمك؛ فإنها عن قليلٍ تكون قبرك، ودع الغفلة؛ فإنك لم تزل في هدم عمرك منذ خرجت من بطن أمك.
ابن آدم! لا تحمل على يومك هم غدك، وليكف كل يومٍ همه، إن غداً إن كان من عمرك، أتاك فيه رزقك.
وكان يقول: رحم الله عبداً جعل العيش عيشاً واحداً، فأكل ما يمسك رمقه، ولبس خلقه، وألصق بالأرض خده، مجتهداً في عبادة ربه، حتى يأتيه أجله، وهو كذلك.
وكان يقول: ما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل.
وقيل: مر به بائع جاريةٍ، فساوم فيها مالاً كثيراً، فقال: بعها بدرهمٍ؛ فإن الله باع من عباده الحور العين بالفلس واللقمة.
وكان يقول: ابن آدم! صم كأنك إذا ظمئت لم تكن رويت، وإذا رويت لم تكن ظمئت، فإن الحال أضيق، والعمر أقصر، والأمر أيسر أن تبقى فيه على حالٍ.(1/78)
وكان يقول: دخلنا على صفوان بن محرزٍ، وهو في بيتٍ من قصبٍ قد مال عليه، فقلنا: أصلحك الله، لو أصلحت هذا البيت. فقال: كم من رجلٍ مات وهذا ماثلٌ كما ترون!
وكان يقول: رأيت رجلاً أصابه الجهد، فدفع له درهمٌ، فقال: لا حاجة لي فيه، إن السوق قد ارتفع، وأخاف أن أموت قبل إنفاقه، وأتركه ميراثاً، وأحاسب عليه، وإن عشت غداً، كان رزق على الله وحده لا شريك له.
وكان يقول: إن الله يعطي العبد؛ مكراً به، ويحرمه؛ نظراً له، ومن تعرض لمكر الله، استوجب عقوبته.
وكان يقول: ابن آدم! إنما أنت عدد أنفاسك وأوقاتك، كلما مضى لك وقتٌ، انقضى منك بعضٌ. ولله در القائل:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يومٍ مضى بعضٌ من الأجل
فاعمل لنفسك قبل اليوم مجتهداً ... فإنما الربح والخسران في الأجل
وكان يقول: ابن آدم! إن لك أجلاً وأملاً، فإن أدركك أملك، قربك من أجلك، وإن أدركك أجلك، اجتاحك قبل أملك.
وكان يقول: اجتمع ثلاثة نفرٍ، فتكلموا في قصر الأمل، فقال أحدهم: ما مر بي قط شهرٌ إلا ظننت أني أموت فيه.
وقال الآخر: ما مر بي قط يومٌ إلا قدرت أني أموت فيه.(1/79)
وقال الثالث: العجب كل العجب من آملٍ أجله بيد غيره، ورزقه عند سواه.
وأنشد:
ما أنزل الموت حق منزله ... من عد وقتاً لم يأت من أجله
وكان يقول: روي أن الله سبحانه لما خلق آدم -عليه السلام-، جعل أجله بين عينيه، وأمله خلف ظهره، فلما واقع الخطيئة، حول، فجعل أمله بين عينيه، وأجله خلف ظهره، فذلك ما كان في بنيه من طول الأمل، والغفلة عن الأجل.
وكان يقول: ابن آدم! إنك لو قصرت مسير أجلك، لأبغضت غرور أملك، ولو أبصرت قليل ما بقي من عمرك، لزهدت في أكثر ما ترجوه من أملك.
وقيل: صلى الحسن على جنازةٍ، ثم مشى إلى القبر، ثم قال: يا لها موعظةً وعظ بها عباد الله، لو وافقت قلباً حياً، ولكن لا حياة للقلوب.
أيها الناس! إن الموت فضح الدنيا، فلم يدع لذي لب فيها بعده فرحاً، فرحم الله من أخذ منها قوتاً، وترك الفضل ليوم فاقته وفقره، فكأن الموت قد نزل، وانقطع العمل، فرحم الله لبيباً قصر أمله، وراقب أجله.
وكان يقول إذا مرت به جنازةٌ: اغد، فإنا رائحون، أو: روحوا فإنا غادون.
وقيل: رأى الحسن على مالكٍ بن دينارٍ رداء صوفٍ، فقال: أيعجبك الطيلسان، أصلحك الله؟ فقال: نعم، فقال: ليهن عندك؛ فإنه كان على شاةٍ قبلك، فنزع عنها.(1/80)
وكان يقول: أيها المرء! أجلك أنت السواد المختطف في يومك.
أيها المرء! إنك لا تدري بأي سببٍ تموت.
أيها المرء! داو نفسك قبل أن تقف بك على العطب.
وقال: قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقرب شيء؟ قال: الأجل، قيل له: فما أبعد شيءٍ؟ قال: الأمل، قيل له: فما أنس شيءٍ؟ قال: الصاحب المواتي، قيل: ما أوحش شيءٍ؟ قال: الميت.
وكان يقول: روي أن رجلاً قال لأم الدرداء: إني لأجد في قلبي داءً لا أجد له دواءً: أجد قسوةً شديدةً، وأملاً بعيداً، فقالت: اطلع في القبور، واحضر الجنائز، وشاهد الموتى، فعساك أن تكفى.
وكان يقول: وجد في حجرٍ مكتوبٌ: ابن آدم! إنك لو رأيت قليل ما بقي من أجلك، لزهدت فيما ترجوه من أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حصرك وحيلك، وإنما يلقاك غداً ندمك، لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك رهطك وحشمك، وتبرأ منك القريب، وانصرف عنك الحبيب، وصرت تدعى فلا تجيب.
وكان يقول: إن رجلاً ليس بينه وبين آدم إلا أبٌ ميتٌ لمعرقٌ في الموتى.
وكان يقول: مثل العلماء في الجهال مثل الأطباء في المرضى.
وسمع الحسن الحجاج يخطب على منبر البصرة ويقول: أيها الناس!(1/81)
إن الله -تبارك وتعالى- كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، فلا يغرنكم شاهد الدنيا على غائب الآخرة، واقهروا طول الأمل بقصر الأجل. ثم يقول: عجباً للحجاج! كيف عرف ما عرف، وصرف عن الحق فانصرف.(1/82)
الفصل الخامس فيما أورده على جهة الاستغفار والدعاء والنهي عن التصنع والرياء
إلهي! من أولى بالزلل والتقصير مني؟ وأولى بالمغفرة والعفو منك عني؟ وقد خلقتني ضعيفاً لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً!
إلهي! علمك في سابقٌ، وقضاؤك بي محيطٌ، وأمرك في نافذٌ، أطعتك بإذنك ومعونتك، والمنة لك، وعصيتك بعلمك، والحجة لك، فبوجوب حجتك، وانقطاع حجتي، ثبت خوفك في قلبي حتى لا أرجو سواك، ولا أخاف غيرك.
اللهم يا أرحم الراحمين! صل على محمدٍ خاتم النبيين، واغفر لي ولكافة المؤمنين، وحسبي الله ونعم الوكيل.
وروي أنه كان إذا أراد سفراً قال: يا من إذا استودع شيئاً حفظه وأداه، أستودعك من غاب عني، ومن حضر من أهلي وولدي، وكل ما ملكته يدي، فاحفظهم يا من لا يخيب ودائعه.
وكان إذا عرض له هم، أو أصابه كربٌ، قال: يا حابس يد إبراهيم عن ذبح ابنه، وهما يتناجيان فيقول ابنه: ارفق يا أبت، ويقول إبراهيم: اصبر(1/83)
لأمر ربنا يا بني، يا مقيض الركب ليوسف في الأرض القفر وغيابات الجب، وجاعله بعد العبودية ملكاً، يا سامع همس ذي النون في ظلماتٍ ثلاثٍ، يا راد بصر يعقوب عليه، وجاعل حزنه فرحاً، يا راحم عبرة داود، وكاشف ضر أيوب، يا من يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ويغيث من استغاث به ورجاه، يا من لا يعبد رب سواه، يا عالم النجوى، وكاشف البلوى، أسألك أن تصلي على نبيك المصطفى، وعبدك المرتضى، محمدٍ وعلى آله وصحبه، وأن تكفيني ما أهمني، وتفرج كربي، يا خير من سئل، وأفضل من رجي، وأرحم من استرحم، افعل بي من الخير ما أنت أهله، يا أرحم الراحمين، وحسبي الله ونعم الوكيل.
وكان يقول إذا دخل الجبانة: اللهم رب هذه الأجساد البالية، والعظام النخرة، التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنةٌ، ولرحمتك راجيةٌ، أرسل عليها روحاً منك وسلاماً مني.
ثم يقول: روي أن العبد إذا قال ذلك، استغفر له كل ميتٍ مذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة.
وروي: أن الحجاج أخافه وطلبه، فقال: يا سامع دعوتي، ويا عدتي في ملمتي، وكاشف كربتي وشدتي، ويا راحمي وولي نعمتي، ويا إلهي، وإله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وموسى، وعيسى، ومحمدٍ، ورب الناس كلهم، بحق {كهيعص} و {طه} و {يس. والقرآن الحكيم}، صل اللهم على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ الطاهرين، واكفني شره، وشر كل ذي شر، وعافني من الحجاج، وحزبه،(1/84)
وأشياعه، وجنده، واصرف عني بقدرتك ما يحاوله، وكف عني أذاه وشره، ولا تجعل له علي سبيلاً يا رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ خاتم النبيين وسلم.
وكان يقول إذا مرض: اللهم لا تجعلني ممن إذا مرض ندم، وإذا شفي فتن، وإذا افتقر حزن، واكفني اللهم كفاية من استكفاك، وعافني عافية من استعفاك، ووفقني اللهم لمحبتك ورضاك، يا من يرحم من استرحمه، ويجيب دعاء من دعاه.
وقيل: كان يغشى مجلس الحسن رجلٌ من الخوارج، فيؤذي أهله، فقيل للحسن: ألا تشكوه للأمير؟ فقال: أرجو أن يكفينا إياه رب الأمير، فلما قدم الرجل، استقبل الحسن القبلة وقال: اللهم اكفنيه بما شئت، فخر الرجل على دابته، وحمل ميتاً إلى أهله، فعرف الحسن، فقال: الحمد لله الذي يكفي من استكفاه، ويقبل دعاء من دعاه، يا ويحه ما كان أغره بربه!
وكان إذا فرغ مجلسه قال: اللهم ألحقني بصالح من مضى، واجعلني من صالح من بقي، وأعذني من شر نفسي، ومن شر كل ذي شر.
ولما انتهى إلى الحسن موت الحجاج قال: اللهم إنه عقيرك، وأنت قتلته، اللهم فأمت حاشيته.
وكان إذا ختم القرآن قال: صدق الله الذي لا إله إلا هو الحي الذي(1/85)
لا يموت، وبلغت الرسل الكرام، ونحن على ما قال ربنا ومولانا من الشاهدين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمدٍ خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه المنتجبين، وأزواجه أمهات المؤمنين.
اللهم إنك علمتنا القرآن قبل رغبتنا في تعليمه، واختصصتنا به قبل معرفتنا بفضله، ومننت علينا به قبل علمنا بنفعه، اللهم فإذا كان ذلك مناً منك وجوداً، وكرماً ولطفاً لنا، ورحمةً وسعتنا من غير حولنا ولا حيلتنا، ولا قوتنا، ولا قدرتنا، اللهم فهب لنا رعاية حقه، وحسن تلاوته، وحفظ آياته، والعمل بمحكمه، وتبيين متشابهه.
اللهم اهدنا بهدايته، ونور قلوبنا ببصيرته، اللهم إنك أنزلته شفاءً لأوليائك، وشقاءً على أعدائك، وعمىً على أهل معاصيك، فاجعله اللهم دليلاً لنا على عبادتك، وحصناً حصيناً من عذابك، ونوراً نهتدي به يوم لقائك، ونستضيء به بين خلقك، ونجوز به صراطك، ونصل به إلى جنتك.
اللهم إنا نعوذ بك من العمى عن علمه، والحور عن قصده، والتقصير دون حقه.
اللهم احمل عنا ثقله، ويسر لنا حفظه، واجعلنا ممن يقوم بحقه، ويؤدي فرائضه، ويؤمن بمتشابهه، ويستسن بسنته، ويحل حلاله، ويحرم حرامه.
اللهم اسقنا من النوم باليسير، وأيقظنا عند أفضل الأجلين التي تنزل فيها الرحمة، وتستجيب الدعاء.
اللهم وانفعنا بما صرفت فيه من الآيات، وذكرنا بما ضربت فيه من(1/86)
الأمثال، وكفر بتلاوته السيئات، ولقنا به البشرى عند الممات.
اللهم انفعنا بالقرآن العظيم، وبالآيات والذكر الحكيم.
اللهم إنا نعوذ بك من قساوة قلوبنا، ونسألك العفو عن جرائمنا وذنوبنا.
اللهم إنك جعلت القرآن مباركاً، فارزقنا به من كل بركةٍ، ونجنا به من كل هلكةٍ.
اللهم اجعله لنا شافعاً مشفعاً، ونوراً وشفاءً وهدىً وموعظةً.
اللهم ألزم قلوبنا به السكينة والوقار، ويسر لنا به كثرة الاستغفار واجعل لقلوبنا ذكاءً في تفهمه، ولذةً في تردده، وعبرةً عند ترجيعه حتى لا نبتغي به بدلاً، ولا نشتري به ثمناً، ولا نؤثر عليه من الدنيا غرضاً، إنك سميع الدعاء، قريبٌ مجيبٌ.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا، ونور أبصارنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وقائدنا ودليلنا إلى جنات النعيم.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضاً، ولنا فيها فائدةٌ إلا أتيت على قضائها في يسر منك وعافيةٍ يا أرحم الراحمين، يا غياث المستغيثين، يا مجيب دعوة المضطرين.
وصل اللهم على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين.(1/87)
ومن هذا الفصل
ما روي عنه -رحمه الله- من نهيه عن التصنع وذم الرياء
وكان -رحمه الله- يقول: ابن آدم! لا تعمل شيئاً من الحق رياءً، ولا تتركه حياءً.
وقيل: وعظ يوماً فتنفس رجلٌ الصعداء، فقال: يابن أخي! ما عساك أردت بما صنعت؟ إن كنت صادقاً، فقد شهرت نفسك، وإن كنت كاذباً فقد أهلكتها، ولقد كان الناس يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لأحدهم صوتٌ، ولقد كان الرجل ممن كان قبلكم يستكمل القرآن، فلا يسمع به جاره، ولقد كان الآخر يتفقه في الدين، ولا يطلع عليه صديقه، ولقد قيل لبعضهم: ما أقل التفاتك في صلاتك، وأحسن خشوعك! فقال: يا بن أخي! وما يدريك أين كان قلبي؟
وكان يقول: نظر رجاء بن حيوة إلى رجلٍ يتناعس بعد الصبح، فقال: انتبه -عافاك الله- لا يظن ظان أن ذلك عن سهرٍ وصلاةٍ، فيحبط عملك.
ولقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له رجلٌ: يا رسول الله! اشتبه علينا النفاق، فما هو؟ فقال -عليه السلام-: ((المرائي منافقٌ)).(1/88)
وقيل: رأى الحسن على فرقدٍ السبخي كساء صوفٍ، فقال: يا فرقد! لعلك تحسب أن لك بكسائك على الناس فضلاً؟ ولقد بلغني أن أكثر لباس أهل النار الأكسية.
وكان يقول: المرائي يريد أن يغالب قدر الله فيه، هو عند الله فاسقٌ ممقوتٌ، وقد أطلع على ذلك عباده المؤمنين، وهو يريد أن يقول الناس: هذا صالحٌ، وأنى له بذلك، وعلم الله -عز وجل- بريائه قد ثبت في نفوس عباده؟
قال الحسن: ولقد حدثت أن رجلاً مر برجلٍ يقرأ: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً}، فقال: والله! لأعبدن الله عبادةً أذكر بها في الدنيا! فلزم الصلاة، واعتكف على الصيام، حتى كان لا يفطر، ولا يرى إلا مصلياً وذاكراً، وكلما مر على قومٍ قالوا: لا يزال هذا يرائي، ما أكثر رياءه! فأقبل على نفسه وقال: ثكلتك أمك، ولا أراك تذكرين إلا بشر، ولا أراك أصبت إلا بفساد دينك، وفساد معتقدك، وإنك لم تريدي الله بعملك. ثم بقي على عمله لم يزد عليه شيئاً، إلا أن نيته انقلبت، فانقلب علم الناس فيه، فكان لا يمر بقومٍ إلا قالوا: رحم الله هذا! ثم يقولون: الآن الآن.
وكان الحسن يقول: أخلصوا لله عملكم؛ فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((من أحسن صلاته حين يراه الناس، وأساءها حين لا يراه، فتلك استهانةٌ استهان بها ربه)).(1/89)
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سمع الناس بعمله، سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة، وحقره وصغره)).
وكان الحسن يقول: ابن آدم! أما تستحي؟ تتكلم بكلام الفاسقين، وتسطو سطوة الجبارين.
وكان يقول: ابن آدم! تلبس لبسة العابدين، وتفعل أفعال الفاسقين، وتخبت إخبات المدبرين، وتنظر نظر المعتبرين، ويحك! ما هذه خصال المخلصين، إنك تقوم يوم القيامة بين يدي من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقيل: كان الحسن يقول: روي أن من قبل الله -سبحانه وتعالى- من عمله حسنةً واحدةً، أدخله بها الجنة، قيل: يا أبا سعيد! وأين يذهب بحسنات العباد؟ فقال: إن الله -عز وجل- إنما يقبل الخالص الطيب المجانب للعجب والرياء، فمن سلمت له حسنةٌ واحدةٌ، فهو من المفلحين.
وكان يقول: روي أن سعيد بن جبيرٍ رأى رجلاً متماوتاً في العبادة،(1/90)
فقال: يابن أخي! إن الإسلام حي، فأحيه، ولا تمته، أماتك الله ولا أحياك.
وكان يقول: من ذم نفسه في الملأ، فقد مدحها، وبئس ما صنع.
وكان الحسن يروي: أن عائشة -رضي الله عنها- رأت رجلاً متماوتاً، فقالت: ما بال هذا؟ قالوا: إنه صالحٌ، فقالت: لا أبعد الله غيره، كان عمر -رضي الله عنه- أصلح منه، وكان إذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، فدعوا التصنع؛ فإن الله لا يقبل من متصنعٍ عملاً.
وكان يقول: روي عن بعض الصالحين أنه كان يقول: أفضل الزهد إخفاء الزهد.
وكان يقول: من تزين للناس بما لا يعلمه الله منه، شانه عند الله ذلك.
وكان يقول: تفكر ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلةٍ.
وكان يقول: إن كان في الجماعة فضلٌ؛ فإن في العزلة السلامة.
ولقد روي: أن أبا هريرة مر بمروان بن الحكم وهو يبني داره، فقال: إيهاً أبا عبد القدوس! ابن شديداً، وأمل بعيداً، وعش قليلاً، وكل خضماً والموعد الله.
وكان يقول: قديماً امتحن الناس بطول الأمل.(1/91)
لقد روي أن حماد بن سلمة قال: كان أبو عثمان النهشلي يقول: أتت علي مئة وثلاثون سنةً، ما من شيءٍ إلا وقد أنكرته، إلا أملي؛ فإنه يزيد كل يوم.
وقيل: جزع بكر بن عبد الله على امرأته لما ماتت جزعاً شديداً، فنهاه الحسن عن الجزع، فجعل بكرٌ يصف فضلها، فقال الحسن: عند الله خيرٌ منها، فتزوج أختها، ثم لقي الحسن بعد ذلك، فقال: يا أبا سعيد! هي خيرٌ منها، فقال: لغيرها من الحور العين -عافاك الله- كنت أشرت لك، ثم أنشده:
تؤمل أن تعمر عمر نوحٍ ... وأمر الله يطرق كل ليله
وكان يقول: رأى بعض النساك صديقاً له مهموماً، فسأله عن همه؟ فقال: كان عندي يتيمٌ أحتسب فيه الأجر، فمات، قال صديقه، فاطلب يتيماً غيره؛ فإنك لن تعدم ذلك، فقال: أخاف ألا أجد يتيماً في مثل سوء خلقه، فقال صديقه: أف لك، أما لو كنت مكانك لم أذكر سوء خلقه؛ كأنه كره أن يتبجح بما كان يلقى منه.
وكان يقول: روي عن أبي الدرداء أنه قال: أضحكني ثلاثةٌ، وأبكاني ثلاثةٌ: أضحكني مؤمل دنيا، والموت يطلبه، وغافلٌ لا يغفل عنه، وضاحكٌ ملء فيه، ولا يدري أراضٍ ربه أم غضبان عليه. وأبكاني هول(1/92)
المطلع، وانقطاع العمل، وموقفٌ بين يدي الله -عز وجل-، لا أدري أيؤمر بي إلى الجنة، أم إلى النار؟
وكان الحسن يقول: إن لله تعالى نزائل في خلقه، لولا ذلك، لم ينتفع النبيون وأهل الانقطاع إلى الله -عز وجل- بشيءٍ من الدنيا، وهو الأمل، والأجل، والنسيان.(1/93)
الفصل السادس فيما روي عنه عند تلاوة القرآن من الحكم والمواعظ
كان الحسن يقول: روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: أيها الناس! اقرؤوا القرآن، وابتغوا ما عند الله -عز وجل- بقراءته، من قبل أن يقرأه قومٌ يبتغون به ما عند الناس.
وكان يقول: إن الرجل إذا طلب القرآن والعلم لله -عز وجل- لم يلبث أن يرى ذلك في خشوعه، وزهده، وحلمه، وتواضعه.
وكان يقول: رحم الله امرأً خلا بكتاب الله -عز وجل-، وعرض عليه نفسه، فإن وافقه، حمد ربه، وسأله المزيد من فضله، وإن خالفه، تاب وأناب ورجع من قريب.
وكان يقول: أيها الناس! إن هذا القرآن شفاء المؤمنين، وإمام المتقين، فمن اهتدى به هدي، ومن صرف عنه شقي وابتلي.
وكان يقول: إن من شر الناس أقواماً قرؤوا القرآن لا يعملون بسنته، ولا يتبعون لطريقته {أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}.
لقد كان من تقدم يقرأ القرآن، ويقوم بالسورة منه طول ليلته، فإذا(1/94)
أصبح عرف ذلك في وجهه، وإن أحدكم يقرأ القرآن لا يتجاوز لهواته، والله سبحانه يقول: {كتابٌ أنزلاه إليك مباركٌ ليدبروا آياته}.
أما -والله- ما هو حفظ حروفه، وإضاعة حدوده، وإن أحدكم يقول: قرأت القرآن ما أسقطت منه حرفاً، كذب -لعمر الله- لقد أسقط كله، والله والله ما هؤلاء القراء ولا العلماء ولا الحكماء، ومتى كانت القراء تقول مثل هذا؟ إن الله -سبحانه وتعالى- يقول: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} يريد -جل ثناؤه- العمل به، وقال -عز وجل-: {فإذا قرأناه فاتبع قرءانه}؛ أي: حلل حلاله، وحرم حرامه، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما استكمل حفظ القرآن من أصحابه -رضوان الله تعالى عليهم- إلا النفر القليل؛ استعظاماً له، ومتابعة أنفسهم بحفظ تأويله، والعمل بمحكمه ومتشابهه.
وكان الحسن يقول: قراء القرآن ثلاثة نفرٍ: قومٌ اتخذوه بضاعة يطلبون به ما عند الناس، وقومٌ أجادوا حروفه، وضيعوا حدوده، استدروا به أموال الولاة، واستطالوا به على الناس، وقد كثر هذا الجنس من حملة القرآن، فلا كثر الله جمعهم، ولا أبعد غيرهم، وقومٌ قرؤوا القرآن، فتدبروا آياته، وتداووا بدوائه، واستشفوا بشفائه، ووضعوه على الداء من قلوبهم، فهم الذين يستسقى بهم الغيث، وتسدى من أجلهم النعم، وتستدفع بدعائهم النقم، أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم الغالبون.
ولقد روي: أن وفداً من أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم القرآن، فبكوا، فقال أبو بكرٍ: هكذا كنا حتى قست قلوبنا.(1/95)
وكان يقول: أيها الناس! عليكم بالنظر في المصاحف، وقراءة القرآن فيها؛ فقد روي أن عثمان -رضي الله عنه- كان يقول: إني لأكره أن يمضي علي يومٌ لا أنظر فيه إلى عهد الله سبحانه، يعني: المصحف، فقيل له في ذلك، فقال: إنه مباركٌ، وكان يقرأ القرآن في المصحف تبركاً به.
وكان لا يزال يرى المصحف في حجره، وكان من أحفظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لكتاب الله -عز وجل-.
وقيل: قدم للحسن -رحمه الله- عشاؤه، فلما بدأ يأكل منه، سمع قارئاً يتلو: {إن لدينا أنكالاً وجحيماً. وطعاماً ذا غصةٍ وعذاباً أليماً} فقال: يا جارية! ارفعي عشاءك، ومازال يردد الآية ويبكي بقية ليلته.
وقيل: بل بقي كذلك ثلاثاً حتى أحضر ولده قوماً من أصحابه، وأحضروا طعاماً، فواكلهم، وقرأ: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون}، ثم قال: أواه! أي موعظةٍ وعظ الله سبحانه عباده لو كانوا قابلين؟! وقرأ: {أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ من نخيلٍ وأعنابٍ تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذريةٌ ضعفاءٌ فأصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون}.
ثم قال الحسن: هذا مثلٌ ضربه الله لعباده، انتفع به وأبصره من أراده برشاده؛ يقول الله سبحانه: مثل الرجل إذا كبرت سنه، ورق عظمه، وكثر(1/96)
عياله، واحتاج لزرعه، فأحرقته النار أحوج ما كان إليه، كمثل ابن آدم يقوم يوم القيامة، وهو عريان ظمآن فقيرٌ إلى ما قدم من عملٍ صالحٍ، توهم أنه له، فوجده قد أذهبته التبعات، وأسقطته الخطايا أحوج ما كان إليه، وأعظم ما كان رجاءً أن يعود نفعه عليه.
وقرأ: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون}، فقال: كانوا يديمون صلاتهم إلى السحر، ثم يجلسون يستغفرون.
وسئل عن ناشئة الليل، فقال: هي من أوله إلى الفجر.
وقرأ يوماً: {وعباد الرحمن الذي يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}، ثم قال: هم المسلمون الذين لا يجهلون، وإن جهل عليهم حلموا، ولم يعجلوا.
وقرأ: {وكل إنسانٍ ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}، ثم قال: ابن آدم! لقد عدل فيك من جعلك حسيب نفسك.
وقرأ: {إنما نعد لهم عداً}. ثم قال: آخر العدد خروج النفس، آخر العدد فراق الأحبة والولد، آخر العدد دخول القبر، فالمبادرة عباد الله إلى الأعمال الصالحة، ثم يقول: عباد الله! إنما هي الأنفاس، لو قد حبست لانقطعت الأعمال التي بها تتقربون، والحسنات التي عليها تتوكلون،(1/97)
فرحم الله امرأً حاسب نفسه، وخاف ربه، واتقى ذنبه.
وقرأ: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب}، فاضطربت ركبتاه، وجرت دموعه، ثم قال: روي أن النار تأكل لحومهم كل يومٍ سبعين مرةً، ثم يقال لهم: عودوا، فيعودون، اللهم إنا نعوذ بك من النار، ومن عمل نستوجب به النار.
وقرأ: {سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، ثم قال: صبروا عن فضول الدنيا، وزهدوا في الفاني، فنالوا الآخرة، وحسنت لهم العاقبة.
وقرأ: {وكان تحته كنزٌ لهما}، فقال: روي عن ابن عباس: أنه كان يقول: كان الكنز لوحاً من ذهبٍ، ولبنةٍ من ذهبٍ، فيهما مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، عجباً لمن يعرف الموت كيف يفرح؟! ولمن يعرف النار كيف يضحك؟! ولمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن ويسكن؟! ولمن يؤمن بالقضاء والقدر كيف يتعب في طلب الرزق وينصب؟! ولمن يؤمن بالنار كيف يعمل الخطايا؟! لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله.
وقرأ: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً}، ثم قال: سبحان الله! ما أوسع رحمة الله، وأعم فضله،(1/98)
وألطف صنعه! جعل لمن عجز في النهار خلفاً في الليل، ولمن قصر في الليل خلفاً في النهار.
وقرأ: {وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون}، ثم قال: عجباً لمن يخاف ملكاً، أو يتقي ظالماً بعد إيمانه بهذه الآية؟! أما -والله- لو أن الناس إذا ابتلوا صبروا لأمر ربهم، لفرج الله عنهم كربهم، ولكنهم جزعوا من السيف، فوكلوا إلى الخوف، ونعوذ بالله من شر البلاء.
وقرأ: {تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون}، ثم قال: أي منظر عباد الله؟ ما أسوأه! فاحذروه.
وروي أن النار تلفح وجوههم لفحةً، فلا تدع لحماً، ولا جلداً، إلا ألقته على العراقيب، وأبقت الوجوه كالحةً، ثم يبكي ويقول: اللهم بك نستعيذ من عذاب النار وبئس المصير.
وقرأ: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}، ثم قال: إن العبد إذا قال قولاً حسناً، وعمل عملاً صالحاً، رفع الله تعالى قوله بعمله، وإن قال حسناً، وعمل عملاً سيئاً، رد الله سبحانه القول بالعمل.
وقرأ: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعةً من نهارٍ بلاغٌ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}: الذين كسبوا الدنيا الحرام، وأنفقوها إسرافاً وتبذيراً(1/99)
في الشهوات {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}.
وقرأ: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}، فقال: ابن آدم فاسقٌ في الدنيا، حائدٌ حين لات حيدةٍ، ولا يمكن هربٌ ولا غيبةٌ.
وكان إذا قرأ: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشيةً أو ضحاها} يقول: ابن آدم! ما لك في غدوةٍ أو روحةٍ؟! ما تصبر على المعصية؟!
وكان إذا قرأ:{ والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوفٌ رحيمٌ}، يقول: كان القوم -والله- أهل تراؤفٍ وتراحمٍ، وإنا لفي خلفٍ كجلد الأجرب.
وكان إذا قرأ: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً}، قال: رحم الله عبداً كسب من طيبٍ، وأنفق قصداً، وقدم ليوم فقره وشدة حاجته فضلاً، ثم يقول: وجهوا -رحمكم الله- فضول أموالكم حيث وجهها الله ورسوله، وضعوها حيث وضعاها، فإن الذين كانوا من قبلكم، كانوا يأخذون قليلاً، ويبايعون من الله -جل ثناؤه- أنفسهم بالفضل.
وكان إذا تلا: {والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلةٌ}، قال: يعملون(1/100)
ما يعملون من بر، ويقدمون ما يقدمون من خيرٍ، وهم خائفون ألا ينجيهم ذلك من عذاب الله.
وكان إذا تلا: {لقد خلقنا الإنسان في كبدٍ}، قال: ويح ابن آدم! ما خلق الله خلقاً يكابد من هذا العيش ما يكابد هو.
وكان إذا تلا: {فلنحيينه حياةً طيبةً}، قال: لنرزقنه طاعة يجد لذتها في قلبه.
وروي أنه قال: لنرزقنه رزقاً لا نعذبه عليه، ثم يقول: كل حياة ابن آدم -والله- مرةٌ؛ إلا حياته في الجنة.
وكان إذا تلا: {وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} إلى آخر الآية، يقول: حوتٌ حرم الله تعالى عليهم صيده يوماً من أيام الجمعة، وأحله فيما سوى ذلك من الأيام، وكان يأتيهم يوم التحريم كالمحاصر ما يمتنع؛ من أجل المحنة والبلية والاختبار بالطاعة، فجعلوا يلهون بأخذه، ويمسكون مخافةً وتعبداً.
وقال: ما هم عبدٌ بذنبٍ إلا وافقهم فيما عزموا عليه، فأخذوه، وأكلوه -والله- أوخم أكلةٍ أكلها قومٌ، فنودوا ثلاثاً وهم نائمون، ثم نودوا: يا أهل القرية! فانتبه الرجال والنساء والصبيان، فقيل لهم: كونوا قردةً خاسئين؛ فكانوا كذلك.
وايم الله! لحرمة عبدٍ مؤمنٍ يقتل ظلماً أعظم عند الله من كل حوتٍ(1/101)
خلق، ولكن جعل الله تعالى موعد قوم الساعة {والساعة أدهى وأمر}.
وقرأ: {فإنما هي زجرةٌ واحدةٌ. فإذا هم بالساهرة}، {إن كانت إلا صيحةً واحدةً فإذا هم خامدون}، فكان يقول: أيها الناس! الزجرة من الغضب، فمن اتقى الله، فليحذر غضبه.
وكان يقول إذا تلا: {هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون. يطوفون بينها وبين حميمٍ ءانٍ}، ثم قال: معشر الناس! ما ظنكم بقومٍ وقفوا في يوم كان مقداره خمسين ألف سنةٍ، فلما انقطعت أعناقهم من الجوع والعطش والخوف، أمر بهم إلى نار وجحيم وحميم؟! اللهم بك العياذ، وأنت المعاد، وإليك اللجأ، وعليك التوكل، فنجنا برحمتك من عذابك يا غفورٌ.
وكان إذا تلا: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}، قال: رحم الله قوماً كان خشوعهم في القلوب، فغضوا أبصارهم، وحفظوا فروجهم، وتجنبوا المحارم، فنالوا أعلى الدرجات.
وسئل عن قول الله -عز وجل-: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}، فقال: من جاء بـ: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، مخلصاً بها قلبه، فله عند الله -عز وجل- الجنة.(1/102)
وتلا: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}، ثم قال: إنما جزاء من قال: لا إله إلا الله، أن يدخل الجنة.
وقرأ: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه}، فقال: ذلك المؤمن، الحذر، الفطن، الكيس، الذي علم أن له معاداً، فقدم عملاً صالحاً، ثم قدم عليه فسره، وهو يوم: {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً}.
وتلا: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}، فقال: هو الذنب على الذنب حتى يموت، ويسود القلب.
وتلا: {ولا تمنن تستكثر}، ثم قال: لا تستكثر عملك، فإنك لا تعلم ما قبل منه، وما رد فلم يقبل.
وقرأ: {ألهاكم التكاثر}، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ألهى -والله- عن نار الخلود، وشغل عن نعيمٍ لا يبيد، ثم قرأ: {كلا سوف تعلمون}، ثم قال: أيها الناس! لو توعدكم مخلوقٌ يموت، ما استقر بكم القرار، فكيف بوعيد ملك الملوك، والحي الذي لا يموت؟!
وكان إذا قام بالقرآن، وانتهى إلى هذه السورة، لم يتجاوزها، ولا يزال يرددها ويبكي إلى أن ينقطع نحيبه -رحمة الله عليه، ورضوانه لديه-.(1/103)
الفصل السابع في مكاتبة الخلفاء ومعاملاته مع الأمراء وولاة الأمور
روي عنه -رحمه الله- أنه كان يقول: إن الله -سبحانه وتعالى- أخذ على الخلفاء، والأمراء، والحكام ثلاثة أشياء، فمن أوفى بعهد الله منهم، نجا، ومن قصر، هلك، أخذ عليهم: ألا يتبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس، ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمناً قليلاً.
وكان إذا ذكر الملوك قال: لا تنظروا إلى شرف عيشهم، ولين رياشهم، ولكن انظروا إلى سرعة ظعنهم، وسوء منقلبهم.
واتصل به عن بعضهم: أنه كان يأكل الخشن، ويلبس الدني من الثياب، فقال: يا ويحه: علام جبي له من الخراج، وملك من أطراف البلاد؟ فقالوا: إنه يفعل ذلك بخلاً، فقال: الحمد الله الذي حرمه من دنياه ما لأجله ترك دينه.
وكان يقول: إذا أراد الله بقومٍ شراً، جعل أمراءهم سفهاءهم، وفيئهم عند بخلائهم.
وكان يقول: لقد حدثت عن بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- أنه كان يقول: إن من أشراط الساعة أن يكون في الأرض أمراء فجرةٌ، ووزراء(1/104)
كذبةٌ، وأمناء خونةٌ، وعلماء فسقةٌ، وعرفاء ظلمةٌ، وإني لأتخوف أن يكون وقتنا هذا.
وقيل: أحضر النضر بن عمرو -وكان والياً على البصرة- الحسن يوماً، فقال: يا أبا سعيد! إن الله -عز وجل- خلق الدنيا وما فيها من رياشها وبهجتها، وزينتها، لعباده، وقال -عز وجل-: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}، وقال عز من قائل: {قل من حرم زينة القوم التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا}، فقال الحسن: أيها الرجل! اتق الله في نفسك، وإياك والأماني التي ترخصت فيها؛ فتهلك، إن أحداً لم يعط خيراً من خير الدنيا، ولا من خير الآخرة بأمنيته، وإنما هي داران، من عمل في هذه، أدرك تلك، ونال ما قدر له منها، ومن أهمل نفسه، خسرهما جميعاً، إن الله سبحانه اختار محمداً صلى الله عليه وسلم لنفسه، وبعثه برسالته ورحمته، وجعله رسولاً إلى كافة خلقه، وأنزل عليه كتاباً مهيمناً، وحد له في الدنيا حدوداً، وجعل له فيها أجلاً، ثم قال -عز وجل-: {لقد كان لكم فيهم أسوةٌ حسنةٌ}، وأمرنا أن نأخذ بأمره، ونهتدي بهديه، وأن نسلك طريقته، ونعمل بسنته، فما بلغنا إليه، فبفضله ورحمته، وما قصرنا عنه، فعلينا أن نستعين ونستغفر، فذلك باب مخرجنا، وأما الأماني، فلا خير فيها، ولا في أحدٍ من أهلها، فقال النضر: يا أبا سعيد! إن الله -عز وجل- قدر علينا ما شاء، وإنا لنحب ربنا.(1/105)
فقال الحسن: لقد قال ذلك قومٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى عليه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. فجعل سبحانه اتباعه -عليه السلام- علماً للمحبة، وأكذب من خالف ذلك، فاتق الله يا أيها الرجل في نفسك، وايم الله! لقد رأيت أقواماً، كانوا قبلك في مكانك يعلون المنابر، وتهز لهم المراكب، ويجرون الذيول بطراً ورئاء الناس، يبنون المدر، ويؤثرون الأثر، ويتنافسون في الثياب، أخرجوا من سلطانهم، وسلبوا ما جمعوا من دنياهم، وقدموا على ربهم، فنزلوا على أعمالهم، فالويل لهم، والويل لهم يوم التغابن، ويا ويحهم {يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه. لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه}.
وقيل: دخل عليه يوماً آخر، فقال: أيها الأمير! أيدك الله، إن أخاك من نصحك في دينك، وبصرك عيوبك، وهداك إلى مراشدك، وإن عدوك من غرك ومناك.
أيها الأمير! اتق الله؛ فإنك أصبحت مخالفاً للقوم في الهدي والسيرة، والعلانية والسريرة، وأنت مع ذلك تتمنى الأماني، فترجح في طلب العذر.
والناس -أصلحك الله- طالبان: فطالب دنيا، وطالب آخرةٍ.
وايم الله! لقد أدرك طالب الآخرة واستراح، وتعب الآخر وحرم، فاحذر أيها الأمير أن تسعى لطلب الفاني، وتترك الباقي، فتكون من النادمين.(1/106)
واعلم أن حكيماً قال:
أين الملوك التي عن حظها غفلت ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى.
لقد حدثت أيها الأمير عن بعض الصالحين أنه كان يقول: كفى المرء جنايةً أن يكون للخونة أميناً، وعلى أعمالهم معيناً.
وقيل لآخر فقيرٍ: ألا تذهب إلى السلاطين، فتصيب من خيرهم؟ فقال: نعوذ بالله مما يكره تعالى، لأن أموت مؤمناً مهزولاً؛ أحب إلي من أن أموت منافقاً سميناً.
وأحضر ابن هبيرة الحسن والشعبي، فقال لهما: أصلحكما الله، إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يكتب إلي كتباً، أعرف في تنفيذها الهلكة، فأخاف إن أطعته غضب الله، وإن عصيته، لم آمن سطوته، فما تريان لي؟ فقال الحسن للشعبي: يا أبا عمرو! أجب الأمير، فرفق له في القول، وانحط في هوى ابن هبيرة.
وكان ابن هبيرة لا يستشفي دون أن يسمع قول الحسن، فقال: قل ما عندك يا أبا سعيدٍ، فقال الحسن: أوليس قد قال الشعبي؟ فقال ابن هبيرة: ما تقول أنت؟ فقال: أقول -والله- يوشك أن ينزل بك ملكٌ من ملائكة الله، فظٌ غليظٌ لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك، إلى ضيق قبرك، فلا يغني عنك ابن عبد الملك شيئاً، فبكى عمر بن هبيرة(1/107)
بكاءً شديداً، وأجزل جائزة الحسن، وقصر في جائزة الشعبي.
ثم خرج الشعبي إلى المسجد، فلما اجتمع أهل مجلسه، قال: أيها الناس! من استطاع منكم أن يؤثر الله -عز وجل- على خلقه، فليفعل؛ إن الأمير ابن هبيرة أرسل إلي وإلى الحسن، فوالذي نفسي بيده! ما علم الحسن شيئاً جهلته، ولكن راعيت ابن هبيرة، وأردت رضاه، وقصرت في قولي له، فأقصاني الله وأبعدني، وكان الحسن مع الله -عز وجل- فقربه وأدناه، وسخر ابن هبيرة، فآثره وحباه.
وقيل: خرج الحسن يوماً من عبد ابن هبيرة، فإذا هو بالقراء على بابه، فقال: ما جاء بكم هاهنا؟ لا كثر الله جمعكم، تريدون الدخول على هؤلاء الجربى! فوالله ما مخالطتهم مخالطة الأبرار، ولا مجالسهم مجالس الأخيار، تفرقوا فرق الله بين أرواحكم وأجسادكم، ولا كثر الله في المسلمين مثلكم، حذوتم نعالكم، وشمرتم ثيابكم، وجزرتم رؤوسكم، وكحلتم أعينكم، فكنتم شر عصابةٍ، حلقوا الشوارب للطمع، فضحتم القراء، لا جمع الله شملكم.
أما -والله- لو زهدتم فيما عندهم، لرغبوا فيما عندكم، فأبعد الله من أبعد، وما أحسبه غيركم، ثم انصرف مغضباً.
وروي أن الحجاج بنى داراً بواسطٍ، وأحضر الحسن ليراها، فلما دخلها، قال: الحمد لله، إن الملوك ليرون لأنفسهم عزاً، وإنا لنرى فيهم(1/108)
كل يومٍ عبراً، يعمد أحدهم إلى قصرٍ فيشيده، وإلى فرشٍ فينجده، وإلى ملابس ومراكب فيحسنها، ثم تحف به ذئاب طمعٍ، وفراش نارٍ، وأصحاب سوءٍ، فيقول: انظروا ما صنعت. فقد رأينا أيها المغرور! فكان ماذا يا أفسق الفاسقين؟ أما أهل السموات، فقد مقتوك، وأما أهل الأرض، فقد لعنوك، بنيت دار الفناء، وخربت دار البقاء، وعززت في دار الغرور لتذل في دار الحبور، ثم خرج وهو يقول: سبحانه أخذ عهده على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وبلغ الحجاج ما قال، فاشتد غضبه، وجمع أهل الشام، فقال: يشتمني عبيد أهل البصرة وأنتم حضورٌ، فلا تنكرون! ثم أمر بإحضار الحسن، فجاء وهو يحرك شفتيه بما لم يسمع، حتى دخل على الحجاج، فقال: يا أبا سعيد! أما كان لإمارتي عليك حق حين قلت ما قلت؟ فقال: يرحمك الله أيها الأمير؛ إن من خوفك حتى تبلغ أمنك أرفق بك، وأحب فيك ممن أمنك حتى تبلغ الخوف، وما أردت الذي سبق إلى وهمك، والأمران بيدك: العفو والعقوبة، فافعل الأولى بك، وعلى الله فتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فاستحيا الحجاج منه، واعتذر إليه، فأكرمه وحباه.
وقيل: جاء رجلٌ من الشرط كان على هنأةٍ إلى الحسن، فقال: عزمت على ترك النبيذ، فقال الحسن: هلا بدأت بترك ما هو أولى بك، أخر التوبة من النبيذ حتى يكون هو شر عملك، وحينئذٍ فتب منه.
وقيل: سمع الحسن رجلاً من أصحاب الحجاج يذكر علياً -عليه السلام- بسوءٍ، فقال: لقد استوجبها، فقال الرجل: النار يا أبا سعيد؟ فقال: نعم! وبئس المصير. قال: فهل توبةٌ عافاك الله؟ فقال الحسن:(1/109)
ثكلتك أمك، وهل لك إن لم تتب بعذاب الله من طاقةٍ؟! إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
قيل: لما ولي ابن أرطأة البصرة، عزم على أن يولي الحسن القضاء، فهرب الحسن واستتر، وكتب إليه: أما بعد: أيها الأمير! فإن الكاره للأمر غير جدير بقضاء الواجب فيه، وأن العامل للعمل بغير نيةٍ حقيقٌ ألا يعان عليه، ولك في المختارين للأمر الذي دعوتني إليه كفايةٌ وقناعةٌ، وقصدك إياهم، وتعويلك عليهم أولى بك، وأصون لعملك، وإنه لا خير في الاستعانة بمن لا يرى أن العمل الذي يدعى إليه واجبٌ عليه، ولا فرضٌ لازمٌ له، فعافني أيها الأمير عافاك الله، وأحسن إلي بترك التعرض لي؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. فأعفاه، وأكرمه، وقال: والله ما كنت لأبتليه بما يكرهه.
روي أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كتب إلى الحسن: اكتب إلي يا أبا سعيدٍ بموعظةٍ وأوجز، فكتب إليه:
أما بعد: يا أمير المؤمنين! فكأن الذي كان لم يكن، وكأن الذي هو كائنٌ قد نزل، واعلم يا أمير المؤمنين أن الصبر وإن أذاقك تعجيل مرارته،(1/110)
فلنعم ما أعقبك من طيب حلاوته، واعلم يا أمير المؤمنين أن الفائز من حرص على السلامة في دار الإقامة، وفاز بالرحمة فأدخل الجنة.
وقيل: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن: اكتب إلي يا أبا سعيد بذم الدنيا، فكتب إليه:
أما بعد: يا أمير المؤمنين! فإن الدنيا دار ظعنٍ وانتقالٍ، وليست بدار إقامة على حالٍ، وإنما أنزل إليها آدم عقوبةً، فاحذرها؛ فإن الراغب فيها تاركٌ لها، والغني فيها فقيرٌ، والسعيد من أهلها من لم يتعرض لها؛ إنها إذا اختبرها اللبيب الحاذق، وجدها تذل من أعزها، وتفرق من جمعها، فهي كالسم يأكله من لا يعرفه، ويرغب فيه من يجهله، وفيه -والله- حتفه، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جراحه، يحتمي قليلاً؛ مخافة ما يكره طويلاً، الصبر على لأوائها أيسر من احتمال بلائها، واللبيب من حذرها ولم يغتر بها؛ فإنها غدارةٌ حمالةٌ خداعةٌ، قد تعرضت بآمالها، وتزينت لخطابها، فهي كالعروس، العيون إليها ناظرةٌ، والقلوب عليها والهةٌ، وهي -والذي بعث محمداً بالحق- لأزواجها قاتلةٌ، فاتق أيها الأمير صرعتها، واحذر غيرها؛ فالرخاء فيها موصولٌ بالشدة والبلاء، والبقاء مؤد إلى الهلكة والفناء.
واعلم يا أمير المؤمنين أن أمانيها كاذبةٌ، وآمالها باطلةٌ، وصفوها كدرٌ، وعيشها نكدٌ، وتاركها موفقٌ، والمتمسك بها هالكٌ غرقٌ، والفطن اللبيب من خاف ما خوفه الله، وحذر ما حذره، وقدم من دار الفناء إلى دار البقاء، فعند الموت يأتيه اليقين.
الدنيا -والله يا أمير المؤمنين- حلمٌ، وهي دار عقوبةٍ، لها يجمع من لا عقل له، وبها يغتر من لا علم عنده، والحازم اللبيب من كان فيها(1/111)
كالمداوي جراحه، يصبر على مرارة الدواء؛ لما يرجو من العافية، ويخاف من سوء عاقبة الدار.
والدنيا -وايم الله يا أمير المؤمنين- حلمٌ، والآخرة يقظةٌ، والمتوسط بينهما الموت، والعباد في أضغاث أحلامٍ، وإني قائلٌ لك يا أمير المؤمنين مما قال الحكيم:
وإن تنج منها تنج من ذي عظيمةٍ ... وإلا فإني لا إخالك ناجياً
ولما وصل كتابه إلى عمر بن عبد العزيز، بكى وانتحب حتى رحمه من كان عنده، وقال: يرحم الله الحسن؛ فإنه لا يزال يوقظنا من الرقدة، وينبهنا من الغفلة، ولله هو من مشفقٍ ما أنصحه! وواعظٍ ما أصدقه وأفصحه!.
وكتب إليه عمر بن عبد العزيز: وصلت مواعظك النافعة، فأشفيت بها، ولقد وصفت الدنيا بصفتها، والعاقل من كان فيها على وجلٍ، فكأن كل من كتب عليه الموت من أهله قد مات، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فلما وصل كتابه إلى الحسن قال: لله أمير المؤمنين من قائل حقاً، وقابل وعظاً، لقد أعظم الله -عز وجل- بولايته المنة، ورحم بسلطانه الأمة، وجعله بركةً ورحمةً.
وكتب إليه:
أما بعد فإن الهول الأعظم، والأمر المطلوب، أمامك، ولا بد من مشاهدتك ذلك، إما بنجاةٍ أو بعطبٍ.
وكتب إليه -رحمة الله عليه-: احذر يا أمير المؤمنين أن تكون فيما(1/112)
ملكك الله من أمر عباده كعبدٍ ائتمنه مولاه، واستحفظه ماله وعياله، فبذر المال، وسرح العيال، وأفقر أهله، وأتلف ماله.
واعلم يا أمير المؤمنين أن الله -جل ثناؤه- أمر أنبياءه أن يزجروا عباده عن الخبائث، وينهوهم عن الفواحش، فكثرت بهم إذا من قبلهم من جميل الفيض لهم.
اذكر يا أمير المؤمنين قلة أشياعك عند ربك، وأنصارك عليه يوم حشرك، فتزود ليوم الفزع الأكبر.
واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه، وبه يطول مقامك، وعنه يفارقك أحباؤك، يلقونك فيه وحيداً، ويسلمونك إليه فريداً، فتزود يا أمير المؤمنين ليومٍ يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، واذكر إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، يوم تكون الأسرار ظاهرةً، وقد نشر الكتاب الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، فاعمل الآن وأنت في مهلٍ قبل حلول الأجل، وانقطاع العمل، واحذر يا أمير المؤمنين أن تحكم في عباد الله بحكم الجاهلين، أو تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين؛ فإنهم لا يرقبون في مؤمنٍ إلاً ولا ذمةً.
فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ولى ظالماً، أو أعانه، فقد ولى الإسلام ظهره))، فاتق الله أن تبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالاً مع أثقالك، ولا يغرنك قومٌ يتنعمون ببؤسك، ويأكلون الطيبات بذهاب طيباتك، ولا تنظر يا أمير المؤمنين إلى قدرك اليوم، وانظر إلى قدرك غداً، وأنت مأسورٌ في حبائل الموت، وموقوفٌ بين يدي الرب، في مجمعٍ من الملائكة والرسل، وقد عنت الوجوه للحي القيوم.(1/113)
يا أمير المؤمنين! وإن لم ابلغ في موعظتي ما بلغ أولو النهى، فلم آلك شفقةً، ولا ادخرت عنك نصيحةً، ولا قصرت في موعظتك، فأنزل كتابي إليك منزله، وتفرغ لسماعه فراغ من يرجو الانتفاع به، ولتهن عندك مرارة الدواء؛ لما ترجو من عاقبة الشفاء، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب إليه: أما بعد: يا أمير المؤمنين! خف الله ما خوفك، يكفك خوفك من الناس، وخذ مما في يدك لما بين يديك تسعد، فكأن قد، وعند الموت يأتيك اليقين.
وكتب إليه عمر بن عبد العزيز: اكتب إلي أبا سعيدٍ بصفة الإمام العادل، وأين هو؟ وأنى للأمة به؟
وكتب الحسن إليه: أما بعد:
يا أمير المؤمنين! أرتعك الله في رياض نعمته، ونزهك في حدائق صنعته.
فاعلم أن الله -سبحانه وتعالى- جعل الإمام العادل قواماً لكل مائلٍ، وقصداً لكل جائر، وصلاحاً لكل فاسدٍ، وقوةً لكل ضعيفٍ، ونصفةً لكل مظلومٍ، ومفزعاً لكل ملهوفٍ.
والإمام العادل كالراعي الشفيق، والحازم الرفيق، الذي يرتاد لغنمه أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكفيها أذى الحر والقر.
والإمام العادل كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغاراً ويعلمهم كباراً ويكسبهم في حياته، ويدخر لهم بعد وفاته.
وكالأم الشفيقة، البرة الرفيقة، حملت ولدها كرهاً، ووضعته كرهاً،(1/114)
تسهد إذا سهد، وتسكن إذا سكن، ترضعه تارةً، وتفطمه أخرى، تفرح بعافيته، وتهتم بشكايته.
والإمام العادل كوصي اليتامى، وخازن المساكين؛ يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم.
والإمام العادل كالقلب بين الجوارح، تصلح بصلاحه الجملة، وتفسد بفساده.
والإمام العادل هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله فيسمعهم، ويبصر آثار نعمة ربهم فيبصرهم، وينقاد إلى أوامر الله تعالى ويقودهم.
وأرجو يا أمير المؤمنين أن تكون هو إن شاء الله.
ولولا أن الله افترض نصيحتك، لكنت؛ لما منحك الله من هدايةٍ، ورزقك من توفيقٍ وتسديدٍ، في غنىً عن موعظتك، ولكن الله -جل ثناؤه- أخذ ميثاقه على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه.(1/115)
ومن هذا الفصل
ما روي عن الخروج على الأمراء
قال حميدٌ خادم الحسن: كنت عند الحسن يوماً، فجاءه رجلٌ، وخلا به، وشاوره في الخروج مع ابن الأشعث على الحجاج، فقال: اتق الله يابن أخي، ولا تفعل؛ فإن ذلك محرمٌ عليك، وغير جائزٍ لك، فقلت: أصلحك الله! لقد كنت أعرفك سيء القول في الحجاج، غير راضٍ عن سيرته، فقال لي: يا أبا الحسن! وايم الله! إني اليوم لأسوأ فيه رأياً، وأكثر عليه عتباً، وأشد ذماً، ولكن لتعلم -عافاك الله- أن جور الملوك نقمةٌ من نقم الله تعالى، ونقم الله لا تلاقى بالسيوف، وإنما تتقى، وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب. إن نقم الله متى لقيت بالسيوف، كانت هي أقطع، ولقد حدثني مالك بن دينارٍ أن الحجاج كان يقول:
اعلموا أنكم كلما أحدثتم ذنباً، أحدث الله من سلطانكم عقوبةً.
ولقد حدثت أن قائلاً قال للحجاج: إنك تفعل بأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، فقال: أجل، إنما أنا نقمةٌ على أهل العراق؛ لما أحدثوا في دينهم ما أحدثوا، وتركوا من شرائع نبيهم -عليه السلام- ما تركوا.
وقيل: سمع الحسن رجلاً يدعو على الحجاج، فقال: لا تفعل -رحمك الله- إنكم من أنفسكم أتيتم، إنما نخاف إن عزل الحجاج، أو مات، أن يليكم القردة والخنازير؛ فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عمالكم(1/116)
كأعمالكم، وكما تكونون يولى عليكم)).
ولقد بلغني: أن رجلاً كتب إلى بعض الصالحين يشكو إليه جور العمال، فكتب إليه: يا أخي! وصلني كتابك تذكر ما أنتم فيه من جور العمال، وأنه ليس ينبغي لمن عمل بالمعصية أن ينكر العقوبة، وما أظن الذي أنتم فيه إلا من شؤم الذنوب، والسلام.
ولقد بلغني أن أبا بكرٍ -رضي الله عنه- خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أيها الناس! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله -جل ثناؤه- يقول: أنا الله لا إله إلا أنا، مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني منكم، جعلتهم عليه رحمةً، ومن عصاني، جعلتهم عليه نقمةً، فلا تشغلوا قلوبكم بسب الملوك، ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم)).
وقال الأشعث: كنت عند الحسن حتى دخل عليه رجلٌ مصفرٌّ كأنه من أهل البحرين، فقال: يا أبا سعيد! إني أريد أن أسألك عن الولاة، فقال الحسن: سل عما بدا لك، فقال: ما تقول في أئمتنا هؤلاء؟ قال: فسكت ملياً ثم قال: وما عسى أن أقول فيهم، وهم يلون من أمورنا خمساً: الجمعة، والجماعة، والفيء، والثغور، والحدود؟ والله ما يستقيم الدين(1/117)
إلا بهم، وإن جاروا، وإن ظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، والله إن طاعتهم لغبطةٌ، وإن فرقتهم لكفرٌ.
قال: فقال الرجل: يا أبا سعيد! والله إني لذو مالٍ كثيرٍ، وما يسرني أن يكون لي أمثاله، وأني لم أسمع منك الذي سمعت، فجزاك الله عن الدين وأهله خيراً.
وسئل الحسن عن الحجاج، فقال: يتلو كتاب الله، ويعظ وعظ الأبرار، ويطعم الطعام، ويؤثر الصدق، ويبطش بطش الجبارين.
قالوا: فما ترى في القيام عليه؟ فقال: اتقوا الله، وتوبوا إليه يكفكم جوره، واعلموا أن عند الله حجاجين كثيراً.
وكان يقول: هؤلاء -يعني الملوك- وإن رقصت بهم الهماليج، ووطئ الناس أعقابهم، فإن ذل المعصية في قلوبهم، إلا أن الحق ألزمنا طاعتهم، ومنعنا من الخروج عليهم، وأمرنا أن نستدفع بالتوبة والدعاء مضرتهم، فمن أراد به خيراً، لزم ذلك، وعمل به، ولم يخالفه.(1/118)
الفصل الثامن فيما روي له من المواعظ والحكم في سائر الأشياء
كان -رحمه الله- يقول: الواعظ من وعط الناس بعمله، لا بقوله.
وكان ذلك شأنه إذا أراد أن يأمر بشيءٍ، بدأ بنفسه ففعله، وإذا أراد أن ينهى عن شيءٍ انتهى عنه.
وكان يقول: اتصل بي أن بعض الصالحين جعل على نفسه ألا يراه الله ضاحكاً حتى يعلم أي الدارين داره: الجنة، أم النار؟ فيقول الحسن -رحمه الله- لقد عزم -رحمه الله- فوفى بعزمه، وما رئي ضاحكاً حتى لحق بالله -عز وجل-.
وقيل: مر الحسن برجلٍ يضحك، فقال: يابن أخي! جزت الصراط؟ فقال: لا، فقال: فهل علمت إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ فقال: لا، فقال: ففيم الضحك -عافاك الله- والأمر هولٌ؟! قيل: فما رئي الرجل ضاحكاً حتى مات.
ورأى الحسن قوماً يتضاحكون، ويتغامزون، ويتدافعون بعد انصرافهم يوم الفطر من صلاة الفجر، فقال: يا قوم! إن الله سبحانه جعل شهر رمضان مضماراً لعباده، يستبقون الطاعة إلى رحمة الله، ويجتهدون في(1/119)
الأعمال ليفوزوا بدخول جنته، فسبق أقوامٌ ففازوا، وقصر آخرون فخابوا، والعجب كل العجب للضاحك في اليوم الذي ربح فيه المحسنون، وخسر المبطلون.
أما -والله- لو كشف الغطاء، لشغل محسنٌ بإحسانه، ومسيءٌ بإساءته، عن تجديد ثوب، وترجيل شعر.
فإن كنتم -وفقكم الله- قد تقرر عندكم أن سعيكم قد قبل، وعملكم الصالح قد رفع، فما هذا فعل الشاكرين! وإن كنتم لم تتيقنوا ذلك، فما هذا فعل الخائفين!
وكان يقول: ابن آدم! أقلل الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب، وتزيل البهجة، وتسقط المروءة، وتزري بذي الحال.
وكان يقول: روي أن الله -سبحانه وتعالى- أوحى إلى عيسى -عليه السلام- يا عيسى! اكحل عينيك بالبكاء إذا رأيت الغافلين يضحكون.
وعاد الحسن عليلاً، فوافقه وهو في الموت، ورأى تقلبه وشدة ما نزل به، فلما رجع إلى داره، قدموا له طعاماً، فقال: عليكم بطعامكم وشرابكم؛ فإني رأيت مصرعاً لا بد لي منه، ولا أزال أعمل له حتى ألقاه، وتأخر عن الطعام أياماً، حتى لطف به وأكل.
وكان يقول: إن الله سبحانه لم يجعل لأعمالكم أجلاً دون الموت، فعليكم بالمداومة؛ فإنه -جل ثناؤه- يقول: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}.
وكان يقول: رأيت سبعين بدرياً، لو رأيتموهم لقلتم: مجانين، ولو(1/120)
رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء من خلاقٍ، ولو رأوا شراركم لقالوا: هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب.
وكان يقول: رحم الله امرأً نظر ففكر، وفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر، وأبصر فصبر.
لقد أبصر أقوامٌ ثم لم يصبروا، فذهب الجزع بقلوبهم، فلم يدركوا ما طلبوا، ولا رجعوا إلى ما فارقوا، فخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
وكان يقول: أيها الناس! إني أعظكم ولست بخيركم ولا أصلحكم، وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لها، ولا حاملها على الواجب في طاعة ربها، ولو كان المؤمن لا يعظ أخاه إلا بعد إحكام أمر نفسه، لعدم الواعظون، وقل المذكرون، ولما وجد من يدعو إلى الله -عز وجل-، ويرغب في طاعته، وينهى عن معصيته، ولكن في اجتماع أهل البصائر، ومذاكرة المؤمنين بعضهم بعضاً حياةٌ لقلوب المتقين، وادكارٌ من الغفلة، وأمانٌ من النسيان، فالزموا -عافاكم الله- مجالس الذكر، فرب كلمةٍ مسموعةٌ، ومحتقرٍ نافعٌ، {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
أيها الناس! أصبحتم -والله- في أجلٍ منقوصٍ، وعملٍ محصىً محروسٍ، الموت فوق رؤوسكم، والنار بين أيديكم.
أيها الناس! إنما لأحدكم نفسٌ واحدة، إن نجت من عذاب الله، لم يضرها من هلك، وإن هلكت، لم ينفعها من نجا، فاحذروا -عافاكم الله-(1/121)
التسويف؛ فإنه أهلك من قبلكم، وإنكم لا تدرون متى تسيرون؟ ولا إلى أي شيءٍ تصيرون؟ فرحم الله عبداً عمل ليوم معاده، قبل نفاد زاده.
وقال: أيها الناس! إن الله -عز وجل- بسط لكم صحيفةً، وكل بكل رجلٍ منكم ملكين كريمين، أحدهما عن اليمين، والآخر عن اليسار، وهو تعالى رقيبٌ عليهما، فإن شاء قلل، وإن شاء كثر، إنما يملي كتاباً {لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراًَ ولا يظلم ربك أحداً}، ولقد روي أنه لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم : {من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً}، قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- نزلت -والله- قاصمة الظهور. فإذا قال ذلك أبو بكر، وقد شهد له بالجنة، فكيف يجب أن يكون قول من سواه؟ فاعتبروا -معشر المؤمنين- وكونوا على حذرٍ؛ لعلكم تأمنون من عذاب يومٍ عظيمٍ.
وكان يقول: ابن آدم! إياك والاغترار؛ فإنك لم يأتك من الله أمانٌ؛ فإن الهول الأعظم والأمر الأكبر أمامك، وإنك لا بد أن تتوسد في قبرك ما قدمت؛ إن خيراً فخيرٌ، وإن شراً فشر، فاغتنم المبادرة في المهل، وإياك والتسويف بالعمل، فإنك مسؤولٌ، فأعد للمسالة جواباً.(1/122)
وكان يقول: ابن آدم! إن المؤمن لا يصبح إلا خائفاً، وإن كان محسناً، ولا يصلح أن يكون إلا كذلك؛ لأنه بين مخافتين: ذنب مضى لا يدري ما الله صانعٌ فيه، وأجلٍ قد بقي لا يدري ما الله مبتليه فيه، فرحم الله عبداً فكر واعتبر، واستبصر فأبصر، ونهى النفس عن الهوى.
ابن آدم! إن الله -جلت قدرته- أمر بالطاعة، وأعان عليها، ولم يجعل عذراً في تركها، ونهى عن المعصية، ونفى عنها، ولم يوسع لأحدٍ في ركوبها، ولقد روي أن الله -سبحانه وتعالى- يقول يوم القيامة لآدم: يا آدم! أنت اليوم عدلٌ بيني وبين ذريتك، فمن رجح خيره على شره مثقال ذرةٍ، فله الجنة، حتى تعلم أني لا أعذب إلا ظالماً.
وكان يقول: ما في جهنم وادٍ، ولا سلسلةٌ، ولا قيدٌ، إلا واسم صاحبه مكتوبٌ عليه ما حكم في القضاء، فكيف -أيها الناس- إن اجتمع ذلك كله على عبدٍ؟! اتقوا الله أيها الناس، واحذروا مقته؛ فلمقت الله أكبر لو كانوا يعلمون.
وقيل: خرج الحسن يوماً على أصحابه وهم مجتمعون، فقال: والله لو أن رجلاً منكم أدرك من أدركت من القرون الأولى، ورأى من رأيت من السلف الصالح، لأصبح مهموماً، وأمسى مغموماً، وعلم أن المجد منكم كاللاعب، والمجتهد كالتارك، ولو كنت راضياً عن نفسي، لوعظتكم، ولكن الله يعلم أني غير راضٍ عنها، ولذلك أبغضتها وأبغضتكم.
أيها الناس! إن لله عباداً هم كمن رأى أهل الجنة في الجنة متنعمين، وأهل النار في النار معذبين، فهم يعملون لما رأوا من النعيم، وينتهون عما خالفوا من العذاب الأليم.(1/123)
أيها الناس! إن لله عباداً قلوبهم محزونةٌ، وشرورهم مأمونةٌ، وأنفسهم عفيفةٌ، وجوانحهم خفيفةٌ، صبروا الأيام القلائل؛ لما رجوا في الدهور الأطاول، أما الليل، فقائمون على أقدامهم، يتضرعون إلى ربهم، ويسعون في فكاك رقابهم، تجري من الخشية دموعهم، وتخفق من الخوف قلوبهم، وأما النهار، فحكماء علماء أتقياء أخفياء، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، تخالهم من الخشية مرضى، وما بهم مرضٌ، ولكنهم خولطوا بذكر النار وأهوالها، لهم -والله- كانوا فيما أحل لهم أزهد منكم فيما حرم عليكم، وكانوا أبصر بقلوبهم لدينهم منكم لدنياكم بأبصاركم، ولهم كانوا بحسناتهم أن ترد عليهم أخوف منكم أن تعذبوا على سيئاتكم، {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون}.
وكان يقول: ابن آدم! لا يغرنك من حولك من هذه السباع العادية: ابنك، وحليلتك وخادمك وكلالتك: أما ابنك، فمثل الأسد ينازعك ما بين يديك، وأما حليلتك فمثل الكلبة في الهرير والبصبصة؛ وأما خادمك فمثل الثعلب في الحيلة والسرقة؛ وأما كلالتك، فوالله لدرهمٌ يصل إليهم بعد موتك أحب إليهم من أن لو كنت أعتقت رقبةً، فإياك أن توقر ظهرك بصلاحهم؛ فإنما لك منهم أيامك القلائل، وإذا وضعوك في قبرك، انصرفوا عنك، فصرفوا بعدك الثياب، وضربوا الدفوف، وضحكوا القهقهة، وأنت تحاسب بما في أيديهم، فقدم لنفسك {يوم تجد كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوءٍ تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رءوفٌ بالعباد}.(1/124)
أيها الناس! إن أحدكم يحذره صاحبه أمراً، فيتقيه ويحذره، فكيف من حذره ربه نفسه، وخوفه عقوبته؟ يقول الله سبحانه: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}.
وكان يقول: ألا تعجبون من رجلٍ يلهو ويغفل، ويهزأ ويلعب، وهو يمشي بين الجنة والنار، لا يدري إلى أيهما يصير؟
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى كره لكم العبث في الصلاة، والرفث في الصيام، والضحك في المقابر)).
وكان يقول: سبحان من أذاق قلوب العارفين من حلاوة الانقطاع إليه، ولذة الخدمة له ما علق هممهم بذكره، وشغل قلوبهم عن غيره، فلا شيء ألذ عندهم من مناجاته، ولا أقر لأعينهم من خدمته، ولا أخف على ألسنتهم من ذكره، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وكان يقول: روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يوري النار، ويدني منها يده ويقول: انظر يابن الخطاب كيف صبرك على النار؟ وكيف لك قدرةٌ على سخط الجبار؟ ثم يستعيذ بالله من النار، ومن عمل أهل النار.
ثم يقول الحسن: إذا كان هذا خوف عمر -رضي الله عنه-، وهو ممن شهد له بالجنة، فكيف أيها الناس تلبسون؟
وكان يقول: ابن آدم! إنما أنت ضيفٌ، والضيف مرتحلٌ، ومستعارٌ، والعارية لله، لله در أقوامٍ نظروا بعين الحقيقة، وقدموا إلى دار المستقر.(1/125)
وكان يقول: ما مر يومٌ على ابن آدم إلا قال له: ابن آدم: إني يومٌ جديدٌ، وعلى ما تعمل في شهيدٌ، إذا ذهب عنك لم أرجع إليك، فقدم ما شئت تجده بين يديك، وأخر ما شئت فلن يعود أبداً إليك.
وكان يقول: إنما يكرمك من يكرمك مادام روحك في جسدك، لو قد انتزع منك لنبذوك وراء ظهورهم، ولو تركت بينهم، لفروا منك فرارهم من الأسد.
وكان يقول: اعتبروا الناس بأعمالهم، ودعوا أقوالهم؛ فإن الله -عز وجل- لم يدع قولاً إلا جعل عليه دليلاً من عملٍ يصدقه أو يكذبه، فإذا سمعت قولاً حسناً، فرويداً بصاحبه، وإن وافق منه القول العمل فنعم، ونعمت عينٍ، وإن خالف القول العمل، فإياك أن يشتبه عليك شيءٌ من أمره؛ فإنها خدعٌ للسالكين.
وكان يقول: ابن آدم! إن لك قولاً وعملاً، فعملك أحق بك من قولك، وإن لك سريرةً وعلانيةً، فسريرتك أولى بك من علانيتك، وإن لك عاجلاً وعاقبةً، وعاقبتك أحق بك من عاجلتك.
ابن آدم! إن الله -سبحانه وتعالى- يقول: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}، فاعملوا صالحاً -وفقكم الله- تجدوا عاقبته.
وقيل: بينما الحسن يوماً في المسجد تنفس الصعداء، وبكى بكاءً شديداً، حتى ارتعدت ركبتاه، وخفق قلبه، ثم قال: لو أن بالقلوب حياةً، لو أن بها صلاحاً، لبكت من ليلةٍ صبيحتها القيامة، أي يومٍ -عباد الله- ما سمع الخلائق بيومٍ أكثر منه عورةً باديةً، ولا عيناً باكيةً؟!(1/126)
وكان يقول: ما اغرورقت عينٌ بمائها من خشية الله إلا حرم الله جسدها على النار، فإن فاضت على خدها لم يرهق ذلك الوجه قترٌ ولا ذلةٌ، وليس من عمل إلا وله وزنٌ وثوابٌ، إلا الدمعة من خشية الله، فإنها تطفئ ما شاء الله من حر النار، ولو أن رجلاً بكى من خشية الله في أمةٍ، لرجوت أن يرحم الله تعالى ببكائه تلك الأمة بأسرها.
وكان يقول: إن الله -عز وجل- لا يفرض على العبد ثمناً على العلم الذي تعلمه إلا الثمن الذي يأخذه المعلم به، فمن تعلم العلم بحق الله، ولابتغاء ما عند الله، فقد ربح، ومن تعلمه لغير الله، انقطع، ولم يصل به إلى الله تعالى.
وكان يقول: مسكينٌ ابن آدم! ما أضعفه! مكتوم العلل، مكتوم الأجل، تؤذيه البقة، وتقتله الشرقة، يرحل كل يومٍ إلى الآخرة مرحلةً، ويقطع من الدنيا منزلةً، وربما طغى وتكبر، وظلم وتجبر.
وحضر الحسن جنازةً ثم قال: أيها الناس! اعملوا لمثل هذا اليوم، {فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}.
وكان يقول: أيها الناس! اغتنموا الصحة والفراغ، وبادروا بالأعمال من قبل يومٍ تشخص فيه القلوب والأبصار.
وكان يقول: ابن آدم! لا تخافن من ذي ملكٍ؛ فإنه عبدٌ لسيدك، ولا تطمعن في ذي مالٍ؛ فإنما تأكل رزق مولاك، ولا تخالل ذا جرمٍ؛ فإنه عليك وبالٌ، ولا تحقرن فقيراً؛ فإنه أخٌ شقيقٌ لك.(1/127)
وكان يقول: ابن آدم! لا تحقرن من الطاعة شيئاً، وإن قل في نفسك، وصغر عندك؛ فإن الله سبحانه يقبل مثقال الذرة، ويجازي على اللحظة، ولو رأيت قدره عند ربك لسرك، ولا تحقرن من المعصية شيئاً، وإن قل في نفسك، وصغر عندك؛ فإن ربك شديد العقاب.
وحضر يوماً مجلساً جمع شيوخاً وشباباً، فقال: معشر الشيوخ! ما يصنع بالزرع إذا طاب؟ فقالوا: يحصد، ثم التفت فقال: معشر الشباب! كم من زرعٍ لم يبلغ قد أدركته الآفة فأهلكته، وأتت عليه الجائحة فأتلفته! ثم بكى وتلا: {ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون}.
وكان يقول: ابن آدم! إنك تموت وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك.
ابن آدم! لو أن الناس كلهم أطاعوا الله، وعصيت أنت، لم تنفعك طاعتهم، ولو عصوا الله، وأطعته، لم تضرك معصيتهم.
ابن آدم! دينك دينك؛ فإنما هو لحمك ودمك، فإن سلم لك دينك، سلم لحمك ودمك، وإن تكن الأخرى، فاستعذ بالله منها؛ فإنما هي نارٌ لا تطفأ، وجسمٌ لا يبلى، ونفسٌ لا تموت.
وكان يقول: لا يزال العبد بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت الفكرة من عمله، والذكر من شأنه، والمحاسبة من همته، ولا يزال بشرٍّ ما استعمل التسويف، واتبع الهوى، وأكثر الغفلة، ورجح في الأماني.(1/128)
وروي أن الحسن -رضي الله عنه- اتصل به أن مكحولاً توفي، فحزن عليه، وترحم له، ثم اتصل به بطلان ذلك، فكتب إليه:
أما بعد: أبا عبد الله! خار الله لنا ولك في المحيا والممات، وقضى لنا ولك بخير الدنيا والآخرة، ويسر لنا ولك حسن المآل والمنقلب؛ فإنه أتانا عنك خبرٌ راعنا، ثم أتى بعده ما أكذبه، فلعمر الله لقد سررنا، وإن كان السرور بما سررنا به غير طائل، وسبيل الانقطاع داعياً عما قليلٍ إلى الخبر الأول، فهل أنت -عافاك الله ووفقنا وإياك لصالح العمل- كرجل ذاق الموت، وعاين ما بعده، وسأله الرجعة فأجيب إليها، وأعطي ما سأل بعد أن عاين ما فاته، فتأهب في فضل جهازه إلى دار قراره، لا يرى أن له من ماله إلا ما قدم أمامه، ومن عمله إلا ما كتب له ثوابه، والسلام.
وكان يقول: روي أن عيسى -عليه السلام- قال للحواريين: اعملوا لله، ولا تعملوا لبطونكم؛ فإن الطير لا تزرع ولا تحصد، تغدو ولا رزق لها، الله يرزقها.
فإن قلتم: إن بطونكم أكبر من بطونها، فهذه الوحوش من الدواب لا تزرع ولا تحصد، لا رزق لها، الله يرزقها.
وكان يقول: من استغفر الله -عز وجل- بعد صلاة الصبح ثلاث مراتٍ؛ غفرت له ذنوبه، وإن كان فاراً من الزحف.(1/129)
وكان يقول: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده! لا يدخل الجنة إلا رحيمٌ))، قالوا: كلنا رحيمٌ يا رسول الله! قال: ((ليس رحمة أحدكم نفسه وولده وخاصته، ولكن العامة)) ورفع بها صوته.
وكان يقول: روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: ألا أنبئكم بخير الناس؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين! قال: من طال عمره، وحسن عمله، ورجي خيره، ولم يخف شره، ثم قال: ألا أنبئكم بشر الناس؟ قالوا: بلى، قال: من طال عمره، وساء عمله، ولم يرج خيره، ولم يؤمن شره.
وكان يقول: إن الرجل ليسمع الباب من العلم، فيعمل به، فيكون خيراً له من أن لو كانت له الدنيا فوضعها في الآخرة.
وذكر أنه رأى قوماً في وقت القائلة لا يقيلون، فقال: ما لهؤلاء لا يقيلون؟ إني لأحسب ليلهم ليل سوءٍ.
وكان يقول: حادثوا هذه القلوب؛ فإنها سريعة الدثور، واقرعوا هذه الأنفس؛ فإنها طامحةٌ، فإنكم إلا تمنعوها، تنزع بكم إلى شر غايةٍ.
وقيل له: يا أبا سعيد! ما تقول في الشفاعة؟ أحق هي؟ فقال: نعم، قيل له: فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول: {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها}، قال: هو كما قال سبحانه وتعالى، قيل له: فبم دخل من دخل فيها، وبم خرج؟ فقال: كانوا أصابوا ذنوباً من الدنيا أخذهم الله بها، ثم أخرجهم بما علم في قلوبهم من الإيمان والتصديق.
وكان يقول: أيها الناس! احذروا قطيعة الأرحام؛ فإن الله سبحانه(1/130)
يقول: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً}.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اتقوا الله، وصلوا الأرحام، فإنه أبقى لكم في الدنيا، وخيرٌ لكم في الآخرة)).
وقال رجلٌ للحسن: يا أبا سعيد! أي الجهاد أفضل؟ قال: جهاد هواك.
وكان يقول: من لم يمت فجاءةً، مرض فجاءةً، فاتقوا الله، واحذروا مفاجأة ربكم.
وكان يقول: نعم الله أكثر من أن يؤدى شكرها، إلا ما أعان الله تعالى عليه، وذنوب ابن آدم أكثر من أن يسلم منها إلا ما عفا الله عنه.
وكان يقول: سمعت بكر بن عبد الله يقول: رحم الله امرأً كان قوياً فأعمل قوته في طاعة الله، أو كان ضعيفاً فكف عن معاصي الله -عز وجل-.
وكان يقول: الكذب جماع النفاق.
وكان يقول: من كذب فجر، ومن فجر كفر، ومن كفر دخل النار.
ولقد روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يقول: إذا كذب العبد كذبةً، تنحى الملك عنه مسيرة ميلٍ من نتنٍ ما يجيء منه.
وكان يقول: ما أعد كريماً إذا جررت إلى أخي نفعاً، أو رددت عنه ضراً، وأصلحت بين اثنين.
وكان يقول: ابن آدم! تبغض الناس على ظنك، وتنسى اليقين من نفسك.(1/131)
وكان يقول: إن الأغلال التي غل بها أهل النار لم تحصل في أعناقهم لأنهم أعجزوا الخزنة، وإنما هي إذا طفا بهم اللهب ترسبهم في النار. ثم يبكي حتى يغلب عليه، ويقول: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب النار، ومن العمل السيء الذي يؤدي إليه.
وكان يقول: روي أن ناسكاً رأى ناسكاً في النوم، فقال له: كيف وجدت الأمر؟ قال: وجدنا ما قدمنا، وخسرنا ما خلفنا، فقال الحسن: الآن فاقدموا على بصيرةٍ.
وكان يقول: روي أن قوماً تواصفوا الزهد بحضرة الزهري، فقال: الزاهد من لم يغلب الحرام صبره، والحلال شكره.
وكان أبو بكر بن عبد الله المزني يقول: ما ظنك بخالق الكرامة لمن يريد كرامته؟ وما ظنك بخالق الهوان لمن يريد هوانه، وهو عليهما قادرٌ؟
وكان يقول: إياكم والتسويف والترجي؛ فإنه أهلك من كان قبلكم.
ولقد حدثت عن أبي حازمٍ أنه كان يقول: نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب، ونحن لا نريد أن نتوب حتى نموت، ومن لقي الله منا مجرماً غير تائبٍ، أدخله النار وبئس المصير.
وكان يقول: روي أن أنس بن مالكٍ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/132)
يخطب يوم الجمعة إلى جذعٍ يسند ظهره إليه، فلما كثر الناس، عمل له منبرٌ من طرفاء الغابة، له درجتان، فلما قام عليه، حن الجذع إليه صلى الله عليه وسلم ، قال أنسٌ: سمعت الخشبة تحن حنين الوالهة، وما زالت تحن حتى نزل صلى الله عليه وسلم فاحتضنها، فسكنت.
فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث، بكى، ثم قال: عباد الله! الجذع يحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه؛ لمكانه من الله -عز وجل- وايم الله! لأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه صلى الله عليه وسلم .
وكان يقول: روي أن بعض الصالحين رأى قوماً يتمنون، فقال: وأنا أتمنى معكم، فقالوا: ما تتمنى يرحمك الله؟ فقال: ليتنا لم نخلق، وليتنا إذ خلقنا لم نمت، وليتنا إذ متنا لم نبعث، وليتنا إذ بعثنا لم نحاسب، وليتنا إذ حوسبنا لم نعذب، وليتنا إذ عذبنا لم نخلد.
نظم أبو العلاء المعري بعض هذا الكلام فقال:
فيا ليتنا عشنا حياةً بلا ردىً ... مدى الدهر أو متنا مماتاً بلا نشر
وكان الحسن يقول: كان قبلكم ناسٌ أشرق قلوباً، وأنشق ثياباً، وأنتم اليوم أرق منهم ديناً، وأقسى قلوباً.
وكان يقول: اهتمام العبد بذنبه داعٍ إلى تركه، وندمه عليه داعٍ لتوبته،(1/133)
ولا يزال العبد يهتم بالذنب حتى يكون له أنفع من بعض حسناته.
وكان يقول: من لم يداو نفسه من سقم الآثام أيام حياته، فما أبعده من الشفاء، وأقربه من الشقاء في دار الآخرة بعد وفاته!
وكان يقول: الحق مر لا يصبر عليه إلا من عرف حسن العاقبة، ومن رجا الثواب، خاف العقاب.
وكان يقول: لقد أدركت أقواماً يعرض على أحدهم الحلال فيقول: لا حاجة لي به، نخشى أن يفسدنا.
وكان يقول: لو قمت الليل حتى ينحني ظهرك، وصمت النهار حتى يسقم جسمك، لم ينفعك إلا بورعٍ صادقٍ.
وكان يقول: ما يعدل بر الوالدين شيءٌ من التطوع، لا حج، ولا جهادٌ.
وكان يقول: لقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كان يقول: أكثروا من ذكر النار؛ فإن حرها شديدٌ، وقعرها بعيدٌ، ومقامعها حديدٌ.
روى سلمة بن عامرٍ، قال: صلينا الجمعة مع الحسن، فلما انصرفنا، اكتنفنا حوله، فبكى بكاءً شديداً، فقلنا: ما بالك -رحمك الله- وقد بشرت بالجنة في منامك؟ فازداد بكاؤه، قال: وكيف لا أبكي، ولو دخل علينا من باب هذا المسجد أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرف غير قبلتنا هذه! ثم قال: هيهات هيهات! أهلك الناس الأماني، قولٌ بلا عملٍ، ومعرفةٌ بغير صبرٍ، وإيمانٌ بلا يقينٍ، ما لي أرى رجالاً ولا عقولاً، وأسمع حسيساً ولا أرى رحالاً ولا أنيساً؟! دخل القوم -والله- ثم خرجوا، وعرفوا ثم أنكروا، وحرموا ثم استحلوا. إنما دين أحدكم لعقةٌ على(1/134)
لسانه، إذا سئل: أمؤمنٌ أنت بيوم الحساب؟ قال: نعم! كذب ومالك يوم الدين.
إن من أخلاق المؤمن قوةً قي دينٍ، وحزماً في لينٍ، وإيماناً في يقينٍ، وعلماً في حلم، وحلماً في علم، وكيساً في رفقٍ، وتجملاً في فاقةٍ، وقصداً في غنىً، وشفقةً في نفقةٍ، ورحمةً للمجهود، وعطاءً للحقوق، وإنصافاً في استقامةٍ، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم في مساعدة من يحب، ولا يهمز، ولا يغمز، ولا يلمز، ولا يلغو، ولا يلهو، ولا يلعب، ولا يمشي بالنميمة، ولا يتبع ما ليس له، ولا يجحد الحق الذي عليه، ولا يتجاوز في القدر، ولا يشمت بالقبيحة إن حلت بغيره، ولا يسر بالمصيبة إذا نزلت بسواه.
المؤمن: في الصلاة خاشعٌ، وإلى الزكاة مسارعٌ، قوله شفاءٌ، وصبره تقىً، وسكوته فكرةٌ، ونظره عبرةٌ، يخالط العلماء ليعلم، ويسكت بينهم ليسلم، ويتكلم ليغنم، إن أحسن استبشر، وإن أساء استغفر، وإن عتب يستعتب، وإن سفه عليه حلم، وإن ظلم صبر، وإن جير عليه عدل، لا يتعوذ بغير الله، ولا يستعين إلا بالله، وقورٌ في الملأ، شكورٌ في الخلاء، قانعٌ بالرزق، حامدٌ على الرخاء، صابرٌ على البلاء، لا يجمح به القنوط، ولا يغلبه الشح، إن جلس مع اللاغطين كتب من الذاكرين، وإن جلس مع الذاكرين، كتب من المستهترين.
المؤمن: طلق البشر، حسن الخلق، كريمٌ بذولٌ، راحمٌ وصولٌ، يقطع فيصل، ويؤذى فيحتمل، ويهان فيكرم، صبورٌ على الأذى، محتملٌ لأنواع البلاء، هانت عليه الدنيا فلم يبن فيها بيتاً، ولا جدد ثوباً، حسن الثقة، لا يظن بالله ظن السوء.(1/135)
المؤمن: هينٌ، لينٌ، تقي، زكي، رضي، لا يلدغ من جحرٍ مرتين، شاحب لونه، شاعثٌ رأسه، قليلٌ طعمه، كيسٌ في دينه، غبي في دنياه.
المؤمن: كثير الوقار، مكرمٌ للجار، مطيعٌ للجبار، هاربٌ من عذاب النار، نفسه بمعرفة الله شاهدةٌ، وجوارحه لله ذاكرةٌ، ويده بالمعروف مبسوطةٌ، وهو في محاسبة نفسه في تعبٍ، والناس منه في راحةٍ.
المؤمن: صادقٌ إذا وعد، قريب الرضا، بعيد الغضب، يعلم إذا علم، ويفهم إذا فهم، من صاحبه سلم، ومن خالطه غنم، كامل العقل، كثير العمل، قليل الأمل، حسن الخلق، كتوم الغيظ. ثم بكى فأبكانا.
وقال: هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول فالأول، حتى لحقوا بالله -عز وجل-، وهكذا كان المسلمون من سلفكم الصالح، وإنما غير بكم لما غيرتم، ثم تلا: {إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ}.
ثم قال الحسن: اللهم ربنا صل على سيدنا محمدٍ، وعلى آله الطاهرين، وامنن علينا بما مننت به على عبادك المخلصين، وأوليائك المتقين، إنك على كل شيءٍ قديرٌ، وعلى كل خيرٍ معينٌ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(1/136)
وكان الفراغ من هذا الكتاب، بعون الله الملك المعين الوهاب، تنميقاً وخطاً وتصميماً وضبطاً، على يد العبد الضعيف الفقير، الراجي رحمة ربه الغني القدير كمال الدين، حسين بن شمس الدين، محمد الكاتب، ابن غياث الدين علي الكرماني، أفاض الله عليهم من شآبيب رضوانه سجالاً، وفسح لهم في حضرات النعيم ما اتسع مجالاً، وذلك في يوم الاثنين الواضح البيان، ثاني عشر شهر الله المعظم رمضان، عين شهور سنة ثمانين وتسع مئة من الهجرة الشريفة النبوية، أحسن الله تعالى ختامها، وقدر في عافية تمامها، وهو سبحانه المانح المنيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله حق حمده، وصلى الله على سيدنا محمدٍ رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه من بعده، والخير يكون، والخطب يهون.(1/137)